عين اليقين - ج ١

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

قال في الفتوحات : من عرف معنى هذا القول عرف مكان جهنّم ، ولو قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لما سئل لقلته ، فلما سكت عنه وقال في علم الله (١) ، فسكوتنا عنه هو الأدب.

ومن ذلك أن النار لا تقبل تخليد موحّد ، وما ذلك إلّا لأنّ نفسه بعلم التوحيد قد صارت عقلا بالفعل ، وجازت عن مقام الحسّ والطبع ، كما قال الإمام عليه‌السلام : جزناها وهي خامدة.

ومن ذلك الأخبار الدالّة على أن مكانها في هذا العالم السفلي ، ثمّ ذكر ـ دام ظلّه ـ الأخبار الّتي جاءت في ذلك ، مثل ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه سأل يهوديا : أين موضع النار في كتابكم؟ قال : في البحر ، قال عليه‌السلام : ما أراه إلّا صادقا ، لقوله تعالى: (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) (٢).

ويروى أيضا في التفاسير أن البحر المسجور هو النار (٣).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : البحر : هو جهنّم.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يركبنّ رجل بحرا إلّا غازيا ، أو معتمرا ، فإنّ تحت البحر نارا ، وتحت النار بحرا» (٤).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أبغض البقاع إلى الله تعالى وادي برهوت ، فيه أرواح الكفّار ، وفيه بئر ماؤها أسود منتن ، تأوي إليها أرواح الكفّار» (٥).

__________________

(١) ـ الفتوحات المكية : ١ : ٣١٥ ، باختلاف يسير.

(٢) ـ سورة الطور ، الآية ٦.

(٣) ـ أنظر : تفسير القمّي : ٢ : ٣٣١.

(٤) ـ المجموع في شرح المهذب : ١٦١ ، وفيه إضافة «أو حاجا».

(٥) ـ المحاسن : ٢ : ٥٧٣ ، بهذا المضمون.

٣٠١

وعن ابن عباس : أن النار تحت أبحر مطبقة.

إلى غير ذلك من الأخبار والآثار ، وقد ذكرنا شطرا منها في كتاب علم اليقين.

ثم قال : والجواب عن هذه الوجوه والدلائل كلها : أنّ لكلّ من الجنة والنار نشأة أصلية هي في عالم الآخرة ، ونشأة جزئية ، ومظاهر كونية في الدنيا ، ومستقر النار وحقيقتها هي دار البوار ، ولها مظاهر ومكامن في هذا العالم ، فما ذكر من الوجوه العقلية لا تدلّ على أكثر من أن لها كينونة جزئية ، وظهورا خاصا في هذا العالم.

وكذا ما نقل من الأخبار لا يدلّ على أزيد من أن لها مظاهر في هذا العالم.

وأمّا النار الحقيقية فمحلّ اشتعالها وبروزها بحيث لا تكمن على الخلائق كلهم ، وظهور سلطانها هي الدار الآخرة ، حينما أحاط بهم سرادقها ، كما قال تعالى : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) (١) ، وقال تعالى : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) (٢) ، فهي الآن كامنة باطنة ، غير بارزة ، ولا ظاهرة ، إلّا على أهل الكشف واليقين.

وهذا المحسوس من النار غير محرق حقيقة ، والّذي يباشر الإحراق والتفريق حقا وحقيقة هي نار إلهية مستورة عن هذه الحواس ، خارجة عن الفكر والقياس ، لكنها مرتبطة بهذا المحسوس ارتباطا ، ومحل ناريّتها الحقيقية دار البوار ، لا دار الوجود.

__________________

(١) ـ سورة النازعات ، الآية ٣٦.

(٢) ـ سورة التكاثر ، الآية ٥ ـ ٧.

٣٠٢

وقال ـ دام ظلّه ـ في موضع آخر : اعلم أن هذه النار الّتي نراها في الدنيا ليس هذا الصفا والإشراق والتلألؤ واللمعان داخلا في حقيقتها ، فإنّ ذلك كلّه مسلوب من النار الحقيقية العقلية ، ومن النار الجسمانية الأخروية ، وإنما تثبت لهذه النيران ؛ لأنها ليست نيرانا محضة ، بل فيها نار ونور ، وأمّا النار المحضة فتمامها أنها محرقة مؤذية ، فظّاعة ، نزّاعة.

قال : وكما أن حرارة الحمّى الشديدة أثر من الأخلاط الردية ، وانحراف المزاج عن الاعتدال في الطبيعة ، فكذلك شدّة حرارة نار جهنّم سببها المعاصي والأفعال السيئة ، والانحراف عن العدالة ، ونهج الشريعة.

وقال صاحب الفتوحات : وللنار أمثلة جزئية هي طبيعة كلّ واحد ، وهواه ، في أولاه وأخراه ، ولها أبواب ومشاعر هي سبعة ، وهي عين أبواب الجنّة ، فإنها على شكل الباب الّذي إذا فتح إلى موضع انسدّ به موضع آخر ، فعين غلقه لمنزل عين فتحه لمنزل آخر (١).

