المسلك في أصول الدّين

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]

المسلك في أصول الدّين

المؤلف:

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع البحوث الاسلامية
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

البحث الثالث في ما يستدلّ به على صدق مدّعى النبوّة

وذلك أمران : إمّا المعجز أو نصّ النبيّ ، وهذا القسم الأخير في التحقيق يعود إلى الأوّل ، لأنّ المعجز الدالّ على صدقه ، دالّ على نبوّة من ينصّ عليه ، فكان نبوّة الثاني معلومة بالمعجز الدالّ على الأوّل ، وإن كان بينهما يسير فرق.

وإذا عرفت ذلك فالمعجز في اللغة عبارة عن ما جعل الغير عاجزا ، وفي الاصطلاح عبارة عن الفعل (٣١) الخارق للعادة المطابق لدعوى المدّعي ، والدليل على أنّ مثل ذلك يراد به التصديق ، أنّه لو لا ذلك لزم أحد أمرين : إمّا العبث أو الإيهام ، والقسمان باطلان ، أمّا الملازمة فلأنّه لو لم يرد التصديق لكان إمّا أن يكون له في ذلك غرض ، وإمّا أن لا يكون ، ويلزم من الثاني العبث ، وإن كان له غرض فإمّا التصديق أو غيره ، وبتقدير أن يكون غيره ولا دلالة يلزم منه الإيهام (٣٢) ، لأنّ المعجز يجري مجرى قول القائل : صدقت ، إذ الإنسان إذا ادّعى على غيره وكالة مثلا وقال إنّه يفعل عقيب دعواي ما لم تجر عادته به ، فإذا فعل ذلك علم أنّه قصد التصديق ضرورة وإذا كان جاريا مجرى التصديق فلو لم يرده لزم الإيهام. وأمّا بطلان كلّ واحد من القسمين فقد مرّ في أبواب العدل. (٣٣)

__________________

(٣١) قيل : الأصح أن يقال : عبارة عن الأمر الخارق للعادة حتى يشمل مثل منع القادر على حمل الكثير عن حمل القليل ، والفعل لمّا يختصّ بالاثبات لا يشمله ، تأمّل.

(٣٢) يعني إلقاء المكلف في الغلط والباطل.

(٣٣) حيث ثبت أنّه تعالى لا يفعل القبيح ، والعبث والإيهام قبيحان.

١٦١

فإن قيل : لا نسلّم لزوم أحد القسمين لأنّه يمكننا فرض ثالث ، إذ يمكن أن يكون فعل المعجز مشتملا على مصلحة خفيّة عند دعوى المدّعي غير التصديق ، فيفعل المعجز تحصيلا لتلك المصلحة ، ثمّ لا يلزم العبث ولا الإيهام ، لأنّ العقل يشهد بالاحتمال. سلّمنا ذلك لكن متى يدلّ على التصديق إذا كان من فعل الله أو من فعل غيره؟ الأوّل مسلّم ، والثاني ممنوع ، لكنّ الاحتمال قائم ، إذ يجوز أن يكون فعال بعض مردة الجنّ ، فلا يكون دالّا على التصديق ، كما أنّه لو ادّعى إنسان الوكالة عن غيره ، وقال : إنّه يرفع عمامته في ملأ ، فإنّ بتقدير أن يرفعها غيره لا يكون ذلك دلالة. ثمّ ومن المحتمل أن يكون فاعل ذلك المعجز هو المدّعي ، إمّا لاختصاصه بنفس قابلة لما لا يقبله غيرها من الإفاضات العقليّة ، فيكون لها من قوّة التأثير في هذا العالم ما ليس لغيرها ، وإمّا لاطّلاعها في خواصّ العقاقير على ما يتيسّر معه فعل ذلك الأمر ، أو لاحتمال أن يطّلع من العزائم وحيل السحر على ما يوصل إلى ذلك ، ومع احتمال ذلك ، لا يبقى وثوق بأنّه تعالى أراد التصديق. (٣٤)

الجواب قوله : «لا نسلّم الحصر» قلنا : قد بيّنا ذلك.

قوله : «يحتمل أن يكون المعجز فعلا لمصلحة خفيّة اتّفقت عند دعوى النبوّة» قلنا : المحذور لازم ، لأنّا نتكلّم على تقدير عدم العلم بتلك المصلحة وفقد الدلالة عليها ، فلو فعل لها والحال هذه للزم الإيهام.

قوله : «العقل يشهد باحتمال ذلك فينتفي الإيهام» قلنا : الاحتمال

__________________

(٣٤) هذه الشبهات مع جواباتها توجد في قواعد المرام للبحراني ونقد المحصل للمحقّق الطوسي ، فراجع.

١٦٢

المرجوح غير مناف للإيهام ، فالإيهام متحقّق على هذا التقدير. (٣٥)

قوله : «متى يدلّ على التصديق إذا علم أنّه من فعل الله أم إذا جهل؟» قلنا : على كلّ واحد من التقديرين ، لأنّه بتقدير أن يكون من فعل الله يكون دالّا بالاتّفاق ، وبتقدير أن يكون من فعل غيره يجب في الحكمة على الله سبحانه إزالة ذلك رفعا للإيهام. والمثال الذي أشاروا إليه غير مطابق لموضع النزاع ، لأنّه يعلم أنّ الفاعل غير المدّعي وكالته ، فالإيهام مرتفع على ذلك التقدير.

قوله : «من المحتمل أن يكون ذلك المدّعي للنبوّة وقد اختصّ بما لأجله صحّ منه أن يفعل ذلك المعجز» قلنا : المقصود يحصل على هذه التقدير ، لأنّه لا يتيسّر ذلك الفعل منه إلّا مع اختصاصه من فعل الله بامور خارقة للعادة ، باعتبارها أمكنه الفعل ، وبتقدير أن لا يكشف الله ذلك يلزم الإيهام.

