شرح القصيدة النونيّة - ج ١

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ١

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥
الجزء ١ الجزء ٢

هؤلاء الزائغين بفضلات قذرة وأطعمة عفنة ألقيت في احدى المزابل ، فلا يأوى إليها الا أصحاب العقول القذرة والفطرة المنتكسة.

* * *

يا قوم والله العظيم نصيحة

من مشفق وأخ لكم معوان

جربت هذا كله ووقعت في

تلك الشباك وكنت ذا طيران

حتى أتاح لي الاله بفضله

من ليس تجزيه يدي ولساني

حبر أتى من أرض حران فيا

أهلا بمن قد جاء من حران

فالله يجزيه الذي هو أهله

من جنة المأوى مع الرضوان

أخذت يداه يدي وسار فلم يرم

حتى أراني مطلع الايمان

ورأيت أعلام المدينة حولها

نزل الهدى وعساكر القرآن

ورأيت آثارا عظيما شأنها

محجوبة عن زمرة العميان

ووردت رأس الماء أبيض صافيا

حصباؤه كلآلئ التيجان

ورأيت أكوازا هناك كثيرة

مثل النجوم لوارد ظمآن

ورأيت حوض الكوثر الصافي الذي

لا زال يشخب فيه ميزابان

ميزاب سنته وقول إلهه

وهما مدى الأيام لا ينيان

والناس لا يردونه الا من الآ

لاف أفرادا ذوي ايمان

وردوا عذاب مناهل أكرم بها

ووردتم أنتم عذاب هوان

الشرح : يحكي الشيخ هنا في صورة نصيحة يقدمها الى هؤلاء الهلكى شفقة بهم ما جربه هو بنفسه من الوقوع في أسر هذه المذاهب الباطلة ، ولكنه كان أوتي من قوى التمييز والفهم ما يقدر به على التخلص من أغلال التقليد. فما أن قيض الله له شيخ الاسلام وأكرمه بصحبته حتى انفتح له باب الخلاص مما كان يعانيه فلازم هذا الحبر الرباني الجليل ملازمة الظل ، وأخذ من علمه وفضله ما لا يقدر أن يكافئه عليه بيد ولا لسان ، وهو لهذا يدعو الله أن يجزيه عنه بما يستحقه من نعيم الجنان وكريم الرضوان. فهو الذي أخذ بيده وسار فلم يتركه

٣٦١

حتى فتح عينه على مهبط الايمان ومشرق النور والعرفان. وهنالك رأى المدينة دار الهجرة قد ارتفعت أعلامها وخفقت بنودها ، والتفت من حولها طلاب الهدى وجند القرآن وشاهد من عظيم الآثار التي خلفها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحابته الأخيار ما لا يطيق رؤيته هؤلاء المحجوبون من خفافيش الظلام وعبدة الأوهام.

وورد هناك نبع الشريعة صافيا لم يختلط بما يكدره من اقذاء ، ورأى عنده من الكيزان ما قد يعد بنجوم السماء وقد أعدت لمن يرده ويطلب ريه من الظماء ، ورأى هنالك حوض الكوثر الصافي وهو علمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي تركه في أمته لا زال يصب فيه ميزابان ، ميزاب الكتاب الكريم والسنة المطهرة كما أن حوضه في الموقف يوم القيامة سيصب فيه ميزابان من نهر الكوثر الذي في الجنة ، فمن شرب من حوض علمه الصافي في الدنيا فهو الجدير أن يرد حوضه في الآخرة ، ومن صد عنه وآثر عليه هذه الموارد الآسنة فسيذاد عن حوضه ويبعد جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد ، ومن المؤسف ان الناس لا يردون حوض علمه في الدنيا من الآلاف المؤلفة الا الفرد بعد الفرد ممن هداهم الله ووفقهم وهم الذين وردوا أكرم المناهل وأعذبها ، وأما أنتم أيها المعرضون المخذولون فقد وردتم موارد العذاب المهين تبقون فيها خزايا نادمين.

* * *

فبحق من أعطاكم ذا العدل والا

نصاف والتخصيص بالعرفان

من ذا على دين الخوارج بعد ذا

أنتم أم الحشوي ما تريان

والله ما أنتم لدى الحشوي

أهلا أن يقدمكم على عثمان

فضلا عن الفاروق والصديق فض

لا عن رسول الله والقرآن

والله لو أبصرتم لرأيتم الحش

وي حامل راية الايمان

وكلام رب العالمين وعبده

في قلبه أعلى وأكبر شان

من أن يحرف عن مواضعه وأن

يقضى له بالعزل عن إيقان

ويرى الولاية لابن سينا أو أبى

نصر أو المولود من صفوان

٣٦٢

أو من يتابعهم على كفرانهم

أو من يقلدهم من العميان

يا قومنا بالله قوموا وأنظروا

وتفكروا في السر والاعلان

نظرا وان شئتم مناظرة فمن

مثنى على هذا ومن وحدان

أي الطوائف بعد ذا أدنى الى

قول الرسول ومحكم القرآن

فاذا تبين ذا فاما تتبعوا

أو تعذروا أو تؤذنوا بطعان

الشرح : يقسم عليهم بالله الذي اعطاهم ما يزعمون أنه عدل وانصاف ، وبحق من خصهم بتلك المعرفة أن يبينوا له بعد هذا الذي قدمه من الشرح والبيان أي الفريقين منهم ومن الحشوية هو على دين الخوارج وأقرب إليهم نسبا ولن يجدوا محيصا من الحكم على أنفسهم بأنهم أولى بشبه الخوارج من خصومهم فهم الذين يتهمون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدم العدل في العبارة كما اتهمه من قبلهم من الخوارج بعدم العدل في القسمة.