وهذه الأبواب مفتوحة على الفريقين : أهل النار والجنة ، إلّا باب القلب ، فإنّه مطبوع على أهل النار أبدا ، لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط ؛ لأنّ صراط الله أدقّ من الشعر ، فيحتاج من يسلكه إلى كمال التلطيف والتدقيق ، وأنّى يتيسر للحمقاء الجاهلين ، خصوصا مع الاغترار والاستبداد برأيهم من غير تسليم وانقياد.

فأبواب الجحيم سبعة ، وأبواب الجنة ثمانية ، وهذا الباب الّذي لا يفتح لهم ، ولا يدخل عليه أحد منهم ، هو في السور ، فباطنه فيه الرحمة ، وظاهره من قبله العذاب ، وهي النار الّتي تطّلع على الأفئدة.

__________________

(١) ـ أنظر : الفتوحات المكية : ٣ : ٤٤١.

٣٠٣

وللنار على الأفئدة اطلاع لا دخول ؛ لغلق ذلك الباب ، فهو كالجنة حفّت بالمكاره. والسور حجاب مضروب بين الفريقين ، يسمى الأعراف.

وصل

قال أستاذنا ـ دام ظلّه ـ : لما علمت أن الجنة فوق السماء السابعة ، من حيث الرتبة ، وهي بحسب الحقيقة والذات في داخل حجب السماوات والأرض ؛ لأنها في عالم الملكوت وعالم الملكوت باطن الملك ، وعلمت أنّ نشوء الآخرة من الدنيا ، فاعلم أنّ هذا العالم بمنزلة مطبخ ينضج فيه أطعمة أهل الجنة ، وتصلح مأكولاتهم بحرارة الحركات السماوية ، وأشعة الكواكب ، كذلك أعمال بني آدم هي موادّ أغذيتهم الّتي بها نشوء نفوسهم وأبدانهم الأخروية ، فكلّما كانت أعمالهم أتمّ اعتدالا وأكثر نضجا من جهة الرياضات الدنيوية والمتاعب البدنية في سبيل الله كانت أغذيتهم وفواكههم وأشربتهم النفسانية الأخروية أوفق وأتمّ صلوحا ، وأشدّ تقوية للحياة الباقية.

قال بعض أهل الكشف : إنّ كرة الأثير وأشعة الشمس والكواكب الّتي هي بمنزلة الجمرات تحت القدر كما تؤثر في المولدات ، وهذه الفواكه والمعادن بحرارتها نضجا لما في ذلك من المنفعة كانت رحمة مع كونها نارا ، كذلك من عرف نشأة الآخرة وموضع الجنة والنار ، وما في فواكه الجنة من النضج الّذي يقع به الالتذاذ لآكليه من أهل الجنان علم أين النار وأين الجنة ، وأن نضج فواكه الجنة سببها حرارة النار الّتي تحت مقعّر أرض الجنة ، فتحدث النار حرارة في مقعّر أرضها فيكون بها صلاح ما في الجنة من المأكولات ، ولا نضج إلّا بالحرارة ، وهي لها كحرارة النار تحت القدر ، فإنّ مقعّر أرض الجنة هو سقف

٣٠٤

النار ، والشمس والقمر والنجوم كلها في النار ، ومن أحكامها أنها أودع الله فيها ما كانت منافع حيوانات الدنيا وحيوانات الجنة الّتي هي نفوس أهل النجاة بأبدانهم المناسبة لها في الأشكال والصور ، فتفعل حرارة النار بالأشياء هناك علوا ، كما يفعل بالأشياء هاهنا سفلا ، وكما هو الأمر هاهنا كذلك ينتقل إلى هناك بالمعنى ، وإن اختلفت الصور.

ألا ترى أرض الجنة مسكا ، كما ورد في الخبر ، وهو حارّ بالطبع ، ولما فيه من النار وأشجار الجنة مغروسة في تلك التربة المسكيّة كما تقتضي حال نبات هذه الدار الدنيا الزّبل ؛ لما فيه من الحرارة الطبيعية ؛ لأنّه معفن ، والحرارة تعطي التعفين في الأجسام القابلة للتعفّن ، وهذا القدر كاف في تقوي النار ، أعاذنا الله منها. انتهى كلامه (١).

وهذا الكلام وإن كان مبناه على المقدّمات الخطابية والتمثيلات إلّا أنّه إذا استقصى عاد برهانيّا ، ولو لا مخافة الإطناب لأوضحناه على وجه الحكمة ، وسبيل البرهان.

وإيّاك أن تحمل كلامه على أن جهنّم ليست إلّا هذا العالم تحت الفلك الأقصى ؛ لأنّ جهنم هي من النشأة الآخرة ، وإن كانت صورتها هي مآل الدنيا وباطنها وحقيقتها.

والّذي ذهب إليه هذا المحقّق من أن نضج فواكه الجنة وطبخ طعامها بحرارة هذا العالم وأشعة الكواكب سببه أن الإنسان إنّما يتكوّن وينمو ، ويتمّ خلقه ، وتكمل خلقته ، باستحالات وانقلابات تطرأ على مادّته ، ولا يمكن ذلك إلّا بحرارة غريزية محللة ، وتلك الحرارة مستفادة من حركات الأجرام الفلكية

__________________

(١) ـ الأسفار الأربعة : ٩ : ٣٦٦ ـ ٣٦٨.

