شرح القصيدة النونيّة - ج ١

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ١

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥
الجزء ١ الجزء ٢

الطبيعيين القدماء ومنها تتركب سائر الموجودات ، والأمر قسمة بينه وبين هذه العوالم التي هي مجال له يظهر فيها فكما أنها فقيرة ومحتاجة إليه لأنه هو جوهرها ووجودها الأصيل فكذلك هو مفتقر إليها من أجل تعينه وظهوره فيها كما تفتقر الروح في ظهور آثارها للأبدان.

* * *

وتظل تلبسه وتخلعه وذا ال

ايجاد والاعدام كل أوان

ويظل يلبسها ويخلعها وذا

حكم المظاهر كي يرى بعيان

وتكثر الموجود كالأعضاء في ال

محسوس من بشر ومن حيوان

أو كالقوى في النفس ذلك واحد

متكثر قامت به الامران

فيكون كلا هذه أجزاؤه

هذه مقالة مدعي العرفان

الشرح : يعني أن تلك المظاهر والتعينات باعتبار أن ذلك الوجود المطلق هو قوامها الحامل لها ، فهي لا تزال تتوارد عليه في عملية إيجاد واعدام مستمر كلما فنت صورة وخلعت ذلك الوجود ولبست أخرى ، وكذلك هو يظل يلبسها ويخلعها بلا انقطاع ، وهذا حكم اقتضاه ظهور هذا الوجود فإنه لو دام على اطلاقه لما أمكن رؤيته وظهوره للعيان. ونسبة تلك الموجودات المتكثرة إلى ذلك الوجود المطلق كنسبة الأعضاء المختلفة لجسم الانسان أو الحيوان إليه ، أو كنسبة قوى النفس المختلفة إليها ، أي أنها كنسبة الجزء إلى كله ، وكما أن كلا من الجسم ذي الاعضاء والنفس ذات القوى له اعتباران ، اعتبار أنه وحدة قائمة بذاتها وهو بهذا يصح أن يقال أنه شيء واحد ، واعتبار أنه مركب من أعضاء وقوى وهي من هذه الجهة تسمى كثيرا ، فكذلك هذا الوجود له اعتباران ، اعتبار الاطلاق وعدم التقييد وهو من هذه الجهة واحد لا حدود فيه ولا قيود ، واعتبار ظهوره في عالم الامكان والتقييد ، وهو من هذه الجهة كثير كثرة لا حد لها. يقول ابن عربي الزنديق في كتابه المسمى فصوص الحكم.

«فالعالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد ، وأن التفريق والكثرة

٦١

كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية ، فما عبد غير الله في كل معبود».

* * *

أو أنها لتكثر الأنواع في

جنس كما قال الفريق الثاني

فيكون كليا وجزئياته

هذا الوجود فهذه قولان

إحداهما نص الفصوص وبعده

قول ابن سبعين وما القولان

عند العفيف التلمساني الذي

هو غاية في الكفر والبهتان

إلا من الأغلاط في حس وفي

وهم وتلك طبيعة الانسان

والكل شيء واحد في نفسه

ما للتعدد فيه من سلطان

الشرح : بعد أن اتفقت كلمة القائلين بوحدة الوجود على أن الوجود في نفسه شيء واحد ، وأن الكثرة انما هي في التعينات اختلفوا في نسبة ذلك الوجود الواحد إلى تلك التعينات ، فذهب ابن عربي كما تقدم إلى أنها من نسبة الكل إلى أجزائه كنسبة أعضاء الجسم إليه أو كنسبة قوي النفس إليها ، وذهب ابن سبعين وهو من شيعة ابن عربي في القول بوحدة الوجود إلى أنها من نسبة الكلي إلى جزئياته ، يعني بذلك أن هذا الوجود المطلق الكلي جنس ، وهذه الوجودات المتعينة أنواع له فتكون هذه الكثرة البادية في الموجودات كثرة نوعية كما يقال مثلا أن الحيوان جنس تحته أنواع هي الانسان والفرس والجمل الخ.

والفرق بين القولين أن الوجود المطلق على رأي ابن عربي يكون كلا اجزاؤه الوجودات الخاتمة ، وأما على رأي ابن سبعين فهو جزء من ماهية كل واحد من هذه الوجودات. إذ من المعلوم أن الكلي يكون جزءا من كل جزئي تحته ، وأما العفيف التلمساني وهو أشدهم كفرا وافتراء ، فذهب إلى أن الوجود كله شيء واحد في نفسه لا تكثر ولا تعدد فيه أصلا ، وأما هذه الكثرة التي نراها بأعيننا أو نتخيلها في نفوسنا ، فلا حقيقة لها بل هي من أغلاط الحس الذي قد يرى الشيء الواحد كثيرا والوهم الذي قد يتخيل الصورة الواحدة صورا متعددة ،

٦٢

وذلك الغلط في الحس والوهم من طبيعة الإنسان؟

* * *

فالضيف والمأكول شيء واحد

والوهم يحسب هاهنا شيئان

وكذلك الموطوء عين الوطء وال

وهم البعيد يقول ذا اثنان

ولربما قالا مقالته كما

قد قال قولهما بلا فرقان

وأبى سواهم ذا وقال مظاهر

تجلوه ذات توحد ومثان

فالظاهر المجلو شيء واحد

لكن مظاهره بلا حسبان

هذي عبارات لهم مضمونها

ما ثم غير قط في الأعيان

الشرح : هذا تفريع على مذهب التلمساني القائل بأن الكثرة وهم وما ثم إلا شيء واحد فيكون الضيف وما قدم له من القرى شيئا واحدا. وان حسب الوهم أن هاهنا شيئين آكلا ومأكولا ويكون كذلك الموطوء عين الواطئ وان تخيلهما الوهم اثنين ومهما يكن من فرق بين هذه الأقوال الثلاثة فهي جد متقاربة لأن جوهرها واحد ، ولهذا قال الشيخ رحمه‌الله ولربما قالا أي ابن عربي وابن سبعين مقالة هذا التلمساني في ابطال الكثرة كما قد قال هو قولهما بلا فارق أصلا.

