المسلك في أصول الدّين

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]

المسلك في أصول الدّين

المؤلف:

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع البحوث الاسلامية
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

وأمّا الجواب عن الآيات ، فإنّا نسلّم أنّ الكفر يسقط معه استحقاق الثواب ، بمعنى أنّه لا يثبت استحقاقه ، لا بمعنى أنّه يسقط بعد ثبوته ، وكلّ موضع تضمّن ذلك ، فإنّه يحمل على عدم الاستحقاق ، لا على سقوطه بعد الاستحقاق ، لأنّ العقل يحظّر اسقاط حقّ الغير بعد تحقّقه ، ولا يمنع من كون الاستحقاق مشروطا بشيء آخر. (١٥٠)

__________________

(١٥٠) اتفقت المعتزلة على أنّه لا يجوز أن يجتمع للمكلّف استحقاق الثواب والعقاب معا ، ثمّ اختلفوا فيه إذا فعل طاعة ومعصية.

فذهب أبو علي الجبائي إلى القول بالإحباط والتكفير ، ومعناه أنّ الطاعة إذا تعقّبت المعصية ـ سواء كان أزيد أو أنقص ـ كفّرت بها ، وإن كان المتعقّب هو المعصية احبطت الطاعة.

وذهب أبو هاشم إلى القول بالموازنة ، ومعناها أنّ المكلّف إذا فعل طاعة ومعصية ، فأيّتهما كانت أكثر أسقطت الاخرى.

وعندنا يجوز أن يجتمع له المستحقّان : الثواب والعقاب معا. قواعد المرام ص ١٦٤.

وقال الشيخ الطوسي في الاقتصاد : ولا تحابط عندنا بين الطاعة والمعصية ، ولا بين المستحقّ عليها من ثواب وعقاب ... وتعلّقهم بالظواهر نحو قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) وقوله : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) وقوله : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ... أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) وقوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) لا يصحّ لأنّ الظواهر يجب أن تبنى على أدلّة العقول وقد بيّنا بطلان التحابط ، فلو كان لهذه الآيات ظواهر لوجب حملها على ما يطابق ذلك ، وكيف ولا ظاهر لشيء منها ، بل هي شاهدة لمذهبنا ، لأنّ الإحباط والبطلان في جميعها يتعلّق بالاعمال دون المستحقّ عليها ، والمخالف يقول : التحابط بين المستحقّ عليها ، ونحن يمكننا حملها على ظاهرها ... ـ

١٢١

المقصد الثاني في ما يسقط المستحقّ من العقاب : وهو ثلاثة أشياء : العفو ابتداء ، والتوبة ، والشفاعة.

والعفو عن العقاب جائز عقلا وشرعا ، أمّا عقلا فلأنّه حقّ الله ، وليس في اسقاطه وجه قبح ، فيجب أن يحسن ، كاسقاط الدين. وأمّا شرعا فبقوله : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (١٥١) وبقوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١٥٢) وبقوله : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (١٥٣).

فإن قيل : لا نسلّم أنّه ليس فيه وجه قبح ، وبيانه : أنّ العقاب لطف المكلّف ، وتفويت اللطف وجه قبح ، ثمّ هو منقوض باسقاط الثواب واسقاط الذمّ ، فإنّهما لا يسقطان ولو أسقطهما المستحقّ لهما.

والجواب : أن نقول : قد بيّنا أنّه يكفي في اللطف تجويز إنزال العقاب ، فإنّ كلّ مكلّف يجوّز أن لا يعفى عنه ، فيكون ذلك زاجرا له عن مواقعة

__________________

ـ وقال الشهيد القاضي الطباطبائي في تعليقاته على اللوامع ص ٣٨٩ : لا نزاع في بطلان الكفر واستحقاق العقاب الذي حصل له بالإيمان ، وكذا لا نزاع في بطلان الإيمان وسائر الطاعات والأعمال واستحقاق الثواب بها بالكفر ... ومورد النزاع في المسألة هو المؤمن المطيع إذا فعل ما يستحقّ به عقابا فاختلف فيه أنّه هل يجتمع له استحقاق ثواب واستحقاق عقاب أم لا؟ فذهب أهل التحقيق والنظر الدقيق من الإماميّة بل أكثرهم إلى أنّه يجتمع له ذلك ، وقال جمهور المعتزلة : أنّه لا يمكن له ذلك ، وقالوا بالاحباط والتكفير ، وهو على خلاف التحقيق والتحليل العلمي الصحيح ...

(١٥١) سورة المائدة : الآية : ١٥.

(١٥٢) سورة النساء ، الآية : ٤٨.

(١٥٣) سورة الزمر ، الآية : ٥٣.

١٢٢

القبيح ، وأمّا استحقاق الذمّ والمدح فليس بمختصّ بعاقل دون عاقل ، فلذلك لا يسقط بإسقاط المسقط له ، وليس كذلك العقاب ، فإنّه حقّ الله على الخصوص فكان له اسقاطه.(١٥٤)

وأمّا التوبة ، فهي الندم على المعصية ، بشرط أن لا يعزم على المعاودة ، لا بشرط أن يعزم على ترك المعاودة ، والفرق بينهما ظاهر. وربّما قيل : إنّ العزم على ترك المعاودة جزء من التوبة ، وربما جعل شرط فيها (١٥٥) ، وكلا الأمرين خال عن دلالة. (١٥٦)

__________________

(١٥٤) ليس في كلام المصنّف ـ رحمه‌الله ـ جواب النقض بإسقاط الثواب. قال الشيخ الطوسي في الاقتصاد ص ١٢٣ : كلّ حقّ ليس لصاحبه قبضه ، ليس له اسقاطه ، كالطفل والمجنون كما لم يكن لهما استيفاؤه لم يكن لهما اسقاطه ، والواحد منّا لما لم يكن له استيفاء ثوابه وعوضه في الآخرة لم يسقطا باسقاطه فعلم بذلك أن الاسقاط تابع للاستيفاء فمن لم يملك أحدهما لم يملك الآخر.