٣٠٥

وأشعّتها ، كما ثبت في مقامه.

ثم إنّ استكمال نفس الإنسان ، بحسب كلتي قوّتيه النظرية والعملية ، إنّما يتم بالحركات البدنية والفكرية ، والحركة تحتاج إلى الحرارة ، والحرارة والحركة متصاحبتان ، لا تنفكّ إحداهما عن الأخرى.

وكما أن جميع الحركات في هذا العالم تنتهي إلى حركات الأفلاك ، سيّما الفلك الأقصى ، فكذلك جميع الحرارات الغريزية والأسطقسية تنتهي إلى أضواء الكواكب ، سيّما ضوء الشمس ، كما يظهر عند التفتيش والاعتبار والاستقراء.

ثم لا يخفى عليك أنّ كلّ مادّة مصوّرة بصورة أدنى ، إذا انتقلت إلى أن تلبس صورة أعلى ، فذلك إنّما يكون بأن يحصل لها بصورتها الأولى شبه التعفّن والهضم والانكسار ، كالحبّة المدفونة في الأرض ، فما لم تضعف صورتها الجمادية ولم تتعفّن باستيلاء الحرارة عليها لم تقبل صورة نباتية ، وكذا القياس في انتقالات النطفة في أطوارها النباتية والحيوانية.

وهكذا الحكم في الترقّيات الواقعة في النفس ، فإنها مسبوقة بانكسارات وانهضامات نفسانية منشؤها الحركات البدنية في النسك البدنية ، والحركات الفكرية في النسك العقلية ، والكلّ منوط بحركات الأفلاك والكواكب بأضوائها ، فانكشف أنّ الكمالات العلمية والعملية للنفوس الّتي بها تحصل حياتها الأخروية وبها يتم نعيمها وغذاؤها وطعامها وشرابها في الجنة ، إنّما يحصل بحرارة الطبيعة الدنيوية الّتي هي من جوهر نار الجحيم وسنخها.

أقول : وقد ظهر ممّا ذكرنا من البيانات والتبيانات أن كلّا من الجنة والنار ، وما فيهما من الملذّ والمؤذي ، إنّما تنشأ من النفس الإنسانية ، وكذلك جميع ما ورد في الشرع من أحوال الآخرة وأهوالها ، من السياق ، والصراط ، والميزان ،

٣٠٦

والحساب ، والكتاب ، وغير ذلك ، ممّا ذكرنا تفصيله وبيانه في كتاب علم اليقين ، فإنّها جميعا تنشأ من النفس ، بل هي كلّها عين النفس ، وصفاتها ، وأحوالها ، كما يظهر عند التأمل في الأصول السالفة والآتية ، وفيما ورد من الأخبار الواردة فيها.

قال في الفتوحات : اعلم يا أخي ـ تولّاك الله برحمته ـ إنّ الجنة الّتي تصل إليها في الآخرة ، والنار الّتي يصل إليها من هو أهلها في الآخرة ، هي مشهودة لك اليوم ، من حيث محلّها ، لا من حيث صورتها ، فأنت فيها تنقلب على الحال الّتي أنت عليها ، ولا تعلم أنك فيها ، فإنّ الصورة تحجبك الّتي تجلّت لك فيها ، فأهل الكشف الذين أدركوا ما غاب عنه الناس يرون ذلك المحلّ ـ إن كان جنة ـ روضة خضراء ، وإن كان جهنّم يرونها بحسب ما يكون فيه من نعوت زمهريرها وحرورها وما أعدّ الله فيها (١).

وأكثر أهل الكشف في بداية الطريق يرون هذا ، وقد نبّه الشرع على ذلك بقوله : «بين منبري وقبري روضة من رياض الجنة» (٢).

وقال نجم الكبرى : اعلم أنّ النفس والشيطان والملك ليست أشياء خارجة عنك ، بل أنت هم ، وكذلك السماء والأرض والعرش والكرسي ليست أشياء خارجة عنك ، ولا الجنة والنار ، إنّما هي أشياء فيك ، فإذا سرت وصفوت تبيّنت إن شاء الله ، وسيأتي تحقيق هذا في المقصد الآتي إن شاء الله.

__________________

(١) ـ الفتوحات المكية : ٣ : ١٣ باختلاف يسير.

(٢) ـ من لا يحضره الفقيه : ٢ : ٥٦٨ ، ح ٣١٥٨.

٣٠٧

وصل

وإذ ثبت أن الآخرة داخل حجب السموات والأرض ، فما لم ينهدم بناء الظاهر لم ينكشف أحوال الباطن ؛ لأنّ الغيب والشهادة لا يجتمعان ، ولهذا ورد في الحديث : «لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول : الله الله» (١).

ومنزلتها من هذا العالم منزلة هذا العالم من الرحم ، فلا يقوم إلّا إذا زلزلت الأرض زلزالها ، وانشقت السماء فهي يومئذ واهية ، وانتثرت الكواكب ، وكوّرت الشمس ، وخسف القمر ، وسيّرت الجبال ، وعطّلت العشار ، وبعثر ما في القبور ، وحصّل ما في الصدور ، فما دام السالك خارج حجب السماوات والأرض فلا تقوم له القيامة ، ومن مات فقد قامت قيامته.

