شرح القصيدة النونيّة - ج ١

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ١

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥
الجزء ١ الجزء ٢

الوجهين لا تثبتون على مبدأ ، ولا يستقر لكم منهج ، فنحن نقول عنكم مجسمة لاثباتكم بعض الصفات ، وخصومنا يرمونكم بالتعطيل والجحود لنفيكم بعضها بلا فارق بين ما أثبتموه وما نفيتموه ، فأنتم كقوس قزح تتعدد ألوانه ، مرة تجحدون وأخرى تثبتون ، لم تطردوا قاعدتكم في الجحد ولا قاعدتكم في الإثبات بل تفرقون بين المتماثلين وتسوون بين المختلفين ، ومرة تؤولون وأخرى تحرمون التأويل وتسطون عليه بالإنكار.

والحق أن هذه الفرقة التي تسمى بالأشعرية ، لا سيما المتأخرين منها ، أشد الفرق حيرة واضطرابا وتذبذبا ، بسبب أنهم أرادوا الجمع بين العقل والنص ، فلا للنص نصروا ، ولا لخصومهم من الفلاسفة والمعتزلة كسروا ، لأنهم لما جاروا هؤلاء الخصوم في كثير مما ذهبوا إليه من النفي والتعطيل أعانوهم على أنفسهم ، وأعطوهم سلاحا يقابلونهم به كلما أرادوا التعرض لهم ، ومن يقرأ كتاب (تهافت التهافت) لابن رشد في الرد على كتاب تهافت الفلاسفة للغزالي ، يظهر له جليا كيف أعان هؤلاء الأشاعرة خصومهم على ضربهم في الصميم.

فصل

في المطالبة بالفرق بين ما يتأول وما لا يتأول

فنقول فرق بين ما أولته

ومنعته تفريق ذي برهان

فيقول ما يفضي إلى التجسيم

أولناه من خبر ومن قرآن

كالاستواء مع التكلم هكذا

لفظ النزول كذاك لفظ يدان

إذ هذه أوصاف جسم محدث

لا ينبغي للواحد المنان

فنقول أنت وصفته أيضا بما

يفضي إلى التجسيم والحدثان

فوصفته بالسمع والأبصار مع

نفس الحياة وعلم ذي الأكوان

ووصفته بمشيئة مع قدرة

وكلامه النفسي وهو معان

أو واحد والجسم حامل هذه الأ

وصاف حقا فاءت بالفرقان

٣٤١

بين الذي يفضي إلى التجسيم أو

لا يقتضيه بواضح البرهان

والله لو نشرت شيوخك كلهم

لم يقدروا أبدا على الفرقان

الشرح : ونحن كذلك معشر أهل السنة والجماعة ، نقول لهؤلاء النفاة من الأشاعرة الذين يتأولون ما ورد من النصوص في الصفات الخبرية ، ولكنهم يمنعون التأويل لما أثبتوه مما يسمونه صفات عقلية ، فنقول لهم فرقوا لنا ببرهان صحيح مقبول بين ما أولتموه وبين ما منعتموه ، فإن قالوا إن ما يوهم التجسيم ويفضي إلى مشابهة الله بخلقه أولناه ، وذلك كاستواء الله على العرش والتكلم بالحرف والصوت والنزول إلى سماء الدنيا وإثبات اليد وغير ذلك من صفات الأجسام المحدثة التي يجب تنزيه الله تعالى عنها.

قلنا لهم : وأنتم أيضا وصفتموه بما يفضي إلى التجسيم والحدوث من السمع والبصر والحياة والعلم والقدرة والمشيئة والكلام النفسي ، سواء كان معنى واحدا أو أكثر ، فهذه كلها صفات الأجسام ، ونحن لا نرى في الشاهد موصوفا بها إلا الجسم ، وبذلك بطل ما ادعيتموه من الفرق بين ما أثبتموه وبين ما نفيتموه ، ونحن نطالبكم أن تأتونا بدليل واضح على الفرق بين ما يفضي إلى التجسيم وبين ما لا يوجبه ويقتضيه في زعمكم ، ولن تستطيعوا ذلك أبدا ، ولا حتى شيوخكم لو أقامهم الله من قبورهم ، فإنهم لا يقدرون على الإتيان بذلك الفرقان.

* * *

فصل

في ذكر فرق لهم آخر وبيان بطلانه

فلذاك قال زعيمهم في نفسه

فرقا سوى هذا الذي تريان

هذي الصفات عقولنا دلت على

إثباتها مع ظاهر القرآن

فلذاك صناها عن التأويل

فاعجب يا أخا التحقيق والعرفان

كيف اعتراف القوم أن عقولهم

دلت على التجسيم بالبرهان

٣٤٢

فيقال هل في العقل تجسيم

أم المعقول ننفيه كذا النقصان

إن قلتم ننفيه فانفوا هذه

الأوصاف وانسلخوا من القرآن

أو قلتم نقضي بإثبات له

ففراركم منها لأي معان

أو قلتم ننفيه في وصف ولا

ننفيه في وصف بلا برهان

فيقال ما الفرقان بينهما وما ال

برهان فاتوا الآن بالفرقان

الشرح : لما طالبناهم بتحقيق الفرق بين هذا الذي أثبتوه من صفات المعاني وبين ما نفوه من الصفات الخبرية ، أجابوا أولا بأن هذه الأخيرة مفضية إلى التجسيم والحدوث بخلاف الأولى فإنها لا تقتضيه ، ولما بينا لهم أن هذا الفرق غير سديد ، لأن كلا مما أثبتوه وما نفوه هو الشاهد من صفات الأجسام ، فإثبات أحدهما موجب لإثبات الأخر ، ونفيه موجب لنفي الآخر لجئوا إلى فرق آخر ، وهو أن هذه الصفات السبع إنما أثبتناها بالعقل ، فإن وجود المخلوقات دل على القدرة ، وما فيها من التخصيصات دل على الإرادة ، والإتقان في الصنعة دل على العلم والسمع والبصر ، وهذه الخمس تدل على الحياة مع ظاهر القرآن ، فلذلك صناها عن التأويل ، بخلاف الصفات الأخرى فإنها لم تثبت بالعقل ، فاضطررنا إلى تأويل الظواهر الواردة فيها.

