المسلك في أصول الدّين

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]

المسلك في أصول الدّين

المؤلف:

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع البحوث الاسلامية
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

الاستسعاد (٢٥) عليهم بغيرهم ، ثمّ الكلام فيهم كما في الأوّل ، فلا بدّ من الانتهاء إلى جند معصومين دفعا للتسلسل. وهذه الحجّة مماثلة لحجّتكم في إثبات عصمة الإمام ، فإن دلّت هناك دلّت هنا. الرابع : لو كانت العلّة المحوجة إلى الإمام جواز الخطأ ، لكان لو فرض في الامّة معصوم لم يكن إماما ولا مأموما ، لكن ذلك باطل بالإجماع.

والجواب : قوله : لا نسلّم أنّ العلّة المحوجة إلى الإمام جواز الخطأ. قلنا : قد بيّنا ذلك بكون الاحتياج يدور مع جواز الخطأ على المكلّفين وجودا وعدما ، لأنّا متى عرفنا أنّ المكلّف معصوم استغنى بالعصمة عن الإمام ، ومتى ارتفع ذلك احتاج إلى اللطف المحرّك إلى فعل الطاعة واجتناب المعصية ، وليس كذلك ما عدّده من الامور ، وإن كان يحتاج إليه فيها ، لكن ليست علّة الاحتياج ، والعقائد لا يجوز الرجوع فيها إلى الإمام إلّا بعد ثبوت عصمته ، لأنّ الخبر المحتمل للصدق والكذب لا يجوز الجزم به إلّا لدلالة تدلّ عليه ، فإن عمل بقول الإمام مجرّدا عن دلالة ولا وثوق بعصمته لم يقطع بصحّة خبره ، فلا يجوز بناء العقائد على قوله ، وإن عمل بقوله منضمّا إلى الدلالة لم تكن لقوله مزيّة على غيره ، فثبت أنّ علّة الاحتياج إلى الإمام هو ما ذكرناه من جواز الخطأ على المكلّفين ، وأنّه إن كان للمعرفة بالعقائد يلزم أن يكون معصوما أيضا لما ذكرناه.

قوله : ما المانع أن يكون في وقت إمامان جائزا الخطأ ويأخذ كلّ واحد منهما على صاحبه ، فلا يفتقران إلى إمام معصوم؟ قلنا : هذا باطل. وبتقدير صحّته فالإلزام باق. أمّا بطلانه فلأنّ الإمام يجب على المأموم تعظيمه

__________________

(٢٥) في منتهى الارب : استسعاد : يارى خواستن. أي طلب الإعانة.

٢٠١

وإجلاله ، فلو كان إماما مأموما لزم انخفاضه عنه وارتفاعه عليه. وأيضا فكان يلزم أن يكون كلّ واحد منهما إماما لنفسه ، لأنّ إمام الإمام إمام للمأموم. وأمّا أنّ بتقدير صحّته فالالزام باق ، فلأنّ وقوع الخطأ منهما جائز ، فلعلّه لو أخذ على يده لما سلك الحقّ ولجاز أن يتجاوز العدل في مؤاخذته ، وكذلك الآخر ، فيكون العلّة المحوجة إلى الإمام موجودة منهما.(٢٦)

قوله : لم لا يجوز أن تكون الامّة تأخذ على يد الإمام (٢٧). قلنا : هذا باطل ، لعجز آحادها عن القبض على يده ، وتعذّر اجتماعها على المؤاخذة.

قوله : ما المانع أن يكون في رعيّته معصوم يأخذ على يده؟ قلنا : لتعذّر انتصاف الضعيف من القوي.

قوله في المعارضة الاولى : لو كانت العصمة معتبرة في الإمام لزم اعتبارها في القضاة والولاة. قلنا : لا نسلّم هذا لأنّ جواز الخطأ فيهم وإن أحوج إلى الإمام فإنّ عصمة الإمام يمنع من الاحتياج إلى غيره ، فيحصل اللطف المراد من الإمامة بهذا الاعتبار ، فلم يحتج إلى عصمة غير الإمام.

قوله في المعارضة الثانية : لو كانت العصمة معتبرة في الإمام لكانت من أعظم حجج الخصم على المنتصبين للإمامة من الصحابة والتابعين. قلنا : الحال كذلك ، لكن ليس كلّ قول يسمع ، ولا كلّ حجّة تتّبع. ثمّ نقول : ما المانع أن يكون وقع ذلك؟ فإنّه لا تتمّ حجّتك إلّا بعد بيان أنّ ذلك لم يقع. على أنّا نقول : لو سلّمنا أنّهم لم يحتجّوا بالعصمة على دفع المدّعي للإمامة لما دلّ ذلك على عدم اشتراطها ، لأنّها أمر خفيّ يمكن أن يدّعيها

__________________

(٢٦) كذا في الأصل ، ولعلّ الصحيح : فيهما.

(٢٧) أخذ على يد فلان : منعه عمّا يريد أن يفعله. كذا في أقرب الموارد.