ثم ذكر الشيخ مذهبا رابعا أشار إليه بقوله وأبى سواهم ذا : أي سوى هؤلاء الثلاثة ، هذا الذي قالوه ، وذهب إلى أن هذه الموجودات انما هي مظاهر وتجليات لشيء واحد وهذه المظاهر ذات توحد : أي انفراد ومثان : أي تعدد ، وهذه العبارات التي نطق بها أصحاب وحدة الوجود مهما اختلفت وتنوعت فإن مضمونها شيء واحد وهو أنه ما ثم غير الله في هذا الوجود ، فسواء جعلت الكثرة أجزاء له أو أنواعا أو قلت أنها وهم ، أو جعلتها مظاهر وتجليات فالمآل واحد وهو أنه ما ثم إلا وجود واحد.

* * *

فالقوم ما صانوه عن انس ولا

جن ولا شجر ولا حيوان

٦٣

كلا ولا علو ولا سفل ولا

واد ولا جبل ولا كثبان

كلا ولا طعم ولا ريح ولا

صوت ولا لون من الألوان

لكنه المطعوم والملبوس وال

مشموم والمسموع بالآذان

وكذلك قالوا أنه المنكوح وال

مذبوح بل عين الغوي الزاني

الشرح : هذا بيان لما يترتب على تلك المقالة الفاسدة من أنواع الكفر والضلال التي لا تخفى على أحد. فإنه إذا لم يكن ثم إلا وجود واحد لبس هذه الصور والتعينات المختلفة التي لا بد له منها في بروزه وتجليه ولا بد لها منه لأنه عين حقيقتها لزم أن يكون الله تعالى وتقدس هو الأشياء جميعا بما فيها متقابلات ومتضادات ، فالقوم ما صانوا ربهم ولا نزهوه عن أن يكون هو الانس والجن والشجر والحيوان ، ولا أن يكون هو العلو والسفل والوديان والجبال والكثبان ولا أن يكون هو الطعوم والروائح والأصوات والألوان ، ولا أن يكون هو المطعوم والملبوس والمشموم والمسموع بالآذان ، بل قالوا أنه المنكوح والمذبوح بل عين الغوي الزاني.

* * *

والكفر عندهم هدى ولو أنه

دين المجوس وعابدي الأوثان

وقالوا ما عبدوا سواه وإنما

ضلوا بما خصوا من الأعيان

ولو انهم عموا وقالوا كلها

معبودة ما كان من كفران

فالكفر ستر حقيقة المعبود بال

تخصيص عند محقق رباني

قالوا ولم يك كافرا في قوله

أنا ربكم فرعون ذو الطغيان

بل كان حقا قوله اذ كان عي

ن الحق مضطلعا بهذا الشأن

ولذا غدا تطهيره في البحر تط

هيرا من الأوهام والحسبان

الشرح : يرى أصحاب وحدة الوجود أن الأديان كلها حق ، وأن المجوس عبدة النار والمشركين عابدي الأوثان وغيرهم ليسوا كفارا ولا ضلالا ، بل مذاهبهم هي عين الهدى والإيمان ، لأنهم حين عبدوا النار والحجارة والصلبان وأنواع الحيوان ما عبدوا إلا الله عزوجل.

٦٤

فإذا كان الله عزوجل قد تجلى بذاته لذاته في جميع هذه الصور والمتعينات فالهدى والإيمان في زعم هؤلاء المارقين أن تعبد وتعظم جميعا.

قالوا : وإنما ضل من ضل وكفر من كفر بتخصيص بعض هذه المظاهر بالعبادة دون بعض ، فالكفر عندهم ليس هو عبادة غير الله ، اذ ليس هناك غير ، ولكنه ستر حقيقة المعبود بتخصيص بعض مجاليه بالعبادة دون البعض الآخر. وحكموا بإيمان فرعون وقالوا أنه كان يشاهد عين الحقيقة حين قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] ولم يكن كاذبا في دعواه أنه هو الله ، بل كان في أعلى مقامات التوحيد ، ولذا كان أغراقه في البحر تطهيرا له من توهم الغيرية وحسبان الاثنينية.

* * *

قالوا ولم يك منكرا موسى لما

عبدوه من عجل لذي الخوران

الا على من كان ليس بعابد

معهم وأصبح ضيق الأعطان

ولذاك جر بلحية الأخ حيث لم

يك واسعا في قومه لبطان

بل فرق الانكار منه بينهم

لما سرى في وهمه غيران

الشرح : كما افترى هؤلاء المارقين الكذب في شأن فرعون وخالفوا فيه صريح القرآن الذي نطق بموته على الكفر ، وأنه لم ينفعه إيمانه حين أدركه الغرق وأن الله إنما نجاه ببدنه ليكون عبرة مائلة للأجيال من بعده ، وأن الله أخذه نكال الآخرة والأولى ، كذلك كذبوا في شأن موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ، فزعموا أن موسى عليه‌السلام لم يلم قومه على عبادة العجل ولم ينكرها عليهم ، وأنما كان انكاره على من تحرج عن عبادته وضاق بها صدره ، ولذلك أخذ بلحية أخيه يجره إليه حيث لم يتسع صدره لما فعله قومه ، وأخذ ينكر عليهم ويحذرهم مغبة ذلك وسوء عاقبته ، ويقول لهم : يا قوم انما فتنتم به وأن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري.