__________________

(٣٥) قال المحقق الطوسي : تجويز الشيء لا ينافي القطع بعدمه ، فإنّا نجوّز أن يخلق الله إنسانا شيخا في الحال من غير الوالدين ، وأن يقلّب الأنهار دما ، والجبال ذهبا. ثمّ إنّا مع هذا التجويز نقطع بأنّه لم يوجد ... وإذا ثبت هذا فنقول : إنّما علمنا أنّ المحدث لهذه المعجزة هو الله تعالى ، لما قدّمنا من أنّ جميع الممكنات واقعة بقدرة الله تعالى ، وإنّما قلنا إنّها دالّة على التصديق لما أنّا لمّا رأينا النبيّ ـ عليه‌السلام ـ يقول : «يا إلهي إن كنت صادقا في دعوى الرسالة فسوّد وجه القمر مثلا» فلمّا قال النبيّ ـ عليه‌السلام ـ ذلك اسودّ وجه القمر صرنا مضطرين إلى العلم بأنّه تعالى صدّقه في تلك الدعوى ... وتجويز سائر الأقسام بحسب العقل ممّا لا يقدح في هذا العلم الضروري ، لما ضربناه من المثال. نقد المحصّل ٣٦١.

١٦٣

وهذا الوجه يصلح جوابا عن بقيّة الاحتمالات المفروضة. (٣٦)

وإذا عرفت أنّ المعجز هو الطريق إلى العلم بصدق مدّعي النبوّة ، فالمعجز إن كانت مشاهدة (٣٧) فلا بحث ، وإلّا كان الطريق إلى العلم بها النقل المتواتر لا غير. فلنذكر حقيقة التواتر والشرائط المعتبرة في إثماره العلم ، فنقول :

الخبر هو ما يحتمل التصديق والتكذيب ، ثمّ هو إمّا أن ينقله قوم لا يجوز عليهم التواطؤ والمراسلة في افتعاله ، وهو المسمّى بالمتواتر في الاصطلاح ، وامّا بخلاف ذلك وهو خبر الواحد. والقسم الثاني لا يمكن إثبات الامور العلميّة به ، لأنّه يفيد الظنّ ، فلا يكون مادة للبرهان اليقينيّ.

وأمّا الأوّل فإنّه يصحّ [أن] تثبت به العقائد العلميّة لكن بشروط ثلاثة :

أحدها : أن يكون ما تضمّنه النقل محسوسا كما إذا أخبر الجماعة الذين لا يجوز عليهم التواطؤ ولا الكذب بما سمعوه أو شاهدوه أو أدركوه ببعض حواسّهم ، فإنّه يحصل العلم اليقينيّ بخبرهم ، ولا كذلك إذا أخبروا بشيء من عقائدهم ، فإنّ اليهود مثلا وإن أخبروا بما يعتقدونه مع بلوغهم حدّ

__________________

(٣٦) إنّه ـ عليه‌السلام ـ ادّعى كون هذه المعجزات قد فعلها الله تعالى على يديه تصديقا لدعواه الرسالة من عنده ، فلو كان شيء منها من فعل غيره ، لا لغرض تصديقه لكان كاذبا فيما ادّعاه ، وكان الله تعالى قد مكّنه ممّا يروّج به كذبه ، ومكّن غيره من مساعدته على ذلك ، فيكون مصدّقا للكاذب ، لكن تصديق الكاذب مستلزم لإضلال الخلق وإفسادهم ، وهو قبيح عقلا فيمتنع عليه. قواعد المرام ١٣١.

(٣٧) كذا في الأصل.

١٦٤

التواتر ، فإنّه لا يفيد خبرهم العلم ، لأنّه ليس إخبارا عن محسوس ، ولو أخبر هؤلاء بأنّهم شاهدوا قدوم مسافر أو بناء دار أو غير ذلك من الامور المحسوسة لأفاد العلم.

وثانيها : بلوغهم الحدّ الذي يعلم استحالة التواطؤ معه على الافتعال. وهل لذلك حدّ؟ قال قوم بتحديده وهم طوائف : طائفة حدّته بأربعين ، واخرى بعدّة أهل بدر ، واخرى بسبعين ، وغير ذلك من الأقوال المذكورة في الخلاف (٣٨) وقال آخرون : لا حدّ لذلك في نفس الأمر ، وقال آخرون : بل له حدّ في نفس الأمر ، لكنّه لا ينضبط.

والحقّ أنّه ليس لذلك حدّ في نفس الأمر ، بل يجوز أن يحصل اليقين بخبر الاثنين إذا انضمّ إلى خبرهما ما يدلّ على استحالة اتّفاقهما على وضع الخبر ، وقد لا يحصل مع إخبار المائة والأكثر ، إذا جوّز اتّفاقهم على وضعه.

وبيان ذلك : أنّه لو كان اثنان متباعدين ثمّ أورد مورد بينهما قطعة من شعر لم يفهمها الثالث ، ثمّ سأل ذلك الثالث ذينك الاثنين عن ما أورده المورد حتّى أخبر كلّ واحد منهما أنّه أورد قطعة من شعر معيّن لشاعر معيّن ، فإنّه يعلم قطعا صدق ذلك ، مع فرض العلم باستحالة اتّفاقهما على الكذب والترسل (٣٩) فيه.

فعلم أنّ الضابط في العلم بصدق الخبر هو استحالة الاتّفاق عليه ، ولا عبرة بأعداد المخبرين في ذلك ، فإذا المنتج للعلم ليس نفس الخبر

__________________

(٣٨) كالتحديد بالعشرين تعلّقا بقوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ ...) راجع عدّة الاصول ١ / ٢٥٧.

(٣٩) كذا في الأصل ، ولعلّ الصحيح : التراسل.

١٦٥

ولا الكثرة ، بل ما أومأنا إليه.

