شرح القصيدة النونيّة - ج ١

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ١

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥
الجزء ١ الجزء ٢

قد قال ان الله حقا لم يزل

متكلما أن شاء ذو إحسان

جعل الكلام صفات فعل قائم

بالذات لم يفقد من الرحمن

وكذاك نص على دوام الفعل

بالاحسان أيضا في مكان ثان

وكذا ابن عباس فراجع قوله

لما أجاب مسائل القرآن

وكذاك جعفر الامام الصادق ال

مقبول عند الخلق ذو العرفان

قد قال لم يزل المهيمن محسنا

برا جوادا عند كل أوان

الشرح : وأما الفرقة الثانية من القائلين بأن فعله تعالى حادث وقائم بذاته ، فهم أصحاب الحديث كالإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه ، هؤلاء ذهبوا الى ما دلت عليه النصوص الصريحة وحكم به العقل السليم من أن الله لم يزل متصفا بصفات كماله كلها سواء ما كان فيها لازما لذاته او ما كان متعلقا بمشيئته وقدرته ، ليس لما يحدث في ذاته عندهم ابتداء ، بل يقولون لم يزل الله متكلما اذا شاء بما شاء وكيف شاء ، وكذلك لم يزل فاعلا لما أراد ، فكل من فعله وكلامه صفة كمال له ، لا يجوز خلوه عنها في وقت من الأوقات ، لأن الخلو عن الكمال الممكن نقص مستحيل على الله ، ولا يلزم من دوام فعله وكلامه قدم شيء من المفعولات ، فإن الله لم يزل يفعل الأشياء ويحدثها شيئا بعد شيء ، وكذلك لم يزل متكلما بما شاء ، فكل من الكلام والفعل قديم النوع ، ولكن آحاده لم تزل تحدث في ذاته سبحانه بلا بداية ولا انقطاع ، وهذا مستلزم للتسلسل في الآثار ، وهو ليس بممتنع ، بل دل الشرع والعقل على ثبوته ، وانما الممتنع هو التسلسل في العلل والمؤثرين.

وقوله في البيت الثاني : ذو احسان خبر ثان لأن ، اي لم يزل محسنا كما لم يزل متكلما ، وقوله في البيت الرابع وكذاك نص الخ. يعني به أحمد رحمه‌الله أنه نص في مكان آخر من كتابه الذي رد به على الجهمية على دوام فعله سبحانه بدوام إحسانه كما نص على ذلك ابن عباس رضي الله عنهما فيما أجاب به على مسائل القرآن وكذلك جعفر الصادق من أئمة أهل البيت المشهود لهم بالورع والتقوى والمعرفة الحقة وقال لم يزل المهيمن محسنا برا جوادا في كل وقت وحال ، وهذا

١٦١

اثبات لدوام فعله سبحانه واستمراره في أوقات الزمان كلها بلا بداية ولا انقطاع.

* * *

وكذا الإمام الدارمي فإنه

قد قال ما فيه هدى الحيران

قال الحياة مع الفعال كلاهما

متلازمان فليس يفترقان

صدق الإمام فكل حي فهو

فعال وذا في غاية التبيان

إلا إذا ما كان ثم موانع

من آفة أو قاسر الحيوان

والرب ليس لفعله من مانع

ما شاء كان بقدرة الديان

ومشيئة الرحمن لازمة له

وكذاك قدرة ربنا الرحمن

الشرح : وممن نص على دوام فاعلية الرب ، وأنه لم يعطل عنها في وقت من الأوقات ـ الإمام الكبير عثمان بن سعيد الدارمي ـ المشهور في رده على الجهمية والقدرية ، وقد قال في هذا كلاما جيدا ، وأدلى بحجة قوية ، مبناها على أن الفعل لازم للحياة ، فكل حي لا بد أن يكون فعالا ، وما ليس بفعال فهو ليس بحي ، فالحياة والفعل متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر في الوجود ، اللهم إلا إذا وجد مانع يمنع الحي من الفعل من آفة تصيبه أو قاسر يقسره ، وذلك لا يتصور في حقه سبحانه فإن حياته أكمل حياة فيجب أن تستلزم أكمل الأفعال ويستحيل أن تطرأ عليه آفة يعجز معها عن الفعل كما لا يتصور أن يقسره قاسر ويكرهه على عدم الفعل بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فالمشيئة لازمة له لا مكره له ولا غالب ، والقدرة كذلك من صفاته اللازمة فلا يعتريه وهن ولا عجز ولا قصور ، ومع نفوذ المشيئة وتمام القدرة وانتفاء كل الموانع التي تمنع من تعلقها بالممكن لا يتصور التعطيل عن الفعل ، فثبت أنه سبحانه لم يزل فعالا لأنه لم يزل حيا قادرا مريدا.

* * *

هذا وقد فطر الإله عباده

ان المهيمن دائم الإحسان

١٦٢

أو لست تسمع قول كل موحد

يا دائم المعروف والسلطان

وقديم الإحسان الكثير ودائم ال

جود العظيم وصاحب الغفران

من غير انكار عليهم فطرة

فطروا عليها لا توصي ثان

أو ليس فعل الرب تابع وصفه

وكماله أفذاك ذو حدثان

وكماله سبب الفعال وخلقه

أفعالهم سبب الكمال الثاني

أو ما فعال الرب عين كماله

أفذاك ممتنع على المنان

أزلا إلى أن صار فيما لم يزل

متمكنا والفعل ذو امكان

الشرح : بعد أن قرر المؤلف مذهب السلف القويم في دوام فاعلية الرب وكلامه وأورد من النقول عن بعض أئمة أهل السنة كأحمد وغيره ما يشهد لصحته أراد أن يستدل عليه كذلك من طريق الفطرة والعقل ، أما الفطرة فإننا نسمع الناس في دعائهم واستغاثتهم ، وطلبهم الحاجات من الله عزوجل يلهجون بهذه العبارات من قولهم : يا قديم الإحسان ، يا قديم المعروف والسلطان ، يا دائم الجود والامتنان إلى غير ذلك مما يفهم أنهم فطروا على اعتقاد ذلك فطرة دون أن يوصي بعضهم بعضا بذلك ، أو يعلمه إياه ودون أن ينكر بعضهم على بعض.