٢٠٢

الخصم مكابرة ، ولأنّ الطريق إلى تمييز المعصوم ليس إلّا النصّ فكان دعوى النصّ على بطلان دعوى مدّعي الإمامة يغني عن ذلك ، وسنبيّن أنّ جماعة من الصحابة شهدوا بالنصّ على عليّ ـ عليه‌السلام ـ وأعرض الباقون عن العمل بشهادتهم.

قوله في المعارضة الثالثة : لو وجبت عصمة الإمام لوجبت عصمة الأعوان. قلنا : لا نسلّم فما الدليل على ذلك؟

قوله : لطف الإمام لا يتمّ إلّا بمساعدة الأعوان. قلنا : مسلّم.

قوله : لو كانوا جائزي الخطأ لأمكن مخالفتهم للإمام ، فلا يحصل الغرض المراد من الإمامة ، فيفتقر إلى جند اخرى. قلنا : الجند إن أطاعوه فقد تمّ اللطف ، وإن خذلوه كان فوات اللطف من جهتهم لا من جهة الله سبحانه ، ولا من جهة الإمام ، بخلاف ما إذا لم يكن الإمام معصوما.

قوله في الوجه الرابع : لو كانت العلّة المحوجة جواز الخطأ لكان لو فرض في الامّة معصوم لكان غير إمام ولا مأموم. قلنا : لا نسلّم ، وهذا لأنّ ذلك المعصوم وإن لم يكن محتاجا إلى الإمام في كونه لطفا له ، فإنّه محتاج إليه في الجهاد والمصالح الدنيوية التي لا يستقلّ ذلك المعصوم بها ، ويحتاج إلى رئيس يقوى بسياسته على حصولها ، والدليل يطّرد ولا ينعكس. (٢٨)

دليل ثان على أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما :

لو جاز وقوع الذنب منه لكان مع تقدير وقوعه إمّا أن يتّبع وإمّا أن لا

__________________

(٢٨)

٢٠٣

يتّبع ، ويلزم من الأوّل الأمر بالذنب ، ومن الثاني خروج الإمام عن كونه إماما.

لا يقال : هذا منقوض بنوّاب الإمام ، وبأنّ المحذور إنّما يلزم من وقوع الذنب لا من تجويز وقوعه. لأنّا نقول : الفرق بين الإمام ونوّابه ظاهر ، وذلك لأنّ النواب مع الخطأ يأخذ عليهم الإمام ، فهم محتاجون مع جواز خطئهم إلى الإمام ، ولهم إمام ، والإمام لا إمام له.

قوله : إنّ المحذور إنّما يلزم من وقوع الذنب لا من جوازه. قلنا : جواز وقوع الذنب مستلزم سلامة فرض الوقوع من المحال ، لأنّه لو لا سلامته عن المحال لما كان جائزا.

دليل ثالث :

لو جاز وقوع الذنب منه لكان مع فرض وقوعه ظالما ، لكن الظالم لا يصلح للإمامة. أمّا الاولى فلأنّ الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، والفسق وضع الشيء في غير موضعه فيكون ظلما. وأمّا الثانية فبقوله تعالى لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٢٩).

لا يقال : هذا يتناول من وقع منه الظلم لا من يجوز منه وقوع الظلم ولا يقع. لأنّا نقول : إذا لم يكن واجب العصمة كان جائز الخطأ ، ومن جاز خطؤه أمكن وقوع الظلم منه ، ومع وقوعه ... (٣٠) لا يناله العهد فيكون جواز الخطأ مستلزما لإمكان فرض وقوعه ، وفرض وقوعه مستلزم للمنع من وصول

__________________

(٢٩) سورة البقرة ، الآية : ١٢٤.

(٣٠) هنا كلمة لا تقرأ.

٢٠٤

العهد إليه.

وأمّا كونه أفضل فاعلم أنّ الأفضليّة تقال على وجهين [الأوّل] بمعنى أنّه أكثر ثوابا في الآخرة ، والثاني أنّه أرجح في الامور التي هو مقدّم فيها كالعلم والشجاعة حيث كان حاكما مقدّما في الحروب داعيا إليها.

أمّا القسم الأوّل : فالدليل على اعتباره وجوه :

الأوّل : الإمام معصوم فيجب أن يكون أفضل. أمّا الاولى فقد تقدّم بيانها ، وأمّا الثانية فاجماعيّة ، أمّا عندنا فلأنّا نثبت الأمرين ، وأمّا عند الباقين فلانتفائهما. (٣١)

الثاني : الإمام أعلم الامّة فيكون أفضل ، أمّا الاولى فسيأتي بيانها ، وأمّا الثانية فبقوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٣٢) ولأنّ العلم فضيلة موجبة للثواب فيكون تزايدها موجبا لازدياده.

الثالث : الإمام مساو لغيره في التكاليف ، ومختص بكونه لطفا لغيره في التحريك إلى الطاعات ، وذلك اللطف إنّما يتمّ باجتهاده وقبوله للقيام بأعباء (٣٣) الإمامة ، فيكون راجحا على المكلّفين في تكليفه ، فيجب أن يكون

__________________

(٣١) لعلّ مراده ـ رحمه‌الله ـ : أنّهم لو أثبتوا العصمة لقالوا بوجوب كونه أفضل ، ولكن لم يقولوا بالأوّل فلم يقولوا بالثاني ، فوجوب كونه أفضل بناء على كونه معصوما إجماعية عندهم أيضا ، والله العالم.

