المسلك في أصول الدّين

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]

المسلك في أصول الدّين

المؤلف:

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع البحوث الاسلامية
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

العدم. أمّا جواز عدمها فلأنّ الأجسام متساوية في الجسميّة ، فلو وجب لبعضها أن تكون متحرّكة أو ساكنة ، لوجب في الكلّ كذلك ، لكنّه باطل ، إذ كلّ جسم يصحّ اختلاف (١٣) الحركة والسكون عليه. وأمّا أنّ القديم لا يجوز عليه العدم ، فلأنّ القديم إن كان واجب الوجود استحال عدمه ، وإن كان جائز الوجود كان المؤثّر فيه واجب الوجود ، إمّا بمرتبة أو مراتب ، لاستحالة التسلسل والدور ، ويلزم من بقائه بقاء معلوله ، لاستحالة أن يكون أثرا لمختار (١٤).

وأمّا بيان أنّ هذه الحوادث متناهية ، فلأنّ صدق الحدوث على آحادها يستلزم صدقه على نوعها ، إذ النوع لا يتحقّق موجودا في الخارج منفكّا عن شخص. ولأنّ كلّ واحد منها مع فرض حدوثه مسبوق بعدم لا أوّل له ، فمع فرض أن لا بداية تكون الاعدام مفروضة ، فإن لم يحصل من آحادها شيء عند ذلك الفرض فهي متناهية ، وإن حصل لزم السابق والمسبوق (١٥) وهو محال.

وأمّا أنّ ما لم يسبق الحوادث المتناهية فهو حادث فضرورية.

وإذا ثبت حدوثها ثبت أنّ لها محدثا أحدثها لأنّها حدثت مع جواز أن لا تحدث ، فلو حدث من غير محدث لحدث الجائز من غير مؤثّر وهو محال. وإنّما قلنا : إنّها حدثت مع الجواز ، فإنّه لو وجب حدوثها لم تكن بأن تحدث في ذلك الوقت بأولى من غيره ، فكان يلزم قدمها ، أو الترجيح من غير مرجّح.

__________________

(١٣) أي يخلف كل واحد منهما الآخر من باب اختلاف الليل والنهار.

(١٤) بناء على أنّ قدم العالم وكونه تعالى مختارا لا يجتمعان.

(١٥) كذا في الأصل ، ويحتمل سقوط كلمة قبل كلمة : السابق.

٤١

المطلب الثاني

في ما يوصف به سبحانه من الصفات الثبوتيّة

ويحضرها ثلاثة أقسام :

الأوّل : ما يجب للذات ، الثاني : ما يجوز تجدّد وصفه به ، الثالث : النظر في كيفيّة استحقاقه لهذه الصفات.

الأوّل أربعة أوصاف :

الوصف الأوّل : كونه قادرا ، ومعنى القادر : الذي يصحّ أن يفعل وأن لا يفعل إذا كان الفعل ممكنا ولم يمنع منه مانع.

وقيل : «القادر : من كان على حال لكونه عليها يصحّ أن يفعل» (١٦) وهو باطل لأنّا نعلم القادر وإن لم نعلم هذه الحالة.

__________________

(١٦) اختلف الناس في معنى كونه تعالى قادرا ، فذهب الأقدمون من مشايخ المعتزلة إلى أنّ ذلك عبارة عن كونه على صفة لأجلها يصحّ منه الفعل ، وذهب بعض متأخّريهم إلى أنّ ذلك عبارة عن حقيقته المتميّزة التي تفعل بحسب الدواعي المختلفة ، وقال آخرون : إنّه عبارة عن كونه بحيث إذا شاء فعل وإذا شاء لم يفعل ، والأصح أنّه عبارة عن كونه بحيث إذا شاء فعل وإذا شاء لم يفعل ... قاله البحراني في قواعد المرام ص ٨٢.

٤٢

وإذا عرفت معنى القادر ، فالدليل على أنّه على هذا الوصف : ما سبق من كونه فعل العالم على سبيل الصحّة (١٧). وتحقيق ذلك أن نقول : لو لم يكن قادرا لكان موجبا ، واللازم محال ، فالملزوم مثله.

أمّا الملازمة فظاهرة ، لأنّه إمّا أن يفعل مع الجواز أو لا معه ، والأوّل قادر ، والثاني موجب. وأمّا بطلان اللازم فلأنّه لو فعل مع الوجوب للزم قدم العالم ، لأنّه إن كان موجبا بلا شرط لزم وجوب أثره معه ، وإن كان بشرط ، فإن كان عدميّا كان عدما لموجود قديم ، وعدم القديم محال ، وإن كان وجوديّا وكان حادثا لزم إمّا التسلسل أو الدور ، أو أن يكون في الوجود واجبين لذاتيهما وكلّ ذلك محال ، وإن كان قديما لزم قدم العالم ، إذ مع وجود العلّة التامّة وشرط التأثير يحصل الأثر (١٨).

وأمّا القائلون بإثبات الحال للقادر ، قالوا : صحّة الفعل من إحدى الذاتين دون مماثلها يقتضي اختصاصها لمزيّة راجعة إلى الجملة ، ضرورة اختصاص الحكم بالجملة ، ولا نعني بالحال في هذا المقام إلّا مزيّة راجعة إلى الجملة.

فيقال لهم : لم لا يجوز أن يكون صحّة الفعل لذاته المنفردة بحقيقتها

__________________

(١٧) المراد من الصحّة الجواز كما لا يخفى.