(١٥٥) ذهب أبو هاشم إلى أنّ التوبة عبارة عن الندم على فعل المعصية الماضية والعزم على تركها مستقبلا ، فحقيقتها مركّبة من ندم خاصّ وعزم خاصّ ، وقال قوم : إنّ حقيقتها هو الندم الخاصّ وأمّا العزم فغير داخل في حقيقتها. ثمّ اختلفوا في العزم حيث إنّه غير داخل هل هو شرط أم لا؟ فقال بعضهم : إنّه شرط ، وقال المحمود الخوارزمي [من المعتزلة] : إنّه غير شرط ويمكن أن يكون لازما. إرشاد الطالبين.

(١٥٦) ولعلّ لذلك تمسّك الشيخ الطوسي في الاقتصاد ص ١٢٥ بالاحتياط وقال : فإذا ثبت أنّ بالسمع يعلم زوال العقاب عند التوبة ، فيجب أن نقول : التوبة التي يسقط العقاب بها ما أجمعت الامّة على سقوط العقاب عندها ، دون المختلف فيه ، والذي أجمعت عليه هو أنّه إذا ندم على القبيح لكونه قبيحا ، وعزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح ، فإنّه لا خلاف بين الامّة أنّ هذه التوبة يسقط العقاب عندها ، وأمّا غيرها ففيه خلاف.

١٢٣

وهل يكفي في التوبة الندم على القبيح لكونه قبيحا أم يفتقر الندم عليه لقبحه إلى وجه قبحه أم للزواجر والدواعي؟ في ذلك خلاف. والذي يظهر الاجتزاء بالندم للقبح.

وهل يصحّ أن يتوب عن معصية دون معصية؟ فيه تردّد ، والأظهر جوازه. لا يقال : إذا ترك القبيح لكونه قبيحا وجب أن يترك كلّ قبيح لاستوائهما في ما يقتضي تعلّق الصارف. لأنّا نقول : لا نسلّم وجوب التساوي على تقدير تساويهما في القبح ، وهذا لأنّه قد يحصل في أحدهما من المزيّة ما لا يحصل في الآخر ، فيكون ذلك القدر من المزيّة مقتضيا لتعلّق الداعي به دون الآخر ، فيجري هذا مجرى من ترك مأكولا لحموضته مثلا فإنّه لا يجب أن يترك الحامض الآخر ، إذا كان مشتملا على زيادة من عذوبة طعم أو نفع في اغتذاء ، فالفرض الذي فرضه من التساوي في القبح لا يوجب التساوي في الدواعي والصوارف. (١٥٧)

وهل يسقط العقاب بالتوبة عقلا؟ فيه أقوال. قيل : يجب في العقل بمعنى أنّ التوبة تسقط العقاب فيعود انزاله بالمكلّف ظلما. وقال آخرون : يجب في الجود. والحقّ أنّه لا يجب عقلا ، وإنّما الشرع دلّ عليه ، وسقوط العقاب عندها بالتفضّل.

احتجّ الموجبون بوجهين : أحدهما : أنّ من خالفنا في الإسلام ، مرتكبا لبعض المذاهب ، إذا تاب وأقلع عن مذهبه ، وبالغ في إنكاره ، يسقط لومه ، ويجب

__________________

(١٥٧) هل يصحّ التوبة من قبيح دون قبيح أم لا؟ ذهب أبو علي الجبّائي إلى الأوّل ، وذهب ابنه أبو هاشم إلى الثاني ، ونقل هذا القول قاضي القضاة عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ وأولاده كعليّ بن موسى الرضا ـ عليهم‌السلام ـ إرشاد الطالبين ٤٣٤.

١٢٤

موالاته ، لا باعتبار الشرع ، بل مع فرض رفعه ، ولا وجه لذلك إلّا التوبة ، فيجب أن يكون ذلك وجها مسقطا للعقاب ، ضرورة سقوط الذمّ حيث ذكرنا.

الوجه الثاني : لو لم يسقط العقاب بالتوبة لكان التكليف بعد وقوع الذنب الواحد محالا ، لأنّه إمّا أن يكلّف تعريضا للثواب ، أو لا للتعريض ، ويلزم من الأوّل بطلان التكليف ، لاستحالة وصوله إليه ، ومن الثاني خلوّه عن الغرض ، فيكون عبثا.

والجواب عن الأوّل : لا نسلّم وجوب سقوط الذمّ في المثال الذي ذكروه ، ولا في غيره من الأمثلة التي يمثّلونها (١) ، لأنّا لا نجد العلم بذلك ضرورة ، ولم يقيموا عليه برهانا ، والاقتصار على محض الدعوى غير مجد.

والجواب عن الثاني : إنّ ذلك بناء على أنّ العقاب ودوامه يعلمان عقلا ، ونحن نمنع من ذلك ، ولا نثبت إلّا شرعا ، فكما أثبتنا العقاب ودوامه شرعا ، فقد ثبت قبول التوبة شرعا.