قال الشيخ الطوسي ـ ره ـ : كلّ من قال من شرط الإمام كونه معصوما قال هو أكثرهم ثوابا ولا أحد من الامّة فرق بين المسألتين. تمهيد الاصول ٣٦١.

(٣٢) سورة الزمر ، الآية : ٩.

(٣٣) العبء ـ بالكسر ـ : الثقل من أيّ شيء كان جمعه أعباء ، وحملت أعباء القوم أي أثقالهم من دين وغيره ، ومنه أعباء الرسالة وأعباء الإمامة.

٢٠٥

أكثر ثوابا.

لا يقال : فيلزم أن يكون المصلّي تماما أرجح ثوابا من المصلّي تقصيرا ، لأنّا نقول : الأمر كذلك إذا عرفنا تساويهما في صلاح الباطن ، والإمام نعلم صلاح باطنه قطعا بما ثبت من عصمته ، فيكون مستحقّا لزيادة الثواب قطعا بزيادة تكليفه.

الرابع : الإمام يجب على الرعيّة كافّة تعظيمه وإجلاله ، فيجب أن يكون أفضل. أمّا الاولى فظاهرة ، وأمّا الثانية فلأنّ التعظيم يجب أن يكون مستحقّا ولا يجوز التبرّع به ، وذلك يدلّ على استحقاقه لذلك في نفس الأمر ، لأنّا نعظّمه تعظيما غير مشروط بصلاح الباطن ، لتيقّننا صلاحه بما ثبت من عصمته ، وإذا كان مستحقّا لزيادة التعظيم في نفس الأمر كان مستحقا لزيادة التعظيم عند الله تعالى ، ولا معنى للأفضليّة إلّا ذلك.

واحتجّ بعض الأصحاب بأنّه ـ عليه‌السلام ـ مساو للنبيّ ـ عليه‌السلام ـ في كونه حجّة في الشرع ، فيكون مساويا له في كونه أفضل الرعيّة ، كما أنّ النبيّ ـ عليه‌السلام ـ بهذا الاعتبار أفضل.

وأمّا القسم الثاني وهو كونه أرجح في العلم والشجاعة فيدلّ عليه وجهان : الأوّل أنّه مقدّم في ذلك فيجب أن يكون أفضل. أمّا الاولى فبالاجماع ، ولأنّا نتكلّم على هذا التقدير ، وأمّا الثانية فلأنّا نعلم قبح تقديم المبتدئ في الكتابة على المجيد الفاضل ، ولا وجه لقبح ذلك إلّا أنّه تقديم المفضول على الفاضل ، فيكون ذلك وجها مقتضيا للقبح حيث كان.

فإن قيل : لا نسلّم أنّ ما ذكرتموه هو الوجه المقتضي للقبح ، بل ما المانع أن يكون هناك وجها غير ما أشرتم إليه لا تعلمونه؟ ولو سلّمنا ذلك

٢٠٦

لكنّا نجوّز أن يشتمل تقديم الفاضل على المفضول على وجه من وجوه القبح في وقت ما ، فيجب إذ ذاك تقديم المفضول دفعا لذلك القبح.

ثمّ ما ذكرتموه منقوض بالولاة والقضاة ، وبفعل النبيّ ـ عليه‌السلام ـ فإنّه قدّم خالد بن الوليد على أبي بكر وعمر ، وزيد بن حارثة على جعفر بن أبي طالب ، واسامة على بقيّة المسلمين. (٣٤)

ثمّ نقول : ما المانع أن يكون الإمام مقدّما في علمه (٣٥) دون ما لم يعلمه.

ثمّ لو لزم أن يكون أعلم بالامور الشرعية من الرعيّة ، لوجب أن يكون أعلم بالصناعات والاروش وقيم المتلفات ، لحصول التنازع بين الناس في أحكام متعلّقة بذلك.

والجواب : قوله : لا نسلّم أنّ ما ذكرتموه هو الوجه المقتضي للقبح. قلنا : القبح معلوم ، ولا يقبح الفعل لجنسه ، والحكم موقوف على العلم بمقتضيه ، ولا نعلم وجها سوى ذلك ، فلو لم يكن هو الوجه المقتضي للقبح لزم أن لا

__________________

(٣٤) لمّا جهّز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه إلى مؤتة من أرض الشام أمر عليهم زيد بن حارثة فإن قتل فجعفر بن أبي طالب. هذا هو المشهور. ولكن قال شيخنا التستري : هذا مجعول دفعا للطعن على أبي بكر وعمر في تأمير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيدا ذاك وابنه اسامة عليهما حتّى اعترضوا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك حتّى قام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطيبا في بعث اسامة وقال : «طعنتم في تأميره كما طعنتم في أبيه وهما أهل لذلك» ، وإلّا فالأمير الأوّل في مؤتة هو جعفر كما يدلّ عليه أشعار كعب وحسّان وهما كانا مشاهدين للقضيّة ، قاموس الرجال ٢ / ٣٧٠.

