شرح القصيدة النونيّة - ج ١

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ١

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥
الجزء ١ الجزء ٢

فالشيء شيء واحد لا أربع

فدهي ابن حزم قلة الفرقان

والله أخبر أنه سبحانه

متكلم بالوحي والفرقان

وكذاك أخبرنا بأن كتابه

بصدور أهل العلم والإيمان

وكذاك أخبر أنه المكتوب في

صحف مطهرة من الرحمن

وكذاك أخبر أنه المتلو والمق

روء عند تلاوة الانسان

والكل شيء واحد لا أنه

هو أربع وثلاثة واثنان

الشرح : يرد المؤلف على سخافة ابن حزم في قوله بتعدد القرآن تبعا لتعدد المحال التي يوجد فيها وموافقته للكلابية والمعتزلة في أن القرآن اللفظي المقروء بالألسنة والمكتوب في المصاحف والمحفوظ في الصدور مخلوق ، يرد عليه بأن القرآن في نفسه شيء واحد ، هو ما تكلم الله عزوجل به بصوت نفسه ، وسمعه منه أمين الوحي جبريل عليه‌السلام ، فإذا أداه جبريل بعد ذلك الى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أداه محمد إلى أمته وأمر بكتابته في المصاحف وحفظه في صدور أهل الحفظ من أصحابه لم يخرج في هذه الأحوال كلها عن كونه كلام الله عزوجل فأن الكلام أنما ينسب إلى من قاله مبتدئا لا إلى من بلغه مؤديا ، فالقرآن كلام الله على أي نحو كان من أنحاء الوجود ومراتبه ، فمهما تلاه القارءون أو حفظه الحفظة أو رقمه الكاتبون ، فهو كلام الله على الحقيقة ، منزل غير مخلوق ، ليس المتلو قرآنا آخر غير ما تكلم الله به ، ولا المحفوظ غير المتلو ، ولا المرقوم غير المحفوظ ، بل هو هو بعينه في جميع ذلك ، وهذا أمر ظاهر لا تجوز فيه المكابرة. ولهذا أخبر الله عن القرآن خبرا واحدا في أحواله كلها ، فأخبر أنه كلامه وتنزيله ، وأنه آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ، وأنه مكتوب في صحف مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة. وأخبر أنه هو المقروء المتلو عند تلاوة الانسان ، كما في قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) [الأعراف : ٢٠٤] وقوله (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦] وقوله (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل : ٢٠] الخ الآيات ، والكل شيء واحد لا هو أربعة ولا ثلاثة ولا

١٤١

أثنان ، وانما أتى ابن حزم من جهله بالتفرقة بين المتلو والتلاوة ، وبين المكتوب والكتابة ، فقال ما قال مما يبرأ منه أهل الإيمان.

* * *

وتلاوة القرآن أفعال لنا

وكذا الكتابة فهي خط بنان

لكنما المتلو والمكتوب وال

محفوظ قول الواحد الرحمن

والعبد يقرؤه بصوت طيب

وبضده فهما له صوتان

وكذاك يكتبه بخط جيد

وبضده فهما له خطان

أصواتنا ومدادنا وأدائنا

والرق ثم كتابة القرآن

ولقد أتى في نظمه من قال قو

ل الحق والانصاف غير جبان

أن الذي هو في المصاحف مثبت

بأنامل الأشياخ والشبان

هو قول ربي آية وحروفه

ومدادنا والرق مخلوقان

فشفى وفرق بين متلو ومصن

وع وذاك حقيقة العرفان

الشرح : يقصد المؤلف بهذه الأبيات أن يرد على شبهة قد تعلق ببعض الأذهان ، وهي أنه كيف يكون هذا المتلو بالألسنة ، أو المكتوب في المصاحف كلام الله غير مخلوق ، مع أن القارئ يحدثه بصوته وينطق به حروفا وألفاظا ، وكذلك الكاتب يرقمه بالمداد في الرق ، فهو يحدثه ببنانه وقلمه.

والجواب عن هذه الشبهة هو أنه يجب أن نفرق بين التلاوة والمتلو ، وبين الكتابة والمكتوب ، فكل من التلاوة والكتابة فعل العبد وهو مخلوق ، وأما المتلو والمكتوب والمحفوظ فهو كلام الله وقوله جل شأنه ، ولهذا تختلف القراءة تجويدا ولحنا ، وتختلف أصوات القارئين قباحة وحسنا ، ولكن المقروء لا يختلف وكذلك تختلف الكتابة بين خط جيد وآخر رديء والمكتوب واحد ، فأصوات القارئين ومداد الكاتبين وأقلامهم والأوراق التي يكتبون عليها وفعلهم الكتابة ، كل ذلك أفعال للعباد مخلوقة ، وأما المثبت في المصاحف بأنامل الأشياخ والشبان فهو كلام

١٤٢

الله وقوله بآياته وحروفه ، فالمعرفة الحقة تقتضي التفرقة بين المتلو الذي هو كلام الله وبين المصنوع الذي هو من فعل العبد.