والله سبحانه داخل هذه الحجب ، وعنده علم الساعة ، وهذا هو الجواب الحق مع الكفّار ، إذ قالوا : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢) ، فمن كان بعد على وجه الأرض مع هذه الطبيعة الحاجبة عن أنوار الآخرة لم يحشر بعد إلى الله ، فإذا خرج عن الدنيا حشر إليه تعالى ، وقامت قيامته ، وإذا مات الكلّ ينفخ الصور ، وصعق من في السماوات ومن في الأرض ، قامت القيامة الكبرى ، فظهر نور الأنوار ، وانكشف ضوؤه الحقيقي ، وتجلّى جمال الأحدية ، فلم يبق لأنوار الكواكب عنده ظهور ، فهي مطموسة الأنوار ، مطوية السماوات ، بيمين الحق ، ويتّصل كلّ مستفيض بالمفيض عليه ، فجمع الشمس والقمر ، واتّحدت النفوس بالأرواح ، وزالت المباينة بين الأشباح والأرواح ، ولهذا تكون أبدان أهل الجنة

__________________

(١) ـ جاء في كامل الزيارات : ٧٤ ، هكذا : «لا تقوم الساعة وعلى الأرض هاشمي يطرق».

(٢) ـ سورة يونس ، الآية ٤٨.

٣٠٨

بصورة نفوسها ، كالشخص وظلّه ، ورجعت السماوات والأرض إلى ما كانتا عليه قبل انفتاقهما من الرتق ، فعادتا إلى مقام الجمعية والحضور المعنوي ، من هذه التفرقة.

وكذا العناصر الأربعة ، تصير كلّها عنصرا واحدا ، مظلما ، وتنقلب كلها نارا غير هذه النار الأسطقسيّة ، وتصير الهيولى كلها بحرا مسجورا (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) (١) ، (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) (٢).

وبالجملة : يتصل البر بالبحر ، ويتّحد الفوق والتحت ، وتزول الأبعاد والأحجام ، واتّحد ذو النور مع النور ، والفعل بالفاعل ، فلم يبق من القوى والحواسّ تأثّر ، ولا للمحسوس ـ بما هو محسوس ـ عين ، ولا أثر ، (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) (٣) ، (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) (٤) ؛ لأنها أبدا في الزلزال والاندكاك من خشية الله ، لا استقرار لها ، ولا جمود في الواقع ، بل الجبال كالسحاب في الذوبان والسيلان ، والحس يغلط فيها ، (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (٥) ، (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) (٦) ، وكشف الغطاء ، ويرى كلّ شيء على أصله ، من غير تغليط وتزويق ، فالسماء والأرض وغيرهما لكونها من ذوات الأوضاع الشخصية الّتي ركبت من موادّ وصور وأعراض مختلفة قام بها نحو وجودها المحسوس الّذي

__________________

(١) ـ سورة التكوير ، الآية ٦.

(٢) ـ سورة نوح ، الآية ٢٥.

(٣) ـ سورة الإنسان ، الآية ١٣.

(٤) ـ سورة الحاقة ، الآية ١٤.

(٥) ـ سورة النمل ، الآية ٨٨.

(٦) ـ سورة الحاقة ، الآية ١٥.

٣٠٩

مظهره الحواس وانفعالاتها ، فليس لها في مشهد آخر هذا النحو من الوجود الّذي تنفعل منه الحواس ، بل يشاهد هذه الأشياء في عرصة الآخرة بحقائقها ، بمشعر أخروي يتنوّر بنور ملكوت الله شأنه مشاهدة الأصل ، والمخبر ، وملاحظة الباطن والسر ، فيشاهد الجبال كالعهن المنفوش ؛ لضعف وجودها ، ويتحقق بمعنى قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً* فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً* لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (١).

وتحضر الخلائق كلهم في عرصات القيامة ، فإذا هم بالساهرة ؛ إذ لا نوم فيها ، وتنكشف الأغطية والحجب لأهل البرازخ ، وترتفع الحواجز كما قال تعالى : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٢).

والمتخلّصون عند ذلك عن البرازخ يتوجّهون إلى الحضرة الربوبية (فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٣) ، (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) (٤) ، إذ عدمت عند ذلك الآجال ، وزالت السنون والساعات ، ولا يبقى إلّا الله الواحد القهار ، الّذي إليه مصير جميع الأمور ، بلا وقت وزمان ، ولا حيّز ولا مكان ، فلا قبل يومئذ ، ولا بعد ، ولا هنا ، ولا هناك ، ولا ستر ، ولا حجاب ، وتبدّل الأرض غير الأرض ، فتمدّ مدّ الأديم ، وتبسط فلا ترى فيها عوجا ، ولا أمتا ، تجمع فيها الخلائق من أوّل الدنيا إلى آخرها ؛ لأنها ـ يومئذ ـ مبسوطة على قدر تسع الخلائق كلها ، ومن أطلق الله حقيقته عن قيد الزمان والمكان يعرف أنّ مجمع الزمان وما يطابقه كساعة واحدة هي شأن

__________________

(١) ـ سورة طه ، الآية ١٠٥ ـ ١٠٧.