وأما دليل العقل فهو أن فعل الرب سبحانه تابع لوصفه وكماله ، فإذا كان لم يزل موصوفا بصفات الكمال ونعوت الجلال بحيث لا يتصور خلوه عنها لحظة من اللحظات في جانب الأزل أو الأبد فهو إذا لم يزل فعالا لأن الفعل من جملة الصفات التي لم يزل بها موصوفا ، والفعل من لوازم كماله سبحانه فكماله في ذاته وصفاته هو سبب كونه فاعلا فهو سبحانه كمل ففعل ، وأما الكمال في المخلوقات والمكونات في أعيانها وأوصافها فهو تابع لكمال المكون ، فإن أثر الكمال لا يكون إلا كاملا.

وإذا كان الفعل عين كماله سبحانه لأن الكمال مستتبع له ولا يحصل إلا به. فكيف إذا يجوز القول بامتناع الفعل منه في الأزل ، ثم يصير هذا الفعل ممكنا فيما لا يزال من غير تجدد سبب أوجب ذلك الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى

١٦٣

الامكان الذاتي لا تجدد قدرة ولا إرادة ولا غيرهما.

* * *

تالله قد ضلت عقول القوم إذ

قالوا بهذا القول ذي البطلان

ما ذا الذي أضحى له متجددا

حتى تمكن فانطقوا ببيان

والرب ليس معطلا عن فعله

بل كل يوم ربنا في شان

والأمر والتكوين وصف كماله

ما فقد ذا ووجوده سيان

وتخلف التأثير بعد تمام مو

جبه محال ليس في الإمكان

والله ربي لم يزل ذا قدرة

ومشيئة ويليهما وصفان

العلم مع وصف الحياة وهذه

أوصاف ذات الخالق المنان

وبها تمام الفعل ليس بدونها

فعل يتم بواضح البرهان

فلأي شيء قد تأخر فعله

مع موجب قد تم بالاركان

ما كان ممتنعا عليه الفعل بل

ما زال فعل الله ذا امكان

الشرح : يعني أن هؤلاء الذين قالوا بأن الله كان معطلا عن الفعل في الأزل وان الفعل كان ممتنعا منه فيما لم يزل ، ثم صار ممكنا فيما لا يزال قد قالوا بما يعلم كل عاقل بطلانه وبرهنوا على سخافة عقولهم اذ لو كان الفعل ممتنعا عنه في الأزل فما الذي صيره ممكنا مع أنه لم يتجدد في ذاته شيء يقتضي هذا الانقلاب من الامتناع إلى الإمكان ، وهذا الإلزام لا مخلص لهم منه فإن أجابوا عنه بأن نفس الأزل هو المانع من التأثير في الممكن لأن من شرائط التأثير فيه أن يكون مسبوقا بالعدم قلنا سبق العدم أمر عدمي لا يصلح أن يكون شرطا للتأثير ، ولكن الذي يصلح شرطا هو الإمكان والامكان ثابت في الأزل فثبت أن الرب سبحانه لم يكن معطلا عن فعله في وقت من الأوقات بل كل يوم هو في شأن يدبر ما يشاء ويحدث من الأمور ما تقتضيه حكمته ، ويقال لهؤلاء أيضا أليس الأمر والتكوين من صفات الكمال بدليل أن المتصف بهما أكمل من الفاقد لهما ، وحينئذ فالله لم يزل آمرا مكونا والأمر والتكوين هما الموجب التام للتأثير وهو

١٦٤

مستلزم لوجود الأثر لأن تخلف التأثير بعد تمام علته الموجبة له محال غير ممكن ، ويقال لهم كذلك أن الله لم يزل قادرا مريدا عالما حيا ، وهذه الأربعة صفات ذاتية له ، وليس يحتاج الفاعل في كونه فاعلا إلى غير هذه الأربع فهي التي بها تمام الفعل لأنها أركانه التي لا يتحقق بدونها ، وإذا كان ذلك فلما ذا تأخر فعله سبحانه عن وجود الموجب التام لجميع أركانه ، فإن قلتم : تأخر الفعل لأنه كان ممتنعا في الأزل ، قلنا : كذبتم بل لم يزل الفعل ممكنا ، إذ لو كان ممتنعا في الأزل لم يقبل الوجود فيما لا يزال لأن الممتنع لا ينقلب ممكنا.

* * *

والله عاب المشركين بأنهم

عبدوا الحجارة في رضا الشيطان

ونعى عليهم كونها ليست بخا

لقة وليست ذات نطق بيان

فأبان أن العقل والتكليم من

أوثانهم لا شك مفقودان

وإذا هما فقدا فما مسلوبها

بإله حق وهو ذو بطلان

والله فهو إله حق دائما

أفعنه ذا الوصفان مسلوبان

أزلا وليس لفقدها من غاية

هذا المحال وأعظم البطلان

الشرح : ويقال لهؤلاء أيضا إذا كان الله معطلا عن الفعل والكلام في الأزل لم يكن إلها حقا ولا واجب العبادة فإن الالهية الحقة واستحقاق العبادة لا يكون إلا مع القدرة على الخلق والتكليم ، ولهذا عاب الله المشركين الذين يعبدون الأصنام ارضاء للشيطان بأنهم عبدوا ما لا يستحق العبادة لأنه لا يقدر على خلق شيء ولا يستطيع تكليم عابديه قال تعالى : (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [الأعراف : ١٩١] وقال : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل : ١٧] وقال : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [الفرقان : ٣] وقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) [الاحقاف : ٤] وقال تعالى في شأن الذين عبدوا العجل من قوم موسى عليه‌السلام : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا

١٦٥

يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) [الأعراف : ١٤٨] وقال حكاية عما قاله إبراهيم عليه‌السلام لقومه : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) [الأنبياء : ٦٣].

