شرح القصيدة النونيّة - ج ١

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ١

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥
الجزء ١ الجزء ٢

وهذه الآراء التي تقدم ذكرها هي غاية ما وصلت إليه عقول الورى في هذا المقام الذي هو مزلة الإقدام ومضلة الإفهام فمن ذا يستطيع أن يأتي فيه بحكم بين وقول فصل ينجي به الناس من هذه الحيرة الغامرة ويكون له عند الله ما هو له أهل من جنة ورضوان.

* * *

فاسمع إذا وافهم فذاك معطل

ومشبه وهداك ذو الغفران

هذا الدليل هو الذي أرداهم

بل هد كل قواعد القرآن

وهو الدليل الباطل المردود

عند أئمة التحقيق والعرفان

ما زال أمر الناس معتدلا إلى

أن دار في الأوراق والأذهان

وتمكنت أجزاؤه بقلوبهم

فأتت لوازمه إلى الإيمان

رفعت قواعده وتحت أسه

فهوى البناء وخر للأركان

وجنوا على الإسلام كل جناية

اذ سلطوا الاعداء بالعدوان

الشرح : بعد أن أورد المؤلف الأصل الذي بنى عليه أهل الكلام قواعدهم الفاسدة في منع قيام الحوادث بذاته تعالى ، وزعمهم أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، واتخاذهم من هذه القضية الكاذبة التي يزعمون أن عقولهم قد أجمعت على صحتها أساسا لنفي صفات الفعل والصفات الاختيارية التي تحدث في ذاته تعالى بمشيئته وقدرته أراد بعد ذلك أن يبين فساد هذا الدليل الذي تشبثوا به فذكر أن هذا الدليل هو الذي أوقعهم في الهلكة وأضلهم عن سواء السبيل كما أنه قد هدم كل ما جاء به القرآن الحكيم من قواعد الإيمان فقد وصف الله نفسه في كتابه بأنه كلم موسى عند مجيئه للميقات وناداه من جانب الطور الأيمن وأنه استوى على عرشه بعد خلق السموات والأرض ، وأنه ينزل كل ليلة الى سماء الدنيا ، وأنه سيأتى ويجيء يوم القيامة ، وأنه يحب المؤمنين ويرضى عنهم ويبغض الكافرين ويغضب عليهم ، وأنه يفرح بتوبة عبده التائب وأنه يسمع أصوات عباده حين تحدث ويرى حركاتهم وأعمالهم إلى غير ذلك من الآيات التي لا

١٨١

تحصى كثرة والتي تدل أقوى دلالة على حدوث هذه الأفعال في ذاته تعالى بمشيئته وقدرته ، فكيف إذا يصح قول هؤلاء الجاهلين أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث دون أن يفرقوا بين جنس الحوادث وأعيانها فالممنوع هو قيام أشخاص الحوادث بذاته بمعنى أن يكون لها ابتداء في ذاته ، أما قيام اجناس الحوادث وحدوث آحادها في ذاته شيئا بعد شيء وفي وقت دون آخر بمعنى أنه لم يزل فاعلا لها إذا شاء فإنه لا يدل على امتناعه دليل بل نصوص الكتاب والسنة تثبته ولا تنفيه.

فقد تبين بذلك بطلان دليل هؤلاء وفساده ومصادمته للنصوص ولهذا اشتغل برده وابطاله كثير من أئمة التحقيق والعرفان. ولقد كان أمر الناس معتدلا وبعيدا عن الزيغ والانحراف قبل أن يلقي الشيطان بهذا الدليل إلى أوليائه من الانس ، ويدفعهم إلى أن يشيعوه بين الناس ويشتغلوا به كتابة وتفكيرا حتى تمكنت قضاياه من قلوبهم فالتزموا من أجله اللوازم الفاسدة التي أتت على الإيمان من القواعد حتى هوى بناؤه وتداعت أركانه. وجنوا على الإسلام أكبر جناية ومكنوا منه أعداءه وأعطوهم السلاح الذي يستطيعون محاربته به ، فقد جاء الفلاسفة واستغلوا هذا الدليل الذي هو عمدة المتكلمين في القول بالإيجاب ونفي الاختيار عن الله عزوجل والقول بقدم العالم الخ.

* * *

حملوا بأسلحة المحال فخانهم

ذاك السلاح فما اشتفوا بطعان

وأتى العدو إلى سلاحهم فقا

تلهم به في غيبة الفرسان

يا محنة الإسلام والقرآن من

جهل الصديق وبغي ذي طغيان

والله لو لا الله ناصر دينه

وكتابه بالحق والبرهان

لتخطفت أعداؤنا أرواحنا

ولقطعت منا عرى الإيمان

الشرح : يعني أن هؤلاء الجهلة من المتكلمين الذين لا يحسنون الدفاع عن الإسلام ضد خصومه وأعدائه حملوا على هؤلاء الخصوم بأسلحة مفلولة ، والمراد بها الادلة الباطلة المحالة فخانهم سلاحهم ولم يسعفهم ولا شفى منهم الصدور عند

١٨٢

الطعان ، ثم جاء العدو الماكر فاستلب منهم هذا السلاح وقاتلهم به فاصماهم حيث قال لهم أنتم تمنعون قيام الحوادث بذاته تعالى ، فلما ذا قلتم بحدوث العالم مع أن كل ما يحتاج إليه في الفعل موجود في الأزل من علم شامل وقدرة تامة وإرادة نافذة فلما ذا إذا يتأخر وجود المراد مع أنه لم يحدث في ذات الرب سبحانه شيء لا تجدد قدرة ولا إرادة ولا وجود آلة يستعين بها على الايجاد الخ.

وهكذا قاتلتم العدو بنفس السلاح ، وكان ذلك في غيبة فرسان الإسلام الحقيقين ذوي الاسلحة الماضية. وهكذا كانت محنة الإسلام والقرآن في الصديق الجاهل كمحنته في العدو الظالم ، فتعاون الفريقان على هدمه وافساده وإن كان الفريق الأول لم يقصد إلى ذلك ولو لا أن الله ناصر دينه وكتابه بالحجة والبرهان لمزقنا الاعداء شر ممزق ولسلبونا أرواحنا من جسومنا ولقطعوا منا عرى الإيمان.