* * *

الكل مخلوق وليس كلامه

المتلو مخلوقا هنا شيئان

فعليك بالتفصيل والتمييز فالا

طلاق والاجمال دون بيان

قد أفسدا هذا الوجود وخبطا ال

أذهان والآراء كل زمان

وتلاوة القرآن في تعريفها

باللام قد يعني بها شيئان

يعني به المتلو فهو كلامه

هو غير مخلوق كذي الأكوان

ويراد أفعال العباد كصوتهم

وأدائهم وكلاهما خلقان

الشرح : يعني أن كل ما ذكر مما هو من فعل العبد وصنعه ، كصوت القارئ وكتابة الكاتب وما يستخدمه في كتابته من مداد وورق وأقلام فهو مخلوق ، وأما كلامه هو سبحانه المتلو بتلك التلاوة أو المكتوب بتلك الكتابة فليس مخلوقا ، فيجب أن تفرق وتميز بين الأمرين ، وأن لا تحكم حكما إجماليا مطلقا دون تفصيل فإنه ما أفسد هذا الوجود وأوقع الشجار والنزاع بين لطوائف وأضل العقول والأفكار الا عدم التفصيل والبيان ، والتحديد لمعاني الألفاظ المجملة التي قد يقع في معانيها احتمال واشتباه. وبعض هذه المعاني يكون صحيحا مرادا ، وبعضها يكون فاسدا غير مراد ، فتتشبث طوائف المبتدعة بتلك المعاني الفاسدة ، وتفسير الألفاظ بها فتقع في الضلال ، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه‌الله يعني بتحديد معاني الألفاظ عند مناقشته لفرق الزيغ والضلال ، ويطالبهم بتحديد مرادهم منها. وهذا تلميذ النابغة يوصي بما أوصى به شيخه ، مبينا أن الفساد كله انما ينشأ عن الإطلاق والاجمال ، ففي المسألة التي معنا لا يجوز مثلا إطلاق القول بأن القرآن مخلوق أو غير مخلوق ، بل يجب التفصيل ، فإن كان المراد بالقرآن نفس الفاظ القارئ وصوته وأداءه ، فذلك ولا شك مخلوق ، وأما ان كان المراد به المتلو المؤدى ، فهذا كلام الله غير مخلوق.

١٤٣

وكذلك لفظ التلاوة ، إذا عرف باللام كان محتملا لمعنيين أن يراد به المتلو فيكون غير مخلوق كهذه الأكوان المخلوقة ، وقد يراد به أفعال العباد من أدائهم وأصواتهم ، فهذا مخلوق.

* * *

هذا الذي نصت عليه أئمة ال

إسلام أهل العلم والعرفان

وهو الذي قصد البخاري الرضي

لكن تقاصر قاصر الأذهان

عن فهمه كتقاصر الافهام عن

قول الامام الأعظم الشيباني

في اللفظ لما أن نفى الضدين

عنه واهتدى للنفي ذو عرفان

فاللفظ يصلح مصدرا هو فعلنا

كتلفظ بتلاوة القرآن

وكذاك يصلح نفس ملفوظ به

وهو القرآن فذان محتملان

فلذاك أنكر أحمد الإطلاق في

نفي وإثبات بلا فرقان

الشرح : يعني أن هذا الذي ذكره من التمييز بين التلاوة والمتلو ، وبين الكتابة والمكتوب ، هو الذي نصت عليه أئمة الهدى أهل العلم الصحيح والمعرفة الحقة ، وهو الذي قصد إليه الامام البخاري المرضي العقيدة والإيمان ، ولكن بعض قصار النظر ممن قلت درايتهم بهذه الشئون تقاصروا عن فهم كلامه ، ولم يفطنوا الى ما قصده بهذا التفصيل من رفع الإيهام وازالة الالتباس ، وخشوا أن يتخذ الجهمية والمعتزلة من كلامه سلما إلى ما يريدون من اثبات أن القرآن مخلوق ، وقد جرت بين الإمام البخاري وبين أحمد بن يحيى الذهلي محنة مشهورة سببها سوء فهم الأخير لكلام البخاري وقصده ، كما تقاصرت الأفهام أيضا عن قول الإمام أحمد لما سئل : هل لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق؟ فقال : لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق ، فأنكروا عليه نفي الضدين عنه واهتدى أولو المعرفة الى سر ذلك النفي وحكمته ، وذلك أن كلمة اللفظ من الكلمات المجملة التي لا يجوز الحكم عليها بنفي أو إثبات قبل التفصيل ومعرفة المراد منها ، فإنها تصلح أن تكون مصدرا بمعنى التلفظ ، وهي بهذا المعنى فعل العبد مخلوق.

١٤٤

وتصلح أن يراد منها نفس الملفوظ به وهو القرآن ، فهذان المعنيان محتملان فلذلك أنكر أحمد رضي الله عنه الاطلاق في الاثبات والنفي قبل التفصيل والبيان الذي يحصل به التمييز بين المعنيين ومعرفة المراد منهما.

* * *

فصل

في كلام الفلاسفة والقرامطة

في كلام الرب جل جلاله

وأتى ابن سينا القرمطي مصانعا

للمسلمين بافك ذي بهتان

فرآه فيضا فاض من عقل هو ال

فعال علة هذه الأكوان

حتى تلقاه زكي فاضل

حسن التخيل جيد التبيان

فأتى به للعالمين خطابة

ومواعظا عريت عن البرهان

ما صرحت أخباره بالحق بل

رمزت إليه اشارة لمعان

الشرح : بعد أن بين المؤلف آراء طوائف المتكلمين من معتزلة وجهمية وكلابية وأشعرية وكرامية واقترانية في كلام الله عزوجل ، وعقب عليها ببيان مذهب السلف القويم أراد تتميما للفائدة ، واستيعابا للآراء أن يبين مذهب الفلاسفة في هذه المسألة ، والفلاسفة جمع فيلسوف وهي كلمة يونانية مركبة من كلمتين ، فيلو : معناها محب ، وسوفي ، ومعناها العلم أو الحكمة ، فيكون معنى الفيلسوف محب الحكمة ، ومعنى الفلسفة محبة الحكمة.

