شرح القصيدة النونيّة - ج ١

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ١

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥
الجزء ١ الجزء ٢

بالأجسام ، وهذا هو مذهب الجهمية في الأصل ، وهم شيوخه وأساتذته ، وعنهم أخذه من اقتدى بهم من الصبيان ، يعني متأخري المعتزلة.

* * *

لكن أهل الاعتزال قديمهم

لم يذهبوا ذا المذهب الشيطاني

وهم الألى اعتزلوا عن الحسن الر

ضي البصري ذاك العالم الرباني

وكذاك أتباع على منهاجهم

من قبل جهم صاحب الحدثان

لكنما متأخروهم بعد ذا

لك وافقوا جهما على الكفران

فهم بذا جهمية أهل اعتزا

ل ثوبهم أضحى له علمان

ولقد تقلد كفرهم خمسون في

عشر من العلماء في البلدان

واللالكائي الامام حكاه عن

هم بل حكاه قبله الطبراني

الشرح : وأما قدماء المعتزلة كواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ومن سار على نهجهما قبل حدوث بدعة الجهم فإنهم لم يذهبوا هذا المذهب الفاسد الذي هو من وحي الشيطان ، وهؤلاء القدامى من المعتزلة (إنما لقبوا بهذا اللقب عندهم) الذين اعتزلوا مجلس الحسن البصري رضي الله عنه ، وكان سبب اعتزالهم أن رجلا وقف على مجلس الحسن وسأله عن حكم مرتكب الكبيرة ، وهل هو مؤمن أو كافر فإن الخوارج كانوا يكفرونه ويحكمون بخلوده في النار ، والمرجئة كانوا يقولون لا يضر مع الإيمان معصية ، وقبل أن يجيب الحسن قال واصل بن عطاء : أنا لا أسميه مؤمنا ولا كافرا ، ولكنه في منزلة بين المنزلتين ، واسميه فاسقا وأقول بخلوده في النار ، ثم اعتزل حلقة الحسن ومعه عمرو بن عبيد ، وأخذ يقرر مذهبه ، فقال الحسن : اعتزل عنا واصل ، فسموا لذلك بالمعتزلة ، وقد وردت روايات أخرى في سبب هذه التسمية ولا مجال لذكرها هنا ، والحاصل أن هؤلاء القدامى وأتباعهم يوافقون أهل السنة والجماعة في أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود.

وأما المتأخرون منهم من أمثال أبي الهذيل العلاف والنظام والجاحظ وغيرهم

١٢١

فوافقوا جهما على الكفر بكلام الله عزوجل وانكار أن الله متكلم بالقرآن أو كلم موسى عليه‌السلام بكلام سمعه ، فجمعوا بذلك بين التجهم والاعتزال وصاروا كصاحب ثوب له علمان ، ولقد حكم بكفرهم من أجل هذا الذي قالوه خمسمائة من العلماء في مختلف البلدان. حكى ذلك عنهم اللالكائي في مسنده ، بل حكاه من قبله الإمام الطبراني وقوله قديمهم ، بدل من أهل الاعتزال. وقوله : الرضي صفة للحسن ، وهي مصدر بمعنى المرضي.

* * *

فصل

في مذهب الكرامية

والقائلون بأنه بمشيئة

في ذاته أيضا فهم نوعان

إحداهما جعلته مبدوءا به

نوعا حذار تسلسل الاعيان

فيسد ذاك عليهم في زعمهم

اثبات خالق هذه الأكوان

فلذاك قالوا أنه ذو أول

ما للفناء عليه من سلطان

وكلامه كفعاله وكلاهما

ذو مبدأ بل ليس ينتهيان

الشرح : وأما الفرقة الثانية من القائلين بأن الكلام متعلق بمشيئته تعالى وقدرته فانقسموا إلى طائفتين ، الطائفة الأولى الكرامية أتباع محمد بن كرام ، وهؤلاء ذهبوا إلى أن الله تعالى يتكلم بمشيئته بالقرآن العربي وغيره ، إلا أنهم لا يقولون لم يزل متكلما إذا شاء لأنه يمتنع عندهم أن يكون الله متكلما في الازل فيجعلون كلامه حادثا في ذاته مسبوقا بالعدم بمعنى أن الله لم يكن عندهم متكلما ، ثم صار متكلما ، فنوع الكلام عندهم له ابتداء في ذاته ، وإنما الجأهم إلى ذلك الخوف من القول بحوادث لا أول لها ، فإن هذا يلزمه التسلسل في الموجودات والقول بقدم الانواع فينسد عليهم طريق اثبات الصانع في زعمهم إذ كان الطريق إلى ذلك هو حدوث الاشياء المستلزم لوجود محدث لها فلهذا

١٢٢

اضطر الكرامية إلى أن يجعلوا لما يحدث في ذاته تعالى من الكلام أو الفعل ابتداء ، لكنه مع ذلك إذ حدث فليس قابلا عندهم للزوال والفناء ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة الفرقان (ومحمد بن كرام فكان بعد ابن كلاب في عصر مسلم ابن الحجاج اثبت أنه يوصف بالصفات الاختيارية ، ويتكلم بمشيئته وقدرته ، ولكن عنده يمتنع أنه كان في الأزل متكلما بمشيئته وقدرته لامتناع حوادث لا أول لها ، فلم يقل بقول السلف لم يزل متكلما إذا شاء ، وقال هو وأصحابه في المشهور أن الحوادث التي تقوم به لا يخلو عنها ، ولا تزول عنه).