فأعجب لهذا الاعتراف منهم على أنفسهم بأن عقولهم دلت على التجسيم بالبرهان وحينئذ يقال لهم إن كان في العقل ما يدل على نفي التجسيم وأنتم تنفونه غاية النفي فيلزمكم نفي ما أثبتموه من الصفات السبع ، وموافقة الجهمية في التعطيل التام وإن كان فيه ما يقتضي التجسيم ويدل على ثبوته ، فلأي شيء تفرون من إثبات ما وردت به النصوص من الكتاب والسنة ، وإن قلتم ننفيه في بعض الأوصاف دون بعض فاذكروا لنا الفرق بينهما ويلزمكم الإتيان ببرهان صحيح على هذا الفرق حتى يمكن قبول دعواكم فيه.

والحاصل أنه لا مخلص لهم من اختيار واحد من هذه الوجوه الثلاثة فيلزمهم حينئذ لازمه المترتب عليه.

٣٤٣

ويقال قد شهد العيان بأنه

ذو حكمة وعناية وحنان

مع رأفة ومحبة لعباده

أهل الوفاء وتابعي القرآن

ولذاك خصوا بالكرامة دون

أعداء الاله وشيعة الكفران

وهو الدليل لنا على غضب

وبغض منه مع مقت لذي العصيان

والنص جاء بهذه الأوصاف مع

مثل الصفات السبع في القرآن

ويقال سلمنا بأن العقل لا

يفضي إليها فهي في الفرقان

أفنفي آحاد الدليل يكون للم

دلول نفيا يا أولي العرفان

أو نفي مطلقة يدل على انتفا

المدلون في عقل وفي قرآن

أفبعد ذا الإنصاف ويحكم سوى

محض العناد ونخوة الشيطان

وتحيز منكم إليهم لا إلى الق

رآن والآثار والإيمان

الشرح : ويقال لهم ونحن أيضا نثبت هذه الصفات الخبرية بمثل ما أثبتم به هذه السبع ، ونقول أن العقل دل على ثبوتها لله ، فإن نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة وإكرام الطائعين بأنواع الكرامة في الدنيا والآخرة يدل على المحبة وعقاب الكافرين وإهانتهم يدل على البغض والغضب والمقت والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته تدل على الحكمة وهكذا ، والنص أيضا جاء بها صريحا كما جاء بالصفات السبع وبذلك تكون ثابتة مثلها بالنص والعقل معا فلا فرق.

ويقال لهم كذلك سلمنا أن العقل لا يدل على ثبوت هذه الصفات ، فإن ذلك لا يستلزم نفيها فإن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين. وكذلك نفي مطلق الدليل لا يدل على انتفاء المدلول لا في العقل ولا في الشرع ، بل لا بد للنافي من أن يأتي بالدليل على النفي كالمثبت سواء بسواء. وهذه الأمور ثابتة بالسمع الذي لم يعارضه معارض لا سمعي ولا عقلي ، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم.

وهكذا ينهج المؤلف رحمه‌الله مع هؤلاء الخصوم خطة القصد والانصاف بلا شطط ولا اعتساف ، ولهذا يقول لهم ليس وراء رفضكم لهذه الخطة إلا محض

٣٤٤

المكابرة والعناد وحميتكم لمذاهبكم الباطلة حمية الجاهلية وانضمامكم إلى فئة الشيطان دون معسكر القرآن والآثار والإيمان.

* * *

فصل

في بيان مخالفة طريقهم لطريق أهل الاستقامة عقلا ونقلا

واعلم بأن طريقهم عكس الطر

يق المستقيم لمن له عينان

جعلوا كلام شيوخهم نصا له الأ

حكام موزونا به النصان

وكلام باريهم وقول رسولهم

متشابها متحملا لمعان

فتولدت من ذينك الأصلين أو

لاد أتت للغي والبهتان

إذ من سفاح لا نكاح كونها

بئس الوليد وبئست الأبوان

عرضوا النصوص على كلام شيوخهم

فكأنها جيش لذي سلطان

والعزل والإبقاء مرجعة إلى

السلطان دون رعية السلطان

وكذاك أقوال الشيوخ فإنها

الميزان دون النص والقرآن

إن وافقا قول الشيوخ فمرحبا

أو خالفت فالدفع بالإحسان

أما بتأويل فإن أعيا فتفويض ونتركها لقول فلان الشرح : وطريقة هؤلاء في باب الاعتقاد طريقة عوجاء مائلة عن طريق أهل القصد والاستقامة فهم بدلا من أن يجعلوا النص أصلا محكما ويردوا إليه ما تنازعوا فيه ، ويزنوا به أقوال الناس عكسوا القضية فجعلوا كلام شيوخهم هو النص المحكم وجعلوه هو الميزان الذي يزنون به نصوص السنة والقرآن وجعلوا كلام الله وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجملا متشابها محتملا لأكثر من معنى ، وتولد عن هذين الأصلين الفاسدين أسوأ النتائج ، فمنها أنهم يجعلون كلام شيوخهم هو صاحب السلطان في الإبقاء على ما يشاء من النصوص وعزل ما يشاء شأن القائد مع جيشه والحاكم مع رعيته فهو يتصرف فيها بما يشاء.

