شرح القصيدة النونيّة - ج ١

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ١

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥
الجزء ١ الجزء ٢

لكنهم عباد أوثان لدى

هذا المعطل جاحد الرحمن

ولذاك قد جعل المعطل كفرهم

هو مقتضى المعقول والبرهان

هذا رأيناه بكتبكم ولم

نكذب عليكم فعل ذي البهتان

ولأي شيء لم يحذر خلقه

عنها وهذا شأنها ببيان

هذا وليس فسادها بمبين

حتى يحال لنا على الأذهان

ولذاك قد شهدت أفاضلكم لها

بظهورها للوهم في الإنسان

وخفاء ما قالوه من نفي على الا

ذهان بل تحتاج للبرهان

الشرح : يعني كيف ينزه الله نفسه عن تلك المقالة مع أنها عندكم من أشنع المقالات فهي مساوية لعبادة الأوثان ، أو هي كمقالة النصارى المثلثة المشركين عباد الصليب اذ كان كل موصوف بها عندكم جسما ، ويستحيل أن يكون الإله جسما فالعابدون لمن استوى على العرش بذاته لبسوا بعابدين لله عزوجل عندكم ولكنهم عباد أوثان ، ولهذا حكمتم عليهم بالكفر في كتبكم وقلتم ان هذا هو مقتضى العقل والبرهان ، فمقالة هذا شأنها كيف يسكت الله عزوجل عنها ولا يحذر خلقه منها مع أن فسادها ليس ببين في نفسه حتى تحال معرفته على العقول ، ولهذا قد اعترف فضلاؤكم بأنها أظهر وأوضح للوهم أو لما سميتموه وهما وان مذهبهم في النفي من الأمور التي تخفى على الأذهان فهو محتاج إلى البرهان.

* * *

فصل

هذا وتاسع عشرها الزام

ذي التعطيل أفسد لازم ببيان

وفساد لازم قوله هو مقتضى

لفساد ذاك القول بالبرهان

فسل المعطل عن ثلاث مسائل

تقتضي على التعطيل بالبطلان

ما ذا تقول كان يعرف ربه

هذا الرسول حقيقة العرفان

أم لا وهل كانت نصيحته لنا

كل النصيحة ليس بالخوان

٢٦١

أم لا وهل حاز البلاغة كلها

فاللفظ والمعنى له طوعان

فإذا انتهت هذي الثلاثة فيه كا

ملة مبرأة من النقصان

فلأي شيء عاش فينا كاتما

للنفي والتعطيل في الازمان

بل مفصحا بالضد منه حقيقة الا

فصاح موضحة بكل بيان

الشرح : هذا هو الوجه التاسع عشر ويقوم على إلزام أهل التعطيل بأحد لوازم ثلاثة ، كل منها في غاية الفساد ، ولا شك أن فساد اللازم يقتضي عقلا فساد الملزوم ، فيسأل هذا المعطل أولا : هل تعتقد أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعرف ربه حق المعرفة ، وأنه لا أحد من الخلق يمكن أن يكون علمه بالله عزوجل مساويا لعلم رسوله به أم لا؟

ثم يسأل ثانيا : هل كان هذا الرسول صلوات الله وسلامه عليه في غاية النصح لأمته والحرص على هدايتهم ، أم كان غاشا لهم كاتما عنهم ما يجب ان يعلموه من أسماء ربهم وصفاته؟

ثم يسأل ثالثا : هل كان هذا الرسول في أعلى درجات البلاغة والقدرة على البيان والافهام ، وأن الألفاظ والمعاني كانت تسلس له قيادها ، فلا يستعصي عليه شيء منها أم لا؟

فإذا كانت هذه الأمور الثلاثة من العلم واردة البيان والقدرة عليه قد كملت فيه غاية الكمال ، بحيث لا يمكن أن يساويه أحد من الخلق في واحد منها ، ولا أن تجتمع لأحد من الخلق كما اجتمعت له ، فلأي شيء إذا عاش طول حياته كاتما لما يجب اعتقاده من النفي والتعطيل في زعمكم. بل لأي شيء عاش مفصحا عن ضد ذلك من الاثبات غاية الافصاح ، ومبينا له أوضح البيان.

إن مذهبكم في التعطيل يقتضي واحدا من هذه الثلاثة ، أما نفي علم الرسول بما يجب لله من تنزيه وتقديس ، وأما كتمانه ذلك عن أمته غشا وتلبيسا. وأما

٢٦٢

عدم قدرته على بيان ذلك وإيضاحه ، فأي واحد منها إذا تختارون لتسجلوا على أنفسكم أشنع الكفر والبهتان.

