المسلك في أصول الدّين

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]

المسلك في أصول الدّين

المؤلف:

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع البحوث الاسلامية
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

احتجّ الموجبون بأنّها منفعة لا يتوجّه بها ضرر على فاعلها ، ولا على غيره ، وليس فيها وجه من وجوه القبح ، فيتعلّق بها الداعي ، وينتفي عنها الصوارف ، وكلّ ما كان كذلك ، فلا بدّ أن يبعث الحكمة على فعله.

احتجّ المانعون بأنّ ذلك لو وجب لوجب فعل ما لا نهاية له من المنافع ، لوجود المقتضي لذلك ، لكن فعل ما لا نهاية له محال ، فما أدّى إليه مثله.

ولقائل أن يجيب عن هذا الوجه بأنّ ما لا نهاية له متعذّر ، فلا تتعلّق به الداعي.

وأمّا المصالح الدينيّة ، فإنّها تنقسم إلى ما يقع عنده الطاعة ، ويسمّى لطفا بقول مطلق ، وإلى ما يكون المكلّف معه أقرب إلى الطاعة ، ويسمّى لطفا مقرّبا ، وفي مقابلة ذلك المفسدة ، فمنها ما تقع عنده المعصية ، ومنها ما يكون المكلّف معه أقرب إلى فعل المعصية. (١١٣)

وهل يجب على البارئ سبحانه فعل اللطف أم لا؟ الأكثرون يقولون بوجوبه ، واحتجّوا على ذلك بوجوه :

أحدها : أنّ اللطف مفض إلى غرض المكلّف ، وليس فيه وجه من وجوه القبح ، ولا يؤدي إلى ما لا نهاية له ، وكلّ ما كان كذلك فهو واجب في الحكمة ، أمّا أنّه مفض إلى غرض المكلّف ، فلأنّا نتكلّم على هذا التقدير ، وأمّا

__________________

(١١٣) وقد قسم المعتزلة اللطف إلى قسمين : أحدهما ما يختار عنده المكلّف الطاعة ويسمّى توفيقا ، أو يختار عنده ترك القبيح ويسمّى عصمة ، والثاني ما يقرّب من الطاعة ويقوّي داعيه إليها. والمفسدة ما يقابل اللطف ، وهذا على ضربين : إمّا مقرّبة ، وإمّا ما يختار عندها الفعل. أنوار الملكوت ١٥٤.

١٠١

أنّه ليس فيه وجه من وجوه القبح ، فلأنّ وجوه القبح مضبوطة ، وليس فيه شيء منها ، وأمّا أنّ كل ما كان كذلك كان واجبا في الحكمة ، فلأنّ داعي الحكمة متعلّق به ، والصوارف منتفية عنها ، وكلّ ما تعلّق به الداعي ، وانتفى الصارف عنه ، فإنّه يجب أن يفعل.

الوجه الثاني : لو لم يفعل البارئ سبحانه وتعالى اللطف على هذا التقدير ، لكان ناقضا لغرضه ، ونقض الغرض قبيح. بيان أنّه يكون ناقضا لغرضه ، أنّ من دعا غيره إلى طعام له وعلم أنّه يحضر إن أرسل رسولا إليه لا غضاضة عليه في إرساله ، ولم يرسل رسوله ، فإنّه يكون غير مريد لحضوره ، والعلم بذلك ظاهر.

الوجه الثالث : لو لم يجب فعل اللطف ، لكان البارئ مخلّا بما يجب عليه في الحكمة ، إذ لا فرق بين منع اللطف وعدم التمكين. (١١٤)

احتجّ المخالف بأنّه لو وجب اللطف لوجب أن يفعل بالكافر. والجواب لا نسلّم أن للكافر لطفا. (١١٥) وتحقيق ذلك ، أنّ اللطف هو ما يعلم المكلّف أنّ المكلّف يطيع عنده ، أو يكون أقرب إلى الطاعة ، مع تمكّنه في الحالين ، والكافر قد لا يكون له لطف يحرّكه إلى فعل الطاعة. ويجري هذا

__________________

(١١٤) الوجه الرابع : أنّ ترك اللطف مفسدة فيكون فعله واجبا. أمّا أنّه مفسدة ، فلأنّ ترك اللطف لطف في ترك الطاعة ، واللطف في المفسدة مفسدة. قاله العلّامة الحلّي في أنوار الملكوت ص ١٥٤.

(١١٥) الأولى أن نجيب : أن اللطف بالكافر لا يجب عنده إيمانه ، بل يكون أقرب إلى الايمان والطاعة. فلنا أن نقول : فعل الله تعالى اللطف بالكافر ، ومع ذلك لم يؤمن ، فلا يقال : لو فعل به اللطف لآمن ، والتالي باطل والمقدّم مثله.

١٠٢

مجرى رجل له اولاد ثلاثة ، أحدهم يطيعه بالاكرام ، والآخر بالإهانة ، والثالث لا يؤثّر فيه أحد الأمرين ، فلا يكون لذلك لطف ، فالكافر الذي لا يطيع يجري مجرى الثالث (١١٦).

