شرح القصيدة النونيّة - ج ١

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ١

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥
الجزء ١ الجزء ٢

فصل

في بيان سبب غلطهم في الألفاظ والحكم عليها

باحتمال عدة معان حتى أسقطوا الاستدلال بها

واللفظ منه مفرد ومركب

في الاعتبار فما هما سيان

واللفظ في التركيب نص في الذي

قصد المخاطب منه في التبيان

أو ظاهر فيه وذا من حيث

نسبته إلى الإفهام والأذهان

فيكون نصا عند طائفة وعند

سواهم هو ظاهر التبيان

ولدى سواهم مجمل لم يتضح

لهم المراد به اتضاح بيان

فالأولون لألفهم ذاك الخطا

ب والفهم معناه طول زمان

طال المراس لهم لمعناه كما

اشتدت عنايتهم بذاك الشأن

والعلم منهم بالمخاطب إذ هم

أولى به من سائر الإنسان

ولهم أتم عناية بكلامه

وقصوده مع صحة العرفان

فخطابه نص لديهم قاطع

فيما أريد به من التبيان

الشرح : يريد الشيخ رحمه‌الله أن يبين أحوال الناس في إدراكهم لمعاني الألفاظ ومدلولاتها ، فيقسم اللفظ إلى مفرد لم يستعمل مع غيره من الألفاظ ، كزيد مثلا ، وإلى مركب ، وهو ما تركب مع غيره لإفادة معنى تام ، وذلك مثل الجمل الفعلية والاسمية ، فإذا تركب اللفظ مع غيره اختلف الناس في دلالته على معناه تبعا لاختلاف أفهامهم وأحوالهم ، فمن الناس من يجعله نصا في المعنى الذي قصده منه المخاطب بكلامه فلا يكون محتملا لغيره ، ومنهم من يعتبره ظاهرا فيه فقط ، فيرجح أن يكون المقصود به هذا المعنى ، ولكنه لا يقطع به. ومنهم طائفة ثالثة تجعل اللفظ من قبيل المجمل الذي لم يتضح المراد منه ، فهو عندهم محتمل لعدة معان ولا يدرون أيها هو المراد من اللفظ ، لأن هذه المعاني عندهم متساوية فيه ، فالأولون لأنهم ألفوا هذا الخطاب واعتادوه ، وألفوا معانيه وطال مراسهم لها ، واشتدت عنايتهم بها ، ولأنهم أعرف الناس بالمخاطب لهم ، وأولى به من

٣٢١

غيرهم ، وأكمل الناس عناية بفهم خطابه وإدراك مقاصده مع ما لهم من الفهم الصحيح والنظر الصائب والفطرة السليمة التي لم تفسد بالتقليد الأعمى ، يعتبرون خطابه نصا قاطعا في الدلالة على ما قصد إليه منه دون ان يتطرق إلى نفوسهم أي توهم للاحتمال أو المجاز. والمراس هو الممارسة ، وهو كثرة التمرن والاعتياد.

* * *

لكن من هو دونهم في ذاك لم

يقطع بقطعهم على البرهان

ويقول يظهر ذا وليس بقاطع

في ذهنه لا سائر الأذهان

ولألفه بكلام من هو مقتد

بكلامه من عالم الأزمان

هو قاطع بمراده وكلامه

نص لديه واضح التبيان

والفتنة العظمى من المتسلق

المخدوع ذي الدعوى أخي الهذيان

لم يعرف العلم الذي فيه الكلا

م ولا له ألف بهذا الشأن

لكنه منه غريب ليس من

سكانه كلا ولا الجيران

فهو الزنيم دعي قوم لم يكن

منهم ولم يصحبهم بمكان

وكلامهم أبدا لديه مجمل

وبمعزل عن أمرة الإيقان

الشرح : لكن من نقصت درجته في العلم والتحصيل والفهم لمضمون الخطاب عن هؤلاء السابقين لم يسلك سبيلهم في القطع بمعاني النصوص ، بل يرى فقط أن هذا هو الظاهر المتبادر منها إلى الذهن مع تجويزه أن يكون المراد بها معنى آخر ، وذلك لقلة ألفه بالنصوص الصريحة من الكتاب والسنة وقلة ممارسته لها ، ولكنه لطول الفه بكلام من يقلده ويقتدي به من علماء زمانه يقطع بمراده من كلامه ، ويعتبر كلامه نصا واضحا فيما يتضمنه من معنى ، فجعل كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقل في الإفادة والإفهام من كلام شيخه ، ولم يرض حتى بالمساواة ، وصاحب هذا المسلك هو على كل حال أقل خطرا وأخف ضررا ، ولكن الفتنة العظمى والداهية الكبرى في هذا المتسلق للجدران المخدوع بزخارف البهتان صاحب الدعاوى العريضة في العلم والعرفان ، وما هو إلا أخو

٣٢٢

ضلالة وهذيان ، يهرف بما لا يعرف ، ويتكلم فيما لا علم له به ، ولا يحسن الكلام فيه لعدم الفه له وقلة مصاحبته إياه ، فهو منه غريب كل الغربة ، فلا هو من سكانه المقيمين معه ولا حتى من جيرانه القريبين منه ، وهو زنيم يدعي النسبة إلى قوم ليس هو منهم ولم يتشرف أبدا بصحبتهم في أي مكان ، فكلامهم دائما غير واضح المعنى عنده وبمعزل عن إفادة اليقين. والمراد بالقوم هنا أهل الحق من سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن سلك سبيلهم في الأتباع رضي الله عنهم أجمعين.