* * *

قالوا ولم ينصف خصوم جعجعوا

وأتوا بتشنيع بلا برهان

قلنا كما قالوه في أفعاله

بل بيننا بون من الفرقان

بل نحن أسعد منهم بالحق إذ

قلنا هما بالله قائمتان

وهم فقالوا لم يقم بالله لا

فعل ولا قول فتعطيلان

لفعاله ومقاله شرا وأب

طل من حلول حوادث ببيان

تعطيله عن فعله وكلامه

شر من التشنيع بالهذيان

هذي مقالات ابن كرام وما

ردوا عليه قط بالبرهان

أني وما قد قال أقرب منهم

للعقل والآثار والقرآن

لكنهم جاءوا له بجعاجع

وفراقع وقعاقع بشمان

الشرح : قالت الكرامية أن خصومنا من الكلابية والأشعرية قد شنعوا علينا في قولنا بحدوث الكلام في ذاته تعالى بمشيئته واختياره مع أنه لا حجة لهم في هذا التشنيع على أنهم قد قالوا بمثل قولنا في أفعاله تعالى فجعلوها حادثة ، ولزمهم في ذلك مثل ما لزمنا من أن الله كان معطلا عن الفعل في الأزل. ثم صار فاعلا بلا تجدد سبب أوجد القدرة والامكان ، بل نحن أقرب منهم إلى الحق لأننا جعلنا الكلام والفعل صفتين قائمتين بذاته ، وأما هم فعطلوه عن قوله وفعله ، فإن القول المسموع عندهم مخلوق كما أن الفعل عين المفعول المخلوق ، ولا شك أن

١٢٣

تعطيل الباري عن قوله وفعله شر ، وأدخل في الباطل من القول بحلول الحوادث في ذاته ، والحق أن مقالة ابن كرام وان كانت منحرفة عن جادة الصواب حيث حكم بخلوه تعالى في الأزل من الكلام والفعل وهما من صفات كماله إلا أن خطأه أهون من خطأ الأشعرية ، ولهذا لم يستطيعوا أن يردوا عليه ببرهان جلي ، فإن ما قاله أقرب إلى العقل والنقل مما قالوه.

أما من جهة العقل فلأنه لا يعقل متكلما ولا فاعلا إلا من قام به الفعل والكلام وأما من جهة النقل فالنصوص كلها دلت على أن الله متكلم بمشيئته وقدرته ، وأن كلامه ليس إلا حروفا وأصواتا مسموعة.

قوله جعجعوا : أحدثوا ضجة شديدة ، وقوله : وأتوا بتشنيع من شنع عليه إذا نسبه إلى الشناعة وهي القبح. وقوله لفعاله ومقاله متعلق بتعطيلان في البيت قبله وتعطيلان مبتدأ خبره شر وأنى بمعنى كيف والاستفهام استبعاد والجعاجع الفراقع والقعاقع اسماء أصوات.

* * *

فصل

في ذكر مذهب أهل الحديث

والآخرون أولوا الحديث كأحمد

ومحمد وأئمة الإيمان

قالوا بأن الله حقا لم يزل

متكلما بمشيئة وبيان

ان الكلام هو الكمال فكيف يخ

لو عنه في أزل بلا إمكان

ويصير فيما لم يزل متكلما

ما ذا اقتضاه له من الإمكان

وتعاقب الكلمات أمر ثابت

للذات مثل تعاقب الأزمان

والله رب العرش قال حقيقة

حم مع طه بغير قران

بل أحرف مترتبات مثل ما

قد رتبت في مسمع الانسان

وقتان في وقت محال هكذا

حرفان أيضا يوجدا في آن

١٢٤

من واحد متكلم بل يوجدا

بالرسم أو يتكلم الرجلان

هذا هو المعقول أما اقترا

ن فليس معقولا لذي الأذهان

الشرح : وأما الآخرون من القائلين بأن الله متكلم بكلام قائم بذاته متعلق بمشيئته وارادته فهم أصحاب الحديث أهل السنة والجماعة كأحمد بن حنبل الشيباني ومحمد بن إسماعيل البخاري وغيرهما من أئمة الإيمان رضي الله عنهم ذهبوا إلى أن الله لم يزل متكلما إذا شاء ، لأن الكلام صفة كمال إذ أن من يتكلم أكمل ممن لا يتكلم ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازما لذاته وإذا فلا يعقل خلوه تعالى عنه في الازل ، لأن الخلو عن الكمال نقص يستحيل على الله ، ولأن الكلام إذا كان ممتنعا عليه في الأزل ، ثم صار متكلما فيما لا يزال ، فما الذي اقتضى انقلابه من الامتناع إلى الامكان ، مع أنه لم يتجدد في ذاته شيء يوجب ذلك الانقلاب فتبين أن الرب سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء بمعنى أن جنس كلامه قديم وتعاقب الكلمات وخروجها إلى الوجود شيئا بعد شيء هو أمر ثابت لها لذواتها مثل تعاقب الازمنة فكما أن أجزاء الزمان لا توجد مجتمعة ، بل توجد على سبيل التعاقب آنا بعد آن ، فكذلك الحروف التي هي أجزاء الكلمات لا يمكن النطق بها مجتمعة بحيث يكون النطق بالحروف الثاني مع الأول في آن واحد ، بل لا بد من وجودها على سبيل التعاقب والتسلسل حرفا بعد حرف ، فإذا قال الله عزوجل : (حم) أو (طه) فلا يعقل اجتماع الحرفين من كل من هاتين الآيتين بحيث ينطق بالميم مع الحاء ، أو بالهاء مع الطاء بل تأتي الحروف مترتبات في النطق كما هي مترتبة في الاسماع. وإذا كان وجود وقتين من الزمان في وقت واحد غير معقول لأن الزمان كم متصل غير قار الذات لا يجتمع أجزاؤه في الوجود ، فكذلك وجود حرفين من متكلم واحد في آن واحد مستحيل ، وإنما يعقل ذلك في الرسم أي الكتابة أو إذا كان المتكلم أكثر من واحد ، أما الاقتران الذي تزعم الاقترانية فشيء غير معقول لذوي الأذهان بل أن استحالته ضرورية لا تحتاج إلى بيان.