فدلت هذه الآيات الكريمة على أن الفعل والتكليم مفقودان من هذه الأوثان وفقدهما يدل على أنها ليست بآلهة حقة ، بل هي آلهة باطلة ، ومعلوم أن الله إله حق دائما ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان موصوفا بالفعل والتكليم دائما لأن فاقدهما لا يكون إلها حقا كما تقدم ، فكيف يجوز أن يقال ان هذين الوصفين اللذين عليهما مدار الالوهية مسلوبان عنه أزلا ، ومعلوم أن الأزل لا غاية له ولا نهاية ، هذا من أمحل المحال وأعظم البطلان.

* * *

ان كان رب العرش حقا لم يزل

أبدا إله الحق ذا سلطان

فكذاك أيضا لم يزل متكلما

بل فاعلا ما شاء ذا احسان

والله ما في العقل ما يقضي لذا

بالرد والابطال والنكران

بل ليس في المعقول غير ثبوته

للخالق الأزلي ذي الإحسان

هذا وما دون المهيمن حادث

ليس القديم سواه في الأكوان

والله سابق كل شيء غيره

ما ربنا والخلق مقترنان

والله كان وليس شيء غيره

سبحانه جل العظيم الشأن

الشرح : فإذا كان الله لم يزل ولا يزال له الالهية الحقة والسلطان الأعظم ، فيجب كذلك أن يكون لم يزل متكلما بما شاء وفاعلا لما شاء ، ولم يزل محسنا برا رحيما ، وليس في العقل ما يحيل هذا أو يأباه ، كيف والعقل إنما يقتضي ثبوته للخالق جل وعلا ، لأنه يقر له بالأزلية ذاتا وصفات. والأزلية تنافي حدوث الصفات وابتداؤها في ذاته ، ولا يلزم من القول بقدم الفعل القول بقدم شيء من المفعولات ، فإن الله هو وحده القديم ، وكل ما سواه حادث ، وليس وجود الأشياء مقارنا بوجوده ، بل وجوده سابق عليها جميعا كما جاء في الحديث «كان

١٦٦

الله ولم يكن شيء معه» أي مساوق له في الوجود سبحانه ، بل متأخر عنه. ولكنا مع ذلك لا نقول بوجود فاصل لا نهاية له في الزمان بين وجود الله ووجود العالم كما يقوله من ذهب إلى أن العالم وجد من عدم ، فإن هذا يستلزم كما قدمنا أن يكون الباري معطلا عن الفعل أو غير قادر عليه مدة لا تقاس بها مدة فاعليته ، بل نقول إنه سبحانه يكون الشيء فيكون عقب تكوينه ، لا مع تكوينه ولا متراخيا عنه فإن المؤثر التام يجب أن يكون أثره عقيب تأثيره بلا مهلة ، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢].

* * *

لسنا نقول كما يقول الملحد ال

زنديق صاحب منطق اليونان

بدوام هذا العالم المشهود وال

أرواح في أزل وليس بفان

هذي مقالات الملاحدة الألى

كفروا بخالق هذه الأكوان

الشرح : يعني اننا وان قلنا بقدم الفعل الذي هو صفة لله ، لا نقول بأن العالم المفعول قديم مع الله ، وأنه مقارن له في الزمان ، كما يقول ذلك أرسطو صاحب المنطق فالمشهور عن أرسطو أنه كان يرى أن العالم مساوق لله في الوجود أزلا وأبدا ، والله عنده ليس خالقا للعالم ، وإنما هو محرك فقط ، ولهذا كان يسميه المحرك الأول أو العلة الأولى أو الصورة المحضة. ولا يعني أرسطو بذلك أن الله فعل في العالم الحركة ، فإن الله ليس بعلة فاعلية عنده ، وإنما هو علة غائية.

ويقول أرسطو في بيان ذلك : ان الله لما كان صورة محضة كان في غاية الكمال وكانت المادة في الجهة الأخرى أقرب إلى العدم منها إلى الوجود إذ كانت امكانا وكانت وجودا بالقوة لا بالفعل ، فتركت بدافع الشوق إلى محاكاة تلك الصورة المحضة والقرب منها قدر الطاقة ، وكانت هذه الحركة الشوقية هي التي أبرزت هذه المادة إلى الوجود بالفعل وسارت بها في طريق التقدم والارتقاء. ولا ريب أن هذا الكلام هو إلى الشعر والخيال أقرب منه إلى الفلسفة ، فكيف

١٦٧

خان صاحب المنطق منطقه ولم يسعده في هذه المشكلة حتى تورط فيما تورط فيه من كلام هو إلى الهذيان أقرب منه إلى الجد.

فليبين لنا أرسطو ما الذي بث الشوق والحنين في مادته المزعومة حتى تحركت تحاول التشبه بتلك الصورة المحضة ، وكيف كانت المادة أو الهيولى الأولى قبل حلول الصورة فيها إمكانا أو قوة ، والإمكان معنى من المعاني التي توصف بها المادة وليس هو المادة. ولسنا هنا بصدد الرد على هذه الحماقة من فيلسوف طار صيته وذاع ، حتى كاد أن يعبده أتباعه من متفلسفة الإسلام المارقين من أمثال الفارابي وابن سينا ، ويزعمون لآرائه العصمة والقداسة ، ويقدمونها على الوحي المنزل ، ولا ريب أن هذا الذي قال به أرسطو في قدم العالم هو رأي ملاحدة الدهرية الذين ينكرون وجود الخالق جل وعلا ويقولون (ان هي إلا حياتنا الدنيا وما يهلكنا إلا الدهر).