وقد اشتهر بالفلسفة قديما في أثينا من بلاد اليونان أفلاطون وأرسطو واشتهر بها في الاسلام الفارابي وابن سينا ، وقد ترجمت كتب الفلسفة الى العربية في عهد المأمون الخليفة العباسي ومن بعده ، وقد اختلف في تحديد معنى الفلسفة وأشهر الأقوال أنها البحث عن العلل والمبادي الأولى للموجودات وإدراك الحقائق الثابتة للأشياء بقدر الطاقة البشرية. ولم يضع فلاسفة المسلمين فلسفة جديدة ،

١٤٥

ولكنهم كانوا يؤمنون بالفلسفة اليونانية ايمانا عميقا ، وينزلونها من نفوسهم منزلة الوحي المعصوم ، ولما كانت هذه الفلسفة تناقض قواعد الشريعة مناقضة صريحة فقد تظاهر هؤلاء الفلاسفة بأن غرضهم هو التوفيق بين الفلسفة والدين ، لأن كلا منهما حق في زعمهم والحق لا يتناقض ، ولكنهم في حقيقة أمرهم كانوا زنادقة ملحدين ولهذا تراهم يجعلون مبادي الفلسفة هي الأصل ويحاولون أن يجروا الدين إليها ويخضعوه لقواعدها ، وإذا هم أظهروا شيئا من الاحترام للنصوص ، فإنما يفعلون ذلك مصانعة للمسلمين. ويدلك على مبلغ زندقة هؤلاء الفلاسفة وبعدهم عن الدين ما ذهب إليه مقدمهم وحامل لوائهم وهو ابن سينا القرمطي في كلام الله عزوجل فهو يرى أنه فيض من العقل الفعال الذي هو العقل العاشر عندهم ، ويسمونه عقل القمر وينسبون إليه جميع الحوادث في عالم العناصر ، فهو الذي يفيض الصور على الموجودات ، ويهب الحياة للأحياء ويفيض العلوم والمعارف على العقول الانسانية.

ويصور ابن سينا هذا الفيض بأن نفس النبي لشدة صفائها تكون كالمرآة المجلوة فتنعكس المعاني من العقل الفعال عليها وتنطبع فيها ، ثم أن القوة المتخيلة للنبي تتلقى هذه المعاني المجردة فتجسمها في حروف وألفاظ ، ولما كان خيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غاية القوة فإنه يخيل إليه أنه يرى شخصا خارجا ويسمع كلاما ، وليس هناك في الحقيقة شخص ولا كلام مسموع من خارج ، وإنما هو صوت ينبعث من داخل نفسه ، وهكذا ينزل القرآن على النبي معاني مجردة من العقل الفعال وهو لقوة بيانه وفصاحته يلبس هذه المعاني ألفاظا من تأليفه ، ولهذا جاء به كتاب خطابة ومواعظ وليس كتاب عقل وبرهان ، فهو أنما ينفع في اقناع العامة والتأثير عليهم ولكنه في رأي هذا الملحد وأضرابه لا يصلح للخاصة الذين يطلبون البرهان وهو في رأيه أيضا لم يصرح بالحق الذي يجب اتباعه ولكنه رمز إليه مجرد اشارة لمعان.

يقول ابن سينا في رسالته العرشية «فوصفه بكونه متكلما لا يرجع الى ترديد العبارات ولا الى أحاديث النفس ، والفكرة المتخيلة المختلفة التي العبارات دلائل

١٤٦

عليها بل فيضان العلوم منه على لوح قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بواسطة القلم النقاش الذي يعبر عنه بالعقل الفعال والملك المقرب. أه. كلامه».

فالكلام عبارة عن العلوم الخاصة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والعلم لا تعدد فيه ولا كثرة : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠] بل التعدد أما أن يقع في حديث النفس أو الخيال والحس فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلقى علم الغيب من الحق بواسطة الملك وقوة التخيل تتلقى تلك وتتصورها بصورة الحروف والأشكال المختلفة وتجد لوح النفس فارغا فتنتقش تلك الصور والعبارات فيه فيسمع منها كلاما منظوما ، ويرى شخصا بشريا فذلك هو الوحي لأنه القاء الشيء إلى النبي بلا زمان ، فيتصور في نفسه الصافية صورة الملقي والملقي ، كما يتصور في المرآة المجلوة صورة المقابل فتارة يعبر عن ذلك المنتقش بالعبارة العبرية وتارة بعبارة العرب فالمصدر واحد والمظهر متعدد ، فذلك هو سماع كلام الملائكة ورؤيتها وكلما عبر عنه بعبارة واقترنت بنفس الصور فذلك هو آيات الكتاب ، وكلما عبر عنه بعبارة نقشية فذلك هو أخبار النبوة».

هكذا يحاول ابن سينا أن يرجع أمر الوحي والنبوة إلى قوة التخيل في نفس النبي زاعما أنه انما يرى صورا ويسمع أصواتا من داخل نفسه لا من الخارج ، ولا شك أنه في كلامه هذا جار على قواعد الفلسفة في مناقضة الشريعة وأبطال النصوص الصريحة الدالة على أن الرسول كان يوحي إليه أما بتكليم الله عزوجل مباشرة ، وأما بواسطة ملك من الملائكة منفصل عنه كما دلت عليه آية [الشورى : ٥١](وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ).

* * *

وخطاب هذا الخلق والجمهور بالح

ق الصريح فغير ذي امكان

لا يقبلون حقائق المعقول الا

في مثال الحس والأعيان

ومشارب العقلاء لا يردونها

الا إذا وضعت لهم بأوان

١٤٧

من جنس ما ألفت طباعهم من ال

محسوس في ذا العالم الجثمان

فأتوا بتشبيه وتمثيل وتج

سيم وتخييل إلى الأذهان

ولذاك يحرم عندهم تأويله

لكنه حل لذي العرقان

فإذا تأولناه كان جناية

منا وخرق سياج ذا البستان

الشرح : هذا استطراد من المؤلف في ذكر بعض من مفتريات هؤلاء المتفلسفة بعد بيان مذهبهم الباطل في كلام الله عزوجل فهم يزعمون أن الرسل صلوات الله عليهم وسلامه لم يخاطبوا الجمهور بالحق الواضح الصريح فإن خطابهم بذلك غير ممكن اذ أن مداركهم قاصرة عن فهم الحقائق العقلية المجردة ، فلا بد من سوقها إليهم في مثل مشاهدة وصور عينية محسوسة حتى يطيقوا فهمها وهم بمعزل عن أن يردوا منابع الحكمة الصافية التي هي موارد العقلاء الا إذا وضعت لهم في أوان (جمع اناء) يكون من جنس ما اعتادوه وألفته طباعهم في عالم المحسوسات ولذلك أتاهم الرسل بما يلائم طباعهم ومداركهم ، من كلام كله تشبيه وتمثيل ، وتجسيم وتخييل ، فصوروا لهم الحق تبارك وتعالى بصورة من يقدر ويريد ويقول ويتكلم ، ويسمع ويبصر ، ويجيء وينزل ، ويضحك ويعجب ، وجعلوا له يدا وقدما ووجها وجبينا.