ثم يقسم بالله مرة ثانية أنهم ليسوا عند الحشوي أهلا لأن يقدمهم في فهم الدين على ثالث الخلفاء الراشدين عثمان ذي النورين رضي الله عنه فضلا عن أن يقدمهم على صديق الأمة أبي بكر أو فاروقها عمر رضي الله عنهما فضلا عن أن يقدمهم على سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى القرآن الكريم ، ثم يقسم ثالثة بالله أنهم لو كانوا ذوي بصر وفطنة لأدركوا أن هذا الذي يسمونه الحشوى استهزاء وسخرية هو حامل راية الإيمان لأنه هو الذي وقف عند نصوص الكتاب والسنة فلم يسمها تأويلا ولم يحرفها عن مواضعها تبديلا ، بل هي عنده أجل وأكبر من أن يتلاعب بها أو يحكم عليها بالقصور عن افادة اليقين. أو يتركها ويهملها من أجل كلام هؤلاء المارقين من أمثال أبي علي ابن سينا الذي يسمونه بالشيخ الرئيس أو أبي نصر الفارابي الملقب بالمعلم الثاني ، أو الجهم بن صفوان الترمذي رأس الضلال والفتنة ، أو من يشايعهم على كفرهم وضلالهم ، ويقلدهم تقليدا أعمى بلا نظر ولا معرفة.

ثم يدعوهم الشيخ مرة أخرى إلى أن يقوموا مثنى وفرادى ، ثم يتفكروا وينظروا في السر والعلانية ، وإن شاءوا مناظرة فليناظروا ليعرفوا أي الطوائف

٣٦٣

منهم ، ومن الحشوية هو أقرب إلى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى محكم القرآن ، فإن ظهر لهم ذلك وتبينوه فإما أن يتبعوا الحق وإما أن يقدموا عذرا عن بقائهم على ما هم عليه ، وإما أن يعلنوها حربا بينهم وبين خصومهم تفصل بينهم إذ لم تجد الحجة ولم ينفع البرهان.

* * *

(فصل في تلقيبهم أهل السنة بالحشوية

وبيان من أولى بالوصف المذموم من هذا اللقب من الطائفتين

وذكر أول من لقب به أهل السنة أم أهل البدعة)

ومن العجائب قولهم لمن اقتدى

بالوحي من أثر ومن قرآن

حشوية يعنون حشوا في الوجو

د وفضلة في أمة الإنسان

ويظن جاهلهم بأنهم حشوا

رب العباد بداخل الأكوان

إذ قولهم فوق العباد وفي السما

ء الربّ ذو الملكوت والسلطان

ظن الحمير بأن في الظرف والر

حمن محوى بظرف مكان

والله لم يسمع ندا من فرقة

قالته في زمن من الأزمان

لا تبهتوا أهل الحديث به فما

ذا قولهم تبا لذي البهتان

بل قولهم أن السموات العلى

في كف خالق هذه الأكوان

حقا كخردلة ترى في كف

ممسكها تعالى الله ذو السلطان

أترونه المحصور بعد أم السما

يا قومنا ارتدعوا عن العدوان

كم ذا مشبهة وكم حشوية

فالبهت لا يخفى على الرحمن

الشرح : ومن عجيب أمر هؤلاء الجهمية المعطلة أنهم يسمون أهل السنة والجماعة المتمسكين بنصوص الوحيين حشوية ، يعنون بذلك أنهم من حشو الناس وسقطهم فلا يعتد بكلامهم في العقيدة لأنهم لم يتعمقوا تعمقهم في التأويل ، ولا ذهبوا مذاهبهم في الإنكار والتعطيل. فكل من آمن بظواهر النصوص عندهم ،

٣٦٤

ولم يشتغل بصرفها عما تفيده من معان توهم التشبيه ، فهو حشوي بعيد عن التحقيق وليس من العلماء الراسخين ، وربما ظن الجاهل من هؤلاء الجهمية أنهم إنما سموا حشوية لأنهم جعلوا ربهم حشو هذا الكون ، أي داخله ، لأن مذهبهم يقوم على أن الله في السماء وأنه فوق العباد ، وإنما أوقعهم في هذا الجهل توهمهم أن (في) عند قولنا الله في السماء للظرف فتفيد أن الله مظروف في السماء ، وأن السماء حاوية له وهذا القول الذي نسبوه إلى الحشوية في زعمهم لم يسمع عن فرقة من فرق الإسلام أنها قالت به وذهبت إليه حتى المشبهة الذين صرحوا بالتشبيه لم يقولوا أنه محصور في السماء ولكنهم أرادوا بذلك بهت أهل الحديث بما ليس من قولهم ، فتبا لهم على سوء بهتهم وعظيم افترائهم ، بل قول أهل الحديث الذي يصرحون به دائما أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ، وأنه لا يحصره ولا يحيط به شيء من مخلوقاته ، وأن الكون كله بسماواته وأرضه في قبضة يده جل شأنه كخردلة في يد أحدنا ، فتعالى الله عما يقوله الظالمون علوا كبيرا.

وإذا عرف أن هذا هو مذهب أهل السنة والحديث ، فمن على هذا يكون محصورا في الآخر ، هو جل شأنه أم السماء؟ لا جرم أن السماء والكون كله هو المحصور المقهور تحته سبحانه. ولكن القوم لا يكفون عن عدوانهم على أهل السنة وبهتهم لا يخفى على الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وسيجزيهم عليه يوم القيامة أشد الجزاء.

المفردات : الفضلة : الشيء الزائد الذي لا يؤبه له ـ والبهت رميك غيرك بما ليس فيه ـ قولهم أي مذهبهم ، وهو مبتدأ خبره الجملة بعده.

