شرح القصيدة النونيّة - ج ١

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ١

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥
الجزء ١ الجزء ٢

الشرح : يقول لهذا الجهمي الخبيث أن لسانك القذر الذي لا ينطق إلا بكل إفك وزور ليس أهلا لأن يلوك أسماء هؤلاء الأبرار الذين أخلصوا النصيحة لله ولكتابه ولرسوله فإذا أردت ذكرهم فاغسل لسانك أولا مما ولغ فيه من دم التعطيل والإنكار والتكذيب للسنن والآثار والكفران والجحود والبهتان. ثم ينكر عليه أشد الإنكار أن يسبهم وهو ليس معهم في إطار ، ولا يقدر على الجري معهم في مضمار. ويدعو عليه أن يجعله الله فداءهم لأنهم حزبه وجنده الأطهار ـ الذين لم يعولوا في دينهم إلا على ما قاله الله ورسوله المختار ، فهم أولى وأقرب إلى الإيمان من ذلك المعطل المختار ـ والفرق هائل جدا بين من يترك النصوص الصريحة متعلقا بزبالات الأذهان والأفكار ، وبين من يتمسك بالنصوص ويعض عليها ضاربا بكل ما عداها مما يهذي به المخرفون عرض الجدار وكيف يستوي من هو بليد غافل قد بال الشيطان في أذنه فأثقل رأسه وأطال نومه حتى أصبح ، وقد استحوذ عليه يقوده من خطامه ، ويلعب به لعب الصبيان بالكرة. كيف يلحق هذا المختلف المفتون بركب الله على الطائر الميمون وهم قد حلقوا في سماء الرفعة قاصدين مطلع الإيمان من أرض طيبة ليستمتعوا برياضها الأنف وأزهارها الناضرة ، وقاصدين كذلك مهابط القرآن من أرض مكة ، فهم قوم لا هم لهم إلا أن يتلمسوا الهدى من مصادره ، فإذا أبدى لهم النص ناجذيه ، وثبتت لديهم صحته طاروا إليه زرافات ووحدانا غير متعثرين ولا متخلفين ، وإذا بدا لهم علم الهدى استبقوا نحوه كتسابق المتراهنين. وإذا سمعوا عن ضال ذي بدعة يهذي بها وينشرها في الناس صاحوا به صيحات الغضب والاستنكار ورموا من كل جانب بشهب الآيات والآثار حتى يكشفوا عن بدعته ويجللوه الخزي والعار.

ورثوا رسول الله لكن غيرهم

قد راح بالنقصان والحرمان

واذا استهان سواهم بالنص لم

يرفع به رأسا من الخسران

عضوا عليه بالنواجذ رغبة

فيه وليس لديهم بمهان

ليسوا كمن نبذ الكتاب حقيقة

وتلاوة قصدا بترك فلان

عزلوه في المعنى وولوا غيره

كأبي الربيع خليفة السلطان

٣٨١

ذكروه فوق منابر وبسكة

رقموا اسمه في ظاهر الاثمان

والأمر والنهي المطاع لغيره

ولمهتد ضربت بذا مثلان

يا للعقول أيستوي من ق

ال بالقرآن والآثار والبرهان

ومخالف هذا وفطرة ربه

الله أكبر كيف يستويان

الشرح : وهم الذين ورثوا علم النبوة وحملوا أمانته على حين باء أعداؤهم بالنقصان والحرمان لما أعرضوا عنه ورفضوه ، واذا حمل الغرور العقلي أعداءهم أن يستهينوا بالنص ، ويتكبروا عن قبوله بسبب ما هم فيه من خسار وضلال ، تراهم هم جد حريصين على التمسك به واحترامه فهم ليسوا كمن نبذ الكتاب وراء ظهره فلم يحسن تدبره ، ولم يحكم تلاوته مقلدا في ذلك من سبقه من شيوخه ، فان هؤلاء لم يؤمنوا الا بألفاظ الكتاب يرددونها بلا فهم ولا تدبر ولا يأخذون دينهم منها بل هي عندهم معزولة عن افادة العلم ، ولا يرجعون في ذلك الا الى حاكم العقل يستفتونه في كل ما يجب اثباته ونفيه ، فصار الكتاب عندهم لا حكم له الا في الاسم فقط ، وأما في الحقيقة فالحكم لغيره فهو كأبي الربيع خليفة السلطان يهتف باسمه على المنابر ، ويرقم اسمه على وجه النقود ، ومع ذلك فليس له في الامور حل ولا عقد بل الأمر والنهي في يد غيره.

فيا عجبا لعقول هؤلاء ، كيف ضلت حتى استوى عندها من دان بالكتاب والسنة وبرهان العقل والفطرة ، ومن خالف ذلك جملة ، الله أكبر كيف استوى عندهم الأعمى والبصير ، أم كيف استوت الظلمات والنور؟ ان هذا لهو الضلال الكبير.