٣٤٥

ومنها أنهم يجعلون أقوال الشيوخ هي الميزان الذي توزن به النصوص من السنة والقرآن ، فإن وافقته فبها ونعمت وإن خالفته وجب دفعها ، أما بتأويلها بما يتفق مع أقوال هؤلاء الشيوخ ، وأما بتفويضها وتركها ألفاظا بلا معنى من أجل قول فلان وفلان فما أسوأ ما رضوا لأنفسهم أن يستبدلوا بكلام الله وكلام رسوله كلاما عامته خلط وهذيان.

وقوله له الأحكام بكسر الهمزة أي جعلوه هو المحكم والنصان يعني السنة والقرآن. وقوله أولاد فاعل تولدت وللغي يعني لغير رشدة.

* * *

إذ قوله نص لدينا محكم

فظواهر المنقول ذات معان

والنص فهو به عليم دوننا

وبحاله ما حيلة العميان

إلا تمسكهم بأيدي مبصر

حتى يقودهم كذي الأرسان

فاعجب لعميان البصائر أبصروا

كون المقلد صاحب البرهان

ورأوه بالتقليد أولى من سوا

ه بغير ما بصر ولا برهان

وعموا عن الوحيين إذا لم يفهموا

معناهما عجبا لذي الحرمان

قول الشيوخ أتم تبيانا

من الوحيين لا والواحد الرحمن

النقل نقل صادق والقول من

ذي عصمة في غاية التبيان

وسواه إما كاذب أو صح لم

يك قول معصوم وذي تبيان

أفيستوي النقلان يا أهل النهى

والله لا يتماثل النقلان

الشرح : يعني أنهم يتركون النصوص لقول فلان من الناس ، لأن قوله في نظرهم نص محكم لا اشتباه فيه ولا يحتمل أكثر من معنى. أما ظواهر النصوص فهي متشابهة محتملة لمعان عدة. ولأنه من جهة أخرى أعلم بالنصوص وبحالها منهم ، فهم لا يعرفون تفسيرها إلا من جهته ، ولا ينظرون فيها إلا بعينه. كالعميان في حاجتهم إلى قائد بصير يقودهم قود الدواب ذوات الأرسان ، ولكن العجب من هؤلاء العميان كيف أبصروا أن مقلدهم ومتبوعهم هو

٣٤٦

صاحب البرهان وكيف آثروا كلامه على كلام غيره بمجرد التقليد من غير برهان في الوقت الذي عموا فيه عن الوحيين ولم يروا أنفسهم أهلا للنظر فيهما ، فيا له من حرمان أن يجعل قول الشيوخ أتم بيانا من الوحيين ، فهم إذا سئلوا عن شيء منها أظهروا الحذق والمهارة في فهمه وتقريره بحيث لا يخفي عليهم موضع حرف منه ، ولكنهم إذا سئلوا عن معنى آية أو حديث استعظموا ذلك واستهولوه واكتفوا بذكر ما يحفظونه من كلام شيوخهم فيه. فلا والله الواحد الرحمن لا يكون كلام شيوخهم أبدا أتم بيانا ولا أوضح دلالة من الوحيين ، لا من جهة سنده ولا متنه ، فإن النقل فيهما نقل صادق قام به أئمة عدول وجهابذة ثقات ، والقول هو قول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، والذي هو أعلم الناس بما يقول ، وأقدرهم على الأداء والبيان وأما ما سواهما من قول سائر الناس فلا يخلو إما ان يكون كاذبا من جهة النقل ، أو قاصرا على إفادة المطلوب أو محتملا للخطأ ، فلا يمكن ان يستوي النقلان أبدا عند ذوي الألباب. والأرسان جمع رسن وهو الحبل المعروف الذي تشد به الدابة.

* * *

هذا الذي ألقى العداوة بيننا

في الله نحن لأجله خصمان

نصروا الضلالة من سفاهة رأيهم

لكن نصرنا موجب القرآن

ولنا سلوك ضد مسلكهم فما

رجلان منا قط يلتقيان

إنا أبينا أن ندين بما به

دانوا من الآراء والبهتان

إنا عزلناها ولم نعبأ بها

يكفي الرسول ومحكم الفرقان

من لم يكن يكفيه ذان فلا كفا

ه الله شر حوادث الأزمان

من لم يكن يشفيه ذان فلا شفا

ه الله في قلب ولا أبدان

من لم يكن يغنيه ذان رماه رب

العرش بالإعدام والحرمان

من لم يكن يهديه ذان فلا هدا

ه الله سبل الحق والإيمان

الشرح : يعني أن انتصار هؤلاء لأقوال شيوخهم وتقديمهم إياها على الكتاب

٣٤٧

والسنة دون ان يحفلوا بهما هو الذي أرث بيننا وبينهم العداوة وجعلنا خصمين في الله لا يلتقيان وكيف يلتقي من كان مشايعا للضلالة سفاها وجهلا ، ومن كان ناصرا لمقتضى القرآن ، كيف يلتقي منهجنا ومنهجهم وهما ضدان لا يجتمعان. فنحن نأبى أن ندين بما يدينون به من الآراء الضالة والقضايا الفاسدة فهي عندنا بمعزل عن مكان القدوة والاعتبار ، ولا نراها أهلا لأن نجيل فيها الأذهان والأفكار ، بل كفايتنا في ذلك القرآن والآثار ، فإن من لم يكتف بهما في دينه وعقيدته فلا كفاه الله أبدا ما يلقى من زمانه من خطوب وأرزاء ، ومن لم يجد فيهما شفاء قلبه وعقله فلا برئت له علة ولا انحسم له داء ، ومن لم يجد فيهما الغني كل الغنى عما عداهما ضربه الله بالعدم والإملاق وجعل الفقر لازما له أبد الدهر. ومن لم يجد فيهما الهدى كل الهدى ، فلا ذاق طعم الهداية أبدا إلى طريق الحق والإيمان.