لا يقال : قد صرتم إلى إيجاب قبول التوبة ، وخالفتم في الطريق المفضي إلى الوجوب. لأنّا نقول : إنّ المخالفة في الأصل لم يقع إلّا في ذلك ، فإنّا بنينا على قبول التوبة شرعا لا عقلا ، والخصم منع من ذلك ، وأوجبه عقلا فلم يكن ما ذكرناه ثانيا منافيا لما ذكرناه أوّلا.(١٥٨)

__________________

(١) لعل الصحيح : مثّلوا بها.

(١٥٨) اتّفقت الإمامية على أنّ قبول التوبة تفضّل من الله عزوجل ، وليس بواجب في العقول اسقاطها لما سلف من استحقاق العقاب ، ولو لا أنّ السمع ورد باسقاطها لجاز في العقول بقاء التائبين على شرط الاستحقاق ، ووافقهم على ذلك أصحاب الحديث ، وأجمعت المعتزلة على خلافهم ، وزعموا أنّ التوبة مسقطة لما سلف من العقاب على الوجوب. أوائل المقالات ص ١٥.

١٢٥

أمّا الشفاعة : فقد اتّفق المسلمون على أنّ للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١٥٩) شفاعة ، لكن اختلفوا فزعم قوم أنّها زيادة في الثواب لا في إسقاط المضارّ ، وقال آخرون : هي حقيقة في إسقاط المضارّ لا غير ، وهو الحقّ.

لنا وجهان : أحدهما : أنّها حقيقة في إسقاط المضارّ ، فلا يكون حقيقة في غيره دفعا للاشتراك. فإن قيل : وقد تستعمل في زيادة المنافع فتكون حقيقة فيه دفعا للمجاز ، أو في القدر المشترك بينهما دفعا للمجاز والاشتراك. (١٦٠) قلنا : لو كانت حقيقة في زيادة المنافع أو في القدر المشترك بينهما للزم أن نكون شافعين في النبي ـ عليه‌السلام ـ عند سؤالنا زيادة درجاته. لا يقال : إنّا لا نطلق ذلك ، لأنّ الشفاعة تقتضي العلوّ والاستعلاء. لأنّا نقول : إنّ ذلك باطل من وجهين : أحدهما : إنّه لو كان ذلك مشترطا في إطلاق اسم الشفاعة ، لكان مستفادا بالنقل عن أهل اللغة ، لأنّه اصطلاح محض ، لكن النقل منتف يحقّقه السبر (١٦١). الثاني : لو كانت الرتبة معتبرة بين الشافع

__________________

(١٥٩) قال الفاضل المقداد في اللوامع : الخامس : المسقط الخاصّ بالمؤمنين وهو نوعان : الأوّل : الشفاعة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أحد الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ الأوّل بإجماع المسلمين ، والثاني بإجماعنا ... ص ٤٠٤.

(١٦٠) للفظ أحوال خمسة وهي التجوّز والاشتراك والتخصيص والنقل والإضمار ، لا يكاد يصار إلى أحدها في ما دار الأمر بينه وبين المعنى الحقيقي إلّا بقرينة صارفة عنه إليه. وأمّا إذا دار الأمر بينها فالاصوليّون وإن ذكروا لترجيح بعضها على بعض وجوها ، إلّا أنّها استحسانيّة لا اعتبار بها ، إلّا إذا كانت موجبة لظهور اللفظ في المعنى ، لعدم مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك كما لا يخفى. كفاية الاصول للخراساني ص ١٨.

(١٦١) أي الرجوع إلى كتب اللغة كالصحاح.

١٢٦

والمشفوع فيه ، لكانت معتبرة بين الشافع والمشفوع إليه (١٦٢) ، لكن ذلك باطل ، فإنّ بريرة ، وهي أخفض رتبة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، شفع إليها وأخبرها أنّه شافع. (١٦٣)

الوجه الثاني : في الاستدلال على أنّ الشفاعة في إسقاط المضارّ قوله ـ عليه‌السلام ـ : «ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي» (١٦٤) وما ماثل ذلك من الأخبار الصريحة في إسقاط المضارّ. (١٦٥)

__________________

(١٦٢) تحقّق الشفاعة يفتقر إلى وجود شافع ومشفوع له ومشفوع فيه ومشفوع إليه كما لا يخفى.

(١٦٣) عن ابن عبّاس : إنّ زوج بريرة كان عبدا يقال له : مغيث ، كأنّي أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : للعبّاس : يا عبّاس ألا تعجب من شدّة حبّ مغيث بريرة ، وشدّة بغض بريرة مغيثا. فقال لها : لو راجعتيه فإنّه أبو ولدك ، فقالت : يا رسول الله أتأمرني ، قال : إنّما أنا شافع ، قالت : لا حاجة لي فيه. رواه الدارمي في سننه ٢ / ٧٠ ، ورواه أيضا أحمد في مسنده ، وأبو داود في سننه ، فراجع.

(١٦٤) في مجمع البيان ١ / ١٠٤ : الشفاعة ثابتة عندنا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأصحابه المنتجبين ، والأئمّة من أهل بيته الطاهرين ، ولصالحي المؤمنين ، وينجي الله بشفاعتهم كثيرا من الخاطئين ، ويؤيّده الخبر الذي تلقّته الامّة بالقبول وهو قوله : ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي ... وراجع أيضا من لا يحضره الفقيه ٣ / ٣٧٦.

(١٦٥) راجع الرسالة التي ألّفها الشيخ السبحاني في الشفاعة ص ٣١٩ ـ ٣٧٧ ففيها ٤٥ حديثا من طرق العامّة ، و ٥٥ حديثا من طرق الخاصّة ، نقلت من الصحاح الستّة للعامّة والكتب الروائية المعتبرة للخاصّة. وكثير من هذه الروايات صريحة في إسقاط العقاب.