(٢) ـ سورة إبراهيم ، الآية ٤٨.

(٣) ـ سورة يس ، الآية ٥١.

(٤) ـ سورة يس ، الآية ٥٣.

٣١٠

واحد من شؤون الله ، مشتمل على شؤون التجلّيات الواقعة في كلّ يوم وساعة.

وكذا مجموع الأمكنة الواقعة في كلّ وقت ، فكما اتّصلت الآنات في نظر شهوده ، اتّصلت الأمكنة الّتي في كلّ آن.

فعلى هذا القياس اتّصلت الأرض الموجودة الآن مع الأراضي الموجودة في الآزال والآباد ، فهكذا تصير الأراضي كلها أرضا واحدة ، فيها الخلائق كلّها ، عند شهود الملائكة والنبيين والشهداء ، كما قال الله عزوجل : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) (١).

وصل

قال أستاذنا ـ دام ظلّه ـ : ولنمثل لاجتماع الخلائق عند الله في يوم واحد ، على ساهرة ، بمثال واحد جزئي ، وهو أن ملاقاة الكرة المدحرجة مع السطح المستوي لا تكون في كلّ آن ، ولا في كلّ زمان من أزمنة السكون ، إلّا بنقطة واحدة متعيّنة ، وتكون ملاقاتها معه في زمان الحركة الدورية بخطّ متّصل واحد ، بل بنقطة واحدة تجمع النقاط كلها ، لا كجمعية النقاط الّتي تكون في مقدار قارّ ساكنة ، بل جمعية أخرى انطوت بسببها جميع أجزاء الخط ، وجميع النقاط الّتي كلّ منها واقعة في آن غير آن صاحبتها ، في نقطة الملاقاة. فكذلك حال اجتماع الخلائق في عرصة القيامة عند الله.

__________________

(١) ـ سورة الزمر ، الآية ٦٩.

٣١١

وصل

قال ـ مدّ ظلّه ـ : وممّا يثبت ذلك عقلا أنّ الزمان بكمّيته الاتصالية شخص واحد موجود في وعاء الدهر ، وكذا الحركة القطعية بامتدادها الاتصالي لها هوية مقدارية حاضرة عند الباري جلّ ذكره ، وعباده المقرّبين المقيمين عنده من الملائكة والنبيين والشهداء ، وكذا كلّ ما يقترن الزمان والحركة لها حضور جمعي يوم الجمع ، لا ريب فيه ، فسطح الأرض وإن كان في كلّ زمان بجملة ما عليه غير ما هو في زمان آخر ، سابقا كان ، أو لاحقا ؛ لعدم اجتماع أجزائه كلها ، ولعدم حضور ما يقارنها ويوازيها من المتجدّدات والمتغيّرات عند المحبوسين في سجن المكان المقيّدين بقيود الزمان ، بل في كلّ زمان يسع وجه الأرض عددا معيّنا محصورا من الخلائق ، ثمّ تفرغ عنها وتسع خلقا جديدا غيرها ، إلّا أنّه إذا انكشف الغطاء ، وأخذت جملة الزمان متصلا واحدا ، كما هو عند المرتفعين عن قيود عالم الزمان والمكان ، كان يجب أن يتصوّر شكل وجه الأرض على هيئة سطح واحد متّصل ، يتضمن جميع السطوح الأرضية الموجودة ، كلّ منها في زمان معيّن من الأزمنة الكائنة من ابتداء وجود العالم ، إلى انتهائه ، وتكون جميع هذه السطوح ـ الّتي لا يمكن إحصاؤها ـ سطحا واحدا ، يسع الخلائق كلها ، يوم القيامة ، الموجودة في الآزال والآباد ، وإذا أخذ ذلك السطح على هذا الوجه لم يكن من ذوات الأوضاع الحسّية ؛ إذ ليس حاصلا في جهة معيّنة من الجهات ، ولا في زمان معيّن من الأزمنة ، ولا محسوسا بإحدى هذه الحواسّ ، بل إنّما يدرك بحواسّ الآخرة.

وهكذا مجموع الأمكنة إذا أخذت جملة واحدة لم يكن موجودا حسّيا له

٣١٢

وحدة حسّية ، بل موجودا عقليا له وحدة عقلية.

وهكذا مجموع عالم الأجسام ـ بما هو مجموع ـ ليس ممّا يناله الحسّ ، بل يشعر به ، إمّا العقل بذاته ، أو بآلة من مشاعر عالم الآخرة ؛ إذ ليس لعالم الأجسام كله وضع خاصّ ، ولا إليه إشارة حسّية ، ولا له جهة ، ولا مكان ، فإذا كان وجود سطح الأرض على هذا الوجه من مقدورات الله تعالى من غير شبهة ولا ريب ؛ لأنّه ممّا قاد إليه البرهان ، ويحكم به الوجدان ، ولا نزاع فيه لأحد ممّن له قدم راسخ في المعارف العقلية ، وحقّق الأمر في نسبة المتغيّرات والمتجدّدات إلى الثابتات والكلمات التامّات ، وعلم معنى الدهر والسرمد ، ونحو وجود الحركة بهويّته الاتصالية ، والزمان بكمّيته الامتدادية التجدّدية ، وما انطبقا عليه ، ووجدا معه ، وبه ، بالذات أو بالعرض ، فكيف تقصر قدرته ـ جلّت كلمته ـ عن جميع الخلائق كلها دفعة واحدة ، في ساهرة واحدة ، كما قال : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ* فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) (١).