* * *

إن الكلام مع الكبار وليس مع

تلك الأراذل سفلة الحيوان

أوساخ هذا الخلق بل أنتانه

جيف الوجود أخبث الإنسان

الطالبين دماء أهل العلم

بالكفران والعدوان والبهتان

الشاتمي أهل الحديث عداوة

للسنة العليا مع القرآن

جعلوا مسبتهم طعام حلوقهم

فالله يقطعها من الأذقان

كبرا وإعجابا وتيها زائدا

وتجاوزا لمراتب الإنسان

لو كان هذا من وراء كفاية

كنا حملنا راية الشكران

لكنه من خلف كل تخلف

عن رتبة الإيمان والإحسان

الشرح : إن كلامنا ومناظراتنا في قضايا العقيدة الكبرى إنما نتوجه بها إلى رؤساء القوم والمتصدرين منهم لنصرة هذه المذاهب الباطلة ، ولسنا نعني بها أولئك الأخساء الأرذال الذين هم شر الدواب الصم البكم الذين لا يعقلون ، بل هم أقذار هذا الوجود وجيفة وأخباثه ، فقد انطوت نفوسهم على الحقد القاتل

٣٤٨

والعداوة اللدود لأهل العلم والإيمان ، يودون لو خلت منهم الدنيا حتى يستريحوا من استطالتهم عليهم بالآثار والقرآن ، فهم يطلبون دماءهم ، ويسعون في الإيقاع بهم لا بالحق والعدل بل بالكفر والعدوان ، وبما يرمونهم به من البهتان ، وهم مع ذلك قد بسطوا إليهم ألسنتهم بالسوء ، عداوة منهم للسنة والقرآن ، وجعلوا سبابهم مضغ أفواههم وطعام حلوقهم وقربتهم التي يتقربون إلى الله بها. وليتهم فعلوا ذلك عن جدارة وكفاية ، وكان عندهم من العلم والمعرفة ما يؤهلهم للنزول في مضمار الخصومة والجري في حلبتها ، إذا لعرفنا لهم حقهم وشكرنا لهم هذه الهمة في المنازلة والدفاع ، ولكنهم لا يصدرون في ذلك إلا عن كبر في صدورهم ما هم ببالغيه ، وإعجاب منهم بآرائهم الضالة ، وزيادة تيه وعدم معرفة منهم بأقدارهم صلفا وغرورا ، وهم مع ذلك متخلفون أشد التخلف ، قاصرون كل القصور عن أقل درجات الإيمان والإحسان.

ولا يعجبن القارئ من وصف الشيخ رحمه‌الله لهؤلاء الجامدين المتعصبين بما وصفهم به ، فإنهم طالما عادوه وعادوا شيخه شيخ الإسلام وحجة الدهر ابن تيمية رحمه‌الله ورضي عنه ، ورموهما بكل نقيصة من الضلال والإضلال والكفر والإلحاد ، الخ ما يشتمل عليه قاموس المطاعن والمفتريات ، وأليك نموذجا واحدا مما يقوله التقي السبكي في العلامة ابن القيم خلال رده الهزيل المتهافت على تلك النونية العصماء. فقد قال عند تعليقه على قول الناظم في شأن إمام الحرمين الجويني :

(ولقد وجدت لفاضل منهم مقا

ما قامه في الناس منذ زمان الخ)

«فانظر أن مالكا رضي الله عنه ـ وناهيك به ـ قد فسر الحديث بما قال هذا المتخلف النحس أنه الحاد ، فهو الملحد عليه لعنة الله ما أوقحه وما أكثر تجرأه؟ أخزاه الله».

ثم يعلق على تلك العبارات البشعة التي تدل على قذارة قائلها وخلوه من كل

٣٤٩

معاني الأدب والإيمان. تلميذه ومشايعه في الجهل والضلال المدعو زاهد الكوثري ، فيقول في تكملته :

«ترى المؤلف على ورعه البالغ يستنزل اللعنات على الناظم في كثير من مواضع هذا الكتاب ، وهو يستحق تلك اللعنات من حيث خروجه على معتقد المسلمين بتلك المخازي لكن الخاتمة مجهولة ، فالأولى كف اللسان الآن عن اللعن».

وأما استنزال المؤلف اللعنة عليه فكان في حياة الناظم ، وهو يمضي على زيغه وإضلاله ، عامله الله بعدله ، وإنما قدمت لك هذه الصورة لترى في أي جو خانق مظلم ملئ بأنواع الكيد والأذى كان يعيش المؤلف وشيخه وغيرهما من أئمة السنة والحديث ، رحمهم‌الله ورضي عنهم أجمعين.

* * *

من لي بشبه خوارج قد كفروا

بالذنب تأويلا بلا إحسان

ولهم نصوص قصروا في فهمها

فأتوا من التقصير في العرفان

وخصومنا قد كفرونا بالذي

هو غاية التوحيد والإيمان

الشرح : إذا قلت من لي بفلان كان معنى هذا التعبير أنك تطلب من يكفيكه ويريحك منه ، فالمؤلف يود لو أن له بهؤلاء الجاهلين قوة ، ويرميهم بشبه الخوارج في تكفيرهم بالذنب بلا إحسان في التأويل ، وباستمساكهم بنصوص قصروا عن فهمها فضلوا بها عن سواء السبيل. وخصومنا كذلك ، بل هم شر من الخوارج ، فإنهم ما كفرونا بذنب ارتكباه ، ولكن كفرونا بما هو غاية التوحيد والإيمان ، وهذا أعظم الجهل ومنتهى الخذلان أو يوصف التوحيد منا بالشرك ، والإيمان منا بالكفران. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

والمراد بعدم الإحسان في التأويل هو التمسك ببعض المتشابه من الآيات من غير ردها إلى المحكم الذي يوضح المراد منها. وقوله : فأتوا من التقصير في

٣٥٠

العرفان معناه أن تقصيرهم في فهم النصوص ومعرفة المراد بها كان هو سبب فتنتهم وضلالهم.