* * *

بل فطرة الله التي فطروا على

مضمونها والعقل مقبولان

والوحى جاء مصدقا لهما فلا

تلق العداوة ما هما حربان

سلمان عند موفق ومصدق

والله يشهد أن هما سلمان

فاذا تعارض نص لفظ وارد

والعقل حتى ليس يلتقيان

٣٨٢

فالعقل اما فاسد ويظنه الرائي

صحيحا وهو ذي بطلان

أو ان ذاك النص ليس بثابت

ما قاله المعصوم بالبرهان

ونصوصه ليست تعارض بعضها

بعضا فسل عنها عليم زمان

واذا ظننت تعارضا فيها فذا

من آفة الأفهام والأذهان

او أن يكون البعض ليس بثابت

ما قاله المبعوث بالقرآن

الشرح : يرى أهل السنة قبول كل من حكم الفطرة وحكم العقل ، فان الله لا يمكن أن يفطر عباده على خلاف الحق ، كما لا يمكن اذا استقام تفكير العقل ، ولم يشبه شيء من الهوى والتقليد أن يزيغ عن الهدى أو يحيد. ويرى أهل السنة كذلك أن الوحى لا يمكن أن يجيء بما يناقض الفطرة أو يخالف العقل ، بل لا بد أن يكون مصدقا لهما ، فان رب الفطرة والعقل هو منزل الشرع فهو مصدر ذلك كله ، فلا يعقل أن يناقض نفسه ، فمن الخطأ توهم عداوة بين هذين الأصلين ووجود حرب بينهما بل هما سلمان عند من يحسن التوفيق بينهما ويرزق التصديق والقبول للنصوص والآثار والله يشهد كذلك أنهما سلمان لا يعاند أحدهما الآخر ، فاذا بدا تعارض بين النص والعقل فلا بد أن يكون سببه أحد أمرين : اما فساد في العقل بسبب ما خالطه من هوى أو وهم فيظنه الناظر فيه صحيحا وهو في حقيقته باطل واما كذب في النقل ، فيكون غير ثابت الورود عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكذلك اذا نسبت النصوص بعضها الى بعض فلا يمكن ان يقع بينها تعارض فسل عنها عليما بتأويلها وأوجه التوفيق بينها ليزيل ما يتوهم بينها من تعارض. واذا ظننت بينها تعارضا فلا سبب لذلك الا واحد من أمرين : أما قصور في الفهم وحصول آفة له تمنعه من الجمع بينهما ، واما أن يكون أحدهما ليس بثابت النقل عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

* * *

لكن قول محمد والجهم في

قلب الموحد ليس يجتمعان

٣٨٣

الا ويطرد كل قول ضده

فاذا هما اجتمعا فمقتتلان

والناس بعد على ثلاث : حزبه

أو حربه أو فارغ متوان

فاختر لنفسك أين تجعلها فلا

والله لست برابع الأعيان

من قال بالتعطيل فهو مكذب

بجميع رسل الله والفرقان

ان المعطل لا إله له سوى الم

نحوت بالأفكار في الأذهان

وكذا إله المشركين نحيته الأ

يدي هما في نحتهم سيان

لكن إله المرسلين هو الذي

فوق السماء مكون الأكوان

تالله قد نسب المعطل كل من

بالبينات أتى الى الكتمان

والله ما في المرسلين معطل

نافي صفات الواحد الرحمن

كلا ولا في المرسلين مشبه

حاشاهم من افك ذي بهتان

فخذ الهدى من عبده وكتابه

فهما الى سبل الهدى سببان

الشرح : واذا ثبت أن هذه الثلاثة من الفطرة والعقل ونصوص الشرع متساندة متعاضدة يؤيد بعضها بعضا ، وهي متضافرة على اثبات الصفات ، فان العداوة والمنافاة قائمة على أشدها بين قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قول الجهم امام التعطيل ، فليس يجتمعان في قلب موحد ، حتى يجتمع فيه الماء والنار ، فهما ضدان متعاندان لا يمكن أن يجتمعا في محل واحد ، فاذا هما اجتمعا فلا بد من وقوع حرب بينهما. والناس حينئذ على أقسام ثلاثة ، فمنهم من هو من حزب الحق وجنده ، فهو يقاتل تحت رايته ويذب عنه أعداؤه ، ومنهم من هو حرب عليه يقاتل في صفوف خصومه ، ومنهم من هو فارغ اللب من هذه الحرب لا يكترث لها ولا ينتصر لأي الفريقين المتحاربين لتوانيه عن تحصيل ما ينجيه ، فيجب على العاقل أن يختار لنفسه بين هذه الفرق الثلاث ، فان قال بقول الجهم في التعطيل فقد كذب بما جاءت به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فان أقوالهم كلها متفقة على الاثبات ، وقد رضي لنفسه ان يعبد صنما قد نحته بفكره وذهنه ، ونسجه بخياله ، كما يعبد المشركون أصناما نحتوها بأيديهم من الحجارة.

وأما إله الرسل الذين جاءوا للتبليغ عنه والدعوة الى توحيده ، فهو الذي فوق

٣٨٤

السماء مستو على عرشه ، وهو الموجد لجميع الكائنات.

تالله لقد نسب المعطل كل الرسل عليهم الصلاة والسلام الى جحود الحق وكتمانه ، اذا كان الحق هو ما ذهب إليه من التعطيل ، فان كلامهم كله صريح في الاثبات ، وليس فيهم أبدا من هو معطل جاحد لصفات الواحد الرحمن ، كما أنه ليس فيهم مشبه يمثل الله بخلقه ، فحاشاهم من كل ما يفتريه عليهم أهل الافك والبهتان. فعلى طالب الهدى أن لا يأخذه الا من مصدريه الحقيقين ، وهما عبد الله ورسوله ، وما أنزل من كتابه ، فهما وحدهما السبيل إليه ، فمن تركهما ضل وجانبه الصواب.

* * *

فصل

في بطلان قول الملحدين ان الاستدلال بكلام الله ورسوله

لا يفيد العلم واليقين

واحذر مقالات الذين تفرقوا

شيعا وكانوا شيعة الشيطان

واسأل خبيرا عنهم ينبيك عن

أسرارهم بنصيحة وبيان

قالوا الهدى لا يستفاد بسنة

كلا ولا أثر ولا قرآن

اذ كل ذاك أدلة لفظية

لم تبد عن علم ولا إيقان

فيها اشتراك ثم اجمال يرى

وتجوز بالتزييد والنقصان

وكذلك الاضمار والتحقيق والح

ذف الذي لم يبد عن تبيان

والنقل آحاد فموقوف على

صدق الرواة وليس ذا برهان

اذ بعضهم في البعض يقدح دائما

والقدح فيهم فهو ذو إمكان

وتواتر وهو القليل ونادر

جدا فأين القطع بالبرهان

هذا ويحتاج السلامة بعد من

ذاك المعارض صاحب السلطان

وهو الذي بالعقل يفرض صدقه

والنفي مظنون لدى الانسان

٣٨٥

فلأجل هذا قد عزلناها

وولينا العقول ومنطق اليونان

الشرح : من الضلالات الشنيعة التي وقع فيها أرباب الكلام المذموم ، وكانت محل اتفاق بينهم رغم ما هم عليه من عداوة وخلاف ، زعمهم أن الأدلة اللفظية وحدها لا تفيد العلم واليقين ، ولكن تفيد الظن الذي لا قطع معه بأحد المعنيين ، وعللوا هذا بأن الألفاظ يعرض لها مثل الاشتراك الذي هو وضع اللفظ لمعنيين أو لعدة معان على السواء ، فاذا أطلق لا يدري أيها هو المقصود منه ، كلفظ العين مثلا ، فانه موضوع للباصرة والجارية والشمس الخ.