* * *

نشد التجارة بالزيوف يخالها

نقدا صحيحا وهو ذو بطلان

حتى إذا ردت إليه ناله

من ردها خزي وسوء هوان

فأراد تصحيحا لها إذ لم يكن

نقد الزيوف يروج في الأثمان

ورأى استحالة ذا بدون الطعن في

باقي النقود فجاء بالعدوان

واستعوض الثمن الصحيح بجهله

وبظلمه يبغيه بالبهتان

عوجا ليسلم نقده بين الورى

ويروج فيهم كامل الأوزان

والناس ليسوا أهل نقد للذي

قد قيل إلا الفرد في الأزمان

والزيف بينهم هو النقد الذي

قد راج في الأسفار والبلدان

إذ هم قد اصطلحوا عليه وارتضوا

بجوازه جهرا بلا كتمان

الشرح : وهذا الداعي الزنيم المتعالم ولا علم عنده لا يتجر إلا في الزيوف ، وهي الدراهم المغشوشة ، يظنها بجهله وقلة بصره نقدا جيدا ، فتراه يروج بين الناس قضايا وهمية وجهالات سوفسطائية ، يخدعهم بها ، ويوهمهم أنها علم صحيح ، فإذا انبرى له أهل الحق وأرباب البصائر وردوا عليه زيوفه وكشفوا عن بهرجها لحقه من ذلك أشد الخزي وأسوأ الهوان ، ولكنه لا يستسلم للهزيمة ولا يفيء إلى الحق بل يحاول تصحيحها لتروج في الأثمان ، ويرى أن ذلك مستحيل بدون الطعن في باقي النقود ، فيعمد إلى النقد الصحيح من علوم

٣٢٣

الكتاب والسنة ، فيتعوض عنه بجهله وظلمه ، ويريده بالكذب والافتراء عوجا ليسلم له زيفه ويروج باطله ، والناس كلهم إلا من عصم الله ليسوا أهل بصر بالنقود ، فلا يقدرون على تمييز الجيد من الرديء ، ولا لهم خبرة بوزن الأقوال وتمحيص الآراء ، اللهم إلا أفراد قلائل يوجدون في الأزمان المتطاولة. ولذلك تجد الزيف هو النقد المتداول بينهم والرائج في الأسفار والبلدان ، لأنهم قد تعارفوا عليه وارتضوه جهرة بلا كتمان.

* * *

فإذا أتاهم غيره ولو أنه

ذهب مصفى خالص العقيان

ردوه واعتذروا بأن نقودهم

من غيره بمراسم السلطان

فإذا تعاملنا بنقد غيره

قطعت جوامكنا من الديوان

والله منهم قد سمعنا ذا ولم

نكذب عليهم ويح ذي البهتان

يا من يريد تجارة تنجيه من

غضب الإله وموقد النيران (١)

وتفيده الأرباح بالجنات

والحور الحسان ورؤية الرحمن

في جنة طابت ودام نعيمها

ما للفناء عليه من سلطان

هيئ لها ثمنا يباع بمثلها

لا تشترى بالزيف من أثمان

نقدا عليه سكة نبوية

ضرب المدينة أشرف البلدان

الشرح : فإذا جاءهم أحد بنقد آخر غير هذا الذي تعارفوا عليه ردوه على الناقد ، ولو كان من نضار الذهب وخالصه معتذرين بأن نقدهم عليه سكة السلطان فإذا هم تعاملوا بنقد غيره قطعت رواتبهم من ديوان الحكومة ، وكأن المؤلف رحمه‌الله يشير بهذا إلى حال كثير من العلماء الرسميين الذين توظفهم الحكومة في بعض الوظائف ، مثل القضاء والافتاء والحسبة وغيرها ، فيتوخون في أعمالهم موافقة الحكام في مذاهبهم ولا يجرءون على مخالفتها خوفا من العزل وهذا المعنى كان موجودا منذ قريب عندنا في مصر في عهد الحكم التركي ، حين كان

__________________

(١) وموقد بفتح القاف مضاف إلى النيران إضافة صفة إلى موصوف ، والتقدير والنيران الموقدة.

٣٢٤

لا يولي مناصب القضاء والافتاء إلا حنفيا ، بل ولا يزال كثير من العلماء في مصر وغيرها يدينون بمذهب الأشعري في العقيدة ، لأنه منذ عهد صلاح الدين كان هو المذهب الرسمي لكثير من البلاد الإسلامية ، وكان أتباعه هم الذين يتولون وظائف التدريس في مدارس الحكومة ، فمثل هؤلاء العلماء إنما يريدون تجارة الدنيا من الحظوة عند الحكام وإغداق الأرزاق عليهم. أما أنت يا من تريد تجارة الآخرة التي رأسمالها النجاة من غضب الله وناره المتسعرة ، والربح فيها جنات عرضها السموات والأرض ، تتمتع فيها بالحور الحسان ، وأعظم من ذلك رؤية الرحمن جل جلاله ، ولك فيها ما شئت من ألوان النعيم ، وأنت فيها خالد مقيم لا تفنى ولا تريم ، فيهيئ لتلك الدار الطيبة التي هي سلعة الله الغالبة ثمنا يليق بها من نقد جيد صحيح ، فإنها لا تشترى بالنقد الزائف المغشوش نقدا عليه سكة النبوة وطابعها ومضروبا في المدينة أشرف البلدان ومصدر العلم والهدى والإيمان.

* * *

أظننت يا مغرور بائعها الذي

يرضى بنقد ضرب جنكيز خان

منتك والله المحال النفس ان

طمعت بذا وخدعت بالشيطان

ولا يذهبن بك الغرور فتظن أن بائعها جلا وعلا يرضى بالنقد الزائف ثمنا لها مثل النقود التي هي ضرب جنكيز خان قائد التتار الغشوم ، فإذا أنت طمعت في ذلك أن تنالها بمثل هذه الأثمان المزورة المغشوشة فقد منتك نفسك المحال ، وخدعك الشيطان بكواذب الآمال. وقوله المحال بالنصب مفعول ثان لمنتك والنفس بالرفع فاعل.