(١٨) قال الفخر الرازي في المحصّل ص ٢٦٩ : اتّفق الكل على أنّه تعالى قادر خلافا للفلاسفة. لنا : أنّه ثبت افتقار العالم إلى مؤثّر فذلك المؤثّر إمّا أن يقال صدر الأثر عنه مع امتناع أن لا يصدر ، أو صدر مع جواز أن لا يصدر. والأوّل باطل لأنّ تأثيره في وجود العالم إن لم يتوقّف على شرط لزم عن قدمه قدم العالم ، وقد أبطلناه ، وإن توقّف على شرط فذلك الشرط إن كان قديما عاد الالزام ، وإن كان محدثا كان الكلام في حدوثه كالكلام في الأوّل ولزم التسلسل ...

٤٣

عن سائر الذوات؟ فإن قالوا : نفرض هذا في ذاتين متساويتين. قلنا : لم لا يرجع إلى التركيب والتأليف المخصوص؟ فإن قالوا : ذلك يختصّ الآحاد ، فلا يجوز أن يكون مقتضيا لما يختصّ بالجملة ، كما أنّ ما يختصّ بزيد لا يعلّل بما يرجع إلى عمرو. قلنا : نمنع المساواة ثمّ نطالب بدليل الجمع. ثمّ ننقض ذلك بالحال التي يثبتونها فإنّهم يعلّلونها بالقدرة ، وهي قائمة ببعض الجملة.

ثمّ نقول : لو وقف امتياز الذوات على الأحوال لما حصل الامتياز. بيان الملازمة أنّ الذوات لو لم تكن متميّزة بأنفسها لكانت الأحوال إمّا غير متميّزة ، فيلزم عدم الامتياز ، أو متميّزة بحال اخرى ، فيكون لكلّ حال حال ، وهو محال ، وإن تميّزت بنفوسها لزم أن يكون المفروض ذاتا لا حالا ، وإن تميّزت بحكمها كما يقولون ، نقلنا الكلام إلى الحكم ، ثمّ نقول: إذا جاز أن يتميّز الحال بالحكم فلم لا يجوز مثله في الذات.

الوصف الثاني : كونه عالما ، والعالم هو المتبيّن للأشياء تبيّنا يصحّ معه إحكام الفعل. والدليل على كونه عالما أنّه فعل الفعل المحكم ، وكلّ من كان كذلك فهو عالم. أمّا المقدمّة الاولى فالاستقراء يحقّقها ، وأمّا الثانية فبديهيّة.

وربّما قال قوم : العالم من كان على صفة لكونه عليها يصحّ منه إحكام ما وصف بالقدرة عليه تحقيقا أو تقديرا. (١٩) فنقول : إن عنيتم بالحال تبيّنه للأشياء فهو وفاق ، وإن عنيتم أنّه حال تقتضي التبيّن فهو ممنوع.

__________________

(١٩) قال العلّامة الحلّي في كشف المراد ص ١٦٣ : ذهبت الأشاعرة إلى أنّ لله تعالى معاني قائمة بذاته هي القدرة والعلم وغيرهما من الصفات تقتضي القادرية والعالمية والحيّية وغيرها من باقي الصفات. وأبو هاشم أثبت أحوالا غير معلومة لكن تعلم الذات عليها. وجماعة من المعتزلة أثبتوا لله تعالى صفات زائدة ـ

٤٤

الوصف الثالث : كونه حيّا ، ونعني بالحيّ : الذي يصحّ أن يعلم ويقدر ، وقد ثبت أنّه قادر عالم ، فيجب أن يكون حيّا.

وقال قوم : «الحيّ من كان على صفة لكونه عليها يصحّ أن يعلم ويقدر» واستدلّوا على ذلك بمثل ما استدلّوا به على حال القادر. ونحن نقول : لم لا يجوز أن يكون ذلك الحكم راجعا إلى ذاته المنفردة بحقيقتها؟ فإن قالوا : الذوات متماثلة فلا بدّ من مائز. قلنا : سنبيّن ضعف هذا القول.

الوصف الرابع : كونه موجودا ، ونعني بالموجود ماله حقيقة في الخارج ، لا نعني به زيادة عن ذلك.

وقال قوم : الموجود له بذلك وصف زائد على حقيقته ، حتّى أنّه إذا كان ممكنا جاز انسلاخه عن ذلك الوصف مع تحقق هويّته ثابتة في الخارج ، لا إشارة إلى كونه صورة ذهنيّة ، ولا اقتصارا على كونه ممتازا في علم العالم ، حتّى انتهى بعضهم إلى التصريح بأنّ ذاته وصفة ذاته التي زعموا بها يحصل الاختلاف والتماثل ثابتة أزلا خارج الذهن ، وأن ليس للفاعل في حقيقته تأثير ، بل تأثيره في إيجاده ، لا في كونه ذاتا ولا جوهرا مثلا إن كانت الذات جوهرا ، ولا في حجميّته بعد وجوده ، بل أثره في تحيّزه بكونه يفعل الشرط وهو الوجود حسب.

__________________

ـ على الذات. وهذه المذاهب كلّها ضعيفة [باطلة] ، لأنّ وجوب الوجود يقتضي نفي هذه الأمور عنه ، لأنّه تعالى يستحيل أن يتّصف بصفة زائدة على ذاته ، سواء جعلناها معنى أو حالا أو صفة غيرهما ، لأنّ وجوب الوجود يقتضي الاستغناء عن كلّ شيء ، فلا يفتقر في كونه قادرا إلى صفة القدرة ، ولا في كونه عالما إلى صفة العلم ، ولا غير ذلك من المعاني والأحوال ...

٤٥

ثمّ زعموا أنّ للبارئ بكونه موجودا حالا زائدة على حقيقته المقدّسة.