وتأمير اسامة كان في أوان وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : جهّزوا جيش اسامة ...

(٣٥) في ما علمه ، خ ل.

٢٠٧

نعلم القبح.

قوله : ونحن نجوّز أن يشتمل تقديم الفاضل على وجه قبح. قلنا : قد بيّنا أن تقديم المفضول وجه قبح ، فلا يحسن الفعل المشتمل على ذلك الوجه أصلا.

قوله : هذا منقوض بالولاة والقضاة وفعل النبيّ ـ عليه‌السلام ـ. قلنا : أمّا القضاة والولاة فليسوا مقدّمين في الامور كلّها ، بل في ما علموه ، لا في ما جهلوه ، ومن قدّمه النبيّ ـ عليه‌السلام ـ لا نسلّم أنّه كان مفضولا بالنسبة إلى ما قدّم فيه ، بل يكون في ذلك الباب أفضل من غيره.

قوله : قدّم اسامة على بقيّة الناس. قلنا : لا نسلّم ، وإنّما قدّمه على من يعلم أنّ اسامة أفضل منه (٣٦). وإن كان لفظ النبيّ عامّا في قوله : «جهّزوا جيش اسامة» ولعنه من تأخّر عنه (٣٧) ، لكن يخصّ العامّ بمن دلّت الدلالة على أنّه أفضل ، لما عرفت (٣٨) من جواز تخصيص الدليل الشرعيّ بالدليل

__________________

(٣٦) كالشيخين وأضرابهما.

(٣٧) قال الشهرستاني : وأمّا الاختلافات الواقعة في حال مرضه عليه الصلاة والسلام ... الخلاف الثاني في مرضه أنّه قال : جهّزوا جيش اسامة لعن الله من تخلّف عنه. الملل والنحل ص ٢٠ وهو كما ترى أرسلها إرسال المسلّمات.

وقال السيد شرف الدين في النص والاجتهاد ص ١٣ : ثمّ ثقل ـ بأبي وأمّي ـ في مرضه فجعل يقول : جهّزوا جيش اسامة ، أنفذوا جيش اسامة ، أرسلوا بعث اسامة ، يكرّر ذلك ...

أقول : وراجع رسالة جيش اسامة تأليف المحقّق محمد بن الحسن الشيرواني المعروف بملّا ميرزا المتوفّى سنة ١٠٩٨ طبع طهران.

(٣٨) في مباحث اصول الفقه.

٢٠٨

العقليّ.

قوله : يكون مقدّما في علمه دون ما لم يعلمه. قلنا : الإمام عامّ التقديم بالإجماع.

قوله : لو كان عالما بالشرعيّات لكان عالما بالصناعات. قلنا : ما تعلّق منها بالأحكام الشرعيّة يجب أن يكون أعلم به (٣٩) دون ما سوى ذلك. (٤٠)

__________________

(٣٩) وما عداه وإن لم يجب كونه أعلم به ولكن لا يمكننا نفي علمه به كما لا يخفى ، فإنّ عدم الوجوب غير عدم الوجود.

(٤٠) قال السيّد المرتضى ـ ره ـ في الذخيرة ص ٤٢٩ : وممّا يجب أن يلحق بذلك علمه بوجوه السياسة ، لأنّ هذا حكم لا ينفكّ الرسالة منه ، ولا يجوز أن يخلو إمام من تعلّقه به ، فعلمه بالسياسة واجب عقلا.

وقال أيضا : ومن صفات الإمام أن يكون أعلم الامّة بأحكام الشريعة وبوجوه السياسة والتدبير.

٢٠٩

البحث الثالث

في الطريق إلى تعيين الإمام

وقد اختلف في ذلك فقالت الإماميّة : لا طريق إلى تعيينه إلّا النصّ والمعجز. وقال بعض الطوائف : زيادة على ذلك بالاختيار ، وأضافت الزيدية (٤١) من بينهم قسما آخر وهو الدعوة إذا كان الداعي فاطميّا.

لنا وجوه : الأوّل : إنّ العصمة معتبرة في الإمام ولا يعلمها إلّا علّام الغيوب ، فلا طريق إلى من حصلت له إلّا النصّ. لا يقال : لم لا يجوز أن يكل الله سبحانه تعيينه إلى المكلّفين لمعرفته أنّهم لا يختارون إلّا المعصوم. لأنّا نقول : إن بيّن الله سبحانه لنا ذلك كان كالنصّ الدالّ على عينه أو صفته

__________________

(٤١) هم القائلون بإمامة زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ـ عليهم‌السلام ـ في حياته وإمامة ابنه يحيى بن زيد بعد شهادته. وباعتقادهم أنّ الإمامة تكون بالاختيار ، فمن اختير صار إماما واجب الإطاعة ولا يشترط أن يكون معصوما ولا أفضل أهل زمانه وإنّما يشترط أن يكون من ولد فاطمة ـ عليها‌السلام ـ وأن يكون شجاعا عالما يخرج بالسيف وهم عدّة طوائف منهم الجاروديّة. راجع معجم الفرق ١٢٧.