٦٥

قالوا وانما وقع ذلك الانكار من هارون على قومه لما سرى في خاطره من معنى الغيرية ، وكانوا هم أعلم منه بالحقيقة ، حيث لم يشاهدوا الا الله وقت عبادتهم العجل (١). فانظر إلى كذب هؤلاء الدجاجلة المارقين حيث جعلوا الضلال هدى ، ونسبوا الى كليم الله موسى الرضي بعبادة غير الله ، وجعلوا عبدة العجل أعلم بالله من نبي الله ورسوله هارون ، كما جعلوا فرعون آنفا أعلم بالحق من موسى الكليم.

* * *

ولقد رأى إبليس عارفهم فأه

وى بالسجود هوي ذي خضعان

قال له ما ذا صنعت فقال هل

غير الاله وانتما عميان

ما ثم غير فاسجدوا أن شئتم

للشمس والأصنام والشيطان

فالكل عين الله عند محقق

والكل معبود لذي العرفان

هذا هو المعبود عندهم فقل

سبحانك اللهم ذا السبحان

يا أمة معبودها موطوؤها

أين الاله وثغرة الطعان

يا أمة قد صار من كفرانها

جزء يسير جملة الكفران

الشرح : يعني أن عارف هؤلاء الجاهلين وهو ابن عربي رأس الالحاد وأمام الزندقة رأى ابليس في زعمه فهوى بالسجود له في ذلة وخضوع ، فلما أنكر عليه صاحباه ذلك الصنيع قال لهما موبخا : وهل غير الإله رأيت ، أم قد عميت منكم العينان ليس هناك غير قط ، فاسجدوا أن شئتم للشمس أو للأصنام ، أو للشيطان ، فإن الكل عين الحق والكل أهل للعبادة لشهود الحق فيه ، عند أهل المعرفة.

__________________

(١) يقول ابن عربي في نصوصه «وكان موسى أعم بالأمر من هارون ، لأنه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه بأن الله قد قضى أن لا يعبد الا اياه ، وما حاكم الله بشيء الا وقع ، فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع في الأمر من انكاره وعدم اتساعه ، فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء».

٦٦

ثم قال الشيخ بعد ذكر ضلالة هؤلاء الملاحدة : هذا هو المعبود عند هؤلاء السفهاء الحمقى فسبح ربك أيها المؤمن ونزهه عما يقول الجاهلون ثم ناداهم الشيخ مسفها وموبخا ، يا أمة معبودها موطوءها ، أين الاله من ثغرة الطغيان ، يا أمة قد صار جميع أنواع الكفر والضلال ، جزءا يسيرا من كفرها وضلالها.

* * *

فصل

في قدوم ركب آخر

وأتى فريق ثم قال وجدته

بالذات موجودا بكل مكان

هو كالهواء بعينه لا عينه

ملأ الخلاء ولا يرى بعيان

والقوم ما صانوه عن بئر ولا

قبر ولا حش ولا أعطان

بل منهم من قد رأى تشبيهه

بالروح داخل هذه الأبدان

ما فيهم ما قال ليس بداخل

أو خارج عن جملة الأكوان

لكنهم حاموا على هذا ولم

يتجاسروا من عسكر الإيمان

وعليهم رد الأئمة أحمد

وصحابه من كل ذي عرفان

فهم الخصوم لكل صاحب سنة

وهم الخصوم لمنزل القرآن

ولهم مقالات ذكرت أصولها

لما ذكرت الجهم في الأوزان

الشرح : بعد أن فرغ المؤلف من ذكر مقالة ابن عربي وأضرابه من القائلين بمذهب وحدة الوجود شرع في بيان مقالة الحلولية ، وينبغي أن يعلم أن أصحاب الحلول فريقان : فريق يقول بالحلول الخاص في بعض أفراد البشر ، كما ذهب إليه النصارى في عيسى عليه‌السلام ، حيث زعموا أن اللاهوت وهو الله حل في الناسوت ، أي في جسد عيسى وكما ادعاه في الاسلام السبأية أتباع عبد الله بن سبأ الذي قال هو وأتباعه بألوهية علي رضي الله عنه ، وقد حرقهم علي بالنار ، وكذلك الخطابية في جعفر الصادق ، وكان الحسين بن منصور الحلاج يزعم أن الله حل فيه ، ويقول في بعض شعره :

٦٧

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا

فإذا ما أبصرتني أبصرته

واذ ما أبصرته ابصرتنا

وكان يرى قبحه الله أن الانسان إذا بلغ درجة من الصفاء والمحبة بالرياضة والمجاهدة فإنه يكون أهلا لان يحل الله فيه ، ومن شعره في ذلك :

سبحان من أظهر ناسوته

سر سنا لاهوته الثاقب

ثم بدا في خلقه ظاهرا

في صورة الآكل والشارب

حتى لقد عاينه خلقه

كلحظك الحاجب بالحاجب

وقد أفتى علماء عصره بردته ووجوب قتله حين ظهر بتلك المقالة الشنيعة ، فقتل لعنه الله.

وأما الفريق الثاني من القائلين بالحلول ، وهم الذين تعرض المؤلف لذكر مذهبهم هنا فيرون أن الله عزوجل حال بذاته في كل جزء من أجزاء العالم ، بحيث لا يخلو منه مكان ، ويشبهونه ـ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ـ بالهواء الذي يملأ الخلاء ، ومع ذلك لا يراه أحد ، ومنهم من يقول : أن هذا العالم جسم كبير ، والله عزوجل هو الروح الكامنة في هذا الجسم المدبرة له ، فهو سار في جميع أجزائه ، كحلول الروح في البدن الانساني والحيواني.