ونحن نمنع من ذلك كلّه ، ونقول : إنّ معنى كونه تعالى موجودا أنّه حقيقة وذات في الخارج ، وكذا كلّ ذات نصفها بالوجود لا نعطيها زيادة على هذا المعنى.

والدليل على ذلك ، أنّه لو كان الموجود زائدا على الذات لكان لا يخلو إمّا أن يتّصف بالوجود ، فيكون للوجود وجود ، أو لا يتّصف به فيكون نفس العدم ، أو يكون لا موجودا ولا معدوما فيجتمع فيه النقيضان ، والكلّ محال.

فإن امتنعوا من إجراء الوجود على الحال كان ذلك تعصّيا غير مقبول ، لأنّ على تقدير كون الحقيقة ثابتة فتأثير المؤثّر في جعلها حقيقة محال ، لأنّه تحصيل الحاصل ، فلا بدّ أن يكون تأثيره في الوجود ، فإن لم يكن الوجود شيئا مفروضا استحال تأثير المؤثّر فيه ، وإن كان شيئا زائدا وردت عليه الأقسام ضرورة ، فالامتناع بعد ذلك من إجراء لفظ الوجود عليه مع كونه في الحقيقة أثرا للفاعل باطل.

فإن قالوا : التأثير في جعل الذات موجودة. قلنا : فلننقل الكلام إلى ذلك الجعل ، فإن كان زائدا على الذات ـ وهو أثر المؤثّر ـ لزمت المحذورات التي أشرنا إليها ، وإن لم يكن زائدا استحال تأثير المؤثّر فيه ، فلا يكون له أثرا في جعل الحقيقة حقيقة وهو المطلوب.

ثمّ الدليل على أنّه تعالى موصوف بذلك تأثيره في الموجودات ، والتأثير لا يحصل مع العدم. (٢٠)

__________________

(٢٠) قال الشيخ الطوسي رحمه‌الله : وقول من قال : صحّة الفعل تدلّ على أنّ من صحّ منه الفعل قادر حيّ موجود ، فلا يحتاج إلى جميع ذلك ، [أي الاستدلال لكونه ـ

٤٦

القسم الثاني من الصفات وهو خمس :

الأوّل : وصفه بكونه مدركا ، فالأكثرون جعلوا له بذلك وصفا زائدا على كونه حيّا عالما. واحتجّوا لذلك بأنّ الإنسان قد يدرك ما لا يعلم. (٢١) وبأنّه يجد نفسه عند الإدراك على حال لم يكن قبل ذلك.

والحقّ أنّه ليس زائدا على كونه عالما بالمدرك ، والزيادة التي أشاروا إليها ليست إلّا تأثير المدرك في محلّ الإدراك لا غير ، أو قوّة العلم بوجود السبب المولّد (المؤكّد) لوضوح العلم ، والعلم قد يتفاوت بالقويّ والأقوى.

الثاني والثالث : وصفه بكونه سميعا بصيرا. فنقول : اتّفق المسلمون على إجراء ذلك عليه سبحانه واختلفوا في معناه ، فحكي عن أبي هاشم (٢٢) ما

__________________

ـ موجودا مثلا] فاسد ، لأنّ النظر في دليل واحد من وجه واحد لا يجوز أن يولّد أكثر من علم واحد ... وهذه العلوم متغايرة ، ألا ترى أنّه يعلمه موجودا من لا يعلمه حيّا ، ويعلمه حيّا موجودا من لا يعلمه قادرا ، فعلم بذلك أن هذه العلوم متغايرة ، وكذلك يصحّ أن يعلمه قادرا وإن لم يعلمه حيّا موجودا إذا كان الكلام في القديم تعالى ، وإنّما يستحيل ذلك فينا ، لأنّه إذا علم صحّة الفعل من الواحد منّا فقد علم وجود ذات ضرورة ، فلا يصح أن يعلمها قادرة ولا يعلمها موجودة ، فأمّا القديم تعالى فيصحّ ذلك فيه على ما قلناه من أنّه لا يثبت من النظر في دليل واحد من وجه واحد أكثر من علم واحد ... تمهيد الاصول ٣٩.

(٢١) قال الشيخ الطوسي ـ ره ـ في التمهيد ص ٤٤ : الذي يدلّ على ذلك أنّه قد ثبت كونه عالما ، ولا شيء أبلغ في تمييز إحدى الصفتين من الاخرى من انفراد كلّ واحدة منهما عن صاحبتها طردا وعكسا.

(٢٢) هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي ، عالم بالكلام ، من كبار المعتزلة ، له آراء انفرد بها وتبعته فرقة سمّيت «البهشمية» نسبة إلى كنيته ، وله ـ

٤٧

توهّم (٢٣) أنّ له بذلك حال زائدة على كونه حيّا وعالما. وقال الأكثرون : إنّ المرجع بذلك إلى كونه حيّا لا آفة به. وقال البغداديّون (٢٤) [من المعتزلة] : المرجع بذلك إلى كونه عالما بالمسموعات والمبصرات.

واحتجّ النافون لهذه الحال بأنّه لو كان له بكونه سميعا حال زائدة على كونه حيّا لا آفة به ، جاز أن يعلم إحدى الحالتين منفكّة عن الاخرى ، لكن ذلك محال ، إذ كلّ من عرف حيّا لا آفة به ، عرف أنّه سميع بصير. (٢٥)

ولأنّه لو كان له بذلك حال ، لكان لتلك الحال حكم مغاير لحكم كونه حيّا ، وقد عرفت أنّ الحيّ هو الذي يصحّ أن يسمع ويبصر كما يصحّ أن يعلم ويقدر.