__________________

(١١٦) اللطف إمّا من فعل الله تعالى ، ويجب في حكمته فعله كالبعثة ، أو من فعل المكلّف ، فإمّا أن يكون لطفا في تكليف نفسه ، فيجب في حكمته تعالى أن يعرّفه إيّاه ، ويوجبه عليه كمتابعة الرسل والاقتداء بهم ، أو يكون لطفا في تكليف غيره فيجب في الحكمة ايجابه على فاعله وذلك كتبليغ الرسل للوحي. راجع قواعد المرام ص ١١٨.

وقال المفيد في أوائل المقالات ٢٥ : أقول : إنّ ما أوجبه أصحاب اللطف من اللطف ، إنّما وجب من جهة الجود والكرم ، لا من حيث ظنّوا أن العدل أوجبه وأنّه لو لم يفعل لكان ظالما.

وكلام المفيد ـ ره ـ ردّ على المعتزلة حيث علّلوا وجوب اللطف بالعدل وأنّ الله لو فعل خلافه كان ظالما. راجع أوائل المقالات ٢٥ وذيلها.

١٠٣

المطلب الثاني

الكلام في الآلام والأعواض

اختلف الناس في الآلام ، فقال قوم : بحسنها أجمع ، بمعنى أنّ العقل لا يحكم بقبح شيء منها ، وهم الأشعريّة. وقال الثنويّة (١١٧) بقبحها أجمع ، وفصّل الآخرون فقالت التناسخيّة (١١٨) لا يحسن منها إلّا ما كان مستحقّا ، وقالت المعتزلة لا يحسن منها إلّا ما كان مستحقّا ، أو فيه نفع يوفّى عليه ، أو دفع ضرر أعظم منه ، أو يكون على سبيل المدافعة ، أو جاريا مجرى فعل الغير بالعادة.

أمّا أنّه يحسن للاستحقاق ، فإنّا نستحسن ذمّ المسيء في وجهه وإن تألّم بذلك ، ولا وجه لحسنه إلّا الاستحقاق. وأمّا حسنها بالعوض الموفّى

__________________

(١١٧) فرقة من المعتزلة وهي التي قالت : إنّ الخير من الله والشرّ من إبليس. معجم الفرق ٧٥ ، والثنويّة من غير المسلمين هم الذين يقولون بمبدأين للخيرات والشرور.

(١١٨) طائفة تقول بتناسخ الأرواح وأن لا بعث ، فالبعث عندهم مجاز. راجع معجم الفرق ٧٠.

١٠٤

عليه ، فلأنّا نستحسن ركوب الأخطار ، وقطع المفاوز ، رجاء لحصول نفع يوفّى على تلك المشقّة ، والعلم بذلك ظاهر. وكذلك يحسن استيجار الأجير بعوض يرفع قبح ألمه ، وأمّا أنّه يحسن لدفع الضرر ، فلأنّا نستحسن شرب الدواء الكريه والعلاج بالحديد دفعا لما يظنّ من الضرر الموفّى عليه ، ونجد العقل باعثا على ذلك. وأمّا أنّه يحسن على وجه الدفع ، فلأنّ من أراد غيره عن نفسه (١١٩) حسن منه الذبّ عن نفسه ، وإن أدّى ذلك إلى قتل المريد. وأمّا أنّه يحسن إذا كان جاريا مجرى فعل الغير ، فلأنّ من طرح غيره في نار فاحترق ، فإنّ احتراقه من فعل الله سبحانه امّا بالاختراع أو التولّد ، (١٢٠) ولا يقبح ذلك من الله سبحانه ، ولا يجب عليه في مقابلته عوض ، لأنّه سبحانه لمّا جرى العادة بذلك لم يجز نقضها إذ نقضها دلالة على صدق مدّعى النبوّة ، فلو خرق العادة لا نسدّ باب الاستدلال على النبوّات ، فصار ذلك الفعل ـ وإن كان من الله تعالى ـ جاريا مجرى فعل غيره ، فكان العوض في ذلك على المباشر لالقائه.

فائدة

اختلف أبو علي وأبو هاشم في وجه حسن الآلام على وجه الدفع ، فقال أبو علي : وجه حسنها أنّ الدافع صار مستحقّا لنفس من كابره على نفسه ، وكان ذلك من قبيل المستحقّ ، فيكون على هذا التقدير من القسم الأوّل ، لا قسما برأسه. وقال أبو هاشم : وجه حسنه كونه دفعا لا غير ، لأنّ العقلاء يحسنون ذلك نظرا إلى الدفع ، لا إلى كونه مستحقّا. ولأنّه لو كانت

__________________

(١١٩) كذا.

(١٢٠) راجع التعليق رقم ٣٦.

١٠٥

مكابرته موجبة لاستحقاق نفسه لوجب أن يكون ذلك الاستحقاق باقيا وإن كفّ المكابر.

وإذا ثبت أنّ الألم يحسن لأحد هذه الوجوه فقد اختلفوا في ما يفعله الله تعالى من الآلام بالعقلاء والأطفال والبهائم. فالذي عليه جمهور المتكلّمين قالوا : إنّما يحسن ذلك للعوض والنفع الموفّى عليه. وقالت التناسخيّة : إنّما يحسن لكونه مستحقّا ، أمّا في العقلاء فبجرائم سبقت ، وأمّا في البهائم والأطفال ، فحيث كانت أنفسهم في غير هذه الهياكل عاصية لله.