* * *

فاسمع إذا سبب الضلال ومنشأ

التخليط إذ يتناظر الخصمان

يحتج باللفظ المركب عارف

مضمونه بسياقه لبيان

واللفظ حين يساق بالتركيب

محفوف به للفهم والتبيان

جند ينادي عليه مثل

ندائنا بإقامة وأذان

٣٢٥

كي يحصل الاعلام بالمقصود من

ايراده ويصير في الأذهان

فيفك تركيب الكلام معاند

حتى يقلقله من الأركان

ويروم منه لفظة قد حملت

معنى سواها في كلام ثان

فيكون دبوس الشقاق وعدة

للدفع فعل الجاهل الفتان

فيقول هذا مجمل واللفظ

محتمل وذا من أعظم البهتان

الشرح : إذا عرفت أن اللفظ ينقسم إلى مفرد ومركب ، وأن اللفظ في التركيب غيره حال الإفراد سهل عليك ان تعرف سبب الضلال ومصدر ما يقع من خلط وتخبط عند الحجاج والمناظرة ، فقد يحتج باللفظ المركب فاهم لمضمونه وما يدل عليه سياق التركيب ، حيث أن اللفظ في هذه الحالة تحف به قرائن تعين المراد منه وتنفي عنه كل شائبة احتمال ، وتكون له جندا ينادي عليه بحقيقة مدلوله نداء واضحا قويا كندائنا بالإقامة والأذان للصلاة ، وبذلك يحصل العلم بالمقصود من ايراده ويثبت في الأذهان بلا مرية ولا نكران فيجيء خصمه المعاند للحق ويفك تركيب الكلام حتى يجعله انقاضا لا يرتبط منه لفظ بآخر ثم ينظر الى الألفاظ هكذا مجردة عن تركيبها فربما قصد إلى لفظة من المركب تحتمل معنى آخر سوى معناه الثابت لها في التركيب في كلام آخر فيكون هذا دبوس الشقاق فيجعل استعمال اللفظة في هذا المعنى الآخر في هذا الكلام الثاني عدة له في الدفع والمعارضة وإسقاط الاستدلال بالمركب على ما فهم منه وما يقتضيه سياقه. وهذا فعل جاهل يبتغي الفتنة والمماراة بالباطل ، ويدعي حينئذ أن اللفظ مجمل وأنه محتمل لغير هذا المعنى ، واللفظ متى تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال ، وهذا منه كذب وافتراء ، فإن اللفظ إذا كان يحتمل غير معناه حال التجرد والإفراد فإنه في التركيب كما قلنا نص في معناه لما يحف به من قرائن تبين المراد منه وتنادي عليه والله أعلم.

وقوله محفوف : أي محيط خبرا للفظ ، وجند فاعل محفوف ، وجملة ينادي صفة لجند.

* * *

٣٢٦

وبذاك يفسد كل علم في الورى

والفهم من خبر ومن قرآن

إذ أكثر الألفاظ تقبل ذاك في ال

أفراد قبل العقد والتبيان

لكن إذا ما ركبت زال الذي

قد كان محتملا لدى الوحدان

فإذا تجرد كان محتملا

لغير مراده أو في كلام ثان

لكن ذا التجريد ممتنع فإن

يفرض يكن لا شك في الأذهان

والمفردات بغير تركيب كمثل

الصوت تنعقه بتلك الضان

وهنالك الإجمال والتشكيك والتجهيل

والتحريف والإتيان بالبطلان

فإذا هم فعلوه راموا نقله

لمركب قد حف بالتبيان

وقضوا على التركيب بالحكم الذي

حكموا به للمفرد الوحداني

جهلا وتجهيلا وتدليسا

وتلبيسا وترويجا على العميان

الشرح : وبهذا الذي يعمد إليه هؤلاء الجهلة من التشكيك في دلالات الألفاظ المركبة والحكم عليها بالإجمال والاشتباه يفسد كل علم في الوجود ، فإن أي قضية علمية ترد لا يمكن فهم معناها ما دامت ألفاظها محتملة وموهمة خلاف المقصود منها وكذلك ينسد باب الفهم للكتاب والسنة ، فلا يعلم أحد مراد الله جل وعلا من كلامه ولا مراد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبذلك تبطل التكاليف جملة وتبقى نصوص الكتاب والسنة مجرد ألفاظ تتلى دون ان يكون وراءها معنى ، فأي فساد للدين أعظم من هذا ، ولا سبب لهذا الفساد إلا ما يعمد إليه هؤلاء الجاهلون من التسوية بين الألفاظ في حالتي أفرادها وتركيبها ، فإن أكثر الألفاظ حال الأفراد تكون مجملة وقابلة للاحتمال لكن إذا ما ركبت مع غيرها زال كل احتمال وصارت نصا في معناها الذي يدل عليه سياق التركيب ويفهمه فحوى الخطاب. فإذا تجرد اللفظ عن ذلك الوجود التركيبي أمكن حينئذ ان يكون محتملا لغير المراد منه في التركيب. وكذلك إذا استعمل في كلام ثان جاز ان يستعمل فيه بمعنى آخر بحسب ما تدل عليه القرائن التي تحف به. لكن تجريد الألفاظ أمر فرضي محض لا وجود له إلا في الأذهان ، فإن الألفاظ يمتنع استعمالها مفردة إذ هي حينئذ بمثابة الأصوات التي تنادي بها الحيوانات. وهنالك

٣٢٧

أي عند التجريد والأفراد يكون ادعاء الإجمال ويكون التشكيك والتجهيل والتحريف لها عن مواضعها والإتيان بالباطل ، ولكن هؤلاء الجهلة يدعون هذا في المركب أيضا مع ما يحف به من بيان ينفي عنه كل اشتباه ، ويحكمون على الألفاظ في حال التركيب بمثل ما يحكمون به عليها في حال التجرد والافراد. جهلا منهم بالفرق بينهما وتجهيلا لغيرهم ، وتدليسا أي خدعا بصرف اللفظ عن معناه ، وتلبيسا أي سترا للحق وإظهار للأمر على خلاف ما هو عليه ، وترويجا لباطلهم عند السذج الذين لا بصر لهم بالأمور.