* * *

أيكون حقا ذا الدليل وما اهتدى

خير القرون له محال ذان

وفتقتم للحق إذ حرموه في

أصل اليقين ومقعد العرفان

وهديتمونا للذي لم يهتدوا

أبدا به وأشدة الحرمان

ودخلتم للحق من باب وما

دخلوه وا عجبا لذا الخذلان

وسلكتم طرق الهدى والعلم دو

ن؟؟؟؟ عجبا لذا البهتان

وعرفتم الرحمن بالأجسام

والاعراض والحركات والألوان

وهم فما عرفوه منها بل من

الآيات وهي فغير ذي برهان

الله أكبر أنتم أو هم على

حق وفي غي وفي خسران

الشرح : ينكر المؤلف على هؤلاء المتكلمين اعتمادهم في اثبات وجود الله عزوجل الذي هو أعظم المطالب في الدين على هذا الدليل المتقدم المبني على حدوث الجواهر والاعراض ، حتى ذهب بعضهم جهلا وغلوا إلى أن من لم يؤمن بالله عن طريقه لم يصح إيمانه ، فهن يقول لهم لو كان دليلكم هذا حقا ، ويتوقف الإيمان بالله عزوجل على معرفته ، كيف لم يهتد إليه خير القرون وأفضلها ، وهم أكمل

١٨٣

هذه الامة علما وايمانا ، هذا محال ، وكيف يعقل أن توفقوا أنتم يا أذناب الفلاسفة واخوان الزنادقة للحق في أصل اليقين وأساس الإيمان في حين يرجع هؤلاء الافاضل الكملة بالخيبة والحرمان ، وكيف جاز أن تهتدوا أنتم إلى ما لم يهتدوا إليه أو تدخلوا إلى الحق من باب لم يعرفوه أو تسلكوا إلى العلم والهدي طريقا لم يسلكوه ، ولكنكم لا تتورعون من رمي القوم بالجهل وقلة المعرفة حيث قلتم أن مذهبنا أعلم وأحكم ، ومذهب السلف أسلم ، وزعمتم أنكم عرفتم ربكم بدليل العقل ، وهو يفيد القطع واليقين ، أما القوم فما عرفوه إلا من طريق الآيات القرآنية ، وهي في زعمكم لا تفيد إلا الظن واقناع السامعين.

فيا عجبا لكم تخالفون طريق القوم وتزعمون أنكم على الحق والهدي ، فمن أحق بذلك ، أنتم أو هم؟ لا شك أنهم أولى وأحق بكل حق وكل هدي ، وليس لمن خالفهم واتبع غير سبيلهم إلا الوقوع في الغي والضلال.

* * *

دع ذا أليس انه قد أبدى لنا

حق الأدلة وهي في القرآن

متنوعات صرفت وتظاهرت

في كل وجه فهي ذو أفنان

معلومة للعقل أو مشهودة

للحس أو في فطرة الرحمن

أسمعتم لدليلكم في بعضها

خبرا أو أحسستم له ببيان

أيكون أصل لدين ما تم الهدى

إلا به وبه قوى الإيمان

وسواه ليس بموجب من لم يحط

علما به لم ينج من كفران

الشرح : ولندع مخالفتكم لطريق القوم جانبا ولنسألكم هل تعتقدون أن الله عزوجل قد بين لنا الأدلة الحقة على وجوده في القرآن وصرفها ونوعها لتتظاهر على اثبات هذا الطلوب الأعظم من كل وجه ، وحتى لا يبقى فيه لبس ولا خفاء أصلا ، فمنها ما هو معلوم للعقل ، ومنها ما هو مشهود للحس ، ومنها ما يرجع إلى الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها فمع كل هذه الأدلة المتكاثرة التي جاء بها القرآن هل سمعتم في بعضها خبرا عن دليلكم هذا الذي جعلتموه

١٨٤

عمدتكم في الاستدلال وأهملتم لأجله كل ما جاء بالقرآن الكريم من أنواع الادلة بحجة أنها لا تفيد ما يفيده هذا الدليل من قطع ويقين ، فهل يعقل أن يكون دليلكم ـ ولم يرد له في كتاب الله ذكر ولا وقعت إليه اشارة مع كثرة ما أورد من أدلة ـ هو أصل اليقين والإيمان وسواه من الادلة ليس بموصل لهذا المطلوب ولا محصل للايمان وأن الواجب هو معرفة الله بهذا الدليل الفاسد ، وأن من لم يحط به علما لم ينج من كفران ولم تحصل له حقيقة الايمان.

* * *

والله ثم رسوله قد بينا

طرق الهدى في غاية التبيان

فلأي شيء أعرضا عنه ولم

نسمعه في أثر ولا قرآن

لكن أتانا بعد خير قروننا

بظهور أحداث من الشيطان

وعلى لسان الجهم جاءوا حزبه

من كل صاحب بدعة حيران

ولذلك أشتد النكير عليهم

من سائر العلماء في البلدان

صاحوا بهم من كل قطر بل رموا

في أثرهم بثواقب الشهبان

عرفوا الذي يفضي إليه قولهم

ودليلهم بحقيقة العرفان

وأخو الجهالة في خفارة جهله

والجهل قد ينجي من الكفران

الشرح : يعني أن الله ورسوله قد بينا جميع الطرق المعرفة بالله غاية البيان ، فإذا كان دليل هؤلاء حقا فلما ذا لم يذكره الله ولا رسوله ، ولم نسمع عنه لا في قرآن ولا أثر ، ولكنه دليل باطل متهافت ومقدماته على ما فيها من خفاء وبعد ، ليست كلها صحيحة وهو دليل مبتدع متلقى من مبادي الفلسفة اليونانية والوثنية فإن الكلام في الجسم والعرض والجوهر وغيرها لم يظهر إلا بعد ترجمة هذه الفلسفة إلى العربية في عهد المأمون ومن بعده من خلفاء العباسيين ، وكان أول من أحدثه هو الجهم وحزبه من المبتدعة الضلال ولهذا لما اطلع أئمة الحق على حقيقة هذا الدليل وما فيه من تناقض واضطراب أنكروا على أهله غاية الانكار وحذروا منه غاية التحذير لعلمهم بما يفضي إليه من لوازم فاسدة فيها هدم لكل