٢١٠

فيدخل في قسم النصّ ويخرج الاختيار عن كونه طريقا إلى تعيين الإمام ، ونحن فلا ننازع في ذلك ، بل المنازعة في أنّ بالاختيار يتعيّن الإمام في نفس الأمر ، أمّا أنّه يكون إماما عند الله ويكون الاختيار موصلا إلى ذلك الإمام المعيّن ، مع دلالة قاطعة تدلّ على كونه طريقا ، فذلك ممّا لا نأباه ، وأحد الأمرين غير الآخر.

الثاني : الاجماع لا يصلح دليلا على تعيين الإمام ، لعدم الدلالة على حقّيته بتقدير أن لا يكون في جملتهم معصوم ، وكذلك دعوة الفاطمي ، فتعيّن القسم الثالث ، وهو النصّ والمعجز ، لأنّ ما عدا ذلك منفيّ بالإجماع.

الثالث : الاختيار لا يصلح أن يكون طريقا إلى تعيين الإمام فوجب أن يكون طريقه النصّ.

أمّا المقدّمة الاولى فبوجوه :

الأوّل : أنّ العاقد إمّا كلّ المسلمين أو بعضهم ، والأوّل مستحيل بالضرورة ، والبعض لا ينفذ أمره في نصب قاض من القضاة ولا وال من الولاة ، فنصب الرئيس العامّ أولى أن لا يصحّ.

لا يقال : هذا منقوض بالشاهد ، فإنّه لا يقدر على نقل المال المشهود به وباعتبار شهادته ينفذ القاضي الحكم. لأنّا نقول : الحاكم له ولاية الإنفاذ ، وليس ذلك في الشاهد ، والإنفاذ ليس شهادة ، فلأحدهما ما ليس للآخر ، ولا كذلك الولاية ، فإنّ من تمكّن من نصب وال أعظم كان على نصب الأصغر أولى ، وعجزه عن نصب الأصغر مع قدرته على نصب الأكبر محال.

الثاني : أنّ إثبات الإمامة بالاختيار نقض للغرض من الإمامة ، إذ

٢١١

الاختيار يفتح باب الاختلاف والتنافس وإثارة الفتن ، والإمامة مرادة لاطفائها وإزالة الهرج وقطع الاختلاف.

الثالث : لو انعقدت الإمامة بالاختيار لزم وجود إمامين ، لا بل وجود أئمّة عدّة في وقت واحد ، وذلك بأنّ يعقد أهل كلّ إقليم لشخص يختارونه ولا يحصل ترجيح ، فتثبت الإمامة في الجميع.

لا يقال : إذا اتّفق ذلك بطل العقد لهم أو يختار أحدهم. لأنّا نقول : لو كان الاختيار طريقا لتعيين الإمام لكان كلّ واحد منهم قد صار إماما بذلك السبب ، فإزالته بعد ثبوت إمامته غير جائز. على أنّا نقول : إن ثبت جواز إزالته ، دلّ على أنّ الاختيار ليس سببا يقتضي تعيّن الإمام ، إذ لو كان طريقا به يصير الإمام إماما لما بطلت إمامته.

وأمّا المقدمة الثانية :

فلأنّ الامّة بين قائلين : قائل يقول بالنصّ والمعجز ، وقائل يقول بالاختيار حسب ، أو بالاختيار والدعوة ، فإذا بطل القول بالاختيار بطل القول بالدعوة أيضا ، إذ لا أحد ينفرد بالقول بها.

واحتجّ بعض الجمهور بأنّ إمامة أبي بكر ثابتة ، ولم تثبت إلّا بالاختيار ، فلو لم يكن طريقا إلى تعيين الإمام لما ثبتت إمامته.

والجواب : قوله : إمامة أبي بكر ثابتة. قلت : لا نسلّم. قوله : لم يثبت إلّا بالاختيار. قلنا : ولا بالاختيار أيضا ، فإنّا نمنع حصول الاختيار الذي يشترطونه في الإمامة في العقد عليه. ولو سلّمنا حصول الاختيار لما ثبتت إمامته أيضا ، لأنّا نمنع كون الاختيار حجّة. على أنّ المذكور وأهل مقالته

٢١٢

يثبتون إمامته بالاختيار ، فلو أثبتوا كون الاختيار حجّة في الإمامة بإمامته لزم الدور.

واحتجّ آخرون منهم بأنّه لو لم يكن الاختيار طريقا إلى تعيين الإمام لأنكر الصحابة على من عوّل على الاختيار ، ولمّا لم يقع ذلك دلّ على كونه حجّة وطريقا إلى تعيين الإمام.