__________________

ـ مصنّفات في الفقه واصول الفقه والكلام ، توفّي سنة ٣٢١. راجع ريحانة الأدب للخياباني ١ / ٣٩١.

(٢٣) كذا في الأصل ، ولعلّ الصحيح : ما يوهم.

(٢٤) هم أتباع بشر بن المعتمر الهلالي البغدادي أبو سهل وهو فقيه معتزلي مناظر ، من أهل الكوفة. قال الشريف المرتضى ـ ره ـ : يقال : «إنّ جميع معتزلة بغداد كانوا من مستجيبيه» وتنسب إليه الطائفة البشرية. مات ببغداد سنة ٢١٠. كذا في الاعلام لخير الدين الزركلي ٢ / ٥٥.

(٢٥) قال الشيخ الطوسي ـ ره ـ في التمهيد ص ٤٨ : فأمّا قولنا : سميع بصير ، فإنّه يفيد أنّه تعالى على صفة يجب أن يسمع المسموعات ويبصر المبصرات إذا وجدت ، وهذا يرجع إلى كونه حيّا لا آفة به ، وليس بصفة زائدة على ذلك بدلالة أنّها لو أفادت صفة زائدة على ذلك ، لجاز أن يحصل حيّا لا آفة به ولا تحصل تلك الصفة ، فلا يكون سميعا بصيرا ، وقد علمنا خلافه.

٤٨

والمرتضى رحمه‌الله (٢٦) يجعل ذلك حكما ولا يثبت به وصفا زائدا ويقول : معنى ذلك ، أنّه يصحّ أن يسمع المسموع ويبصر المبصر إذا وجد ، وهذه الصحّة حكم لا حال. (٢٧)

ثمّ يجري عليه ذلك الاسم أزلا وأبدا ، لأنّه موصوف بالمقتضى له وهو كونه حيّا ، وأمّا كونه سامعا مبصرا فهو عبارة عن إدراك المسموع والمبصر ، وذلك لا يكون إلّا بعد وجودهما ، فيوصف لذلك بهما أبدا ولا يوصف أزلا. (٢٨)

الرابع والخامس : وصفه بكونه مريدا وكارها. اتّفق المسلمون على

__________________

(٢٦) السيد الشريف المرتضى علم الهدى أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى ، كان عماد الشيعة ونقيب الطالبيين ببغداد ، له مصنّفات كثيرة منها الأمالي في الأدب ، والذخيرة في الكلام ، والذريعة في اصول الفقه ، والانتصار في الفقه. توفّي في الثمانين من عمره سنة ٤٣٦.

(٢٧) الحكم عند المتكلّمين كل أمر زائد على الذات يدخل في ضمن العلم بالذات ، أو الخبر عنها ، وقيل الحكم ما يوجبه العلّة والحال مثل الحكم بالمعنى الأوّل ، والفرق بينهما أنّ الحكم يعتبر في العلم به غير الذات ككون الجسم محلا والحال لا يعتبر به ككون الجسم أسود أو متحرّكا. قاله السيّد المرتضى في الحدود والحقائق ص ١٠ : وفيه بعض الإبهام.

(٢٨) قال الشيخ الطوسي في الاقتصاد ص ٣٠ : وفائدة السميع البصير أنّه على صفة يجب معها أن يسمع المسموعات ويبصر المبصرات ... وعلى هذا يوصف تعالى بذلك في الأزل ... وأمّا سامع مبصر ، فمعناه أنّه مدرك للمسموعات والمبصرات ، وذلك يقتضي وجود المسموعات والمبصرات ، ولذلك لا يوصف بهما في الأزل.

٤٩

ذلك ، واختلفوا في معناه ، فذهب أبو هاشم وأتباعه (٢٩) إلى أنّ له بكلّ واحد منهما وصفا زائدا على كونه عالما. وقال البغداديّون : المرجع به إلى الداعي الخالص إلى الفعل. وقال غيرهم : إنّ المعنى بذلك أنّه غير ساه عن ما يفعله ، ومريد لفعل غيره ، بمعنى أنّه آمر به.

واحتجّ أبو هاشم بأنّ الواحد منّا يجد نفسه على حال عند قصده إلى أفعاله وجدانا ضروريّا ، وليس المرجع بذلك إلى كونه عالما ، لأنّ ذلك يكون قبل حصول ذلك القصد ، فلا بدّ من إثبات حال زائدة ، ثمّ يسوّون بينه تعالى وبين الواحد منّا في تلك الحال.

وربّما استدلّوا على ذلك بأنّه أمر ونهى ، وكلّ واحد منهما لا يكون كذلك إلّا بالإرادة في الأمر والكراهة في النهي ، ثمّ يعلّلون تلك الحال في حقّ الواحد منّا بإرادة يفعلها في قلبه ، وفي حقّ البارئ بإرادة يفعلها لا في محلّ ، لاستحالة قيام الإرادة بذاته ، إذ ليس محلّا للحوادث ، ولا في غيره من جماد لافتقارها إلى محلّ الحياة ، ولا في حيّ لأنّ ذلك يمنع من رجوع حكمها إليه تعالى ، فوجب أن تكون لا في محلّ.

والنافون لهذه الحال قالوا : لو كان مريدا بإرادة لكان ذلك باطلا ، لاستحالة قيام الإرادة بذاته وبغيره ، وكما يستحيل ذلك يستحيل وجودها لا في محلّ ، كما يستحيل وجود السواد لا في محلّ.

والأظهر رجوع ذلك إلى الداعي الخالص إلى الفعل.