* * *

فصل

في بيان كذبهم ورميهم أهل الحق بأنهم أشباه الخوارج

وبيان شبههم المحقق بالخوارج

ومن العجائب أنهم قالوا لمن

قد دان بالآثار والقرآن

أنتم بذا مثل الخوارج أنهم

أخذوا الظواهر ما اهتدوا لمعان

فانظر إلى ذا البهت هذا وصفهم

نسبوا إليه شيعة الإيمان

سلوا على سنن الرسول وحزبه

سيفين سيف يد وسيف لسان

خرجوا عليهم مثل ما خرج الألى

من قبلهم بالبغي والعدوان

والله ما كان الخوارج هكذا

وهم البغاة أئمة الطغيان

كفرتم أصحاب سنته وهم

فساق ملته فمن يلحاني

إن قلت هم خير وأهدى منكم

والله ما الفئتان مستويان

شتان بين مكفر بالسنة العليا وبين مكفر العصيان الشرح : والعجيب من أمر هؤلاء المنحرفين عن طريق الكتاب والسنة أنهم يعيبون على من قد دان بهما ووقف عند نصوصهما من غير تحريف لها ولا تأويل متكلف لشيء منها ، ويشبهونه في ذلك بالخوارج الذين كانوا يأخذون بظواهر النصوص من غير فهم لمعانيها. وهذا بهت منهم لأهل السنة والحديث ، حيث رموهم بما هم منه براء (١) بل هم في الحقيقة أولى بهذا الوصف الذي نسبوهم إليه

__________________

(١) إن موقف السلف من النصوص وموقف الخوارج منها جد مختلفين ، فإن الخوارج كما ذكرنا يتشبثون ببعض المتشابه من غير فهم له ولا رجوع إلى المحكم الذي يفسره ، ويضربون كتاب الله بعضه ببعض ولا يقيمون للسنة وزنا وهي التي جعلها الله بيانا للكتاب.

٣٥١

على حد المثل القائل (رمتني بدائها وانسلت) فهم يشبهون الخوارج في عداوتهم للسنن وأهلها ، فلا شيء أبغض إليهم من ذكر الآثار التي تصادم مذاهبهم في التعطيل ، ولهذا تراهم يكرون عليها بالإبطال والتأويل والتهوين من شأنها ، ويسلون على رواتها والمتمسكين بها سيوف البغي والعدوان ، مرة باليد ومرة باللسان ، فهم أحقاء بأن يسموا بالخوارج البغاة لخروجهم على السنة وأهلها ومعاداتهم لها. كما خرج الذين من قبلهم على أئمة الحق بالبغي والعدوان بل لو حققت الأمر عليهم لوجدتهم شرا من الخوارج حالا وأضل سبيلا ، فإن الخوارج إنما كفروا فساق ملته عليه الصلاة والسلام. وأما هؤلاء فيكفرون أصحاب سنته ، فمن يلومنا إذا ، إذا نحن قلنا أن الخوارج خير منهم حالا وأهدى سبيلا ، وإذا نحن أقسمنا بأن الفئتين لا تستويان ، وهل يستوي مكفر بالسنة العليا ومكفر بالفسق والعصيان فشتان ما بينهما شتان.

* * *

قلتم تأولنا كذاك تأولوا

وكلاكما فئتان باغيتان

ولكم عليهم ميزة التعطيل

والتحريف والتبديل والبهتان

ولهم عليكم ميزة الإثبات

والتصديق مع خوف من الرحمن

ألكم على تأويلكم أجران إذ

لهم على تأويلهم وزران

حاشا رسول الله من ذا الحكم بل

أنتم وهم في حكمه سيان

وكلاكما للنص فهو مخالف

هذا وبينكما من الفرقان

هم خالفوا نصا لنص مثله

لم يفهموا التوفيق بالإحسان

لكنكم خالفتم المنصوص للشبه

التي هي فكرة الأذهان

فلأي شيء أنتم خير وأقرب

منهم للحق والإيمان

هم قدموا المفهوم من لفظ

الكتاب على الحديث الموجب التبيان

لكنكم قدمتمو رأي الرجا

ل عليهما أفأنتما عدلان

أم هم إلى الإسلام أقرب منكم

لاح الصباح لمن له عينان

٣٥٢

الشرح : فإن قلتم معتذرين عن تكفيركم لأهل السنة والحديث واستحلالكم لدمائهم وأعراضهم أنا متأولون في ذلك فالخوارج كذلك كانوا متأولين في تكفيرهم لمن خالفهم من المسلمين. ومع اشتراككما في البغي والعدوان والخطأ في التأويل فإنكم تنفردون عنهم بقبائح ، منها البهتان والتعطيل ، والتحريف والتبديل ، وهم ينفردون عنكم بمحاسن ، منها الإثبات والتصديق ، والخوف من الرب الجليل فما ذا يكون لكم على تأويلكم أجران ، ويكون لهم على تأويلهم وزران. فإذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حكم عليهم بالمروق من الإسلام لتكفيرهم متأولين أهل الإيمان فأنتم وهم في حكمه سيان.

ومع اشتراككما كذلك في مخالفة النصوص إلا أن هناك فرقا بينكم وبينهم من جهتين تجعلانهم خيرا وأقرب إلى الحق منكم ، الجهة الأولى أنهم يخالفون النص لتمسكهم بنص آخر معارض له في الظاهر ، ولم يفهموا طريق الاحسان في التوفيق بينهما ولكنكم أنتم تخالفون النصوص لما تسمونه عندكم شبهات عقلية ترون تقديمها على موجب النص لأنها في زعمكم قواطع تفيد اليقين ، والجهة الثانية أنهم يقدمون ما يفهم من ظاهر الآيات على الأحاديث المبينة لها ، وأما أنتم فتقدمون آراء شيوخكم ومتبوعيكم على ما يدل عليه الكتاب والسنة جميعا ، فهل أنتم وهم بعد هذا الفرق البين عدلان أم هم أقرب منكم إلى الإسلام والإيمان لقد وضح الصبح لمن له عينان.