* * *

وأتي ابن سينا بعد ذاك مصانعا

للمسلمين فقال بالامكان

لكنه الأزلي ليس بمحدث

ما كان معدوما ولا هو فان

وأتى بصلح بين طائفتين

بينهما الحروب وما هما سلمان

أنى يكون المسلمون وشيعة ال

يونان صلحا قط في الإيمان

والسيف بين الأنبياء وبينهم

والحرب بينهم فحرب عوان

الشرح : جاء ابن سينا بعد أرسطو ، وكان كما قلنا تلميذا وفيا لفلسفة أستاذه ، ولكنه من جهة أخرى كان يريد مصانعة المسلمين ومداهنتهم حتى لا يفطنوا لمروقه والحاده ، فتكايس بمحاولة التوفيق بين الفلسفة التي تقول بقدم العالم ومقارنته لله في الزمان ، وبين الدين الذي يجعله مخلوقا حادثا ، بعد أن لم يكن ، فزعم أن الله علة تامة لوجود العالم ، والعلة التامة يجب أن يقارنها معلولها ولا يتخلف عنها ، وعلى هذا فيمكن القول بأن العالم أزلي مقارن لله في الزمان ، كما تقول الفلسفة ، ولكنه من جهة أخرى متأخر وممكن حادث بالذات أما كونه

١٦٨

متأخرا فلأن المعلول قد استفاد الوجود من علته ، ولا نعني بالحدوث الذاتي إلا استفادة الوجود من الغير. ومن العجيب ان ابن سينا مع قوله بقدم العالم يسمي الله خالقا وفاعلا ويسمي العالم مخلوقا ومفعولا ، فمتى خلق الله العالم على رأيه أو فعله إذا كان وجوده مقارنا لوجوده ، وكيف يمكن أن يكون الله خالقا للعالم مع القول بأنه علة والخلق إنما يعتمد على القصد والاختيار ، وأما العلة فيصدر عنها معلولها بالإيجاب المنافي للاختيار ، والعالم عنده كما هو أزلي مساوق لعلته في جانب الأزل ، هو كذلك أبدي غير قابل للفناء ، لأن المعلول لعلة تامة يجب أن يبقى ببقاء علته.

وهكذا يظن ابن سينا أنه أفلح بهذا التمويه والمغالطة في لبس الأمر على المسلمين ولكن الأذكياء من علماء هذه الأمة من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية استطاعوا كشف تلبيساته وفضح سرائره ونياته.

ومن العجيب أيضا أن يزعم هذا الرجل أنه يحاول الصلح والتوفيق بين طائفتين لا يعقل أن تهدأ بينهما الحرب أو ان يتم سلام ، فهذه طائفة تؤمن بالوحي والقرآن وتعتصم بعرى الإسلام والإيمان ، وهذه طائفة كافرة تدين بما ضرطت به عقول فلاسفة اليونان مما كله أو أغلبه كفر والحاد وهذيان. فلا يمكن أن يوضع السيف بينهم وبين أتباع الأنبياء أبد الدهر ، وستبقى بينهم الحرب العوان حتى لا تكون فتنة وحتى يظهر دين الله على الدين كله ولو كره الكافرون.

* * *

وكذا أتى الطوسي بالحرب الصر

يح بصارم منه وسل لسان

وأتى إلى الإسلام يهدم أصله

من أسه قواعد البنيان

عمر المدارس للفلاسفة الألى

كفروا بدين الله والقرآن

وأتى إلى أوقاف أهل الدين

ينقلها إليهم فعل ذي أضغان

وأراد تحويل الإشارات التي

هي لابن سينا موضع الفرقان

وأراد تحويل الشريعة بالنوا

مس التي كانت لذي اليونان

١٦٩

لكنه علم اللعين بأن ها

ذا ليس في المقدور والامكان

إلا إذا قتل الخليفة والقضا

ة وسائر الفقهاء في البلدان

فسعى لذلك وساعد المقدور بالأمر الذي هو حكمة الرحمن الشرح : بعد أن فرغ المؤلف من الكلام على ابن سينا القرمطي ، وما كان يكيد به للاسلام وأهله في الخفاء بسبب اتباعه للفلسفة مع إيهامه أنه حريص على اتباع الشريعة ، وأنه يحاول جاهدا التوفيق بينها وبين الفلسفة ، أخذ في الحديث على ذيل من ذيوله الذين تعلقوا بفلسفته ، وهو الخواجة نصير الدين الطوسي ، فذكر أن هذا الرجل لم يكن يصانع المسلمين كسلفه ، ولكنه أعلنها على الإسلام وأهله حربا صريحة سافرة بسيفه ولسانه ، فكان يسعى جهده لكي يهدم الاسلام من أساسه ، فأنشأ المدارس ، لا لدراسة الكتاب والسنة وعلوم الشريعة ، ولكن لدراسة الكفر والإلحاد باسم الفلسفة ، وحول الأحباس التي كانت لأهل الدين إلى طلبة هذه المدارس حسدا منه وبغيا.

وقد أراد هذا الخبيث أن يجعل من كتاب الإشارات الذي ألفه سيده ابن سينا كتابا مقدسا بدلا من القرآن ، يعني بحفظه ودراسته وتعليمه ، كما أراد أن ينسخ الشريعة ويستعيض عنها بالنظم والقوانين التي كانت عند اليونان والرومان ، ولكنه علم أن ذلك لا يتم له ولا يقدر عليه إلا إذا أزال دولة الإسلام بقتل رجالاتها من الخليفة والقضاة والفقهاء من سائر البلدان ، فسعى لذلك سعيه باستعداء التتار أتباع جانكيز خان على المسلمين ، وكان يعمل كالمشير لهم ، وساعد على تحقيق غرضه موافقة الاقدار له لحكمة أرادها الله سبحانه وهو أحكم الحاكمين.