١٢٥

وكذا كلام من سوى متكلم

أيضا محال ليس في إمكان

الا لمن قام الكلام به فذا

ك كلامه المعقول في الأذهان

أيكون حيا سامعا أو مبصرا

من غير ما سمع وغير عيان

والسمع والأبصار قام بغيره

هذا المحال وواضح البهتان

وكذا مريد والإرادة لم تكن

وصفا له هذا من الهذيان

وكذا قدير ماله من قدره

قامت به من أوضح البطلان

والله جل جلاله متكلم

بالنقل والمعقول والبرهان

قد أجمعت رسل الاله عليه لم

ينكره من اتباعهم رجلان

فكلامه حقا يقوم به والا

لم يكن متكلما بقرآن

الشرح : وكما يستحيل وجود الحروف مقترنة كما تزعم الاقترانية ، فكذا يستحيل وجود كلام من غير متكلم ، ولا يعقل متكلم الا من قام به الكلام خلافا للمعتزلة الذين زعموا أن معنى كونه متكلما أنه خالق للكلام ، وان كلامه مخلوق منفصل عنه فيكون على رأيهم متكلما بلا كلام قائم به بل بكلام قائم بغيره وهذا سخف وهذيان. فإن اطلاق المشتق على شيء يقتضي ثبوت مأخذ الاشقاق لذلك الشيء وقيامه به بمعنى أن الاطلاق يقتضي وجود الصفة لا كما تزعم المعتزلة من ان الله عليم بلا علم ، وسميع بلا سمع ، وبصير بلا بصر ، وقدير بلا قدرة الخ. ويقتضي أيضا قيام تلك الصفة بموصوفها لا بغيره ، فلا يعقل مثلا حي بلا حياة أو حياة قائمة بغيره وكذلك سميع وبصير وعليم وقدير ومريد الخ. لا يعقل أن تكون هذه المشتقات دالة على ذات مجردة عن الصفات كما لا يعقل قيام تلك الصفات بغير تلك الذات الموصوفة بها ، فكذلك الكلام لا يكون الا وصفا للمتكلم به.

ولا يعقل متكلم الا من قام به الكلام والله تعالى موصوف بأنه متكلم باجماع أهل الاديان كلهم وبشهادة العقول الصحيحة والفطرة السليمة والبراهين القاطعة

١٢٦

ولا معنى لكونه متكلما الا قيام الكلام بذاته فيكون من جملة صفاته والا لم يكن متكلما بالقرآن العربي ولا بغيره.

* * *

والله قال وقائل وكذا يقول

الحق ليس كلامه بالفاني

ويكلم الثقلين يوم معادهم

حقا فيسمع قوله الثقلان

وكذا يكلم حزبه في جنة الحي

وان بالتسليم والرضوان

وكذا يكلم رسله يوم اللقا

حقا فيسألهم عن التبيان

ويراجع التكليم جل جلاله

وقت الجدال له من الانسان

ويكلم الكفار في العرصات تو

بيخا وتقريعا بلا غفران

ويكلم الكفار أيضا في الجح

يم أن اخسئوا فيها بكل هوان

والله قد نادى الكليم وقبله

سمع الندا في الجنة الأبوان

وأتى الندا في تسع آيات له

وصفا فراجعها من القرآن

الشرح : كما أن الله عزوجل يوصف بالتكليم والتكلم ، فكذلك يوصف بالقول وهو اللفظ المسموع ، فهو قد قال في الماضي وقائل الآن وسيقول غدا ، وقوله الحق الثابت الذي لا يخالطه باطل وكلماته لا نفاد لها ولا فناء قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٢٧] وهو سبحانه يكلم الثقلين من الانس والجن بكلام يسمعونه يوم القيامة وكذا يكلم أولياءه في جنة الخلد فيسلم عليهم ، ثم يقول لهم هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى ألم تدخلنا جنتك وتنجنا من نارك فيقول سبحانه سأعطيهم أفضل من ذلك ، فيقولون يا ربنا وما أفضل من ذلك فيقول سأحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ، كما ورد في الحديث.