وثالثها : استواء الشرط المذكور في طبقات التواتر ، فلو جوّز ارتفاعه في طبقة من تلك الطبقات لما حصل اليقين. (٤٠)

وإذا عرفت هذا فهل العلم الحاصل عنه ضروريّ أو مكتسب؟ فيه أقوال ثلاثة : أحدها : أنّه ضروريّ مطلقا ، والثاني : أنّه مكتسب مطلقا ، والثالث : التفصيل ، وهو اختيار المرتضى ، فإنّه زعم أنّ الخبر المتواتر عن

__________________

(٤٠) قال الشيخ الطوسي في العدّة : فالشرائط التي اعتبروها هي : أن يكون المخبرون أكثر من أربعة. ومنها أن يكونوا عالمين بما يخبرونه ضرورة. ومنها أن يكونوا ممّن إذا وقع العلم بخبر عدد منهم أن يقع العلم بكلّ عدد مثلهم. وأمّا ما نختصّ به فهو أن نقول : لا يمتنع أن يكون من شرطه أن يكون من يسمع الخبر لا يكون قد سبق إلى اعتقاد يخالف ما تضمّنه الخبر بشبهة أو تقليد. ص ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

وقال المصنّف في المعارج : شرائط إفادة الخبر المتواتر العلم أربعة : الأوّل : أن يخبروا عن ما علموه لا ما ظنّوه. الثاني : أن يكون ذلك المعلوم محسوسا. الثالث : أن يبلغوا حدّا لا يجوز عليهم التواطؤ والمراسلة. الرابع : أن يستوي الطرفان والوسط في هذه الشرائط ...

وشرط قوم شروطا ليست معتبرة وهي أربعة : الأوّل : أن لا يجمعهم مذهب واحد [ولا نسب واحد]. الثاني : أن يكون عددهم غير محصور. الثالث : أن لا يكونوا مكرهين على الإخبار. الرابع : العدالة. والكلّ فاسد لأنّا نجد النفس جازمة بمجرّد الأخبار المتواترة من دون هذه الأمور ، فلم تكن معتبرة.

وحكى بعض الأشعريّة والمعتزلة أنّ الإمامية تعتبر قول المعصوم ـ عليه‌السلام ـ في التواتر ، وهو فرية عليهم أو غلط (خلط) في حقّهم وإنّما يعتبرون ذلك في الإجماع. معارج الاصول ١٣٩ ـ ١٤٠.

١٦٦

البلدان والوقائع يفيد العلم الضروريّ على توقّف فيه ، وما تعلّق بالأديان والعقائد كسبيّ. (٤١) والحقّ أنّه كسبيّ بأجمعه ، لأنّ العلم الحاصل عنده تابع للعلم بانتفاء التواطؤ والاتّفاق عليه ، فيكون المنتج للعلم بصحّة الخبر التفطّن لهذا العلم الأوّل ، ولا معنى للنظريّ إلّا العلم المستفاد بواسطة علم آخر.

احتجّ القائل بأنّه ضروري بأنّه لو كان كسبيّا ، لما حصل لمن لم يمارس العلوم ولا عرف (٤٢) كيفيّة اكتسابها ، لكن هذا العلم يحصل للعوام عند سماع هذا الخبر المتواتر ، لا بل للأطفال المراهقين. ولأنّه لو كان نظريّا لجاز أن يسمع الإنسان الخبر المتواتر مع صحّة عقله وتمام فطنته ، ثمّ لا يحصل له

__________________

(٤١) الذي يحصل عنده العلم ينقسم قسمين : أحدهما يحصل العلم به لكلّ عاقل يسمع تلك الأخبار ولا يقع منهم فيه شكّ ، كأخبار البلدان والوقائع والحوادث الكبار. والضرب الثاني لا يحصل العلم عنده إلّا لمن نظر واستدلّ وعلم أنّ المخبرين بصفة من لا يكذب ، ومثاله الإخبار عن معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخارجة عن القرآن ، وما ترويه الإماميّة من النصّ الصريح على أمير المؤمنين عليّ ـ عليه‌السلام ـ.

فأمّا القسم الأوّل فذهب قوم إلى أنّ العلم الواقع عنده ضروريّ من فعل الله تعالى بالعادة ، وهو مذهب أبي عليّ وأبي هاشم ومن تبعهما من المتكلّمين والفقهاء.

وذهب قوم آخرون إلى أنّ العلم بذلك مكتسب ليس بضروريّ ، وهو مذهب أبي القاسم البلخي ومن وافقه.

والذي نصرته ـ وهو الأقوى في نفسي ـ في كتاب الذخيرة والكتاب الشافي التوقّف عن القطع على صفة هذا العلم بأنّه ضروريّ أو مكتسب ، وتجويز كونه على كلّ واحد من الوجهين ... الذريعة إلى اصول الشريعة للسيّد المرتضى ـ ره ـ ، ٤٨٤ ـ ٤٨٥.

(٤٢) في الأصل : ولا اعرف.

١٦٧

العلم ، لعدم النظر المثمر للعلم ، لكن هذا الفرض محال.

والجواب عن الأوّل : لا نسلّم أنّه يحصل لمن [لم] يتفطّن لموضع النظر منه ، لكن المناظر تختلف في الصعوبة والسهولة ، فلم لا يجوز أن يكون هذا العلم لقربه من العلوم الضروريّة وظهور لزومه لها يظهر للعوام ، لأنّه لا يفتقر إلى كثير كلفة ، ولأنّ كثير من الأنظار يعلمها العوام ، ويتفطّنون لنتائجها ، لظهورها فما المانع أن يكون الحال في ما نحن بصدده كذلك؟

والجواب عن الثاني : لا نسلّم أنّه يحصل اليقين عند سماع الخبر ما لم يتفطّن للشرط المذكور ، ولهذا مهما جوّز الإنسان افتعال الكذب على المخبرين لا يستفيد به اليقين ، ولهذا يتفاوت العقلاء في استثمار اليقين من الخبر بحسب توهّم هذا الشرط ارتفاعا وثبوتا.

وأمّا اختيار المرتضى ، فالجواب عن حججه (٤٣) يبيّن عن معاني ما ذكرناه.