* * *

فأشار أن يضع التتار سيوفهم

في عسكر الإيمان والقرآن

لكنهم يبقون أهل مصانع الد

نيا لأجل مصالح الابدان

فغدا على سيف التتار الألف في

مثل لها مضروبة بوزان

١٧٠

وكذا ثمان مئينها في الفها

مضروبة بالعد والحسبان

حتى بكى الإسلام أعداه اليهود

كذا المجوس وعابد الصلبان

فشفى اللعين النفس من حزب الر

سول وعسكر الايمان والقرآن

وبوده لو كان في أحد وقد

شهد الوقيعة مع أبي سفيان

لأقر أعينهم وأوفى نذره

أو أن يرى متمزق اللحمان

الشرح : أراد هذا الخبيث شفاء غيظه المتقد على الإسلام وأهله بمحاولة الاتيان على أصوله وقواعده والقضاء على حملته ، فأشار على أعوانه من التتار ، وهم أهل جهل وغلظة أن يضعوا سيوفهم في معسكر الايمان والقرآن من رجال الفقه والدين مع الابقاء على ذوي الحرف وأرباب الصنائع من أجل عمارة البلدان ومصالح الأبدان.

وقد أخذ هؤلاء السفكة من التتار بمشورة هذا الخبيث الملحد ، فأعملوا سيوفهم في أهل الاسلام في كل بلد دخلوه حتى قدر عدد القتلى بسيوف هؤلاء المجرمين بما يقرب من مليون وثمانمائة الف شخص ونكب الاسلام بهم نكبة جعلت أعداءه من اليهود والنصارى والمجوس يبكونه ويرثون لحاله ، وبذلك تمكن هذا اللعين من شفاء نفسه من حزب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين هم جند الإيمان وعسكر القرآن وكان يود لو أنه شهد وقعة أحد مع أبي سفيان وحزبه ، وكان جنديا في جيش الباطل اذا لصال وجال وأقر أعين إخوانه من أهل الشرك والضلال وأوفى نذره في الكيد للاسلام وجهاد أهله ، أو يرى مقتولا متمزق اللحمان.

* * *

وشواهد الأحداث ظاهرة على

ذا العالم المخلوق بالبرهان

وأدلة التوحيد تشهد كلها

بحدوث كل ما سوى الرحمن

أو كان غير الله جل جلاله

معه قديما كان ربا ثان

اذ كان عن رب العلى مستغنيا

فيكون حينئذ لنا ربان

١٧١

والرب باستقلاله متوحد

أفممكن أن يستقل اثنان

لو كان ذاك تنافيا وتساقطا

فإذا هما عدمان ممتنعان

والقهر والتوحيد يشهد منهما

كل لصاحبه هما عدلان

ولذلك اقترنا جميعا في صفا

ت الله فانظر ذاك في القرآن

فالواحد القهار حقا ليس في الا

مكان أن تحظى به ذاتان

الشرح : بعد هذا الاستطراد الطويل بذكر مذاهب الفلاسفة والدهرية في قدم العالم وموقف ابن سينا ونصيره نصير الدين الطوسي من الاسلام وأهله رجع الى ما كان فيه من بيان أن الله هو وحده القديم ، وأن كل ما سواه حادث ، فقال أن أمارات الحدوث وهو الوجود بعد العدم بادية على كل جزء من أجزاء هذا العالم المخلوق المصنوع ، فإن هذه التغيرات الدائبة التي تجري في هذا العالم علوية وسفلية من ولادة وموت وزرع وحصاد ، وهبوب رياح ونزول أمطار ، وشروق وغروب وحر وبرد ، وزلازل وصواعق الخ ، تشهد بحدوثه اذ لو كان قديما لما قبل هذه التغيرات ، كما أن أدلة التوحيد المثبتة لانفراده سبحانه بالربوبية والقهر شاهدة كذلك بحدوث كل ما سواه ، اذ لو كان معه قديم غيره لكان مستغنيا في وجوده وبقائه عنه فيكون ربا معه ، ومن خصائص الرب أن يستقل بالخلق والايجاد ، فلو كان هنا ربان لحاول كل منهما أن يستقل بالفعل ولا يتم له ذلك ما دام له شريك مساو له في القدرة ومكافئ في الربوبية فيتمانعان ويتعارضان ، فإذا هما عدمان ممتنعان قال تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) [المؤمنون : ٩١] وحينئذ فلا بد أن ينفرد أحدهما بالقهر والعلو على الآخر ويكون الآخر عاجزا مغلوبا ، ولهذا كان كل من القهر والتوحيد عدلا للآخر ودالا على صاحبه فكل واحد قهار وكل قهار واحد. وهذا هو سر مجيئهما مقترنين في كتاب الله تعالى كما قال سبحانه : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [الرعد : ١٦] وكما قال : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [الزمر : ٤]

١٧٢

فصفة القهر والعلو لا يمكن أن يتصف بها اثنان.

* * *

فصل

في اعتراضهم على القول بدوام فاعلية الرب تعالى

وكلامه والانفصال عنه

فلئن زعمتم أن ذاك تسلسل

قلنا صدقتم وهو ذو امكان

كتسلسل التأثير في مستقبل

هل بين ذلك قط من فرقان

والله ما افترقا لذي عقل ولا

نقل ولا نظر ولا برهان

في سلب امكان ولا في ضده

هذي العقول ونحن ذو أذهان

فليأت بالفرقان من هو فارق

فرقا يبين لصالح الاذهان

وكذاك سوى الجهم بينهما ك

ذا العلاف في الإنكار والبطلان

ولأجل ذا حكما بحكم باطل

قطعا على الجنات والنيران

فالجهم أفنى الذات والعلاف

للحركات افنى قاله الثوران

الشرح : هذا بيان لشبهة قد ترد من جانب المانعين لدوام فاعلية الرب وكلامه بأن ذلك يستلزم التسلسل في جانب الماضي بلا بداية ، فإنه ما دام نوع الفعل والكلام قديما يجب أن يكون كل حادث منهما مسبوقا بحادث لا ينتهي ذلك الى حادث يعتبر أول الحوادث.