ويعرض لها كذلك الاجمال الذي يحتاج الى بيان وتفصيل كما في قوله تعالى مثلا : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] فهذا مجمل يحتاج الى بيان الأشياء التي يتناولها اسم الميتة وهل يدخل فيها ميتة البحر والجنين الذي خرج من بطن أمه المذكاة ميتا أو لا يدخل ... الخ ، ويعرض لها أيضا المجاز بالزيادة والنقصان ، والاضمار الذي لا يعرف معه مرجع الضمير ، والحذف الذي لا يدري معه تقدير الحذوف الى غير ذلك من العوارض التي قد تعرض للألفاظ فلا يمكن معها الجزم بمعنى اللفظ. وهذا عارض من جهة من اللفظ. وأما من جهة السند فالنقل اما أخبار آحاد فتتوقف على صدق رواتها ، وهو أمر غير مقطوع به ما دام بعضهم يقدح في بعض ويتهمه بالكذب والوضع ، أو بسوء الحفظ وعدم الضبط ، وأما متواتر وهو نادر وقليل جدا ، وهو مع ندرته وقلته يحتاج الى السلامة من المعارض العقلي. هذه هي الشبه التي أدت بهم الى تلك الفرية الكبرى ، وهي عزل جميع الألفاظ عن أن تكون نصا في معانيها تفيد القطع بها والحكم عليها جميعا بالاحتمال وافادة الظن ، ولزمهم بذلك عزل القرآن والسنن والآثار السلفية عن إفادة العلم ، ولكن ذلك انما يستفاد عندهم بالدلائل العقلية التي تركب على قواعد المنطق اليوناني. ولهذه الشناعة التي ارتكبوها ، وهي سد باب الهدى والبيان من جهة النصوص الشرعية ، حذرنا المؤلف من مقالاتهم ، ووصفهم بأنهم شيعة الشيطان أي حلفاؤه في الاضلال والاغواء ، وقال سل بهم خبيرا ، يعني نفسه ، فانه درس هذه المذاهب كلها دراسة تعمق واستيعاب ،

٣٨٦

وكان من علماء المذهب الأشعري قبل أن يتصل بشيخه شيخ الاسلام ابن تيمية رحمهما‌الله تعالى ، وجزاهما عن دينه خير ما يجزي به الناصحين الأمناء.

* * *

فانظر الى الاسلام كيف بقاؤه

من بعد هذا القول ذي البطلان

وانظر الى القرآن معزولا ل

ديهم عن نفوذ ولاية الايقان

وانظر الى قول الرسول كذاك مع

زولا لديهم ليس ذا سلطان

والله ما عزلوه تعظيما له

أيظن ذلك قط ذو عرفان

يا ليتهم اذ يحكمون بعزله

لم يرفعوا رايات جنكسخان

يا ويلهم ولوا نتائج فكرهم

وقضوا بها قطعا على القرآن

ورذالهم ولوا اشارات ابن س

ينا حين ولوا منطق اليونان

وانظر الى نص الكتاب مجندلا

وسط العرين ممزق اللحمان

بالطعن بالاجمال والاضمار

والتخصيص والتأويل بالبهتان

والاشتراك وبالمجاز وحذف ما

شاءوا بدعواهم بلا برهان

وانظر إليه ليس ينفذ حكمه

بين الخصوم وما له من شان

وانظر إليه ليس يقبل قوله

في العلم بالاوصاف للرحمن

لكنما المقبول حكم العقل لا

أحكامه لا يستوى الحكمان

يبكى عليه أهله وجنوده

بدمائهم ومدامع الاجفان

الشرح : فانظر يا أخا الاسلام كيف هدم هؤلاء بمقالتهم الجائرة بناء الاسلام وانظر كيف عزلوا القرآن الذي أخبر الله عنه أنه أنزله بيانا للناس وبلاغا لهم ، وسماه هدى ورحمة وموعظة وشفاء وروحا ونورا ، وسماه بينة وبرهانا وبصائر الى غير ذلك من الأسماء الواردة في القرآن ، كيف عزلوه عن سلطته في افادة العلم والايقان ، وكيف عزلوا الأحاديث الصحيحة كذلك عن افادة البرهان ، فأي هوان لهما وراء هذا الهوان؟ ومهما تصنع هؤلاء التوقير للكتاب والسنة بصيانتهما عن متناول العقول والأفهام ، فلن يجوز ذلك على أحد من أهل

٣٨٧

المعرفة فانهم في الوقت الذي يعزلون فيه النصوص الشرعية يقيمون شرائع المغول والتتار فويل لهم حيث حكموا نتائج عقولهم وقدموا حكمها على القرآن ، وجعلوها قاضية عليه ، ورذالهم أي أخساؤهم يولون اشارات ابن سينا ويتخذونها آيات مقدسة ، حين قدموا منطق اليونان وجعلوا له الولاية والسلطان ، في الوقت الذي جعلوا فيه نصوص الكتاب مزقا وطعنوا فيها باحتمال الاجمال والاضمار ، والتخصيص والتأويل ، والاشتراك والمجاز والحذف ، الى غير ذلك مما زعموه بلا بينة ولا برهان ، ثم عزلوها عن الحكم فيما شجر من خلاف بين أرباب المذاهب ولم يردوا إليها ما تنازعوا فيه ، اعتقادا منهم أنها لا تصلح لأن تكون حكما في موارد الخلاف. ولم يقبلوا كذلك قولها في صفات الرحمن جل شأنه. لأنها تثبت له من الصفات ما تقتضي عقولهم نفيه ، فهم يرجعون في ذلك الى حكم العقل وحده اثباتا ونفيا ويرفضون أحكام القرآن حتى تركوه وسط المعركة صريعا ممزق اللحمان يبكى عليه أهله وجنوده بدمائهم ومدمع الاجفان.