__________________

(٢٩) أتباعه فرقة سمّيت بالبهشميّة كما يقال لهم الذمّية. راجع الملل والنحل للشهرستاني ١ / ٧٨ ومعجم الفرق الإسلامية ٦٤.

٥٠

القسم الثالث : في كيفيّة استحقاقه لهذه الصفات (٣٠) ولا بدّ من تقديم مقدّمة يوقف منها على تحقيق ما نعنيه بالوصف له تعالى بذلك.

فنقول : الذي نختاره أنّ معنى كونه قادرا أنّ ذاته سبحانه متميّزة بحقيقتها تميّزا لأجله يصحّ أن يفعل وأن لا يفعل ، لا أنّ له بذلك حالا قائمة بذاته ، وكذلك في كونه عالما فإنّه نعني به أنّ ذاته يجب لها أن تتبيّن الأشياء ، وكذا في كونه حيّا أنّه يصحّ أن يعلم الأشياء ويقدر عليها ، لا نعني زيادة عن ذلك.

ثمّ هذه الأحكام المشار إليها تجب لذاته وجوبا ذاتيّا. والدليل على ذلك ، أنّه لو لم تكن ذاتيّة لافتقر حصولها إلى مؤثّر ، لكن ذلك محال ، لأنّه يلزم إمّا التسلسل ، أو الدور ، أو اجتماع واجبي الوجود في الوجود وهو محال.

وتحقيق ذلك أنّ المؤثّر في جعله على تلك الصفات إمّا أن يكون واجب الوجود أو جائز الوجود ، ويلزم من الأوّل اجتماع واجبي الوجود في الوجود ، وإن كان جائز الوجود ، افتقر إلى مؤثّر ، ثمّ الكلام فيه كما في الأوّل ، فيلزم الدور أو التسلسل ، وكلّ واحد من الأقسام باطل. وإن كان المؤثّر فيه ذات الله سبحانه ، لزم اتّصافها بهذه الأوصاف قبل تأثيرها في ذلك المؤثّر. فلو لم

__________________

(٣٠) قال الشيخ الطوسي في الاقتصاد ص ٣٣ : فصل في كيفية استحقاقه لهذه الصفات. يجب أن يكون تعالى قادرا في الأزل ... وإذا ثبت كونه قادرا في الأزل وجب أن يكون قادرا لنفسه ، لأنّه لا يمكن استناد ذلك إلى الفاعل والقدرة المحدثة. لأنّ ما يتعلّق بالفاعل من شرط تقدم الفاعل عليه وذلك لا يصحّ في الحاصل في الأزل ، والقدرة المحدثة لا توجب صفة في الأزل ، لأنّ معلول العلّة لا يتقدّمها ، ولا يجوز أن يكون قادرا بقدرة قديمة ... فلم يبق إلّا أنّه قادر لنفسه.

٥١

يتّصف بها إلّا به لزم الدور بتقدير أن يكون فاعلا له بالاختيار. وبتقدير أن يكون على سبيل الايجاب ، فإن قام بذاته لزم التركيب ، وإن كان خارجا عن ذاته وكان لا في محلّ لم يكن بأن يوجب له الحكم بأولى من غيره ، فلو أوجب له الحكم لزم الترجيح من غير مرجّح ، وإن كان في محلّ حيّ ، وجب رجوع حكمه إلى المحلّ ، ولا يجوز أن يكون في جماد إذ الضرورة قاضية باستحالة حصول القدرة في الجماد ، ولا معنى للقدرة إلّا ما يوجب كون القادر قادرا ، وإذا كان اتّصافه سبحانه بها لغيره يؤدّي إلى هذه الأقسام الفاسدة وجب أن يكون فاسدا.

وأمّا كونه موجودا فقد بيّنا أنّه عبارة عن نفس حقيقته المقدّسة. بقي علينا أن نبيّن أنّها واجبة بحيث يستحيل أن نفرض عدمها.

والدليل على ذلك ، أنّه لو لم يكن واجب الوجود لكان ممكنا ، لكن هذا محال ، لأنّه يفتقر إلى مؤثّر ، ثمّ الكلام فيه كما في الأوّل ، فيلزم إمّا التسلسل ، أو الدور ، أو الانتهاء إلى واجب بذاته وهو المطلوب.

والدليل على بطلان التسلسل ، أنّه لو تسلسلت العلل والمعلولات ، لكان إمّا أن يكون بعضها علّة لبعض ، وإمّا أن لا يكون معلولة ، وإمّا أن يكون معلولة لغيرها ، ويلزم من الأوّل الدور (٣١) ، ومن الثاني خروجها عن كونها ممكنة مع فرضها كذلك ، ومن الثالث انتهاؤها إلى الواجب ، لأنّ الخارج عن الممكنات واجب ، وإلّا لكان داخلا فيها ، وقد فرض خارجا ، هذا خلف.

وأمّا بطلان الدور ، فلأنّه لو جاز أن يكون الأثر علّة في مؤثّره لزم أن

__________________

(٣١) فنحتاج في ابطال التسلسل إلى اقامة البرهان على بطلان الدور.