* * *

ولأي شيء لم يصرح بالذي

صرحتم في ربنا الرحمن

ألعجزه عن ذاك أم تقصيره

في النصح أم لخفاء هذا الشأن

حاشاه بل ذا وصفكم يا

أمة التعطيل لا المبعوث بالقرآن

ولأي شيء كان يذكر ضد ذا

في كل مجتمع وكل زمان

أتراه أصبح عاجزا عن

قوله استولى وينزل أمره وفلان

والله ما قال الأئمة غير ما

قد قاله من غير ما كتمان

لكن لأن عقول أهل زمانهم

ضاقت بحمل دقائق الإيمان

وغدت بصائرهم كخفاش أتى

ضوء النهار فكف عن طيران

حتى إذا ما الليل جاء ظلامه

أبصرته يسعى بكل مكان

الشرح : يعني إذا كان ما تقولونه من التعطيل ونفي الصفات هو الحق الذي يجب اعتقاده ، فلأي شيء لم يصرح به الرسول صلوات الله وسلامه عليه كما صرحتم أنتم به في حق الله عزوجل. لا بد أن يكون ذلك لأحد الأمور الثلاثة التي قدمناها : أما لعجزه وعدم قدرته على التعبير والافصاح عن ذلك وحاشاه ، فهو أكمل الخلق بلاغة وأقدرهم على أداء أي معنى بما يناسبه من الألفاظ. واما لتقصيره في النصح لأمته وقصده الى غشهم والتلبيس عليهم ، وحاشاه فهو الأمين الذي ائتمنه الله على وحيه ، فلا يعقل منه كتمان لشيء من ذلك أو تبديل ، واما لخفاء هذا الشأن عليه وعدم ظهوره له ، وحاشاه فهو أعلم الخلق بما يجب لربه عزوجل وما يجوز وما يمتنع ، لا يخفى عليه شيء من ذاك في النفي والاثبات ، بل أنتم يا جماعة التعطيل والانكار أولى بهذه الأوصاف ، فأنتم أجهل الناس بالحق وأقصرهم تعبيرا وأداء وأغشهم لناصح ، وأما الرسول فبراء من ذلك.

وإذا كان ما تقولونه من التعطيل هو الحق ، فلأي شيء كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٦٣

يذكر ضده ويصرح به في كل مجتمع وزمان ، هل ترونه كان عاجزا عن قوله استولى بدلا من استوى ، أو عاجزا عن قوله ينزل أمر ربنا بدلا من قوله ينزل ربنا الخ ، ولا سيما إذا كانت الألفاظ التي نطق بها موقعة في اللبس والايهام. ولأي شيء عبتم على الأئمة أقوالهم ، وهم لم يقولوا غير ما قاله الرسول بلا تبديل ولا كتمان ، لكن عقول أهل زمانهم القاصرة ضاقت عن فهم دقائق ذلك العلم وعجزت عن حل أسراره ، فهي أشبه شيء بالخفاش الذي لا يبصر ولا يطير إلا في الظلام ، حتى إذا طلع عليه النهار كف عن الطيران لعجزه عن الابصار.

* * *

وكذا عقولكم لو استشعرتم

يا قوم كالحشرات والفيران

أنست بايحاش الظلام وما لها

بمطالع الأنوار قط يدان

لو كان حقا ما يقول معطل

لعلوه وصفاته الرحمن

لزمتكم شنع ثلاث فارتئوا

أو خلة منهن أو ثنتان

تقديمهم في العلم أو في نصحهم

أو في البيان أذاك ذو امكان

أن كان ما قد قلتم حقا فقد

ضل الورى بالوحي والقرآن

اذ فيهما ضد الذي قلتم وما

ضدان في المعقول يجتمعان

بل كان أولى أن يعطل منهما

ويحال في علم وفي عرفان

أما على جهم وجعد أو على

النظام أو ذي المذهب اليوناني

الشرح : يعني كما عجزت عقول أسلافكم في النفي والتعطيل عن رؤية الحق الواضح في كلام الله وكلام رسوله ، وسلف هذه الأمة من أئمة الهدى والعلم ، فكذلك عقولكم مثل عقولهم في الغمة والضلال ، فهي لا تأنس إلا بظلام التعطيل والتأويل ، ولا قدرة لها على مطالعة نور الحق الواضح الصريح.

ولو كان حقا ما تقولونه أيها المعطلة النافون لعلوه تعالى ولسائر صفاته لزمكم أن تكونوا أعلم بهذا الشأن من الله ورسوله ، أو أخلص في النصح للأمة أو أقدر على التعبير والبيان ، فهل يمكن أن تلتزموا واحدة من هذه الشنع الثلاث أو

٢٦٤

كلها وهل يقبل هذا عقل عاقل ، ولو كان حقا ما تقولونه لزم أن لا يكون الوحي والقرآن مصدر هداية للناس ، بل مصدر ضلال وتلبيس ، فإنهما قد جاءا بصريح الاثبات الذي هو ضد ما قلتم من النفي والتعطيل ، ولا يمكن أن يجتمع الضدان ، فلو فرض أن ما جئتم به هو الحق لزم أن يكون الوحي والقرآن باطلا ووجب أن يحال الناس في العلم بالله وصفاته على ما قاله الجهم بن صفوان الترمذي والجعد بن درهم أو على ما قاله إبراهيم النظام المعتزلي صاحب القول بالطفرة أو على ما قاله ابن سينا صاحب المذهب اليوناني.