واعلم أنّ القائلين بالنبوّة اختلفوا في النسخ على قولين : فمنهم من أجازه ، ومنهم من منعه.

أمّا المانعون ، فتارة يتعلّقون بالعقل واخرى [بالنقل] ، أمّا العقل فقالوا : لو نسخ الحكم بعد ثبوته لزم البداء ، لكن ذلك محال. بيان الملازمة : أنّه بتقدير أن يأمر بشيء فإنّه لا بدّ أن يكون ذلك لغرض ، لاستحالة العبث ، وحيث نهى عنه فإن كان ذلك الغرض باقيا ، لزم تفويت المصلحة المنوطة بذلك الغرض ، وإن لم تكن المصلحة باقية ، فاطلاق الأمر الأوّل إمّا أن يكون

__________________

(٤٣) راجع الذخيرة في علم الكلام ٣٤٥ ـ ٣٥٥.

١٦٨

من العلم بزوالها وإمّا أن لا يكون ، ويلزم من الأوّل الإيهام ، وهو محال على الحكم ، فتعيّن أنّه لو نسخها لعلم ما لم يكن عالما به ، ولا معنى للبداء إلّا ذلك ، وأمّا كون البداء (٤٤) محالا فلأنّه يلزم عدم علمه بالمعلومات قبل كونها ، لكن هذا باطل بما ذكرناه في أبواب التوحيد.

وأمّا النقل ، فمن سنّة موسى ـ عليه‌السلام ـ قوله : «تمسّكوا بالسبت أبدا» (٤٥) و «ما دامت السماوات والأرض» ومثل معنى ذلك تنقل النصارى عن عيسى ـ عليه‌السلام ـ.

والجواب عن الأوّل : قوله : «لو جاز النسخ لزم البداء» قلنا : لا نسلّم ، وظاهر أنّه لا يلزم. وهذا لأنّ البداء هو النهي عن ما أمر به ـ والوقت والمكلّف والوجه واحد ـ والنسخ هو إزالة مثل الحكم الشرعيّ بدليل شرعيّ متراخ عنه ، فتغاير الوقت يرفع البداء.

__________________

(٤٤) البداء الذي لازمه جهل البارئ تعالى محال كما ذكره قدس سرّه ، ولكن هو غير البداء الذي يكون من عقائد الإماميّة.

قال شيخنا المفيد رضوان الله عليه : قول الإماميّة في البداء طريقه السمع دون العقل ، وقد جاءت الأخبار به عن أئمّة الهدى ـ عليهم‌السلام ـ. والأصل في البداء هو الظهور ... فالمعنى في قول الإماميّة : «بدا لله في كذا» أي ظهر له فيه ، ومعنى ظهر فيه أي ظهر منه ، وتقول العرب : قد بدا لفلان عمل حسن ، وبدا له كلام فصيح ، كما يقولون : بدا من فلان كذا ، فيجعلون اللام قائمة مقامه ، وليس المراد من البداء في قول الإماميّة تعقّب الرأي ووضوح أمر كان قد خفي عنه ... شرح عقائد الصدوق ص ٢٤ ـ ٢٥ مع تلخيص وتصرّف في العبارة.

(٤٥) قال العلّامة الشعراني ـ ره ـ : إنّي راجعت التوراة ففيها ذكرت لفظة السبت ثلاثة مرّات أو أربعة وليس فيها كلمة : أبدا.

١٦٩

قوله : «إمّا أن تكون المصلحة المنوطة بالفعل باقية وإمّا أن لا تكون» قلنا : لا تكون.

قوله : «إمّا أن يكون البارئ عالما بزوالها وإمّا أن لا يكون» قلنا : يكون.

قوله : «يلزم من الأمر مطلقا من غير بيان النسخ الإيهام ، وكون العبد مضطرّا إلى اعتقاد بقاء التكليف ، وهو إلزام باعتقاد الجهل» قلنا : عن ذلك جوابان : أحدهما المنع من إطلاق اللفظ إلّا مع قرينة تدلّ على النسخ إمّا جملة وإمّا تفصيلا ، وهذا اختيار أبي الحسين ومن تابعه ممّن ذهب إلى أنّ الخطاب بالمنسوخ لا يجوز إلّا مع قرينة تدلّ على النسخ. والجواب الثاني بتقدير جواز تأخير بيان النسخ يكون الدليل الدالّ على النسخ دالّا على انتهاء مدّة الحكم ، ولا نسلّم أن الخطاب الأوّل يقتضي اعتقاد الجهل ، لأنّ العاقل إذا عرف أنّ الشرائع مبنيّة على المصالح ، عرف أنّ الحكم مشروط ببقاء المصلحة المقتضية له ، فيكون الجواز ثابتا عند الخطاب بالمنسوخ.

وأمّا المنقول ، فالجواب عنه من وجوه :

أحدها : أن نمنع النقل المذكور ونطالبهم بتصحيحه ، (٤٦) فإن احتجّوا بنقل اليهود له ، وادّعوا بلوغهم حدّ التواتر ، منعنا ذلك ، فإنّه نقل أنّ بخت نصّر (٤٧) استأصلهم ، وإن لم يكن ذلك معلوما ، فإنّه يحتمل ، ومع قيام

__________________

(٤٦) قيل : هذا الخبر المنقول من موسى ـ عليه‌السلام ـ مختلق اختلقه لهم ابن الراوندي. راجع إرشاد الطالبين للمقداد ـ ره ـ ص ٣٢٠ وكشف المراد للعلّامة الحلّي وشرح التجريد للعلّامة الشعراني ص ٥٠٣.

(٤٧) كان من ملوك بابل في ٦٠٤ قبل الميلاد إلى ٥٦٢ قبل الميلاد وضبطه : بخت بضمّ الباء الموحّدة وسكون الخاء المعجمة وضمّ التاء ونصّر بنون مفتوحة ثمّ صاد مشدّدة ، ثمّ الراء ويكتب غالبا كما في المتن ، وقد يكتب : بخت نصّر. لغت نامه دهخدا.