٥٢

يكون علّة في نفسه ، فيلزم أن يكون موجودا حال ما يفرض معدوما ، أو مستغنيا حال ما يفرض محتاجا ، وكلّ ذلك باطل. (٣٢)

وإذا وجب أن يكون هذه الصفات نفسيّة ، وجب أن يكون قادرا على كلّ ما يصحّ أن يكون مقدورا له ، وعالما بكلّ معلوم ، لأنّ نسبة ذاته إلى ذلك متساوية ، فلو لم يكن قادرا على كلّ مقدور ، وعالما بكلّ معلوم ، لزم إمّا أن يكون قادرا على البعض ، وهو ترجيح من غير مرجّح ، أو لا على شيء ، وهو نقض لكونه قادرا ، وقد بيّنا أنّه كذلك ، هذا خلف. (٣٣)

__________________

(٣٢) بطلانا واضحا لأنّه اجتماع النقيضين واستحالته من البديهيات بل مآل كل بديهيّ إليه.

(٣٣) قال العلّامة الحلّي ـ ره ـ في أنوار الملكوت ص ٩٢ : إنّه تعالى عالم بكلّ المعلومات ، لأنّه تعالى حيّ يصحّ أن يعلم كلّ المعلومات ، فلو اختصّت ذاته بمعلوم دون معلوم لزم الافتقار إلى المخصّص ، وهو محال ، ولأنّها صفة نفسيّة لاستحالة انفعاله عن الغير ، والنفسية متى صحّت وجبت ، وإلّا توقّفت فلا تكون نفسية.

وقال البحراني في قواعد المرام ص ٩٦ : إنّه تعالى قادر على كلّ مقدور خلافا للجبّائيين والبلخي والنظام وعباد الضميري ...

٥٣

المطلب الثالث

في ما ينفى عنه من الصفات

وهو قسمان : منها ما لفظه لفظ الإثبات ومعناه النفي وهو قسمان :

الأوّل : وصفه بكونه تعالى غنيّا ، ونعني به أنّه حيّ ليس بمحتاج.

والدليل على ذلك أنّ الاحتياج قد يكون في الذات ، كاحتياج الأثر إلى مؤثّره ، وفي الصفات ، كاحتياج القادر في كونه قادرا إلى القدرة ، وقد يكون في جلب المنافع ودفع المضارّ ، وهو سبحانه غنيّ بهذه الاعتبارات الثلاثة.

أمّا استغناؤه في ذاته وصفاته ، لما بيّنا من كونه واجب الوجود بذاته ، ومن كون صفاته واجبة لذاته وجوبا ذاتيّا ، وأمّا استغناؤه عن جلب المنافع ودفع المضارّ ، فلأنّ ذلك إنّما يجوز على الأجسام ، وإذا بيّنا أنّه ليس بجسم تبيّن أنّه لا ينتفع ولا يستضرّ. (٣٤)

__________________

(٣٤) قال الشيخ الطوسي في تمهيد الاصول ص ٧٩ : الغنيّ هو الحيّ الذي ليس بمحتاج ... فإذا ثبت معنى الغنيّ ، فالحاجة لا يجوز إلّا على من يجوز عليه المنافع والمضارّ ، والمنافع والمضارّ هي الألم واللذة والسرور والغمّ ، وذلك لا يجوز إلّا على من يجوز عليه الشهوة والنفار ... والقديم تعالى إذا لم يجز عليه الشهوة والنفار ، وجب أن يكون غنيّا ...

٥٤

الثاني : وصفه بكونه واحدا ، ونعني به أنّه لا ثاني له في وجوب الوجود.

والدليل على ذلك : إنّه لو كان في الوجود واجبان ، لكانا مشتركين في ذلك ، فإن لم يحصل بينهما امتياز من وجه ، فهما واحد لا اثنان ، وإن حصل بينهما امتياز ، فذلك الامتياز إمّا مقوّم ، وإمّا عارض ، ويلزم من الأوّل التركيب ، ومن الثاني استواؤهما في العارض ، ضرورة استوائهما في المقتضي له ، لاستحالة إفادة ذلك العارض من غير ، لكنّ التركيب في واجب الوجود محال ، لأنّه إن لم يحصل بينهما تلازم جاز انفكاك أحدهما عن الآخر ، ومع فرض ذلك لا تبقى الحقيقة ، وإن كان بينهما تلازم من الطرفين ، فكلّ واحد منهما ممكن ، فالمجموع ممكن ، وإن كان اللزوم من أحد الطرفين ، فاللازم ممكن ، فالحقيقة المركّبة منهما ممكنة ، ضرورة كون جزئها المقوّم ممكنا ، هذا خلف.

الدليل الثاني : لو كان في الوجود واجبان ، لكان كلّ واحد منهما قادرا لذاته ، ضرورة استوائهما في الحقيقة.

ولكان إذا أراد أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه في حالة واحدة ، فإمّا أن يقع مرادهما ، وهو جمع بين النقيضين ، أو لا يقع مرادهما ، وهو عجز من القادرين من غير وجه يقتضي المنع ، أو يقع مراد أحدهما ، ويلزم منه عجز من لم يقع مراده ، مع قدرته على الفعل ، وهو ترجيح من غير مرجّح أيضا ، وهو باطل.

الدليل الثالث : لو كان في الوجود قديمان ، لكانا مشتركين في القدم الذي هو صفة الذات ، وكلّ مشتركين في صفة الذات فهما متساويان في نفس الذات ، وكلّ متساويين في نفس الذات فهما متساويان في جميع

٥٥

الصفات الراجعة إلى الذات ، فلو كانا اثنين ، لم تنفصل الذات الواحدة عن الذاتين ، وهو باطل ، وهذا الدليل مبنيّ على قواعد يصعب تقريرها. (٣٥)

الصنف الثاني : ما لفظه ومعناه النفي ، وهو ستّة :

الأوّل : البارئ سبحانه ليس بجسم ، ولا يطلق عليه لفظة الجسم ، أمّا أنّه ليس بجسم ، فلأنّه لو كان كذلك ، للزم أن يكون حادثا ، لما بيّنا من حدوث الأجسام ، لكن هذا اللازم محال.