(فصل في بيان شبه غلطهم في تجريد اللفظ بغلط

الفلاسفة في تجريد المعاني)

هذا هداك الله من إضلالهم

وضلالهم في منطق الإنسان

كمجردات في الخيال وقد بنى

قوم عليها أوهن البنيان

ظنوا بأن لها وجودا خارجا

ووجودها لو صح في الأذهان

أني وتلك مشخصات حصلت

في صورة جزئية بعيان

لكنها كلية إن طابقت

أفرادها كاللفظ في الميزان

يدعونه الكلي وهو معين

فرد كذا المعنى هما سيان

تجريدا ذا في الذهن أو في خارج

عن كل قيد ليس في الإمكان

لا الذهن يعقله ولا هو خارج

هو كالخيال لطيفة السكران

الشرح : واعلم ـ هداك الله أن الذي وقع فيه هؤلاء من الإضلال والضلال بالنسبة للألفاظ حيث حكموا عليها بجواز التجرد في الخارج هو شبيه بضلال بعض الفلاسفة في المجردات الخيالية حيث ظنوا بأن لها وجودا في الأعيان وبنوا على ذلك الظن أوهن البنيان مع أن وجودها لو صح لا يكون إلا في الأذهان ، فإن الموجود في الخارج لا يكون إلا مشخصا حافلان في صورة جزئية معينة غير مشتركة أما إذا كانت الصورة صادقة على أفراد كثيرة ومطابقة لهم ، فهي كلية

٣٢٨

ولا وجود لها إلا في الذهن ، وهؤلاء يقيسون الألفاظ على تلك المجردات قياس فاسد على فاسد ، فيسمون اللفظ كليا وهو معين فرد. وكذلك يسمون معناه الجزئي كليا مع أن تجريد اللفظ عن كل قيد يجعله من قبيل الممتنع الذي لا وجود له لا في العقل ولا في الخارج ، بل يكون كخيال السكران خرافة وهذيان.

لكن تجردها المقيد ثابت

وسواه ممتنع بلا إمكان

فتجرد الأعيان عن وصف وعن

وضع وعن وقت لها ومكان

فرض من الأذهان يفرضه كفر

ض المستحيل هما لها فرضان

الله أكبر كم دهى من فاضل

هذا التجرد من قديم زمان

تجريد ذي الألفاظ عن تركيبها

وكذاك تجريد المعاني الثاني

والحق أن كليهما في الذهن مفروض

فلا تحكم عليه وهو في الأذهان

فيقودك الخصم المعاند بالذي

سلمته للحكم في الأعيان

فعليك بالتفصيل إن هم أطلقوا

أو أجملوا فعليك بالتبيان

الشرح : يعني ان التجريد إذا كان مقيدا ببعض القيود فهو ثابت. وأما سواه وهو التجرد المطلق عن كل وصف وقيد فممتنع غير ممكن ، فتجرد الأعيان الخارجية عن الوصف والكيفية ، وعن الوضع الذي تكون عليه ، وعن الوقت والزمان الذي هو ظرف لوجودها ، وعن المكان والحيز الذي تشغله ، كل هذا أمر يفرضه الذهن كما يفرض المستحيل.

ومن العجيب المؤسف أن كثيرا من الفضلاء قد دهاهم هذا التجرد منذ القدم فآمنوا بهذه الخرافة ، وأثبتوا في عالم الأعيان أشياء يسمونها المجردات ينفون عنها كل وصف وقيد ، فيقولون لا حيز لها ولا مكان ولا جهة ولا توصف بقرب ولا بعد ولا اتصال ولا انفصال ، وليست بذات صورة ولا كم ، ولا مقدار ولا ثقل ، ولا لون ولا تقبل الإشارة إليها بأنها هنا أو هنا إلخ ما نعتوها به من ألقاب النفي التي تجعلها من قبيل المعدوم الممتنع ، ويجعلون الله جل

٣٢٩

شأنه من قبيل هذه المجردات ، فعطلوه عن وجوده وصفاته ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا فتجريد الألفاظ عن تركيبها ، وكذلك تجريد المعاني كلاهما من قبيل الفرض الذهني فلا يجوز الحكم عليه في تلك الحالة بحكم ، فيقودك الخصم للتسليم بثبوت ذلك الحكم له في الأعيان ، بل عليك بالتفصيل إذا هم عمدوا إلى الإطلاق. فتقول إن أردتم أن هذا حكم له في الذهن على فرض تجرده فمسلم ، وإن أردتم أن هذا حكم له حال التركيب في الأعيان فممنوع. وكذلك إن أجملوا فعليك بالبيان والإيضاح.

فصل

في بيان تناقضهم وعجزهم

عن الفرق بين ما يجب تأويله وما لا يجب

وتمسكوا بظواهر المنقول عن

أشياخهم كتمسك العميان

وأبو بأن يتمسكوا بظواهر

النصين وا عجبا من الخذلان

قول الشيوخ محرم تأويله

إذ قصدهم للشرح والتبيان

فإذا تأولنا عليهم كان أبط

الا لما راموا بلا برهان

فعلى ظواهرها تمر نصوصهم

وعلى الحقيقة حملها لبيان

يا ليتهم أجروا نصوص الوحي

ذا المجرى من الآثار والقرآن

بل عندهم تلك النصوص ظواهر

لفظية عزلت عن الإيقان

لم تغن شيئا طالب الحق الذي

يبغي الدليل ومقتضي البرهان

الشرح : ينعى المؤلف رحمه‌الله على هؤلاء المتأخرين من علماء الكلام أهل الجمود والتقليد أنهم يتمسكون بالأقوال المأثورة عن أشياخهم ويجعلونها نصوصا لا تقبل التأويل ، ويحملونها على ظواهرها المتبادرة منها دون صرف لها عنها بدعوى مجاز أو غيره ، بل يرون ذلك ممنوعا لأنه ينافي ما قصد إليه الشيوخ من الشرح والبيان ، فإذا صرفت تلك الأقوال عن ظواهرها كان ذلك إبطالا لما

٣٣٠

قصدوا إليه بدون دليل ولا قرينة توجب ذلك التأويل. ولكنهم بالنسبة لنصوص الوحي من الآيات والأحاديث لا يسلكون هذا المنهج ، بل يرونها ظواهر لفظية معزولة عن إفادة اليقين ، يقولون أن دلالتها ظنية لا تفيد إلا احتمالا راجحا ، فهي لا تغني عن طالب الحق شيئا ، بل يجب أن يسلك طريق البرهان العقلي إذا أراد تحصيل اليقين.