١٨٥

قواعد الإسلام ، ولسنا نعرف أحدا اختص هذا الدليل بالنقد المر اللاذع ، وابان عن تناقضه وفساده بأدلة العقل والنقل بمثل ما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه‌الله في كتابه (العقل والنقل) و (منهاج السنة) فقد أتى فيه بما يشفي ويقنع فجزاه الله عن الإيمان وأهله خير الجزاء

* * *

فصل

في الرد على الجهمية المعطلة القائلين بأنه ليس على العرش إله

يعبد ولا فوق السموات إله يصلى له ويسجد ، وبيان فساد قولهم

عقلا ونقلا ولغة وفطرة

والله كان وليس شيء غيره

وبرأ البرية وهي ذو حدثان

فسل المعطل هل براها خارجا

عن ذاته أم فيه حلت ذان

لا بد من إحداهما أو أنها

هي عينه ما ثم موجودان

ما ثم مخلوق وخالقه وما

شيء مغاير هذه الأعيان

لا بد من إحدى ثلا ما لها

من رابع خلوا من الروغان

ولذاك قال محقق القوم الذي

رفع القواعد مدعي العرفان

هو عين هذا الكون ليس بغيره

أنى وليس مباين الأكوان

كلا وليس مجانبا أيضا لها

فهو الوجود بعينه وعيان

الشرح : أعلم أن هذه الصفة وهي استواؤه تعالى على عرشه بمعنى علوه وارتفاعه على العرش بذاته على الكيفية التي يعلمها هو سبحانه من أظهر ما وقع فيه النزاع بين أهل السنة وبين خصومهم ، وكانت الشبهة التي سولت لهؤلاء المعطلة نفي الاستواء وغيره من الصفات التي وردت باثباتها النصوص الصريحة من الكتاب والسنة الصحيحة أن هذه الصفات من لوازم الأجسام الحادثة ، فلو اتصف الله بها على الحقيقة لكان جسما ، والله منزه عن الجسمية ولوازمها ، ولا

١٨٦

يخفى ما في هذه الشبهة من المغالطة ، فإننا نثبت هذه الصفات لله على ما يليق به سبحانه ، فلا ننفيها كما نفتها المعطلة ، ولا نمثلها بصفات خلقه كما فعلت الممثلة ، وبذلك لا يقتضي اثباتها جسمية ولا حدوثا ، ولا يلزمنا ما أورده من اللوازم لكنهم توهموا أن معاني هذه الصفات في الغائب لا يمكن أن تعقل إلا كما هي في الشاهد ، فقاسوا الله عزوجل على خلقه، وظنوا أن مقتضى التنزيه هو نفي هذه الصفات رأسا ، دون الاكتفاء بنفي المماثلة عنها ، فجرهم هذا الغلو في التنزيه الى الوقوع في التعطيل وجحد ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله ، وتوسعوا في صفات السلوب ، حتى يخيل لمن يطالع كتبهم أنهم لا يعنون بهذه الصفات شيئا موجودا متحقق الثبوت ، وإنما يصفون بها أمرا افتراضيا صرفا لا حقيقة له، وكأني بك أيها القارئ تنظر إلي في دهشة وتسألني في عجب من أين لهؤلاء ذلك النفي الصرف والتجريد المحض ، وهو لا أصل له في دينهم ، ولا دليل عليه من كتاب ربهم ولا من أقوال نبيهم ، ولا هو مما نقل عن أحد من سلف هذه الأمة الذين هم أكملها علما وايمانا ، وهل يعقل أن هؤلاء المعطلة قد علموا من حقائق التنزيه ما لم يعلمه الله ولا رسوله ولا أحد من سلف هذه الأمة؟ وإني أقول لك مهلا أيها القارئ الكريم ، فسأحدثك عن الأسباب التي أوقعت هؤلاء في تلك الفتنة وأوردتهم موارد الهلكة ، حتى يبطل بذلك عجبك وتزول دهشتك ، لقد نظر قدماء هؤلاء المعطلة في كتب فلاسفة اليونان وغيرهم ، فوجدوا أنه يثبتون إلى جانب هذا الوجود المادي المتمثل في الجواهر والاعراض وجودا آخر مجردا عن المادة وعلائقها ، فهو ليس بجسم ولا عرض ولا عرض ولا بذي صورة ولا مقدار ولا كيفية ولا يشار إليه بالإشارة الحسية بأنه هنا أو هناك ، ولا يجوز عليه قرب ولا بعد ، ولا اتصال ولا انفصال ، ولا صعود ولا نزول الخ ما نعتوه به من السلوب التي تحيل وجوده وتجعله من قبيل المعدومات والممتنعات.

وكان الفلاسفة يقولون أن هذا الوجود المجرد هو أكمل من الوجود المادي لأنه لا يجوز عليه التغير والاستحالة ولا تحله الاعراض ، وكانت المجردات عندهم هي الله والعقل والنفس والهيولى والصورة.

١٨٧

فلما رأى المعطلة ما قال الفلاسفة فرحوا به فرحا شديدا ، وظنوا أنهم وقعوا على كنز ثمين ، وأنهم عثروا على مفتاح السر الذي يتيح لهم حل الألغاز والمعميات فقالوا وما لنا لا نثبت هذا النوع من الوجود وان كنا لا نحسه ولا نراه ، وليس عندنا عنه أثر ولا خبر.

الم يثبته قبلنا أرسطو وأفلاطون ، وهما بلا شك أصح منا عقولا وأجود أذهانا ، ولكنا لا نجعل هذا الوجود الكامل إلا لله وحده ولا نصف به شيئا من هذه الموجودات الممكنة.