وكذلك صوروا نعيم الآخرة وعذابها بصورة محسوسة مألوفة للجمهور ، فجعلوا في الجنة حورا وولدانا ، وفاكهة ونخلا ورمانا ، وفي النار سعيرا ولهبا ، وعناء ونصبا ، وحيات وعقارب الخ ، ومن أجل أن الجمهور لا يستطيع فهم هذه الحقائق والمعاني المجردة الا بواسطة هذه الأشياء المحسوسة المتخيلة يحرم تأويله لهم ، لأنهم لا يطيقون فهم هذه التأويلات فيقعون في الضلال ، ويبادرون الى الانكار ، وأما الخاصة من أهل الفلسفة والحكمة ، فان تأويله لهم بما يبعد عنه هذه التشبيهات والتمثيلات ، والصور المادية المحسوسة حلال ، بل واجب لأنهم يستطيعون ادراك المعاني المجردة المقصودة من وراء هذه الألفاظ ، وأما إذا تأولناه للعامة فقد جنينا عليهم وعلى الدين جناية كبرى ، وخرقنا سياج بستان الحقائق الذي يجب أن يظل وقفا على الخاصة وحدهم ، ويمنع العامة من ولوجه.

١٤٨

هذا ما يزعمه الفلاسفة. ومن العجيب أن يجاري عالم مسلم لقب بحجة الاسلام واشتغل بالرد على هؤلاء المتفلسفة ، وهو الغزالي ، هؤلاء الضلال في تلك الضلالة فيبيح التأويل للخاصة ويمنع منه العامة ، ويؤلف في ذلك كتابا يسميه (الجام العوام عن علم الكلام) ولو أنصف نفسه لكانت عنده أحق بهذا اللجام من سائر الأنام ولله في خلقه حكمة لا ترام.

* * *

لكن حقيقة قولهم ان قد اتوا

بالكذب عند مصالح الانسان

والفيلسوف وذا الرسول لديهم

متفاوتان وما هما عدلان

أما الرسول ففيلسوف عوامهم

والفيلسوف نبي ذي البرهان

والحق عندهم ففيما قاله

اتباع صاحب منطق اليونان

ومضى على هذه المقالة أمة

خلف ابن سينا فاغتذوا بلبان

منهم نصير الكفر في أصحابه

الناصرين لملة الشيطان

فأسأل بهم ذا خبرة تلقاهم

أعداء كل موحد رباني

وأسأل بهم ذا خبرة تلقاهم

اعداء رسل الله والقرآن

الشرح : يعني أن حقيقة قول هؤلاء المتفلسفة أن الرسل لم يخاطبوا العامة بالحق الصريح. وأنهم انما جاءوا به في اثواب مزورة مموهة هو نسبة هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام إلى الكذب ، ولكنهم يقولون انهم كذبوا للمصلحة ، لأن غرضهم هو تنظيم أحوال العامة واصلاح معاشهم ، ولا شك أن هذا منهم كفر بالرسل وبالشرائع وقدح في العصمة الواجبة للأنبياء.

ومن كفرهم أيضا أنهم يجعلون الفيلسوف فوق منزلة الرسول ، ويقولون أن الرسل انما بعثوا للعامة ، فهم فلاسفة العوام ، ولكن الفيلسوف هو نبي أصحاب العقول من الخاصة الذين يطلبون الحقائق بالبراهين. والحق عندهم فيما قاله أرسطو صاحب المنطق وأتباعه من المشائين ، لا فيما قاله رسل رب العالمين.

هذا ما قاله ابن سينا ، ذلك الفيلسوف الملحد ، ومضت عليه أمة من بعده

١٤٩

اغتذت بلبانه ، منهم ذلك المارق المسمى بالخواجه نصير الدين الطوسي ، وما كان الا ناصر للكفر والالحاد ، وكذلك أصحابه من أنصار ملة الشيطان ، فاسأل بهؤلاء خبيرا ينبيك عن عدواتهم لأهل التوحيد ولرسل الله والقرآن.

* * *

صوفيهم عبد الوجود المطلق

المعدوم عند العقل في الأعيان

أو ملحد بالاتحاد يدين لا التوحي

د منسلخ من الأديان

معبوده موطوءه فيه يرى

وصف الجمال ومظهر الاحسان

الله أكبر كم على ذا المذهب ال

ملعون بين الناس من شيخان

يبقون منهم دعوة ويقبلوا

ن أياديا منهم رجا الغفران

ولو أنهم عرفوا حقيقة أمرهم

رجموهم لا شك بالصوان

فابذر لهم أن كنت تبغي كشفهم

وافرش لهم كفا من الاتبان

وأظهر بمظهر قابل منهم ولا

تظهر بمظهر صاحب النكران

وانظر الى أنهار كفر فجرت

وتهم لو لا السيف بالجريان

الشرح : يعني أن صوفيّ هؤلاء المارقين ، وهو محيي الدين بن عربي وأشياعه من أصحاب وحدة الوجود يعبد وجودا مطلقا كليا ، ولا وجود له في الأعيان ، وانما هو معنى معقول في الأذهان ، وهو كذلك ملحد منسلخ عن الأديان ، لأنه يدين بالاتحاد الذي هو اعتقاد أن الله والعالم شيء واحد ، وأن الخلق عين الخالق ، ولا يدين بالتوحيد الذي بعث الله به أنبياءه ورسله ، وهو يزعم أن الله في كل شيء ، فيتخذ من جميع مظاهر الوجود معبودات له ، وأعظم مظهر عنده مظهر الرب فيه هو المرأة ، ولذلك كانت أحق بالعبادة من سائر مظاهر الوجود وحيث يرى فيها وصف الجمال ومظهر الاحسان.