فهؤلاء الحيارى المنهوكون بلغت بهم الجرأة والقحة أن يقدموا أقوال شيوخهم على نصوص الوحي ، فهي عندهم محكمة لا تقبل التأويل ولا تحتمل أكثر من معنى. وأما نصوص الوحيين فهي في نظرهم متشابهة لا تفهم معنى واحدا ولا يجوز حملها على ظواهرها ، وهي أيضا ظنية الدلالة لا تفيد علما ولا تورث يقينا ، ولكن عقولهم المريضة هي الطريق الوحيد لإفادة العلم واليقين ، فما أسوأ ظن هؤلاء بربهم ، وما أجرأهم على كتابه الذي سماه بيانا وهدى وشفاء ورحمة ، وما أشد استخفافهم بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي هو أفصح الناس وأظهرهم بيانا وأصدقهم قيلا وأحسنهم حديثا.

* * *

وسطوا على الوحيين بالتحريف إذ

سموه تأويلا بوضع ثان

فانظر إلى الأعراف ثم ليوسف

والكهف وافهم مقتضى القرآن

فإذا مررت بآل عمران فهم

ت القصد فهم موفق رباني

وعلمت أن حقيقة التأويل تب

يين الحقيقة لا المجاز الثاني

ورأيت تأويل النفاة مخالفا

لجميع هذا ليس يجتمعان

اللفظ هم أنشوا له معنى بذا

ك الاصطلاح وذاك أمر دان

وأتوا إلى الحاد في الأسماء

والتحريف للألفاظ بالبهتان

فكسوه هذا اللفظ تلبيسا وتد

ليسا على العميان والعوران

الشرح : فهؤلاء إذ لم يرضوا لنصوص الوحيين حتى مثل ما جعلوه لكلام شيوخهم من الاحترام والوقوف بها عند ظواهرها ، أخذوا يتلاعبون بها

٣٣١

واجترءوا عليها بالتحريف الذي سموه تأويلا كذبا منهم وتضليلا ، فإن لفظ التأويل لم يستعمل في القرآن بهذا المعنى الذي أدعوه ، وهو صرف اللفظ عن معناه الظاهر الراجح إلى معنى آخر لا يحتمله اللفظ إلا على وجه مرجوح ، وإنما هو اصطلاح اصطلحوا عليه وسموه بهذا الاسم تلبيسا منهم على الجهلة وإنصاف العلماء. ونحن إذا تتبعنا لفظ التأويل في مواضعه من القرآن لم نجده قد استعمل إلا بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الخبر والتي هي لنفس المخبر عنه. فتأويل ما أخبر الله به عن نفسه من أسمائه وصفاته هو نفس الأسماء والصفات المخبر بها أي حقائقها ، وتأويل ما أخبر الله به من الوعد والوعيد هو وقوع ما أخبر الله به من ذلك وهكذا.

فقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [الأعراف : ٥٣] معناه ما ينتظر هؤلاء في عنادهم وإصرارهم على كفرهم إلا وقوع ما توعدهم القرآن به من العذاب الذي هو تأويل ، أي ما يؤول ويصير إليه.

وقوله : (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) [يوسف : ١٠٠] معناه أن هذا الذي حصل من دخول أبويه وإخوته عليه وسجودهم له هو تأويل رؤياه التي رآها من قبل ، والتي ذكرت في قوله تعالى : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] ومعنى تأويلها أي وقوع ما تضمنته تلك الرؤيا في عالم اليقظة ومطابقة ذلك لما رآه الصديق في منامه.

وقوله تعالى : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [الكهف : ٧٨] معناه سأخبرك بحقيقة ما رأيت من الأمور التي أنكرت ظواهرها ولم تطق صبرا عليها. وعلى هذا يمكن أن نفهم المراد بلفظ التأويل في قوله تعالى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٧] أي لا يفهم حقيقة المتشابه وكيفيته ، وهو ما أخبر الله به عن نفسه من أسمائه وصفاته ووعده ووعيده وغير ذلك من أمور الغيب إلا الله عزوجل. فحقيقة هذه الأمور وكيفياتها على التفصيل مما استأثر

٣٣٢

الله عزوجل بعلمه ، ولهذا لا يخوض فيها الراسخون في العلم بتأويل ولا تفسير ، ولكنهم يقابلونها بالتفويض والتسليم قائلين ما حكاه الله عنهم : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا). [آل عمران : ٧].

هذه هي حقيقة التأويل كما تدل عليها جميع استعمالاته في القرآن الكريم ، لا يراد منه إلا بيان حقيقة الشيء المطابقة للخبر عنه ، فأين هي إذا من تأويل أولئك النفاة الذين يستعملون لفظ التأويل بمعنى المجاز الذي هو صرف اللفظ عن حقيقته إلى معنى آخر بعيد لا يحتمله إلا بكثير من التكلف. فهؤلاء ينشئون للفظ معنى غير معناه المتبادر منه ، ويصطلحون على استعمال ذلك اللفظ في ذلك المعنى الذي اخترعوه ، ويلبسونه إياه ثوب زور ليلبسوا به على الجهلة وضعفاء العقول ، وبذلك يلحدون في الأسماء ، ويحرفون الألفاظ عن معانيها زورا وبهتانا والله أعلم.