وقد رد المؤلف على هؤلاء الحلوليين بأنهم حكموا على ربهم بالحلول في الأماكن القذرة ، كالآبار والقبور والحشوش والأعطان ، وبين أن هذا المذهب غير مذهب المعطلة الذين نفوا عن الله الجهة والحيز ، وقالوا أنه لا داخل العالم ولا خارجه ، وأن هؤلاء الحلولية قد حاموا حول ذلك القول ، ولكنهم لم يجرءوا على إظهاره خوفا من عسكر الإيمان ، وهم أهل السنة والجماعة وقد رد عليهم الامام أحمد وغيره بما بين فساد مقالتهم وشناعة نحلتهم.

ولا شك أن هؤلاء الحلولية خصوم ألداء لأهل السنة والجماعة الذين ينزهون ربهم عزوجل أن يكون حالا في شيء من أجزاء العالم ، ويؤمنون بأنه سبحانه

٦٨

فوق سماواته مستو على عرشه بائن من خلقه كما أخبر هو عن نفسه.

* * *

فصل

في قدوم ركب آخر

وأتى فريق ثم قارب وصفه

هذا ولكن جد في الكفران

فأسر قول معطل ومكذب

في قالب التنزيه للرحمن

اذ قال ليس بداخل فينا ولا

هو خارج عن جملة الأكوان

بل قال ليس ببائن عنها ولا

فيها ولا هو عينها ببيان

كلا ولا فوق السموات العلى

العرش من رب ولا رحمن

والعرش ليس عليه معبود سوى الع

دم الذي لا شيء في الأعيان

بل حظه من ربه حظ الثري

منه وحظ قواعد البنيان

لو كان فوق العرش كان كهذه ال

أجسام سبحان العظيم الشأن

الشرح : هذا بيان لمذهب الجهمية المعطلة الذين حكى الشيخ مقالتهم فيما سبق وهو مقارب لمذهب الحلول السابق ، ولكنه أوغل منه في الكفر حيث أنه قائم على التعطيل لصفات الرب والتكذيب بالنصوص الصريحة المثبتة لها من الكتاب والسنة ومع ذلك يصوغه أصحابه في قالب التنزيه تمويها على قصار النظر فيقولون ما أردنا بنفي الصفات الا تنزيهه عن مشابهة المخلوقات ، وهم مع ذلك يصفونه بصفات المعدوم الممتنع فيقولون لا هو داخل العالم ولا خارج العالم ، ولا يقال له متصل ولا منفصل ولا قريب ولا بعيد ، وليس هو في حيز ولا جهة فالجهات والأمكنة كلها بالنسبة إليه سواء فليس الفوق أولى به من التحت ولاحظ العرش منه أكثر من حظ الأرض السابعة السفلى ، أو قواعد البنيان ، وحقيقة قولهم أنه ليس فوق السموات العلى والعرش رب ولا رحمن ، بل ليس فوقه الا العدم المحض الذي لا حقيقة له في الخارج.

٦٩

ويزعمون أن القول باستوائه على العرش يستلزم أن يكون في جهة وأن يكون العرش حيزا له ، وذلك من صفات الأجسام تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا؟

* * *

ولقد وجدت لفاضل منهم مقا

ما قامه في الناس منذ زمان

قال اسمعوا يا قوم أن نبيكم

قد قال قولا واضح البرهان

لا تحكموا بالفضل لي أصلا على

ذي النون يونس ذلك الغضبان

هذا يرد على المجسم قوله

الله فوق العرش والأكوان

ويدل أن إلهنا سبحانه

وبحمده يلقى بكل مكان

قالوا له بين لنا هذا فلم

يفعله فأعطوه من الأثمان

الفا من الذهب العتيق فقال في

تبيانه فاسمع لذا التبيان

قد كان يونس في قرار البحر تح

ت الماء في قبر من الحيتان

ومحمد صعد السماء وجاوز ال

سبع الطباق وجاز كل عنان

وكلاهما في قربه من ربه

سبحانه إذ ذاك مستويان

فالعلو والسفل اللذان كلاهما

في بعده من ضده طرفان

أن ينسبا لله نزه عنهما

بالاختصاص بلى هما سيان

في قرب من أضحى مقيما فيهما

من ربه فكلاهما مثلان

فلأجل هذا خص يونس دونهم

بالذكر تحقيقا لهذا الشأن

فأتى الثناء عليه من أصحابه

من كل ناحية بلا حسبان

الشرح : أورد الشيخ هنا هذه الحكاية التي تدل على جهل ذلك الجهمي وعدم بصره بمواقع الاستدلال ، فقد أراد أن يستدل بقوله عليه‌السلام «لا تفضلوني على يونس بن متى» على أنه ليس فوق العرش إله ، وأن محمدا لم يكن وهو فوق السبع الطباق باقرب إلى الله من يونس وهو في جوف الظلمات وهو استدلال فاسد ، فان نهيه عليه‌السلام أمته عن تفضيله على يونس لم ينف أنه أفضل منه في الواقع ، وهذا النهي عن التفضيل لا صلة له بالقرب والبعد ، وأنما هو إرشاد

٧٠

لأمته أن يتأدبوا في حق الأنبياء ، وأن لا يفضلوا أحدا منهم بخصوصه على آخر بخصوصه وان كان المفضل هو محمد ، والمفضل عليه هو يونس عليهما الصلاة والسلام ، وانما خص يونس بالذكر لأن بعض الأوهام قد يسبق إليها هبوط درجته عليه‌السلام عن اخوانه من المرسلين حيث أخبر الله عزوجل عنه : انه التقمه الحوت وهو مليم أي فاعل ما يلام عليه ، وقال في حقه : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٧] على أن الحديث بهذا اللفظ لم يروه أحد من أهل الكتب التي يعتمد عليا ، وانما اللفظ الذي في الصحيح «لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» وفي رواية «من قال أني خير من يونس بن متى فقد كذب».