هذا هو أصل تلك الأكذوبة التي راجت وانتشرت حتى عمت الأرجاء والأقطار ، وأفسدت بسمها المهلك كثيرا من العقائد والأفكار ، وانخدع بها كثير من أهل الفضل والصلاح ممن لهم في علوم الحديث والآثار قدم راسخة ، ولكن لا نقول الا كما قال موسىعليه‌السلام : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) [الأعراف : ١٥٥].

أننا يا قوم معكم في أن الله ليس جسما بالمعنى الذي اصطلح عليه أهل الكلام والفلسفة ، فهو ليس مركبا من تلك الجواهر المفردة التي يزعمها المتكلمون ، ولا من الهيولى والصورة التي يهرف بها الفلاسفة ، ولكنا مع ذلك لا نعقل موجودا ليس في مكان ولا حيز له ولا جهة ولا يشار إليه ، ولا يوصف بقرب ولا بعد ولا اتصال ولا انفصال ، الخ ما ذكرتموه من نعوت هذا الوجود الذي تسمونه مجردا ، وهل من الضروري أن يكون وجود الرب على هذا النحو الذي يقتضي نفي كل صفة محضة ، والا لكان جسما ، أو ليس أحسن من ذلك وأقوم أن نثبت له سبحانه وجودا خاصا به هو أكمل من هذه الموجودات الممكنة ، ويكون هذا الوجود قابلا للاتصاف بكل هذي الصفات على وجه لا يكون مماثلا لاتصاف المخلوق بها ، بل لا يكون هناك تشابه ولا اشتراك الا في مسمى الاسم الكلي المتناول لافراد تلك الصفة المتباينة في وجودها العيني.

١٨٨

ولنرجع بعد هذه المقدمة الى شرح كلام المؤلف ، فهو يقول لهؤلاء النافين لاستوائه تعالى على العرش : أنتم توافقوننا على أن الله كان ولم يكن معه شيء ، ثم خلق هذه الموجودات الحادثة ، فأين خلقها؟ هل خلقها خارج ذاته ، فهي مباينة له منفصلة عنه أم خلقها داخل ذاته ، بحيث تكون حالته فيه ، لا بد لكم من القول بأحد هذين القولين ما دمتم تعتقدون أن هذه الموجودات هي غيره ، فان كان موجودين اذا نسب أحدهما إلى الآخر ، فأما أن يكون داخلا فيه أو خارجا عنه وليس هناك قسم ثالث الا اذا قلتم انها عينه ، وأنه ليس هناك موجودان أحدهما خالق والآخر مخلوق ، فلا بد لكم من أحدى هذه الخصال الثلاث ، أما أن تقولوا انها خارجة عنه ، أو تقولوا انها حالة فيه ، أو تقولوا أنها عينه ، ودعوكم من هذا الروغان ، فإنها قسمة حاضرة تقتضيها ضرورة العقل ، ولا يجد المصنف محيصا عنها.

ولهذا ذهب ابن عربي واتباعه من أصحاب مذهب الوحدة الى القسم الثالث ، وهو ان الله عزوجل هو عين هذه الأكوان ، وليس هناك مباينة أصلا بين وجوده ووجودها ، وليس هو مجانبا لها ، بل هو هذا الوجود بعينه وعيانه.

* * *

ان لم يكن فوق الخلائق ربها

فالقول هذا القول في الميزان

إذ ليس يعقل بعد الا أنه

قد حل فيها وهي كالابدان

والروح ذات الحق جل جلاله

حلت بها كمقالة النصراني

فأحكم على من قال ليس بخارج

عنها ولا فيها بحكم بيان

بخلافه الوحيين والاجماع والعق

ل الصريح وفطرة الرحمن

فعليه أوقع حد معدوم وذا

حد المحال بغير ما فرقان

الشرح : بعد ما بين المؤلف أن النسبة بين الله عزوجل وبين هذه الموجودات لا يمكن أن تخرج عن هذه الصور الثلاث ، أما الانفصال والمباينة ، وأما الحلول والمداخلة ، واما نفي الغيرية وابطال الاثنينية بينهما ، والقول بأن وجودهما واحد

١٨٩

قال بعد ذلك فإذا لم يقل الجهمي بأن الله فوق عرشه مباين لخلقه ، كان عليه حينئذ أن يقول بما ذهب إليه أصحاب وحدة الوجود من أن الوجود واحد وأن وجود الرب هو عين هذه الموجودات ، أو ليس له بعد رفض هذين القولين الا ان يقول بما ذهب إليه الحلولية من أن العالم جسم كبير ، وأن ذات الله عزوجل هي الروح السارية في هذا الجسم لحلول روح الحيوان في بدنه ، وذلك مثل ما قالته النصارى في عيسى عليه‌السلام حيث زعموا أن الله حل فيه ، وأن اللاهوت وهو الله قد اتحد بالناسوت ، يعنون جسد عيسى ، فصار الكل إلها واحدا ، واذا تبين أن الأمر لا يخلو عن أحد من هذه الفروض الثلاثة ، فمن زعم أن الله ليس بخارج عن هذه الموجودات وليس بحال فيها ، فقد نفي وجوده سبحانه ووصفه بصفات المعدوم الممتنع ، وكان بذلك مخالفا للكتاب والسنة وإجماع الأمة ومناقضا لحكم العقل الصريح وحكم الفطرة السليمة التي فطر الله عليها سائر خلقه.