١٢٧

لا يقال : هذا خبر واحد ، فلا يجوز الاحتجاج به في مسألة علميّة ، سلّمنا ذلك ، لكن ثبوت الشفاعة مطلقا ليس بدالّ على إسقاط المضارّ فيمكن حمله على زيادة الدرجات بعد التوبة.

لأنّا نجيب عن الأوّل : بأنّ الخبر المذكور ، وإن كان غير متواتر (١٦٦) لكنّه متلقّى بالقبول ، إذ لا نعلم له منكرا إلّا معاندا (١٦٧) ، ومع ثبوت قبوله يخرج عن حكم الآحاد. ولأنّه نقل في معناه ما بانضمامه يصير معناه متواترا.

وعن الثاني : بأنّ ذلك عدول عن الظاهر ، فإنّ التائب لا يطلق عليه أنّه صاحب كبيرة.

احتجّ المخالف بآيات منها : قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ)(١٦٨) وقوله تعالى : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) (١٦٩) وقوله : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (١٧٠).

والجواب من حيث الإجمال ، ومن حيث التفصيل.

أمّا الإجمال فلأنّه يلزم من الاحتجاج بالآيات المذكورة أحد أمرين : إمّا نفي الشفاعة أصلا ، أو نفي شفاعة مخصوصة ، والقسمان باطلان ، أمّا الأوّل ، فمنتف بالإجماع ، (١٧١) وأمّا الثاني ، فلأنّه يصير المراد بالآيات ما لم يعيّنه

__________________

(١٦٦) أي لفظا ، وأمّا تواتره المعنوي فثابت كما سيجيء.

(١٦٧) في الأصل : منكرا لا معاندا.

(١٦٨) سورة غافر ، الآية : ١٨.

(١٦٩) سورة البقرة ، الآية : ٤٨.

(١٧٠) سورة البقرة ، الآية : ٢٧٠.

(١٧١) يعني ولا يقول به المستدل نفسه.

١٢٨

اللفظ ، فتكون دلالة الآيات بالنسبة إليه مجملة ، فيسقط الاحتجاج بها ، لمكان الإجمال ، ولئن ساغ لهم تنزيلها على نفي الشفاعة في إسقاط المضارّ ، مع أنّ اللفظ لا يدلّ عليه ، جاز لنا تنزيلها على إسقاط عقاب الكافر (١٧٢).

وأمّا التفصيل ، فالجواب عن الاولى ، أنّه لا يلزم من نفي شفيع يطاع ، نفي شفيع ليس له صفة أن يطاع ، وظاهر أنّ الشافع إلى الله سبحانه لا يطلق على إجابته اسم الطاعة ، إذ هي في الغالب لا يقال إلّا في إجابة الأدنى للأعلى. (١٧٣)

وعن الثانية ، أنّه معارض بقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (١٧٤) وقوله : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) (١٧٥) وقد عرفت (١٧٦) أنّ المقيّد أولى في التقديم من المطلق ، فيحمل ذلك الإطلاق على هذا التقييد ، توفيقا بين الآيات.

وعن الثالثة ، أنّ نفي الأنصار لا يدل على نفي الناصر ، ولئن دلّ فإنّه

__________________

(١٧٢) كما هو أحد وجوه الجمع بين الآيات المثبتة للشفاعة والآيات النافية لها.

(١٧٣) نفى في الآية شفيعا مطاعا ونحن لا نقول ذلك ، ولم ينف شفيعا مجازا. ولا يمكن الوقف على قوله : (وَلا شَفِيعٍ) لأنّ ذلك خلاف جميع القرّاء ، ثم لا يمكن البدأة بقوله : (يُطاعُ) لأن الفعل لا يدخل على الفعل وبعده قوله : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) وإن قدّر : «يطاع الذي يعلم» كان ذلك تركا للظاهر ، وعلى ما قلناه لا يحتاج إلى التقدير. كذا قال الشيخ الطوسي في الاقتصاد ص ١٢٨.

(١٧٤) سورة الأنبياء ، الآية : ٢٨.

(١٧٥) سورة النجم ، الآية : ٢٦.

(١٧٦) يعني في مباحث اصول الفقه.

١٢٩

لا يدلّ على نفي الشافع ، لأنّ الناصر غالبا لا يطلق إلّا على المغالب المدافع ، بخلاف الشافع (١٧٧) ، والله أعلم. (١٧٨)

المقصد الثالث في إيصال المستحقّ : وفيه مقدمة وبحثان :

أمّا المقدّمة فنقول : لا بدّ من فاصل بين التكليف وإيصال المستحقّ ، إذ لو كان مقرونا بالتكليف لما خلا الثواب من المشقّة التي تشتمل عليها التكليف ، لكن الثواب لا شوب فيه (١٧٩) ، ولو كان متّصلا به لكان المكلّف ملجأ إلى فعل ما كلّف ، والإلجاء مناف للتكليف ، لما مرّ في شروط التكليف (١٨٠) ، لكن كما يجوز في العقل أن يكون الفاصل الموت ، يجوز أن يكون غيره من نوم أو إغماء ، وقد دلّ الشرع على اختصاص ذلك بالفناء (١٨١) بقوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (١٨٢).

__________________

(١٧٧) في الاقتصاد للشيخ الطوسي : إنّما نفى فيها أن يكون للظالمين أنصار ، والنصرة غير الشفاعة ، لأنّ النصرة هي الدفع عن الغير على وجه الغلبة ، والشفاعة هي مسألة يقترن بها خضوع وخشوع. ص ١٢٩.

(١٧٨) من أراد البحث المستوفى في الشفاعة فليراجع تفسير الميزان للعلّامة الطباطبائي ١ / ١٥٦ ـ ١٧٧.