* * *

عهدوه قدما ليس يحكم غيره

وسواه معزول عن السلطان

ان غاب نابت عنه أقوال الرسو

ل هما لهم دون الورى حكمان

فأتاهم ما لم يكن في ظنهم

في حكم جنكسخان ذي الطغيان

بجنود تعطيل وكفران من المفع

ول ثم اللاص والعلان

فعلوا بملته وسنته كما

فعلوا بأمته من العدوان

والله ما انقادوا لجنكسخان حتى أع

رضوا عن محكم القرآن

والله ما ولوه الا بعد عز

ل الوحي عن علم وعن ايقان

عزلوه عن سلطانه وهو اليق

ين المستفاد لنا من السلطان

هذا ولم يكف الذي فعلوه حتى

تمموا الكفران بالبهتان

جعلوا القرآن عضين اذ عض

هوه أنواعا معددة من النقصان

الشرح : يعني أن أهل القرآن وجنوده كان عهدهم به في الزمان الأول أنه

٣٨٨

هو وحده الحكم والفيصل في قضايا الدين كلها أصليها وفرعيها وسواه من مصادر العلم والمعرفة لا سلطان لها بجانبه ، بل كلها خاضعة لحكمه ، فان غاب ولم يوجد فيه الحكم المطلوب نابت عنه أقوال الرسول وسنته ، فالكتاب والسنة هما وحدهما والحكمان عند أهل الايمان لا يقدمون على حكمهما قول فلان ولا رأي علان. ولكن الآية انعكست ووقع ما لم يكن في حسبان أحد حين وقعت البلاد الاسلامية تحت حكم جنكيز خان ملك التتار الطاغية حيث أتى مع جيشه المحارب بالسيف والسنان بجنود تعطيل وكفران ليفعلوا بالملة الاسلامية ، والطريقة المحمدية مثل ما فعلت جيوشهم بأمة الاسلام من التنكيل والعدوان. فهم وان تظاهروا بالدخول في الاسلام ، لكنهم لم ينقادوا لحكم الكتاب والسنة. بل بقوا على شريعة الغاب التي قدموا بها من بلادهم. فمن انقاد لهم ودخل في طاعتهم على ما هم فيه فقد أعرض عن محكم القرآن. وعزله عما هو مختص به ونازل لأجله من افادة العلم والايقان. فان ذلك هو سلطانه ومناط ولايته أن يفيد اليقين بما فيه من حجة وبرهان وبما اشتمل عليه من تفصيل وبيان.

وليتهم اكتفوا بهذا الذي فعلوه بعزله عن ولايته في افادة اليقين بل تمموا هذا الكفر المبين ببهتان عظيم ، وهو جعلهم القرآن مزقا وعضين فرموه بأنواع من النقص فعل الجاهلية المارقين يضاهئون به قول من تقدمهم من المشركين كما حكاه الله عنهم في كتابه المبين.

* * *

منها انتفاء خروجه من ربنا

لم يبد من رب ولا رحمن

لكنه خلق من اللوح ابتدا

أو جبرئيل أو الرسول الثاني

ما قاله رب السموات العلى

ليس الكلام بوصف ذي الغفران

تبا لهم سلبوه أكمل وصفه

عضهوه عضه الريب والكفران

هل يستوى بالله نسبته الى

بشر ونسبته الى الرحمن

من أين للمخلوق عين صفاته

الله أكبر ليس يستويان

٣٨٩

بين الصفات وبين مخلوق كما

بين الاله وهذه الأكوان

هذا وقد عضوه أن نصوصه

معزولة عن إمرة الايقان

لكن غايتها الظنون وليته

ظنا يكون مطابقا ببيان

لكن ظواهر ما يطابق ظنها

ما في الحقيقة عندنا بوازن

الا اذا ما أولت فمجازها

بزيادة فيها أو النقصان

أو بالكناية واستعارات وتش

بيه وأنواع المجاز الثاني

فالقطع ليس يفيده والظن

منفى كذلك فانتفى الأمران

فلم الملامة اذ عزلناها

وولينا العقول وفكرة الأذهان

الشرح : فمما عضهوا به القرآن العظيم انهم نفوا خروجه من الرب الكريم ولم يقولوا بما قال السلف انه كلام الله منزل غير مخلوق منه بدا وإليه يعود ، بل قالوا أنه مخلوق كسائر الأشياء المخلوقة في الوجود ، وأنه لم يبتدئ نزوله من عند الله ، بل من اللوح المحفوظ الذي هو مكتوب فيه ، ومنهم من يقول أن جبريل هو الذي أنشأ ألفاظه وتكلم بها ، ومنهم من يقول : بل الرسول الثاني وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فان القرآن أوحى إليه معاني فقط وهو الذي عبر عنها بألفاظ من عنده ، بل معنى كونه متكلما عندهم أنه خالق للكلام ، وإضافة القرآن إليه انما هي اضافة تشريف لمزيد اختصاص به كاضافة البيت والناقة ، وليست اضافة لموصوف ، فهلاكا لهؤلاء الملحدين الذين ألحدوا في آيات الله ونفوا تكلمه بها فسلبوا ربهم أكمل صفاته وهي الكلام والبيان والافهام ، فان من لا يقدر على الكلام لا يصلح أن يكون إلها معبودا للأنام ، ولهذا أنكر الله على بني اسرائيل عبادتهم للعجل الذي صاغه لهم السامري بأنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا.

وعجبا لهؤلاء كيف تستوي في عقولهم النسبتان. نسبته الى البشر ، ونسبته الى الرحمن ، مع أن الله توعد رأسا من رءوس الكفر وهو الوليد بن المغيرة بأنه سيصليه سقر لقوله في القرآن : (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) [المدثر : ٢٥] وكيف يضاف كلامه الذي هو صفته الى مخلوق فيكون صفة لذلك المخلوق

٣٩٠

وأنى للمخلوق بمثل صفاته؟ وكيف تستوي صفة الخالق وصفة المخلوق مع أن بينهما من البعد كما بين الخالق والمخلوق سبحانك هذا بهتان عظيم.

