المسلك في أصول الدّين

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]

المسلك في أصول الدّين

المؤلف:

الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي [ المحقق الحلّي ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع البحوث الاسلامية
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٠

وقوله تعالى : (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (٢١٣)

احتجّ أبو هاشم بأنّه لو كانت الجنّة موجودة لما جاز عدمها ، واللازم محال. بيان الملازمة : قوله تعالى : (أُكُلُها دائِمٌ) (٢١٤) وأمّا بطلان اللازم فقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٢١٥)

والجواب : أنّ تنزيل الآية على حقيقتها غير ممكن ، لأنّ الأكل في الآية إشارة إلى المأكول ، وعينه غير دائمة ، فلا بد أن يكون ذلك إشارة إلى أنّ ابداله لا ينقطع ، وحينئذ يمكن العمل بالآية في أنّ الجنّة تهلك ثم تعاد ابدال مآكلها. والله أعلم. (٢١٦)

__________________

(٢١٣) سورة النجم ، الآية : ١٥.

(٢١٤) سورة الرعد ، الآية : ٣٥.

(٢١٥) سورة القصص ، الآية : ٨٨.

(٢١٦) قال الشريف الرضي ـ رحمه‌الله ـ : في ذكر الجنّة والنار هل هما مخلوقتان الآن أم تخلقان بعد فناء العباد؟ وقد اختلف العلماء في ذلك فمنهم من قال : هما الآن مخلوقتان ، وقال بعضهم : إنّ الجنّة خاصّة مخلوقة ، والصحيح أنّهما تخلقان بعد. حقائق التأويل ٥ / ٢٤٥.

أقول : قال بعض العلماء في تعليقته على حقائق التأويل : ذهب الأشاعرة وأبو علي الجبّائي وبشر بن المعتمر وأبو الحسين البصري إلى أنّهما مخلوقتان ، وهو مذهب أكثر علماء الإماميّة ، وأنكر أكثر المعتزلة ذلك ، كعباد الضميري وضرار ابن عمرو وأبي هاشم والقاضي عبد الجبّار ، وإليه مال الشريف المرتضى. راجع تعليقة الشهيد السيّد محمد علي الطباطبائي على اللوامع في هذا الموضوع ص ٥١٤.

١٤١

الفصل الثاني في عقاب الفاسق وما يطلق عليه من الأسماء :

وفيه مقامان : الأوّل : النظر في عقابه هل هو دائم أو منقطع؟ والثاني : هل يقع العفو عنه أم لا؟

أمّا المقام الأوّل : فقد اختلف الناس فيه على قولين :

منهم من زعم أنّه دائم واحتجّ لذلك بوجهين :

أحدهما : لو خرج من النار لكان إمّا أن يدخل الجنّة أو لا يدخلها ، والقسمان باطلان ، أمّا الملازمة فظاهرة ، وأمّا بطلان القسمين ، أمّا الثاني فبالإجماع. وأمّا الأوّل فلأنّه لو دخلها لدخلها إمّا تفضّلا وهو باطل بالإجماع ، أو بالاستحقاق وهو باطل بما ثبت من وجوب القول بالإحباط.

الوجه الثاني : قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) (٢١٧) وقوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) (٢١٨)

ومنهم من زعم أنّ عقابه منقطع. واحتجّ لذلك بوجوه :

الأوّل : أنّ الطاعات يستحقّ بها الثواب وهو دائم إجماعا ، والمعصية يستحقّ بها العقاب ، أمّا استحقاق الثواب بالطاعات فلقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (٢١٩) و (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (٢٢٠)

__________________

(٢١٧) سورة النساء ، الآية : ١٤.

(٢١٨) سورة النساء ، الآية : ٩٣.

(٢١٩) سورة الزلزلة ، الآية : ٧.

(٢٢٠) سورة الأنعام ، الآية : ١٦٠.