والجواب عن الشبهة المذكورة أننا نلتزم لزوم التسلسل ، ولكن نمنع استحالته فإن هذا تسلسل في الحوادث والآثار وهو ممكن في جانب الماضي كما هو ممكن في جانب المستقبل بلا فارق أصلا ، فإذا كان الخصوم يسلمون بامكان تسلسل التأثير في المستقبل بمعنى أنه ما من حادث الا وبعده حادث لا ينتهي ذلك الى حادث يعتبر آخر الحوادث فيجب عليهم أن يسلموا كذلك بامكانه أيضا في جانب الماضي اذ لا يدل على الفرق بينهما شيء من عقل ولا نقل ولا يثبت ذلك

١٧٣

الفرق بنظر ولا برهان والا فمن ادعى ذلك الفرق فليبينه لنا بيانا يرتضيه العقل. وقد سوى بينهما الجهم بن صفوان وأبو الهذيل العلاف لكن لا في الثبوت والامكان بل في الانكار والبطلان فحكموا بامتناع كل منهما ، وبنوا على هذا حكمهم الجائر بفناء الجنة والنار وأهلهما ، فالجهم حكم بفناء الذات ، وأما أبو الهذيل فقال بانقطاع الحركات ، وقد سبق الكلام على ذلك فلا نطيل فيه.

* * *

وأبو علي وابنه والأشعري

وبعده ابن الطيب الرباني

وجميع أرباب الكلام الباطل ال

مذموم عند أئمة الإيمان

فرقوا وقالوا ذاك فيما لم يزل

حق وفي أزل بلا امكان

قالوا لأجل تناقض الأزلي وال

أحداث ما هذان يجتمعان

لكن دوام الفعل في مستقبل

ما فيه محذور من النكران

الشرح : انقسم الناس في تسلسل الحوادث والآثار الى ثلاث طوائف فأهل السنة والجماعة ذهبوا الى امكانه في جانب الماضي والمستقبل جميعا بلا فارق ، وذهب الجهم وأبو الهذيل الى القول بامتناعه في جانب الماضي والمستقبل جميعا كما تقدم. وأما أبو علي الجبائي المعتزلي شيخ الجبائية وولده أبو الحسن الأشعري وتلميذه أبو بكر الباقلاني وجميع أهل الكلام الباطل المذموم ففرقوا بينهما فذهبوا الى جوازه في جانب المستقبل وبامتناعه في جانب الأزل وكانت شبهتهم في ذلك أن الدليل القطعي قد قام على حدوث العالم بجميع أجزائه والقول بتسلسل الحوادث في جانب الأزل بلا بداية معناه القول بقدم العالم ، والقدم والحدوث نقيضان لا يجتمعان لهذا منعوا دوام الفعل في الماضي لما يلزمه من قدم المفعول ، وأما دوام الفعل في المستقبل وتسلسله الى غير نهاية ، فهذا لا محذور فيه ولا يقتضي الدليل انكاره ، فالعقل يجيز أن يكون بعد كل حادث حادث دون انقطاع في جانب الابد.

ومن شبههم أيضا انه إذا كان كل فرد من أفراد الفعل حادثا ، فكيف يكون

١٧٤

نوعه قديما مع أن النوع ليس الا مجموعة الافراد ، فإذا كان كل فرد حادثا مسبوقا بالعدم ، كان الكل كذلك ، اذ لا يصح أن توصف الجملة بحكم غير حكم الافراد ، فإذا قلت مثلا كل زنجي أسود ، كان الكل أسود بالضرورة ، راجع كتابنا ابن تيمية السلفي في مبحث قيام الحوادث بذاته تعالى.

* * *

فانظر إلى التلبيس في ذا الفرق تر

ويجا على العوران والعميان

ما قال ذو عقل بأن الفرد ذو

أزل لذي ذهن ولا أعيان

بل كل فرد فهو مسبوق بفرد

د قبله أبدا بلا حسبان

ونظير هذا كل فرد فهو ملح

وق بفرد بعده حكمان

النوع والآحاد مسبوق وملح

وق وكل فهو منها فان

والنوع لا يفنى أخيرا فهو لا

يفنى كذلك أولا ببيان

وتعاقب الآنات أمر ثابت

في الذهن وهو كذلك في الأعيان

الشرح : هذا رد لتلك الشبهة التي بنى عليها الأشعري وموافقوه الفرق بين الدوام في جانب الأزل وبين الدوام في جانب المستقبل ، وملخص الدفع أن هذه التفرقة مغالطة وتلبيس لا يروج الا على السذج البسطاء من الجهلة وانصاف العلماء ، اذ لم يقل أحد من العقلاء الذين ذهبوا إلى دوام فاعلية الرب تعالى وتسلسل أفعاله ماضيا ومستقبلا أن شيئا من أعيان المخلوقات وأفرادها قديم ، لا ذهنا ولا خارجا ، بل قالوا أن كل فرد منها فهو مسبوق بفرد قبله الى غير بداية يمكن أن يحصرها العد والحساب ، مع قولهم بأن كل فرد منها حادث. ونظير هذا قولهم أن كل فرد فهو ملحوق بفرد آخر يجيء بعده بلا نهاية كذلك فالآحاد كلها لها ابتداء وانتهاء ، سواء في ذلك السابق منها واللاحق ، وأما النوع فهو مستمر أزلا وأبدا بلا ابتداء ولا انتهاء ، وقس ذلك على آنات الزمان ، وهي أجزاؤه ، فإنها تتعاقب في الوجود شيئا بعد شيء لا الى نهاية مع امتدادها كذلك في جانب الأزل بلا بداية ، فليست تبتدئ من آن هو أول الآنات ، ولا تنتهي

١٧٥

الى آن هو آخرها ، مع ان كل آن منها له بداية وانتهاء ، لأنه واقع بين آنين ، فكل آن منها يبتدئ من نهاية الآن الذي قبله بابتداء الذي بعده ، ومع ذلك فجملة الآنات لا أول لها ولا آخر لا في الذهن ولا في الخارج ، فكل فرد من أفراد المخلوقات حادث موجود بعد أن لم يكن.