ومما عضدوه به أيضا أنهم عزلوا نصوصه عن امرتها في افادة العلم واليقين ، وقالوا أنها دلائل لفظية قصاراها أن تفيد الظن والتخمين وليتها حين تفيد الظن يكون ظنها مطابقا لما في الواقع ونفس الأمر ببيان واضح. بل هي ظواهر لفظية لا تطابق معانيها الحقائق الخارجية فلا بد من تأويلها بما يصرفها عن تلك المعاني الظاهرة منها الى معان أخر فتحمل على أنها مجاز بالزيادة أو النقصان أو على أنها كنايات يراد منها لوازم معناها دون المعنى الأصلي أو على أنها استعارات استعملت في غير ما وضعت له لعلاقة مع امتناع إرادة معانيها الحقيقية أو على أنها تشبيهات أو مجاز ثان وهو المجاز المرسل الخ. وعلى الجملة فهي لا تفيد الا الظن والظن المستفاد منها ليس هو المقصود ، وبذلك انتفت عندهم افادتها للقطع وللظن معا ، فهي لا تفيد شيئا ، وبذلك يقولون لا لوم علينا اذا عزلناها عن ولايتها ولم نحتكم في باب العقائد إليها. وولينا بدلا منها العقول والأذهان لأنها هي التي تعطينا البرهان المفيد للعلم والايقان. هكذا يقول هؤلاء الثيران فما أعظمه من افك ، وما أقبحه من بهتان.

* * *

فالله يعظم في النصوص أجوركم

يا أمة الآثار والقرآن

ماتت لدى الأقوام لا يحيونها

أبدا ولا تحييهم لهوان

هذا وقولهم خلاف الحس

والمعقول ولمنقول والبرهان

مع كونه أيضا خلاف الفطرة الأو

لى وسنة ربنا الرحمن

فالله قد فطر العباد على التفا

هم بالخطاب لمقصد التبيان

كل يدل على الذي في نفسه

بكلامه من أهل كل لسان

فترى المخاطب قاطع بمراده

هذا مع التقصير في الانسان

اذ كل لفظ غير لفظ نبينا

هو دونه في ذا بلا نكران

٣٩١

حاشا كلام الله فهو الغاية القص

وى له أعلى ذرى التبيان

الشرح : المقصود من الالفاظ هو الدلالة على المعانى ، واللفظ بلا معنى كالجسد بلا روح ، فاذا كان هؤلاء قد سلبوا النصوص دلالتها على معانيها ، وأوجبوا صرفها عنها الى معان أخر بالتأويل. فقد حكموا بموتها ، وجردوها من الروح التي به حياتها ، وتلك مصيبة من أعظم المصائب ، دونها فقد كل عزيز وصاحب ، فالله يعظم أجور أهل الايمان في مصيبتهم في النصوص التي لا خلف منها ولا عوض ، فقد أماتها القوم موتا لا قيامة بعده ، ولم يريدوا أن يحيوا بها لهوانها عليهم ، على أنهم فيما ذهبوا إليه من سلب النصوص خاصية الدلالة والافهام مكابرون للحس والعيان ، ومخالفون للعقل والنقل وفطرة الانسان التي هي سنة ربنا الرحمن ، فان الله قد فطر العباد على التفاهم بالخطاب لقصد الايضاح والبيان لما يضمره الجنان. فكل متكلم بكلام من أهل كل لغة ولسان انما يريد بكلامه التعبير عما في نفسه حتى يفهمه المخاطب فاذا سمع الكلام وكان عارفا بوضع الألفاظ قطع بمراد المتكلم منها مع قصوره في البيان ، فانه مهما كانت درجته في الفصاحة والبلاغة فلا بد أن يكون في بيانه قصور ، وانما تمام البيان له وحده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكل كلام هو دون كلامه في ذلك الا كلام ربنا جل وعلا فهو الغاية القصوى التي لا تنال وهو الذي يتطامن عنده كل مقال.

لم يفهم الثقلان من لفظ كما

فهموا من الأخبار والقرآن

فهو الذي استولى على التبيان

كاستيلائه حقا على الاحسان

ما بعد تبيان الرسول لناظر

إلا العمى والعيب في العميان

فانظر إلى قول الرسول لسائل

من صحبه عن رؤية الرحمن

كالبدر ليل تمامه والشمس في

نحر الظهيرة ما هما مثلان

بل قصده تحقيق رؤيتنا له

فأتى بأظهر ما يرى بعيان

ونفى السحاب وذاك أمر مانع

من رؤية القمرين في ذا الآن

فأتى بالمقتضى ونفى الموا

نع خشية التقصير في التبيان

٣٩٢

صلى عليه الله ما هذا الذي

يأتي به من بعد ذا ببيان

ما ذا يقول القاصد التبيان يا

أهل العمى من بعد ذا التبيان

الشرح : فنصوص الكتاب والسنة هي الغاية في البيان والدلالة على المعنى المقصود ، بحيث لا يمكن ان يتسامى إلى رتبتها في ذلك كلام أحد من الناس ، فاختصاصهما بالإيضاح والبيان كاختصاصهما بالجودة والإتقان ، فليس بعد بيان الرسول مطمح لناظر ولا غاية لمستدل ، فمن لم يهتد به ولم يدرك المراد منه فليتهم نفسه ، فإنه إنما أتى من جهة عماه وفساد نظره ، وإن شئت دليلا على ذلك فانظر إلى ما أجاب به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سأله من أصحابه عن رؤية المؤمنين لله عزوجل في الجنة حيث قال «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب وكما ترون الشمس صحوا ليس دونها سحاب» ولم يرد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك تشبيه المرئي بالمرئي ، فإن الله عزوجل لا يشبهه شيء من خلقه ، وإنما قصد إلى تحقيق الرؤية وتأكيدها ، فشبه رؤيتنا له برؤية الشمس والقمر وهما في أتم أحوالهما من حيث الجلاء والظهور ، وهو أن يكون القمر بدرا ، وأن تكون الشمس في نحر الظهيرة ، وقد انتفى عنهما كل ما يحول دون رؤيتهما من سحاب وقتر ، فجمع صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كلامه بين وجود المقتضى للرؤية وانتفاء المانع منها خشية ان يقع في كلامه نقص أو قصور ، فما ذا كان يمكن ان يأتي به صلى‌الله‌عليه‌وسلم من زيادة على هذا البيان ، وما ذا عسى ان يقوله القاصد للبيان من بعد هذا التبيان؟ اللهم إنه العمى والخذلان وغرور الإنسان ، يحول بينه وبين رؤية الحق الظاهر للعيان.