هذه حقيقة هذا المذهب الملعون الذي يدين به هذا الزنديق وأتباعه ، وأن تعجب فعجب أن ترى شيوخا على هذا المذهب الخبيث ، والناس يقبلون عليهم ويتبركون بهم ويقبلون منهم الأيدي طمعا في مغفرة الله ، ولو عرفوا حقيقتهم

١٥٠

وانكشف لهم أمرهم لرجموهم بالحجارة الصلبة التي تدمي وجوههم وتمزق جلودهم جزاء كفرهم وشرهم ، فإذا أردت أن تعرفهم وتكشف حقيقتهم فلا تبادههم بالانكار ، ولكن تلطف معهم وأظهر لهم الطاعة والخضوع ، فترى عند ذلك أنهار من الكفر العظيم يفجرونها ، ولو لا خوفهم من السيوف لنشروها وأذاعوها بين الناس.

* * *

فصل

في مقالات طوائف الاتحادية في كلام الرب جل جلاله

وأتت طوائف الاتحاد بملة

طمت على ما قال كل لسان

قالوا كلام الله كل كلام هذا ال

خلق من جن ومن انسان

نظما ونثرا زوره وصحيحه

صدقا وكذبا واضح البطلان

فالسب والشتم القبيح وقذفهم

للمحصنات وكل نوع اغان

والنوح والتعزيم والسحر المب

ين وسائر البهتان والهذيان

هو عين قول الله جل جلاله

وكلامه حقا بلا نكران

هذا الذي أدى إليه أصلهم

وعليه قام مكسح البنيان

الشرح : سبق الكلام على مذاهب الاتحادية الذين زعموا أن الوجود واحد وأنه ليس ثم وجودان متغايران ، وجود واجب ووجود ممكن ، وذكرنا أنهم اختلفوا في هذه الموجودات المتكاثرة ، هل هي أجزاء لذلك الوجود الواحد فتكون نسبتها إليه كنسبة أعضاء الجسم الى الجسم ، أو كنسبة قوي النفس المختلفة إليها ، أو هي أنواع لذلك الوجود وهو كالجنس لها ، أو أن تلك الكثرة وهم وخداع من الحس لا حقيقة لها؟ ومهما كان اختلافهم فإن الأصل الذي اتفقوا عليه أن العوالم كلها هي مظاهر وتجليات للرب جل شأنه ، وأن وجودها عين وجوده ، فلزمهم على هذا الأصل الأعرج الفاسد أن يكون كل كلام في الوجود هو كلامه سبحانه كما قال شاعرهم.

١٥١

وكل كلام في الوجود كلامه

سواء علينا نثره ونظامه

وحسبك من مذهب قبحا وشناعة أن يجعل الله عزوجل هو المتكلم بكلام سائر الخلق من جن وأنس وغيرهما ، مع اشتمال هذا الكلام على أنواع من القبائح والمنكرات لا يعقل صدورها عن الحق جل شأنه ، كالزور والكذب ، والشتم والسب ، وقذف المحصنات ، وأنواع الأغاني بما فيها من فحش وخلاعة ، والنياحة ورقي السحر وتعازيمه ، وما إلى ذلك من البهتان والهذيان ، فيقول عاقل أن هذا الكلام الباطل صادر عن الله؟ وهو الذي لا يأمر بالفحشاء ، وهو الذي تمت كلماته صدقا وعدلا لا مبدلا لكلامه ، وهو الذي قوله الحق وله الملك ، ولكن هؤلاء الزنادقة من الاتحادية يلزمهم أن يقولوا ذلك بناء على أصلهم الخبيث الذي أقاموا عليه بناءهم المكسح المنهار.

* * *

اذ أصلهم أن الاله حقيقة

عين الوجود وعين ذي الأكوان

فكلامها وصفاتها هو قوله

وصفاته ما هاهنا قولان

وكذاك قالوا أنه الموصوف بالض

دين من قبح ومن إحسان

وكذلك قد وصفوه أيضا بالكما

ل وضده من سائر النقصان

هذي مقالات الطوائف كلها

حملت أليك رخيصة الأثمان

وأظن لو فتشت كتب الناس ما

ألفيتها أبدا بذا التبيان

زفت أليك فإن يكن لك ناظر

أبصرت ذات الحسن والاحسان

الشرح : يعني أن الأصل والمبدأ الذي اتفق عليه هؤلاء الاتحادية والذي بنوا عليه كل شناعاتهم أن الاله في الحقيقة هو عين هذا الوجود الظاهر ، وهو عين هذه الأكوان المخلوقة ، وحينئذ فيكون كلام هذه المخلوقات وصفاتها هي عين كلامه وصفاته ، اذ كانت هي عينه ، ويكون كذلك هو نفسه الموصوف بالضدين حين يقال هذا حسن وهذا قبيح ، اذ ليس ثمة غيره ، ويكون أيضا هو الموصوف بالكمال وضده وهو النقص ، لأنه عين الموصوف بكل منهما ، فهو

١٥٢

عندهم مجمع الأضداد والمتقابلات ، فهو الرب والعبد والخالق والمخلوق ، والمالك والمملوك ، والآمر والمأمور ، والسيد والمسود ، والمكلف والمكلف ، والمؤمن والكافر والبر والفاجر بل هو الليل النهار والماء والنار والأرض والسماء الخ. فما أشنع ما رضي هؤلاء لربهم ، الذي يزعمون كذبا وزورا أنهم أهل معرفته وولايته ، وما أقبح ما رضوا لأنفسهم من الارتماء في أحضان الجهل والحماقة.

وهكذا يسوق إلينا المؤلف رحمه‌الله مقالات الطوائف كلها هذا السوق الرائع ، ويحملها إلينا سهلة التناول رخيصة الأثمان ، بحيث لم نجد في فهمها من نظمه كدا ولا تعبا ، ولم يحوجنا إلى أن نفتش عنها هنا وهناك في بطون الكتب على أننا لو فتشنا كتب أهل النظر جميعا ما ألفينا هذه المقالات والمذاهب مذكورة على هذا النحو البديع من الدقة والبيان ، فجزاه الله عن قارئيه ومحبي كتبه ومصنفاته خير الجزاء بمنه وكرمه.