والجواب : لا نسلّم أنّه يلزم اتّفاق الصحابة على الإنكار ، لأنّ فيهم من لا يسكن إلى دينه ، (٤٢) وفيهم الذي تحمله العصبيّة على ترك الإنكار ، وفيهم المحقّ الخائف من إظهار الإنكار ، والباقون وقع منهم الإنكار ، وسيأتي بيان ذلك في الفصل الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى.

__________________

(٤٢) والدليل القاطع على أنّ أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليسوا بأجمعهم مؤمنين به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آيات سورة المنافقين وأشباهها ، فراجع.

٢١٣

المقصد الأوّل

في تعيين الإمام بعد النبيّ ـ عليه‌السلام ـ

وقد اختلفت الامّة في ذلك على أقوال ثلاثة : فقالت الإماميّة والجاروديّة (٤٣) من الزيديّة هو عليّ ـ عليه‌السلام ـ ، وقالت طائفة شاذّة هو العبّاس بن عبد المطّلب ـ رضي الله عنه ـ ، وقالت الباقون هو أبو بكر بن أبي قحافة.

لنا أدلّة :

__________________

(٤٣) أتباع زياد بن أبي زياد المعروف بأبي الجارود ، وهم زعموا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على إمامة عليّ ـ عليه‌السلام ـ بالوصف دون الاسم ، وأنّ الصحابة كفروا بتركهم بيعة عليّ ، وقالوا إنّ الحسن بن عليّ كان هو الإمام بعد عليّ ثمّ أخوه الحسين كان إماما بعد الحسن. راجع الفرق بين الفرق ص ٣٠.

٢١٤

الأوّل :

أنّ القول بوجوب عصمة الإمام مع أنّ الإمام غير عليّ ـ عليه‌السلام ـ ممّا لا يجتمعان ، أمّا عندنا فلثبوت الأمرين ، وأمّا عند الخصم فلانتفائهما. والثابت وجوب عصمة الإمام فلو كان الإمام غير عليّ لخرج الحقّ عن الإجماع وهو باطل.

فإن قيل : لا نسلّم وجوب عصمة الإمام ولا نمنع (٤٤) أن يكون معصوما فمن أين أنّ عصمته واجبة. والوجوه التي استدللتم بها على العصمة غايتها الخطابة ، وهي مثمرة للظنّ ، لكن هذه المسألة علمية ، فلا يعوّل فيها على الظنّ. وبيان أنّها من باب الظنون أنّ الأولى والأحسن أن يكون الإمام غير جائز الخطأ إذ كانت العلّة المحوجة إليه جواز الخطأ ، أمّا أنّ ذلك واجب في الحكمة فلا نسلّم ، فإنّ أعضاء الإنسان لمّا جعل منها مشاعر لإدراك ... (٤٥) وكان الغلط يعرض لها افتقرت إلى حاكم وراءها يسدّدها عن الغلط ، وهو العقل ، وجعل عضوه القلب على قول أبي هاشم وأتباعه من المتكلّمين ، (٤٦) ومع ذلك يعرض الغلط للقلب ، لكن هو أتمّ ضبطا من الحواسّ فافتقرت إليه لما فيه من زيادة الضبط ، ولو كان معصوما لكان أتمّ في حصول الغرض ، فإنّ المراد منه ضبط الأشياء وحراسة الأعضاء من الخلل

__________________

(٤٤) في هامش الأصل : ونمنع ظ.

(٤٥) هنا كلمة لا تقرأ ولعلّها : الحركات.

(٤٦) قال أبو البقاء في الكلّيات ص ٢٥٧ : وقد يعبّر بالقلب عن العقل ، سمّي المضغة الصنوبرية قلبا لكونه أشرف الأعضاء لما فيه من العقل على رأي.

٢١٥

المتطرّق إليها ، وكونه غير معصوم من الغلط مخلّ ببعض الغرض المطلوب منه ، ثمّ لم يلزم أن يكون معصوما فما المانع أن يكون حال الإمام كذلك؟

سلّمنا أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما ، لكن لا نسلّم أنّ الامّة أجمعت على قولين ، غاية ما في الباب أنّه لم ينقل إلينا سواهما ، لكن عدم وصول ذلك إلينا لا يدلّ على عدمه في نفس الأمر ، فما المانع أن يكون يذهب ولو واحد من المسلمين إلى أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما ثمّ يقول بإمامة أبي بكر قولا حقّا أو باطلا ، فلا ينحصر الأقوال في اثنين.

سلّمنا أنّ الامّة قالت بالقولين ، لكن لا نسلّم أنّه يجب أن يتابع فيه ، وإنّما يلزم ذلك إذا ثبت أنّ باب الإمامة من باب العقائد الدينيّة التي يجب اتّباع المسلمين فيها ، فإنّ المسلمين لو خرجوا في يوم عيد في زيّ أو زيّين لم يجب اتّباعهم فيه ، لأنّ ذلك من الامور الاتّفاقية التي لا تدخل في الأديان ، ولا يجب الاتّباع فيها ، وكذلك لو روي أنّ الصحابة في عقد البيعة جلسوا في مجلسين لعقد الإمامة لم يجب اعتماد (٤٧) مثل ذلك في كلّ عقد ، وما ذلك إلّا لكونه غير داخل في التكليف ، وإذا كان الاتّباع إنّما يجب في الامور التكليفيّة فعليكم أن تبيّنوا أنّ ذلك ممّا يجب الاتّباع فيه حتّى يمنع من إحداث قول آخر ، فإنّ للخصم أن يقول : إنّ الإمامة من أبواب الرئاسات الإصلاحيّة (٤٨) وأنّها ليست داخلة في أبواب الشرعيّات ، ولا أبواب العقائد أصلا ما لم يقم دليل على ذلك.