* * *

وكذاك أتباع لهم فقع الفلا

صم وبكم تابعوا العميان

وكذاك أفراخ القرامطة الألى

قد جاهروا بعداوة الرحمن

كالحاكمية والألى والوهم

كأبي سعيد ثم آل سنان

وكذا ابن سينا والنصير نصير

أهل الشرك والتكذيب والكفران

وكذاك أفراخ المجوس وشبههم

والصابئين وكل ذي بهتان

اخوان ابليس اللعين وجنده

لا مرحبا بعساكر الشيطان

الشرح : ووجب أن يحال أيضا في هذا الشأن على أتباع لهؤلاء الضلال كأنهم فقع الفلا والفقع هو البيضاء الرخوة من الكمأة ، وهو نبات ينبت في الصحراء على مياه الأمطار يشبه البطاطس ويحبه البدو كثيرا ، والمراد تشبيه هؤلاء بالفقع في كونهم يعيشون في متاهات الضلال كما يعيش الفقع في الفلوات.

ثم أخبر عنهم كذلك بأنهم تابعون لعميان لا يبصرون ، فلهذا كانوا صما وبكما في الظلمات ، ووجب أن يحال كذلك على أفراخ القرامطة أتباع قرمط المجاهرين بالعدوان لله ورسوله ، من أمثال الحاكمية أتباع الحاكم بأمر الله الفاطمي الذين اعتقدوا إلهيته ولا يزالون يعبدونه إلى اليوم في جبال سوريا ولبنان ، ويسمون بالدروز وكذاك من والاهم وتشيع لهم ، مثل أبي سعيد؟ وآل سنان ، وهي أسرة كانت تحكم خراسان ، وفي ظلها نشأ ابن سينا القرمطي والنصير ،

٢٦٥

وهذا هو نصير الدين الطوسي شارح الاشارات لابن سينا ، والمحصل للرازي ، وكذاك أتباع المجوس عبدة النار وأشباههم والصابئة عبدة النجوم والكواكب وكل ذي فرية وبهتان كلهم اخوان إبليس وجنده وأعوانه في الاغواء والاضلال فلا مرحبا بعساكر الشيطان أعداء الرحمن.

* * *

أفمن حوالته على التنزيل

والوحي المبين ومحكم القرآن

كمحير أضحت حوالته على

أمثاله أم كيف يستويان

أم كيف يشعر تائه بمصابه

والقلب قد جعلت له قفلان

قفل من الجهل المركب فوقه

قفل التعصب كيف ينفتحان

ومفاتيح الاقفال في يد من له

التصريف سبحان العظيم الشأن

فاسأله فتح القفل مجتهدا

على الأسنان ان الفتح بالأسنان

الشرح : ولكن كيف يستوي من حوالته على الوحي المنزل في محكم القرآن وصحيح السنة ومن هو حائر ضال يحال على أمثاله في الحيرة والضلال ، أم كيف يشعر هذا التائه الضال بمصابه ، وقد جعل على قلبه قفلان يمنعان نور الحق من النفوذ إليه ، أحدهما قفل الجهل المركب الذي هو جهله بأنه جاهل ، والآخر قفل التعصب الأعمى الذي يحمل صاحبه على الحمية الجاهلية لما هو عليه من الباطل ، فكيف ينفتح هذان القفلان ، إلا أن يشاء الله الذي بيده قلوب العباد يقلبها كيف شاء ، فليسأله العبد أن يفتح أقفال قلبه حتى يبصر الحق ويرى النور ، ولكن كل مفتاح له أسنان ، فما لم يجتهد العبد في تحصيل الاسنان لم يتم له ما أراد ، ولعل مراده بالأسنان هنا النظر الصحيح في الأدلة مع الانصياع لما تهدى إليه من الحق في غير تعصب ولا تقليد.

* * *

فصل

هذا وخاتم العشرين وجها

وهو أقربها إلى الأذهان

٢٦٦

سرد النصوص فانها قد نوعت

طرق الادلة في أتم بيان

والنظم يمنعني من استيفائها

وسياقة الالفاظ بالميزان

فأشير بعض اشارة لمواضع

منها وأين البحر من خلجان

فاذكر نصوص الاستواء فإنها

في سبع آيات من القرآن

واذكر نصوص الفوق أيضا في ثلا

ث قد غدت معلومة التبيان

واذكر نصوص علوه في خمسة

معلومة برئت من النقصان

الشرح : هذا هو الوجه العشرون من الوجوه الدالة على علوه تعالى على خلقه واستواؤه فوق عرشه ، وهو أقرب هذه الوجوه كلها تناولا ، وأسهلها مئونة لأنه يقوم على سرد النصوص الصريحة من كتاب الله عزوجل الدالة على العلو عند من أنصف عقله ، ولم تفسد فطرته الاهواء ، ولم يوسع هذه النصوص تحريفا ، ولم يسمها تأويلا. والشيخ رحمه‌الله يعتذر من عدم قدرته على إيراد هذه النصوص هنا لتقيده بقيود النظم والقافية التي لا يجوز اخضاع هذه النصوص لها ، فاكتفى بأن يشير إلى مواضعها من القرآن ، فذكر أن لفظ الاستواء قد ورد في سبع آيات وهي قوله في سورة [الاعراف : ٥٤](إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) وفي سورة [يونس : ٣](إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) وفي سورة [الرعد : ٢](اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وفي سورة [طه : ٥](الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) وفي سورة [الفرقان : ٥٩](الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) وفي الم [السجدة : ٤](اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) وفي سورة [الحديد : ٤]

٢٦٧

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) الآية.