فاعطف على الجهمية المغل الألي

خرقوا سياج العقل والقرآن

شرد بهم من خلفهم واكسرهم

بل ناد في ناديهم بأذان

أفسدتم المعقول والمنقول وال

مسموع من لغة بكل لسان

أيصح وصف الشيء بالمشتق ال

مسلوب معناه لذي الأذهان

أيصح صبار ولا صبر له

ويصح شكار بلا شكران

ويصح علام ولا علم له

ويصح غفار بلا غفران

ويقال هذا سامع أو مبصر

والسمع والابصار مفقودان

هذا محال في العقول وفي النقو

ل وفي اللغات وغير ذي امكان

الشرح : بعد أن فرغ المؤلف من ذكر مقالات الطوائف في كلام الرب عزوجل وصفاته عطف عليها بالنقض والابطال وبدأ منها بالجهمية نفاة الصفات لأنهم الأصل الذي تفرع عنه كثير من المقالات الفاسدة كما سبق ووصفهم بالمغل يعني المغول وهم التتار ، لأن التتار بعد غزوهم للبلاد الإسلامية ودخولهم في

١٥٣

الإسلام كانوا من أنصار التجهم والتعطيل بتأثير وزيرهم نصير الدين الطوسي. ثم وصفهم ثانيا بأنهم خرقوا سياج العقل والقرآن ، لأن أقوالهم مناقضة للعقل الصريح ، ومخالفة للنقل الصحيح. وهذا من شأنه أن يغري صاحب الحق بهم فيحمل عليهم حملة صادقة يشرد بها من خلفهم ، ويكسر بها شرتهم ويصرخ فيهم منكرا عليهم ما ذهبوا إليه مما خالفوا فيه العقل والنقل واللغة جميعا بنفي صفات الله عزوجل فإن العقل يثبتها لأنها صفات كمال يستحيل على الله خلوه عنها والنقول من الكتاب والسنة مصرحة بثبوتها له ، واللغات كلها متفقة على أن إطلاق المشتق على شيء يقتضي مأخذ الاشتقاق للموصوف فلا يصح وصف الشيء بالمشتق ويكون معناه مسلوبا عنه ، بل يجب أن يكون المعنى الذي هو مبدأ الاشتقاق ثابتا له ، فإذا قيل فلان صبار دل هذا الاطلاق على ثبوت الصبر له ، فلا يصح صبار لا صبر له فإنه تناقض ، وكذلك لا يقال شكار الا لموصوف بالشكر وعلام غفار الا لموصوف بالعلم والغفران ، وكذلك لا يقال سامع أو مبصر وهو فاقد للسمع والابصار. هذا مما اتفق على استحالته العقل والنقل وسائر اللغات وهو غير ممكن بحال من الأحوال.

* * *

فلئن زعمتم أنه متكلم

لكن بقول قام بالانسان

أو غيره فيقال هذا باطل

وعليكم في ذاك محذوران

نفي اشتقاق اللفظ للموجود مع

ناه به وثبوته للثاني

أعني الذي ما قام معناه به

قلب الحقائق أقبح البهتان

ونظير ذا أخوان هذا مبصر

وأخوه معدود من العميان

سميت الأعمى بصيرا اذ أخو

ه مبصر وبعكسه في الثاني

الشرح : يرد المؤلف على هؤلاء الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة الذين زعموا أن معنى كونه تعالى متكلما أنه خالق للكلام في غيره ، فليس الكلام وصفا له هو ولكنه وصف للمحل الذي خلقه الله فيه من انسان وغيره. فيقول ان هذا من

١٥٤

أبطل الباطل ويلزمكم فيه محذوران : الأول نفي اللفظ المشتق عمن قام به معناه ووجد فيه ، والثاني اثباته للمسلوب عنه ذلك المعنى ، وهذا من قلب الحقائق ، وهو أقبح أنواع الكذب ، ونظير هذا اذا كان هناك أخوان ، أحدهما مبصر والآخر أعمى فاقد لحاسة البصر ، فسمى الأعمى بصيرا لأن أخاه كذلك ، مع أنه فاقد للمعنى الذي أخذ منه المشتق وهو بصير فيكون قد أطلق المشتق على فاقد لمعناه ومثله يقال في عكس ذلك وهو تسمية الأخ المبصر أعمى لأن أخاه كذلك والحاصل أنه لا يعقل من قولنا متكلم الا من قام به الكلام لا من أوجد في غيره الكلام فإذا أطلق متكلم على من أوجد الكلام في غيره كان في ذلك إطلاق للمشتق على من لم يقم به معناه ولم يوجد فيه : وكان في ذلك نفي المشتق عمن ثبت له معناه ووجد فيه ، وهذا تخليط وهذيان لا يليق بانسان.

* * *

فلئن زعمتم أن ذلك ثابت

في فعله كالخلق للأكوان

والفعل ليس بقائم بالهنا

اذ لا يكون محل ذي حدثان

ويصح أن يشتق منه خالق

فكذلك المتكلم الوحداني

هو فاعل لكلامه وكتابه

ليس الكلام له بوصف معان

ومخالف المعقول والمنقول وال

فطرات والمسموع للانسان

من قال أن كلامه سبحانه

وصف قديم أحرف ومعان

والسين عند الباء ليست بعدها

لكن هما حرفان مقترنان

الشرح : لما أنكر المؤلف على الجهمية والمعتزلة ما زعموه من أنه تعالى متكلم بكلام قائم بغيره ، وبين أن ذلك مخالف للعقل والنقل ولما هو معروف في سائر اللغات من أن الوصف بالمشتق يقتضي قيام معناه بالموصوف به لا بغيره أورد على ذلك معارضة من جانب هؤلاء الخصوم بأن ذلك الذي قلناه في معنى متكلم هو ثابت في صفات الافعال مثل خالق ورازق ، فان وصف الله عزوجل بهما لم يقتض قيام معناهما من الخلق والرزق به لان كلا منهما فعل حادث ، والله ليس