* * *

يا قوم إن كان الكتاب

وسنة المختار حشوا فاشهدوا ببيان

أنا بحمد الهنا حشوية

صرف بلا جحد ولا كتمان

تدرون من سمت شيوخكم بهذا

الاسم في الماضي من الأزمان

سمى به ابن عبيد عبد الله ذا

ك ابن الخليفة طارد الشيطان

٣٦٥

فورثتم عمرا كما ورثوا

لعبد الله أنى يستوي الإرثان

تدرون من أولى بهذا الاسم وه

ومناسب أحواله بوزان

من قد حشا الأوراق والأذهان من

بدع تخالف موجب القرآن

هذا هو الحشوي لا أهل الحد

يث أئمة الإسلام والإيمان

وردوا عذاب مناهل السنن التي

ليست زبالة هذه الأذهان

ووردتم القلوط مجرى كل ذي ال

أوساخ والأقذار والأنتان

وكسلتم أن تصعدوا للورد من

رأس الشريعة خيبة الكسلان

الشرح : فإن كنتم معشر الجهمية تعدون التمسك بالكتاب والسنة والوقوف عند نصوصها حشوا ، فاشهدوا علينا أننا بحمد الله حشوية خالصون في الحشو لا ننكر ذلك ولا نخفيه ، ولكن هل تعلمون من الذي سمته شيوخكم بهذا الاسم في الماضي؟ أنه رجل من خيار التابعين ، هو عبد الله بن عبيد الله بن عمر أمير المؤمنين ، فهو حفيد الفاروق الذي يفر منه الشيطان ولا يمشي معه في طريق فأنتم معشر الجهمية قد ورثتم عمرو بن عبيد صاحب واصل بن عطاء الذي كان رأسا في البدعة والاعتزال ، وأما أهل السنة والحديث فقد ورثوا عبد الله هذا فكيف إذا يستوي الارثان ، وهذا إرث سنة وهدى ، وذلك إرث بدعة وضلالة.

ولكن هل تدرون أيضا من أحق الناس بهذا الاسم ومن تكون حاله مناسبة له تماما ، إنه من حشا الأوراق وسودها ، وملأ الأذهان وأفسدها بالبدع والضلالات التي تخالف مقتضى القرآن.

هذا هو الحقيق أن يسمى حشويا ، وليس أهل الحديث أئمة الهدى وأساتذة الإيمان الذين وردوا ينابيع السنن عذبة صافية غير مشوبة بزبالة الأذهان وأقذار الأفكار.

وأما أنتم فوردتم أسوأ مورد وأخبثه ، وردتم القلوط مجمع كل وسخ ونتن كسلا منكم أن تصعدوا بعقولكم ونفوسكم إلى موارد الشريعة الصافية ، ورضي منكم

٣٦٦

بالتبعية الذليلة لأصحاب هذه الأوساخ الفكرية ، فخيبة لكل متواكل كسلان.

* * *

فصل

في بيان عدوانهم في تلقيب أهل القرآن والحديث بالمجسمة

وبيان أنهم أولى بكل لقب خبيث

كم ذا مشبهة مجسمة نوا

بته مسبة جاهل فتان

أسماء سميتم بها أهل الح

ديث وناصري القرآن والإيمان

سميتموهم أنتم وشيوخكم

بهتا بها من غير ما سلطان

وجعلتموها سبة لتنفروا

عنهم كفعل الساحر الشيطان

ما ذنبهم والله إلا أنهم

أخذوا بوحي الله والفرقان

وأبوا بأن يتحيزوا لمقالة

غير الحديث ومقتضى القرآن

وأبوا يدينوا بالذي دنتم به

من هذه الآراء والهذيان

وصفوه بالأوصاف في النصين من

خبر صحيح ثم من قرآن

إن كان ذا التجسيم عندكم فيا

أهلا به ما فيه من نكران

أنا مجسمة بحمد الله لم

نجحد صفات الخالق الديان

الشرح : يتجنى أهل التعطيل على أهل الحق فينعتونهم بألقاب السوء التي هم منها براء ، فأحيانا يسمونهم مشبهة لأنهم بزعمهم لما أثبتوا الصفات قد شبهوا الله بخلقه ، وأحيانا مجسمة لأنهم لما اعتقدوا علو الله وفق خلقه فقد جعلوه جسما متحيزا حالا بالمكان ، وأحيانا يطلقون عليهم النوابت ، يعنون بذلك أنهم نبتوا في الإسلام بأقوال بدعية.

وهذه كلها أسماء سموا بها أهل الحديث وناصري القرآن والإيمان ، ما لهم عليها من حجة ولا من سلطان ، ولكنها محض الزور والبهتان ، وقد قلدوا في ذلك شيوخا لهم من أهل البغي والعدوان ، وجعلوا هذه الألقاب الشنيعة مسبة

٣٦٧

لأهل الحق لينفروا الناس عن اتباعهم والأخذ بأقوالهم كفعل الساحر الشيطان الذي قد يبلغ من سحره أن يفرق بين المرء وزوجه بإلقاء الكراهية والبغضاء. ولا ذنب لأهل الحق عند هؤلاء السمجاء إلا أنهم وقفوا عند الوحي المنزل من السماء ، وأبوا أن يميلوا عنه إلى مقالات من صنع مبطلين سفهاء ، وإن سموا أنفسهم محققين وحكماء ولم يرضوا أن يدينوا بالذي يدين به هؤلاء من آراء باطلة معوجة وهذيانات سخيفة فجة ووصفوا ربهم بكل وصف جاء في الكتاب والسنة ، فإن كان هذا في نظر هؤلاء الجاهلين تجسيما ، فنحن نرحب به ونرضاه لنا دينا ، ونحمد الله على أننا مجسمة لا نجحد شيئا من صفات الخالق الديان ، سبحانه وتعالى عما يقول المعطلة علوا كبيرا.