سلّمنا أنّ ذلك من الامور الدينيّة التي يجب المتابعة فيها ، لكن لا نسلّم

__________________

(٤٧) كذا. ولعلّ الصحيح : اعتقاد.

(٤٨) في هامش الأصل : الأصلحيّة خ.

٢١٦

أنّ الإجماع المشار إليه حجّة فإنّ الأدلّة التي استدل بها خصومكم على الإجماع ضعيفة ، ودليلكم مبنيّ على وجوب الإمامة في كلّ زمان ، وعلى عصمة ذلك الإمام ، لكن ذلك لا يدلّ على كونه في جملة من نقل قوله ، ولا ممّن عرفت فتواه ، فمن أين أنّه داخل في الجملة بحيث يلزم من مخالفتهم الخروج عن قول الإمام ، لا بدّ لهذا من دليل.

والجواب : قوله : لا نسلّم وجوب عصمة الإمام. قلنا : قد بيّنا ذلك.

قوله : ذلك خطابة فلا يفيد إلّا الظنّ. قلنا : قد بيّنا أنّ الإمامة لطف ، وأنّ فعل اللطف واجب في الحكمة بما أغنى عن إعادته. وأنّ اللطف المراد لا يتمّ إلّا مع العصمة.

قوله : الحواسّ لما عرض لها الغلط جعل القلب مسدّدا لها بما فيه من العلوم ، ولم يلزم أن يكون معصوما ، بل كفى في ذلك كونه أتمّ تحفّظا منها ، فلم لا يجوز مثله في الإمام. قلنا : الإمامة لم ترد للحفظ من الغلط ، وإنّما جعلت لطفا ، وقد بيّنا أنّ منع اللطف يجري مجرى منع التمكين ، ولا يتمّ ذلك اللطف مع جواز الخطأ ، فتعيّن أن يكون معصوما ، تحصيلا للغرض المطلوب من اللطف.

قوله : سلّمنا أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما ، لكن لا نسلّم أنّ الامّة اجتمعت (٤٩) على القولين. قلنا : قد بيّنا أنّ ذلك معلوم بعد ممازجة المسلمين ، ونقل أخبارهم ، والوقوف على ما يؤثر من فعل الصحابة بعد النبيّ ـ عليه‌السلام ـ ، فإنّ الاطّلاع على ذلك مثمر للقطع بانحصار الأقوال كلّها في ذلك.

قوله : ما المانع أن يكون ذهب واحد من المسلمين إلى القول بوجوب

__________________

(٤٩) أجمعت خ.

٢١٧

عصمة الإمام ثمّ قال بإمامة أبي بكر. قلنا : نعلم انتفاء ذلك بعد الوقوف على أقوال الصحابة والبحث في أخبارهم كعلمنا أنّه لم يذهب واحد إلى أنّ الظهر خمس ركعات ، وأنّ الصلوات المفروضة في اليوم والليلة ستّ.

قوله : سلّمنا أنّ الامّة قالت بالقولين ، لكن لا نسلّم أنّه يجب متابعتها فيه ، وإنّما يلزم ذلك إذا ثبت أنّه من الامور الدينيّة. قلنا : عنه جوابان : أحدهما : إذا ثبت أنّ الامّة على قولين ، كان الإمام قائلا بأحدهما ، وإذا بطل أحد القولين تعيّن أنّ الحقّ هو الآخر ، سواء كان من باب العقائد أو لم يكن ، فإنّا لا نريد في هذا المقام إلّا القول بأنّ الذي ذهبنا إليه حقّ. والجواب الثاني : أنّ الامّة كما ذهبت إلى القولين أجمعت كل طائفة على وجوب اعتقاد ما ذهبت إليه فلزم من ذلك كونه من الشرعيّات التي يجب اعتقادها.

قوله : لا نسلّم أنّ مثل ذلك حجّة. قلنا : قد بيّنا كونه حجّة بأنّ الإمام في جملتهم ، وكلّ ما قال به الإمام حقّ ، فيكون أحد القولين حقّا وإذا ثبت بطلان أحدهما تعيّن أنّ الحقّ هو الآخر.

قوله : لم لا يجوز أن يكون الإمام خارجا عن القائلين. قلنا : قد بيّنا أنّ مع الاطّلاع على مقالات المسلمين وما نقل من سيرهم يحصل اليقين بأنّه لا أحد من المسلمين إلّا قائل بأحد القولين.