* * *

فاستن كل منافق ومكذب

من باطني قرمطي جان

في ذا بسنتهم وسمى جحده

للحق تأويلا بلا فرقان

وأتى بتأويل كتأويلاتهم

شبرا بشبر صارخا بأذان

أنا تأولنا كما أولتم

فأتوا نحاكمكم إلى الوزان

في الكفتين نحط تأويلاتنا

وكذاك تأويلاتكم بوزان

هذا وقد أقررتم انا بأي

دينا صريح العدل والميزان

وغدوتم فيه تلاميذا لنا

أو ليس ذلك منطق اليونان

منا تعلمتم ونحن شيوخكم

لا تجحدونا منه الإحسان

فسلوا مباحثكم بسؤال تفهم

وسلوا القواعد ربة الأركان

من أين جاءتكم وأين أصولها

وعلى يدي من يا أولي النكران

فلأي شيء نحن كفار

وأنتم مؤمنون ونحن متفقان

الشرح : يعني أن هؤلاء المتأخرين من الأشعرية لما فتحوا باب التأويل

٣٣٣

لنصوص وحرّفوها عن مواضعها حتى توافق ما رأته عقولهم ، هيئوا بذلك فرصة عظيمة لأهل النفاق والكذب من القرامطة الباطنية أن يستندوا بسنتهم في ذلك ، فيجحدوا الحق المبين ، ويسموا ذلك تأويلا بلا فارق أصلا بين تأويل هؤلاء وتأويل أولئك ، فالكل صرف للألفاظ عن ظواهرها وحمل لها على معان أخرى بمحض الهوى. فلو قدر أن أولئك المتأولين من الأشعرية لاموا هؤلاء الجناة من الباطنية على ما أوغلوا فيه من التأويل ، لاستطاعوا إفحامهم بأنا تأولنا كما تأولتم ، فنحن وأنتم في هذا الباب سواء ، وإلا فدلونا على فارق يجعل التأويل حلالا لكم وحراما علينا ، ونحن مستعدون أن نتحاكم نحن وأنتم إلى وزان يضع تأويلاتنا في كفة ويضع تأويلاتكم في الكفة الأخرى ، وسترون حينئذ أن تأويلاتنا أرجح من تأويلاتكم ، وأننا أولى بهذا الأمر منكم ، لأننا أهل المنطق وأساتذته ، وأما أنتم فتلاميذ لنا فيه ، وهذا أمر تقرون به ولا تنكرونه ، فنحن شيوخكم في المعقول ، ومنا تعلمتم تركيب الأقيسة وفنون الحجاج ، فمنا العلم الثاني الفارابي والشيخ الرئيس ابن سينا اللذان مهدا لكم سبيل هذا العلم وأحكما قواعده ، وأنتم عالة عليهما في كل ما تقررونه. وإن أبيتم إلا الإنكار فارجعوا إلى مباحثكم واسألوها وإلى قواعدكم فاستفتوها. وهي تنبئكم نبأ صدق من أين جاءتكم وأين وجدتم أصولها ، وعلى يدي من وصلتكم ، حتى تقروا لنا بالسبق في هذا المضمار والتفوق عليكم فيه.

وإذا تبين لكم هذا وتحققتموه ، فنحن نسألكم لما ذا أنتم مؤمنون ونحن كفار وطريقتنا واحدة والاتفاق بيننا قائم على :

* * *

أن النصوص أدلة لفظية

لم تفض قط بنا إلى إيقان

فلذاك حكمنا العقول وأنتم

أيضا كذاك فنحن مصطلحان

فلأي شيء قد رميتم بيننا

حرب الحروب ونحن كالأخوان

الأصل معقول ولفظ الوحي مع

زول ونحن وأنتم صنوان

٣٣٤

لا بالنصوص نقول نحن وأنتم

أيضا كذاك فنحن مصطلحان

الشرح : إن النصوص من الكتاب والسنة لا تكفي في إفادة اليقين الذي لا بد منه في باب الاعتقاد ، لأن دلالتها لفظية لا تفيد إلا الظن بسبب احتمالها للحقيقة والمجاز ، ولهذا رأينا نحن وأنتم أن نجعل العقل أصلا نحتكم إليه في هذا الباب ، وجعلنا أحكامه قطعية لا تقبل النقض ، وبهذا وقع الصلح بيننا وبينكم. فلما ذا تهيجون بيننا وبينكم نار العداوة والخصام وما بيننا إلا الوفاق والوئام؟

* * *

فذروا عداوتنا فإن وراءنا

ذاك العدو الثقل ذي الأضغان

فهم عدوكم وهم أعداؤنا

فجميعنا في حربهم سيان

تلك المجسمة الألى قالوا بأن

الله فوق جميع ذي الأكوان

والية يصعد قولنا وفعالنا

وإليه ترقى روح ذي الإيمان

وإليه قد عرج الرسول حقيقة

وكذا ابن مريم مصعد الأبدان

وكذاك قالوا أنه بالذات فو

ق العرش قدرته بكل مكان

وكذاك ينزل كل آخر ليلة

نحو السماء فها هنا جهتان

للابتداء والانتهاء وذان للأ

جسام اين الله من هذان

وكذاك قالوا أنه متكلم

قام الكلام به فيا أخوان

أيكون ذاك بغير حرف أم بلا

صوت فهذا ليس في الإمكان

الشرح : وإذا كان الأمر كذلك من الاتفاق بيننا وبينكم على خطة سواء تقوم على عزل النصوص والاستمساك بحجج العقل ، فيجب أن لا يكون بيننا عداوة أصلا ، وأن نكون البا واحدا في حرب هذا العدو المشترك الذي يحمل لنا كل ضغينة ويجاهرنا بالعداوة وهم هؤلاء الذين اصطلحنا نحن وأنتم على تسميتهم بالمجسمة لأنهم يثبتون الجهة لله فيقولون: إنه بذاته فوق خلقه استمساكا بظاهر قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] وأن إليه تصعد الملائكة بأقوال العباد وأفعالهم كما قال سبحانه : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ

٣٣٥

الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] وأنها ترقى إليه بأرواح المؤمنين كما قال سبحانه (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) وأنها ترقى إليه بأرواح المؤمنين كما ورد بذلك الحديث الصحيح ـ وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عرج إليه ليلة الإسراء عروجا حقيقيا حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى. وأن عيسى عليه‌السلام قد رفعه الله إليه ببدنه كما نطقت بذلك الآيات من سورتي النساء وآل عمران. وأنه سبحانه مع كونه فوق العرش بذاته فهو في كل مكان بقدرته وعلمه. ويقولون كذلك أنه ينزل آخر كل ليلة إلا السماء الدنيا نزولا حقيقيا لورود الحديث الصحيح به مع ما يقتضيه ذلك من إثبات جهتين جهة ابتداء يبتدئ منها النزول ، وجهة انتهاء ينتهي إليها وذلك من خواص الأجسام ويقولون أنه متكلم بكلام قام بذاته ، وأن كلامه حروف وأصوات مسموعة إذ لا يعقل من الكلام إلا ذلك ـ والثقل بكسر الثاء أي الثقيل ، والأضغان جمع ضغن وهو الحقد وقوله فهم عدوكم أي أعداؤكم ، ولفظ عدو يستعمل كثيرا في الجمع.