١٤٢

وأمّا في المعاصي فلقوله تعالى : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) (٢٢١) و (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (٢٢٢) و : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (٢٢٣) فلو كان العقاب دائما لاجتمع للمكلّف الواحد استحقاقان دائمان ، وهو باطل ، أمّا أوّلا فبالإجماع ، وأمّا ثانيا فلأنّه كان يلزم استحالة إيصالهما إليه.

الوجه الثاني : قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) (٢٢٤)

الثالث : قوله ـ عليه‌السلام ـ : «يخرجون من النار بعد ما يصيرون حمما وفحما» (٢٢٥)

وعند تعارض هذه الحجج فزع كلّ واحد من الفريقين إلى تأويل حجج الآخر ، ذهولا منهم عن أنّ ما يورده على خصمه وارد عليه بعينه أو مثله ، فإذن الحقّ أنّ الآيات المذكورة في غاية التعارض ، لكن مع تعارضها يكون الترجيح لجانب من يقول بانقطاع عقابه ، لأنّه مصيّر إلى الأصل ،

__________________

(٢٢١) سورة الفرقان ، الآية : ١٩.

(٢٢٢) سورة النساء ، الآية : ١٢٣.

(٢٢٣) سورة الأنعام ، الآية : ١٦٠.

(٢٢٤) سورة هود ، الآية : ١٠٦.

(٢٢٥) في اللوامع للمقداد السيوري ص ٣٩٦ : ورد متواترا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : يخرج قوم من النار كالحمّ والفحم فيراهم أهل الجنّة فيقولون : هؤلاء جهنّميّون ، فيؤمر بهم فيغمسون في عين الحيوان ، فيخرج أحدهم كالبدر.

١٤٣

وأنسب بالعدل. (٢٢٦)

المقام الثاني في جواز العفو عن الفاسق :

ويدلّ عليه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٢٢٧)

وقوله : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (٢٢٨) ولا يمكن حمل ذلك على التائب ، ولا على صاحب الصغيرة ، لأنّه ليس مع ذلك قنوط ، ولا فيه تمنّن عندهم ، والآيات خرجت مخرج التمنّن والدلالة على حلم الله وكرمه. ولا يمكن حمل الغفران على تأخير العقاب ، لأنّه خلاف الظاهر ، ولا دلالة عليه. ويدلّ عليه أيضا قوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (٢٢٩) فأخبر أنّ العفو يقع مع كونهم ظالمين.

واحتجّ المانع بقوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (٢٣٠) وقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٢٣١) وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً

__________________

(٢٢٦) قال العلّامة الحلّي ـ ره ـ : في أنوار الملكوت ص ١٧٥ في وجه الجمع بين الآيات : يحمل الآية الاولى على من تعدّى جميع الحدود التي من جملتها الإيمان ، والثانية على من يقتل مؤمنا لأجل إيمانه.

(٢٢٧) سورة النساء ، الآية : ٤٨ ، ١١٦.

(٢٢٨) سورة الزمر ، الآية : ٥٣.

(٢٢٩) سورة الرعد ، الآية : ٦.

(٢٣٠) سورة النساء ، الآية : ١٢٣.

(٢٣١) سورة الزلزلة ، الآية : ٨.

١٤٤

إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (٢٣٢)

والجواب عن ذلك : أنّه لمّا تعارضت الآيات كان الترجيح لجانب القول الأوّل بوجوه:

الأوّل : أنّ الآية الاولى مفصّلة ودالّة على العفو عمّن يشاء ، أو العفو عن عقاب الكبيرة على الخصوص ، والآيات الأخيرة مطلقة فتحمل على الكافر ، أو على من لم يشإ الله العفو عنه ، لما عرفت من وجوب تقديم العامّ على الخاصّ (٢٣٣)

الثاني : أنّه قد ثبت في العقول أنّ العفو عن العقاب حسن ، وعلى تقدير تعارض الآيات يكون السمع خاليا من دلالة قطعيّة بارتفاع ما شهد العقل بحسنه ، فيكون التجويز فيه ثابتا.