ومعلوم أنه ليس في هذه الروايات تعرض للمفاضلة بين محمد وبين يونس عليهما‌السلام ، ولا نهي للمسلمين أن يفضلوا محمدا على يونس ، بل هو نهي عام لكل أحد أن يفضل ويفتخر على يونس ، وهل يقول من له ذرة من عقل ، ولمحة من ايمان ان مقام الذي أسرى به إلى ربه وهو مقرب معظم مكرم كمقام الذي القي في بطن الحوت وهو مليم ـ واين المعظم المقرب من الممتحن المؤدب ، ولو جاز أن يتخذ من مثل ذلك الحديث دليلا على نفي علوه تعالى على خلقه فهل يقوى مثله في احتماله وبعد الاستدلال به أن يقاوم الأدلة الصريحة القطعية من الكتاب والسنة والعقل والفطرة على علوه تعالى والتي بلغت من الكثرة أن زادت على ألف دليل.

فانظر إلى حال الجهمي الجاهل الذي يتجرأ على الناس بسخافة حمقاء ، ثم أنظر إلى قبولهم ذلك منه ، وفرحهم به وبجهلهم وقلة علمهم بكلام الله وكلام رسوله فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيرا من خلقه ، وهدانا صراطه المستقيم.

* * *

٧١

فاحمد إلهك أيها السني اذ

عافاك من تحريف ذي بهتان

والله ما يرضى بهذا خائف

من ربه أمسى على الايمان

هذا هو الالحاد حقا بل هو التح

ريف محضا أبرد الهذيان

والله ما بلي المجسم قط بمثل ذ

ي البلوى ولا أمسى بذي الخذلان

أمثال ذا التأويل أفسد ه

ذه الأديان حين سرى الى الأديان

والله لو لا الله حافظ دينه

لتهدمت منه قوى البنيان :

الشرح : بعد أن حكى المؤلف هذه الأكذوبة التي تفتق عنها ذهن ذلك الجهمي المارق ، والتي تدل على مبلغ جعل الجهمية وضلالهم حيث أنكروا أن يكون بعض العباد والمخلوقات أقرب إلى الله من بعض ، وزعموا أن جميع الجهات والأمكنة بالنسبة إليه سواء ، توجه إلى كل معتصم بالسنة وعقيدة السلف أن يحمد الله الذي عافاه من تحريف هؤلاء الكذابين ، وأخبر أنه لا يرضى بمثل هذا التحريف والتعطيل الا قلب فارقه الخوف من مولاه وبات على غير ايمان به ، والا لما اجترأ على القول بتلك الشناعات في حق الله عزوجل التي هي محض الالحاد وعين التحريف والهذيان ، ثم أخبر أن المجسمة الذين يدعي الجهم وأصحابه الفرار من الوقوع في تجسيمهم بالتأويل ما ابتلوا قط بمثل هذي البلوى التي هي تأويل الجهمي ، ولا خذلوا هذا الخذلان الشنيع وأن أمثال هذه التأويلات الفاسدة هي التي أفسدت الأديان حين سرت إليها ، وقد وجد في اليهودية والنصراني جهمية كهذا الجهم الذي أصيب به الإسلام حرفوا التوراة والإنجيل وتناولوهما بالتغيير والتبديل حتى أفسدوا هاتين الديانتين على أهلهما ، كما حاول الجهم افساد الإسلام على أهله ، ولو لا أن الله حافظ دينه وكتابه لكانت بدعة الجهم ومقالاته سببا في هدم بنيان هذا الدين وتصدع أركانه.

* * *

فصل

وأتى فريق ثم قارب وصفه

هذا وزاد عليه في الميزان

٧٢

قال اسمعوا يا قوم لا تلهيكم

هذي الأماني هن شر أماني

أتعبت راحلتي وكلت مهجتي

وبذلت مجهودي وقد أعياني

فتشت فوق وتحت ثم أمامنا

ووراء ثم يسار مع أيمان

ما دلني أحد عليه هناكم

كلا ولا بشر إليه هداني

إلا طوائف بالحديث تمسكت

تعزي مذاهبها إلى القرآن

الشرح : بعد أن فرغ الشيخ من ذكر مذهب الجهمية أهل التعطيل والالحاد شرع في بيان ما جره هذا المذهب من انسلاخ طائفة كبيرة من النظار من الدين جملة ونزوعهم إلى الزندقة والانحلال ، فانهم فتشوا فوجدوا أن مذاهب الجهمية والمتكلمين متضاربة متناقضة ينفون الشيء ويثبتون نظيره ، ويقطعون بالشيء في موضع وبضده في موضع آخر ، فشكوا فيها جميعا ولم يطمئنوا إلى صحتها. ثم نظروا في مذاهب أهل السنة والجماعة فوجدوها محكمة مطابقة لما جاء به الكتاب الحكيم والسنة المطهرة فأعجبوا بها وكادوا يدخلون في أهلها لو لا أنهم رأوا الجهم وأصحابه يرمونهم بأشنع الألقاب ، ويتهمونهم بالتشبيه والتجسيم تنفيرا للناس من أتباعهم. فحار هؤلاء بين الفريقين ، ولم يجدوا بدا من نبذ ذلك كله والعيش في هذه الدنيا كالبهائم ، بلا عقيدة ولا دين.