وكذا يكلم رسله ويسألهم عن تبليغ الرسالة كما قال تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة :

١٢٧

١٠٩] وكذا يراجع سبحانه التكليم مع بعض عباده يوم القيامة عند جوابهم له ويكلم الكفار في عرصات القيامة كلام تقريع وتوبيخ ، ويكلمهم أيضا وهم في الجحيم فيقول لهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨] وهو سبحانه قد نادى الكليم موسى من جانب الطور الايمن ، ومن قبله نادى آدم وحواء عند ما وقعا في الخطيئة كما قال تعالى: (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) [الأعراف : ٢٢].

وقد وصف الله نفسه بالنداء في تسع مواضع من القرآن :

الأول : قوله تعالى : (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) [الأعراف : ٢٢].

الثاني : قوله (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) [مريم : ٥٢].

الثالث : قوله : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) [طه : ١١ ـ ١٢].

الرابع : قوله : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الشعراء : ١٠].

الخامس : قوله (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) [النمل : ٨].

السادس : قوله (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) [القصص : ٣٠].

السابع : قوله (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) [القصص : ٤٦].

الثامن : قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [القصص : ٦٢].

التاسع : قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) [القصص : ٦٥].

١٢٨

العاشر : قوله (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) [الصافات : ١٠٤].

الحادي عشر : قوله (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى * إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) [النازعات : ١٥ ، ١٦].

* * *

وكذا يكلم جبرئيل بأمره

حتى ينفذه بكل مكان

واذكر حديثا في صحيح محمد

ذاك البخاري العظيم الشأن

فيه نداء الله يوم معادنا

بالصوت يبلغ قاصيا والداني

هب أن هذا اللفظ ليس بثابت

بل ذكره مع حذفه سيان

ورواه عندكم البخاري المجس

م بل رواه مجسم فوقاني

أيصح في عقل وفي نقل ندا

ء ليس مسموعا لنا بأذان

أم أجمع العلماء والعقلاء من

أهل اللسان وأهل كل لسان

أن الندا الصوت الرفيع وضده

فهو النجاء كلاهما صوتان

والله موصوف بذاك حقيقة

هذا الحديث ومحكم القرآن

الشرح : يعني أن الله عزوجل إذا أراد أن يأمر أهل سماواته أو أرضه بأمر كلم به جبرائيل ملك الوحي عليه‌السلام فيقوم بتبليغه إليهم ، فإنه هو المختص بالوحي في السماء وفي الأرض جميعا ، وقد جاء في حديث صحيح رواه الإمام البخاري أن الله عزوجل ينادي عباده يوم القيامة بصوت يسمعه أهل الموقف جميعا القاصي منهم والداني ، وعلى فرض أن لفظ الصوت ليس بثابت لأنه من رواية أهل التجسيم في زعمهم ، فإنه لا حاجة إليه اذ العقل والنقل متفقان على أنه لا يكون نداء الا بصوت مسموع بالآذان ، ومما اجمع عليه العلماء والعقلاء من أهل اللسان العربي وغيره أن النداء هو الصوت العالي ، وأن ضده وهو النجاء يكون بصوت خافت غير مسموع الا ممن يناجي ، ولكن كلاهما صوت على كل حال والله موصوف به ، وقد جمع الله بينهما في قوله اخبارا عن موسى :

١٢٩

(وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) [مريم : ٥٢].

* * *

وأذكر حديثا لابن مسعود صر

يحا أنه ذو أحرف ببيان

الحرف منه في الجزا عشر من ال

حسنات ما فيهن من نقصان

وانظر الى السور التي افتتحت بأح

رفها ترى سرا عظيم الشأن

لم يأت قط بسورة الا أتى

في أثرها خبر عن القرآن

اذ كان أخبارا به عنها وفي

هذا الشفاء لطالب الإيمان

ويدل أن كلامه هو نفسها

لا غيرها والحق ذو تبيان

فأنظر إلى مبدأ الكتاب وبعدها الا

عراف ثم كذا الى لقمان

مع تلوها أيضا ومع حم مع

يس وافهم مقتضى القرآن

الشرح : مما يدل على أن القرآن الذي هو كلام الله هو هذا المؤلف من الحروف والألفاظ الذي نتلوه بألسنتنا ، ونحفظه في صدورنا ، ونكتبه بالمداد في صحفنا ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» وكذلك اذا تأملنا السور التي افتتحت بالفواتح من مثل : ألم ، والمص ، والر ، والمر ، وحم ، ويس ، ون ، وق ... الخ. نرى سرا عجيبا وهو أنه لم تفتتح سورة ببعض هذه الفواتح الا ورد على أثرها خبر عن القرآن اذ كان القرآن مخبرا به عنها مما يدل أعظم دلالة على أن القرآن هو نفس هذه الفواتح وأنه مركب من الحروف التي اشتملت عليها ، نرى ذلك في أول سورة البقرة أعني قوله تعالى : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ١ ، ٢] ثم في الأعراف : أعني قوله سبحانه : (المص* كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١ ، ٢] الآية. ونراه كذلك في أول لقمان هكذا (الم* تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) [لقمان : ١ ، ٢] ثم في السورة التي تتلوها ، أعني سورة السجدة : الم تنزيل ، وهو قوله تعالى : (الم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ

١٣٠

رَبِّ الْعالَمِينَ) [السجدة : ١ ، ٢] ونراه في الحواميم وفي سورة يس ، قال تعالى : (يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) [يس : ١ ، ٢] وقال (حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [غافر : ١ ، ٢] و (حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [فصلت : ١ ، ٢] الخ.