فيحتاج تحقيق البحث مع هذا الفريق إلى بيان أنّ الإنسان هو هذه الجملة ، ليبنى الردّ عليهم على إزالة مستندهم.

فنقول : اختلف الناس في الإنسان الذي يشير إليه كلّ واحد بقوله : «انا» ما هو؟ فقال جمهور الفلاسفة : إنّه ليس بجسم ولا جسماني ، بل هو مجرّد عن المادّة الجسميّة ، متعلّق بالبدن تعلّق الشعف ، مدبّر له بالاختراع ، وتابعهم على ذلك بعض المعتزلة ، ومن فقهائنا الشيخ المفيد (١٢١) في ما يحكى عنه. (١٢٢)

__________________

(١٢١) المتوفّى ٤١٣ ، ومؤلف الكتب الكثيرة الثمينة منها أوائل المقالات وتصحيح الاعتقاد وفيهما تعرض لكثير من المسائل الكلاميّة ، ولكن لم نجد مسألتنا هذه فيهما فراجع.

(١٢٢) ذهب الشيخ أبو سهل بن نوبخت من أصحابنا والمفيد محمد بن نعمان ـ ره ـ إلى أنّه شيء مجرّد غير مشار إليه بالحسّ ، متعلّق بهذه البنية تعلّق العاشق بمعشوقه ، لا تعلّق الحالّ بمحلّ ، وهو مذهب محقّقي الأوائل ، واختاره معمر من المعتزلة ... وقال جماعة من المتكلّمين : إنّ المكلّف هي الأجزاء الأصليّة في هذا البدن ، لا يتطرّق إليها الزيادة والنقصان ، باقية أوّل العمر إلى آخره. أنوار الملكوت ١٤٩.

١٠٦

وقال أهل الحق : إنّه جسم ، ثمّ اختلفوا فقال قوم منهم : هو هذا الهيكل بجملته ، وقال آخرون : هو الأجزاء الأصليّة من هذا البدن التي لا يتغيّر بصغر ولا كبر ولا هزال ولا سمن ، وهذا القول أقرب إلى الصواب. والدليل عليه حسن توجّه المدح والذمّ إلى هذا الهيكل ، فلو كان الفعل من غيره لكان المدح والذمّ مصروفين إليه ، لا إلى هذا الشخص.

ثمّ لا جائز أن يكون هو الجملة بأجمعها لوجهين :

أحدهما : أنّ البدن من شأنه التحلّل والاستخلاف ، فإنّ الأجزاء الغذائيّة قبل تمام النشأ (١٢٣) لزيادة فيه ، وبعد تمام النشأ إنّما تزاد (١٢٤) لتقوم عوضا عن ما يحلّل ، وهي أبدا متبدّلة ، والإنسان باق ، والمتبدّل مغاير لما لا يتبدّل بالضرورة.

الوجه الثاني : قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١٢٥).

ويستحيل اجتماع الحياة والقتل على الشيء الواحد في الوقت الواحد ، فلا بدّ أن يكون الحيّ المرزوق في الجنّة مغاير للمشاهد المقتول في الدنيا ، فتعيّن أن الإنسان ليس جملة هذا البدن ، بل أجزاء أصليّة فيه ، وهي المحكوم بانتقالها إلى الجنّة.

احتجّ الفلاسفة بوجوه ، أظهرها أن قالوا : العلم لا ينقسم ، فالعالم

__________________

(١٢٣) النشأ هو الزيادة في أطراف الجسم بالسويّة على النسق الطبيعي. كذا في هامش الأصل.

(١٢٤) كذا يقرأ.

(١٢٥) سورة آل عمران ، الآية : ١٦٩.

١٠٧

لا ينقسم. بيان الملازمة أنّه لو انقسم لكان جزؤه إمّا علما فلا يكون ما فرضناه واحدا واحدا(١٢٦) ، بل علوما ، هذا خلف. وإن لم يكن جزؤه علما كان العلم مركّبا من ما ليس بعلم ، وهو باطل. وأمّا أنّه إذا كان العلم غير منقسم فالمتّصف به غير منقسم ، لأنّه لو انقسم المحلّ لكان العلم إمّا أن يكون قائما بأجزائه كلّها ، فيكون الواحد حالا في محلّين بل أكثر ، وهو محال ، أو في جزء منها فيكون ذلك الجزء هو الموصوف بالعلم دون غيره. وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون محلّ العلم جوهرا جسما ولا جسمانيّا (١٢٧) ، لأنّ كلّ متحيّز منقسم ، وكلّ ما حلّ في المنقسم منقسم.

والجواب أن نقول : هذا بناء على نفي الجوهر الفرد ، ونحن فلا نسلّم نفيه (١٢٨). ثمّ لو سلّمنا لكان العلم عندنا من الامور الإضافيّة ، والأمور الإضافيّة يصحّ أن تكون مقولة على الجسم المركّب ، فلذلك القرب والبعد ، مقول على المتقاربين والمتباعدين ، وليس مقولا على أحدهما ، فما المانع أن يكون العلم كذلك ، فإنّه عندنا على التحقيق من الامور الإضافيّة ، وليس ذاتا قائما بالعالم ، ولا صورة مساوية للمعلوم في العالم ، ومع وضوح هذا

__________________

(١٢٦) أي بسيطا. كذا في هامش الأصل.