وأما النوع الذي هو من لوازم الكمال لأنه وصفه تعالى فلا مبتدأ له ولا منتهى ، بل لم يزل الله فعالا لما يريد ، لأنه لا يمكن أن يكون في وقت من الأوقات فاقدا لشيء من الكمال.

* * *

فإذا أبيتم ذا وقلتم أول ال

آنات مفتتح بلا نكران

ما كان ذاك الآن مسبوقا يرى

الا بسلب وجوده الحقاني

فيقال ما تعنون بالآنات هل

تعنون مدة هذه الأزمان

من حين أحداث السموات العلى

والأرض والأفلاك والقمران

ونظنكم تعنون ذاك ولم يكن

من قبلها شيء من الأكوان

هل جاءكم في ذاك من أثر ومن

نص ومن نظر ومن برهان

هذا الكتاب وهذه الآثار والمع

قول في الفطرات والأذهان

أنا نحاكمكم إلى ما شئتموا

منها فكل الحق في تبيان

الشرح : لما مثل المؤلف لتعاقب الحوادث وتسلسلها فيما لم يزل ولا يزال بلا بداية ولا نهاية بتعاقب آنات الزمان ، كذلك قال للخصوم المانعين : فإذا أبيتم هذا القياس ومنعتم التسلسل في المقيس عليه ، وهو الآنات ، وقلتم أن أول الآنات مفتتح وله بداية ، ولم يكن هذا الآن الأول مسبوقا بآن قبله ، وانما كان مسبوقا بعدم وجود ، فيقال لكم : ما ذا تعنون بالآنات التي أنكرتم الحكم عليها بالتسلسل هل تعنون بها مدة الأزمنة الكائنة منذ خلق الله السموات والأرض وما فيهما من الأشياء ، ولا نظنكم تعنون بالزمان الا ذلك بدليل أنكم تقيسون الزمان بحركات الافلاك ودورانها ، فهذا يفيد أن الزمان عندكم حادث بحدوث هذه

١٧٦

الافلاك ، وأنه قبل خلق السموات والأرض لم يكن في زعمكم شيء من الأكوان موجودا ونحن نسألكم : هل عندكم على ذلك دليل من نقل أو عقل ، فهذا كتاب الله عزوجل وهذه الآثار المروية عن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وهذه هي الفطرة الانسانية التي فطر الله الناس عليها ، وهذه هي بداية العقول ومسلماتها ، فأين تجدون زعمكم في شيء من هذه الأربع التي هي مرجع كل حجة ومصدر كل دليل ، انا نحاكمكم الى أيها شئتم حتى يتبين الحق ويتضح ، ويظهر أنكم لا ترجعون في قولكم هذا الى دليل معتبر ولا حجة بينة.

* * *

أو ليس خلق الكون في الأيام كا

ن وذاك مأخوذ من القرآن

أو ليس ذلكم الزمان بمدة

لحدوث شيء وهو عين زمان

فحقيقة الأزمان نسبة حادث

لسواه تلك حقيقة الأزمان

واذكر حديث السبق للتقدير والتو

قيت قبل جميع ذي الأعيان

خمسين الفا من سنين عدها المخ

تار سابقة لذي الأكوان

هذا وعرش الرب فوق الماء من

قبل السنين بمدة وزمان

الشرح : يعني أن الأدلة من النقل والعقل دلت على فساد زعم هؤلاء أن السموات والأرض هما أول المخلوقات وأنه لم يكن قبلهما شيء يمكن أن يقاس به الزمان ، فقد ذكر الله عزوجل في عدة مواضع من القرآن أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ، وهذه الأيام التي جعلها الله مدة وظرفا لذلك الخلق هي جملة معينة من الزمان ، وحقيقة الزمان هي نسبة حادث الى آخر ، فلا بد أن تكون هذه الأيام مقدرة بحركة أخرى غير سير الشمس والقمر اذ كانت سابقة عليهما وهذا يدل على وجود أزمنة ومخلوقات قبل خلق السموات والأرض ، وهذا هو ما يشهد له الحديث الصحيح الذي يقول فيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» والحديث الآخر الذي بمعناه «أن الله لما خلق القلم قال له اكتب ، قال

١٧٧

ما اكتب؟ قال اكتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة ، وذلك قبل خلق السموات والأرض بخمسين الف عام وكان عرشه على الماء».

فهذا صريح في وجود مخلوقات قبل السموات والأرض حيث أخبر أن التقدير سابق على وجود هذه الأعيان بخمسين الف سنة ، ووجود العرش كان سابقا على هذا التقديم بدليل قوله «وكان عرشه على الماء» أي عند كتابة القلم للمقادير ، ولا يدري الا الله كم من السنين كان العرش على الماء قبل أن يجري القلم بما جرى به من قدر الله عزوجل.