* * *

فصل

في الزامهم القول بنفي الرسالة اذا انتفت صفة الكلام

والله عزوجل موص آمر

ناه منب مرسل لبيان

ومخاطب ومحاسب ومنبئ

ومحدث ومخبر بالشان

ومكلم متكلم بل قائل

ومحذر ومبشر بأمان

هاد يقول الحق يرشد خلقه

بكلامه للحق والإيمان

فإذا انتفت صفة الكلام فكل

هذا منتف متحقق البطلان

الشرح : يريد أن الله عزوجل موصوف بصفات هي من لوازم اتصافه بصفة الكلام ، بحيث لا يمكن وصفه بها إذا لم يكن متكلما ، فهو سبحانه موص ، وهو اسم فاعل من أوصى ، والايصاء الأمر المؤكد ، وهو آمر من الأمر الذي هو طلب الفعل ، وهو ناه من النهي الذي هو طلب الكف ، وهو منب اسم فاعل من أنبأه بمعنى أخبره ، وهو مرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام لبيان شرائعه وارشاد عباده ، وهو مخاطب يخاطب أنبياءه ورسله ، ويخاطب أتباعهم من المؤمنين ويخاطب الكفار والمشركين ، ويخاطب جبريل أمين وحيه ، ويخاطب الملائكة المكرمين ، وهو محاسب يحاسب خلقه يوم القيامة ويسألهم عما فعلوه ويناقشهم فيه وهو منبئ اسم فاعل من أنبأه بالأمر ، بمعنى أخبره ، وهو محدث ومخبر ومكلم ، ومتكلم ، وقائل ومحذر المخالفين من العقاب ومبشر للطائعين بالثواب ، وهو هاد يهدي خلقه ويرشدهم بكلامه إلى ما يحبه منهم من الحق والإيمان. فهذه الصفات

١٣١

كلها تنتفي عن الله عزوجل ، اذا انتفت صفة الكلام فإنها لوازم لها ، ويلزم من انتفاء الملزوم انتفاء لازمه.

* * *

وإذا انتفت صفة الكلام كذلك ال

ارسال منفي بلا فرقان

فرسالة المبعوث تبليغ كلا

م المرسل الداعي بلا نقصان

وحقيقة الارسال نفس خطابه

للمرسلين وانه نوعان

نوع بغير وساطة ككلامه

موسى وجبريل القريب الداني

منه إليه من وراء حجابه

اذ لا تراه هاهنا العينان

والآخر التكليم منه بالوسا

طة وهو أيضا عنده ضربان

وحي وإرسال إليه وذاك في الش

ورى أتى في أحسن التبيان

الشرح : وكذلك يترتب على انتفاء صفة الكلام عن الله عزوجل انتفاء النبوات والرسالات وجحدها ، اذ لا معنى لرسالة المبعوث الا تبليغ كلام من أرسله من أوامر ونواه ، واخبار بلا زيادة ولا نقصان ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) [المائدة : ٦٧] وقال : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) [الشورى : ٤٨] فإذا لم يكن المرسل متكلما لم تتحقق ماهية الرسالة وتتعطل وظيفة الرسول ، وهي التبليغ لانتفاء المبلغ.

وكذلك حقيقة الارسال هي نفس خطابه للمرسلين المأمور بتبليغه الى الخلق ، وهذا الخطاب نوعان نوع يكون بلا واسطة وهو تكليمه للرسول مشافهة من وراء حجاب ككلامه لموسى ومحمد وجبريل عليهم الصلاة والسلام ، والثاني يكون بواسطة ، وهو أيضا نوعان : نوع يكون بالوحي والقاء المعنى في القلب ، وهو المعبر عنه بالنفث في الروع ، وآخر يكون بارسال الملك ، أما على حالته الملكية ، وهذا لم يقع الا لنبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه وآله وقع له مرتين ، وأما على صورة بشر ، وقد جمع الله أنواع الوحي كلها في الآية الكريمة التي في أواخر

١٣٢

سورة الشورى حيث قال : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الشورى : ٥١].

* * *

فصل

في إلزامهم التشبيه للرب بالجماد الناقص

إذا انتفت صفة الكلام

وإذا انتفت صفة الكلام فضدها

خرس وذلك غاية النقصان

فلئن زعمتم أن ذلك في الذي

هو قابل من أمة الحيوان

والرب ليس بقابل صفة الكلا

م فنفيها ما فيه من نقصان

فيقال سلب كلامه وقبوله

صفة الكلام أتم للنقصان

اذ أخرس الانسان أكمل حالة

من ذا الجماد بأوضح البرهان

فجحدت أوصاف الكمال مخافة التش

بيه والتجسيم بالانسان

ووقعت في تشبيهه بالناقصات

الجامدات وذا من الخذلان

الله أكبر هتكت استاركم

حتى غدوتم ضحكة الصبيان

الشرح : ويلزم هؤلاء النفاة أيضا أن الله اذا لم يكن متصفا بصفة الكلام كان متصفا بضدها وهو الخرس ، والخرس نقص والنقص محال على الله تعالى ، فإن قالوا في الجواب عن ذلك لا يلزم من نفي صفة الكلام عن الله ثبوت ضدها وهو الخرس له ، لأن الخرس هو عدم الكلام عما من شأنه أن يكون متكلما من أمة الحيوان ، فالتقابل بين الكلام والخرس هو تقابل بين الملكة وعدمها ، فلا يتصف بالخرس الذي هو عدم الكلام الا ما كان قابلا لصفة الكلام ، أما ما ليس قابلا لها ولا من شأنه الاتصاف بها فلا يقال له اخرس. والله عزوجل ليس قابلا لصفة الكلام ، فنفيها عنه لا يترتب عليه اتصافه