والله ما قال امرؤ منا ب

أن الله جسم يا أولي البهتان

والله يعلم أننا في وصفه

لم نعد ما قد قال في القرآن

أو قاله أيضا رسول الله فهو

الصادق المصدوق بالبرهان

أو قاله أصحابه من بعده

فهم النجوم مطالع الإيمان

سموه تجسيما وتشبيها فلسنا

جاحديه لذلك الهذيان

بل بيننا فرق لطيف بل هو

الفرق العظيم لمن له عينان

إن الحقيقة عندنا مقصودة

بالنص وهو مراده التبيان

لكن لديكم فهي غير مرادة

أنى يراد محقق البطلان

فكلامه فيما لديكم لا حقي

قة تحته تبدو إلى الأذهان

فكلامه فيما لديكم لا حقي

قة تحته تبدو إلى الأذهان

في ذكر آيات العلو وسائر الأ

وصاف وهي القلب للقرآن

بل قول رب الناس ليس حقيقة

فيما لديكم يا أولي العرفان

الشرح : على أنه لم يقل أحد منا معشر أهل السنة أن الله تعالى جسم ، ولكنكم تبهتوننا بذلك وتجعلونه من لوازم قولنا أن الله فوق عرشه بذاته ، لأن الوجود في الأين عندكم من خصائص الأجسام ، فإذا قلنا إن الله في السماء كما أخبر عن نفسه قلتم لنا جسمتم ، ولكن الله يعلم أننا لم نتجاوز في وصفه ما ذكره

٣٦٨

الله في كتابه أو ما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح عنه ، فإنه الصادق في كل ما يخبر به عن ربه المصدوق الذي صدقه ربه في كل ما أوحى به إليه ، أو ما قاله أصحابه رضي الله عنهم من بعده ، فهم نجوم الهدى لهذه الأمة وأكملها إيمانا وعلما فإذا سميتم إثباتنا لهذه الصفات الثابتة بالكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة تجسيما أو تشبيها فلن يحملنا هذيانكم هذا على جحد شيء منها أو إنكاره ، بل نحن باقون على الإثبات أبدا ما شاء الله ، وبيننا وبينكم في ذلك فرق واضح لكل ذي بصر ، وأن بدا للبعض دقيقا لطيفا. هو أن هذه النصوص عندنا مستعملة في معانيها الحقيقية التي تفهم من اللفظ عند إطلاقه ولا يجوز حمل شيء منها على المجاز حيث لا قرينة تدل عليه. ولم ترد هذه النصوص للألغاز والتعمية ، وإنما جاءت للبيان والإيضاح ، فلو حمل شيء منها على غير معناه بلا داع ولا قرينة لا ننفي عنها وصف البيان ، ولكن الحقيقة عندكم غير مرادة ، لأنها في نظركم باطلة ، فكيف تراد من النص؟ وكلامه سبحانه عندكم لا حقيقة له عند العقل ، لأن العقل عندكم يحيل كل ما أثبتته الآيات من الصفات الخبرية ، كالعلو ونحوه ، مع أنها هي لب القرآن وجوهره ، ومعظم المقصود من إنزاله. بل قول الله نفسه ليس له حقيقة عندكم لأنكم تنفون عنه الحرف والصوت ، والقول لا يكون إلا حروفا وأصواتا ، فقول الله كصفاته ، لا حقيقة لشيء من ذلك عندكم ، يا من تدعون المعرفة زورا وبهتانا.

* * *

وإذا جعلتم ذا مجازا صح أن

ينفي على الاطلاق والإمكان

وحقائق الألفاظ بالعقل انتفت

فيما زعمتم فاستوى النفيان

نفي الحقيقة وانتفاء اللفظ ان

دلت عليه فحظكم نفيان

ونصيبنا إثبات ذاك جميعه

لفظا ومعنى ذاك إثباتان

فمن المعطل في الحقيقة غيركم

لقب بلا كذب ولا عدوان

وإذا سببتم بالمحال فسبنا

بأدلة وحجاج ذي برهان

تبدي فضائحكم وتهتك ستركم

وتبين جهلكم مع العدوان

٣٦٩

يا بعد ما بين السباب بذاكم

وسبابكم بالكذب والطغيان

من سب بالبرهان ليس بظالم

والظلم سب العبد بالبهتان

الشرح : فإذا كان الله عندكم ليس بقائل على الحقيقة وجعلتم القول المضاف إليه مجازا صح نفيه عنه ، أما على جهة الاطلاق المقتضى سلب القول عنه بالفعل أو على جهة الإمكان المقتضى سلب إمكان ذلك منه فضلا عن وقوعه. فهذا نفي وأنتم قد نفيتم حقائق الألفاظ ، وزعمتم أن معانيها الحقيقية مستحيلة عند العقل ، فهذا نفي آخر فاجتمع لكم بذلك نفيان ، نفي الألفاظ عن الله عزوجل وإنكار أن يكون هو متكلما بها ، ونفي الحقائق التي دلت عليها. فهذا حظكم من الإيمان بالوحي إنكار للفظ والمعنى جميعا.

وأما نحن فنصيبنا إثبات ذلك كله لفظا ومعنى وعدم إنكار شيء منه. فأنتم الأحقاء وحدكم بوصف التعطيل وهو لقب لائق بكم لا كذب فيه ولا عدوان وإذا أنتم شتمتمونا بما ليس فينا شتما قائما على الزور والبهتان فسبنا لكم لا يكون إلا عن حجة وبرهان يكشف ستركم ويفضح جهلكم وعدوانكم فما أبعد الفرق بين شبابنا وسبابكم ، فإن من سب خصم بالدليل لا يكون ظالما ولا واضعا للشيء في غير موضعه ، ولكن الظلم هو سب العبد بالزور والبهتان.