(١٧٩) قال العلّامة الحلّي في كشف المراد : يجب خلوص الثواب والعقاب عن الشوائب ، أمّا الثواب ، فلأنّه لو لا ذلك لكان العوض والتفضّل أكمل منه ، لأنّه يجوز خلوصهما عن الشوائب ، وحينئذ يكون الثواب أنقص درجة وأنّه غير جائز.

(١٨٠) قد ذكر في شروط التكليف أن يكون المكلّف قادرا على ما كلّف به ، والملجأ ليس بقادر. ولا يخفى أنّ المصنّف لم يذكر في هذا الكتاب شروط التكليف ، فراجع.

(١٨١) يعني بالفناء الموت كما هو ظاهر.

(١٨٢) سورة الرحمن ، الآية : ٢٦.

١٣٠

البحث الأوّل : اختلفوا في الفناء ، فقال أبو عليّ وأبو هاشم : هو معنى يضادّ الجواهر ، يوجب عدمها عند وجوده ، وقال الآخرون : بل يعدمها الله كما أوجدها ، لأنّه يقدر على الإعدام كما يقدر على الإيجاد. وقال آخرون : بل يفنيها بمعنى إبطال حياتها وتفريق أجزائها من غير أن يعدمها. وليكن البحث هاهنا في مقامين : الأوّل : في هل الفناء معنى يضادّ الجواهر ، والثاني : في كيفيّة فناء العالم.

أمّا الأوّل ، قال أبو هاشم : الدليل على إثبات الفناء معنى ، أنّه ثبت أنّ الجواهر تعدم ، فإمّا أن يعدمها القادر ابتداء ، أو عن سبب ، والأوّل باطل ، لوجوه ثلاثة : أحدها : أنّ العدم سلب ، فلا يكون للقادر فيه أثر. الثاني : أنّ العدم ابتداء غير مقدور ، فالعدم الثاني كذلك. الثالث : لو كان الإعدام مقدورا لقدر عليه الواحد منّا ، لأنّه إذا صلح مقدورا(١٨٣) لقادر صلح أن يكون مقدورا للآخر.

ويمكن أن يجاب عن الأوّل بأن يقال : لا نسلّم أنّ الإعدام لا يصلح أن يكون أثرا ، وقولهم : «إنّ العدم ليس بشيء» لا حجّة فيه ، لأنّا نمنع ذلك ، ونقول : بل هو شيء يرجع إلى النفي ، ولأنّه لو لم يصحّ أن يكون أثرا للقادر لما صحّ أن يكون أثرا للسبب ، وكما جاز أن ينتفي لضدّه ويكون الضدّ موجبا لانتفائه ، جاز أن يكون ذلك حاصلا بالفاعل كما كان حاصلا بالضدّ.

وعن الثاني : إنّا لا نسلّم أنّ العدم ابتداء غير مقدور ، فإنّ القادر هو الذي يصحّ أن يفعل وأن لا يفعل ، وكما اضيفت صحة أن يفعل إلى الفاعل ،

__________________

(١٨٣) كذا في الأصل.

١٣١

فكذلك يجب أن يضاف إليه صحة أن لا يفعل. ولأنّ الفعل موقوف على داعيه وواقع بحسبه ، فيضاف إليه لذلك ، وكذلك إبقاؤه على العدم موقوف على صارفه وبحسبه ، وكما اضيف الفعل إلى الفاعل ، يجب أن يضاف إليه أن لا يفعل.

وعن الثالث : لا نسلّم أنّه يلزم من قدرة الله تعالى على الإعدام من غير سبب قدرة الواحد منّا عليه ، بل لم لا يجوز أن يقدر الله عليه ابتداء وإن كان الواحد منّا لا يقدر عليه إلّا بسبب ، فإنّ الصوت يفعله الله تعالى ابتداء ، وإن كان الواحد منّا لا يقدر على فعله إلّا متولّدا ، (١٨٤) ، فما المانع أن تكون الحال في الإعدام كذلك؟

المقام الثاني في كيفيّة الفناء قال قوم بعدم العالم وخروجه عن صفة الوجود ودخوله في العدم المحض ، وقال آخرون بتفريق أجزائه مع بقاء تلك الأجزاء متّصفة بالوجود.

احتجّ الأوّلون من القرآن بآيات منها قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (١٨٥) وبقوله : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (١٨٦) وبقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)(١٨٧).

ويمكن أن يجاب عن الآية الاولى : بأنّا لا نسلّم أنّ الفناء هو العدم ، بل لم لا يجوز أن يكون إشارة إلى تفريق أجزائه وإبطال شكله وبنيته ، مع بقاء

__________________

(١٨٤) يعني بسبب.

(١٨٥) سورة الرحمن ، الآية : ٢٦.

(١٨٦) سورة الأنبياء ، الآية : ١٠٤.

(١٨٧) سورة القصص ، الآية : ٨٨.

١٣٢

مادّته متّصفة بالوجود ، وهذا أقرب إلى الاستعمال ، فإنّه يقال : فنى زاد القوم بمعنى تناوله ، وفنى العالم بمعنى الموت ، إذ الفناء الذي يشيرون إليه غير متحقّق الآن ، ولأنّ الفناء لفظة مستعملة في عرف اللغة ، فيكون موضوعها معروفا بينهم ، والذي يشير إليه المتكلّمون من معنى الفناء غير معقول (١٨٨) لأهل اللغة ، فيجب إطلاق ألفاظ القرآن على الموضوع اللغوي.