(١٢٧) الجسم هو العريض الطويل العميق ، والجسمانيّ هو الصورة الحالّة في الجسم والأعراض العارضة على الجسم. كذا قال بعض الأساتيد.

(١٢٨) احتجّ الأوائل بأن العلم بما لا ينقسم غير منقسم ، وكل جسم أو جسماني فهو منقسم ، فالمحلّ ليس أحدهما. ويعارضون بالنقطة والوحدة ، والاعتذار بأنّهما غير ساريين يأتي في العلم ، فإنّي لم أقف لهم على دليل بأن العلم من الأعراض السارية. أنوار الملكوت ص ١٥٠.

١٠٨

الإشكال يندفع احتجاجهم المذكور. (١٢٩)

وإذا تقرّر ذلك فنقول للتناسخيّة : إنّ الواحد منّا يعلم علما اضطراريّا ، أنّه لو كان موجودا قبل القرن الذي هو الآن موجود فيه ، لوجب أن يكون ذاكرا لشيء من حوادثه.

لا يقال : اختلاف الأبدان مانع من الذكر : لأنّا نقول : قد بيّنا أنّ المكلّف هو الأجزاء الأصليّة التي في هذا الشخص المبنيّة بنيته ، فلو كان موجودا قبل ذلك ، لوجب أن يكون ذاكرا لحوادثه السالفة ، لأنّ حقيقته موجودة في الحالين.

ثمّ يقال لهم : لو لم يحسن الألم من دون الاستحقاق ؛ للزم أن يكون قبل كلّ استحقاق استحقاق ، فالسبب الأوّل يجب أن يكون من غير استحقاق. فإن قالوا : ذلك السبب تكليف. قلنا : فالتكليف ألم ، وكما جاز أن يفعل العوض من غير استحقاق فكذلك ما يبتدئ به من الألم.

ثمّ نعود إلى تحقيق القول في ما يبتدئ به الله تعالى من الألم مع غير هذا الفريق. فنقول : أمّا الآلام التي تفعل بالعقلاء فقد يكون للاستحقاق مثل أن يعجّل الله تعالى بعض العقاب المستحقّ في دار الدنيا.

وما ليس بمستحقّ منها ، اختلف في وجه حسنه ، فكذلك الآلام التي تفعل بالصبيان والمجانين والبهائم ، فذهب قوم إلى أنّها تفعل لمجرّد العوض ،

__________________

(١٢٩) راجع قواعد المرام للبحراني ١٣٨ وإرشاد الطالبين للمقداد ٣٨٦ ـ ٣٩٣ وكشف المراد للعلّامة الحلّي ٢٢٨ واللوامع الإلهية ٣٧٠ وللشهيد السيّد محمد علي القاضي الطباطبائي تعليقة نفيسة في خاتمة اللوامع ص ٥٠٠ فراجعها.

١٠٩

وقال آخرون : يحسن لمجرّد اللطف ، وقال المرتضى : لا يحسن إلّا لمجموع العوض واللطف.

واحتجّ لذلك بأنّ العوض يخرج الألم من كونه ظلما ، واللطف من كونه عبثا.

واحتجّ أبو علي على كون النفع كافيا ، بأنّه يوصل إلى نفع لا يوصل إليه إلّا بالألم ، فكان حسنا. بيان ذلك أنّه لو ابتدأ بذلك النفع لكان تفضّلا ، وقد يأبى الإنسان قبول التفضّل ، أمّا إذا كان مستحقّا ، فإنّ أحدا لا يترفّع عنه.

وقد اجيب عن ذلك ، بأنّا لا نسلّم أنّ المنافع التي يتفضّل بها الله تعالى يترفّع أحد عنها ، وإنّما يسوغ ذلك الفرض في المماثل والمقارب.

احتجّ من أجاز فعل الألم لمجرّد اللطف ، بأنّه لا فرق بين أن تكون المنفعة في مقابلة الألم ، وأن تكون في ما يكون الألم لطفا ووصلة إليه. ألا ترى أنّه يسوغ تحمّل مشاقّ الأسفار لحصول الزيادة في أثمان الأمتعة ، وإن كان النفع ليس في مقابلة السفر. ثمّ يتأكّد ذلك وضوحا في ما إذا كان اللطف عائدا إلى المولم ، وبيان ذلك ، أنّ من علم أنّ ولده لا يتعلّم العلم في بلده ، وإذا أحوجه إلى تحمّل الغربة (١٣٠) والانفراد عن شواغل معارفه من أهل بلده ، كان باعثا على تعلّمه ، فإنّه يحسن أن يلزمه ذلك ، ولا يجب عليه عوض في مقابلة ذلك الألم ، ولا وجه لحسنه إلّا كونه لطفا في التعلّم ، وهذا الوجه قويّ ، وهو المعتمد. (١٣١)

__________________

(١٣٠) في الأصل : القربة بالقاف.