١٣٣

بالخرس الذي هو نقصان فنقول لهم أن جوابكم هذا كان ضغثا على ابالة ، وزاد مذهبكم شناعة ، فإنكم لم تكتفوا بأن سلبتموه صفة الكلام حتى سلبتم عنه قبوله للصفة ، وأنه ليس أهلا للاتصاف بها ، وأي نقصان أعظم من هذا وقد سويتموه بالجمادات التي ليس من شأنها الكلام ، وأيهما أكمل في رأيكم هذا؟ الجماد الذي ليس قابلا للكلام أم الأخرس من الانسان ، لا شك أن الأخير أكمل ببديهة العقل ، ولكنكم جحدتم أوصاف الكمال ومنها الكلام ، فرارا من تشبيه الله بالانسان ، فوقعتم في شر مما فررتم منه حيث شبهتموه بالجمادات الناقصة التي ليس من شأنها أن تسمع وتبصر وتعلم وتقدر وتريد وتتكلم. وهذا من أعظم الخذلان الذي رماكم الله به حتى كشف عوراتكم وفضح سرائركم ، حتى أصبحت مذاهبكم مضحكة للصبيان ، لما فيها من التخليط والهذيان والكذب والبهتان.

* * *

فصل

في إلزامهم بالقول بأن كلام الخلق ،

حقه وباطله ، عن كلام الله سبحانه

أو ليس قد قام الدليل بأن أفع

ال العباد خليفة الرحمن

من ألف وجه أو قريب الألف يحصي

ها الذي يعني بهذا الشأن

فيكون كل كلام هذا الخلق

عين كلامه سبحان ذي السلطان

اذ كان منسوبا إليه كلامه

خلقا كبيت الله ذي الأركان

هذا ولازم قولكم قد قاله

ذو الاتحاد مصرحا ببيان

حذر التناقض اذ تناقضتم ولك

ن طرده في غاية الكفران

فلئن زعمتم أن تخصيص القرا

ن كبيته وكلاهما خلقان

فيقال ذا التخصيص لا ينفي العمو

م كرب ذي الأكوان

ويقال رب العرش أيضا هكذا

تخصيصه لإضافة القرآن

١٣٤

لا يمنع التعميم في الباقي وذا

في غاية الايضاح والتبيان

الشرح : وهذا الزام آخر يوجهه المؤلف الى هؤلاء النفاة الذين نفوا صفة الكلام عن الله عزوجل ، وزعموا أن كلامه هو ما يخلقه في غيره منفصلا عنه ، فيقال لهم : قد قامت الأدلة المتكاثرة التي تبلغ الف دليل أو قريبا منها ، على أن جميع أفعال العباد مخلوقة لله ، ولا شك أن كلامهم من جملة هذه الأفعال ، فيكون مخلوقا لله أيضا ، فإذا صح زعمكم في أن كلام الله هو ما يخلقه في غيره ، وأن نسبته إليه هي نسبة المخلوق الى خالقه لا نسبة الصفة الى موصوفها ، كنسبة البيت صاحب الأركان ، يعني الكعبة ، إليه لزم ان يكون كل كلام هذا الخلق ، حقه وباطله جده وهزله ، عين كلامه سبحانه ، فإنه يصدق عليه التعريف الذي عرفتم به كلام الله حيث قلتم هو ما يخلقه في غيره منفصلا عنه ، وهذا اللازم في غاية الفساد والبطلان وقد صرح به الاتحادية أصحاب مذهب وحدة الوجود بزعامة الزنديق ابن عربي وفي ذلك يقول شاعرهم :

وكل كلام في الوجود كلامه

سواء علينا نثره ونظامه

وذلك خوف الوقوع في التناقض حيث كان مذهبهم قائما على أنه ليس ثم الا وجود واحد ، وأن هذه الموجودات التي من جملتها الانسان انما هي صور ومظاهر لهذا الوجود ، فيكون الكلام الصادر من بعض هذه المظاهر هو كلامه ، اذ ليس ثمة غيره ، وهكذا طرد الاتحادية هذا اللازم والتزموا فوقعوا في غاية الكفر والتعطيل والحمد لله رب العالمين.

فإن زعم النفاة ان تخصيص القرآن بالإضافة إليه هو كتخصيص البيت بها مع أن كلا منهما مخلوق فلا يلزم أن يكون كل ما خلقه الله من الكلام في غيره تجوز اضافته إليه ، على أنه كلامه ، كما لا يلزم أن يكون كل ما خلقه الله من الابنية يضاف إليه على أنه بيته ، فالجواب أن هذا التخصيص لا ينفي العموم ، الا ترى أنه يجوز لك أن تقول رب العرش على سبيل التخصيص ، ثم تقول رب الأكوان التي من جملتها العرش على جهة التعميم ، فكذلك تخصيصه سبحانه

١٣٥

لإضافة القرآن إليه لا يمنع التعميم في الباقي ، أي فيما وراءه من الكلام ، وذلك أمر في غاية الظهور والبيان.