الوجه الثالث : أنّه تعالى تمدّح بالعفو والغفران في آيات متعدّدة ، ولا ينصرف ذلك إلى التائب ، ولا إلى صاحب الصغيرة ، لأنّ العقاب يسقط بالتوبة ، وبرجحان الثواب على العقاب سقوطا لازما عندهم ، فلم يكن سقوطه مستندا إلى الله. والغفران لا يتحقّق إلّا بإسقاط الذنب ، فلو لم يكن الله مسقطا للعقاب ابتداء لما صحّ التمدّح به.

الوجه الرابع : أجمع المسلمون على جواز أن يقول الإنسان لغيره : غفر الله لك ، وعنى (٢٣٤) سؤال الغفران ، ولا يتحقّق ذلك إلّا مع إمكان وقوعه ، ولا عقاب إلّا على صاحب الكبيرة ، إذ التائب وصاحب الصغيرة لا عقاب

__________________

(٢٣٢) سورة النساء ، الآية : ١٠.

(٢٣٣) كذا في الأصل.

(٢٣٤) في الأصل : على.

١٤٥

عليه. لا يقال : لعلّ سؤال الغفران سؤال التوفيق للتوبة أو لتوفيق العمل الصالح الراجح على المعصية. لأنّا نقول : سؤال الغفران يقع مجرّدا عن ذلك كلّه ، فسقط الاعتراض به. (٢٣٥)

وأمّا الأسماء : فاتفقوا على إطلاق اسم الفسق على صاحب الكبيرة ، واختلفوا في إطلاق لفظة الإيمان عليه أو لفظة الكفر. فقالت الخوارج (٢٣٦) : يطلق عليه اسم الكفر ، وقال البصري (٢٣٧) : يطلق عليه اسم النفاق ، والكلّ باطل بما سندلّ عليه من كونه مؤمنا ، والإيمان لا يجامع الكفر والنفاق.

وبيان أنّه يطلق عليه اسم الإيمان : أنّ الإيمان في أصل اللغة عبارة عن التصديق (٢٣٨) ، فيجب أن يكون في الشرع كذلك ، لأنّ الأصل عدم النقل.

__________________

(٢٣٥) كلّ من كان مظهرا للكفر قطعنا على ثبوت عقابه ، وإن كان فاسقا مصرّا قطعنا على ارتفاع التوبة عنه ، وجوّزنا أن يكون الله تعالى أسقط عقابه تفضّلا وإن لم نقطع به ، ونذمّه عليه بشرط عدم العفو ، ومتى غاب عنّا من قطعنا على عقابه وذمّه من الكفّار والفسّاق فإنّا نذمّه بشرط عدم التوبة وعدم العفو ، ومن غاب من الفساق نذمّه بشرط عدم التوبة وعدم العفو ، ويشترط الأمرين في خبره ، وليس هاهنا من يقطع على ثبوت ثوابه بإظهار الإيمان والطاعة ، إلّا من دلّ دليل على عصمته وأمنّا فعل القبيح والاخلال بالواجب من جهته. الاقتصاد ص ١٣٥.

(٢٣٦) هم الذين خرجوا على عليّ ـ عليه‌السلام ـ في صفّين بعد قبول التحكيم ، ويصلون إلى أكثر من عشرين فرقة ، ويكفّرون أصحاب الكبائر.

(٢٣٧) هو الحسن البصري المتوفى ١١٠ ، أو أبو الحسين محمد بن علي البصري المعتزلي المتوفى ٤٣٦ صاحب المؤلّفات في الكلام ، والفقه واصول الفقه. ريحانة الأدب ٧ / ٦٣.

(٢٣٨) في صحاح الجوهري : الإيمان : التصديق.

١٤٦

ولأنّ الله سبحانه استعمل الإيمان في التصديق فيجب أن يكون حقيقة فيه دفعا للمجاز. بيان استعماله في التصديق قوله تعالى : (وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) (٢٣٩) (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) (٢٤٠) (رَبَّنا آمَنَّا) (٢٤١) (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٢٤٢) وإذا ثبت أنّ الإيمان عبارة عن التصديق ، والمؤمن فاعل للإيمان ، والفاسق مصدّق ، فيجب أن يكون مؤمنا.

