المسلك في أصول الدّين

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]

المسلك في أصول الدّين

المؤلف:

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع البحوث الاسلامية
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

والجواب عن الوجه الأوّل : قوله : «لو كان العبد فاعلا لتصرّفه ، لزم الترجيح من غير مرجّح ، لأنّ نسبته إلى الفعل والترك واحدة» قلنا : لا نسلّم هذا لأنّ الترجيح بالفاعل وإن كانت نسبته إلى الفعل والترك واحدة ، لأنّ الفائدة للاقتدار كون الذات بحيث يصحّ منها أن تفعل وأن لا تفعل ليتحقّق الفرق بين الموجب والقادر.

قوله : «إذا انضمّت الداعية إمّا أن يجب الفعل وإمّا أن لا يجب ، فإن وجب لزم الجبر» قلنا : لا نسلّم ، لأنّ معنى الوجوب أنّه يقع بحسبه ما دام الداعي بحاله ، لكنّ القادر يمكنه معارضة ذلك الداعي بصارف ، فيعود الفعل واجبا باعتبار بقاء الداعي ، وغير واجب باعتبار الصارف.

لا يقال : ننقل الكلام إلى ذلك الداعي والصارف ، لأنّا نقول : الداعي المذكور والصارف لا يفتقران إلى داع ، فالقصد يقع بمجرّد كون القادر قادرا ، ونمنع الاستحالة في هذا المقام.

قوله : «وإن لم يجب الفعل فإن كان أولى لزم الجبر أو الترجيح من غير مرجّح» قلنا : لا نسلّم.

قوله : «إن لم يجب الفعل معه لزم المحذور وإن وجب لزم الجبر» قلنا : لا يجب معه ، والمحذور لا يلزم بتقدير كون الفعل أولى.

قوله : «لو لم يكن واجبا لزم وقوع المرجوح» قلنا : هو كذلك فما الدليل على استحالته في حقّ المختار. ثمّ ما ذكروه يلزم منه استحالة فرض وجود مختار ، ويلزم أن يكون البارئ سبحانه غير مختار ، بل موجب لعين هذه النكتة. فإن فرقوا بكون إرادة البارئ قديمة وإرادة العبد محدثة ، فهو فرق

٨١

بارد ، فإنّا نقول لهم : مع هذه الإرادة القديمة إن كانت أفعاله واجبة لزم الجبر ، وإن كانت أولى أو جائزة لزمت المحذورات ، فتحقق أنّ هؤلاء أرادوا أن يثبتوا الجبر فهدموا الإسلام ، وبمثل هذا يعرف صدق قوله ـ عليه‌السلام ـ : حبّك للشيء يعمي ويصمّ. (٧٧).

والجواب عن الوجه الثاني : نقول : لا نسلّم أنّ القادر على الفعل يجب أن يكون عالما بكمّية أعداده وتفاصيل أحكامه ، بل لم لا يجوز أن يكفي العلم بذاته ليصحّ القصد إليها وإن لم يعلم كميّة ما يقع من ذلك الجنس ، إذ الكمّية عرض تابع للحقيقة ، والحقيقة هي فعل الفاعل في نفس الأمر.

والجواب عن الوجه الثالث : لم لا يجوز أن يقع الفعل بقدرة الله تعالى إن أراد ، وإن لم يرد فبقدرة العبد؟

قوله : «يلزم الخروج عن التعلّق» قلنا : هذا مسلّم ، لكن ما الدليل على استحالته ، فإنّ الفعل بعد وجوده ينقطع القدرة عن التعلّق. على أنّ أبا هاشم وأتباعه يمنعون من تعلّق قدرة الله بعين مقدور العبد. (٧٨)

__________________

(٧٧) رواه الرضي في المجازات النبويّة ١٦٧ ، وفي تعليقه : رواه أبو داود رقم ٥١٣٠ في الأدب ، وأحمد في المسند ٥ / ١٩٤ و ٦ / ٤٥٠ وانظر مسند الشهاب ١ / ١٥٧.

أقول : وانظر أيضا الأمثال النبويّة ١ / ٣٤٨.

(٧٨) قال العلّامة الحلّي في أنوار الملكوت ص ٨٨ : المبحث الثاني في أنّه تعالى قادر على عين أفعال العباد وهو مذهب المصنّف [يعني مصنّف الياقوت] ـ ره ـ وجماعة من أصحابنا والأشاعرة. وذهب أبو علي وأبو هاشم وأتباعهما إلى أنّه تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد وإن قدر على مثله واختاره السيّد المرتضى والشيخ أبو جعفر الطوسي ـ ره ـ.

٨٢

والجواب عن الوجه الرابع : نقول : لم لا يجوز أن يقع مراد الله تعالى؟

قوله «يلزم امتناع مقدور العبد من غير منع» قلنا : لا نسلّم ، لأنّ على تقدير اشتراك قادرين في مقدور يكون وقوع ذلك المقدور بأحد القادرين مبطلا لتعلّق الآخر به.

قوله : «هما متساويان في الاقتدار» قلنا : لا نسلّم إذ نحن نعلم أنّ القويّ في الاقتدار قد يمنع الضعيف من فعله إذا قصد إلى الضدّين.