وأما نصوص الفوق فقد ذكر أنها وردت في ثلاث آيات. وهي قوله تعالى في سورة [الانعام : ١٨](وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) وقوله في نفس السورة : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا)(جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) [الأنعام : ٦١] وقوله في سورة [النحل : ٥٠] في شأن الملائكة (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ).

وأما نصوص العلو فقد ذكر أنها وردت في خمسة مواضع وهي قوله في آخر آية الكرسي من سورة [البقرة : ٢٥٥](وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) وفي سورة [النساء : ٢٤](وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً).

وفي سورة [الرعد : ٩] : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) وفي سورة [غافر : ١٢] : (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) وفي سورة [الأعلى : ١](سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى).

ولا شك أن هذه النصوص كلها صريحة في علوه تعالى فوق خلقه واستوائه على عرشه ولا يجوز صرفها عن ظاهرها الى معان أخر لما قدمنا من عدم وجود قرينة توجب ذلك الصرف ، وما يدعيه أهل التأويل الباطل من قرينة عقلية وهي حكم العقل باستحالة الجهة على الله معارض بأدلة من العقل والفطرة أقوى منه كما بينا.

* * *

واذكر نصوصا في الكتاب تضمنت

تنزيله من ربنا الرحمن

فتضمنت أصلين قام عليهما ال

إسلام والإيمان كالبنيان

٢٦٨

كون الكتاب كلامه سبحانه

وعلوه من فوق كل مكان

وعدادها سبعون حين تعد أو

زادت على السبعين في الحسبان

واذكر نصوصا ضمنت رفعا ومعرا

جا وإصعادا الى الديان

هي خمسة معلومة بالعد وال

حسبان فاطلبها من القرآن

الشرح : أما النصوص التي وردت في الكتاب العزيز مصرحة بأن هذا القرآن منزل من عند الله عزوجل ، فقد تضمنت أصلين عظيمين عليهما قام بناء الإسلام وصرح الايمان.

(الأصل الأول): ان هذا القرآن كلامه هو سبحانه حقيقة لا مجازا ، بمعنى أنه تكلم به بألفاظه ومعانيه بصوت نفسه ، وسمعه منه الأمين جبريل عليه‌السلام وأداه الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما سمعه.

(والأصل الثاني): أنه سبحانه وتعالى في جهة العلو فوق جميع الأمكنة ، فإن النزول يقتضي الهبوط من أعلى الى أسفل ، فلو لم يكن سبحانه عاليا فوق خلقه لم يصح الاخبار بكون الكتاب منزلا من عنده وهذه النصوص المتضمنة لنزول القرآن من عند الله عزوجل ، ذكر المصنف أن عددها سبعون أو تزيد ، ويطول بنا القول لو ذكرناها جميعا ، فلنقتصر على بعضها على سبيل المثال ، فنقول : منها قوله تعالى في سورة [آل عمران : ٧](هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) وفي سورة [الأنعام : ١١٤](أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)

وفي سورة [النحل : ١٠٢](قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) وفي سورة [الشعراء : ١٩٢ ، ١٩٣](وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٢ ، ١٩٦].

٢٦٩

وأما النصوص التي تضمنت رفع بعض الأشياء أو عروجها أو صعودها إليه سبحانه فقد ذكر المصنف أنها في خمسة مواضع من القرآن ، الأول قوله تعالى في سورة آل عمران خطابا لعيسى عليه‌السلام : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ٥٥] وفي سورة [النساء : ١٥٨] اخبارا عنه عليه‌السلام (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) وفي سورة الم [السجدة : ٥](يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وفي سورة [فاطر : ١٠](إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) وفي سورة [المعارج : ٤](تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ* فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً).

* * *

ولقد أتى في سورة الملك التي

تنجي لقارئها من النيران

نصان أن الله فوق سمائه

عند المحرف ما هما نصان

ولقد أتى التخصيص بالعند الذي

قلنا بسبع بل أتى بثمان

منها صريح موضعان بسورة الأ

عراف ثم الأنبياء الثاني

فتدبر التعيين وانظر ما الذي

لسواه ليست تقتضي النصان

وبسورة التحريم أيضا ثالث

بادي الظهور لمن له أذنان

الشرح : ورد في سورة الملك التي قال فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت في صاحبها» نصان صريحان في أن الله عزوجل في السماء وهما قوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ* أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) [الملك : ١٦ ، ١٧] وأما النصوص الدالة على تخصيص بعض الأشياء بكونها عنده فقد جاء ذلك في سبعة أو ثمانية مواضع : الأول : قوله تعالى في سورة

٢٧٠

الأعراف (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) [الأعراف : ٢٠٦] والثاني : في سورة الأنبياء : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) [الأنبياء : ١٩] فتخصيص الملائكة الذين هم سكان السموات بكونهم عنده دليل على أن المراد بها عندية مكان. والثالث : في سورة التحريم قوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم : ١١].