وزعمت المعتزلة وطائفة منّا أنّ الإيمان عبارة عن التكاليف الواجبة ، فعلا كان أو تركا ، وشذاذ منهم أدخلوا النوافل في جملة الإيمان.

واحتجّوا لذلك بوجوه : منها قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (٢٤٣) وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «لا يزني الزاني وهو مؤمن» (٢٤٤) وبقوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (٢٤٥) قالوا : (وَذلِكَ) إشارة إلى ما تقدّم من العبادات. (٢٤٦)

__________________

(٢٣٩) سورة المؤمنون ، الآية : ٣٨.

(٢٤٠) سورة العنكبوت ، الآية : ٢٦.

(٢٤١) سورة آل عمران ، الآية : ٥٣. وسورة المائدة ، الآية : ٨٣.

(٢٤٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٢١.

(٢٤٣) سورة يوسف ، الآية : ١٠٦.

(٢٤٤) الكافي ٢ / ٣٢ وسنن ابن ماجة ٢ / ١٢٩٩.

(٢٤٥) سورة البيّنة ، الآية : ٥.

(٢٤٦) في متشابه القرآن للقاضي عبد الجبّار ص ٦٩٨ : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) يدل على أن جميع ذلك دين ... وذلك يوجب أنّ الدين والإسلام هما سائر الواجبات والطاعات وكذلك الإيمان ...

١٤٧

والكلّ ضعيف. (٢٤٧)

ويدلّ على ما ذهبنا إليه قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) (٢٤٨) وقوله : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) (٢٤٩) فعطف الأعمال على الإيمان ، والعطف يقتضي المغايرة.

واحتجّ البصري على أنّ صاحب الكبيرة منافق ، بأنّه لو كان معتقدا للمعاد لما أقدم على فعل المعصية لأنّ الإنسان لا يتناول تمرة من جحر حيّة ، وهو يتيقّن أنّها تناله بسوء فكيف إذا تيقّن أنها تقتله ، وكذلك لو تيقّن العاصي العذاب ، لما أقدم على المعصية ، وهو ضعيف ، لأنّ الإقدام على ذلك قد يكون لرجاء العفو ، أو تأميل التوبة ، أو لرجاء رجحان الطاعة على المعصية على رأي المعتزلة في الإحباط ، وكلّ ذلك قد يجامع الجزم بالعقاب الاخرويّ. (٢٥٠)

__________________

(٢٤٧) الظاهر من اصطلاح المصنّف ـ ره ـ إطلاق الضعيف على الباطل فلا تغفل.

(٢٤٨) سورة طه : الآية : ١١٢.

(٢٤٩) سورة مريم ، الآية : ٦٠.

(٢٥٠) الكفر هو إنكار صدق الرسول ـ عليه‌السلام ـ وإنكار شيء ممّا علم مجيئه به بالضرورة.

والنفاق ، هو إظهار الإيمان والإسلام ، واسرار الكفر.

وأمّا الفسق ، فهو الخروج عن طاعة الله ورسوله في بعض الأوامر والنواهي الشرعيّة التي يجب امتثالها مع اعتقاد ذلك الوجوب ، وهو عند المعتزلة منزلة بين الكفر والإيمان ، ولا يصدق عندهم على الفاسق أنّه مؤمن ولا كافر ، وعند الحسن البصري أنّه منافق ، وعند جماعة من الزيديّة والخوارج أنّه كافر ، وعندنا أنّه مؤمن بإيمانه فاسق بفسقه.

١٤٨

__________________

لنا : أنّ الفاسق من أهل الصلاة مصدّق بالله ورسوله ودينه ، فكان مؤمنا.