وقد استدلّ بعض أهل الكلام على ذلك بأن قال : لو كان جسما لما صحّ منه فعل الجسم. بيان الملازمة أنّه لو كان جسما للزم أن يكون فاعلا بالمباشرة ، أو التولّد ، لكنّ الجسم لا يصحّ فعله على أحد الوجهين. بيان الحصر أنّ الفعل إمّا أن يبتدأ به في محلّ القدرة أو متعدّيا عن محلّها ، والثاني إمّا أن يفعل ابتداء أو بواسطة فعل آخر ، والأوّل مباشر ، والثاني مخترع ، والثالث متولّد. (٣٦) فثبت أنّ الأفعال لا تعدو أحد الأقسام ، لكنّ المخترع لا

__________________

(٣٥) قال الخواجة نصير الدين الطوسي في نقد المحصل ص ٣٢٢ : قد مرّ امتناع وجود واجبي وجود لذاتهما ، وذلك يكفي في إثبات هذا المطلوب [أي كونه تعالى واحدا] ... وقد يمكن أن يتبيّن هذه المسألة بالسمع ، لأنّ صحّة السمع غير موقوف على القول بوحدة الإله.

وقال الفاضل مقداد السيوري في إرشاد الطالبين : قد استدلّ على التوحيد بوجوه : الأوّل : دليل الحكماء وقد يقرّر بأربعة أوجه ... الثاني : دليل المتكلّمين ، ويسمّى دليل التمانع ... الثالث : الأدلّة السمعيّة ... وهو أقوى الأدلّة في هذا الباب.

(٣٦) المباشر : ما يبتدأ (يبتدع) بالقدرة في محلّها ، والمخترع كلّ فعل يبتدعه القادر في الخارج من ذاته ، والمتولّد ما حدث عن فعل آخر خارجا عن محلّ القدرة ، والأوّل لا يصحّ وقوعه من القديم تعالى ، والثاني لا يقدر عليه غير الله تعالى ، والثالث

٥٦

يصحّ من الجسم ، لأنّ الأجسام لا تكون قادرة إلّا بالقدرة إذ لو كان جسما من الأجسام قادرا بذاته ، لوجب تساوي الأجسام كلّها في ذلك ، ضرورة تساويها في الحقيقة. والقدرة لا تقع بها المخترع ، فثبت أنّ الجسم لا يقدر إلّا على المباشر والمتولّد ، لكن فعل الجسم لا يصحّ بواحد منهما ، أمّا المباشر ، فلأنّه يلزم اجتماع جوهرين في محلّ واحد ، وأمّا المتولّد ، فلأنّه لو أمكن لكان ذلك بواسطة الاعتماد ، (٣٧) ولو صحّ فعل الجسم بواسطة الاعتماد ، لصحّ من الواحد منّا ذلك ، لأنّا قادرون على أنواع الاعتماد ، لكن ذلك محال. (٣٨)

ومن الناس من أطلق لفظة الجسم على الله سبحانه وتعالى مقيّدا

__________________

يصحّ وقوعه منه تعالى ومنّا ... راجع المقدمة في الكلام للشيخ الطوسي ص ٢٦ والحدود والحقائق للآبي ص ١٢.

(٣٧) قال علم الهدى في الحدود والحقائق ص ٤ : الاعتماد قوّة في الجسم تدافعه إلى سمت مخصوص إذا فقد المانع. وقال الآبي في الحدود والحقائق ص ٢ : الاعتماد معنى أوجب كون محلّه مدافعا لما يماسّه.

وما يسمّى بالاعتماد عند المتكلّمين هو الذي سمّاه الفلاسفة ميلا فلا تغفل راجع دستور العلماء والمصطلحات الفلسفية للسجّادي.

(٣٨) قال العلّامة الحلّي في أنوار الملكوت ص ٧٨ : إنّ الواحد منّا لما كان قادرا بقدرة لم يصحّ منه فعل الأجسام ، لأنّه إمّا أنّ يفعل مخترعا ، أو متولّدا أو مباشرا والأوّل باطل ، لأنّ المخترع لا يصحّ بالقدرة ، فإنّ القويّ الشديد لا يمكن أن يخترع في بدن المريض الضعيف تحريكا أو تسكينا إلّا بالاعتماد. والثاني باطل أيضا ، لأنّا إمّا نفعل في محلّ قدرتنا فيلزم التداخل ، أو لا في محلّ القدرة ، وهو إنّما يكون بالاعتماد الواقع في الجهات المختلفة ، ولا جهة أولى بوقوعه من اخرى فلأنّا لو اعتمدنا أوقاتا طويلة لم نفعل جسما ، والثالث باطل أيضا وإلّا لزم التداخل ...

٥٧

بسلب المساواة للأجسام ، لكن يلزم من ذلك التناقض في اللفظ ، لأنّ لفظ الجسم موضوع لما له الطول والعرض والعمق ، فإذا سلب بعد ذلك مساواته للأجسام في الجسميّة لزم التناقض ، وإن سلب المساواة في غير الجسميّة لزم كونه جسما بالحقيقة.