* * *

يا للعقول اذا نفيتم مخبرا

ونقيضه هل ذاك في امكان

ان كان نفي دخوله وخروجه

لا يصدقان معا لذي الامكان

الا على عدم صريح نفيه

متحقق ببداهة الانسان

أيصح في المعقول يا أهل النهى

ذاتان لا بالغير قائمتان

ليست تباين منهما ذات لأخ

رى أو تحاثيها فيجتمعان

ان كان في الدنيا محال فهو ذا

فارجع الى المعقول والبرهان

الشرح : يعجب المؤلف من سخافة عقول هؤلاء المعطلة النفاة في قولهم أن الله ليس داخل العالم ولا خارجه ، مع أن الدخول والخروج نقيضان والنقيضان يستحيل في العقل ارتفاعهما معا ، كما يستحيل اجتماعهما معا ، بل لا بد من ثبوت أحدهما وانتفاء الآخر ، فإذا استحال أن يكون الله داخل العالم لتنزهه عن الحلول في خلقه وجب ان يكون خارجه ، بأن يكون فوقه عاليا عليه ، وانما يصدق نفي النقيضين معا على المعدوم الصريح الذي تحكم بديهة العقل بامتناعه ، فهو الذي

١٩٠

يمكن أن يقال انه لا داخل ولا خارج ، وأما الموجود الذي له ذات متحققة ثابتة إذا نسب الى موجود آخر متحقق الذات فلا بد من أحد هذين الامرين ، أما أن يكون أحدهما داخلا في الآخر أو خارجا عنه فلا يصح في العقل أبدا أن يكون هناك ذاتان كل منهما قائمة بنفسها لا بغيرها ، ومع ذلك لا توصف كل منهما عند نسبتها الى الأخرى بأنها ، أما مباينة لها منفصلة عنها أو مجانسة لها داخلة فيها ، بل أحد هذين الوصفين ضروري تحكم به بداهة العقل والخلو عنهما معا من أمحل المحال.

* * *

فلئن زعمتم أن ذلك في الذي

هو قابل من جسم أو جسمان

والرب ليس كذا فنفي دخوله

وخروجه ما فيه من بطلان

فيقال هذا أولا من قولكم

دعوى مجردة بلا برهان

ذاك اصطلاح من فريق فارقوا ال

وحي المبين بحكمة اليونان

والشيء يصدق نفيه عن قابل

وسواه في معهود كل لسان

أنسيت نفي الظلم عنه وقولك ال

ظلم المحال وليس ذا امكان

ونسيت نفي النوم والسنة التي

ليست لرب العرش في الامكان

ونسيت نفي الطعم عنه وليس ذا

مقبولة والنفي في القرآن

ونسيت نفي ولادة أو زوجة

وهما على الرحمن ممتنعان

الشرح : يشير المؤلف في هذه الأبيات الى جواب هؤلاء المعطلة عما تقضي به ضرورة العقل من وجود الاتصاف بأحد النقيضين ، واستحالة الخلو عنهما معا ، وملخص هذا الجواب أن ذلك انما يكون بالنسبة الى ما هو قابل للاتصاف بالشيء أو بنقيضه ، فهو الذي يجب في حقه الاتصاف بأحدهما ويستحيل خلوه عنهما ، فلا يصح أن يقال مثلا أن هذين الجسمين ليسا متصلين ولا منفصلين لأن الجسم قابل للاتصال والانفصال فلا بد له من أحدهما ولكن الرب سبحانه ليس من شأنه أن يتصف بالدخول ولا بنقيضه فيجوز حينئذ نفيهما عنه معا ولا يترتب على ذلك محال.

١٩١

وقد أجاب المؤلف عن ذلك بأن تلك التفرقة بين القابل وغير القابل دعوى مجردة عن الدليل وهي مبنية على اصطلاح الفلاسفة الذين فارقوا الوحي واعتصموا بفلسفة اليونان فإنهم يزعمون أن التقابل ان كان بين الوجود والعدم كأن يقال الشيء أما موجود أو معدوم استلزم هذا التقابل الحكم عليه بأحدهما ، وأما أن كان تقابلا بين الملكة وعدمها كما في التقابل بين الحياة والموت ، والعلم والجهل ، والبصر والعمى الخ. فإن هذا التقابل لا يستلزم الاتصاف بأحدهما أي بالملكة أو بعدمها الا فيما هو قابل للاتصاف بهما فلا يوصف بالموت مثلا الا ما من شأنه أن يكون حيا ولا يوصف بالجهل الا ما هو قابل للعلم ولا يوصف بالعمى الا ما كان ذا بصر وهكذا. وهذا اصطلاح فاسد مخالف لما هو معروف عند أهل اللغات جميعا من جواز نفي الشيء عما هو له قابل وعن غيره. وهذا لازم لكم أيضا فأنتم تنفون عنه الظلم سبحانه مع أنه غير قابل له عندكم لأن الظلم في حقه محال ممتنع. وكذلك تنفون عنه السنة والنوم مع أنه غير قابل للاتصاف بشيء من ذلك لاستحالته عليه وتنفون عنه الطعم أيضا ، وقد نفاه سبحانه عن نفسه في قوله : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) [الأنعام : ١٤] مع أن الطعم ليس مما يقبل الرب الاتصاف به وتنفون عنه كذلك الزوجة والولد وهما محالان عليه ممتنعان.

* * *

والله قد وصف الجماد بأنه

ميت أصم وما له عينان

وكذا نفى عنه الشعور ونطقه

والخلق نفيا واضح التبيان

هذا وليس بها قبول للذي

ينفي ولا من جملة الحيوان

ويقال أيضا ثانيا لو صح ه

ذا الشرط كان لما هما ضدان

لا في النقيضين اللذين كلاهما

لا يثبتان وليس يرتفعان

ويقال أيضا نفيكم لقبوله

لهما يزيل حقيقة الإمكان

بل ذا كنفي قيامه بالنفس أو

بالغير في الفطرات والأذهان

الشرح : ومما يدل أيضا على أن الشيء قد يقع وصفا لغير ما هو قابل له أن

١٩٢

الله عزوجل قد وصف الجماد في كتابه بالموت والصمم والعمى ونفي عنه الشعور والنطق والقدرة على الخلق قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ* أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النحل : ٢٠ ، ٢١] وقال (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) [الأعراف : ١٩٥] وقال حكاية عن إبراهيم في سورة [مريم : ٤٢](يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) ومعلوم أن الجماد غير قابل للاتصاف بملكات هذه الأعدام من الحياة والسمع والبصر الخ. ومع ذلك جاز اتصافه بهذه الأعدام.