* * *

ولديه في مزمل قد بينت

نفس المراد وقيدت ببيان

لا تنقض الباقي فما لمعطل

من راحة فيها ولا تبيان

وبسورة الشورى وفي مزمل

سر عظيم شأنه ذو شان

في ذكر تفطير السماء فمن يرد

علما به فهو القريب الداني

لم يسمح المتأخرون بنقله

جبنا وضعفا عنه في الإيمان

بل قاله المتقدمون فوارس الا

سلام هم أمراء هذا الشأن

ومحمد بن جرير الطبري في

تفسيره حكيت به القولان

الشرح : وأما بقية المواضع فإنه وان لم يصرح فيها بلفظ العند فإن الاضافة فيها الى لفظ لدى الذي هو بمعنى عند ودال على نفس المراد منها ، وذلك مثل قوله تعالى : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً* وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً) [المزمل : ١٢ ، ١٣] وقوله : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) [ق : ٣٥](قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ* ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق : ٢٨ ، ٢٩] وفي سورة الزخرف (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الزخرف : ٤].

وأما قوله : وفي مزمل سر عظيم ، شأنه ذو شأن في ذكر تفطير السماء الخ ، فهو اشارة الى قوله تعالى من هذه السورة : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً)

٢٧١

فالضمير في به يحتمل أن يعود الى اليوم في قوله : (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) يعني أن السماء تنفطر في هذا اليوم وتتشقق ، وتكون الباء بمعنى في ، ويحتمل أن يعود الى الله عزوجل وان لم يسبق له ذكر ، لأنه مفهوم من السياق ، ويؤيده قوله بعد ذلك (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) فإن عود الضمير هنا على الله في غاية الظهور ، ويكون معنى انفطار السماء بالله عزوجل تشققها عند نزوله لفصل القضاء بين عباده كما في قوله تعالى في سورة [الفرقان ٢٥](وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً).

ولكن المتأخرين من المفسرين مثل ابن كثير وغيره جبنوا عن ايراد هذا القول الثاني ولم يصرح به الا المتقدمون من جهابذة الاسلام الذين هم أعلم هذه الأمة بمعاني كلام الله عزوجل. وقد حكى ابن جرير القولين في تفسيره.

* * *

فصل

هذا وحاديها وعشرون الذي

قد جاء في الأخبار والقرآن

اتيان رب العرش جل جلاله

ومجيئه للفصل بالميزان

فانظر الى التقسيم والتنويع في الق

رآن تلفيه صريح بيان

ان المجيء لذاته لا أمره

كلا ولا ملك عظيم الشأن

اذ ذانك الامران قد ذكرا وبينهما

مجيء الرب ذي الغفران

والله ما احتمل المجيء سوى مجي

ء الذات بعد تبين البرهان

من أين يأتي يا أولى المعقول أن

كنتم ذوي عقل مع العرفان

من فوقنا او تحتنا او عن شما

ئلنا ومن خلف وعن ايمان

والله لا يأتيهم من تحتهم

أبدا تعالى الله ذو السلطان

كلا ولا من خلفهم وأمامهم

وعن الشمائل او عن الايمان

والله لا يأتيهم الا من الع

لو الذي هو فوق كل مكان

الشرح : الوجه الحادي والعشرون من الوجوه الدالة على العلو والفوقية ما

٢٧٢

نطقت به آيات الكتاب الكريم ، ووردت به الأخبار الصحيحة ، من اتيانه عزوجل ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين العباد ، كقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ) [البقرة : ٢١٠] يعني ما ينتظر هؤلاء الا وقوع ذلك الأمر العظيم ، وهو أن يأتيهم الله في ظلل الغمام وتأتي معه الملائكة وقضي الأمر ، يعني فرغ من حسابهم ، وعطف الملائكة هنا على الله ينفي تأويل المعطلة بأن الاتيان للملك ، فهو كقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢] ولكن قد يقول المعطل ان اتيان الرب عزوجل هو اتيان امره كما في قوله تعالى في سورة النحل : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) [النحل : ٣٣] فيرد عليه بتلك الآية التي تأخذ بخناقه ولا يجد لتأويلها مساغا أعني قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) [الأنعام : ١٥٨] فان الترديد هنا بين اتيان الرب والملائكة ، والآيات أوضح دليل على ان المراد مجيء ذاته لا أمره ، فإنه مذكور بين الأمرين الآخرين وهما مجيء الملك والآيات ، فكيف يجوز تأويله بأحدهما ، واذا ثبت مجيء الرب وإتيانه جل شأنه بهذه الآية القاطعة ، فمن أين يأتي اذا؟ والجهات المعروفة ست ، هي الفوق والتحت ، واليمين والشمال ، والأمام والخلف ، فليقل لنا هؤلاء المعطلة أي هذه الجهات يختارون ليكون منها مجيء الرب واتيانه ، لا يعقل أبدا أن يجيئهم من تحتهم ـ تعالى الله عن ذلك ـ وكذلك لا يعقل أن يجيئهم من خلفهم ولا من أمامهم ، ولا عن أيمانهم ولا عن شمائلهم ، فلم يبق الا أن يأتيهم من العلو المطلق الذي هو فوق الأمكنة جميعا.