١٧٠

الاحتمال يرتفع اليقين.

وثانيها : أن نمنع كون التأبيد حقيقة في الدوام ، بل قد يطلق على الاستمرار ، وإن انتهى إلى غاية ، وقد يطلق على ما لا غاية له. وبيان ذلك : ما ذكر في التوراة من كون العبد يثقب اذنه ويستخدم أبدا ، (٤٨) ثمّ قيّد ذلك في موضوع آخر بخمسين سنة ، وغير ذلك من الأحكام التي تناولها التأبيد ، (٤٩) ثمّ قيّدت بمدّة معيّنة ، وإذا كان محتملا لكلّ واحد من الأمرين ، لم يكن دالّا على أحدهما على التعيين.

وثالثها : أنّا مع إقامة البرهان القاطع على نبوّة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتعارض ذلك الدليل وما ذكروه من الألفاظ الدالّة على التأبيد ، وقد عرفت أنّه عند تعارض الدليل العقليّ والنقليّ ، يكون الترجيح لجانب العقليّ ، لأنّه ليس بمحتمل واللفظيّ محتمل.

وما دلّ على نبوّة موسى وعيسى من المعجز دالّ على نبوّة محمّد ـ عليهم‌السلام ـ فلو طعن في دلالة هذا المعجز لزم الطعن في ذلك أيضا. (٥٠)

__________________

(٤٨) جاء في التوراة : يستخدم العبد ستّ سنين ، ثمّ يعرض عليه العتق ، فإن أبى ثقبت اذنه واستخدم أبدا ، ثمّ نسخ ذلك لأنّه جاء فيها بعد ذلك : انّه يستخدم خمسين سنة ثمّ ينعتق في تلك السنة. فيظهر أنّ المراد بالأبد الزمان الطويل. راجع شرح التجريد للعلّامة الشعراني ص ٥٠٤.

(٤٩) كما جاء في التوراة : قرّبوا إليّ كل يوم خروفين : خروفا غدوة ، وخروفا عشيّة بين المغارب ، قربانا دائما لكم لاحقا لكم. إرشاد الطالبين ص ٣٢٠ وشرح التجريد للعلّامة الشعراني ص ٥٠٤.

(٥٠) من الكتب القيّمة في موضوع إثبات نبوّة نبيّنا كتاب «راه سعادت» للعلّامة الشعراني ـ ره ـ باللغة الفارسية فراجع.

١٧١

وأمّا المطلوب من هذا الباب

فهو الدلالة على نبوّة نبيّنا محمّد ـ عليه‌السلام ـ فنقول : القائلون بجواز النسخ عقلا وشرعا اختلفوا في نبوّة نبيّنا ـ عليه‌السلام ـ ، فمنهم من توقّف فيه زعما أنّه لم تقم دلالة على نبوّته ، وهم طائفة من اليهود ، والنصارى أجمع ، والباقون قطعوا بنبوّته لوجود الدلالة الدالّة عليه وهو اليقين.

والدلالة على نبوّته ـ عليه‌السلام ـ أنّه ادّعى النبوّة وظهر المعجز على يده مطابقا لدعواه ، وكلّ من كان كذلك فهو نبيّ.

أمّا أنّه ادّعى النبوّة فمعلوم بالنقل المتواتر الذي لا يدفعه إلّا مكابر ، وقد عرفت أنّ الخبر المتواتر يفيد اليقين ، ولو ساغ إنكار مثل ذلك لساغ إنكار وجود البلاد المشهورة والوقائع المأثورة المرويّة ، لكن ذلك عين السفسطة.

وأمّا ظهور المعجز على يده فنقول : إنّ معجزاته تنقسم إلى (٥١) قسمين : فمنها ما هو الآن موجود ، وهو القرآن ، ومنها ما هو منقول بالتواتر ، أو النقل المشتهر. ونحن نذكر طرفا منها ، ونبدأ ببيان كون القرآن معجزا ، وقد عرفت أنّ المعجز هو الخارق للعادة المطابق لدعوى المدّعي ، والأمران موجودان في القرآن العزيز ، أمّا خرق العادة فلأنّ المألوف من كلام العرب إنّما هو الخطب والرسائل والشعر ، (٥٢) ومن المعلوم أنّ القرآن خارج عن هذه الامور ، ومجانب

__________________

(٥١) في الأصل : على قسمين.

(٥٢) تحيّر الوليد بن مغيرة حين سمع القرآن ، فقال : سمعت الشعر وليس بشعر ، والرجز وليس برجز ، والخطب وليس بخطب ، وليس له اختلاج الكهنة ، فقالوا له : أنت شيخنا فإذا قلت هذا ضعف قلوبنا ، ففكّر وقال : قولوا : هو سحر معاندة وحسدا للنبيّ ـ عليه‌السلام ـ ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ* فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ... إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) الاقتصاد ١٧٤.

١٧٢

لها ، ولهذا تعذّر ـ على فصاحتهم ـ (٥٣) المعارضة له ، مع التحدّي الظاهر ، فلو قدروا على الإتيان بمثله ، لما عدلوا إلى المحاربة وتحمّل المشاق المفضية إلى احتياج الأنفس والأموال. وتحقيق هذا الفعل (٥٤) أنّه لو كان في طاقتهم الإتيان بمثله ، لوجب أن يأتوا به لأنّ الدواعي متوفّرة إلى المعارضة ، والداعي إذا صفا عن معارضة الصارف وجب الفعل ، فعدم الفعل مع تحقّق الداعي خالصا عن الصوارف دليل على التعذّر.