ويقال لهؤلاء أيضا لو سلمنا لكم بصحة هذا الشرط وهو قابلية الموصوف للاتصاف ، وأن غير القابل يجوز خلوه عن الشيء ومقابلة فإنما يكون ذلك في الضدين اللذين قد يرتفعان معا عن الشيء مثل البياض والسواد ولا يجوز في النقيضين اللذين لا يرتفعان ولا يجتمعان ومعلوم أن التقابل بين دخوله سبحانه في العالم وبين مباينته له هو من قبيل التقابل بين النقيضين فلا بد من ثبوت أحدهما له.

ويقال لهؤلاء أيضا أن نفيكم عنه قبول أحد هذين الوصفين الدخول والخروج من شأنه أن ينفي امكان وجوده فضلا عن أن يكون واجب الوجود بل هذا يجعله من قبيل المعدوم الممتنع وهو يشبه في الفساد نفي القيام بالنفس والقيام بالغير عنه بحجة أنه ليس من شأنه الاتصاف بواحد منهما مع أن العقل والفطرة يقضيان بأن كل موجود فأما أن يكون قائما بنفسه أو قائما بغيره ، فإذا استحال أن يقوم بغيره وجب أن يكون قائما بنفسه.

* * *

فإذا المعطل قال أن قيامه

بالنفس أو بالغير ذو بطلان

إذ ليس يقبل واحد من ذينك ال

أمرين الا وهو ذو امكان

جسم يقوم بنفسه أيضا كذا

عرض يقوم بغيره اخوان

١٩٣

في حكم امكان وليس بواجب

ما كان فيه حقيقة الامكان

فكلاكما ينفي الاله حقيقة

وكلاكما في نفيه سيان

الشرح : بعد أن بين المؤلف أن قول القائل الله أما داخل العالم أو خارجه هو مساو للقول بأنه أما قائم بنفسه أو قائم بغيره في وجوب الاتصاف بواحد من المتقابلين لنقول بأنه أما قائم بنفسه أو قائم بغيره في وجوب الاتصاف بواحد من المتقابلين ، فإذا كان الترديد بين القيام بالنفس والقيام بالغير صحيحا يقتضي ثبوت أحدهما له سبحانه وهو القيام بالنفس لأنه يناسب غناه فيجب أن يكون الترديد في قولنا أما داخل العالم أو خارجه صحيحا أيضا مقتضيا لثبوت أحدهما له وهو كونه خارج العالم حتى لا يكون حالا في خلقه ، فإذا ادعى المعطل وهو الفيلسوف الذي يرى أن القيام بالنفس يفهم المكانية أن ذلك الترديد بين القيام بالنفس والقيام بالغير فاسد أيضا في حقه سبحانه لأنه ليس قابلا لواحد منهما كما قيل في الدخول والخروج وانما يقبل واحد من هذين الامرين ما كان ممكنا من الاجسام والاعراض فيقال الجسم ما قام بنفسه والعرض ما قام بغيره ولا شك ان الجسم والعرض أخوان في حكم الامكان فتكون كل واحدة من هاتين الصفتين أعني القيام بالنفس والقيام بالغير صفة لممكن وما كان ممكنا فليس بواجب فلا يجوز أن تقع واحدة منهما صفة للواجب ، وبذلك يكون الترديد بينهما فاسدا ، فيقال له أن رفع النقيضين هنا بأن يقال لا قائم بنفسه ولا بغيره مستلزم لنفي حقيقة الاله كما استلزمه رفعهما في قولكم لا داخل ولا خارج فكلاكما في نفيه سواء لأن الضرورة التي قضت بثبوت أحد الوصفين من الدخول والخروج هي بعينها التي تقتضي أن يثبت له إما القيام بالنفس وأما القيام بالغير ، فكما لا يعقل موجود لا داخل ولا خارج فإنه لا يعقل موجود لا يكون قائما بنفسه ولا بغيره.

* * *

ما ذا يرد عليه من هو مثله

في النفي صرفا اذا هما عدلان

١٩٤

والفرق ليس بممكن لك بعد ما

ضاهيت هذا النفي في البطلان

فوزان هذا النفي ما قد قلته

حرفا بحرف أنتما صنوان

والخصم يزعم أن ما هو قابل

لكليهما فكقابل لمكان

فأفرق لنا فرقا يبين مواقع ال

إثبات والتعطيل بالبرهان

أو لا فأعط القوس باريها وخ

ل الفشر عنك وكثرة الهذيان

الشرح : يعني بما ذا يستطيع نفاة الجهة من المعتزلة والاشاعرة الرد على الفيلسوف في قوله أن القيام بالنفس والقيام بالغير كلاهما منفي عن الله لأنهما من خصائص الممكن مع أنهم مثله في النفي المحض حيث قالوا بنفي الدخول والخروج لأنهما عندهم أيضا من خصائص الاجسام وكيف يمكنهم أن يفرقوا بين ما نفوه هم وبين ما نفاه الفلاسفة مع أن النفيين في ميزان العقل سواء فكلاهما مستلزم لنفي وجود الاله.

وهذا معنى قول المؤلف رحمه‌الله فوزان هذا النفي أعني الذي نفته الفلاسفة ما قد قلته أنت من نفي الدخول والخروج حرفا بحرف لا يختلف عنه قيد شعرة لكن الخصم وهو الفيلسوف يزعم أنه انما نفي هذين الوصفين عن الله لأن القائل بكليهما لا بد أن يقبل الحلول في المكان ، والله منزه عن المكانية فافرق لنا أنت بين ما نفيته من الدخول والخروج وبين ما نفاه الفيلسوف فرقا يتبين منه بالبرهان ان كنت مثبتا أو معطلا والا فالزم غرزك واعط القوس باريها ولا ترد من الموارد ما لا تعرف له صدرا.