* * *

وكذلك قالوا ما حكينا عنهم

من قبل قول مشبه الرحمن

فذروا الحراب لنا وشدوا كلنا

جمعا عليهم حملة الفرسان

حتى نسوقهم بأجمعنا إلى

وسط العرين ممزقي اللحمان

فلقد كوونا بالنصوص وما لنا

بلقائها أبد الزمان يدان

كم ذا يقال الله قال رسوله

من فوق أعناق لنا وبنان

إذ نحن قلنا قال أرسطو ذا المع

لم أولا أو قال ذاك الثاني

وكذاك إن قلنا ابن سينا قال ذا

أو قاله الرازي ذو التبيان

قالوا لنا قال الرسول وقال في

القرآن كيف الدفع للقرآن

وكذاك أنتم منهم أيضا بهذا

المنزل الضنك الذي تريان

إن جئتموهم بالعقول أتوكم

بالنص من أثر ومن قرآن

الشرح : وكذلك قالوا ما رويناه عنهم قبلا من إثبات الوجه واليدين والعينين والقدم والساق والإصبع مما هو فينا أبعاض ، ومن اثبات الرضى والمحبة

٣٣٦

والكراهية والمقت والغضب والضحك والعجب وغير ذلك مما هو فينا إعراض ، فشبهوا الله بخلقه ، ونحن وأنتم متفقون على استحالة ثبوت هذه الصفات لله. فاتركوا إذن محاربتنا ولنحمل جميعا عليهم حملة واحدة حتى ندعهم في الميدان أشلاء متناثرة ونشفي منهم غيظ قلوبنا ، ونستريح من تطاولهم علينا بالنصوص التي طالما كوونا بها وجرعونا غصصها ، وما لنا قدرة على مناجزتها وهم دائما يحتمون في هذه النصوص ويعتصمون بها عند المصاولة ويشهرونها في وجوهنا سيوفا مسلولة ، فكلما قلنا لهم : قال أرسطو الملقب عندنا بالمعلم الأول ، أو قال الفارابي الذي هو المعلم الثاني ، أو قال ابن سينا الذي لقبناه بالشيخ الرئيس ، أو قال أبو عبد الله فخر الدين الرازي صاحب كتاب التبيان في تفسير القرآن ، قابلونا بقولهم : قال الرسول كذا وقال الله في القرآن كذا ، وهل نملك للقرآن دفعا أو نستطيع له ردا ، وكذلك حالكم معهم أيها المتأخرون من الأشاعرة فأنتم منهم كما نحن بأضيق المنازل وأهونها. كلما جئتموهم بما تزعمون أنه مقررات العقول أتوكم بالنص الصريح من الكتاب والسنة. فلنتآزر نحن وأنتم في القضاء عليهم وتشتيت جموعهم حتى تسلم لنا مناهجنا القائمة على العقل وحده الذي وثقنا نحن وأنتم فيه وارتضينا حكمه دون هذه النصوص التي لا تخلوا من إجمال واشتباه.

* * *

فتحالفوا إنا عليهم كلنا

حزب ونحن وأنتم سلمان

فإذا فرغنا منهم فخلافنا

سهل فنحن وأنتم اخوان

فالعرش عند فريقنا وفريقكم

ما فوقه أحد بلا كتمان

ما فوقه شيء سوى العدم الذي

لا شيء في الأعيان والأذهان

ما الله موجود هناك وإنما الع

دم المحقق فوق ذي الأكوان

والله معدوم هناك حقيقة

بالذات عكس مقالة الديصان

هذا هو التوحيد عند فريقنا

وفريقكم وحقيقة العرفان

وكذا جماعتنا على التحقيق

في التوراة والإنجيل والفرقان

٣٣٧

ليست كلام الله بل فيض من

الفعال أو خلق من الأكوان

فالأرض ما فيها له قول ولا

فوق السما للخلق من ديان

بشر أتى بالوحي وهو كلامه

في ذاك نحن وأنتم مثلان

الشرح : فلنتحالف بيننا أن نكون عليهم حزبا واحدا ، وأن يكون كل منا سلما لصاحبه ، فإذا فرغنا من قتالهم والقضاء عليهم ، فإن ما بيننا من الخلاف هين بسيط ، بل نحن في حقيقة الأمر أخوان متفقان في أكثر المبادي والأحكام ، فالعرش عند جماعتنا وجماعتكم (وهو الجسم المحيط بكرة العالم) ليس فوقه شيء اللهم إلا العدم المحض الذي ليس شيئا موجودا ، لا في الأعيان ولا في الأذهان. بل ليس وراءه إلا العدم المحقق ، فالله عندنا وعندكم ليس فوق العرش بذاته عكس ما يقوله الديصانية (الذين يقولون بأصلين نور وظلمة ، وأن النور لم يزل يلقى الظلمة بأسفل صفحة منه ، وأن الظلمة لم تزل تلقاه بأعلى صفحة منها) وهذا هو عندنا وعندكم حقيقة التوحيد والمعرفة أن الله وجود مجرد بسيط لا تكثر فيه ، ولا يقال فوق ولا تحت ولا داخل ولا خارج ولا يوصف بقرب ولا بعد ولا اتصال ولا انفصال ، ولا يشار إليه ولا يصعد إليه شيء ، ولا ينزل من عنده شيء وكذلك جماعتنا تقول في التوراة والإنجيل والقرآن أنها ليست كلام الله على الحقيقة ، بل هي عندنا فيض من العقل الفعال الذي هو عقل القمر ، وهو آخر العقول العشرة وأقربها إلى عالم العناصر ، وهو المتصرف فيها بالكون والفساد ، وهو الذي يفيض العلوم على البشر بحسب الاستعداد والتوجه كما يفيض الصور النوعية على المركبات ، وهي عندكم كذلك من جملة المخلوقات ، لأنها حروف وأصوات وألفاظ مكتوبات ، فالاتفاق بيننا وبينكم قائم على نفي أن يكون لله كلام في الأرض ، أو أن يكون بذاته على العرش ، بل الذي نقرؤه بألسنتنا إنما هو كلام بشر أتى بالوحي وليس كلام الله ، ونحن وأنتم في هذا مثلان (١).