* * *

فحقيقة التجسيم أن تك عندكم

وصف الإله الخالق الديان

بصفاته العليا التي شهدت بها

آياته ورسوله العدلان

فتحملوا عنا الشهادة واشهدوا

في كل مجتمع وكل مكان

أنا مجسمة بفضل الله

وليشهد بذلك معكم الثقلان

الله أكبر كشرت عن نابها ال

حرب العوان وصيح بالأقران

وتقابل الصفان وانقسم الورى

قسمين واتضحت لنا القسمان

الشرح : فإذا كنتم مصرين على أن وصف الرب جل شأنه بصفاته العليا التي صرحت بها آيات الكتاب العزيز والسنة المطهرة (وكل منهما شاهد عدل) موقع

٣٧٠

في التجسيم بحيث يكون مجسما عندكم كل من أثبت صفة من هذه الصفات فتحملوا عنا إقرارنا بذلك التجسيم واشهدوا علينا في كل مجتمع ومكان أنا مجسمة وادعوا من استطعتم من الإنس والجن ليشهدوا معكم بذلك ، فإن تشنيعكم علينا بمثل هذه الألفاظ لن يغير شيئا من حقيقة الخلاف بيننا وبينكم بعد أن استعرت بيننا نار الحرب وشمرت عن ساقها وتداعى إليها الفريقان وتقابل الصفان وعرف كل فريق ما عند خصمه واضحا لا خفاء فيه ، فالحقيقة التي عليها نجالدكم هي أننا نؤمن بحقيقة ما أنزل الله على رسوله ، وأنتم تنكرونه ونحن ندين بالكتاب والسنة في الإثبات والنفي ، وأنتم لا ترجعون في ذلك إلا إلى قضية عقولكم الخاسرة ، وما وضعه لكم شيوخكم في الضلال من قواعد وأصول جعلتموها دينا لكم واستعضتم بها عن الحق الذي جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوقعتم في الضلال البعيد والخسران المبين.

فصل

في بيان مورد أهل التعطيل

وأنهم تعوضوا بالقلوط عن السلسبيل

يا وارد القلوط ويحك لو ترى

ما ذا على شفتيك والأسنان

أو ما ترى آثارها في القل

ب والنيات والأعمال والأركان

لو طاب منك الورد طابت كلها

أنّى تطيب موارد الانتان

يا وارد القلوط طهر فاك من

خبث به واغسله من أنتان

ثم اشتم الحشوي حشو ال

دين ـ والقرآن والآثار والإيمان

أهلا بهم حشو الهدى وسواهم

حشو الضلال فما هما سيان

أهلا بهم حشو اليقين وغيرهم

حشو الشكوك فما هما صنوان

أهلا بهم حشو المساجد والسوى

حشو الكنيف فما هما عدلان

أهلا بهم حشو الجنان وغيرهم

حشو الجحيم أيستوي الحشوان

٣٧١

الشرح : ينادي المؤلف رحمه‌الله هؤلاء الناكبين عن صراط الله المستقيم ناعيا عليهم أعراضهم عن ينابيع الدين الصافية وموارده الكريمة التي هي كتاب الله تعالى وأحاديث رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما أثر من أقوال السلف الصالح واستعاضتهم عنها بتلك الموارد العفنة مما وضعه ضلال الفلاسفة والجهمية وغيرهم ، وأنهم حين يلوكون هذه الأقوال الخبيثة وتتلوث بها شفاههم وأسنانهم تبدوا آثارها القبيحة في ما تضمره قلوبهم من الأخلاق والنيات وما تقوم به جوارحهم من الأعمال والاركان لأنه لا يمكن ان تطيب منهم هذه الأمور وموردها منتن خبيث ، ثم دعاهم قبل ان يشتغلوا بشتم أهل الحق ويعيبوهم بألقاب السوء ان يغسلوا أفواههم أولا ويطهروها مما بها من خبث وقذر ، ثم التفت الى من يسمونهم حشوية فجعل هذه النسبة التي قصد بها الأعداء إلى ذمهم موضع مدح وفخار لهم فهم حشوية قد حشوا من الدين والقرآن والسنة والإيمان وهم حشوية حشوهم الهدى واليقين على حين حشى أعداؤهم من الضلال والشكوك والشبهات وهم حشوية لأنهم حشو بيوت الله يعمرونها بذكره ومدارسة كتابه وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعداؤهم حشو الأماكن القذرة من الغائط والقلوط وهم أخيرا حشو الجنة دار الخلد التي أعدها الله للمتقين وأما أعداؤهم فحشو الجحيم يصلونها بما أعرضوا عن سبل الله المستقيمة ، وبما اتبعوا من سبل الضلال والكفران.

* * *

يا وارد القلوط ويحك لو ت

رى الحشوي وارد منهل الفرقان

وتراه من رأس الشريعة شاربا

من كف من قد جاء بالفرقان

وتراه يسقي الناس فضلة كأسه

وختامها مسك على ريحان

لعذرته أن بال في القلوط لم

يشرب به مع جملة العميان

يا وارد القلوط لا تكسل فرأ

س الماء فاقصده قريب دان

هو منهل سهل قريب واسع

كاف إذا نزلت به الثقلان

والله ليس بأصعب الوردين بل

هو أسهل الوردين للظمآن

٣٧٢

الشرح : وهنا أيضا ينادي المؤلف رحمه‌الله وارد القلوط نداء ترحم وإشفاق لعماه وجهله وعدم قدرته على التمييز بين كرام المناهل وعذابها ، وبين آسنها وخبيثها فيقول له إنك لو ترى الحشوي وهو يرد منهل الفرقان ويشرب من أصل الشريعة الصافي وينبوعها الطيب من كف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم يوزع فضلة كأسه على الناس مختومة بمسك وريحان ، إذا لعذرته أن احتقر وردك الآجن وبال فيه ولم يكن من جملة وراده الذين استعذبوه بسبب عماهم عما فيه من أخباث وأقذار.

ثم دعاه أن يطرح الكسل ، وأن لا يرضى لنفسه بالدون ، وأن يقصد إلى رأس الماء فإنه قريب دان والطريق إليه سهل ميسور ، وهو واسع ولا يضيق بوراده مهما كثروا فلو نزل به الثقلان جميعا لكفاهم ، وهو إذا قيس بالورد الآخر أيسر منه منالا للوارد الظمآن.