* * *

فصل في الاشارة الى ذلك من السنة

وأكثر حديثا في الصحيح تضمنت

كلماته تكذيب ذي البهتان

لما قضى الله الخليقة ربنا

كتبت يداه كتاب ذي الاحسان

٢٧٣

وكتابه هو عنده وضع على الع

رش المجيد الثابت الأركان

اني أنا الرحمن تسبق رحمتي

غضبي وذاك لرأفتي وحناني

ولقد أشار نبينا في خطبة

نحو السماء بإصبع وبنان

مستشهدا رب السموات العلى

ليرى ويسمع قوله الثقلان

أتراه أمسى للسما مستشهدا

أم للذي هو فوق ذي الأكوان

ولقد أتى في رقية المرض

ى عن الهادي المبين أتم ما تبيان

نص بأن الله فوق سمائه

فأسمعه ان سمعت لك الأذنان

الشرح : بعد أن فرغ من دلالة آيات الكتاب الحكيم على اثبات صفة العلو للعلي العظيم شرع في إيراد ما تضمنته السنة الصحيحة من دلالات واضحة واشارات صريحة لا تخفى الا على من أعمى الهوى والتعصب بصائر قلوبهم ، فمن ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح «ان الله لما خلق الخلق كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي» فقوله في كتاب موضوع عنده فوق العرش لا يحتاج الى بيان أن تلك العندية تقتضي وجوده سبحانه فوق عرشه.

ومن ذلك أيضا ما ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبة الوداع التي شهدها الجم الغفير من الصحابة أنه كان يوجه إليهم نصائحه ووصاياه (ويشير بإصبعه الى السماء ثم ينكبها إليهم ، ثم يقول لهم : الا هل بلغت اللهم فاشهد) غير مرة ، فالاشارة بإصبعه الى السماء لا يعقل أنه أراد بها أن يستشهد بالسماء على تبليغه رسالة الله التي أرسله بها الى خلقه ، ولكنه أراد بها أن يشهد ربه عزوجل في آخر مجمع وأعظم مشهد حضره أنه أتم رسالة ربه وبرئ من تبعة التقصير والكتمان ، ولهذا قال لهم في آخر خطبته «فليبلغ الشاهد منكم الغائب» فرب مبلغ أوعى من سامع.

ومن ذلك قوله في حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره كالطبراني والحاكم وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات «ربنا الله الذي في السماء تقدس

٢٧٤

اسمك ، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء أجعل رحمتك في الأرض أنت رب الطيبين أغفر لنا حوبنا وخطايانا ، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع».

فقوله ربنا الله الذي في السماء صريح لا يسوغ العقل تأويله أبدا لا بملك ولا برحمه ولا بأمر ولا بغير ذلك مما يتكلفه المعطلة ، فإن كلا من الرحمة والأمر مذكور في الحديث ، وقصارى شغب المبطلين على هذه الأحاديث الصريحة أن يقولوا أنها أحاديث آحاد لا يعول عليها في باب الاعتقاد. ولكن هذه الشبهة يرد عليها بأن هذه الاحاديث وان كان كل واحد منها لا يفيد الا الظن الا أنها اذا ضم بعضها الى بعض تبلغ مبلغ التواتر المعنوي ، وهو مفيد للعلم اليقيني.

والعجب من هؤلاء المخذولين الذين يردون على هذه الاحاديث ويرفضون أخذ عقائدهم منها ، وهم اذا جاءهم خبر منقطع عن شخص مجهول يوافق أهواءهم طاروا به فرحا وجعلوه حجة لهم؟؟؟ مجال التأويل والانكار ، وكم رأينا من هؤلاء من ينقل عن أرسطو وأفلاطون الوثنيين ، وعن أفلوطين المسيحي ، ويقدم ذلك على الوحي المنزل من عند الله ، فبئس ما اشتروا به أنفسهم أن يقدموا كلام هؤلاء الكفرة على كلام الله ورسوله ويأخذوا دينهم عن أهل الشرك والالحاد.