وقد ذهب النجّار (٧٩) عند ظهور حجج القول بالاختيار إلى القول بالكسب (٨٠) ليحصل ما يكون مستندا لاستحقاق المدح والذمّ ، فزعم أنّ الله يخلق في العبد قدرة وفعلا ، ثمّ العبد يجعل ذلك الفعل طاعة أو معصية.

فيقال له : قدرة العبد إمّا أن تكون مؤثّرة في إيجاد شيء وإمّا أن لا تكون ، ويلزم من الأوّل إسناد ذلك الشيء إلى العبد ، ومن الثاني خلوّ القدرة عن التأثير. وبالجملة أنّ كون الفعل طاعة أو معصية يؤثّر فيهما الوجوه التي

__________________

(٧٩) الحسين بن محمد بن عبد الله النجّار الرازي أبو عبد الله : رأس الفرقة النجاريّة من المعتزلة ، وإليه نسبتها وهم يوافقون أهل السنّة في مسألة القضاء والقدر واكتساب العباد وفي الوعد والوعيد وإمامة أبي بكر ، ويوافقون المعتزلة في نفي الصفات وخلق القرآن وفي الرؤية. راجع الأعلام للزركلي ٢ / ٢٥٣ واللباب في تهذيب الأنساب لابن أثير ٣ / ٢٩٨ والفهرست لابن النديم ص ٢٦٨.

(٨٠) الكسب إيجاد الفعل لاجتلاب منفعة أو دفع مضرّة ، وقد يعرّف بأنّه الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو دفع ضرّ ، ولا يوصف فعل الله بأنّه كسب ، لكونه منزّها عن جلب نفع أو دفع ضرّ. التعريفات للسيّد الجرجاني الشريف ١٦١ والحدود والحقائق ص ٢٢.

٨٣

تقع عليها الأفعال لا القدرة ، إذ لو أثّرت القدرة من دون الوجه المؤثّر في الحسن والقبح ، لجاز أن يفعل القادر الفعل منضمّا إلى الوجه المؤثّر في القبح حسنا ، لكن ذلك باطل بالضرورة.

ثمّ إنّا نطالبهم بالكسب الذي يشيرون إليه تصوّرا ، ثمّ نطالبهم بإثباته استدلالا.

٨٤

البحث الثاني

في الحسن والقبح العقلي

الحسن هو ما لا يذمّ فاعله عليه ، والقبيح ما يستحقّ به الذمّ على بعض الوجوه (٨١) والواجب ما يحسن الذمّ مع تركه على وجه (٨٢).

إذا تلخّص (٨٣) هذا ، فالناس في هذا المقام طوائف. منهم القائلون بأنّ الحسن والقبح مستفاد من العقل ، وأنّ المؤثّر في ذلك وجوه الأفعال. ومنهم القائل بأنّ الحسن راجع إلى ملائمة الطبع ، والقبح إلى منافرته ، وأمّا استحقاق المدح والثواب والذمّ والعقاب فلا يستفاد إلّا من الشرع. ومنهم القائل بأنّ الحسن ما حصل به نظام المصلحة ، والقبح عكسه.

والدليل على القول الأوّل وإن كان غنيّا عن الاستدلال ـ لشهادة العقل به ـ

__________________

(٨١) القبيح كلّ فعل استحقّ فاعله الذمّ ، إذا كان عالما به ، أو متمكّنا من العلم ، ولم يكن ملجأ إلى فعله ، وإن اختصرت ذلك قلت : هو ما له مدخل في استحقاق الذمّ عليه على بعض الوجوه ... تمهيد الاصول للطوسي ٩٨.

(٨٢) لعلّ مراده ـ رحمه‌الله ـ من بعض الوجوه : الترك إذا وقع من عالم به غير ملجا إليه كما يظهر من تمهيد الاصول. وقال أبو الصلاح الحلبي في تقريب المعارف ٥٨ : الواجب هو ما يستحقّ به المدح وبأن لا يفعله ولا ما يقوم مقامه الذمّ ...

(٨٣) كذا في الأصل ، وتلخّص بمعنى تبيّن. كذا في القاموس.

٨٥

أنّا نعلم اضطرارا أنّ من كلّف الأعمى نقط (٨٤) المصاحف ، أو الزمن العدو ، مستحقّ للّوم ، مستوجب للذمّ ضرورة ، ولا معنى للقبح العقلي إلّا ذلك.

الوجه الثاني : لو كان القبح والحسن مستفادين من الشرع لوقف العلم بهما على الشرع ، لكن ذلك باطل. أمّا الملازمة فظاهرة ، وأمّا بطلان اللازم فبوجوه : الأوّل : أنّا نفرض أنفسنا خالية عن الشرائع فنرى العقول شاهدة بذلك. الثاني : أنّا نعلم الفرق بين قبح الظلم وقبح الزنا ، فلو كان مستفادا من الشرع لتساوي الأمران. الثالث : منكر الشرع يحكم بالحسن والقبح العقلي كالبراهمة (٨٥) ، ولو كان موقوفا على الشرع لما حصل ذلك الحكم.