١٥٥

محلا للحوادث ، فإذا صح أن يشتق من الخلق الذي ليس قائما به وصفا له وهو خالق ، فكذلك يصح أن يقال له متكلم بمعنى أنه فاعل لكلامه وكتابه دون أن يكون الكلام وصف معنى له قائما بذاته وعلى هذا لا يكون مذهبنا مخالفا للعقل والنقل واللغة كما زعمتم ، ولكن الذي يصح أن يحكم عليه بتلك المخالفة للعقل والنقل والفطرة مذهب هؤلاء الاقترانية الذين زعموا أن كلام الله بألفاظه ومعانيه قديم وأن حروفه مجتمعة في الأزل لا ترتيب ولا تعاقب بينها ، فالسين من بسم الله تكون مع الباء في النطق لا بعدها متأخرة عنها بل مقارنة لها فارتكبوا بذلك أشنع مخالفة للضرورة القاضية بأن الحروف لا يتصور وجودها ولا النطق بها الا مع التعاقب على نحو ورودها الى الاسماع سواء بسواء.

* * *

أو قال ان كلامه سبحانه

معنى قديم قام بالرحمن

ما أن له كل ولا بعض ولا ال

عربي حقيقته ولا العبراني

والأمر عين النهي واستفهامه

هو عين أخبار بلا فرقان

وكلامه كحياته ما ذاك مق

دور له بل لازم الرحمن

هذا الذي قد خالف المعقول وال

منقول والفطرات للانسان

أما الذي قد قال ان كلامه

ذو أحرف قد رتبت ببيان

وكلامه بمشيئة وإرادة

كالفعل منه كلاهما سيان

فهو الذي قد قال قولا يعلم ال

عقلاء صحته بلا نكران

الشرح : ومثل هؤلاء الاقترانية في شناعة مذهبهم وفساده طائفة الكلابية والأشعرية الذين زعموا أن كلامه سبحانه هو معنى واحد قديم قائم بذاته لا تعدد فيه ، وليس له كل ولا بعض ولا يوصف بأنه عربي ولا عبراني والأمر فيه عين النهي والاستفهام نفس الخبر ، وهو وصف للذات لازم لها أزلا وأبدا كالحياة وليس هو صفة فعل فلا يتعلق بمشيئته تعالى وقدرته. فهذان المذهبان هما اللذان يصح أن يقال أنهما مخالفان للعقل والنقل والفطرة الانسانية.

١٥٦

أما مذهب الذي يقول بأن كلامه تعالى حروف وألفاظ مرتبة ، وأنه متعلق بمشيئته وإرادته مثل فعله ، فقد قال ما يعلم جميع العقلاء صحته دون أن يتوجه عليه انكار ، ولا شك أنه لا ينكر علن المعتزلة قولهم ان كلامه تعالى حروف وألفاظ عربية ، وأنه متعلق بالقدرة والمشيئة كسائر الافعال ، ولكن موضع الانكار عليهم هو زعمهم أن الكلام ليس صفة لله قائمة به ، بل مخلوقا له منفصلا عنه ، كما ينكر على الكلابية والاشعرية جعلهم الكلام صفة ذات ، وزعمهم أنه ليس بحرف ولا صوت ، ونفيهم أنه صفة فعل متعلقة بالقدرة والاختيار.

* * *

فلأي شيء كان ما قد قلتم

أولى وأقرب منه للبرهان

ولأي شيء دائما كفرتم

أصحاب هذا القول بالعدوان

فدعوا الدعاوى وابحثوا معنى

بتحقيق وانصاف بلا عدوان

وارفوا مذاهبكم وسدوا خرقها

ان كان ذاك الرفو في الامكان

فاحكم هداك الله بينهم فقد

ادلوا أليك بحجة وبيان

لا تنصرن سوى الحديث وأهله

هم عسكر الايمان والقرآن

وتحيزن إليهم لا غيرهم

لتكون منصورا لدى الرحمن

الشرح : بعد ما برر الجهمية والمعتزلة مذهبهم في الكلام بقياسه على الفعل وقالوا أن وصفه تعالى بأنه متكلم هو نظير وصفه بأنه خالق أو رازق لا يقتضي ثبوت معناه لله ، وشنعوا على مذاهب خصومهم من الكلابية والاشعرية والاقترانية قالوا لخصومهم متسائلين : لأي شيء كان ما قلتم أنتم مع ظهور بطلانه أولى من مذهبنا بالقبول وأقرب منه الى الحجة والبرهان ، ولأي شيء تكفروننا بهذا القول ظلما وعدوانا؟ فهل تظنون أن الأمر مجرد دعوى تدعى بلا دليل؟ فاتركوا الدعاوى اذا وتعالوا نحن وأنتم نبحث كلا من مذهبنا ومذاهبكم بحثا يقوم على التمحيص والانصاف ، لا على البغي والعدوان ، وبدلا من أن تشتغلوا

١٥٧

بنقض مذهبنا وأبطاله ، فارجعوا الى مذاهبكم وأصلحوا من خللها وسدوا خرقها ان امكنكم ذلك أو استطعتم إليه سبيلا.

هذا هو مضمون ايراد المعتزلة وحجتهم على صحة مذهبهم ورجحانه على مذاهب خصومهم ، وقد انتدب المؤلف حكما من أهل الحق ليحكم بينهم بعد ما أدلوا بما لديهم من حجة وبيان ، وأوصاه أن لا ينصر الا السنة وأهلها ، وان لا يقول الا بما قاله أهل الحديث ، فإنهم جند الإيمان وعسكر القرآن ، وأمره أن يتحيز ويميل إليهم لا الى غيرهم من طوائف المبتدعة الضلال ليكون جزاؤه أن ينصره الله بنصره الذي وعد به المؤمنين في قوله (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم : ٤٧].