ولعلك أيها القارئ قد فهمت ما قصد إليه المؤلف من المقابلة بين هذين الوردين وما أراده بكل منهما ، فهو يكنى بأكرمهما عن المصادر الأولى للشريعة من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة التي سلمت من الزيغ والانحراف ويكنى بأخبثها المعبر عنه بالقلوط عن تلك الآراء والأقوال المبتدعة التي يزعمها أصحابها عقليات ، وما هي إلا أوساخ العقول وقاذورات الأفهام ، وهي تفضي بسالكيها إلى الخروج من حظيرة الإسلام.

* * *

فصل

في بيان هدمهم لقواعد الإسلام

والإيمان بعزلهم نصوص السنة والقرآن

يا قوم والله انظروا وتفكروا

في هذه الأخبار والقرآن

مثل التدبر والتفكر للذي

قد قاله ذو الرأي والحسبان

٣٧٣

فأقل شيء أن يكونا عندكم

حدا سواء يا أولي العدوان

والله ما استويا لدى زعمائكم

في العلم والتحقيق والعرفان

عزلوهما بل صرحوا بالعزل عن

نيل اليقين ورتبة البرهان

قالوا وتلك أدلة لفظية

لسنا نحكمها على الايقان

ما أنزلت لينال منها العلم بالإ

ثبات للأوصاف للرحمن

بل بالعقول ينال ذاك وهذه

عنه بمعزل غير ذي السلطان

الشرح : من أعظم الشناعات التي وقع فيها المتكلمون من الأشعرية وغيرهم قولهم أن دلالة كل لفظ على معناه دلالة ظنية لتطرق الاحتمال إليها بسبب ما يعتري الألفاظ من إجمال وإبهام وحذف واشتراك وحقيقة ومجاز الخ. وطردوا قاعدتهم اللئيمة على نصوص الوحيين ، فحكموا بعزلها عن إفادة اليقين والشيخ هنا يستحلفهم بالله أن ينظروا فيها ويتدبروها ، كما يفعلون ذلك بالنسبة إلى ما ينقل إليهم من آراء أهل الفكر والنظر ، فإن هذا أقل ما ينبغي أن يكون عليه المسلم أن يسوي بين نصوص الوحي وكلام الناس في درجة التفكر والاعتبار ، أما أن يؤثر كلام الناس بالنظر ، فذلك هو العدوان والخسار ، ولكن أنّى لهؤلاء المتأخرين بتلك التسوية ، وقد ضل عنها شيوخهم الذين سنوا لهم سبيل الجور والاعتساف ، وجنفوا بهم عن طريق الحق والإنصاف ، والذين صرحوا بعزل نصوص الوحيين عن إفادة اليقين وقصورها عن رتبة البرهان.

وقالوا إنها أدلة لفظية لا يجوز التعويل عليها في مسائل الاعتقاد التي لا يكفي فيها الظن بل لا بد فيها من العلم اليقيني الذي لا يتطرق إليه الاحتمال. وهذا عندهم لا يستفاد إلا من البراهين العقلية التي تفيد القطع والجزم. وأما هذه النصوص التي هي أصل الدين فبمعزل عندهم عن إفادة اليقين ، وليس لها في عقائد الإيمان حكم ولا سلطان ، فبئس ما قاله أولياء الشيطان من الإفك والزور والبهتان.

* * *

٣٧٤

فبجهدنا تأويلها والدفع في

أكنافها دفعا لذي الصولان

ككبير قوم جاء يشهد عند ذي

حكم يريد دفاعه بليان

فيقول قدرك فوق ذا وشهادة

لسواك تصلح فاذهبن بأمان

وبوده لو كان شيء غير ذا

لكن مخافة صاحب السلطان

فلقد آتانا عن كبير فيهم

وهو الحقير مقالة الكفران

لو كان يمكنني وليس بممكن

لحككت من ذا المصحف العثماني

ذكر استواء الرب فوق العرش

لكن ذاك ممتنع على الإنسان

والله لو لا هيبة الإسلام

والقرآن والأمراء والسلطان

لأتوا بكل مصيبة ولدكدكوا

الإسلام فوق قواعد الأركان

الشرح : وقالوا إذا كانت نصوص الوحيين من الكتاب والسنة لا تفيد اليقين المطلوب في باب الاعتقاد ، وكانت البراهين العقلية وحدها هي التي يعول عليها في هذا الباب ، فلنجد إذا في تأويل هذه النصوص بصرفها عما توهمه ظواهرها من معان مستحيلة عند العقل ، ولندفع في جوانبها بما يكسر قوتها ويضعف صولتها ، بأن نوقع في روع الناس أن هذه النصوص فوق ما تناله مداركنا وتتصوره أفهامنا ، وذلك كرجل ذي قدر وشرف جاء يشهد في قضية من القضايا ، والقاضي يريد دفع شهادته بأسلوب لا يكون فيه حرج لكرامته ، فيوهمه أن قدره أعلى من أن يقف في موقف الشاهد في مثل هذه القضية ، وأن شهادة من غيره تكفي ، وليس غرضه من ذلك إلا دفع الحكم بموجب تلك الشهادة ، ولكنه لا يستطيع التصريح بذلك مخافة بطش السلطان به فكذلك حال هؤلاء المعطلة مع نصوص الوحيين المصرحة بإثبات الصفات ، يريدون دفع ما دلت عليه من ذلك فلا يستطيعونه عن طريق التكذيب والإنكار ، فيلجئون إلى المراوغة بدعوى قصور الافهام عنهما. وكان بودهم لو لم تكن هذه النصوص أصلا ، حتى روى عن كبير من هؤلاء ، وهو عند الله والمؤمنين من أحقر الحقراء أنه قال مقالة الكافر العنيد والشانئ الحقود ، وددت لو حككت من المصحف كل ما فيه ذكر استواء الرب على عرشه ، لكن أنى له بذلك وقد حفظ الله كتابه

٣٧٥

من كيد حقود مثله ، فليمت غيظا ، وستبقى هذه الآيات الكريمة سيفا مصلتا فوق رأسه تنادي بفساد قوله وبطلان رأيه ، ولو لا هيبة الاسلام ورجالاته في قلوب هؤلاء الجبناء لنقضوا حبل الإسلام عروة عروة ، وأتوا على بنائه من القواعد ، ولكنهم لا يجرءون على العمل ظاهرين.