وأمّا المعتزلة فلمّا أدخلوا سائر الطاعات في مسمّى الإيمان ، لزم على اصولهم أن يخرج الفاسق عن الايمان لتركه بعضها ، وأمّا أنّه لا يدخل في الكفر ، فلأنّه يقام عليه الحدود. ويقاد به ، ويدفن مع المسلمين ، ويغسّل ويكفّن ويصلّى عليه ، ولا واحد من الكفّار كذلك ، فإذن ليس هو بكافر. والله أعلم بالصواب. قواعد المرام ص ١٧١.

١٤٩
١٥٠

النّظر الثّالث

في النّبوّات

١٥١
١٥٢

النظر الثالث

في النبوّات

وفيه مقدّمة ومطلوب :

أما المقدّمة فتشتمل على ثلاثة بحوث :

البحث الأوّل : النبيّ هو البشريّ المخبر عن الله تعالى بغير واسطة من البشر ، والرسول وإن كان وضع اللغة عبارة عن المؤدّي عن غيره ، فقد صار بعرف الاستعمال عبارة عن المؤدّي عن الله بغير واسطة من البشر ، فيقع هذا الاسم على الملك المؤدّي عن الله وعلى البشريّ المخصوص باسم النبوّة ، ولا يقع اسم النبوّة إلّا على البشر خاصّة دون الملك.

والبعثة حسنة ، لأنّ العقل يجوز اشتمالها على المصلحة وخلوّها عن وجوه المفاسد ، وما كان كذلك كان حسنا. ويحكى عن طائفة من الهند (١) القول بقبح البعثة. واحتجّوا لذلك بأنّ الرسول إن جاء بما يدلّ عليه العقل

__________________

(١) هم البراهمة كما في كشف المراد للعلّامة الحلّي ـ ره ـ.

١٥٣

كان العقل كاف ، وإن جاء بما ينافي العقل لم يجز الانقياد إليه ، كما لو جاء بإباحة الظلم والكذب.

ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يأتي بتفصيل ما يدلّ عليه العقل جملة لا تفصيلا ، فإنّ العقل يشهد بأن ما كان لطفا في واجب فهو واجب. ثمّ لا نهتدي إلى كون الصلاة مثلا أو الصوم مشتملا على ذلك اللطف ، فيكون الشرع دالّا على هذا القدر وأشباهه ممّا لا يدلّ العقل عليه بعينه ، فظهر أنّ القسمين اللذين أشاروا إليهما غير حاصرين.

وإذا عرفت ذلك فوجه حسن البعثة كون الرسول مرشدا للعباد إلى مصالحهم الدينيّة ، وربّما كان مرشدا إلى أمور دنيويّة أيضا. (٢)

[البحث] الثاني في صفات النبيّ : والضابط عصمته عن ما يقدح في التبليغ ، أو ينفّر عن القبول ، فاتّفقوا على اشتراط كمال العقل ، وجودة الرأي ، وإن وجد ذلك في الطفل كما في حقّ عيسى ـ عليه‌السلام ـ ، وعلى اشتراط سلامته من العيوب الواضحة كالابنة ، وانطلاق الريح ، واختلفوا في الجذام والبرص. وأجازوا اتّصافه بالعمى والصمم.

وأمّا العصمة عن المعاصي فقد اختلفوا ، فمنهم من عصمه عن الخلل

__________________

(٢) في التجريد للمحقّق الطوسي : البعثة حسنة لاشتمالها على فوائد كمعاضدة العقل في ما يدلّ عليه ، واستفادة الحكم في ما لا يدلّ ، وإزالة الخوف ، واستفادة الحسن ، والقبح والمنافع ، والمضارّ ، وحفظ النوع الإنسانيّ ، وتكميل أشخاصه بحسب استعداداتهم المختلفة ، وتعليمهم الصنائع الخفيّة ، والأخلاق والسياسات والإخبار بالعقاب والثواب ، فيحصل اللطف للمكلّف.

١٥٤

في التبليغ لا غير ، ومنهم من عصمه مع ذلك عن الكبائر ، والحقّ أنّه معصوم عن الكلّ في حال النبوّة وقبلها. وهل هو معصوم عن السهو أم لا؟ فيه خلاف بين أصحابنا ، والأصح القول بعصمته عن ذلك كلّه.