* * *

فبأي لفظ جاءكم قلتم له

ذا اللفظ معزول عن الإيقان

وضربتم في وجهه بعس

اكر التأويل دفعا منكم بليان

لو أنكم والله عاملتم بذا

أهل العلوم وكتبهم بوزان

فسدت تصانيف الوجود بأسرها

وغدت علوم الناس ذات هوان

٣٩٣

هذا وليسوا في بيان علومهم

مثل الرسول ومنزل القرآن

والله لو صح الذي قد قلتم

قطعت سبيل العلم والإيمان

فالعقل لا يهدي إلى تفصيلها

لكن ما جاءت به الوحيان

فإذا غدا التفصيل لفظيا ومع

زولا عن الإيقان والرجحان

فهناك لا علم أفادت لا ولا

ظنا وهذا غاية الحرمان

الشرح : ولكنكم مع بلوغ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذروة البيان ووضوح مراده من كلامه كأنه مرئي للعيان ، كلما جاءكم بلفظ مهما كان صريحا في معناه قلتم أنه لا يفيد اليقين ، لأن دلالة أي لفظ على معناه عندكم دلالة ظنية ، فتضربون في وجهه بعساكر التأويل دفعا له عن معناه الحق بليان ، أي بملاينة ولطف. وصرفا له إلى ما تريدون من معان باطلة تزعمونها عقلية. وهذا الحكم منكم بقصور الألفاظ عن الدلالة على معانيها يترتب عليه من الفساد ما لا يحصيه إلا الله ، فلو أنكم أجريتم قاعدتكم هذه على أهل العلوم وكتبهم لما أمكن فهم مسألة واحدة من مسائل العلوم ، ولفسدت تصانيف الوجود كلها ، ولأصبحت العلوم شيئا تافها لا يؤبه له ، مع أن علوم هؤلاء العلماء لا يمكن ان تساوي في البيان ما جاء عن الرسول من سنة وقرآن ، ولو صح أيضا ما قلتم لانسد باب العلم والإيمان ، فإن العقول لا تهدي إلى تفاصيلها ، بل إنما يعرف ذلك مما جاء به الوحيان من سنة ومن قرآن ، فإذا كان ذلك التفصيل لفظيا ومعزولا عندكم عن إفادة الإيقان ، بل عن إفادة الظن والرجحان كانت النتيجة أن هذه النصوص التي لا بد منها لمعرفة تفاصيل العقائد لا تفيد علما ولا ظنا ، وهذا غاية الحرمان ، بل غاية الجهل والخذلان.

* * *

لو صح ذاك القول لم يحصل لنا

قطع بقول قط من إنسان

وغدا التخاطب فاسدا وفساده

أصل الفساد لنوع ذا الانسان

ما كان يحصل علمنا بشهادة

ووصية كلا ولا إيمان

٣٩٤

وكذلك الإقرار يصبح فاسدا

إذ كان محتملا لسبع معان

وكذا عقود العالمين بأسرها

باللفظ إذ يتخاطب الرجلان

أيسوغ للشهداء شهادتهم بها

من غير علم منهم ببيان

إذ تلكم الألفاظ غير مفيدة

للعلم بل للظن ذي الرجحان

بل لا يسوغ لشاهد أبدا شها

دته على مدلول نطق لسان

بل لا يراق دم بلفظ الكفر من

متكلم بالظن والحسبان

بل لا يباح الفرج بالاذن الذي

هو شرط صحته من النسوان

يسوغ للشهداء جزمهم بأن

رضيت بلفظ قابل لمعان

هذا وجملة ما يقال بأنه

في ذا فساد العقل والأديان

الشرح : ولو صح قولكم أيضا لما أمكن القطع بمراد أي متكلم بكلامه لاحتماله لهذا المعنى ولغيره ، وحينئذ يفسد التخاطب بين الناس ولا يمكن لأحد أن يفهم مراد الآخر من كلامه وفساد التخاطب الذي هو ميزة الإنسان وخاصيته التي اختصه الله بها من بين سائر الحيوان يقتضي فساد أحوال ذلك النوع كلها واضطراب أموره ، فإذا شهد شاهد مثلا على أمر ما لم تكن شهادته موجبة لإثبات ذلك الأمر إذ لم يحصل لنا علم بمضمون تلك الشهادة ، وحينئذ لا يمكن إثبات حق ما عن طريق الشهادة.

وكذلك إذا أوصى إنسان بوصية لا يمكن فهم ما أوصى به على وجهه ، وبذلك لا يمكن إنفاذ وصيته ، ولو حلف على يمين لا ينعقد يمينه لعدم العلم بالمحلوف عليه ولو أقر بشيء لا يؤخذ بإقراره كذلك لاحتماله لعدة معان ، وكل عقد حصل بين اثنين عن طريق التخاطب والمشافهة هو أيضا فاسد على رأيكم لعدم علم كل منهما بما يريده الآخر بكلامه ، ولا يسوغ لشاهد سمع ذلك منهما الشهادة عليه لعدم علمه بمدلولات تلك الألفاظ ، فإنها عندكم غير مفيدة لا لعلم ولا لظن ، بل يسوغ لشاهد شهادته على مدلول أي كلام ، بل لو تلفظ أحد بما هو صريح في الكفر لا يحكم بردته ولا يجب قتله ، بل لو تزوج إنسان من امرأة وتلفظت بما يدل على أذنها وقبولها للنكاح منه لا يكون ذلك مبيحا للوطء

٣٩٥

لعدم إفادة ذلك اللفظ للعلم برضاها ، ولو استشهد على ذلك شهود لم يمكنهم الجزم بأنها رضيت ما دام اللفظ محتملا لمعان كثيرة. وبالجملة فإن هذه القاعدة التي سيبوء بإثمها من قعدها وقصد من ورائها صرف الناس عن أخذ دينهم من الكتاب والسنة بحجة أن دلالتهما لفظية يترتب عليها من فساد العقول والأديان ما لا يدخل تحت عد ولا حسبان ، بل هي هذيان لا يليق بكرامة الإنسان.