* * *

فصل

في سياق هذا الدليل على وجل آخر

وسل المعطل عن مسائل خمسة

تردى قواعده من الاركان

قل للمعطل هل تقول إلهنا ال

معبود حقا خارج الاذهان

١٩٥

فإذا نفى هذا فذاك معطل

للرب حقا بالغ الكفران

وإذا أقر به فسلفه ثانيا

أتراه غير جميع ذي الأكوان

فإذا نفى هذا وقال بأنه

هو عينها ما هاهنا غيران

فقد ارتدى بالاتحاد مصرحا

بالكفر جاحد ربه الرحمن

حاشا النصارى أن يكونوا مثله

وهم الحمير وعابدو الصلبان

هم خصصوه بالمسيح وأمه

وأولاء ما صانوه عن حيوان

الشرح : يريد المؤلف في هذا الفصل أن يضيق الخناق على الخصم وأن يلزمه القول بأنه تعالى بائن من خلقه مستو على عرشه ، فحصر المسألة في خمسة أمور لا بد للخصم من القول بأحدها ، فيسأله أولا : هل تقول بأن الله موجود خارج الأذهان أو لا وجود له الا في الذهن ، فإذا نفى وجوده خارج الذهن فقد حكم على نفسه بالتعطيل وجحد الصانع ، وذلك غاية الكفر ، واذا أقر بوجوده تعالى خارج الأذهان يسأل ثانيا : هل تقول بأن وجود الله غير وجود هذه الأكوان أو تراه عينها ، فإذا نفى مغايرة وجوده سبحانه لوجود خلقه وقال : بل هو عينها وليس هناك غيران ، فقد اتشح بثوب الاتحاد ، وصرح على نفسه بالكفر وجحد وجود الرب جل شأنه ، بل كان أشد كفرا من النصارى عبدة الصلبان ، لأنهم لم يقولوا باتحاده سبحانه بجميع خلقه ، ولكنهم خصوا ذلك بالمسيح وأمه مريم العذراء ، وأما هذا الاتحادي فقد زعم أن الله متحد بجميع خلقه بما في ذلك الحيوانات المنحطة من القردة والخنازير ونحوها ، فلم يصنه عن الاتحاد بهذه الحيوانات وغيرها من المستقذرات.

* * *

وإذا أقر بأنه غير الورى

عبد ومعبود هما شيئان

فأسأله هل هذا الورى في ذاته

أم ذاته فيه هنا أمران

وإذا أقر بواحد من ذينك الا

مرين قبل خده النصراني

ويقول أهلا بالذي هو مثلنا

خشداشنا وحبيبنا الحقاني

١٩٦

وإذا نفى الأمرين فأساله إذا

هل ذاته استغنت عن الأكوان

فلذاك قام بنفسه أم قام بالأ

عيان كالأعراض والأكوان

فإذا أقر وقال به هو قائم

بالنفس فأساله وقل ذاتان

بالنفس قائمتان أخبرني هما

مثلان أو ضدان أو غيران

وعلى التقادير الثلاث فإنه

لو لا التباين لم يكن شيئان

ضدين أو مثلين او غيرين كا

نا بل هما لا شك متحدان

فلذاك قلنا انكم باب لمن

بالاتحاد يقول بل بابان

نقطتم لهم وهم خطوا على

نقط لكم كمعلم الصبيان

الشرح : أما إذا أقر المعطل بأن الله والعالم شيئان متغايرات ، فهذا عبد وذاك معبود ، يسأل مرة أخرى : هل تقول بحلول هذا العالم في ذاته ، أو تقول بحلوله هو في العالم أو لا ، فإذا أقر بواحد منهما وفقد وافق النصارى القائلين بحلول الله في المسيح ، بل صار شرا منهم ، لأنهم خصوا هذا الحلول بالمسيح ، وأما هو فقد جعله حالا في جميع خلقه ، فيقر بذلك عين النصارى ويصير حبيبا لهم لمضاهاة قوله لقولهم.

وأما إذا نفى عنه الحلول بنوعيه ، أعني حلوله هو في العالم وحلول العالم فيه ، فيسأل هل تعتقد أنه تعالى قائم بنفسه مستغن في وجوده عن غيره ، كهذه الاعيان القائمة بنفسها ، أو تراه من جملة الاعراض والأكوان التي لا تقوم بنفسها ، بل يكون وجودها تابعا لوجود ما تقوم به من الأعيان ، فإذا أقر بالأول ، وهو أنه تعالى قائم بنفسه يسأل عن النسبة بين الله وبين هذا العالم ، فيقال له : هنا ذاتان كل منهما قائمة بنفسها ، فأخبرنا هل هما مثلان أو ضدان أو غيران ، إذ لا يمكن أن تخرج النسبة بينهما عن هذه الفروض الثلاثة ، وعلى كل واحد من هذه التقادير الثلاث يلزمك القول بالتباين والانفصال ، إذ لو لا التباين لم يثبت واحد من هذه الثلاثة ، ولم يكن شيئان ، لا ضدين ولا مثلين ولا غيرين ، بل يكونان متحدين.

ومن هنا كان هؤلاء النفاة لوجوده تعالى خارج العالم بائنا من خلقه مستويا

١٩٧

على عرشه بابا لمن قال بالاتحاد ، فإن هؤلاء الاتحادية لما جاروهم في ذلك النفي ولم تسغ عقولهم موجودا لا داخل العالم ولا خارجه ، حكموا بأن الله هو عين هذا العالم ، وصرحوا بالاتحاد ، بل أن هؤلاء النفاة أيضا كانوا بابا ولج منه الحلولية الذين زعموا أن الله هو الروح السارية في العالم ، لأنهم لما وافقوا هؤلاء في أن الله ليس خارج العالم ، ولم يعقلوا موجودا لا داخلا ولا خارجا حكموا بحلوله فيه وسريانه في جميع أجزائه ، فصار هؤلاء الجهمية النفاة أساتذة لهؤلاء الاتحادية والحلولية ينقطون لهم نقطا وهم يخطون عليها كما يفعله معلم الصبيان.