(١٣١) والوجه في حسن إيلام الأطفال كونه لطفا للعقلاء ، وفي البهائم كونه كذلك وللانتفاع به في الدنيا ، فيخرج ذلك عن حدّ العبث ، وعليه عوض يخرجه عن ـ

١١٠

المطلب الثالث

في الآجال والأرزاق والأسعار

أجل الدين هو الوقت الذي يحلّ فيه ، وكذلك أجل الحيوان هو الوقت الذي تبطل فيه حياته ، فمن مات من قبل الله تعالى كان ذلك حسنا ويجب الرضا به ، وإن قتله قاتل فهل كان يعيش لو لم يقتل؟ جزم بذلك قوم ،

__________________

ـ كونه ظلما. تقريب المعارف لأبي الصلاح ص ٩٠.

وقال أبو الصلاح في الكافي ص ٥٨ : والوجه في إيلام الأطفال والحمل على البهائم ، وذبح الحيوان ، واستخدام الرقيق ، ما في ذلك من الإحسان إلى المكلّفين بالانتفاع بما يصحّ ذلك فيه ، ويجوز أن ينضمّ إليه أن يكون لطفا ، وما لا نفع فيه من إيلام الأطفال ، الوجه فيه كونه لطفا للمكلّفين ، ولكلّ مولم من هؤلاء الأحياء عوض عظيم على إيلامه ، ويخرجه عن صفته إلى حيّز الإحسان ، كتعويض الملدوغ بالإبرة الضياع النفيسة والأموال العظيمة ، فيخرج إيلامهم بالغرض عن قبيل العبث ، وبالعوض عن صفة الظلم ، وقلنا ذلك ، لأنّ فعل هذه الآلام بغير عوض ظلم ، وبمجرّد العوض عبث ولا يجوزان عليه سبحانه.

وقال الشيخ المفيد في أوائل المقالات ص ٩١ : أقول : إنّه واجب في جود الله تعالى وكرمه تعويض البهائم على ما أصابها من الآلام في دار الدنيا ، سواء ـ

١١١

وحكم آخرون بالموت قطعا ، وتوقّف المرتضى (١٣٢) ، وهو الحقّ.

لنا أنّه لا دلالة على الجزم بكلّ واحد من القولين ، ومع عدم الدلالة يجب التوقّف.

واحتجّ الجازم بالموت بوجهين : أحدهما : لو جاز أن يعيش لكان القاتل قاطعا لأجله ، وبأنّ الله يعلم بطلان حياته في هذا الوقت ، وعلمه سبحانه لا يجوز أن يتبدّل.

وجواب الأوّل منع الملازمة ، فإنّه لا يثبت أنّه قاطع لأجله إلّا مع التبيّن. وجواب الثاني أنّه لا يلزم من تجويز الحياة انقلاب العلم ، إذ لو بقي لما كان الله تعالى عالما ببطلان حياته. (١٣٣)

__________________

ـ كان ذلك الألم من فعله جلّ اسمه ، أو من فعل غيره ، لأنّه إنّما خلقها لمنفعتها ، فلو حرمها العوض على ألمها لكان قد خلقها لمضرتها ، والله يجلّ عن خلق شيء لمضرّته ، وإيلامه لغير نفع يوصله إليه ، لأنّ ذلك لا يقع إلّا من سفيه ظالم ، والله سبحانه عدل كريم حكيم عالم ...

وراجع الذخيرة في علم الكلام للسيّد المرتضى ص ٢١١ ـ ٢٣٤ ففيه بحث مستوفى في الآلام.

(١٣٢) تبقية المقتول لو لا القتل ممكنة غير مستحيلة ، كما أنّ إماتته كذلك ، ولا دليل يدلّ قطعا على أحد الأمرين ، فيجب التوقّف والشكّ ، وغير ممتنع أن يكون الصلاح في من يقتله أحدنا في أن يحييه الله تعالى إلى مدّة اخرى. كما أنّه لا يمتنع أن يكون الصلاح أن يميته الله تعالى لو لم يقتل ، فالشكّ واجب على كلّ حال. ذخيرة الكلام للمرتضى ـ ره ـ ٢٦٣.

(١٣٣) في تقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي ص ٩٣ : هل كان يجوز بقاء من مات أو قتل أكثر من ما مضى أم لا؟ وهذا ينقسم ، إن اريد كونه مقدورا فذلك ـ

١١٢

واحتجّ القاطعون بالبقاء بوجهين : أحدهما : أنّ الظالم قد يقتل في الحال الواحد عدّة لم تجر العادة بموتهم في تلك الحال ، ويلزم من ذلك أنّه لو لم يقتلهم لبقوا أو بعضهم. الثاني : لو كان المقتول لو لم يقتل لمات ، لكان من ذبح غنم غيره محسنا إليه بذبحها ، فلا يستحقّ الذمّ.

وجواب الأوّل تسليم مثل هذه الصورة ، ولا يلزم في غيرها ، إذ الحكم الجزئي لا يكون له دلالة على الحكم الكلّي. وجواب الثاني : أنّ الذمّ يتوجّه من وجوه : أحدها : إقدامه على التصرّف في مال الغير. الثاني : أنّ إفساد المال كان بسبب المباشر للذبح. الثالث : أنّه منع المالك الأعواض الموفّية ، فإنّه لو ماتت بسبب الله تعالى لكانت أعواضه عليه تعالى راجحة على الأعواض المستحقّة على المباشر.