لنا : لو جاز شيء من ذلك لجاز تطرقه إلى التبليغ لكن ذلك محال ، ولأنّ (٣) مع تجويز ذلك يرتفع الوثوق بخبره ، فينتقض الغرض المراد بالبعثة. وأما قبل النبوّة فهو معصوم عن تعمّد المعصية صغيرة كانت أو كبيرة ، ويدلّ عليه من القرآن قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). (٤)

__________________

(٣) كذا في الأصل والظاهر زيادة الواو.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ١٢٤. في تفسير الميزان : وبهذا البيان [الذي ذكر في تفسير الآية] يظهر أنّ المراد بالظالمين في قوله تعالى : (قالَ : وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ : لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) مطلق من صدر عنه ظلم ما ، من شرك أو معصية ، وإن كان في برهة من عمره ثمّ تاب وصلح.

وقد سئل بعض أساتيذنا ـ رحمة الله عليه ـ : عن تقريب دلالة الآية على عصمة الإمام [حتّى بالنسبة إلى قبل الإمامة] فأجاب : إنّ الناس بحسب القسمة العقليّة على أربعة أقسام : من كان ظالما في جميع عمره ، ومن لم يكن ظالما في جميع عمره ، ومن هو ظالم في أوّل عمره دون آخره [أي إمامته] ، ومن هو بالعكس [أي من هو ظالم في آخر عمره حين إمامته ، دون أوّله قبل إمامته] وإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أجلّ شأنا من أن يسأل الله الإمامة للقسم الأوّل والرابع من ذرّيته ، فيبقى قسمان ، وقد نفى الله أحدهما ، وهو الذي يكون ظالما في أوّل عمره دون آخره ، فبقي الآخر ، وهو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره. انتهى كلام الميزان ١ / ٢٧٧.

ويظهر من المؤلّف ـ ره ـ أنّ العهد في الآية الكريمة يشمل عهد النبوّة كما هو شامل لعهد الإمامة ، فالآية بمنزلة القاعدة الكلّية طبّقت في المورد على الإمامة. فتأمّل.

١٥٥

وأمّا ما تضمّنه الكتاب العزيز وكثير من الأخبار من ما ظاهره وقوع المعصية ، فمحمول على ضرب من التأويل ، لأن لا يتناقض الأدلّة. ولنذكر طرفا من ما نسب إلى أفاضل الأنبياء ليكون الجواب عنه معينا عن ما نسب إلى غيرهم.

كقوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (٥).

وقوله في قصّة نوح : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ). وقوله تعالى مجيبا : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) (٦).

وقوله في قصّة إبراهيم : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (٧).

وقوله : (هذا رَبِّي) (٨) تارة عن النجم ، وتارة عن القمر ، وتارة عن الشمس.

وفي قصّة موسى : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) (٩).

وفي قصّة عيسى : (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٠) مع علمه بكفرهم ، وأن الكافر لا يغفر له.

وفي قصّة محمد : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (١١).

__________________

(٥) سورة طه ، الآية : ١٢١.

(٦) سورة هود ، الآية : ٤٥ ـ ٤٦.

(٧) سورة الشعراء ، الآية : ٨٦.

(٨) سورة الأنعام ، الآية : ٧٦ ـ ٧٨.

(٩) سورة الأعراف ، الآية : ١٥٥.

(١٠) سورة المائدة ، الآية : ١١٨.

(١١) سورة الفتح ، الآية : ٢.

١٥٦

(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (١٢).

(وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) (١٣).

لأنّ العصيان هو المخالفة وكما يحتمل أن تكون المخالفة في واجب ، يحتمل أن يكون في مندوب ، ومع (١٤) احتمال كلّ واحد من الأمرين ، يجب تنزيله على ترك المندوب ، ليسلم الدليل العقلي عن الطعن.