وعن الآية الثانية : لم لا يجوز أن يكون الخلق إشارة إلى الأشياء المركّبة من الأجزاء البسيطة ، فكما كان خلقها عبارة عن تأليف أجزائها ، فليكن إعادتها كذلك ، لا يقال الآية عامّة في كل مخلوق ، فيجب حملها على البسيط والمركّب ، لأنّا نمنع العموم ، إذ لفظة «خلق» نكرة في سياق الإثبات (١٨٩) ، فهي مطلقة ، والمطلق يصدق بالجزء كما يصدق بالكلّ.

وعن الثالثة : أنّ الهلاك كما يستعمل في العدم ، يستعمل في الموت ، وفي بطلان منفعة الشيء ، وخروجه عن تأليفه وتركيبه ، يدلّ على ذلك قوله تعالى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) (١٩٠) وقوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) (١٩١) لم يرد بذلك العدم ، إذ لو عدمت الأجزاء لكان بوجود الفناء الذي هو ضدّها ، لكن كان يلزم من ذلك عدم الجواهر أجمع ، ولم يحصل ذلك ، فعلم أنّ الإخبار بالهلاك حيث ذكرنا إشارة إلى الموت لا إلى عدم الأجزاء. ولأنّ الأجزاء على رأي أبي هاشم ثابتة مع كونها معدومة وموصوفة بكونها شيئا ، فلو كان الهلاك عبارة

__________________

(١٨٨) أي غير متصوّر لهم.

(١٨٩) والنكرة في سياق النفي تفيد العموم لا في سياق الإثبات.

(١٩٠) سورة النساء ، الآية : ١٧٦.

(١٩١) سورة القصص ، الآية : ٥٨.

١٣٣

عن خروجها عن الشيئية ، لوجب أن تعود نفيا محضا لا ثابتة في العدم ، لكن ذلك يمنع إعادتها ، مع أنّهم لا يقولون به. (١٩٢)

__________________

(١٩٢) في التجريد وشرحه : ويتأوّل الإعدام في المكلف الذي يجب إعادته بتفريق أجزائه وإثبات الفناء الذي قال به جماعة من المعتزلة غير معقول. لأنّ الفناء إن قام بذاته كان جوهرا إذ معنى الجوهر ذلك ، فلا يكون ضدّا للجوهر ، وإن كان غير قائم بذاته كان عرضا. إذ هو معناه فيكون حالا في الجوهر ، إمّا ابتداء أو بواسطة ، وعلى كلا التقديرين يستحيل أن يكون منافيا للجوهر ، فبطل ما قالت جماعة من المعتزلة من أنّ الإعدام ليس هو التفريق بل الخروج عن الوجود بأن يخلق الله للجواهر ضدّا هو الفناء. ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦ مع تصرّف وتلخيص.

وقال السيّد هاشم الطهراني ـ ره ـ في شرح عبارة التجريد : «وإثبات الفناء غير معقول ...» أي كون الفناء أمرا يوجد في الخارج فيفنى به الشيء لتضادّه له غير معقول ، فهذه دعا وثلاث للخصم : الاولى أنّ الفناء يوجد في الخارج ، والثانية : أنّه مضادّ للأشياء ، والثالثة : أنّه يفنى به الشيء. ثمّ إنّ المصنّف (أي الخواجة نصير الدين الطوسي) أقام أدلّة ثلاثة على بطلان هذا المطلب : مفاد الأوّل : أنّ الفناء على فرض أن يوجد في الخارج سواء كان جوهرا أو عرضا لا يضادّ الأشياء حتّى تفنى به ، ومفاد الثاني : أنّه على فرض أنّ يكون مضادّا لها لا يكون انعدامها به أولى من انعدامه بها ، ومفاد الثالث : أن الفناء يمتنع أن يوجد في الخارج أصلا ، فهذا الأخير يدفع الدعاوي الثلاث.

وهذه عبارة التجريد : وإثبات الفناء غير معقول ، لأنّه إن قام بذاته لم يكن ضدّا وكذا إن قام بالجوهر ، ولانتفاء الأولويّة ، ولاستلزامه انقلاب الحقائق أو التسلسل. راجع كشف المراد ٢٢٧ وتوضيح المراد ٢ / ٧٧٨.

١٣٤

البحث الثاني في كيفيّة الاعادة :

القائلون بأنّ إفناء العالم بمعنى إعدامه طائفتان : طائفة تقول : المعدوم شيء وعين وذات في عدمه ، وطائفة تقول : هي (١٩٣) نفي محض. فمن قال بالأوّل ، زعم أنّ الإفناء إخراج الذات عن صفة الوجود ، فيكون الإعادة إيجادها بعد العدم. ومن قال بالثاني زعم أنّ الإفناء إخراج الذات عن كونها ذاتا بحيث تصير نفيا محضا ، والإعادة جعلها ذاتا بعد أن كانت نفيا.

والقولان ضعيفان (١٩٤) أمّا الأوّل فقد بيّنا (١٩٥) أن وجود كلّ شيء عبارة عن كونه ذاتا وحقيقة ، لا أنّ له بذلك صفة ، وهم بنوا هذا المذهب في الإعادة ، على القول بكون الوجود صفة زائدة على كونه ذاتا ، ثمّ نقول : لو كان المعدوم عينا لما صحّ إعادة المعدوم ، لأنّ العدم لا امتياز فيه لذات عن ذات ، والقصد إلى إيجاد الشيء متوقّف على امتيازه في العلم ، وامتيازه في العلم متوقّف على امتيازه في نفسه ، لكنّ المميّز لجوهر عن جوهر غير معقول في العدم.