* * *

والله يحكم بينكم يوم الجزا

بالعدل والإنصاف والميزان

هذا ونحن فمنهم بل منكم

برآء إلا من هدى وبيان

فاسمع إذا قول الخوارج ثم قو

ل خصومنا واحكم بلا ميلان

من ذا الذي منا إذا أشباههم

إن كنت ذا علم وذا عرفان

قال الخوارج للرسول اعدل فلم

تعدل وما ذي قسمة الديان

وكذلك الجهمي قال نظير ذا

لكنه قد زاد في الطغيان

٣٥٣

قال الصواب بأنه استولى فلم

قلت استوى وعدلت عن تبيان

وكذلك ينزل أمره سبحانه

لم قلت ينزل صاحب الغفران

ما ذا بعدل في العبارة وهي مو

همة التحرك وانتقال مكان

وكذاك قلت بأن ربك في السما

أوهمت حيز خالق الأكوان

كأن الصواب بأن يقال بأنه

فوق السما سلطان ذي السلطان

وكذاك قلت إليه يعرج والصوا

ب إلى كرامة ربنا المنان

الشرح : بعد أن حكم الشيخ المؤلف بأن الخوارج خير وأقرب إلى الإسلام من هؤلاء وكل أمرهم جميعا إلى الله الذي له الحكم وحده وإليه يرجعون يوم الجزاء فيجازي كلا منهم بما يستحقه في قانون العدل الإلهي والقسطاس المستقيم الذي لا تغيب عنه ذرة ، ثم أعلن براءة أهل السنة من الفريقين جميعا إلا مما يوجد عندهم من الهدى والبيان ، ثم عقد هذه المقارنة الرائعة بين الخوارج وبين هؤلاء الخصوم ومنها يتبين جليا أنهم هم أشباه الخوارج عند كل من له علم ومعرفة بآراء الفريقين.

فالخوارج قالوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على لسان زعيمهم ذي الخويصرة التميمي : يا رسول الله اعدل فإنك لم تعدل ، وقالوا عن قسمته هذه قسمة ما أريد بها وجه الله.

وكذلك الجهمي المعطل قال مثل ذلك وزاد عليه ، فلم يعجبه قول الرسول أن ربه استوى على العرش ، وقال بل صوابه استولى وعاب على الرسول أنه عدل عن هذا اللفظ الصريح إلى ذلك اللفظ الموهم للعلو والارتفاع ، وكذلك لم يعجبه قول الرسول ينزل ربنا ، فقال بل الصواب ينزل أمر ربنا ، واتهمه بعدم العدل في هذه العبارة التي توهم جواز الحركة على الله والانتقال من مكان إلى مكان ، وكذلك لم يرض قوله أن الله في السماء لأن ذلك يوهم الحيز والجهة وهما عنده مستحيلان على الله والصواب عنده ان يقال فوق السماء سلطانه لا ذاته.

وينكر الجهمي كذلك ان يقال أن الملائكة والروح تعرج إليه إذ هو لا يؤمن

٣٥٤

بإله فوق العرش ، فكيف يصعد إليه شيء ، والصواب عنده ان يقال تعرج إلى محل كرامته ونحو ذلك ، والخلاصة أن كلا من الخوارج والجهمية اتهموا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدم العدل إلا أن الأولين اتهموه بذلك في قسمة الأموال والجهمية اتهموه بعدم العدل في المقال.

* * *

وكذاك قلت بأن منه ينزل الق

رآن تنزيلا من الرحمن

كان الصواب بأن يقال نزوله

من لوحه او من محل ثان

وتقول أين الله ذاك الأين ممتن

ع عليه وليس في الامكان

لو قلت من كان الصواب كما ترى

في القبر يسأل ذلك الملكان

وتقول اللهم أنت الشاهد الأ

على تشير بإصبع وبنان

نحو السماء وما اشارتنا له

حسية بل تلك في الأذهان

والله ما ندري الذي نبديه في

هذا من التأويل للأخوان

قلنا لهم ان السما هي قبلة الد

اعى كبيت الله ذي الأركان

قالوا لنا هذا دليل أنه

فوق السماء بأوضح البرهان

فالناس طرا انما يدعونه

من فوق هذي فطرة الرحمن

لا يسألون القبلة العليا ول

كن يسألون الرب ذا الاحسان

قالوا وما كانت اشارته الى

غير الشهيد منزل الفرقان

أتراه أمسى للسما مستشهدا

حاشاه من تحريف ذي البهتان

الشرح : والجهمي لا يرضى كذلك قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن القرآن منزل من عند الله لأن من تفيد جهة الابتداء وهذا يقتضي أن الله في السماء ويقول ان الصواب أن يقال ان نزوله من اللوح المحفوظ أو في محل آخر كأن يخلق الله كلاما في الهواء فيسمعه جبريل عليه‌السلام وينزل به ، كما قالوا مثل ذلك في تكليمه تعالى لموسى عليه‌السلام أنه خلق كلاما في الشجرة سمعه موسى ونحو ذلك وكذلك يغيظ الجهمي أشد الغيظ ويكوى قلبه بنار الحقد أن يسأل الرسول