قال : وفي قوله سبحانه : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) (٢) ، بعد قوله : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (٣) ، دليل واضح على ما ذكر لدلالة الكلّية على الشمول العمومي لجميع المرضعات ، وذوات الأحمال ، متى كنّ ، وأين كنّ.

__________________

(١) ـ سورة النازعات ، الآية ١٣ و ١٤.

(٢) ـ سورة الحج ، الآية ٢.

(٣) ـ سورة الحج ، الآية ١.

٣١٣

فصل

ولنذكر الآن جملة وجوه الفرق بين الدنيا والآخرة ، في نحو الوجود الجسماني :

فمنها : أن الدنيا لا بدّ وأن تفنى ؛ لأنها لم تخلق لذاتها ، بل لتكون وسيلة إلى تحصيل نشأة أخرى ، وتمتّعا لها ، وبلغة إليها ، فلا بد من انقطاعها ومصيرها إلى البوار ، والآخرة باقية أبدا ببقاء بارئها وقيّومها ؛ لأنها خلقت لذاتها ، لا لشيء آخر ، فهي محلّ الإقامة ودار القرار ، قال الله تعالى حكاية عن العبد الصالح الناصح لقومه : (إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) (١).

ومنها : أن القوّة في الدنيا لأجل الفعل ، فتقدم عليه بوجه ، والفعل في الآخرة متقدّم على القوّة ، ولأجلها ، وأيضا الفعل أشرف من القوّة في الدنيا ، والقوّة في الآخرة أشرف من الفعل ؛ وذلك لأنّ معنى القوّة في الدنيا كون الشيء بحيث يكون من شأنه أن يصير شيئا آخر ، ومعناها في الآخرة كونه بحيث يكون من شأنه أن يفعل ويفيض.

ومنها : أن الأجساد الدنيوية قابلة لنفوسها على سبيل الاستعداد ، والنفوس الأخروية فاعلة لأجسادها على سبيل الاستيجاب والاستلزام ، فهاهنا مرتقى الأبدان بحسب تزايد استعداداتها إلى حدود النفوس ، وفي الآخرة يتنزل الأمر إلى النفوس فتنسج منها الأبدان.

ومنها : أنّ القوّة الخيالية في الدنيا غير الحواسّ الظاهرة ، وفي الآخرة

__________________

(١) ـ سورة غافر ، الآية ٣٩.

٣١٤

تصير عينها ، وتتّحد معها ، كما ظهر من التحقيقات السالفة ؛ ولهذا قيل : إنّ اللذّة الخيالية لا تكون في الجنة ؛ لأنها من قضيّات الوهم ؛ إذ من شأنه أن يتخيّل أشياء على طريق التمنّي فتلتذّ بها النفس ، والمنى رأس مال المفاليس. والآخرة دار الصدق ودار الحقائق ، ولذلك سمّيت الحاقّة ؛ لأنّ فيها حواقّ الأمور ، وليس فيها أباطيل وأكاذيب ، ولا أمنية ؛ إذ فيها ما تشتهي الأنفس ، وتلذّ الأعين ، نقدا (١) ، وإنما التذاذهم بالوجود المشاهد.

ومنها : أن الشهوات في الدنيا تابعة للمشتهيات ، والمشتهيات في الجنة تابعة للشهوات ، كما قال تعالى : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) (٢) ، فما يريد يستحضر ، لا أنّه يكون موجودا ثمّ يستحضر ، بل يستحضر فيكون موجودا بالاستحضار ، فالحضور هناك ليس بقطع المسافة.

ومنها : أن باطن الإنسان يكون ثابتا في الآخرة ، فإنّه عين ظاهر صورته في الدنيا ، والتبدّل فيه خفي ، وهو خلقه الجديد في كلّ آن الّذي هم منه في لبس ، ويكون ظاهره فيها مثل باطنه في الدنيا ، فيتنوّع ظاهره هناك كما يتنوّع باطنه في الدنيا في الصور الّتي يكون فيها التجلّي الإلهي ينصبغ بها انصباغا.

ومنها : أن نيل الشهوات في الآخرة لم يمنع من التجلّي بخلافه في الدنيا.

قال في الفتوحات : وإنما لم يمنع نيل الشهوات في الآخرة ، وهي أعظم من شهوات الدنيا ، من التجلّي ؛ لأنّ التجلّي هنالك على الأبصار ، وليست الأبصار محلّ الشهوات ، والتجلّي هنا في الدنيا إنّما هو على البواطن دون الظواهر (٣) ،

__________________

(١) ـ هكذا في المخطوطة.

(٢) ـ سورة فصلت ، الآية ٣١.

(٣) ـ في المصدر : على البصائر والبواطن دون الظاهر.