* * *

__________________

(١) انظر كيف يعقد المؤلف هذا الشبه القوي بين الأشعرية المتأخرة وبين الفلاسفة رغم ما كانا يتظاهران به من عداء.

٣٣٨

ولذاك قلنا أن رؤيتنا له

عين المحال وليس في الإمكان

وزعمتم أنا نراه رؤية المع

دوم لا الموجود في البرهان

إذ كل مرئي يقوم بنفسه

أو غيره لا بد في البرهان

من أن يقابل من يراه حقيقة

من غير بعد مفرط وتدان

ولقد تساعدنا على إبطال ذا

أنتم ونحن فما هنا قولان

أما البلية فهي قول مجسم

قال القرآن بدا من الرحمن

هو قوله وكلامه منه بدا

لفظا ومعنى ليس يفترقان

سمع الأمين كلامه منه وأد

اه إلى المختار من إنسان

فله الأداء كما الأداء لرسوله

والقول قول الله ذي السلطان

الشرح : ولهذا الذي ذهبنا إليه نحن وأنتم من نفي الجهة وإنكار أن يكون الله فوق عرشه بذاته ، قلنا أن رؤيتنا له التي وردت بها النصوص الصريحة من الكتاب والسنة مستحيلة غير ممكنة ، وأما أنتم فلما لم يجترئوا على إنكار تلك النصوص أو تأويلها أثبتم رؤية بلا جهة ، وهي لا تليق إلا بالمعدوم دون الموجود في الأعيان ، فإن البرهان قام على أن كل مرئي ، سواء كان قائما بنفسه ، وهو ما لا يكون تحيزه تابعا لتحيز غيره ، أو كان قائما بغيره ، كالعرض لا بد أن يكون مقابلا للرائي وفي جهة منه ، وقد تظاهرنا نحن وأنتم على إبطال ذلك ، أي الوجود في الجهة في حق الله تعالى ، فقولنا في ذلك هو عين قولكم ، لهذا حكمنا باستحالة الرؤية ، والتزمتم رؤية بلا جهة ، فليس ثم خلاف بيننا وبينكم في هذه الأصول ، أما المخالف لنا ولكم جميعا فهو ذلك المجسم الذي يقول بأن القرآن كلام الله ، لفظه ومعناه ، منه بدأ وإليه يعود ، فيثبت الحرف والصوت ، ولا يفرق بين اللفظ والمعنى ، ولا يقول أن اللفظ مخلوق ، بل يقول أن القرآن كله ، لفظه ومعناه ، هو قول الله وكلامه ، سمعه منه الأمين جبريل عليه‌السلام ثم أداه إلى سيد البشر ومختارهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما سمعه ، فليس لجبريل فيه إلا الأداء فقط ، وكذلك الرسول عليه‌السلام أداه لأمته كما سمعه من جبريل ، والقول قول الله في كل ذلك ، لأن القول إنما ينسب إلى من قاله مبتدئا لا إلى من بلغه مؤديا. نعم قد

٣٣٩

ينسب القرآن قولا إلى كل من جبريل ومحمد عليهما‌السلام ، ولكن باعتبار الأداء لا بمعنى الابتداء والإنشاء.

* * *

هذا الذي قلنا وأنتم أنه

عين المحال وذاك ذو بطلان

فإذا تساعدنا جميعا أنه

ما بيننا لله من قرآن

إلا كبيت الله إضافة المخلوق

لا الأوصاف للديان

فعلام هذا الحرب فيما بيننا

مع ذا الوفاق ونحن مصطلحان

فإذا أبيتم سلمنا فتحيزوا

لمقالة التجسيم بالإذعان

عودوا مجسمة وقولوا ديننا ال

إثبات دين مشبه الديان

أو لا فلا منا ولا منهم وذا

شأن المنافق إذ له وجهان

هذا يقول مجسم وخصومه

ترميه بالتعطيل والكفران

هو قائم هو قاعد هو جاحد

هو مثبت تلقاه ذا ألوان

يوما بتأويل يقول وتارة

يسطو على التأويل بالنكران

الشرح : هذا الذي يقوله المجسم من إثبات الكلام اللفظي الذي هو حروف وأصوات مسموعة ، ولا تكون إلا حادثة ، لأن لها ابتداء وانتهاء ، هو الذي قلنا نحن وأنتم أنه عين المحال لاستلزامه مشابهة الله لخلقه ، وكونه محلا للحوادث.

فإذا كنا قد اتفقنا نحن وأنتم على أن هذا المكتوب بين دفتي المصحف المقروء بألسنتنا المسموع بآذاننا ليس هو كلام الله ، وأنه ليس لله في الأرض قرآن ، وأن إضافته إلى الله تعالى كإضافة البيت والناقة وغيرهما من الأعيان المخلوقة إليه ، وليست إضافة صفة إلى موصوف ، فعلام إذا تناجزوننا الحرب مع كل هذا الوفاق في معظم الأصول والقواعد الأساسية ، فإذا أبيتم إلا حربنا وعداوتنا فانبذوا ما أنتم عليه مما توافقوننا فيه وانحازوا إلى مقالة التجسيم مذعنين ، وكونوا مع هؤلاء المجسمة المثبتين ، وقولوا رضينا بالإثبات دينا ، وإلا فصرحوا بأنكم لستم منا ولا منهم ، وأنكم كالشاة الحائرة بين الغنمين ، شأن المنافق صاحب

٣٤٠