وأمّا الرزق : فهو ما صحّ أن ينتفع به (١٣٤) ولم يكن لأحد منعه منه (١٣٥) ، فعلى هذا ، الحرام لا يكون رزقا ، ولو كان إنسان قطع وقته بتناول الحرام ، لما كان ذلك رزقا له ، بل قد عدل عن اكتساب الحلال المقسوم له إلى

__________________

ـ صحيح ، لكونه سبحانه قادرا لنفسه ، فالامتناع منه كفر ، وإن اريد العلم بوقوعه وحصوله فمحال ، لأنّه سبحانه عالم لنفسه ، فلو كان يعلم أنّ هذا الميّت أو المقتول يعيش أكثر من ما مضى ، لعاش إليه ، ولم يمت ولم يقتل في هذه الحال ، وفي اختصاص موته أو قتله بها دليل على أنّها المعلوم الذي لا يتقدّر غيره. وكونه معلوما لا يوجب وقوعه ، ولا يحيل تعلّق القدرة بخلافه ، لأنّ العلم يتعلّق بالشيء على ما هو به ، ولا يجعله كذلك ، لأنّا نعلم جمادا وحيوانا ومؤمنا وكافرا ، فلا يجوز انقلاب ما علمناه ، وإن كنّا لم نوجب شيئا منه.

(١٣٤) احتراز عن مثل الخمر والخنزير. كذا في هامش الأصل.

(١٣٥) على وجه الشرع. كذا في هامش الأصل.

١١٣

الحرام (١٣٦)

وأمّا السعر : فهو عبارة عن قدر قيمة ما يباع به الشيء. والغلاء عبارة عن زيادة ذلك بالنسبة إلى الزمان والمكان. والرخص عبارة عن نقصانه ، فإذا كان الغلاء من قبل الله سبحانه وتعالى ، وجب الرضا به ، وكان العوض فيه عليه تعالى ، وإذا كان من قبل الخلق ، إمّا باحتكار الأمتعة ، أو بمنع السبل ، أو غير ذلك ، كان العوض فيه على فاعل الأسباب. (١٣٧)

__________________

(١٣٦) اعلم أنّ الرزق ما يصحّ أن ينتفع به المرزوق ، ولم يكن لأحد منعه منه ، وربّما قيل : ما هو بالانتفاع أولى. والدليل على صحّة هذا الحدّ ، أنّ ما اختصّ بهذه الصفة سمّي رزقا ، وما لم يكن عليها لا يسمّى رزقا. والبهيمة مرزوقة على هذا الحدّ لأنّ كل شيء صحّ أن ينتفع به ولم يكن لغيرها منعها فهو رزق ، ولهذا لم يكن ما نملكه من الزرع رزقا للبهائم ، لأنّ لنا منعها منه ، وليس لنا منعها من الكلأ والماء ، غير أنّ الكلأ والماء قبل أن يأخذ البهائم بأفواهها لا يكون رزقا لها ، وإنّما سمّي رزقا لها إذا حصل في أفواهها ، لأنّه في هذه الحال لا يجوز لنا أن نمنعها منه ، وقبل هذه الحالة لنا أن نمنعها من كلّ شيء بأن نسبق إليه ، فلا يثبت فيه قبل التناول شرط التسمية بالرزق.

ومعنى الملك ثابت في البهيمة ، بخلاف ما يمضى في الكتب ، لأنّها بحيازة الكلأ والماء وحصوله في فيها يقبح منعها منه ، كما يقبح ذلك في العاقل ، إلّا أنّهم للتعارف لا يسمّون بالملك إلّا من له علم وتمييز حاصلان ، أو متوقّفان كالطفل والمغلوب على عقله. ذخيرة السيّد المرتضى ٢٦٧ بعد إصلاحنا بعض تصحيفات العبارة.

(١٣٧) ما قاله المصنّف ـ رحمه‌الله ـ من كون العوض على فاعل الأسباب إذا كان الغلاء من قبل الخلق ، ظاهره الضمان ، ولم أر في كلام غيره ذلك.

قال السيد المرتضى في الذخيرة ص ٣٧٥ : الغلاء مضاف إليهم وهم ـ

١١٤

المطلب الرابع

في الوعد (١٣٨) والوعيد (١٣٩)

وهو يشتمل على مقدّمة وثلاثة مقاصد ، أمّا المقدمة : فنقول المستحقّ على الأفعال ستّة : مدح وثواب وشكر وعقاب وذمّ وعوض.

أمّا المدح فهو القول الدالّ على ارتفاع حال الغير مع القصد إلى ذلك ، ولو لا اعتبار القصد ، لكان قول اليهودي للمسلم : يا مسلم مدحا له ، وليس

__________________

ـ المذمومون. وقال الشيخ الطوسي في الاقتصاد ص ١٠٧ : فتنسب عند ذلك الغلاء والرخص إلى العباد الذين سبّبوا ذلك. وقال الحلبي في تقريب المعارف ص ٩٥ : ويذمّ أو يمدح من سبّب الغلاء أو الرخص من العباد. وقال في الكافي ص ٦١ : فهو مضاف إلى من فعل أسبابه دونه تعالى ، والغلاء على هذا الوجه قبيح لاستناده إلى وجه قبيح. ففي هذه الكتب وغيره كإرشاد الطالبين للمقداد ، وكشف المرام للعلّامة ، قد تعرّضوا للتسبيب ، وكونه قبيحا وكونه فاعله مستحقّا للذمّ ، ولكن لم يقل أحد منهم بكون العوض على فاعل الأسباب فراجع.