٣١٥

والبواطن محلّ الشهوات ، ولا تجتمع الشهوة والتجلّي في محلّ واحد ، فلهذا جنح العارفون الزهّاد في هذه الدنيا إلى التقليل من نيل شهواتها ، والشغل بكسب حطامها (١).

ومنها : أنّ المادّة الحاملة للصور الدنيوية تحتاج إلى فاعل مباين يكملها على سبيل التربية ، شيئا فشيئا ؛ لأنها في عالم الحركات والاتفاقات كمحلّ السواد ـ مثلا ـ إذا زالت عنه صورة السواد يحتاج في استرجاعها إلى سبب جديد مباين عن ذاته ، وهذا بخلاف المادّة الحاملة للصور الأخروية ، فإنّها قوّة نفسانية مستكفية بذاتها ، وبأسبابها الذاتية ، فإذا زالت عنها الصور ففي استرجاعها يكفي تذكّرها من غير حاجة إلى تجشّم اكتساب من فاعل جديد (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (٢).

ومنها : أنّ المادّة الأخروية أشرف صورة ، وأسرع قبولا للصور ، وأسهل انفعالا من الفاعل ؛ لأنها ألطف جوهرا ، وأشدّ قربا من الروحانية بالنسبة إلى المواد الدنيوية.

أو لا ترى إلى الماء لمّا كان جوهره ألطف من جوهر التراب كيف صار لقبول الطعوم والأصباغ والأشكال أسرع ، والهواء لكونه ألطف منهما كيف يقبل الأصوات والروائح والأشكال أسهل ممّا يقبلانه؟

ثمّ الأرواح الحيوانية والأنوار الحسّيّة لكونها ألطف من الثلاثة كيف تقبل الصور المحسوسة بها دفعة بلا مهلة؟ ولطافة جواهر النفوس على تفاوت مراتبها في اللطافة والكثافة أشدّ بكثير من لطافة الأنوار المحسوسة والأضواء ؛ ولهذا

__________________

(١) ـ الفتوحات المكية : ١ : ١٥٤ ، مداوي الكلوم وعلم الفلك.

(٢) ـ سورة عبس ، الآية ٣٧.

٣١٦

تقبل رسوم سائر المحسوسات والمتخيّلات والمعقولات عند كونها في مراتب أنوار الحسّ والخيال والعقل ، على تفاوتها في اللطافة والنورية ، ويقدر الإنسان أن يستحضر في قوّته المتخيّلة من الممكنات ما لا يقدر أن يستحضرها في قوّة حسّه ؛ لأنّ تلك القوّة أخروية ، وهذه دنيوية ، وتلك تدرك وتستحضر من داخل وغيب ، وهذه تدرك وتستحضر من خارج وشهادة ، وعالم الغيب أفسح ، ومجالها أبسط ، وهكذا قياس القوّة العقلية في اللطافة والنورية ونسبتها إلى ما تقبله من رسوم أنوار العقليات.

ومنها : أن الأرض في النشأة الأولى تثبّتنا ، فنتثبّت منها ، وفي النشأة الآخرة تخرجنا إخراجا على الصورة الّتي يشاء الحق أن يخرجنا عليها ، كما قال عزوجل : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) (١) ، (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) (٢) ، أي تبرزها فيها ، وتحدّث بأنه ما بقي فيها ممّا اختزنته شيء.

ومنها : أن الدار الآخرة دار لا فاعل ولا مؤثر هناك إلّا الحق سبحانه ؛ إذ الأسباب المتقابلة والعلل المتضادّة مرتفعة ، وكذا الموانع والقواسر والحجب منتفية في ذلك العالم ، فلا مؤثر ، ولا مالك ، إلّا هو (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (٣).

ومنها : أن الدنيا دار الحكمة والأسباب ، والآخرة دار القدرة والعجاب ، فإنّ القدرة قد تبرز ما لا يتناهى متناهيا ، وتظهر الشيء اليسير المتناهي بلا نهاية ، حتّى أن الحال الواحد من أحوال أهل النار وأحوال أهل الجنة يجدها صاحبها منسجا من الأزل إلى الأبد ، فيكون فيه بقدر ما بين الأزل إلى الأبد ،

__________________

(١) ـ سورة الزلزلة ، الآية ٢.

(٢) ـ سورة الزلزلة ، الآية ٤.

(٣) ـ سورة الحج ، الآية ٥٦.

٣١٧

وهو آن واحد ، ثمّ ينتقل منه إلى غيره ، كما يريده الله ، وهذا سرّ غريب ، لا يكاد العقل يقبله.

سئل الصادق عليه‌السلام عن الرجعة ، فقال : «تلك القدرة ، ولا تنكرها إلّا القدرية لا تنكرها تلك القدرة لا تنكرها إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتى بقباع من الجنّة ، عليه غدق يقال له سنّة ، فتناولها ، سنّة من كان قبلكم» (١) ، يعني الرجعة.