لا يقال : يتميّز جواهر (١٩٦) زيد من غيرها بما كانت عليه حالة الوجود ، لأنّا نقول : ذلك الاختصاص قد زال بالعدم ، ومع زواله لا يتعلّق به العلم ، فلا يكون معلوما للعالم. فثبت أنّه يلزم من القول بالعدم عدم تميّزه في العلم ، ويلزم من ذلك استحالة القصد إليه ، لكن لو فرض ذلك لاستحالت

__________________

(١٩٣) كذا.

(١٩٤) أي باطلان : وسيجيء منه ـ رحمه‌الله ـ التصريح بذلك.

(١٩٥) في بحث أنّه تعالى موجود ، فراجع.

(١٩٦) كذا.

١٣٥

إعادته.

وأمّا الثاني فلأنّ مع فرض كون المعدوم نفيا محضا يستحيل إعادته بعينه ، إذ لا عين له ، فيكون الإيجاد لشيء مستأنف ، إذ لا شيء قبل الإيجاد ، وهذا ظاهر.

وإذا بطل القولان تعيّن أنّ الفناء بمعنى تفريق الاجزاء ، فيكون الاعادة بمعنى ضمّها وإعادتها إلى حالها الاولى.

ثمّ يجب أن تعلم أنّ ما ليس بحيوان من المخلوقات لا يجب إعادته عقلا ، والحيوان غير المكلّف بتقدير أن لا يكون مستحقا لعوض مؤخّر ، فإنّه لا يجب إعادته أيضا ، وما كان له عوض لم يستوفه ، أو كان مكلّفا ، فإنّه تجب إعادته لاستيفاء حقّه. (١٩٧)

وإذا ثبت أنّ المكلّف يجب إعادته ، فمن قال إنّ المكلّف هو هذه الجملة فقد أوجب إعادتها (١٩٨) ، ومن قال إنّ المكلّف بعضها ، أوجب إعادة ذلك القدر دون ما سواه (١٩٩) ، ومن قال إنّ المكلّف جوهر مجرّد ، لم يوجب

__________________

(١٩٧) قال العلّامة المجلسي ـ رحمه‌الله ـ في البحار باب محاسبة العباد من كتاب المعاد : وأمّا حشر الحيوانات فقد ذكره المتكلّمون من الخاصّة والعامّة على اختلاف منهم في كيفيته ... والاخبار الدالّة على حشر الحيوانات عموما وخصوصا وكون بعضها ممّا يكون في الجنة كثيرة ...

أقول : الذي يتحصّل من الآيات والروايات أنّ حشر الحيوانات في الجملة ثابت ، وما قاله المصنّف ـ رحمه لله ـ لا يزيد على ذلك.

(١٩٨)

(١٩٩) قد أجمع المسلمون على المعاد البدني ، بعد اختلافهم في معنى المعاد ، فقال ـ

١٣٦

إعادة الجسم ، لكنّي لا أعرف ذلك قولا لأحد من طوائف الملل ، عدا ما حكي عن شيخنا المفيد في قول شاذّ ، وعن بعض المعتزلة. (٢٠٠)

وهل تجب إعادة الشكل والأعراض التي كان المكلّف متّصفا بها أم يكفى إعادة أجزائه؟ الحقّ أنّه يجب ذلك ، لأنّ المكلّف لا يتميّز عن غيره بكونه جوهرا ولا جسما لمشاركة غيره في ذلك ، بل وبأعراضه المشخّصة له ، فلو فرض عدمها لاستحال إعادتها بما ذكرناه أوّلا ، فلزم من ذلك أن لا يخرج

__________________

ـ القائلون بإمكان اعادة المعدوم : إنّ الله يعدم المكلّفين ثمّ يعيدهم ، وقال القائلون بامتناعه : إنّ الله تعالى يفرّق أجزاء أبدانهم الأصليّة ، ثمّ يؤلّف بينها ويخلق فيها الحياة.

وأمّا الأنبياء المتقدّمون على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالظاهر من كلام اممهم أنّ موسى ـ عليه‌السلام ـ لم يذكر المعاد البدني ، ولا انزل عليه في التوراة ، لكن جاء ذلك في كتب الأنبياء الذين جاءوا بعده كحزقيل وشعيا ـ عليهم‌السلام ـ ولذلك أقرّ اليهود به ، وأمّا في الإنجيل فقد ذكر : أن الأخيار يصيرون كالملائكة ، وتكون لهم الحياة الأبديّة والسعادة العظيمة. والأظهر أنّ المذكور فيه المعاد الروحانيّ.

وأمّا القرآن فقد جاء فيه كلاهما أمّا الروحاني ففي مثل قوله عزّ من قائل : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) و : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) و : (رِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) وأمّا الجسماني فقد جاء أكثر من أنّ يعدّ ، وأكثره ممّا لا يقبل التأويل ... نقد المحصّل ٣٩٣.

(٢٠٠) اختلف الناس في ماهية المكلّف فقال أكثر المعتزلة : انّه هذه البنية المخصوصة وهو اختيار السيّد المرتضى ، وذهب الشيخ أبو سهل بن نوبخت من أصحابنا ، والمفيد محمد بن نعمان ـ ره ـ إلى أنّه شيء مجرّد غير مشار إليه بالحسّ متعلّق بهذه البنية تعلّق العاشق بمعشوقه ، لا تعلّق الحالّ بمحلّ ، وهو مذهب محقّقي الأوائل ، واختاره معمر من المعتزلة. أنوار الملكوت ١٤٩.

١٣٧

المكلّف عن حاله وحقيقته التي كان عليها إلّا بالموت حسب.