الاستدلال الثالث :

لو كان ذلك مستفادا من الشرع لوجب أن لا يحصل العلم به أصلا. بيان الملازمة أنّ العلم بصحّة الشرع موقوف على العلم بالحسن والقبح الشرعي ، فلا يحصل العلم بالشرع من دونه ، فلو استدلّ عليه بالشرع لوقف كلّ واحد منهما على صاحبه. وبيان أنّ العلم بالحسن والقبح أصل الشرع ،

__________________

(٨٤) نقط الحرف نقطا : أعجمه وجعل له نقطا.

(٨٥) قال الشهرستاني في الملل والنحل ٣ / ٩٥ : إنّ الهند امة كبيرة وملّة عظيمة وآراؤهم مختلفة ، فمنهم البراهمة ، وهم المنكرون للنبوّات أصلا ... ومن الناس من يظنّ أنّهم سمّوا براهمة لانتسابهم إلى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وذلك خطأ ، فإنّ هؤلاء هم المخصوصون بنفي النبوّات أصلا ورأسا ، فكيف يقولون بإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ؟ ... وهؤلاء البراهمة إنّما انتسبوا إلى رجل منهم يقال له براهم [برهم ظ] وقد مهّد لهم نفي النبوّات أصلا ، وقرّر استحالة ذلك في العقول بوجوه ... ثمّ إنّ البراهمة تفرّقوا أصنافا ... وراجع توضيح المراد للطهراني ص ٦٣٨.

٨٦

أنّ الشرع موقوف على صدق النبيّ ـ عليه‌السلام ـ والعلم بالنبوّة موقوف على المعجز ، فلو لم يقبح اظهار المعجز على الكاذب لما علم صدقه ـ عليه‌السلام ـ فإيقاف العلم بذلك على الشرع قدح فيه.

الاستدلال الرابع :

لو كان الحسن والقبح راجعين إلى ملائمة الطبع ومنافرته ، لوجب في من مال طبعه إلى ظلم إنسان لا يحصل له [العلم] بقبح فعله ، وكذلك كان يجب في من سمع هجاء أهل الفضائل بالصوت الرخيم (٨٦) والوزن المستقيم والنظم المستحسن أن لا يستقبحه والمعلوم خلاف ذلك.

__________________

(٨٦) رخم الصوت أو الكلام : لان وسهل ، يقال : كلام رخيم أي رقيق.

٨٧

البحث الثالث

في أنّه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب

ولا بدّ قبل ذلك من بيان أنّه قادر على القبيح ، خلافا للنظّام (٨٧) ، والدليل على ذلك وجوه :

الأوّل : أنّه ثبت كونه قادرا على كلّ مقدور ، والقبيح مقدور ، فيجب أن يكون قادرا عليه.

الوجه الثاني : أنّ الحسن من جنس القبيح ، والقادر على أحد الجنسين يجب أن يكون قادرا على الآخر ، والدليل على أنّ الحسن من جنس القبيح أنّهما يشتركان في كون كلّ واحد منهما حركة مثلا أو سكونا ، وإنّما يختلفان بالوجوه التي يقعان عليهما ، وتلك الوجوه أمور عارضة ، والعرضيّ ليس داخلا في نفس الحقيقة ، فيكون القادر على الحقيقة قادرا على مماثلتها.

__________________

(٨٧) إبراهيم بن سيار بن هانئ البصري أبو إسحاق النظّام من أئمّة المعتزلة ، وانفرد بآراء خاصّة تابعته فيها فرقة من المعتزلة سمّيت «النظّامية» نسبة إليه. توفّي سنة ٢٣١. الأعلام للزركلي ١ / ٤٣ وراجع الأمالي للسيّد المرتضى ١ / ١٨٧ ـ ١٨٩ وريحانة الأدب ٦ / ١٩٤ وسفينة البحار ٢ / ٥٩٧ وتاريخ بغداد ٦ / ٩٧ واللباب لابن أثير ٣ / ٣١٦.

٨٨

الوجه الثالث : أنّه تعالى قادر على تعذيب الكافر إجماعا ، فلو أسلم لم يخل إمّا أن يخرج عن اقتداره على تعذيبه أو لا يخرج ، ويلزم من الأوّل خروجه عن الاقتدار من غير موجب ، ومن الثاني قدرته على القبيح.

احتجّ النظّام بأنّه لو كان قادرا على القبيح ، لصحّ منه فعله ، لكن صحّة الفعل منه دليل على كونه محتاجا أو جاهلا بقبحه ، والدليل لا يدلّ إلّا والمدلول ثابت في نفس الأمر ، فيلزم أن يكون البارئ سبحانه جاهلا أو محتاجا ، تعالى عن ذلك.