ومنها : أن عدد الأبدان في الآخرة كعدد النفوس غير متناهية ؛ إذ ليس بممتنع وجود الغير المتناهي فيه ؛ لعدم التضايق والتزاحم ، ونفي الموادّ الجسمانية والتداخل والمباينة والمسامتة هناك ؛ لأنها ليست في أمكنة وأبعاد ، واتّصال بعضها ببعض ، اتّصال عقلي ، وتلاق معنوي ، وكلّما كثرت الأرواح المفارقة عن الأبدان المتعارفة المؤتلفة واتّصل بعضها ببعض اتّصال معقول بمعقول ، كان التذاذ كلّ واحد منها بالأخرى أشدّ ، وكلّما لحق بهم من بعدهم زاد التذاذ من لحق بمصادفة الماضين ، وزادت لذّات الماضين بمصادفة اللاحقين ، كما قال سبحانه : (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢) ؛ لأنّ كلّ واحد منهم هوية وجودية نورية ، فيعقل ذاته ، ويعقل مثل ذاته مرّات كثيرة ، ولأنّ المتلاحقين إلى غير نهاية يكون تزايد قوّة كلّ واحد واحد ، ولذّاته في غابر الزمان إلى غير نهاية ، نوعا وكمّا وكيفا.

ومنها : أن الأجساد الدنيوية أجسام لحمية طبيعية ، مركّبة من أخلاط أربعة قابلة للتغيّرات والاستحالات ، معرضة للآفات ، والأجساد الأخروية

__________________

(١) ـ بحار الأنوار : ٥٣ : ٧٣ ، ح ٧١ ، عن منتخب البصائر.

(٢) ـ سورة آل عمران ، الآية ١٧٠.

٣١٨

ليست كذلك ، قال الله تعالى : (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) (١) ، (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (٢) ، (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٣).

وفي الحديث : «جرد مرد مكحّلون» (٤) وهم أبناء ثلاث وثلاثين (٥).

ومنها : أن الموجودات الأخروية أقوى في الوجود ، وأشدّ تحصّلا في التجوهر من الحسّيات الدنياوية بكثير ، كما مرّ بيانه مرارا.

ومنها : أن الآخرة نشأة قريبة من الله ، يتكلم فيها الإنسان مع الله ، وينظر إلى الله بعين قلبه ، وينظر الله إليه ، وهذه بعيدة من الله ، دائرة ذاتها ، بائدة أهلها ، هالكة ذووها ، لا يكلّمهم الله ولا ينظر إليهم ، كما في الحديث القدسي : ما نظرت في الأجسام مذ خلقتها.

وأمّا مكالمة الأنبياء عليهم‌السلام مع الله ، فهي من ظهور سلطان الآخرة على قلوبهم.

ومنها : أنّ الآخرة نشأة الوجود والنور والإدراك والحضور والحياة والظهور ، وكل ما فيها حيّ مدرك ، كما ورد في الحديث أن الأنواع من الفاكهة ليقلن لوليّ الله : يا ولي الله كلني قبل أن تأكل هذا قبلي ، وأنّ المؤمن إذا جلس

__________________

(١) ـ سورة فاطر ، الآية ٣٥.

(٢) ـ سورة الدخان ، الآية ٥٦.

(٣) ـ سورة يونس ، الآية ٦٢.

(٤) ـ مستدرك الوسائل : ٨ : ٤١٠ ، ح ١٠.

(٥) ـ هذه العبارة لم ترد من ضمن الرواية ، بل وردت في كلام الطبرسي بعد هذا الحديث. أنظر : الصراط المستقيم : ٣ : ١٤٢ ، الفصل الّذي ذكر فيه الروايات المختلقة.

٣١٩

على سريره اهتزّ سريره فرحا ، وفي القرآن المجيد : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (١) ، وهذه النشأة موصوفة بمقابلات ذلك ، وقد مضى بيان ذلك كله مستوفى.

ومنها : أن هذه النشأة الدنياوية لضعف وجودها التدريجي يحتاج الإنسان ـ مادام فيها ـ إلى مهد المكان ، وظئر الزمان ، وكل منهما لضعف وجوده غير مجتمع الوجود ، ولا قارّ الذات ، فوجود كلّ جزء منهما حضوره يقتضي فقد صاحبه وغيبته ، وأمّا النشأة الأخروية فلتمامها مستقلّة بنفسها ، مستكفية بذاتها ، وكذلك كلّ ما فيها تام قائم بذاته ، وذات مبدعه ، من غير افتقار إلى الأزمنة ، والمواد المنقسمة المنفصلة المتصرّمة المتقضّية ، بل المجتمعة الثابتة الّتي لا يمكن أن يخبر عنها لأهل هذا العالم المقيّدين بسلاسل الزمان ، وأغلال المكان ، إلّا بضرب الأمثال ، كما أخبر عن زمان الآخرة ومتاها بأقلّ زمان وألطفه ، قال تعالى : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) (٢) ، وعن مكانها بأوسع مكان ، قال سبحانه : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (٣) ، وكما أن البدء غير زماني ولا مكاني ، كما قال عزوجل : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٤) ، فكذلك العود (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٥) ، (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) (٦).

__________________

(١) ـ سورة العنكبوت ، الآية ٦٤.

(٢) ـ سورة النحل ، الآية ٧٧.

(٣) ـ سورة الحديد ، الآية ٢١.

(٤) ـ سورة القمر ، الآية ٥٠.

(٥) ـ سورة الأعراف ، الآية ٢٩.

(٦) ـ سورة لقمان ، الآية ٢٨.

٣٢٠