وملخص هذا الدليل على طريقة السير والتقسيم المعروفة أن الله سبحانه أما أن يكون موجودا خارج الأذهان أو لا ، والثاني مستلزم لنفيه وجحوده والأول أما أن يكون وجوده غير وجود هذه الأكوان أو لا ، بأن يكون عينها ، والثاني مستلزم للقول بالاتحاد ، وهو كفر ، والأول اما أن يكون متصلا بالأشياء اتصال حلول ، بأن تكون قد حلت فيه أو حل فيها أو لا ، والأول مستلزم للقول بالحلول الذي قالت به النصارى هو كفر ، والثاني أما أن يكون قائما بنفسه مستغنيا عن الأكوان أو لا ، والثاني يستلزم كونه عرضا قائما بالأعيان ، وهو كفر ، فثبت من ذلك أنه موجود بوجود مغاير لوجود الأشياء غير حال فيها ولا حالة فيه وليس هو عرضا لها ، بل هو وجود قائم بنفسه ، والعالم قائم بنفسه ، فإذا نسب أحدهما إلى الآخر فلا يخلو ، إما أن يكونا مثلين أو ضدين أو غيرين ، وعلى كل فهما منفصلان متباينان فثبت أن الله مباين للعالم وأنه فوقه عال عليه.

* * *

فصل

في الاشارة الى الطرق النقلية الدالة

على أن الله تعالى فوق سماواته على عرشه

ولقد أتانا عشر أنواع

من المنقول في فوقية الرحمن

١٩٨

مع مثلها أيضا تزيد بواحد

ها نحن نسردها بلا كتمان

منها استواء الرب فوق العرش في

سبع أتت في محكم القرآن

وكذلك اطردت بلا لام ولو

كانت بمعنى اللام في الأذهان

لأتت بها في موضع كي يحمل ال

باقي عليها بالبيان الثاني

ونظير ذا اضمارهم في موضع

حملا على المذكور في التبيان

لا يضمرون مع اطراد دون ذكر

المضمر المحذوف دون بيان

بل في محل الحذف يكثر ذكره

فإذا هم ألفوه إلف لسان

حذفوه تخفيفا وايجازا فلا

يخفى المراد به على الانسان

هذا ومن عشرين وجها يبطل

التفسير باستولى لذي العرفان

قد أفرد بمصنف لامام هذا

الشأن بحر العالم الرباني

الشرح : بعد أن فرغ المؤلف من إيراد الطرق العقلية التي لا تقبل الجدل على استوائه تعالى على عرشه بذاته ، شرع في إيراد النصوص المثبتة لذلك من الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة رضي الله عنهم ، وقد بلغ بها المؤلف واحدا وعشرين نوعا أولها : اخباره سبحانه عن نفسه بأنه استوى على عرشه ، وقد جاء في سبع مواضع من القرآن الكريم : في سورة الأعراف ، ويونس ، والرعد ، وطه ، والفرقان ، والم تنزيل السجدة والحديد. وقد عدى فعل الاستواء في هذه المواضع كلها بعلى التي هي نص في الدلالة على العلو والارتفاع ، كما اطراد فيها لفظ الاستواء بدون لام ، مما يدل على أنه لم يرد به إلا الاستواء الحقيقي ، اذ لو كان استوى معناه استولى كما يزعم الجهمية والمعطلة لوجب أن يذكر هذا اللفظ ولو في موضع واحد كي يحمل لفظ الاستواء في بقية المواضع عليه.

هذا ما يقتضيه الكلام البليغ أن يؤتى في أحد المواضع بلفظ يعين المراد نصا فإذا جاءت بعد ذلك ألفاظ مجملة يحتمل هذا المعنى وغيره حملت عليه ، ونظير هذا أنهم يضمرون في بعض المواضع بعد الذكر في بعضها حملا على المذكور في الكلام واعتمادا على فهم المخاطب المقصود بهذه الضمائر ، ولكنهم لا يضمرون أبدا باطراد دون ذكر سابق للمضمر المحذوف ، بل قد يكثرون من ذكر الشيء في

١٩٩

مواضع حذفه ، حتى إذا ألف وصار مشهورا حذفوه تخفيفا وإيجازا اتكالا على وضوح المراد.

هذا وقد أبطل شيخ الإسلام ابن تيمية تأويل الاستواء بالاستيلاء من عشرين وجها ، أفردها بمصنف خاص ، وفيها الكفاية كل الكفاية لمن أراد أن يعرف زيغ هؤلاء المؤولة وبعدهم عن جادة الحق ، وكفى بمذهبهم شناعة أن الله يقول استوى ، وهم يقولون ما استوى ولكن استولى ، فهل كان الله عاجزا عن زيادة لام يزيل بها الاشكال ويوضح المراد.

وما أحسن ما قيل أن لام الجهمية كنون اليهودية ، فاليهود قيل لهم قولوا حطة فقالوا حنطة ، وهؤلاء قيل لهم : استوى ، فقالوا استولى ، تشابهت قلوبهم.

* * *

فصل

هذا وثانيها صريح علوه

وله بحكم صريحة لفظان

لفظ العلى ولفظه الأعلى معر

فة لقصد بيان

ان العلو له بمطلقه على الت

عميم والاطلاق بالبرهان

وله العلو من الوجوه جميعها

ذاتا وقهرا مع علو الشأن

لكن نفاة علوه سلبوه أك

مال العلو فصار ذا نقصان

حاشاه من أفك النفاة وسلبهم

فله الكمال المطلق الرباني

الشرح : هذا هو النوع الثاني من الدلائل النقلية وهو التصريح بالعلو في قوله تعالى : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة : ٢٥٥] وقوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] فكل من هذين الاسمين الكريمين صريح في إثبات علوه تعالى ، وقد جيء بكل منها معرفة لافادة أن الثابت له سبحانه هو العلو المطلق من كل وجه علو الذات وعلو القدر والعظمة وعلو القهر والجبروت ، ولكن المعطلة بناء على أصلهم الفاسد يحملون العلو في هذه الآيات على المعنيين

٢٠٠