* * *

فتقول هذا القدر قد أعيا على

أهل الكلام وقاده أصلان

إحداهما هل فعل مفعوله

أو غيره فهما لهم قولان

والقائلون بأنه هو عينه

فروا من الأوصاف بالحدثان

لكن حقيقة قولهم وصريحة

تعطيل خالق هذه الأكوان

عن فعله اذ فعله مفعوله

لكنه ما قام بالرحمن

فعلى الحقيقة ما له فعل اذ ال

مفعول منفصل عن الديان

الشرح : هذا جواب المؤلف على ايراد المعتزلة الذي أرادوا به تصحيح مذهبهم في الكلام بقياسه على الفعل ، وقولهم أن وصفه بمتكلم لا يقتضي قيام الكلام به ، كما لا يقتضي وصفه بفاعل قيام الفعل به ، وقد استطرد المؤلف في الجواب بذكر مذاهب المتكلمين في فعله تعالى ، وهل هو عين مفعوله أو غيره ، فالقائلون بأنه هو عينه كالجهمية والمعتزلة انما دعاهم الى ذلك فرارهم من القول بقيام الحوادث بذاته ، فإن الفعل اذا جعل وصفا له لم يكن الا حادثا ، والله ليس محلا للحوادث عندهم ، لأن ذلك يستلزم حدوثه ، وهذا الأمر مما وافقت فيه

١٥٨

الأشعرية المعتزلة حيث منعوا هم أيضا قيام الحوادث بذاته ، وقالوا أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.

وقد قادت هذه القضية الكاذبة كلا من الطائفتين الى أحكام فاسدة فقد التزم المعتزلة لأجلها أن يكون الفعل عين المفعول ، وأن يكون كلامه تعالى مخلوقا له منفصلا عنه ، والتزم الأشاعرة لأجلها نفي الحرف والصوت ، ونفي صفات الأفعال من الاستواء والمجيء ، والغضب والرضى ، والمحبة والسخط ، والكراهية والنزول والاتيان الخ.

والتزموا أن يكون الله قد تكلم في الأزل بكلام سمعه موسى ، وأنه ناداه وناجاه في الأزل الى غير ذلك مما هذى به الفريقان مما يصادم المعقول والمنقول ، مصادمة صريحة.

وحقيقة قول هؤلاء المعتزلة والجهمية أن الفعل عين المفعول هو نفي الفعل وتعطيل الخالق عنه ، فإنه إذا كان الفعل هو المفعول ، ومعلوم أن المفعول مخلوق له منفصل عنه لم يكن له في الحقيقة فعل هو وصف له قائم به ، فتفسير الفعل بالمفعول مستلزم لنفيه ، وأنه ليس هناك الا المفعول.

* * *

والقائلون بأنه غير له

متنازعون وهم فطائفتان

إحداهما قالت قديم قائم

بالذات وهو كقدرة المنان

سموه تكوينا قديما قاله

اتباع شيخ العالم النعماني

وخصومهم لم ينصفوا في رده

بل كابروهم ما اتوا ببيان

والآخرون رأوه أمرا حادثا

بالذات قام وانهم نوعان

إحداهما جعلته مفتتحا به

حذر التسلسل ليس ذا إمكان

هذا الذي قالته كرامية

ففعاله وكلامه سيان

الشرح : وأما القائلون بأن الفعل غير المفعول فقد انقسموا أولا الى طائفتين

١٥٩

إحداهما قالت أنه قديم قائم بالذات لازم لها كالقدرة ، ولم يجعلوه متعلقا بمشيئته تعالى وقدرته ، وهم الماتريدية أتباع الشيخ أبي منصور الماتريدي من علماء الحنفيين وهذه المسألة مما خالف فيه الماتريدية الأشاعرة رغم ما بين الطائفتين من اتفاق في كثير من مسائل الكلام ، فإن المشهور عن الاشاعرة أنهم لا يثبتون الا سبع صفات ، يسمونها صفات المعاني ، وهي : الحياة والقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والكلام ، ويجعلونها كلها قديمة وقائمة بالذات. وأما صفات الأفعال عندهم من الخلق والرزق والاحياء والامانة الخ ، فيجعلونها تعلقات تنجيزية حادثة للقدرة القديمة ، ومن العجب أنهم يقولون أن تعلقات الإرادة كلها تنجيزية قديمة ، فكيف اذا تخلف عنها المراد في الأزل. وكذلك قالوا في تعلقات العلم والكلام. وأما الماتريدية فقد أثبتوا التكوين صفة أخرى وراء الصفات السبع المتقدمة وجعلوها قديمة كما سبق ، وقد عارضهم خصومهم من الأشاعرة وردوا قولهم في اثبات هذه الصفة مكابرة بلا دليل.

وأما الطائفة الأخرى فقد ذهبت الى أن الفعل حادث قائم بالذات ، ثم انقسمت الى فرقتين : الكرامية أتباع محمد بن كرام ، وهؤلاء ذهبوا الى أن فعله حادث قائم بذاته ومتعلق بمشيئته وقدرته ، ولكنهم جعلوا له ابتداء في ذاته ، بمعنى أنه لم يكن فاعلا ثم فعل. وهكذا قالوا في جميع الصفات المتعلقة بالمشيئة من الكلام والرضى والمحبة والنزول والاستواء ، والذي دعاهم الى ذلك الخوف من القول بالتسلسل في أفعاله ، فيلزم قدم أنواع المفعولات ، فيسد ذلك عليهم في زعمهم طريق اثبات الصانع ، اذ كان اثباته من طريق حدوث المخلوقات ، وذهبوا الى أن الفعل والكلام سيان ، كلاهما حادث له ابتداء في الذات ، فالله عندهم لم يكن متكلما ولا فاعلا ، ثم حدث له الفعل والكلام ، فعطلوه سبحانه عن فعله وكلامه وجعلوا كلا منهما ممتنعا في الأزل.

* * *

والآخرون أولو الحديث كأحمد

ذاك ابن حنبل الرضي الشيباني

١٦٠