* * *

هذا ومن بهتانهم أن اللغا

ت أتت بنقل الفرد والوحدان

فانظر إلى الألفاظ في جريانها

في هذه الأخبار والقرآن

أتظنها تحتاج نقلا مسندا

متواترا أو نقل ذي وحدان

أم قد جرت مجرى الضروريات لا

تحتاج نقلا وهي ذات بيان

إلا الأقل فإنه يحتاج

للنقل الصحيح وذاك ذو تبيان

ومن المصائب قول قائلهم ب

أن الله أظهر لفظة بلسان

وخلافهم فيه كثير ظاهر

عربي وضع ذاك أم سرياني

وكذا اختلافهم أمشتقا يرى

أم جامدا قولان مشهوران

والأصل ما ذا فيه خلف ثابت

عند النحاة وذاك ذو ألوان

هذا ولفظ الله أظهر لفظة

نطق اللسان بها مدى الأزمان

فانظر بحق الله ما ذا في الذي

قالوه من لبس ومن بهتان

هل خالف العقلاء أن الله

رب العالمين مدبر الأكوان

ما فيه إجمال ولا هو موهم

نقل المجاز ولا له وضعان

الشرح : ومن جملة افتراء هؤلاء ادعاؤهم أن اللغات في دلالتها على معانيها إنما نقلت بأخبار آحاد ، وخبر الواحد إنما يفيد الظن. وهذا كذب فإننا نجد الألفاظ المتداولة في الكتاب والسنة لا تحتاج في العلم بوضعها لمعانيها إلى رواية أحد من الناس لا تواترا ولا آحادا ، بل إن ذلك يجري مجرى الضروريات التي لا تحتاج إلى نقل ، اللهم إلا قليلا من الألفاظ الشاذة الغريبة ، فقد يحتاج في العلم

٣٩٦

بوضعها الى نقل صحيح ، وهذه قد بينها علماء اللغة ونقلوا الشواهد الدالة على معانيها.

وأدهى من ذلك وأمر قول بعضهم مستشهدا على قصور اللغات وعدم إفادتها العلم بالمعاني أن الاسم الكريم (الله) مع كونه أظهر لفظة نطق بها لسان قد اختلفوا فيه اختلافا كثيرا ، فاختلفوا أولا هل هو عربي أم سرياني ، ثم اختلفوا ثانيا هل هو مشتق أم جامد؟ والذين قالوا بأنه مشتق اختلفوا في أصل اشتقاقه ، هل هو من إله يأله آلهة ، بمعنى عبد ، أو من إله يأله إلها إذا تحير ، أو من وله يوله إذا أصابه الوله ، وهو شدة الحب الخ.

قالوا فإذا كانت أظهر لفظة نطق بها لسان ، هذا حظها من الخلاف والشقاق فكيف يمكن الثقة بمعنى أي لفظ مما هو دونها في الظهور والبيان. وهذا منهم تلبيس مكشوف وبهتان مفضوح فإن أحدا من العقلاء لم يختلف في مدلول هذه اللفظة ، وأنها علم على رب العالمين مدبر الخلائق أجمعين ليس فيها إجمال يحتاج إلى تفصيل ولا هي موهمة معنى آخر بطريق النقل المجازي ولا لها وضعان ، بل لم توضع إلا لهذا المعنى وحده ، يعرف ذلك كله من له علم بالوضع اللغوي لها ، فأين إذا ما ادعوه من خلاف على معناه؟ اللهم أن القوم في ضلال مبين.

* * *

والخلف في أحوال ذاك اللفظ لا

في وضعه لم يختلف رجلان

وإذا هم اختلفوا بلفظة مكة

فيه لهم قولان معروفان

أفبينهم خلف بأن مرادهم

حرم الإله وقبلة البلدان

وإذا هم اختلفوا بلفظة أحمد

فيه لهم قولان مذكوران

أفبينهم خلف بأن مرادهم

منه رسول الله ذو البرهان

ونظير هذا ليس يحصر كثرة

يا قوم فاستحيوا من الرحمن

أبمثل ذا الهذيان قد عزلت نصو

ص الوحي عن علم وعن إيقان

فالحمد لله المعافي عبده

مما بلاكم يا ذوي العرفان

٣٩٧

فلأجل ذا نبذوا الكتاب وراءهم

ومضوا على آثار كل مهان

ولأجل ذاك غدوا على السنن التي

جاءت وأهليها ذوي أضغان

يرمونهم كذبا بكل عظيمة

حاشاهم من أفك ذي بهتان

الشرح : فالخلاف الواقع في ذلك اللفظ ليس في المعنى الموضوع له ، فإن ذلك لم يختلف فيه اثنان ، وإنما الخلاف فيما يعتريه من أحوال من حيث الجمود والاشتقاق والأصل الذي يرجع إليه الاشتقاق ونحو ذلك ، كما اختلفوا في لفظة مكة على قولين من حيث الأصل الذي اشتقت منه ، فمنهم من قال أنها من مكئه بمعنى أهلكه لأنها تهلك كل من قصدها بسوء ، وقيل من أمتك الفضيل الضرع إذا امتص كل ما فيه لذهابها بالفضل على سائر القرى.