فلقد رأيتم ما جرى لأئمة الإ

سلام من محن على الأزمان

لا سيما لما استمالوا جاهلا

ذا قدرة في الناس مع سلطان

وسعوا إليه بكل إفك بين

بل قاسموه بأغلظ الأيمان

إن النصيحة قصدهم كنصيحة

الشيطان حين خلا به الأبوان

فيرى عمائم ذات أذناب على

تلك القشور طويلة الأردان

ويرى هيولى لا تهول لمبصر

وتهول أعمى في ثياب جبان

فإذا أصاخ بسمعه ملئوه من

كذب وتلبيس ومن بهتان

فيرى ويسمع فشرهم وفشارهم

يا محنة العينين والأذنان

فتحوا جراب الجهل مع كذب فخذ

واحمل بلا كيل ولا ميزان

الشرح : يستدل على كيد هؤلاء للإسلام وأهله بما جرى على أيديهم من محن وأرزاء لأئمة الإسلام في جميع الأزمان ، كأحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنهما ، لا سيما حين يستميلون إليهم الجهلة من الأمراء ويسعون إليهم بالإفك والافتراء مؤكدين إفكهم بالأيمان الفاجرة أنهم ما قصدوا إلا محض النصيحة كما أقسم إبليس لآدم وحواء حين خلا بهما في الجنة : (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف : ٢١]. فلا يسع ذلك الجاهل إلا أن يغتر ببهتانهم ويؤخذ بزخرف أقوالهم ، لا سيما حين يرى عليهم عمائم كالأبراج ، قد أرخوا أذنابها على أقفائهم ، ويرى أجساما ضخمة كتلك التي حكاها الله عن المنافقين في قوله جل شأنه : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) [المنافقون : ٤] ولكن تلك الهيئة الضخمة لا تروع الحصيف العارف بحقيقة هؤلاء وما هم عليه من جهل وضلال ، وإنما تروع كل

٣٧٦

أعمى جبان لا يبصر ما تحتها من ضعف وهوان ، فإذا ألقى إليهم سمعه ورأوا أنهم قد ملكوه ، أخذوا يملئون قلبه حقدا وعداوة على أهل الحق والإيمان ، وحشوه بالكذب والتلبيس والبهتان ، فيرى من زيهم ويسمع من فشرهم ما فيه بلاء لعينيه وأذنيه ويبدون له من الجهل والكذب ما لا يقدر بكيل ولا ميزان.

* * *

وأتوا إلى قلب المطاع ففتشوا

عما هناك ليدخلوا بأمان

فإذا بدا غرض لهم دخلوا به

منه إليه كحيلة الشيطان

فإذا رأوه هش نحو حديثهم

ظفروا وقالوا ويح آل فلان

هو في الطريق يعوق مولانا عن

المقصود وهو عدو هذه الشأن

فإذا هم غرسوا العداوة واظبوا

سقي الغراس كفعل ذي البستان

حتى إذا ما أثمرت ودنا لهم

وقت الجذاذ وصار ذا إمكان

ركبوا على حرد لهم وحمية

واستنجدوا بعساكر الشيطان

فهنالك ابتليت جنود الله من

جند اللعين بسائر الألوان

ضربا وحبسا ثم تكفيرا وتبديعا

وشتما ظاهر البهتان

الشرح : وتراهم لكي يضمنوا انحياز هؤلاء الأمراء والحكماء إليهم في الخصومة بينهم وبين أهل الحق ، يحكمون الحيلة ويتلطفون في الدخول إلى قلوبهم بالتفتيش عما فيها من أماني وأغراض ، فإذا ظهر لهم منها شيء جعلوه وسيلتهم في احتلال قلوب هؤلاء وامتلاكها بما يظهرون من الرضى والاستحسان لذلك ، فإذا رأوه انبسط إليهم وأعجبه حديثهم ، أخذوا في إغرائه بخصومهم واستعدائه عليهم بأن يوهموه أنهم ضد رغبته وعلى خلاف مراده ، حتى إذا نجحوا في غرس العداوة لهم في قلبه تعهدوا ذلك الغرس بالسقي ، كما يفعل البستاني بالشجر حتى تستحكم وتخرج إلى حد البطش والانتقام ، وحينئذ يستعلن هؤلاء الجبناء بخصومة أهل الحق ويركبون أفراس البغي ويجعلون في قلوبهم الحمية ، حمية الجاهلية ويستنجدون بعساكر الشيطان ، فهنالك تبتلى جنود الرحمن من جند

٣٧٧

اللعين بشتى أنواع البغي والعدوان ، فمن ضرب مبرح إلى إلقاء في غياهب السجون إلى رمي بالتكفير والتبديع إلى أقذاع في الشتم والهجاء ، بظاهر الإفك والافتراء.