والآن فلنسمع إلى الشيخ يحكي لنا على لسان رائد هذه الجماعة وهو يقول لهم : يا قوم ان سعيكم هذا في ضلال ، وإن ما تطلبونه مستحيل المنال ، فلا تشغلنكم هذه الأماني الكواذب ، فهن شر أماني ، لقد أتعبت راحلتي ، مغذا السير ، حتى كلت مهجتي ونفدت قوتي ، ومع ذلك أعياني الوصول إليه ، لقد بحثت عنه في جميع الجهات الست ، فما وجدت أحدا دلني على وجوده ولا هداني إلى معرفته ، اللهم إلا جماعة تمسكوا بصحاح الأحاديث ، وانتسبت مذاهبهم إلى القرآن ، فهم الذين يبشرون بوجوده ويدلون عليه كل طالب للوصول إليه.

* * *

قالوا الذي تبغيه فوق عباده

فوق السماء وفوق كل مكان

٧٣

وهو الذي حقا على العرش استوى

لكنه استولى على الأكوان

وإليه يصعد كل قول طيب

وإليه يرفع سعي ذي الشكران

والروح والأملاك منه تنزلت

وإليه تعرج عند كل أوان

وإليه أيدي السائلين توجهت

نحو العلو بفطرة الرحمن

وإليه قد عرج الرسول فقدرت

من قربه من ربه قوسان

الشرح : يعني أن أهل السنة والجماعة قالوا لهذا السائل أن الذي تطلبه وتجد في البحث عنه ، وتقول انك لم تجده في واحدة من الجهات الست هو في جهة الفوق ، فهو العلي بذاته فوق عباده ، وفوق السموات السبع ، وفوق كل مكان من أمكنة هذا العالم الوجودية ، وهو هناك مستو على عرشه استواء حقيقيا بمعنى العلو والارتفاع ، لا كما يزعم الجهم وأتباعه من أن معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه عليه ، فإنه لا معنى لتخصيص العرش بذلك ، اذ هو سبحانه مستول على جميع الأكوان التي من جملتها العرش ، وإليه هناك يصعد كل قول طيب ، ويرفع كل عمل صالح ، كما قال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] ومن عنده تتنزل الملائكة والروح وإليه تعرج في كل الآنات وفي جميع الأوقات ، كما قال تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج : ٤] وهو الذي إليه تمتد أيدي السائلين بالطلب في الدعاء ، متجهة نحو العلو بفطرة الله الذي فطرها على رفع الأكف في الدعاء ، وهو الذي عرج إليه الرسول صلوات الله وسلامه عليه ليلة الإسراء ، وتجاوز السبع طباق ، وتناهى في القرب منه ، حتى كان قاب قوسين أو أدنى ...

* * *

وإليه قد رفع المسيح حقيقة

ولسوف ينزل كي يرى بعيان

وإليه تصعد روح كل مصدق

عند الممات فتنثني بأمان

وإليه آمال العباد توجهت

نحو العلو بلا تواصي ثان

٧٤

بل فطرة الله التي لم يفطروا

ألا عليها الخلق والثقلان

ونظير هذا أنهم فطروا على

اقرارهم لا شك بالديان

لكن أولو التعطيل منهم أصبحوا

مرضى بداء الجهل والخذلان

الشرح : هذه من جملة كلام أهل السنة والجماعة في اثبات الفوقية لله عزوجل على الحقيقة ، حيث أخبر سبحانه أنه رفع عيسى عليه‌السلام إليه بجسده وروحه حيا ، كما قال تعالى: (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥] وكما قال : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النساء : ١٥٧ ، ١٥٨] فإضافة الرفع إلى ضمير عيسى عليه‌السلام في الآيتين يدل على أنه رفع كله ويرد على من زعم أن الرفع إنما هو لروحه وحدها ، وأن جسده قد مات ودفن ، وهو زعم باطل ، فإنه لا يظهر حينئذ لتخصيص عيسى عليه‌السلام بذلك الرفع معنى ، إذ كل ميت هو كذلك ترفع روحه إلى السماء ، وقد ورد في الحديث الصحيح أن عيسى سينزل قرب قيام الساعة ، وأنه سيقتل المسيح الدجال ويكسر الصليب ويضع الجزية على أهل الكتاب ، وتمتلئ الدنيا في عهده خيرا وعدلا.

وكذلك ورد الحديث بأن أرواح المؤمنين تعرج بها ملائكة الرحمة حتى تمثل بين يدي الله عزوجل فيبشرها بما أعد لها من نعيم فترجع آمنة مطمئنة.

وهو سبحانه كذلك الذي تتجه إليه آمال عباده نحو العلو دون أن يوصي بعضهم بعضا بذلك ، بل فطرة فطرهم الله عليها كما فطرهم على الاقرار بوجوده ، لكن أهل التعطيل قد فسدت فطرهم فجحدوا هذه الضرورات التي يجدها الناس من أنفسهم بالتوجه دائما في الدعاء والرجاء نحو العلو ، وأصبحوا مرضى بداء الجهل والخذلان ، أعاذنا الله مما ابتلاهم به بمنه وكرمه.