٣٥٥

صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ربه بلفظ الأين ، كما وقع في سؤاله للجارية التي كان يمتحنها ، ولما قالت في السماء حكم بايمانها ، ويقول الجهمي ان الأين وهو سؤال عن المكان ممتنع على الله وليس في الامكان. فكيف يليق أن يسأل عنه رسوله بما هو ممتنع عليه ، فالرسول في نظر الجهمي قد جار في هذه العبارة وما عدل ، وكان بصواب عنده أن يقول لها من الله؟ كما يقع من الملكين عند السؤال في القبر ، ولا يستريح الجهمي كذلك الى ما وردت به الأخبار الصحيحة من أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع وفي أعظم مجمع للمسلمين كان يشير بإصبعه الى السماء يشهد الله عزوجل على البلاغ والأداء قائلا «اللهم فاشهد» لأن تلك الاشارة الحسية عند ذلك الجهمي ممتنعة على الله لاقتضائها الجهة ، فهو عنده لا يقبل الا الاشارة الذهنية العقلية ، ويحار الجهمي أشد الحيرة في تفسير هذه الأمور ، ولا يدري ما ذا يقول في تأويلها ، فان قال ان الأكف والأبصار انما ترفع الى السماء لأنها قبلة الدعاء كما يتوجه المصلي قبل البيت. قيل له : وهذا أيضا أوضح دليل على ان الله في السماء ، فان الناس يتوجهون بالفطرة في دعائهم إليها حتى من لا يعرف أن الشرع أمر به ، والناس طبعا في توجههم نحو السماء لا يسألونها هي قضاء حوائجهم ، ولكن يسألون الرب صاحب الفضل والاحسان جل شأنه. والرسول كان يشير بإصبعه الى السماء لم يكن يطلب شهادتها هي على ما قام به من البلاغ والأداء ، وانما كان يشهد رب السماء الذي هو الشهيد المطلع على عمله كله ، والذي هو منزل الفرقان ولو كره ذلك المحرفون الجهلاء.

* * *

وكذاك قلت بأنه متكلم

وكلامه المسموع بالآذان

نادى الكليم بنفسه وكذاك قد

سمع الندا في الجنة الأبوان

وكذا ينادي الخلق يوم معادهم

بالصوت يسمع صوته الثقلان

أني أنا الديان آخذ حق مظ

لوم من العبد الظلوم الجاني

وتقول ان الله قال وقائل

وكذا يقول وليس في الامكان

٣٥٦

قول بلا حرف ولا صوت يرى

من غير ما شفة وغير لسان

أوقعت في التشبيه والتجسيم من

لم ينف ما قد قلت في الرحمن

الشرح : وكذلك يسوء الجهمي ويخزيه ويأتي على تعطيله من القواعد وصف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم لربه بأنه متكلم ، بمعنى ان الكلام قائم به لا بمعنى أنه مخلوق له ، وقوله : ان كلامه حروف وأصوات مسموعة بالآذان ، فهو الذي نادى بنفسه الكليم موسى بن عمران بنداء سمعه موسى عليه‌السلام ، كما قال تعالى (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الشعراء : ١٠] وكما قال (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) [مريم : ٥٢].

وهو سبحانه الذي نادى آدم وحواء حين أكلا من الشجرة ووقعا في الخطيئة معاتبا لهما على عصيانهما أمره ونسيانهما تحذيره لهما من عداوة الشيطان ، كما قال تعالى : (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) [الأعراف : ٢٢].

وهو سبحانه ينادي عباده يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب ويقول : «أنا الديان لا ظلم اليوم». كما ورد بذلك الحديث.

وهو سبحانه موصوف بأنه قال في الماضي وقائل في الحال ، ويقول في المستقبل فالقول ثابت له بكل صيغ الاشتقاق ، ولا يعقل قول بلا حروف وأصوات.

فهذا كله مما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام ، يراه الجهمي جورا في العبارة مجانبا للصواب في التنزيه وموقعا لمن لا علم له بنفيه عن الرحمن في التجسيم والتشبيه.

والثقلان الانس والجن ، والديان صيغة مبالغة من دانه بمعنى جازاه ، وقوله قول بلا حروف الخ ، هو اسم ليس في البيت قبله.

* * *

٣٥٧

لو لم تقل فوق السماء ولم تشر

باشارة حسية ببنان

وسكت عن تلك الأحاديث التي

قد صرحت بالفوق للديان

وذكرت أن الله ليس بداخل

فينا ولا هو خارج الأكوان

كنا انتصفنا من أولى التجسيم بل

كانوا لنا اسرى عبيد هوان

لكن منحتهم سلاحا كلما

شاءوا لنا منهم أشد طعان

وغدوا بأسهمك التي أعطيتهم

يرموننا غرضا بكل مكان

لو كنت تعدل في العبارة بيننا

ما كان يوجد بيننا رجفان

هذا لسان الحال منهم وهو في

ذات الصدور يغل بالكتمان

يبدو على فلتات أنفسهم وفي

صفحات أوجههم يرى بعيان

سيما اذا قرئ الحديث عليهم

وتلوت شاهده من القرآن

فهناك بين النازعات وكورت

تلك الوجوه كثيرة الألوان

ويكاد قائلهم يصرح لو يرى

من قابل فتراه ذا كتمان

اللغة : يقال انتصف من خصمه اذا غلب عليه بالحجة وقهره ، والغرض هو الشيء الذي ينصب للرمي كالهدف ، والرجفان من الرجفة والاضطراب ، وهو الشديد الفزع والشاهد هو المطابق المؤيد. وقوله : بين النازعات وكورت ، يعني به قوله تعالى في سورة عبس في وصف وجوه الكفار : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) [عبس : ٤٠ ، ٤١].