ولأنّ الغيّ كما يكون ضدّ الرشد ، فقد يكون كناية عن الخيبة التي هي ضدّ الظفر كقول الشاعر :

ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما (١٥) (أي يخب).

فيكون معنى الآية : وخالف آدم ربّه فخاب ، ولم يظفر بمراده. (١٦)

وأما قصّة نوح ـ عليه‌السلام ـ فغير دالّة على وقوع المعصية ، غاية ما في الباب أنّه وصف ابنه أنّه من أهله ، وهو استمرار على العرف ، وإخراج الله له عن الأهليّة إنّما هو إخراج له عن الأهل الذين وعده بنجاتهم ، فكأنّه قال : إنّه ليس من أهلك الذين وعدناك بنجاتهم ، ومثل هذا القدر قد يشتبه على

__________________

(١٢) سورة الضحى ، الآية : ٧.

(١٣) سورة الانشراح ، الآية : ٢.

(١٤) في الأصل : وما احتمال ، والصحيح ظاهرا ما أثبتناه.

(١٥) قائله : المرقش الأصغر. كذا في تعليق التبيان ٢ / ٣١٢ وهو شاعر جاهلي اسمه ربيعة بن سفيان بن سعد بن مالك توفّي نحو سنة ٥٠.

(١٦) في تنزيه الأنبياء : المعصية هي مخالفة الأمر والأمر من الحكيم تعالى قد يكون بالواجب وبالندب معا ... فأمّا قوله : (فَغَوى) فمعناه أنّه خاب ... ص ١٠ الطبع الحجريّ.

١٥٧

الأنبياء حتّى ينبّهه (١٧) الوحي. (١٨)

وأمّا استغفار إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لأبيه ، فلم يكن لجهل بعدم المغفرة له ، بل لمواعدته إيّاه ، فأراد بذلك براء ساحته في الظاهر ، لأن لا يظنّ به الخلف ، وليكن حجّته على أبيه أتمّ. (١٩)

وقوله : (هذا رَبِّي) لا يكون كفرا إلّا مع الاعتقاد لصحّته ، ونحن فلا نسلّم أنّ إبراهيم كان منطويا على ذلك الاعتقاد ، وقد يقال مثل ذلك على سبيل الفرض والتقدير لمن يريد الاستدلال ، كان يقول لو كان هذا ربّي لما أفل ، ففرض وقوعه ثمّ استدلّ على إحالة ذلك الفرض ، وهذا من الشائع في مذهب أهل النظر. (٢٠)

وأمّا قصّة موسى ـ عليه‌السلام ـ فالفتنة المذكورة فيها يراد بها الاختبار

__________________

(١٧) كذا.

(١٨) في تنزيه الأنبياء قيل في هذه الآية وجوه كلّ واحد منها صحيح مطابق لأدلّة العقل ، أوّلها ... إنّما نفى أن يكون من أهله الذين وعده الله بنجاتهم ... الوجه الثاني أن يكون المراد بقوله تعالى : (لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) أي أنّه ليس على دينك ... الوجه الثالث ... ص ١٩.

(١٩) قال الشريف المرتضى : قيل إنّ الموعدة إنّما كانت من الأب بالإيمان للابن ، وقيل إنّها كانت من الابن بالاستغفار للأب والأولى أن يكون الموعدة هي من الأب بالإيمان للابن ، لأنّا إن حملناه على الوجه الثاني كانت المسألة قائمة وهي أنّ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لم وعد الكافر بالاستغفار. ص ٣٥ مع تلخيص وتصرّف.

(٢٠) في عصمة الأنبياء لفخر الدين الرازي ص ١٨ : والأصح من هذه الأقوال أن ذلك على وجه الاعتبار والاستدلال لا على وجه الإخبار ولذلك فإن الله تعالى لم يذمّ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ على ذلك ، بل ذكره بالمدح والتعظيم ...