* * *

فصل

في التفريق بين الخلق والأمر

ولقد أتى الفرقان بين الخلق وال

أمر الصريح وذاك في الفرقان

وكلاهما عند المنازع واحد

والكل خلق ما هنا شيئان

والعطف عندهم كعطف الفرد من

نوع عليه وذاك في القرآن

فيقال هذا ذو امتناع ظاهر

في آية التفريق ذو تبيان

فالله بعد الخلق أخبر أنها

قد سخرت بالأمر للجريان

وأبان عن تسخيرها سبحانه

بالأمر بعد الخلق بالتبيان

الشرح : ومما يرد به أيضا على هؤلاء القائلين بخلق القرآن أن الله عزوجل فرق في كتابه بين الخلق والأمر ، فقال تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٥٤] فقد عطف الأمر على الخلق ولا شك أن العطف مؤذن بمغايرة المعطوف للمعطوف عليه ـ فان قال المنازع أن الخلق والأمر شيء واحد ليس بينهما تغاير وأن عطف الأمر على الخلق هو من قبيل عطف الخاص على العام أعني من قبيل عطف فرد من أفراد النوع عليه كما في قوله تعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) [القدر : ٤]

ولا شك أن الروح فرد من أفراد الملائكة ـ قلنا هذا النوع من العطف وأن كان جائزا في غير هذا الموضع الا انه في هذه الآية ظاهر الامتناع ، فإن الله عزوجل أخبر عن خلقها أولا لأن قوله : والشمس والقمر والنجوم عطف على

١٣٦

السموات الذي هو مفعول خلق ، ثم أخبر بعد ذلك أنه سخرها بالأمر في قوله مسخرات بأمره ثم قال عقب ذلك الا له الخلق والأمر فدل ذلك على أن الخلق غير الأمر وأنها بعد الخلق سخرت بالأمر ، وهذا أمر من الوضوح بمكان.

* * *

والأمر اما مصدر أو كان مفع

ولا هما في ذاك مستويان

مأموره هو قابل للأمر

كالمصنوع قابل صنعة الرحمن

فإذا انتفى الأمر انتفى المأمور

كالمخلوق ينفى لانتفا الحدثان

وانظر الى نظم السياق تجد به

سرا عجيبا واضح البرهان

ذكر الخصوص وبعده متقدما

والوصف والتعميم في ذا الثاني

فأتى بنوعي خلقه وبأمره

فعلا ووصفا موجزا ببيان

فتدبر القرآن ان رمت الهدى

فالعام تحت تدبر القرآن

الشرح : قد يقول المنازع في المغايرة بين الخلق والأمر ان الأمر هنا مصدر بمعنى المأمور ، كما يقال الخلق بمعنى المخلوق ، ولا شك أن المأمور لا يكون الا مخلوقا فلا يلزمه التغاير بين الخلق والأمر ، فنقول له سواء جعل الأمر هنا مصدرا بمعنى أحد الأوامر ، او كان مفعولا فهما سواء في مغايرتهما للخلق والمخلوق ، فإن المأمور هو القابل للأمر كالمصنوع لقابل الصنعة ، وعلى هذا فالمأمور فرع الأمر ، فإذا لم يكن ثمة أمر فلا مأمور كما أن المخلوق الذي هو فرع الخلق ينتفي لانتفاء الحدثان يعني الخلق ، فتبين أن الخلق غير الأمر كما أن الفعل غير المفعول ، والأمر ينشأ عنه المأمورات والشرائع ، وأما الخلق فتنشأ عنه المخلوقات كلها.

وأعلم أن الناظر في سياق الآية الكريمة يجد سرا عجيبا ، فإن الله عزوجل ذكر خلقه للسماوات والأرض على وجه الخصوص ، ثم ذكر تسخيره للشمس والقمر والنجوم بأمره على وجه الخصوص أيضا ، وصرح فيهما بالفعل ، ثم أتى بعد ذلك بالخلق والأمر وصفين على جهة التعميم في قوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ

١٣٧

وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] فيكون سبحانه قد جمع بين نوعي الخلق الفعلي والوصفي ، وبين نوعي الأمر كذلك في أبلغ عبارة وأوجز بيان ، فما أجدر طالب الهدى أن يتدبر كتاب الله عزوجل فان العلم كله في تدبر القرآن؟