ولكن أحدا لم ينازع في أن هذه اللفظة علم على حرم الله الآمن وقبلته التي ارتضاها لعباده ، وكذلك اختلفوا في اشتقاق لفظة أحمد ، وهل هي بمعنى اسم الفاعل أو المفعول ، ولكنهم متفقون على أن المراد بها هو رسول الله المبعوث بالبراهين والبينات. ومثل هذا كثير لا يمكن حصره ، ولكن القوم قل منهم الحياء من الله جل وعلا. فقالوا على كتابه وسنة رسوله بهتانا عظيما. وقضوا عليها بمثل هذه الهذيانات فعزلوا نصوصهما عن إفادة العلم واليقين ، فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به هؤلاء الأدعياء للمعرفة وهم في الغاية القصوى من الجهل والغباء الذين نبذوا كتاب ربهم وراء الظهور وصاروا أعداء للسنة وأهلها يرمونهم بكل قبيح من الألقاب ، وبكل فاحش من السباب من أجل قاعدة موهومة يحسبونها شيئا وهي سراب ، ولكن هؤلاء مبرءون مما يبهته به هؤلاء الأفاكون ، وهم عند الله أولو الألباب.

* * *

٣٩٨

فصل في تنزيه أهل الحديث والشريعة

عن الألقاب القبيحة الشنيعة

فرموهم بغيا بما الرامي به

أولى ليدفع عنه فعل الجاني

يرمي البريء بما جناه مباهتا

ولذاك عند الغر يشتبهان

سموهم حشوية ونوابتا

ومجسمين وعابدي أوثان

وكذاك أعداء الرسول وصحبه

وهم الروافض أخبث الحيوان

نصبوا العداوة للصحابة ثم سم

وا بالنواصب شيعة الرحمن

وكذا المعطل شبه الرحمن بالم

عدوم فاجتمعت له الوصفان

وكذاك شبه قوله بكلامنا

حتى نفاه وذان تشبيهان

وكذاك شبه وصفه بصفاتنا

حتى نفاه عنه بالبهتان

وأتى إلى وصف الرسول لربه

سمّاه تشبيها فيا إخواني

بالله من أولى بهذا الاسم من

هذا الخبيث المخبث الشيطاني

إن كان تشبيها ثبوت صفاته

سبحانه فبأكمل ذي شأن

لكن نفي صفاته تشبيهه

بالجامدات وكل ذي نقصان

بل بالذي هو غير شيء وه

ومعدوم وان يفرض ففي الأذهان

فمن المشبه بالحقيقة أنتم

أم مثبت الأوصاف للرحمن

الشرح : ثم إن هؤلاء المعطلة الجاحدين لصفات رب العالمين يرمون أهل الإثبات من المحدثين بغيا بما هم أحق به وأجدر من ألقاب السوء ليدفعوا الذم عن أنفسهم فعل الجناة المجرمين فيرمونهم ، وهم برآء بما جنوه هم مكابرين مباهتين ، ولذلك يشتبه الأمر على الإغرار الجاهلين فيظنونهم فيما بهتوا به أهل الحق صادقين. وهم عند الله والمؤمنين من أكذب الكاذبين فسموهم حشوية يعنون أنهم من حشو الناس أو خلاطهم ، فليس عندهم علم ولا تحقيق ، وسموهم نوابتا يقصدون أنهم نبتوا في الإسلام بعد اختلاط الأعاجم وفساد اللسان العربي وسموهم مجسمين وعابدي أوثان ، لأنهم يقولون أن ربهم في السماء وفوق العرش

٣٩٩

بذاته فما أشبههم في ذلك بالرافضة الخبثاء أعداء الرسول وأصحابه حيث نصبوا العداوة للصحابة رضي الله عنهم وأسرفوا في سبهم وتنقيصهم ، ثم كل من والاهم وعرف لهم أقدارهم وسوالفهم في الدين ناصبيا ، فمن أولى بهذا الاسم من الفريقين؟ ورحم الله ابن تيمية حيث يقول :

إن كان نصبا حب صحب محمد

فليشهد الثقلان أني ناصبي

وكذلك هؤلاء المعطلة النافون لصفات الاثبات التي جاء بها الكتاب والسنة يصفون ربهم بصفات سلبية عدمية لا تكون إلا للمعدوم والممتنع ويزعمون ذلك تنزيها. فيقولون : أنه ليس بجسم ولا عرض ولا جوهر ولا شخص ، وليس له مقدار ولا صورة ولا أين ولا يشار إليه ولا يقبل الاتصال والانفصال والقرب والبعد والصعود والهبوط والحركة والنقلة ، ولا يقال داخل العالم ولا خارجه إلى غير ذلك مما أجروه عليه من صفات السلب التي تقتضي عدمه فشبهوه في ذلك بالمعدوم فاجتمع لهم الوصفان من التشبيه والتعطيل ، بل إذا حقق عليهم الأمر كانوا مشبهة أولا ، فإن الذي حملهم على التعطيل والإنكار توهمهم أن إثبات الصفات تشبيه والصفات ثابتة في نفس الأمر فلزمهم التشبيه وما نفعهم التعطيل بل أوقعهم في تشبيه شر مما فروا منه فإنهم ما زادوا على أن شبهوه بالجامدات والمعدومات.

فهم لمّا توهموا أن إثبات القول لله يقتضي تشبيهه بكلام المخلوقين نفوه عنه ، وقالوا : ليس لله قول ولا كلام ، فشبهوه في ذلك بالجامدات التي لا تنطق وبالعجماوات الخرساء ، فهذان تشبيهان.

وكذلك ظنوا أن إثبات الصفات له مستلزم أن تكون كصفات المخلوقين ، فنفوها كذبا وبهتانا ، ولم يستطيعوا أن يثبّتوا بلا تمثيل ، فوقعوا في التشبيه والتعطيل ، وهم مع ذلك يعمدون إلى ما وصف به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه من صفات الاثبات ، فيسمون ذلك تشبيها. فمن أولى بهذا الاسم من الفريقين؟ الذين مثلوا فعطّلوا فمثلوا ، أن الذين أثبتوا بلا تمثيل ونزهوا بلا تعطيل ، مصدق قوله

٤٠٠