فإن قيل : لا نسلّم أنّهم عجزوا عن المعارضة ، ولا نسلّم أنّ دواعيهم إلى المعارضة خلصت عن الصوارف ، لأنّه من المحتمل أن يكونوا لم يحتفظوا (لم يلتفتوا) لمعارضته ، ظنّا أنّ الاندفاع يحصل بدون ذلك ، أو لأنّهم لم يتّسع لهم وقت يتفرّغون فيه لمعارضته ، أو لأنّهم علموا أنّ المعارضة لا تغني عن المحاربة ، فاقتصروا على الغاية. سلّمنا أنّ الداعي حصل ، ولكن لم لا يجوز أنّ المعارضة وقعت ولم تنقل إمّا لغلبة شوكة الإسلام ، وإمّا لحصول القوّة في سهم السعادة المقتضي لحصول الفلج وقت المنازعة ، (٥٥) وإمّا لكثرة مساعد اعتنى بإخفاء المعارضة. سلّمنا ذلك ، لكن لم لا يجوز أن يكون نقلت المعارضة في الطبقة الاولى ثمّ لم يتّصل النقل لاستيلاء سلطان الإسلام بالغلبة الحاسمة لأطماع الناقل. سلّمنا ذلك لكنّ المعارضة قد نقلت عن كثير من الناس. غاية ما في الباب أن يقال تلك المعارضات قاصرة عن رتبة فصاحة القرآن ، لكنّ التفاوت اليسير بين الأفعال ليس بخرق للعادة ، فإنّ

__________________

(٥٣) كذا.

(٥٤) كذا تقرأ ، ولعلّها الفصل.

(٥٥) في هذه العبارة من قوله : إمّا لحصول ... إبهام ولعلّه نشأ من سوء قراءتنا لها.

١٧٣

تفاوت أرباب الصناعات في صناعتهم حاصل مع أنّ ذلك ليس بخارق ، ولا يعدّ معجزا.

والجواب قوله : «لا نسلّم أنّهم عجزوا عن المعارضة» قلنا : لا شيء أظهر في الدلالة على العجز من توفّر الدواعي إلى الفعل ثمّ لا يتيسّر ، وقد بينّا أنّ الحال كذلك.

قوله : «لم لا يجوز أن يكونوا تهاونوا بالمعارضة ظنّا منهم أنّ الاندفاع يحصل بدونه» قلنا : قد بان فساد ذلك الخيال لهم ثمّ لم يعارضوا.

قوله : «لم يتسّع لهم الوقت» قلنا : قد عرف أنّ التحدّي كان في مدّة النبوّة ، وهو ما ينيف عن عشرين سنة ، وذلك أوفر من المدّة التي يفتقر إليها للمعارضة.

قوله : «علموا أنّ المعارضة لا تغني فاقتصروا على الغاية» قلنا : من المعلوم عادة أنّ من أراد تهجين إنسان ودفعه عن مراده توصّل في ذلك بكلّ ممكن. ومن المعلوم أنّهم لو عارضوا لظهرت حجّتهم ، [و] حصلت لهم بذلك الغلبة الرافعة لمتمسّكه ، فكان ذلك أيسر في دحض دعواه وإفساد أمره. ومثل ذلك لا يعدل عند العاقل ، ولا يتجاوزه من يريد الاستظهار على الخصم. ووجه المصلحة العائدة في ذلك ظاهرة (٥٦) فلا يجوز أنّ يتّفق الكلّ ـ والحال هذه ـ على العدول عن المعارضة إلى المحاربة.

قوله : «لم لا يجوز أن تكون المعارضة حصلت ولم تنقل» قلنا : ذلك باطل من وجوه : أحدها : أنّه لو حصلت المعارضة لنقلت ، لأنّ الطباع متوفّرة

__________________

(٥٦) كذا.

١٧٤

إلى نقلها ، وكلّ ما توفّرت دواعي الطباع إليه لا بدّ أن يحصل إذا ارتفعت الموانع. والثاني : لو حصلت المعارضة لكانت المعارضة هي الحجّة ، والقرآن هو الشبهة ، والمعتني بنقل الشبهة أولى بنقل الحجّة. والثالث : لو فرضنا أنّ المسلمين اعتنوا بإخفائها لنقلها غيرهم ، لأنّه كان من المشركين ومخالف الإسلام من (٥٧) هو خارج عن طاعته خلق كثير يزيد عددهم عن حدّ التواتر ، فلو حصلت المعارضة لنقلها أولئك لا محالة.

قوله : «لم لا يجوز أن يكون المعارضة نقلت ثمّ لم يتّصل بنا» قلنا : قد بيّنا أنّ الدواعي متعلّقة بنقلها في كلّ طبقة على سواء ، فلو نقلت في طبقة لنقلت في اخرى ، لاستواء الطبقات في الباعث على النقل.

قوله : «المعارضة نقلت عن كثير» قلنا : لم يتّصل بنا إلّا ما ننزّه ألسنتنا عن ذكره ، وهو بالخرافات أشبه منه بالمعارضات ، وأيّ عاقل يناسب ما نقل عن مسيلمة (٥٨) وأشباهه من أرباب السجع بالقرآن العزيز ، مع ظهور التفاوت العظيم ، وهذا بيّن لمن تدبّره.

وأمّا أنّ ذلك مطابق لدعواه ـ عليه‌السلام ـ فظاهر أيضا لأنّه تحدّى العرب به ونطق القرآن العزيز بذلك بقوله : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) (٥٩) ثمّ اقتصر على سورة واحدة في التحدّي بقوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (٦٠)

__________________

(٥٧) ممّن هو. ظ.

(٥٨) هو مسيلمة بن ثمامة متنبئ ، من المعمّرين ولد ونشأ باليمامة وقتل سنة ١٢.

يقال : كان اسمه «مسلمة» وصغّره المسلمون تحقيرا له. الأعلام ٧ / ٢٢٦.

(٥٩) سورة هود ، الآية : ١٣.

(٦٠) سورة البقرة ، الآية : ٢٣.

١٧٥

ثمّ احتجّ بعجزهم عن ذلك بقوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٦١) وهم كانوا يستمعون القرآن مجتمعين ومفترقين ، ولا معنى للتحدّي إلّا ادّعاء العجز عن ما أتى به المتحدّي.