(١٣٨) الوعد عبارة عن الإخبار بوصول النفع إلى الغير ، والوعيد هو الاخبار بوصول الضرر إلى الغير ، كذا في هامش الأصل.

(١٣٩) لا يخفى أنّ المصنّف ـ رحمه‌الله ـ في جعله مباحث المعاد قبل أبواب النبوّة ـ

١١٥

كذلك.

وأمّا الثواب ، فهو النفع المستحقّ المقارن للتعظيم والتبجيل. والتعظيم كلّ قول أو فعل أو ترك دلّ على ارتفاع حال الغير. ولا بدّ من اعتبار القصد كما ذكرناه في المدح.

والذمّ عكس المدح.

والعقاب هو الضرر المستحقّ المقارن للإهانة.

والشكر هو الاعتراف بالنعمة مع التعظيم. (١٤٠)

ويستحقّ المدح بفعل الواجب والمندوب وترك القبيح ، وربّما أنكر الثالث قوم تعليلا بأنّ الترك عدم ، فلا يكون مؤثّرا. وجوابه أنّا كما علمنا حسن المدح على فعل الواجب والمندوب اضطرارا ، فكذلك عرفنا حسن مدحه على ترك القبيح. لا يقال : الترك الذي نعلم استحقاق المدح به هو فعل ضدّ الواجب ، لأنّا نقول : إنّ المستلقي في دار غيره بإذنه إذا أمره بالخروج فلم يفعل ، حسن ذمّه قطعا ، فحسن الذمّ إمّا أن يكون معلّلا بترك الخروج ، أو بفعل ضدّه ، والقسم الثاني باطل ، لأنّه يسرع إلى ذمّه من لا

__________________

ـ والإمامة ، قد تأسّى ببعض مشايخنا المتكلّمين كأبي إسحاق إبراهيم بن نوبخت في كتاب الياقوت ، وأبي جعفر الطوسي في الاقتصاد وتمهيد القواعد ، والسيّد المرتضى في الذخيرة ، ولكنّ الخواجة نصير الدين الطوسي في التجريد ، وكمال الدين ميثم البحراني المعاصر للمحقّق الحلّي في قواعد المرام ، والفخر الرازي في المحصل قد تعرّضوا لمباحث المعاد بعد أبواب النبوّة والإمامة أو بعد أبواب النبوّة. فراجع.

(١٤٠) والعوض هو النفع المستحقّ الخالي من تعظيم وتبجيل. الاقتصاد للشيخ الطوسي ص ١٠٩.

١١٦

يعرف ذلك الضدّ بل من لا يتصوّره أصلا.

وشرط استحقاق المدح أن يكون الفاعل له عالما به أو متمكّنا من العلم به. ومثل ذلك يشترط في استحقاق الذمّ والعقاب. ويشترط في هذين زيادة ، وهو كون الفاعل مشتهيا للقبيح. وربّما جعل بعضهم مكان هذا الشرط أن يكون الفاعل له ممّن يصحّ أن يعاقب. وآخرون يضعّفون هذا القول ، ويجعلون بدله أن يزجر عنه زاجر.

ومن الشروط أن يفعل الواجب لوجوبه ، والمندوب لندبه ، وترك القبيح لكونه قبيحا.

المقصد الأوّل :

المطيع يستحقّ بطاعته الثواب ، لأنّ إلزام المشاقّ يجري مجرى فعلها ، وكما يجب بفعلها العوض فكذلك بالإلزام. وإنّما الخلاف في دوامه ، فعندنا ذلك معلوم بالشرع ، خلافا للمعتزلة.

لنا أنّ بالعوض الذي لا يجوز الابتداء [به] يخرج التكليف عن القبح فلا يجب اعتبار ما زاد عليه (١٤١).

احتجّ المعتزلة بوجهين : أحدهما : لو كان الثواب منقطعا لما حسن التكليف معه ، فإنّ العوض المتفضّل به يكون آثر في اختيار المكلّف. الوجه الثاني : أنّ المدح يستحقّ على التكليف دائما ، فيجب أن يكون الثواب كذلك.

والجواب عن الأوّل : لا نسلّم أنّ بتقدير انقطاعه يكون التفضّل آثر ،

__________________

(١٤١) فدوام الثواب يحتاج إلى دليل سمعي شرعي ، وهو موجود.

١١٧

وهذا لأنّ في الثواب المنقطع مزيّة ليست موجودة في التفضّل ، وهو كونه مستحقّا ، أو كون التعظيم مقارنا له. لا يقال : إنّ الاستحقاق لا يصلح فارقا في من لا يترفّع المكلّف عن تفضّله. لأنّا نقول : المزيّة موجودة على كلا التقديرين ، فإنّ صدورهما من فاعل واحد يتفاوت. إذ الفرق بين أن يعطى الملك غيره مالا مستحقّا وبين أن يتطوّع بالعطيّة معلوم.

والجواب عن الثاني : سلّمنا أنّ استحقاق المدح دائم ، لكن لا نسلّم أنّه يلزم في الثواب كذلك ، فإنّه قياس من غير جامع ، ولئن أشاروا إلى جامع طالبناهم بالدلالة على علّيته على وجوب تعدية الحكم عن محلّ الوفاق.