* * *

فصل

في التفريق بين ما يضاف إلى الرب تعالى

من الاوصاف والأعيان

والله أخبر في الكتاب بأنه

منه ومجرور ، (من) نوعان

عين ووصف قائم بالعين فا

لاعيان خلق الخالق الرحمن

والوصف بالمجرور قام لأنه

أولى به في عرف كل لسان

ونظير ذا أيضا سواء ما يضا

ف إليه من صفة ومن أعيان

فإضافة الأوصاف ثابتة لمن

قامت به كارادة الرحمن

واضافة الاعيان ثابتة له

ملكا وخلقا ما هما سيان

فانظر إلى بيت الإله وعلمه

لما أضيفا كيف يفترقان

وكلامه كحياته وكعلمه

في ذي الاضافة اذ هما وصفان

لكن ناقته وبيت إلهنا

فكعبده أيضا هما ذاتان

فانظر الى الجهمي لما فاته ال

حق المبين وواضح البرهان

كان الجميع لديه بابا واحدا

والصبح لاح لمن له عينان

الشرح : يريد المؤلف في هذا الفصل أن يفرق بين ما كان من الأعيان مخبرا عنه أنه من الله وبين ما كان من الأوصاف كذلك ، وان يفرق أيضا بين ما كان من الأعيان مضافا الى الله وبين ما كان من الأوصاف كذلك ، فيقول أن الله قد أخبر في القرآن بأن القرآن منه كما في قوله تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) [النحل : ١٠٢]. وقوله : (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

١٣٨

[فصلت : ٢] وقوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [غافر : ٢] وهذا المخبر عنه بأنه من الله على نوعين ، لأنه أما أن يكون عينا من الاعيان أو وصفا قائما بالعين فإن كان عينا فمعنى كونه من الله انه هو خالقه سبحانه كما في قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النساء : ٧٩] وقوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النساء : ٧٨] وقوله : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣] وقوله تعالى عن عيسى عليه‌السلام : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء : ١٧١] والآيات كثيرة في هذا الباب.

وان كان وصفا فمعنى كونه من الله انه صفة له كما في الآيات السابقة التي أخبر الله فيها عن القرآن بأنه منه ، وهذا معنى قول المؤلف : والوصف بالمجرور قام ، يعني أن ما أخبر عنه بمن أن كان وصفا فهو قائم بالمجرور بها لأنه أحق به في عرف أهل اللغات جميعا.

ومثل ذلك تماما يقال فيما يضاف الى الله عزوجل ، فان كان عينا مثل بيت الله وناقة الله وعباد الرحمن ، فنسبته إليه ثابتة خلقا وملكا ، وتكون اضافته للاختصاص ، والتشريف. وأما ان كان وصفا كعلم الله وقدرته وارادته وكلامه وحياته ، فهذه الاضافة تقتضي قيامها بالله وانه موصوف بها ، وتدبر هذا الفرق بين قولك بيت الله وعلم الله ، فان كلا منهما يضاف الى الله ولكن لما كانت اضافة الأول اضافة ذات دلت على أنه مخلوق ، ولما كانت اضافة الثاني اضافة معنى دلت على أنه صفة للمضاف إليه ، ولهذا لما اهتدى السلف لهذا الفرق هدوا الى الصراط المستقيم ، ولما ضل عنه الجهمي الزائغ جعل الجميع بابا واحدا ، ولم يفرق بين الأوصاف والأعيان ، فوقع في الضلال والبهتان.

* * *

وأتى ابن حزم بعد ذاك فقال ما

للناس قرآن ولا اثنان

بل أربع كل يسمى بالقرآ

ن وذاك قول بين البطلان

١٣٩

هذا الذي يتلى وآخر ثابت

في الرسم يدعى المصحف العثماني

والثالث المحفوظ بين صدورنا

هذي الثلاث خليقة الرحمن

والرابع المعنى القديم كعلمه

كل يعبر عنه بالقرآن

وأظنه قد رام شيئا لم يجد

عنه عبارة ناطق ببيان

أن المعين ذو مراتب أربع

عقلت فلا تخفى على انسان

في العين ثم الذهن ثم اللفظ

ثم الرسم حين تخطه ببنان

وعلى الجميع الاسم يطلق لكن

الأولى به الموجود في الأعيان

بخلاف قول ابن الخطيب فإنه

قد قال أن الوضع للأذهان

الشرح : جاء بعد ذلك ابن حزم الظاهري الأندلسي المتوفي سنة ٤٥٦ ه‍. فزعم أنه ليس هناك قرآن واحد ولا قرآنان ، ولكن هناك أربع قرآنات كل منها يصح أن يقال له قرآن ، الا أن منها ثلاثة مخلوقة ، وهي المتلو بالألسنة والمكتوب في المصحف والمحفوظ في الصدر. وأما الرابع وهو المعنى القائم بذاته تعالى فقديم كعلمه ، والظاهر أن ابن حزم أراد بكلامه هذا أن القرآن المعين الواحد بالشخص له مراتب أربعة من الوجود.

أولها وجوده في الأعيان ، أي في الوجود الخارجي وهو القرآن القائم بذاته تعالى.

وثانيها وجوده في الذهن. وثالثها وجوده في اللفظ. ورابعها وجوده في الرسم. يعني الكتابة ، وهو في كل مرتبة من هذه المراتب يطلق عليه اسم القرآن ، لكن أولاها بهذا الاسم الموجود في الأعيان ، وخالفه في هذا فخر الدين الرازي فقال : أن لفظ القرآن انما هو موضوع للموجود في الأذهان ، ولا شك أن هذا الذي قاله ابن حزم هو قول الكلابية والأشعرية مع فارق بسيط ، وهو ان ابن حزم يسمي هذا المتلو المحفوظ المكتوب قرآنا ، وأما الكلابية والأشعرية فيقولون أنه عبارة أو حكاية عنه كما سبق ، وان كان متفقا معهم في القول بأنه مخلوق.

* * *

١٤٠