وربّما قرّر هذه الطريقة بعبارة اخرى ، وهو أنّه لو كان قادرا على القبيح لكان مع فعله إمّا أن يدلّ على الجهل والحاجة ، وإمّا أن لا يدلّ ، والقسمان باطلان. (٨٨)

والجواب قوله : «لو كان قادرا على القبيح لصحّ منه فعله». قلنا : هذا مسلّم. قوله : «لو صحّ منه فعله لزم الجهل أو الحاجة». قلنا : «لا نسلّم ، وإنّما يتحقّق الجهل أو الحاجة مع فعله لا مع إمكان فعله ، لكن فعله محال ، لا بالنظر إلى كونه قادرا ، بل بالنظر إلى كونه حكيما غير جاهل ولا محتاج ، والقادر لا يخرج عن كونه قادرا لحصول مانع يمنع من إيقاع الفعل ، ولهذا يوصف تعالى أزلا بكونه قادرا ، مع امتناع وقوع الفعل أزلا ، لأنّ الامتناع

__________________

(٨٨) قال أبو الصلاح الحلبي في تقريب المعارف ص ٦١ : وقول النظّام أنّه لو كان سبحانه قادرا على القبيح لصحّ منه وقوعه فيقتضي ذلك خروجه تعالى عن كونه عالما غنيّا ، أو انتقاض دلالة القبيح على ذلك ...

أقول : يظهر وجه بطلان القسمين في كلام المصنّف من بيان أبي الصلاح ـ ره ـ فتأمّل.

٨٩

لا لعدم كونه قادرا بل لامتناع الفعل.

وإذا ثبت ذلك ، فاعلم أنّه تعالى لا يفعل القبيح ، ولا يخلّ بالواجب ، لأنّه عالم بقبح القبيح وعالم باستغنائه عنه ، وكلّ من كان كذلك فإنّه لا يحتاج [إلى] فعله. ولأنّ القبيح لا يفعله إلّا مضطرّ إليه غير مستغن بالحسن عنه ، فإنّ من أراد الوصول إلى غرض ، وأمكن الوصول إليه بالحسن أو القبيح على حدّ سواء ، فإنّه لا يتوصّل إليه بالقبيح والحال هذه ، والعلم بذلك ضروريّ. وأمّا الحسن فإنّه يفعل لحسنه كما يفعل للحاجة إليه ، ألا ترى أنّ الإنسان قد يرشد الضالّ من غير أن يعرفه ، ولا يكون راجيا للنفع الدنياوي من شكر ولا غيره ، ولا للاخروي بأن يكون لا يعتقده ، ولا وجه يبعث على فعله إلّا حسنه لا غير.

وإذا تلخّصت هذه الجملة ، تبيّن أنّ الله سبحانه لا يكلّف ما لا يطاق ، لقبحه ، ولا يريد المعاصي من أفعال عباده ، لأنّ إرادة القبيح مساوية للقبيح في القبح ، فكما لا يقع منه فعل القبيح لقبحه وكذلك يجب [أن] لا يريده.

وأفعال الله سبحانه من خير وشرّ مقضيّة ، ويجب الرضا بها ، وأفعال العباد مقضيّة ، لا بمعنى (٨٩) أنّها مخلوقة لله سبحانه ، بل بمعنى أنّها مأمور بالطاعات منها ، (٩٠) أو بمعنى أنّه أعلمنا ما فيها من ثواب وعقاب ، فإنّ القضاء قد يكون بمعنى الإعلام كقوله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) (٩١) أي أعلمناهم.

__________________

(٨٩) في الأصل : غير مقضيّة لا بمعنى ، والظاهر زيادة كلمة غير ، أو كلمة لا.

(٩٠) كذا في الأصل. ولعلّ الصحيح : بل بمعنى أنّ العبد مأمور بالطاعات منها.

(٩١) سورة الاسراء ، الآية : ٤.

٩٠

ومقدّرة بمعنى أنّ منها الواجب والمندوب والمباح ، وأنّ الله سبحانه قدّرها ، بمعنى أنّه أعلمنا حاله ، أو ما فيها من ثواب وعقاب ، لا بمعنى أنّه خلقها. (٩٢)

وما ورد في القرآن من الهداية يحمل على الدلالة على طريق الحقّ كقوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (٩٣) وإمّا بمعنى الهداية إلى طريق الجنّة ، أو بمعنى تقوية الدواعي بفعل الألطاف. والضلال يحمل على العقاب ، أو على إبطال العمل كقوله تعالى : (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (٩٤) ، ولا يجوز تفسيره بفعل الضلال في العبد ، لأنّ ذلك ينافي الحكمة ، وينقض ما هو معلوم من كونه تعالى لا يفعل إلّا ما يريده ، وقد أخبر تعالى أنّه لا يريد الكفر ولا يرضاه (٩٥) ، ولا يريد الظلم في قوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٩٦).

__________________

(٩٢) قال الفاضل المقداد في اللوامع ١٣٨ : وقع الاتّفاق وتطابق النقل على كون الأفعال واقعة بقضاء الله وقدره ، ويستعملان في معان ثلاثة : الأوّل الخلق والايجاد ... الثاني أن يراد بالقضاء الحكم والايجاب ... الثالث أن يراد بالقضاء الاعلام والاخبار ... والقدر يراد به الكتابة والبيان. وهذا المعنى هو المراد أمّا القضاء : فلأنّه تعالى أعلمنا أحكام أفعالنا ، وأمّا القدر : فلأنّه تعالى بيّن أفعال العباد ، وكتبها في اللوح المحفوظ ، وبيّنها للملائكة ... وراجع كشف المراد ص ١٧٥ المسألة الثامنة في القضاء والقدر.