* * *

فلقد رأينا من فريق منهم

أمرا تهد له قوى الايمان

من سبهم أهل الحديث ودينهم

أخذ الحديث وترك قول فلان

يا أمة غضب الاله عليهم

الأجل هذا تشتموا بهوان

تبا لكم إذ تشتمون زوامل

الإسلام حزب الله والقرآن

وسببتموهم ثم لستم كفأهم

فرأوا مسبتكم من النقصان

هذا وهم قبلوا وصية ربهم

في تركهم لمسبة الأوثان

حذر المقابلة القبيحة منهم

بمسبة القرآن والرحمن

وكذاك أصحاب الحديث فإنهم

ضربت لهم ولكم بذا مثلان

سبوكم جهالهم فسببتم

سنن الرسول وعسكر الإيمان

وصددتم سفهاءكم عنهم وعن

قول الرسول وذا من الطغيان

الشرح : لقد حمل التعصب والتقليد للمذاهب الباطلة فريقا من هؤلاء الجاهلين أن يرتكبوا أمرا عظيما يتصدع منه بناء الإسلام وتتضعضع له قوى الإيمان وهو شتمهم أهل الحديث ورميهم إياهم بالبلادة والغفلة وقلة الفقه وما نقموا منهم إلا أنهم جعلوا دينهم ومذهبهم التمسك بالحديث والعض عليه بالنواجذ وترك ما يخالفه من أقوال الناس ، فهل يصلح هذا أن يكون سببا لشتمهم وإهانتهم بألسنة هؤلاء المارقين الملعونين ، فويل لهم إذ يشتمون حملة العلم والدين ويسبون جند الله والقرآن وكان بوسع أهل السنة والحديث أن يردوا عليهم ويقابلوهم بمثل سفاهتهم لو لا أن هؤلاء الأوغاد ليسوا كفؤا لهم فرأوا مسبتهم مما ينقص من قدرهم. وكذلك امتثلوا فيهم قول الله تبارك وتعالى : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)

٣٧٨

[الأنعام : ١٠٨] فقد نهى الله المؤمنين عن سب الأصنام حذرا أن يحمل ذلك المشركين على الحمية لأصنامهم ، فيقابلوا هذا السب بسب الله جل وعلا عدوانا وجهلا. فكذلك أهل السنة كفوا عن سب هؤلاء الجهلاء حتى لا تأخذهم العزة بالإثم فيسبوا السنة وأهلها كما فعلوا ذلك حين تعرض لهم بعض الجهلة من أهل السنة. ويقال لهم أيضا أنتم صددتم سفهاءكم عن اتباع أهل السنة والأخذ بأقوال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك منتهى الطغيان والعدوان.

* * *

ودعوتموهم للذي قالته أشياخ

لكم بالخرص والحسبان

فأبوا إجابتكم ولم يتحيزوا

إلا إلى الآثار والقرآن

وإلى أولي العرفان من أهل الحد

يث خلاصة الإنسان والأكوان

قوم أقامهم الإله لحفظ هذا ال

دين من ذي بدعة شيطان

وأقامهم حرسا من التبديل

والتحريف والتتميم والنقصان

يزك على الإسلام بل حصن له

يأوي إليه عساكر الفرقان

فهم المحك فمن يرى متنقصا

لهم فزنديق خبيث جنان

إن تتهمه فقبلك السلف الألى

كانوا على الإيمان والاحسان

أيضا قد اتهموا الخبيث على الهدى

والعلم والآثار والقرآن

وهو الحقيق بذاك إذ عادى روا

ة الدين وهي عداوة الديان

الشرح : لا يعتد هؤلاء المقلدون بشيء من دينهم إلا ما أخذوه عن أشياخهم من أقوال لم تبن على عقل صريح ولا على نقل صحيح ، وإنما بنيت على ظن وتخمين فتراهم يتعصبون لها ويدعون إليها كل أحد ، ولكن أهل الحق لا يجيبونهم إلى الأخذ بهذه الأباطيل ، ولا يتحيزون إلا إلى الآثار الصحيحة والكتاب الكريم فهما المصدران لكل معرفة حقة ، وكذلك يرجعون إلى ما يؤثر عن أئمة الحديث وجهابذة السنة الذين هم خلاصة أهل الأرض دينا وعلما وإيمانا ، والذين قد اختارهم الله لحفظ دينه ، ونصبهم حراسا عليه من أهل

٣٧٩

الأهواء والبدع حتى لا يفسدوه بتبديل أو تحريف أو زيادة فيه أو حذف منه فهم الشهب التي يرمي بها الله شياطين الإنس حماية لدينه منهم كما يرمي بالشهب السماوية من يحاول استراق السمع من شياطين الجن وهم حصون الإسلام وكهفه الذي يأوي إليه كل من سلك سبيلهم في نصر السنة والكتاب وهم الميزان الذي يعرف به صحيح الأقوال من سقيمها ، فما أنكروه هو المنكر ، وما أقروه فهو الحق فمن عمد إلى تنقصهم والتهوين من شأنهم فهو خبيث القلب مغموص في دينه ، ولا حرج على من يتهمه بذلك فقد اتهم قبله السلف الصالح رضي الله عنهم الخبيث المارق المدعو بالجهم بن صفوان ، ولم يأمنوه على العلم والهدى والآثار والقرآن ، وقد كان جديرا بهذا الاتهام حيث عادى رواة الدين وحملة السنة ، وعداوتهم هي عداوة الله الواحد الديان.

* * *

فإذا ذكرت الناصحين لربهم

وكتابه ورسوله بلسان

فاغسله ويلك من دم التعطيل

والتكذيب والكفران والبهتان

أتسبهم عدوا ولست بكفئهم

فالله يفدي حزبه بالجاني

قوم هم بالله ثم رسوله

أولى وأقرب منك للإيمان

شتان بين التاركين نصوصه

حقا لأجل زبالة الأذهان

والتاركين لأجلها آراء من

آراؤهم ضرب من الهذيان

لما فسا الشيطان في آذانهم

ثقلت رءوسهم عن القرآن

فلذاك ناموا عنه حتى أصبحوا

يتلاعبون تلاعب الصبيان

والركب قد وصلوا العلى وتيمموا

من أرض طيبة مطلع الإيمان

واتوا الى روضاتها وتيمموا

من أرض مكة مطلع القرآن

قوم إذا ما ناجل النص بدا

طاروا له بالجمع والوحدان

وإذا بدا علم الهدى استبقوا له

كتسابق الفرسان يوم رهان

وإذا هم سمعوا بمبتدع هذي

صاحوا به طرا بكل مكان

٣٨٠