قوله : (٥٠) ما المانع أن يكون الإمام قائلا بوجوب العصمة وإمامة نفسه ، ثمّ لا يكون هو عليّا ـ عليه‌السلام ـ. قلنا : انحصار الأقوال في القولين يرفع الثالث ، ونحن نتكلّم على تقدير القطع بأن المسلمين جميعا متّفقون على القولين ، فيكون الإمام قائلا بأحدهما ، فيكون الذي فرضوه باطلا.

__________________

(٥٠) لم يسبق منه ـ رحمه‌الله ـ هذا القول في النسخة التي بأيدينا.

٢١٨

الدليل الثاني :

عليّ أفضل الصحابة (١٥٠) ، فيجب أن يكون هو الإمام. أمّا الاولى فسيأتي تقريرها ، وأمّا الثانية فبما ثبت من قبح تقديم المفضول على الفاضل ، وبمثل هذه الطريقة يستدل بكونه أعلم وأشجع على تعيّنه للإمامة.

__________________

(١٥٠) قال المحقّق الطوسي في التجريد : وعليّ ـ عليه‌السلام ـ أفضل لكثرة جهاده وعظيم بلائه في وقائع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأجمعها ولم يبلغ أحد درجته في غزاة بدر واحد ويوم الأحزاب وخيبر وحنين وغيرها ، ولأنّه أعلم لقوّة حدسه وشدّة ملازمته للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكثرة استفادته عنه ورجعت الصحابة إليه في أكثر الوقائع بعد غلطهم ، وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أقضاكم عليّ ، واستند الفضلاء في جميع العلوم إليه وأخبر هو ـ عليه‌السلام ـ بذلك ، ولقوله تعالى : (وَأَنْفُسَنا) ولكثرة سخائه ، وكان أزهد الناس بعد النبيّ وأعبدهم وأحلمهم وأشرفهم خلقا ، وأقدمهم إيمانا ، وأفصحهم لسانا ، وأسدّهم رأيا ، وأكثرهم حرصا على إقامة حدود الله تعالى ، وأحفظهم للكتاب العزيز ، ولإخباره بالغيب ، واستجابة دعائه ، وظهور المعجزات عنه ، واختصاصه بالقرابة ، والاخوّة ، ووجوب المحبة ، والنصرة ، ومساواة الأنبياء ، وخبر الطائر والمنزلة والغدير وغيرها ، ولانتفاء سبق كفره ، ولكثرة الانتفاع به ، وتميّزه بالكمالات النفسانيّة والبدنيّة والخارجيّة.

أقول : هذه أربعون وجها أو أكثر لإثبات أفضليته ـ عليه‌السلام ـ على سائر الامّة. فتأمّل.

٢١٩

الدليل الثالث :

لو كان الإمام غير عليّ ـ عليه‌السلام ـ لما ثبتت إمامته إلّا بالاختيار ، لكن الاختيار باطل. أمّا الملازمة فظاهرة ، لأنّ القائل بإمامة غيره فريق يثبتها بالنصّ (٥١) ، وفريق بالاختيار ، وفريق بالميراث للعبّاس (٥٢) ، والقائلون بالنصّ والميراث قد انقرضوا فكان قولهم باطلا وإلّا لخلا الحقّ عن أقوال أهل العصر وهو باطل. وأمّا أنّ القول بالاختيار باطل فقد سبق.

__________________

(٥١) وهم البكريّة المدّعية للنصّ بالإمامة على أبي بكر. قال الشريف المرتضى في الذخيرة : فإن قيل : افرقوا بينكم في ما تدّعونه من النصّ بالإمامة على أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ وبين البكريّة ... قلنا : الفرق من وجوه : أوّلها : أنّ البكريّة لا تساوي في الكثرة والعدد أهل بلد واحد من البلدان التي تضمّ القائلين بالنصّ على أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، بل لا يساوون أهل محلّة واحدة من محالّهم وسوق من أسواقهم ، وما رأينا في أعمارنا من أهل هذه المقالة أحدا ، وإنّما حكيت مقالة البكريّة في المقالات كما ذكر كلّ شاذّ ... فكيف يساوي من هذه صفته من طبق الشرق والغرب والبحر والبرّ والسهل والجبل ، ولم تخل بلدة ولا قرية من ذاهب إلى هذا المذهب ، وفي جملة من البلدان أمصار كثيرة يغلب عليها أهل هذا المذهب ، حتّى لا يوجد فيها مخالف لهم إلّا الشاذّ النادر ، فالمساواة بين الإماميّة والبكريّة مكابرة ظاهرة ... الذخيرة : ص ٤٦٧.

(٥٢) قال في الذخيرة : إنّ العبّاسية فرقة شاذّة منقرضة ما رأينا في مدة أعمارنا منهم عالما ، بل ولا واحدا ، ولو لا أنّ الجاحظ نصر هذه المقالة وشيّدها لما عرفت. والمضاهاة في كثرة العدد والتواتر بالخبر بينها وبين الاماميّة مكابرة ظاهرة ، فإنّ الإجماع مقدّم لهذه الفرقة ومتأخّر عنها. الذخيرة : ص ٤٧١.

٢٢٠