(٩٣) سورة فصلّت ، الآية : ١٧.

(٩٤) سورة محمد ، الآية : ٨.

(٩٥) قال تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) سورة الزمر ، الآية : ٧.

(٩٦) سورة غافر ، الآية : ٣١. وراجع كشف المراد ص ١٧٦ المسألة التاسعة في الهدى والضلالة ، اللوامع الإلهيّة ١٤٢.

٩١

البحث الرابع

في فروع العدل وفيه أربعة مطالب

المطلب الأوّل في التكليف. النعمة هي المنفعة الحسنة التي يقصد فاعلها الإحسان إلى المنعم عليه. واشتراط المنفعة احترازا عن المضرّة المحضة ، واشتراط الحسنة إنّما كان لأنّ المنفعة موجبة للشكر ، والشكر لا يستحقّ بفعل القبيح ، واشتراط القصد للإحسان احترازا ممّن يفعل ذلك رياء للاضطرار.

وإذا تبيّن ذلك ظهر أنّ خلق العالم نعمة ، لوجود معنى النعمة فيه ، فيكون حسنا. أمّا كونه منفعة فلأنّ المنفعة هي اللذّة أو ما أدّى إليها ، وخلق الإنسان حيّا قادرا مشتهيا من أتمّ المنافع. فأمّا كونها حسنة ، فلأنّا لا نعقل فيها وجها من وجوه القبح ، ولأنّها فعل الله تعالى ، وقد بيّنا أنّه لا يفعل القبيح. وأمّا أنّه قصد بها الإحسان ، فلأنّه لا يخلو من أن يكون له في خلق العالم غرض وإمّا أن لا يكون ، والثاني محال ، والغرض لا يجوز أن يرجع إليه تعالى ، فتعيّن أن يكون عائدا إلى غيره ، ولا يجوز أن يكون ذلك ضررا ، لأنّ الإضرار الذي لا يستحق قبيح ، فتعيّن أنّه فعل العالم قصدا للإحسان ، فيكون حسنا.

٩٢

لا يقال : الحيوان بعد خلقه تناله ضروب الألم ، ولو لا وجوده حيّا مدركا لسلم من ذلك ، لأنّا نقول : يحصل في ضمن ذلك من الأعواض ما ينغمر تلك الآلام ، فيعود حاصلها إلى النفع.

وأمّا التكليف : فهو البعث على ما يشقّ من فعل وترك ، وينحصر البحث في ثلاث مقامات :

المقام الأوّل في حسنه

والدليل على ذلك أنّه فعل الله ، وفعل الله سبحانه حسن ، فالتكليف حسن. وأمّا وجه حسنه فقد قال المعتزلة (٩٧) إنّه تعريض لما لا يحسن الابتداء به ، ولا يوصل إليه إلّا بالتكليف ، وذلك هو الثواب ، والثواب هو النفع المستحقّ الدائم المقارن للتعظيم والتبجيل. وإنّما قلنا : إنّ ذلك لا يحسن الابتداء به ، لأنّا نعلم قبح تعظيم من لا يعلم منه فعل ما يوجب التعظيم ، ونستقبح تعظيم من أسلم ولم يفعل من أركان الإسلام شيئا كما نعظّم

__________________

(٩٧) كان السبب في أنّهم سمّوا بذلك ، ما ذكر أنّ واصلا وعمرو بن عبيد اعتزلا حلقة الحسن البصري واستقلا بأنفسهما ، ذكره ابن قتيبة في المعارف.

قال الشهرستاني : روي أنّه دخل واحد على الحسن البصري فقال : يا إمام الدين لقد ظهر في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر ... وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر ... فكيف تحكم أنت؟ ... فقبل أن يجيب ذلك ، قال واصل بن عطاء : أنا لا أقول : إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقا ، ولا كافر مطلقا ، بل هو في منزلة بين المنزلتين ، لا مؤمن ولا كافر ، ثمّ قام واعتزل إلى اسطوانة من أسطوانات المسجد ... فقال الحسن : اعتزل عنّا واصل ، فسمّي هو وأصحابه معتزلة ... راجع طبقات المعتزلة ص ١ ـ ٤.

٩٣

الصلحاء والعلماء الذين قطعوا أوقاتهم المتطاولة في العبادات ، ولو جاز الابتداء بمثل ذلك لجاز التسوية بينهما.

لا يقال : هذا مستمرّ في من علم الله أنّه يؤمن ، ولا يستمرّ في من علم الله أنّه يكفر. لأنّا نقول : الحالان واحدة ، لأنّهما متساويان في التعريض للنفع ، والتفاوت لا يحصل إلّا من سوء نظر (٩٨) الكافر لنفسه ، لأنّا نعلم حسن التعريض للمنافع ، والإلزام بالمصالح لمن نعلم إجابته وامتناعه.