١٥٨

والامتحان ، ويشهد لذلك قوله تعالى : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) (٢١) وقوله : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) (٢٢) والمراد ذلك كلّه الاختبار. (٢٣)

وأمّا قصّة عيسى ـ عليه‌السلام ـ فنقول : إنّما علم وجوب عقاب الكافر ، وأنّه لا يسقط بالعفو من الشرع ، لا من العقل ، فجائز أن يكون عيسى ـ عليه‌السلام ـ جوّز غفران الكفر ، كما يجوز غفران الفسق ، ومع هذا الجواز لا يكون ذلك القول قادحا في عصمته. (٢٤)

وأمّا قصّة محمّد ـ عليه‌السلام ـ فإنّ الذنب مصدر ، فكما تصحّ إضافته إلى الفاعل تصحّ إضافته إلى المفعول ، كما يضاف الضرب إلى الضارب وإلى المضروب. فالذنب المذكور يحتمل أن يكون من ما فعله أهل مكّة بالنبيّ ـ عليه‌السلام ـ قبل الفتح ، فإنّ بتقدير إسلامهم يغفر لهم ذلك الذنب ، واضيف إلى النبي ـ عليه‌السلام ـ لأنّه وقع ذلك منهم في حقّه. (٢٥)

وأمّا الضلال المنسوب إليه فجائز أن يكون إخبارا عن ضلاله بين مكّة والمدينة ، فإنّه يحكى وقوع ذلك ، وإن لم يكن متيقّنا فهو ممكن. وهذا الوجه

__________________

(٢١) سورة طه ، الآية : ٤٠.

(٢٢) سورة طه ، الآية : ١٣١ ، وسورة الجنّ ، الآية : ١٧.

(٢٣) قال الراغب في المفردات ٣٧١ : أصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته.

(٢٤) قال فخر الدين الرازي في قوله تعالى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ ...) الجواب : المقصود من هذا الكلام تفويض الأمر إلى الله تعالى بالكلّية ، وترك الاعتراض وتحقيق معنى «لا يسأل عمّا يفعل» عصمة الأنبياء ص ٦٣.

(٢٥) ذكر في تنزيه الأنبياء وجهان آخران فراجع ص ١١٨.

١٥٩

حسن لو لا أنّ هذه الآية نزلت بمكّة قبل الهجرة. (٢٦) ومن الممكن حملها على الضلال عن اكتساب المعاش ، أو تدبير الامور الدنيويّة ، أو غير ذلك من ما لا يتعلّق بالدين. (٢٧)

وأمّا الوزر المنسوب إليه ، فيحمل على ثقل اهتمامه لفتح مكّة ، أو غير ذلك من الامور المهمة عندها ، والوزر هو الثقل. (٢٨)

يشهد لذلك قول الشاعر :

فأعددت للحرب أوزارها

رماحا طوالا وخيلا ذكورا (٢٩)

لا يقال : هذه التأويلات مصيرة إلى المجاز ، وعدول عن الظاهر.

لأنّا نقول : قد يصار إلى المجاز لدلالة ، وقد بيّنا ما يدلّ على وجوب التأويل.

ونزيده بيانا أنّه لو وقعت المعصية من النبيّ ، لكان إمّا أن يجب اتّباعه ، ويلزم من ذلك ارتكاب المعصية ، أو لا يجب ، وهو مخالفة للنبيّ. (٣٠)

__________________

(٢٦) قال الطبرسي رضوان الله عليه : سورة الضحى مكّية.

(٢٧) راجع مجمع البيان ١٠ / ٥٠٥.

(٢٨) الوزر في اللغة الثقل ، ومنه اشتقّ اسم الوزير لتحمله أثقال الملك ، وإنما سمّيت الذنوب أوزارا لما يستحقّ عليها من العقاب العظيم.

(٢٩) قائله الأعشى ، كما في مجمع البيان ٩ / ٩٦.

(٣٠) راجع تنزيه الأنبياء للمرتضى وعصمة الأنبياء للفخر الرازي فإنّهما وضعا للجواب عن هذه الآيات ونظائرها.

١٦٠