* * *

فسألت عنهم رفقتي وأحبتي

أصحاب جهم حزب جنكيز خان

٧٥

من هؤلاء ومن يقال لهم فقد

جاءوا بأمر مالئ الآذان

ولهم علينا صولة ما صالها

ذو باطل بل صاحب البرهان

أو ما سمعتم قولهم وكلامهم

مثل الصواعق ليس ذا لجبان

جاءوكم من فوقكم وأتيتم

من تحتهم ما أنتم سيان

جاءوكم بالوحي لكن جئتم

بنحاتة الأفكار والأذهان

الشرح : لما سمع هذا السائل الذي خرج يرتاد لقومه عقيدة يدينون بها كلام أهل السنة والجماعة في إثبات صفة العلو لله عزوجل ، وأنه فوق العرش بذاته ، أعجب أيما اعجاب بقوة كلامهم ووضوحه ، وامتلأت به نفسه ، فذهب يسأل عنهم رفقاءه وأهل هواه من أصحاب جهم ، وحزب ذلك القائد المغولي الجبار ، المسمى بجنكيزخان ، والمراد بهم نصير الدين الطوسي وأمثاله من أذناب المتفلسفة ، فقال لهم من هؤلاء وبما ذا يسمون ، فإنهم قد جاءوا بأمر عجيب يملأ الآذان والقلوب روعة وجلالا ولهم علينا صولة لا يمكن أن يصولها ذو باطل بل لا تكون إلا لصاحب الحجة والبرهان ، فهذه أقوالهم وحججهم يرسلونها علينا مثل الصواعق المحرقة في غير جبن ولا خور ، وشتان بين كلامنا وكلامهم ، فانهم يجيئوننا من فوقنا بالوحي المبين والنصوص الصريحة من الكتاب والسنة ، ونحن نجيئهم من تحتهم بنفاية الأفكار وكناسة الأذهان ، ومن ذا الذي يسوي بين مستمسك بالوحي المعصوم وبين خابط في دياجير الجهالة ومتاهات الظنون.

* * *

قالوا مشبهة مجسمة فلا

تسمع مقال مجسم حيوان

والعنهم لعنا كبيرا واغزهم

بعساكر التعطيل غير جبان

واحكم بسفك دمائهم وبحبسهم

أو لا فشردهم عن الأوطان

حذر صحابك منهم فهم أضل

من اليهود وعابدي الصلبان

واحذر تجادلهم بقال الله أو

قال الرسول فتنثني بهوان

أني وهم أولى به قد أنفذوا

فيه قوى الأذهان والأبدان

٧٦

فإذا ابتليت بهم فغالطهم على التأ

ويل للأخبار والقرآن

وكذاك غالطهم على التكذيب لل

آحاد ذان لصحبنا أصلان

الشرح : سأل هذا السائل رفقاءه وأهل محبته عن رأيهم في أهل السنة والجماعة وبما ذا يسمونهم ، فقالوا ـ قبحهم الله ـ انهم مشبهة يشبهون الله عزوجل بخلقه ، حيث يثبتون له من الصفات ما هو موجود في المخلوقات ، وهم كذلك مجسمة يقولون ان الله فوق العرش بذاته ، فيثبتون له المكان والحيز الذي هو من خصائص الأجسام ، وقالوا له إياك أن تسمع لقولهم أو تصيخ لآرائهم ، بل يجب أن تمقتهم وأن تقابل جيوشهم من النصوص بعساكر التعطيل غير هياب ولا وجل ، وعليك أن تتبع معهم احدى ثلاث خصال ، فأما أن تسفك دماءهم كما تسفك دماء الكفرة والمشركين ، أو تحبسهم حتى يرجعوا عن قولهم ويفيئوا إلى حكم العقل ، وإلا فانفهم عن الأوطان واسترح من شرهم ، وحذر أصحابك من اتباعهم ، فإنهم أضل من اليهود والنصارى.

ثم إياك إياك أن تجادلهم بما هم أعلم به منك وأمهر فيه وهو قال الله ، وقال الرسول فترجع مغلوبا مقهورا ، وكيف تجادلهم بالوحي الذي هم أحق به وقد أفنوا فيه عصارة أذهانهم وقوى أبدانهم ، بل إذا ابتليت بشيء من ذلك فلا مخلص لك إلا اللجوء إلى المغالطة ، فإن كان النص متواترا لا يمكن رده فغالطه على التأويل له وقل لهم انه مصروف عن ظاهره إلى معنى آخر ، فإن سألوك عن القرينة التي أوجبت ذلك الصرف فقل لهم حكم العقل باستحالة ذلك المعنى على الله. وأما ان كان الخبر آحادا فما عليك إلا أن تكذب به وتنكر ثبوته أو تدعي أنه لا يفيد إلا الظن فلا يقبل في باب الاعتقاد.

هذان هما الأصلان اللذان بنى عليهما المعطلة دفعهم للنصوص التي يرون فيها مصادمة لقضايا عقولهم الفاسدة وأوهامهم الكاذبة.

* * *

أوصى بها أشياخنا أشياخهم

فاحفظهما بيديك والأسنان

٧٧

وإذا اجتمعت وهم بمشهد مجلس

فابدر بإيراد وشغل زمان

لا يملكوه عليك بالآثار وال

أخبار والتفسير للفرقان

فتصير ان وافقت مثلهم وان

عارضت زنديقا أخا كفران

وإذا سكت يقال هذا جاهل

فابدر ولو بالفشر والهذيان

هذا الذي والله أوصانا به

أشياخنا في سالف الأزمان

الشرح : يعني أن هذا التأويل لظواهر النصوص المتواترة والتكذيب بالآحاد منها هو الذي أوصى به شيوخ المعطلة أتباعهم ، فعليك أن تعض عليهما بالنواجذ وإذا اجتمعت بهؤلاء المثبتة أهل النصوص والآثار وضمك وإياهم مجلس ، فإياك أن يسبقوك إلى الكلام بل بادرهم بإيراد مسألة أو إلزام تشغل به الوقت حتى لا يملكوه عليك بإيراد الآثار والاخبار والتفسير لآيات الكتاب وحينئذ تكون بين أمرين ، أحلاهما مر. فإما أن توافقهم فتصير مثلهم في التشبيه والتجسيم ، أو تخالفهم فترمى بالزندقة والكفر ، وإذا سكتت ولم تقل شيئا نسبت إلى الجهل وقلة العلم ، فبادرهم إذا بأي كلام ولو بالفشر ، يعني بالكذب. والهذيان الكلام الذي فيه تخليط واضطراب ، وهذا الذي أوصيناك به هو والله الذي أوصانا به أشياخنا في سالف الأزمان.