لا يقال : لو فعل الإيمان مع علم الله أنّه لا يؤمن لانقلب علمه تعالى جهلا. لأنّا نقول : العلم تابع للمعلوم ، فمن علم الله منه الإيمان تعلّق علمه باختياره ، وكذلك إذا علم الله أنّه يختار الكفر. فقولهم : «كان ينقلب» ، فرض مستحيل على هذا التقرير ، لأنّ أي فعل وقع من المكلّف كان هو الذي تعلّق العلم به ، فلا يعرض في العلم الانقلاب ، فكأنّهم غلطوا فظنّوا أنّ الله يعلم قيام زيد ، ثمّ فرضوا أنّه لا يقوم ، وهو من أفحش الغلط ، فإنّه بتقدير أن لا يقوم يكون هو المعلوم لا القيام.

ثمّ نقول لهم : قد أخبر الله تعالى الملائكة أنّه خالق بشرا من طين ، (٩٩) فهذا الإخبار أخرج البارئ من كونه قادرا بحيث يستحيل أن لا يفعله ، أو يكون الاقتدار باقيا ، ويلزم من الأوّل كون البارئ موجبا ، لأنّ جميع أفعاله معلومة قبل وقوعها ، ومن الثاني نقض ما أوردوه ، فتعيّن أنّ علم الله تعالى بأنّ

__________________

(٩٨) قال أبو الصلاح الحلبي في الكافي ص ٥٤ : وأنّما فات المكلّف هذا النفع بسوء اختياره وقبح نظره لنفسه.

(٩٩) قال تعالى : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) سورة ص. الآية : ٧١.

٩٤

الكافر لا يؤمن تابع لاختياره ، لا مؤثّر في وقوع الفعل منه ، فصحّ مع ذلك أن يجامع التكليف.

احتجّوا بأنّ تكليف من علم الله أنّه يكفر مستلزم للضرر ، فيكون قبيحا.

والجواب : إمّا أن يكون الضرر ناشئا من التكليف أو من مخالفة ما كلّف به ، والأوّل باطل ، لأنّ بعث الكافر والمؤمن على الإيمان واحد ، فلو قبح أحدهما لقبح الآخر ، وإن كان ناشئا من المخالفة لم يؤثّر ذلك في القبح ، ضرورة أنّها حصلت من سوء اختياره لنفسه.

على أنّ الذي أراه أنّ التكليف إنّما هو دلالة على مصالح المكلّف لاشتماله على ما يقتضي وجوبه أو قبحه ، ويجب في الحكمة إعلام المكلّف بذلك ثمّ الحكمة تقتضي إلزام الإنسان بمصالحه أطاع أم عصى ، فإذا وجه القبح منتف على هذا التقدير ، والمضرّة المشار إليها غير مرتّبة عليه. (١٠٠)

المقام الثاني في ما يتناوله التكليف

قد عرفت أنّ التكليف هو البعث على ما يشقّ ، فهو إذا من فعل المكلّف ، فإن كان بعث على فعل لازم فهو إيجاب ، أو بما هو الأولى فهو ندب ، وإن كان منعا عن فعل فهو إمّا حظر أو كراهة في عرف الفقهاء.

وأمّا ما يتناوله التكليف ، فهو إمّا من فعل الجوارح ، أو من فعل

__________________

(١٠٠) راجع اللوامع الإلهيّة ١٤٨ وكشف المراد ١٨٠ وقواعد المرام للبحراني ١١٤ وتمهيد الاصول للشيخ الطوسي ١٧٣ وتقريب المعارف للحلبي ص ٧٥.

٩٥

القلوب ، وكيف كان فإمّا أن يكون عقليّا أو سمعيّا ، ولا بدّ في كلّ واحد من العلم بثلاثة أشياء : العلم بالمكلّف ليمكن إيقاعه إعظاما له وتذلّلا ، والعلم بصفة الفعل من وجوب أو ندب ليمكن أن ينوي على صفته ، والعلم بكيفيّته وترتيبه ليمكن إيقاعه على الوجه المبرئ للذمّة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ التكاليف الشرعيّة متأخّرة في العلم عن التكاليف العقلية لترتّب (١٠١) الشرع على العقل ، ثمّ العقليّة ضروريّة كالعلم بوجوب ردّ الوديعة وقضاء الدين ، وكسبيّة كالعلم بقبح الكذب النافع ، وحسن الصدق الضارّ ، وكالنظر في المعارف الإلهيّة ، وكلّ واحد من هذه التكاليف قد يخلو المكلّف منها ، ولا يخلو مع ذلك من وجوب النظر في المعارف الإلهيّة ، فإذا يجب تقديم الكلام في المعارف. (١٠٢)

وقبل ذلك لا بدّ من بيان حقيقة العلم والنظر ، فنقول : العلم هو تبيّن الشيء على ما هو به تبيّنا ينتفى معه الاحتمال ، وهذا ليس بتحديد ، إذ العلم لظهوره غنيّ عن الإبانة لكنّه تنبيه.

وأمّا النظر فهو ترتيب علوم أو ظنون ترتيبا صحيحا ليتوصّل به إلى علم أو ظنّ. والدليل هو ما النظر الصحيح فيه يفضي إلى العلم.

إذا عرفت هذا فنقول : الدليل على أنّ النظر واجب وجهان :

__________________

(١٠١) لتراخي الشرع عن العقل.