ومن الناس من جعله جسما بالحقيقة كما يحكى عن أهل الظاهر ، وقد بيّنا ما يلزم على ذلك. (٣٩)

فإن احتجّوا بقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى). (٤٠)

وبقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ). (٤١)

وبقوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ). (٤٢)

وبقوله : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ). (٤٣)

__________________

(٣٩) قال العلّامة الحلّي في أنوار الملكوت ص ٧٧ : ذهب الإمامية وأكثر العقلاء إلى أنّه ليس بجسم ، وذهب الحشويّة إلى أنّه تعالى جسم ، فقال بعضهم : إنّه طويل عريض عميق ، وقال آخرون منهم : إنّه جسم لا كالأجسام. وهذا غير محقّق لأنّه إن عنوا أنّه طويل عريض عميق ، فهو المذهب الأوّل ، ودليل الإبطال مشترك بينهما ، ومع ذلك فقوله لا كالأجسام مناقضة ، وإن عنوا بكونه جسما أنّه قائم بذاته لا كالأجسام ، أي ليس بطويل عريض عميق ، فهو مسلّم ، إلّا أنّهم أطلقوا الجسم على القائم بذاته ، وهو غير مصطلح عليه ، فترجع المنازعة إلى اللفظ.

(٤٠) سورة طه ، الآية : ٥ والآيات الواردة بلفظ «الاستواء على العرش» سبع فراجع.

(٤١) سورة الرحمن ، الآية : ٢٧.

(٤٢) سورة المائدة ، الآية : ٦٤.

(٤٣) سورة القلم ، الآية : ٤٢.

٥٨

وبقول النبيّ ـ عليه وآله السلام ـ حكاية عن جهنّم : حتّى يضع الجبّار فيها قدمه.(٤٤)

__________________

(٤٤) روى البخاري في صحيحه ٦ / ١٧٣ عن أنس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يلقى في النار وتقول : هل من مزيد؟ حتّى يضع قدمه فتقول : قط قط.

وعن أبي هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقال لجهنّم : هل امتلأت؟ وتقول : هل من مزيد؟ فيضع الربّ تبارك وتعالى قدمه عليها وتقول : قط قط.

وعن أبي هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث : فأمّا النار فلا تمتلئ حتّى يضع رجله فتقول : قط قط قط.

قال السيد شرف الدين ـ رحمه‌الله ـ في كتابه القيّم ، أبو هريرة ص ٧٤ الطبعة الثانية : أخرجه [يعني الرواية الثالثة التي نقلنا بعضها] البخاري في تفسير سورة ق وأخرجه مسلم في ص ٤٨٢ من الجزء الثاني من صحيحه من خمسة طرق عن أبي هريرة ، وأخرجه أحمد من حديث أبي هريرة آخر ص ٣١٤ من الجزء الثاني من مسنده.

ثمّ قال : إنّ هذا الحديث محال ممتنع بحكم العقل والشرع وهل يؤمن مسلم ينزّه الله تعالى بأنّ لله رجلا وهل يصدق عاقلا بأنّه يضعها في جهنّم لتمتلئ بها؟!

وروى الطبري في تفسيره ص ١٠٥ ج ٢٦ في ذيل آية : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) روايات في بعضها :

عن ابن عبّاس : لا يملؤها شيء قالت : ألست قد أقسمت لتملأني من الجنّة والناس أجمعين؟ فوضع قدمه فقالت حين وضع قدمه فيها : قد قد ... ولم يكن يملؤها شيء حتّى وجدت مسّ ما وضع عليها ...

عن ابن عباس : أتاها الربّ فوضع قدمه عليها ثمّ قال لها هل امتلأت يا جهنّم ... ولم يكن يملؤها شيء حتّى وجدت مسّ قدم الله تعالى ...

عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تزال جهنّم يلقى فيها وتقول هل ـ

٥٩

وبقوله ـ عليه‌السلام ـ : إنّ الله خلق آدم على صورته. (٤٥)

__________________

من مزيد حتّى يضع ربّ العالمين قدمه ...

إلى غير ذلك من الروايات التي فيها هذه الجملة أو قريب منها.

وقال الشيخ أبو الفتوح الرازي في تفسيره ١٠ / ٢٨٢ : وأمّا خبر أنس وأبي هريرة وابن عبّاس وغيرهم فهو منكر الظاهر وقد جاء بلفظ آخر وهو : «يضع الجبار رجله فيها» ثم أخذ في تأويله.

وقال النظام النيسابوري في تفسيره غرائب القرآن المطبوع في هامش تفسير الطبري ٢٦ / ١١٩ : إذا ادخل العصاة النار سكن غيضها وسكن غضبها ، وعند هذا يصحّ ما ورد في الأخبار : «وإنّ جهنّم تطلب الزيادة حتّى يضع الجبّار فيها قدمه» والمؤمن جبّار يتكبّر على ما سوى الله تعالى ذليل متواضع لله ...

وروى السيوطي في الدرّ المنثور ٦ / ١٠٦ ذيل آية : (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) روايات كثيرة في بعضها : حتّى يضع ربّ العزّة فيها قدمه. فراجع.

(٤٥) روى البخاري في صحيحه في باب بدء السلام ج ٨ ص ٦٢ عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : خلق الله آدم على صورته ...

ومسلم في صحيحه في باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير ج ٨ ص ١٤٩ عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خلق الله عزوجل آدم على صورته.

وأيضا في صحيح مسلم ٨ / ٣٢ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإنّ الله خلق آدم على صورته.

أقول : هذه الجملة موجودة في التوراة في سفر التكوين الباب الأوّل تحت رقم ٢٦ فراجع.

وراجع تنزيه الأنبياء ١٣١ ، والاحتجاج للطبرسي ٢٢٣ ، وعيون أخبار الرضا ١ / ١٢٠ ، والكافي باب النهي عن الجسم والصورة ، وباب النهي عن الصفة بغير ... ، وباب الروح ، ومرآة العقول وشرح المازندراني ، وشرح صدر ـ

٦٠