وأمّا المعجزات المنقولة التي هي سوى القرآن فكثيرة :

منها انشقاق القمر وهي آية باهرة نطق بها القرآن المجيد (٦٢) لا يقال : لو كان ذلك حقّا لعلمه أهل الآفاق ولاشتهر في عوالم ذلك الزمان. لأنّا نقول : وقع ذلك ليلا ، والناس بين غافل ونائم ومستيقظ مشغول بدنياه ، فلعلّ اختصاص المسلمين بمعرفته كان لصرفهم العناية إلى مشاهدته ، ثمّ إلى نقله (٦٣)

ومن ذلك تكثير الماء القليل ، وقد وقع مرارا : تارة بوضع يده فيه وخروجه من بين أصابعه كما جرى في ميضاة أبي قتادة (٦٤)

وتارة بوضع يده فيه وتمضمضه منه ، ومجّ مضمضته فيه ، كما جرى في

__________________

(٦١) سورة الإسراء ، الآية : ٨٨.

(٦٢) (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ* وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) سورة القمر ، الآية : ١ ، ٢.

(٦٣) راجع «راه سعادت» ١٣٢ ـ ١٤٠ ففيه جواب بعض الشبهات حول هذا المعجز المذكور في القرآن الكريم.

(٦٤) في مناقب ابن شهرآشوب ١ / ١٠٥ : وفي رواية أبي قتادة : كان يتفجّر الماء من بين أصابعه لمّا وضع يده فيها حتّى شرب الماء الجيش العظيم وسقوا وتزوّدوا في غزوة بني المصطلق.

والميضاة : المطهرة يتوضّأ منها.

١٧٦

الوشل لغزاة تبوك (٦٥)

وتارة بغرز سهم من سهامه فيه كما جرى في بئر الحديبيّة حين أمر أبا قتادة الأنصاري بغرز السهم فيها فصعد ماؤها حتّى شرب منه بالأكفّ. (٦٦)

ومن ذلك إطعام الخلق الكثير من الطعام القليل ، وقد اتّفق ذلك في مواطن : منها حين نزل : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٦٧) أمر عليا ـ عليه‌السلام ـ أن يشوي شاة ويتّخذ عسّا من لبن ، وأن يدعو بني أبيه وكانوا أربعين رجلا ، فأكلوا ولم يبن في الطعام إلّا أثر أصابعهم وشربوا جميعا والعسّ بحاله ، حتّى قال بعضهم (٦٨) ... سحركم به محمد ولم يجيبوا ، ففعل مثل ذلك في اليوم الثاني ، والثالث. (٦٩)

ومنها أنّ جابرا قال : رأيت محمدا ـ عليه‌السلام ـ خميصا (٧٠) ونحن في

__________________

(٦٥) في سيرة ابن هشام ٤ / ١٧١ : ثمّ نزل فوضع يده تحت الوشل ، فجعل يصبّ في يده ما شاء الله أن يصبّ ، ثمّ نضحه به ومسحه بيده ، ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما شاء الله أن يدعو به ، فانخرق من الماء ـ كما يقول من سمعه ـ ما إنّ له حسّا كحسّ الصواعق ، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه ...

أقول : الوشل حجر أو جبل يقطر منه الماء قليلا قليلا ، وهو أيضا القليل من الماء.

(٦٦) في اعلام النبوّة للماوردي : لمّا حصل بالحديبيّة وهي جافّة ... فأخرج سهما فدفعه إلى البراء بن عازب ، وقال : اغرز هذا السهم في بعض قلب الحديبيّة وهي جافّة ففعل فجاش الماء ...

(٦٧) سورة الشعراء ، الآية : ٢١٤.

(٦٨) هنا كلمة لا تقرأ ، ولعلّها «كاد ما» وفي كشف المراد : كان أن يسحركم محمد ص ١٩٩.

(٦٩) العسّ : القدح والاناء الكبير. والرواية مروية بألفاظ متقاربة راجع مجمع البيان ونور الثقلين والميزان ذيل الآية الكريمة.

(٧٠) أي جوعانا. كذا في هامش الأصل.

١٧٧

الخندق ، فشويت له عناقا ، وأمرت المرأة أن تخبز صاعا من شعير ، ثمّ دعوته فقال : أنا وأصحابي؟ فقلت : نعم. ثمّ قلت للمرأة : هي الفضيحة ، فقالت : أنت قلت له ذلك؟ فقلت : بل هو قال : أنا وأصحابي؟ فقلت : نعم ، فقالت : هو أعلم بما قال. ثمّ أخبرته ـ عليه‌السلام ـ بالصاع والعناق ، فقال : أقعد عشرة عشرة ، ففعلت فأكلوا جميعا حتّى صدروا.(٧١)

ومنها في غزوة الحديبيّة ، فإنّهم شكوا قلّة الأزواد ، فأمر ـ عليه‌السلام ـ أن يجمع ما بقي منها ، وأن يلقى على الأنطاع ، ثمّ دعا ـ عليه‌السلام ـ ففاضت الأزواد فأكلوا وملئوا كلّ جراب ومزود. (٧٢)

ومن ذلك أنّ النعمان الأنصاري ضرب فسقطت عينه ، فأتاه بها ، فردّها ، فكانت أقوى عينيه. (٧٣)

ومن ذلك أنّ طفيل بن عمرو الدوسي (٧٤) قال له : اجعل لي علامة حتّى أدعو قومي ، فجعل له نورا في جبينه ، فقال : هذه مثلة ، فجعله في علاقة سوطه. (٧٥)

__________________

(٧١) الرواية مشهورة ، رويت بألفاظ مختلفة في الكتب العديدة. منها سيرة ابن هشام ٣ / ٢٢٩ ، وأعلام النبوّة للماوردي ص ٨٤ نقلا عن البخاري ، والعناق ـ بالفتح ـ : الانثى من أولاد المعز قبل استكمالها الحول. وصدروا أي رجعوا.