(١٠٢) إنّما قلنا : إنّ النظر أوّل الواجبات ، لأنّ الواجبات على ضربين عقليّ وسمعيّ ، فالسمعيات مبنيّة على المعرفة بالله وبالنبيّ ، وذلك يتأخّر لا محالة ، والعقليات قد يخلو من جميعها إلّا من النظر ، فقد ثبت أنّه أوّل الواجبات. تمهيد الأصول ص ١٩٩.

٩٦

الأوّل : أنّ النظر يؤمل به زوال الخوف ، وكلّ ما يؤمل به زوال الخوف فهو واجب. أمّا أنّه يؤمل به زوال الخوف ، فلأنّا نعلم أنّ العقلاء يعوّلون على أنظارهم عند تجدّد الحوادث المشكلة ، فلو لم يكن طريقا من طرق الكشف لما عوّلوا عليه. والخوف الذي نشير إليه هو ما يحصل عند العاقل حين يسمع اختلاف العقلاء في إثبات الصانع والثواب والعقاب ، أو أن يتنبّه من قبل نفسه على جهة الخوف ، أو أن يخطر الله بباله ذلك. وأمّا أنّ كل ما يؤمل به زوال الخوف واجب ، فمعلوم ضرورة. (١٠٣)

__________________

(١٠٣) فإن قيل : متى يجب على العاقل النظر؟ قلنا : إذا خاف من تركه ضررا ، وأمل زوال ما يخافه بالنظر ، فإذا اجتمع الأمران وجب النظر ، وإن لم يحصلا أو لم يحصل أحدهما لا يجب النظر. فإن قيل : متى يحصل الخوف؟ قيل : يمكن حصوله عند امور ثلاثة : أحدهما أن يكون ناشئا بين العقلاء يسمع اختلافهم وتخويف بعضهم وادّعاء كلّ قوم منهم أن الحقّ معهم ، وأن من خالفهم مبطل هالك فإذا سمع ذلك ، ورجع إلى نفسه ، وأنصف وترك حبّ النشء والتقليد وما ألفه ، فلا بدّ من أن يخاف ، ويجوز أن يكون الحقّ في واحد من الأقوال والشبهة هاهنا لا تدخل على أحد. ويمكن أن يتنبّه من قبل نفسه بأن يجد نفسه متصرّفة منتقلة من حال إلى حال ، ويرى آثار النعمة عليه لائحة ، وقد عرف ضرورة أنّ شكر المنعم واجب ، فلا يأمن أن يكون له صانع صنعه ، وأخرجه من العدم إلى الوجود ، وأنعم عليه بضروب الانعام ، وأراد منه معرفته ، ومتى لم يعرف استحقّ العقاب من جهته ، فحينئذ يخاف من تركه النظر. ويجوز أن تكون هذه صورة من خلق وحده منفردا من جميع الخلق ، فإن فرضنا خلقه منفردا وأنّه لا يتنبّه من قبل نفسه ، فلا بدّ أن ينبّهه الله تعالى على ذلك ، بأن يخطر بباله كلاما يسمعه يتضمّن جهة الخوف وأماراته ، والخاطر يجوز أن يكون كلاما ويجوز أن يكون ما يقوم مقامه في التخويف على ما سنبيّنه في باب المعارف. راجع تمهيد الاصول ص ٧ و ١٩٩.

٩٧

الوجه الثاني : أنّ معرفة الله واجبة ، ولا يمكن تحصيلها إلّا بالنظر ، وكلّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب. أمّا أنّ معرفة الله واجبة ، فلأنّها دافعة للضرر من خوف الوعيد ، أو لأنّها لطف في أداء الواجبات. وأمّا أنّه لا يمكن تحصيلها إلّا بالنظر ؛ فلأنّ المعارف إمّا ضروريّة ، وهو ما لا يمكن العاقل دفعه عن نفسه ، ويكون من فعل الله في المكلّف ، (١٠٤) وإمّا كسبيّة ، وهو ما لا يحصل إلّا بالنظر ، (١٠٥) والمعارف الإلهيّة ليست من قبيل الأوّل ، لأنّا نراجع أنفسنا فلا نرى العلم يحصل بها على ذلك الوجه ، فتعيّن أن يكون كسبيّة. وأمّا أنّ كلّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب ، فضروريّ ، ولأنّه لو لم يجب ، لكان إمّا أن يسقط الواجب المتوقّف عليه ، وإمّا أن لا يسقط ، ويلزم من الأوّل أن لا يكون ما فرضناه واجبا ، واجبا ، ومن الثاني تكليف ما لا يطاق.

وإذا مرّ في كلامنا ذكر الخاطر ، فلا بدّ من الإيماء إلى شيء من تحقيقه ، فنقول : الخاطر هو التنبيه على جهة الخوف.

__________________

(١٠٤) العلوم على ضربين : ضروري ومكتسب ، فالضروري ما كان من فعل غيرنا فينا ، على وجه لا يمكننا دفعه عن نفوسنا ، وهو أولى من حدّ من قال : هو ما لا يمكن للعالم به دفعه عن نفسه بشكّ أو شبهة إذا انفرد ، لأنّ هذا موجود في علم البلدان والوقائع ، وهو يجوز أن يكون ضروريّا ومكتسبا ، فلا يصحّ له ما قالوه. تمهيد الاصول ١٩٠.