وقد كنّا عرّفناك أنّ المكلّف ليس هو جملة البنية ، بل هو شيء أصلي منها ، لا يتغير بصغر ولا كبر ولا سمن ولا هزال ، وذلك القدر يجب أن يبقى على حاله ليتحقّق إيصال الثواب إلى مستحقّه ، ولا تزول عنه إلّا الحياة حسب.

لا يقال : لو زالت عنه حياته لما صحّ إعادتها بعينها ، فإذا احيي كان ذلك غير الأوّل ، لأنّا نقول : تبدّل الحياة لا يخرج الشيء عن كونه ذلك الشيء ، فإنّ إنسانا لو مات ثمّ اعيدت إليه غير حياته ، لما قيل إنّ ذلك غيره ، وليس كذلك إذا نقلت أجزاؤه إلى شكل غير شكله ، فقد بان الفرق ، والله أعلم.

ويلحق بهذا البحث فصلان :

أحدهما الكلام في عذاب القبر والميزان والصراط.

والعقل يقول بامكان ذلك كلّه ، لكن لا يدلّ على وقوعه ، والشرع قد دلّ على وقوعه.

أمّا عذاب القبر فالإجماع دلّ عليه ، ومخالفة ضرار (٢٠١) لا تقدح في

__________________

(٢٠١) هو ضرار بن عمرو الغطفاني كان من كبار المعتزلة ثمّ خالفهم فكفّروه وطردوه ، وصنّف نحو ثلاثين كتابا بعضها في الردّ عليهم وعلى الخوارج ، مات نحو ١٩٠ ، وإليه تنسب الضراريّة.

في طبقات المعتزلة : قال أبو الحسن : سألت أبا علي عن عذاب القبر ، فقال : سألت الشحام ، فقال: ما منّا (أي من المعتزلة) أحد أنكره ، وإنّما يحكى ذلك عن ضرار. ص ٧٢.

١٣٨

الإجماع. ويدلّ عليه قوله ـ عليه‌السلام ـ : القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النار(٢٠٢) ويستدلّ عليه أيضا بقوله تعالى : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (٢٠٣) ولا نعترض بما يجري على ألسنة كثير من أنّ الميّت يوجد بحاله بعد السنين المتطاولة ، حتّى لو ابقي على صدره شيء لوجد بحاله ، وذلك لأنّا بيّنا أنّ المكلّف ليس هو هذه الجملة بأجمعها ، بل هو أجزاء أصليّة ، وتلك يمكن تعذيبها مع بقاء الظاهر من الجسد بحاله ، على أنّه ليس لعذاب القبر توقيت ، فيحتمل أن يكون متأخرا عن وقت المشاهدة له.

وأمّا كيفيّته ، فيمكن أن يعاد الحياة إلى المكلّف ثم يعذّب إن كان من أهل العذاب.

وكذلك مسائلة منكر ونكير حقّ بالاجماع والمتواتر من الأخبار. (٢٠٤)

__________________

(٢٠٢) روى الكليني في الكافي عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : إنّ للقبر كلاما في كل يوم يقول : أنا بيت الوحشة ، أنا بيت الدود ، أنا القبر ، أنا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار. ٣ / ٢٤٢. وروى الترمذي في صحيحه ٤ / ٥٥ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.

(٢٠٣) سورة غافر ، الآية : ١١.

(٢٠٤) قال المفيد في أوائل المقالات ص ٤٩ : القول في نزول الملكين على أصحاب القبور ومسائلتهما عن الاعتقاد. أقول : إنّ ذلك صحيح وعليه إجماع الشيعة وأصحاب الحديث ... وقال في شرح الاعتقادات : جاءت الأخبار الصحيحة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّ الملائكة تنزل على المقبورين فتسألهم عن أديانهم ، وألفاظ الأخبار بذلك متظافرة (متقاربة خ ل). راجع تسلية الفؤاد للسيّد الشبّر ص ٨٣ ـ ١١٣ ففيه روايات الباب وأيضا راجع البحار للعلّامة المجلسي.

١٣٩

وأمّا الميزان والصراط فيجب الإقرار بهما للإجماع والقرآن والأخبار. (٢٠٥)

ويكون معنى الميزان ما يعرف به التفاوت بين الأعمال.

والصراط طريق الحقّ ، وقد قيل : إنّه جسر يمرّ عليه إلى الجنّة ، وهذا من الممكن ، غير أنّ التأويل الأوّل يدل عليه قوله تعالى : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢٠٦) أي دين حقّ.

واختلفوا في الجنّة والنار هل هما مخلوقتان (٢٠٧) الآن أم لا؟ منع من ذلك أبو هاشم ، وقال أبو علي بوجودهما ، وهو الحقّ.

لنا قوله تعالى في ذكر الجنّة : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (٢٠٨)

وفي ذكر النار : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢٠٩)

وقال تعالى في قصة آدم : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) (٢١٠) (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) (٢١١) (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) (٢١٢)

__________________

(٢٠٥) راجع بحار الأنوار ج ٧ / ٢٥٣ وتسلية الفؤاد ١٦٥ ، ٢٠١ والاعتقادات للشيخ الصدوق وشرحه للشيخ المفيد.

(٢٠٦) سورة يس ، الآية : ٣ ـ ٤.

(٢٠٧) في الأصل : مخلوقان.

(٢٠٨) سورة آل عمران ، الآية : ١٣٣.

(٢٠٩) سورة آل عمران ، الآية : ١٣١ وسورة البقرة ، الآية : ٢٤.

(٢١٠) سورة البقرة ، الآية : ٣٥.

(٢١١) سورة طه ، الآية : ١١٧.

(٢١٢) سورة طه ، الآية : ١٢١.

١٤٠