* * *

فرجعت من سفري وقلت لصاحبي

ومطيتي قد آذنت بحران

عطل ركابك واسترح من سيرها

ما ثم شيء غير ذي الأكوان

لو كان للأكوان رب خالق

كان المجسم صاحب البرهان

أو كأن رب بائن عن ذي الورى

كان المجسم صاحب الإيمان

ولكان عند الناس أولى الخلق بال

اسلام والإيمان والاحسان

ولكان هذا الحزب فوق رءوسهم

لم يختلف منهم عليه اثنان

الشرح : يقول ذلك الرائد الأحمق اني بعد أن طوفت بين أهل المذاهب فسمعت كلام أهل السنة والجماعة ، ثم سمعت كلام رفقتي من أصحاب جهم

٧٨

فيهم شككت في المذهبين جميعا ورجعت من سفري بخيبة واخفاق قلت لصاحبي ، وقد كلت دابتي من السير حتى أعلمت بحرانها وامتناعها عن المسير عطل ركابك واسترح من سيرها فإنه لا حاجة بك إلى كثرة التجوال وطول الكلام فقد جئتك من هناك بالخبر اليقين وهو أنه لا شيء وراء هذه الأكوان.

ثم أخذ يدلل على قضيته الخاسرة ، فقال لو كان للأكوان رب خالق موجود لكان مذهب المجسمة هو أصح المذاهب وأقواها برهانا وأولاها بالقبول ، فإن القول بوجوده يقتضي أن يكون ذلك الوجود متحققا في جهة ولما استحال القول بوجوده داخل هذا العالم لما يلزم عليه من أن تكون الحوادث ظرفا له محيطة به فلا بد من القول بأنه بائن عن الورى منفصل عنهم ، أما القول بأنه موجود لا في مكان وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه ، فإنه ينطوي على التناقض كأنه قيل هو موجود معدوم ، فالحكم بوجود رب خالق للعالم بائن عنه يقتضي انتصار مذهب التجسيم ، وأن يكون أهله أحق الناس بالإسلام والإيمان والإحسان وأن يكون حزبهم هو الأعز الأغلب فوق رءوس المذاهب جميعا.

* * *

فدع التكاليف التي حملتها

واخلع عذارك وارم بالأرسان(١)

ما ثم فوق العرش من رب ولم

يتكلم الرحمن بالقرآن

لو كان فوق العرش رب ناظر

لزم التحيز وافتقار مكان

لو كان ذا القرآن عين كلامه

حرفا وصوتا كان ذا جثمان

فإذا انتفى هذا وهذا ما الذي

يبقى على ذا النفي من إيمان

فدع الحلال مع الحرام لأهله

فهما السياج لهم على البستان

فاخرقه ثم ادخل ترى في ضمنه

قد هيئت لك سائر الألوان

وترى بها ما لا يراه محجب

من كل ما تهوى به زوجان(٢)

__________________

(١) جمع رسن وهو الحبل الذي تشد به الدابة.

(٢) والزوجان مفرده زوج والمراد به الصنف.

٧٩

واقطع علائقك التي قد قيدت

هذا الورى من سالف الأزمان

لتصير حرا لست تحت أوامر

كلا ولا نهي ولا فرقان

الشرح : يقول هذا الرائد الاحمق لصاحبه : إذا كان الإيمان برب خالق للأكوان بائن عنها جميعا لا يتأتى إلا على مذهب هؤلاء المجسمة وكان مذهب المعطلة غير معقول حيث يفرضون وجوده ، ثم يصفونه بصفات المعدوم فالواجب هو التخلص من هذه المذاهب جميعا فاطرح عنك هذه التكاليف التي أثقلت كاهلك ، واخلع عنك عذار الحياء والحشمة ، وألق بهذه القيود التي منعتك من الحركة والانطلاق فليس هناك فوق العرش رب يخاف أو يرجى ولم يتكلم الرحمن بالقرآن كما يدعي أهل السنة إذ لو كان فوق العرش بذاته للزم تحيزه وشغله قدرا من الفراغ ولزم كذلك احتياجه إلى المكان الذي يحل فيه ، ولو كان قد تكلم بالقرآن بحرف وصوت لزم أن يكون جسما إذ أن الحرف والصوت من خصائص الاجسام وإذا انتفى وجود رب فوق العرش ، وانتفى كلامه بالقرآن لم يبق مع هذا النفي شيء من إيمان ، وإذا فلنتخلص من تبعات هذا الإيمان ولندع التقيد بقيود الحلال والحرام لأهله ولنخرق هذا السياج السميك الذي يحول بيننا وبين دخول البستان ، يعني به الدنيا التي أعدت لنا فيه سائر المتع والملذات حيث نرى فيه ما لا يراه هؤلاء المقيدون ، ونجد فيه من كل ما نشتهي زوجين اثنين ولنقطع هذه العلائق التي تشدنا دائما إلى الوراء وتمنعنا من التحرر والانطلاق كما قيدت من سبقنا من الناس فنصير أحرارا لا نعيش تحت قسوة هذه الأوامر والنواهي ، ولا في ظلال هذه الاحكام التي جاء بها هذا الفرقان.

* * *

لكن جعلت حجاب نفسك اذ ترى

فوق السما للناس من ديان

لو قلت ما فوق السماء مدبر

والعرش نخليه من الرحمن

والله ليس مكلما لعباده

كلا ولا متكلما بقرآن

ما قال قط ولا يقول ولا له

قول بدا منه إلى انسان

٨٠