(١٠٥) وأمّا المكتسب ، فهو كلّ علم كان من فعلنا فهو مكتسب ، وهو أولى من حدّ من قال : إنّه ما أمكن العالم به نفيه عن نفسه بشكّ أو شبهة إذا انفرد ، لما قلناه في العلم بالبلدان ، لأنّه يجوز أن يكون مكتسبا ، وهذا غير موجود فيه. تمهيد الاصول ١٩١.

٩٨

وقال أبو علي (١٠٦) : إنّه اعتقاد أو ظنّ.

وقال أبو هاشم : إنّه كلام خفيّ يسمعه المكلّف ، إمّا من فعل الله ، أو من فعل الملك.

وقال القاضي (١٠٧) يتضمّن ذلك الكلام أربعة أشياء : التنبيه على المعرفة والنظر ، والتنبيه على جهة الخوف ، وعلى أمارة الخوف ، وعلى ترتيب الأدلّة.

ولم أتحقّق شيئا من هذه المجازفات ، بل أقول : إنّ كلّ عاقل عند نشئه يتنبّه أن له صانعا ، فإذا تصوّر ذلك ، استلزم ذلك التصوّر للامور التي أشاروا إليها ، ولم ينفكّ مكلّف من ذلك.

وأمّا الشروط ، فإنّها تنقسم ، فما يرجع منها إلى التكليف اثنان ، وهما : أن لا يكون مفسدة ، وأن يكون مقدّما على فعل ما يتناوله التكليف ، بقدر ما يمكن المكلّف العلم بأنّه متعبّد به (١٠٨). وما يرجع إلى متعلّق التكليف اثنان :

__________________

(١٠٦) هو محمّد بن عبد الوهّاب بن سلام الجبّائي ، والد أبي هاشم الجبّائي ، من أئمّة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره ، وإليه نسبة الطائفة الجبّائية ، توفّي سنة ٣٠٣. طبقات المعتزلة / ٨٠ والاعلام ٦ / ٢٥٦ واللباب ١ / ٢٥٥ وريحانة الأدب ١ / ٣٩٢.

(١٠٧) هو قاضي القضاة عبد الجبّار بن أحمد الهمداني المتوفّى ٤١٥ ـ ٤١٦. راجع طبقات المعتزلة ١١٢.

(١٠٨) في كشف المراد : أمّا ما يرجع إلى نفس التكليف ، فأمران : أحدهما انتفاء المفسدة فيه ... الثاني أن يكون متقدّما على الفعل قدرا يتمكّن المكلّف فيه من الاستدلال به ، فيفعل الفعل في الوقت الذي يجب إيقاعه فيه ص ١٧٩.

٩٩

أحدهما أن لا يكون مستحيلا إمّا بالنظر إلى نفسه كالجمع بين الضدّين ، وإمّا بالنسبة إلى وقته بأن يكون الوقت ضيقا عن إيقاعه ، وأن يكون له صفة زائدة على حسنه. (١٠٩) وما يرجع إلى المكلّف اثنان : أحدهما أن يكون متردّد الدواعي ، وأن يكون مزاح العلّة ، (١١٠) وما يرجع إلى المكلّف شروط : أن يعلم ذلك من حال التكليف والمكلّف ومتعلّق التكليف وأن يكون غرضه حصول الطاعة وإثابة المطيع ، وأن يعلم أنّه يثيبه على طاعته. (١١١)

المقام الثالث في الألطاف

المصلحة إمّا أن تكون دينيّة أو دنياويّة ، فإن كانت دنياويّة ، وانتفت عنها وجوه القبح ، فهل يجب في الحكمة أم لا؟

قال الأكثرون : هي غير واجبة ، وأوجبها الأقلّ في الجود. (١١٢)

__________________

(١٠٩) بأن يكون واجبا أو مندوبا ، وإن كان التكليف ترك فعل ، فإمّا أن يكون الفعل قبيحا ، أو يكون الإخلال به أولى من فعله. كشف المراد ص ١٨٠.

(١١٠) في الاقتصاد للطوسي : ويجب أن يكون المكلّف مشتهيا [أي لما كلّف الامتناع منه] ونافرا [أي عمّا كلّف فعله] ويجب أن يكون الموانع مرتفعة ... ص ٧٠ ، وبالتأمّل في كلام الشيخ يظهر ما أراده المؤلف في ما قال.

(١١١) راجع قواعد المرام للبحراني ١١٦ وكشف المراد ١٨٠.

(١١٢) اختلف المتكلّمون في الأصلح في الدنيا ، هل هو واجب على الله تعالى أم لا؟ فذهب شيخنا أبو إسحاق ـ ره ـ [أي إبراهيم بن نوبخت مؤلّف الياقوت] إلى وجوبه ، وهو مذهب البغداديّين وأبي القاسم البلخي ، وقال باقي أصحابنا والبصريون من المعتزلة والأشاعرة أنّه لا يجب. أنوار الملكوت ١٥٧.

١٠٠