* * *

والناس مختلفون في القلم الذي

كتب القضاء به من الديان

هل كان قبل العرش أو هو بعده

قولان عند أبي العلا الهمداني

والحق أن العرش قبل لأنه

قبل الكتابة كان ذا أركان

وكتابة القلم الشريف تعقبت

ايجاده من غير فصل زمان

لما براه الله قال أكتب كذا

فغدا بأمر الله ذا جريان

فجرى بما هو كائن أبدا الى

يوم المعاد بقدرة الرحمن

الشرح : اختلف العلماء هل القلم كان قبل العرش أو بعده ، وأيهما كان أول المخلوقات؟ قولان ذكرهما الحافظ أبو العلاء الهمداني ، أصحهما أن العرش كان قبل القلم ، لما في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين الف سنة وعرشه على الماء».

فهذا صريح أن التقدير أنما وقع بعد خلق العرش ، والتقدير وقع عند أول خلق القلم بلا مهلة لما رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «أن أول ما خلق الله القلم فقال له أكتب ، قال يا رب وما ذا أكتب قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة» يعني أنه عند أول خلقه

١٧٨

للقلم قال له اكتب ، بدليل الرواية الأخرى «أول ما خلق الله القلم قال له اكتب» بنصب اوّل على الظرفية ، ونصب القلم على المفعولية. وأما على رواية رفع أول والقلم فيتعين حمله على أنه أول المخلوقات من هذا العالم ـ يعني عالم الأقلام ـ ليتفق الحديثان ، اذ حديث عبد الله بن عمرو صريح في أن العرش سابق على التقدير ، والتقدير مقارن لخلق القلم. وفي اللفظ الآخر «لما خلق الله القلم قال له اكتب» فجرى القلم بما هو كائن الى يوم القيامة بقدرة الله عزوجل.

* * *

أفكان رب العرش جل جلاله

من قبل ذا عجز وذا نقصان

أم لم يزل ذا قدرة والفعل ق

دور له أبدا وذو امكان

فلئن سألت وقلت ما هذا الذي

اداهم لخلاف ذا التبيان

ولأي شيء لم يقولوا إنه

سبحانه هو دائم الاحسان

فأعلم بأن القوم لما أسسوا

أصل الكلام عموا عن القرآن

وعن الحديث ومقتضى المعقول بل

عن فطرة الرحمن والبرهان

وبنوا قواعدهم عليه فقادهم

قسرا الى التعطيل والبطلان

الشرح : أفبعد هذا البيان الذي دل على وجود مخلوقات قبل هذا العالم ووجود زمان قبل هذا الزمان يصح أن يقال أن رب العرش قبل وجود هذا العالم كان عاجزا عن الفعل والايجاد ، فيما لم يزل ، أم الحق هو عكس ذلك تماما ، وهو أنه سبحانه لم يزل قادرا على ايجاد الفعل والفعل لم يزل مقدورا له ممكنا.

فلئن سأل سائل عما حدا بهؤلاء الخصوم إلى المنازعة في تلك القضية التي تتألق وضوحا وتبيانا ، ولما ذا لم يقولوا بما قال به السلف من أنه سبحانه دائم الإحسان وقديمه ، فإنا نقول له : إن هؤلاء المخذولين اغتروا بعقولهم الفاسدة وبما أصلته لهم من أصول باطلة ، فعموا بسبب ذلك عن كل ما يصلح أن يكون حجة ودليلا عموا عن القرآن والحديث ، وعموا عن الفطرة الإنسانية وعما يقتضيه العقل السليم والنظر الصحيح ، لقد أسسوا لهم أصلا في الكلام وبنوا عليه جميع قواعدهم ،

١٧٩

فقادهم هذا الأصيل الفاسد رغما عنهم إلى التعطيل والإنكار ، وهذا الأصل هو :

* * *

نفي القيام لكل أمر حادث

بالرب خوف تسلسل الأعيان

فيسد ذاك عليهم في زعمهم

إثبات صانع هذه الأكوان

إذ أثبتوه يكون ذي الاجساد حا

دثة فلا تنفك عن حدثان

فإذا تسلسلت الحوادث لم يكن

لحدوثها إذ ذاك من برهان

فلأجل ذا قالوا التسلسل باطلا

والجسم لا يخلو عن الحدثان

فيصح حينئذ حدوث الجسم من

هذا الدليل بواضح البرهان

هذي نهايات لاقدام الورى

في ذا المقام الضيق الاعطان

فمن الذي يأتي بفتح بين

ينجي الورى من غمرة الحيران

فالله يجزيه الذي هو أهله

من جنة المأوى مع الرضوان

الشرح : هذا هو الأصل الذي أسسوه وبنوا عليه مذاهبهم في تعطيل الرب سبحانه عن صفاته الاختيارية التي تحدث في ذاته بمشيئته وهو الحكم بامتناع قيام الحوادث بذاته اذ لو قامت به الحوادث من الأفعال لوجب القول بتسلسلها وتعاقبها في الوجود شيئا قبل شيء لا إلى أول ، وهذا يؤدي بدوره إلى القول بتسلسل الأعيان التي هي المفعولات وبذلك تكون هذه المفعولات قديمة فينسد حينئذ طريق اثبات الصانع اذ كان الطريق إلى اثباته هو لزوم الحدوث لهذه المخلوقات وعدم انفكاكها عنه ، فإذا تسلسلت بطل دليل حدوثها فلأجل هذا قالوا ببطلان التسلسل ولزوم الحدوث للأجسام (١).

__________________

(١) واعتمدوا في الاستدلال على وجود الله عزوجل على ذلك ، فقالوا أن العالم جواهر وأعراض والاعراض حادثة ، والجواهر لا تنفك من الأعراض الحادثة وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، وإذا ثبت حدوث العالم بهذا الدليل فلا بد له من محدث هكذا يقول المتكلمون ، ولقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية فساد طريقتهم هذه ونقض دليلهم بوجوه من النقض ليس هذا موضعها ، فارجع إلى كتابنا ابن تيمية السلفي في مبحث اثبات وجود الله.

١٨٠