الشرح : هذا من جملة خطاب الجهمي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحكيه عنه المؤلف ، يعني أنك لو لم تقل بأن الله فوق السماء ولم تشر إليه بالاشارة الحسية الى جهة الفوق ، ولم تتحدث بتلك الأحاديث المستفيضة التي تصرح باثبات تلك الجهة لله ، ولو أنك بدلا من هذا ذكرت ما يفيد تنزهه عن الجهة والمكان ، فقلت انه ليس داخل العالم ولا خارجه ، لكنا بذلك قد انتصرنا على المجسمة وحجزناهم في أقماع السمسم ، حيث يكون معنا سلاح النقل الى جانب ما عندنا من المعقول ، لكنك منحتهم بهذه الأحاديث والنصوص سلاحا جبارا يطعنوننا به كلما شاءوا

٣٥٨

دون أن نملك مقاومة ، وأصبحوا بتلك السهام النافذة التي منحتهم اياها ، يرموننا في مقاتلنا ، ويتخذون منا غرضا لها حيثما ثقفونا.

ولو أنك عدلت في العبارة ولم تمل بها الى جانب التشبيه والتجسيم ، وأتيت بها على وجهها نصا في التعطيل والتنزيه ما وجد بيننا من يفزع أو يضطرب في ساحة هذه المعركة الزبون هذا ما تنطق به حال القوم بالنسبة الى أحاديث الصفات وما يغلون عليه صدورهم. وهو كذلك قد يبدو على فلتات ألسنتهم ، ويظهر جليا على صفحات وجوههم ، لا سيما اذا قرئت عليهم هذه الأحاديث ، وأتبعت بما يشهد لها من القرآن ، هناك تغبر وجوه القوم وتعلوها الكآبة ، وتضيق صدورهم وتكاد تنفجر من الغيظ ، ثم يندمون على ما كان منهم من ابداء دخائلهم وكشف ضمائرهم حتى ليكاد أحدهم يصرح بأنه سيجتهد مستقبلا في اخفاء ذلك وكتمانه.

* * *

يا قوم شاهدنا رءوسكم على

هذا ولم نشهده من انسان

الا وحشو فؤاده غل على

سنن الرسول وشيعة القرآن

وهو الذي في كتبهم لكن بلطف عب

ارة منهم وحسن بيان

وأخو الجهالة نسبة للفظ والم

عنى فنسب العالم الرباني

يا من يظن بأننا حفنا علي

هم كتبهم تنبيك عن ذا الشأن

فانظر تر لكن نرى لك تركها

حذرا عليك مصايد الشيطان

فشباكها والله لم يعلق بها

من ذي جناح قاصر الطيران

الا رأيت الطير في قفص الردى

يبكى له نوح على الأغصان

ويظل يخبط طالبا لخلاصه

فيضيق عند فرجة العيدان

والذنب ذنب الطير أخلى طيب الثم

رات في عال من الأفنان

وأتى الى تلك المزابل يبتغي الفض

لات كالحشرات والديدان

المفردات : الرءوس : الزعاء والقادة ـ الغل : الحقد والغيظ. الحيف : الجور مصايد الشيطان : حبائله ومكايده ـ علق الطائر بالشبكة : اذا أمسك الفخ

٣٥٩

برجليه فلم يستطع النهوض. الردى : الهلاك ـ النوح : جمع نائح ، والمراد به الطير التي تنوح على الأغصان. يخبط : يضرب بجناحيه فرجة العيدان : ما بينهما من اتساع ـ أخلى : ترك ـ الإفناء : جمع فنن وهو الغصن.

الشرح : ينادي الشيخ رحمه‌الله جمهور هؤلاء الجهمية من المقلدين لأشياخهم في الضلال بأنه شاهد رءوسهم ، أي زعماءهم على تلك الحال من الزراية بالسنن والبرم بها اذا رويت ، لما فيها من نسف مذاهبهم في التعطيل والالحاد. ويقول أن هذا لم ير من انسان قط الا وكان ممتلئ الفؤاد غيظا وغلا على السنة وأهلها. وأن ذلك موجود أيضا في كتبهم ، فتراهم لا يألون جهدا في التهوين من شأن هذه الآثار ومقابلة كثير منها بالطعن والانكار ، لكن مع لطف في العبارة وحسن في البيان ، حتى لا يفطن أحد الى ما تكنه صدورهم من زراية وامتهان ، ولا يظنن أحد أننا نتجنى على القوم أو نتهمهم بغير الحق ، فتلك كتبهم تخبر عنهم كل من ينظر فيها وتشهد عليهم شهادة صدق ، فليقرأها من شاء ليتأكد من صحة ما نسبناه إليهم ، لكنا مع ذلك ننصح كل أحد أن لا يقرأ هذه الكتب حتى لا يقع في حبائلها ويغره ما فيها من تزويق المنطق وتنميق الأفكار ، لا سيما اذا لم يكن ممن رسخ في علوم الكتاب والسنة قدمه ولا تمكن منهما فهمه ، فهذا لا يلبث أن يقع أسير شباكها ، تبكيه نائحة الدوح على غصنها ، وهو يجتهد في طلب الخلاص فلا يستطيع ، والذنب في ذلك ذنبه هو ، حيث ترك أطيب الثمرات على أغصانها العالية حلوة المجتنى طيبة المأكل ، وهبط الى المزابل وأمكنة القذارة يتقمم الفضلات كما تفعل الديدان والحشرات.

وما أروع تشبيه الشيخ رحمه‌الله حال من وقع أسير هذه الكتب وما فيها من ضلالات مزوقة قد فتن بها لبه وتأثر بها عقله ، بحال طير في قفص قد أحكم غلقه فهو يضرب بجناحيه طالبا للخلاص منه فلا يجد فرجة ينفذ منها لضيق ما بين العيدان من فرج.

وما أجمل أيضا تشبيهه لعقائد الكتاب والسنة بثمرات شهية كريمة المذاق على أغصان عالية ، بحيث لا يصل إليها فساد ولا يلحقها تلوث ، وتشبيهه لعقائد

٣٦٠