وأمّا العاصي فإنّه يستحقّ بعصيانه الذمّ (١٤٢) ، وقيل : يعلم استحقاقه للعقاب على ذلك عقلا. الحقّ أن العقل لا يدلّ على ذلك خلافا للمعتزلة. لنا أنّ الذمّ من لوازم فعل القبيح اختيارا ، والعقاب ضرر منفيّ بالأصل (١٤٣) فلا يثبت إلّا تبعا لوجود الدلالة.

احتجّ المعتزلة بوجوه ، منها أنّ الذمّ مستحقّ بفعل القبيح ، والإخلال بالواجب ، فيجب أن يستحقّ به الضرر ، لأنّ التكليف به دفعا لضرر الذمّ غير ثابت ، فتعيّن التكليف به دفعا لضرر غير الذمّ ، إذ لو لم يكن فيه دفع ضرر غير الذمّ لكان عبثا.

ومنها أنّ العقاب لطف ، واللطف واجب على الله ، أمّا الاولى فلأنّ المكلّف عند علمه باستحقاق العقاب يكون أقرب إلى ترك المعصية وفعل الواجب ضرورة ، ولا معنى للطف إلّا ذلك ، وأمّا الثانية فقد مرّت في أبواب

__________________

(١٤٢) وأمّا العقاب ودوامه فيحتاجان إلى دليل سمعي.

(١٤٣) التمسّك بالأصل في مثل هذه المسائل فيه ما فيه.

١١٨

العدل.

والجواب عن الأوّل : لم لا يجوز أن يكون التكليف به دفعا للمفسدة الناشئة من فعله ، أو لحصول الثواب في مقابلة الامتثال ، وذلك يكفي في حسن التكليف ، فمن أين لهم أنّه لا بدّ من أمر وراء ذلك ، لا بدّ لهذا من دليل.

والجواب عن الثاني : لم لا يجوز الاقتصار على الذمّ وتجويز العقاب ، فإنّ تجويز الضرر قد يكون زاجرا ، كما يكون الضرر المتيقّن.

وإذا عرفت أنّ استحقاق العقاب لا يعرف عقلا ، فدوامه وانقطاعه أيضا كذلك. والمرجع في العلم باستحقاق العقاب ودوام ما يدوم منه والمنقطع ، إنّما هو مستفاد من الشرع ، وقد أجمع المسلمون على دوام عقاب الكافر ، واختلفوا في عقاب المؤمن الفاسق ، وسيأتي تقرير ذلك بعد تقديم ما يجب تقديمه أمام الخوض فيه إن شاء الله.

ويصحّ في العقل اجتماع استحقاق الثواب والعقاب ، ولا يبطل أحدهما الآخر خلافا للمعتزلة ، ويدلّ على ذلك المعقول والمنقول. أمّا المعقول ، فلأنّهما لو لم يصحّ أن يجتمعا لكان ذلك لمنافاة بينهما ، لكنّ المنافاة منتفية ، فالاجتماع ممكن. أمّا الملازمة فلأنّ بتقدير عدم المنافاة لا يكون لامتناع الاجتماع سبب معقول ، وأمّا أنّ المنافاة غير ثابتة ، فلأنّ المنافاة لازمة عن التضادّ وما يجري مجرى التضادّ ، ولا تضادّ بين الطاعة والمعصية ، ولا بين ثبوت مستحقّهما ، وإذا بطل التنافي لزم إمكان الاجتماع.

وأمّا المنقول فقوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (١٤٤) وقوله : (وَما

__________________

(١٤٤) سورة النساء ، الآية : ١٢٣.

١١٩

يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) (١٤٥)

واحتجّ المعتزلة بالمعقول والمنقول ، أمّا المعقول ، فقالوا إنّ الثواب يستحقّ دائما ، ويقارنه التعظيم والتبجيل ، والعقاب يستحقّ دائما ويقارنه الاستخفاف والإهانة ، فلو اجتمعا لزم استحقاق التعظيم والاستخفاف من وجه واحد وهو محال. ولتعذّر إيصال المستحقّ من الثواب والعقاب وهو أيضا باطل.

وأمّا المنقول فقوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (١٤٦) وقوله : (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) (١٤٧) (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) (١٤٨) (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)(١٤٩).

والجواب عن الأوّل : لا نسلّم أنّ العقاب يستحقّ دائما ، وإنّما يكون ذلك في الكافر ، والكفر لا يجامع الإيمان.

وقوله : «لو اجتمع الاستحقاقان لزم اجتماع التعظيم والاستخفاف» قلنا : سلّمنا ذلك لا بالنسبة إلى فعل واحد بل بالنسبة إلى فعلين ، فما الدليل على استحالة ذلك؟

ثمّ ما ذكروه منقوض بالمسلم إذا كان ابن كافر ، فإنّه يجب عليه شكره ، وهو يتضمّن التعظيم ، وذمّه على كفره.

__________________

(١٤٥) سورة آل عمران ، الآية : ١١٥.

(١٤٦) سورة هود ، الآية : ١١٤.

(١٤٧) سورة التوبة ، الآية : ٦٩.

(١٤٨) سورة الحجرات ، الآية : ٢.

(١٤٩) سورة الزمر ، الآية : ٦٥.

١٢٠