(٧٢)

(٧٣) وفقئ [أي قلع] في احد عين قتادة بن ربعي أو قتادة بن النعمان الأنصاري ، فقال : يا رسول الله : الغوث الغوث فأخذها بيده فردّها مكانها فكانت أصحّهما ، وكانت تعتلّ الباقية ولا تعتلّ المردودة. المناقب ١ / ١١٦.

(٧٤) في الأصل : طفيل بن عمرة الدوسي.

(٧٥) في الاستيعاب : الطفيل بن عمرو بن طريف الدوسي من دوس أسلم وصدّق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... وفد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله إنّ دوسا قد غلب عليهم ـ

١٧٨

ومن ذلك حنين الجذع (٧٦) ، وتسبيح الحصا (٧٧) ، ومجيء الشجرة إليه تخدّ الأرض ، ثمّ أمرها بالعود فعادت ، (٧٨) وكلام الناقة ، (٧٩) ونطق الذئب ، (٨٠) وأمر النخلتين بالاجتماع ، فاجتمعتا حتّى تخلّى تحتهما. (٨١)

ومن ذلك إجابة دعواته كقوله لعلي [عليه‌السلام] في غزاة خيبر : «اللهمّ افتح على يديه» (٨٢) ولعبد الله بن عبّاس : «اللهمّ فقّهه في الدين وعلّمه التأويل» (٨٣) ولعتبة بن أبي لهب: اللهمّ سلّط عليه كلبا من كلابك» فمضغه

__________________

ـ الزنا فادع الله عليهم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهم اهد دوسا ، ثمّ قال : يا رسول الله ابعثني إليهم واجعل لي آية يهتدون بها فقال : اللهمّ نوّر له فسطع نور بين عينيه ، فقال : يا ربّ إنّي أخاف أن يقولوا مثلة ، فتحوّلت إلى طرف سوطه فكانت تضيء في الليلة المظلمة ، فسمّي ذا النور. ٢ / ٣٢١ المطبوع في هامش الإصابة. وراجع المناقب ١ / ١١٨.

(٧٦) إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخطب بالمدينة إلى بعض الاجذاع ، فلمّا كثر الناس واتّخذوا له منبرا وتحوّل إليه ، حنّ كما تحنّ الناقة ، فلمّا جاء إليه والتزمه كان يئنّ أنين الصبيّ الذي يسكت. وفي رواية : فاحتضنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : لو لم احتضنه لحنّ إلى يوم القيامة ... المناقب لابن شهرآشوب ١ / ٩٠.

(٧٧) المناقب ١ / ٩٠ ، بحار الأنوار ١٧ / ٣٧٧ نقلا عن الخرائج للراوندي.

(٧٨) أعلام النبوّة ١٢٥ ، بحار الأنوار ١٧ / ٣٧٦ نقلا عن الخرائج ، المناقب ١ / ٩٣.

(٧٩) المناقب ١ / ٩٥ ـ ٩٧.

(٨٠) المناقب ١ / ٩٩ ـ ١٠٠ وأعلام النبوّة ١١٩ فيه : فقال له الذئب : ألا احدّثك بأعجب من هذا : هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...

(٨١) المناقب ١ / ١٣٤ وراجع أعلام النبوّة ١٢٥.

(٨٢)

(٨٣) في المناقب ص ٨٤ : وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ابن عبّاس : اللهمّ فقّهه في الدين ، فخرج بحرا في العلم وحبرا للامّة.

١٧٩

الأسد. (٨٤)

ومن ذلك إخباره بالغائبات كقوله لعلي ـ عليه‌السلام ـ : «سيغدر بك» (٨٥) وقوله له ـ عليهما‌السلام ـ : إنّ أشقى الناس رجلان : احيمر ثمود عاقر الناقة ، ورجل يضرب هذه ـ وأشار إلى رأسه ـ عليه‌السلام ـ فيبلّ منها هذه ـ وأشار إلى لحيته صلوات الله عليه ـ (٨٦) وقوله: «إنّك تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين» (٨٧) وإخباره ـ عليه‌السلام ـ : انّ الحسين [عليه‌السلام] يقتل ، وإبانته عن موضع مقتله وموضع مدفنه. (٨٨) وإخباره باذام عامل كسرى على اليمن ـ حين ورد عليه يحمله قهرا إلى كسرى ـ إنّ ربّي سلّط ابن ربّك عليه ، فقتله في هذه الساعة ، فتربّص باذام حتّى ورد الخبر بقتله في تلك الساعة من تلك الليلة ، فأسلم هو ومن معه. (٨٩)

وهذه قطرة من بحار ما نقل من معجزاته ـ عليه‌السلام ـ (٩٠)

__________________

(٨٤) المناقب ١ / ٨٠ ، أعلام النبوّة ١٠٧.

(٨٥) إعلام الورى للطبرسي : ٤٣.

(٨٦) أعلام النبوّة ٩٩ وفيه : «أحمر» مكان «احيمر» ومجمع البيان ١٠ / ٤٩٩.

(٨٧) إعلام الورى : ٤٣ مع اختلاف يسير.

(٨٨) مقتل الخوارزمي ١ / ١٦٣ ، بحار الأنوار ١٨ / ١٤٠ نقلا عن المناقب لابن شهرآشوب.

(٨٩) أعلام النبوّة : ٩٧ وفيه : باذان.

(٩٠) قال المقداد السيوري ـ ره ـ : والمشهور من معجزاته التي ضبطها المؤرّخون ألف معجزة. إرشاد الطالبين ٣١٦.

وقال البحراني : ورووا أنّه ألف معجزة. قواعد المرام ١٣٠.

وقال المحدث النمازي ـ ره ـ : في مستدرك السفينة في مادّة عجز : إنّ الشيخ الحرّ ـ ره ـ ذكر ٧٢٠ معجزة من معجزات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتاب إثبات الهداة. ـ

١٨٠