* * *

ولقد أتى خبر رواه عمه العب

اس صنو أبيه ذو الاحسان

أن السموات العلى من فوقه

ا الكرسي عليه العرش للرحمن

والله فوق العرش ينظر خلقه

فانظره أن سمحت لك العينان

واذكر حديث حصين بن المن

ذر الثقة الرضي أعني أبا عمران

اذ قال ربي في السماء لرغبتي

ولرهبتي أدعوه كل أوان

فأقره الهادي البشير ولم يقل

أنت المجسم قائل بمكان

حيزت بل جيهت بل شبهت بل

جسمت لست بعارف الرحمن

٢٧٥

هذي مقالتهم لمن قد قال ما

قد قاله حقا أبو عمران

فالله يأخذ حقه منهم ومن

أتباعهم فالحق للرحمن

الشرح : روى أبو داود في سننه عن العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال : ما تسمون هذه؟ قالوا السحاب ، قال والمزن؟ قالوا والمزن قال والعنان؟ قالوا والعنان : قال أبو داود لم أتقن العنان جيدا ، قال هل تدرون بعد ما بين السماء والأرض؟ قالوا لا ندري ، قال أن بعد ما بينهما اما واحدة او اثنتان او ثلاث وسبعون سنة ، ثم السماء فوقها كذلك حتى عد سبع سماوات ، ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء الى سماء ، ثم فوق ذلك ثمانية أو عال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء الى سماء ، ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء الى سماء ، ثم الله تبارك وتعالى فوق ذلك». ثم رواه أبو داود من طريق آخر وفيه : ان الله فوق عرشه وعرشه فوق سماواته.

وكذلك رواه ابن ماجة والترمذي وحسنه ، ورواه الحافظ ضياء الدين المقدسي في المختارة وابن منده في كتاب التوحيد وهو صريح في فوقية الذات ، لأنه ذكر أن العرش فوق السموات ، وهي فوقية حسية بالمكان ، فتكون فوقية الله عزوجل على العرش كذلك ولا يصح أبدا حمل الفوقية هنا على فوقية القهر والغلبة ، والا لتفكك معنى الحديث ولا يبقى حينئذ معنى لتخصيص العرش بتلك الفوقية ، اذ الله عزوجل فوق الخلق جميعا قاهر لهم.

وأما حديث حصين بن منذر فقد رواه البيهقي في الأسماء والصفات عن عمران بن حصين رضي الله عنه وفيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لحصين «كم إلها تعبد؟ قال : سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء. قال : من لرغبتك ورهبتك؟ قال : الذي في السماء ، قال : فاترك الستة واعبد الذي في السماء وأنا أعلمك دعوتين» فأسلم وعلمه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول «اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي».

وظاهر من الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقر حصينا على ما قاله من أن إلهه الذي

٢٧٦

يدعوه في الرغب والرهب في السماء ولم يقل له أنت مجسم بذلك ولا قائل بالمكان ولا قال له حيزت أي أثبت الحيز لله ، ولا جيهت أي اعتقدت الجهة ، ولا شبهت ومثلت أي اعتقدت المشابهة والمماثلة وغير ذلك من الالفاظ التي يرمي بها المعطلة كل من قال بمثل مقالة حصين ولكن الله مطلع على ما يقوله الظالمون الجاحدون لصفاته وسيأخذ حقه منهم يوم توفى الحقوق لأصحابها من كل ظالم غشوم.

* * *

واذكر شهادته لمن قال رب

ي في السما بحقيقة الايمان

وشهادة العدل المعطل للذي

قد قال ذا بحقيقة الكفران

واحكم بأيهما تشاء وأنني

لأراك تقبل شاهد البطلان

ان كنت من أتباع جهم ص

احب التعطيل والعدوان والبهتان

واذكر حديثا لابن اسحاق الرضي

ذاك الصدوق الحافظ الرباني

في قصة استسقائهم يستشفعو

ن الى الرسول بربه المنان

فاستعظم المختار ذاك وقال شأ

ن الله رب العرش أعظم شأن

الله فوق العرش فوق سمائه

صبحان ذي الملكوت والسلطان

ولعرشه منه أطيط مثل ما

قد أط رحل الراكب العجلان

الشرح : قوله واذكر شهادته الخ. اشارة الى حديث الجارية التي سألها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أين الله. فقالت : في السماء. ثم قال لها : من أنا. فقالت : أنت رسول الله. فقال لسيدها : أعتقها فإنها مؤمنة». فهذه شهادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتلك الجارية بالايمان ، فقارن بينها وبين شهادة الجهمي المعطل لمن قال مثل قولها بالكفر واحكم بعد ذلك بأيهما شئت ، ولا أراك أن كنت من أصحاب جهم الموصوف بالتعطيل لتعطيله ذات الرب جل شأنه عن صفاتها الواجبة لها والعدوان لمجاوزته الحق الذي دلت عليه النصوص والبهتان لكذبه وافترائه على الله ، ولا أراك ان كنت كذلك الا قابلا لشهادة البطلان ومنحازا الى فئة الشيطان.

٢٧٧

وأما قوله واذكر حديثا الخ ، فهو اشارة إلى الحديث الذي رواه ابن اسحاق أن اعرابيا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله نهكت الانفس وجاع العيال وهلك المال فاستسق لنا ربك فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله ، فسبح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال للرجل ويحك أتدري ما الله ان الله لا يستشفع به على أحد من خلقه شأنه الله أعظم ثم ذكر الحديث. بعد ما بين سماء وسماء ، وبعد ما بين السماء السابعة والعرش ، وأن الله فوق ذلك مستو على عرشه ، وأن للعرش منه أطيطا وهو صوت الرحل الجديد كأطيط الرحل لراكب عجلان أي مغذ في سيره.

فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم انما يذكر ذلك للأعرابي في مقام التعليم له بشأن الله عزوجل وعظمته تربية للمهابة في قلبه حين قال تلك القولة النكراء التي أطلقت لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتسبيح والثناء فدل هذا على أن التعظيم والتنزيه ليس بنفي الجهة والاستواء كما يدعي الجهمية السفهاء.

* * *

لله ما لقي ابن اسحاق من

الجهمي اذ يرميه بالعدوان

ويظل يمدحه إذا كان الذي

يروي يوافق مذهب الطعان

كم قد رأينا منهم أمثال ذا

فالحكم لله العلي الشأن

هذا هو التطفيف لا التطفيف في

ذرع ولا كيل ولا ميزان

واذكر حديث نزوله نصف الدجى

في ثلث ليل آخر أو ثان

فنزول رب ليس فوق سمائه

في العقل ممتنع وفي القرآن

واذكر حديث الصادق ابن رواحة

في شأن جارية لدى الغشيان

فيه الشهادة أن عرش الله فو

ق الماء خارج هذه الأكوان

والله فوق العرش جل جلاله

سبحانه عن نفي ذي البهتان

ذكر ابن عبد البر في استيعابه

هذا وصححه بلا نكران

الشرح : لله يعني في سبيل الله ما لقي ابن إسحاق من الجهمي بسبب روايته

٢٧٨

لهذا الحديث حيث يتهمه بالعدوان والكذب ، ولكنه يظل يمدحه ويطريه إذا هو روى ما يوافق مذهبه فهذا دأبهم دائما تصديق للراوي فيما لا يصادم قضية من قضايا عقولهم الخاسرة فإذا روى هو نفسه حديثا على خلاف ما ذهبوا إليه لم يكن نصيبه منهم إلا التشنيع والتكذيب ، فما أجدر هؤلاء باسم المطففين حيث يستوفون الذي لهم وينكرون الذي عليهم فهذا فهو التطفيف في الحقيقة لا التطفيف في كل أو ذرع أو ميزان. بل أجدرهم أن يكونوا ممن قال الله عزوجل فيهم (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ* وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ* أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [النور : ٤٨ ، ٥٠].

وأما قوله : واذكر حديث نزوله الخ فقد تقدم الكلام على هذا الحديث وهو يدل دلالة قاطعة على وجود الله عزوجل فوق عرشه ، فإن حقيقة النزول هي انتقال النازل من مكان عال إلى ما دونه فنزول بلا فوقية ممتنع في العقل والشرع جميعا وأما تأويله بنزول الأمر أو الرحمة أو الملك فقد بينا فساده ، وأما قوله واذكر حديث الصادق ابن رواحة الخ. فهو عبد الله بن رواحة الخزرجي أحد شعراء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل في غزوة مؤتة. وقد جاء في هذا الحديث أن عبد الله ابن رواحة وقع على جارية له فرأته زوجته فجاءت بسكين لتضربه بها فأنكر أنه غشي الجارية فقالت له : ان كنت صادقا فاقرأ قرآنا فأنشدها هذين البيتين :

شهدت بأن وعد الله حق

وأن النار مثوى الكافرين

وأن العرش فوق الماء طاف

وفوق العرش رب العالمين

فقالت صدق الله وكذبت عيناي. وقد أخبر ابن رواحة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك فأقره ، ولم ينكر عليه. وفي هذين البيتين تصريح بأن الله فوق عرشه فوقية حقيقية.

* * *

٢٧٩

وحديث معراج الرسول فثابت

وهو الصريح بغاية التبيان

وإلى إله العرش كان عروجه

لم يختلف من صحبه رجلان

واذكر بقصة خندق حكما جرى

لقريظة من سعد الرباني

شهد الرسول بأن حكم إلهنا

من فوق سبع وفقه بوزان

واذكر حديثا للبراء رواه أصحاب

المساند منهم الشيباني

وأبو عوانة ثم حاكمنا الرضي

وأبو نعيم الحافظ الرباني

قد صححوه وفيه نص ظاهر

ما لم يحرفه أولو العدوان

في شأن روح العبد عند وداعها

وفراقها لمساكن الابدان

فتظل تصعد في سماء فوقها

أخرى إلى خلاقها الرحمن

حتى تصير إلى سماء ربها

فيها وهذا نصه بأمان

الشرح : المعراج آلة العروج وهو الصعود. وقد ثبت عروجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الاسراء بالأحاديث الصحيحة التي تبلغ حد التواتر فلا مجال لانكاره ووقع اتفاق الصحابة فمن بعدهم على أن هذا العروج كان إلى ذي العرش سبحانه ، وأنه قربه منه وأدناه ، وفرض عليه وعلى أمته الصلاة مباشرة في تلك الليلة ، وتأمل قول موسى عليه‌السلام (حين سأل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما فرض الله عليه وعلى أمته فقال خمسين صلاة) أرجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فان أمتك لا تطيق ذلك. وقوله عليه‌السلام فما زلت أراجع ربي حتى جعلها خمس صلوات في اليوم والليلة.

فليت شعري ما ذا يقول المعطلة في هذا؟ وهل يعقل أن موسى أمر نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرجوع إلى ملك الله أو أمره كما يزعمون في غير هذا الموضوع وقد كان معه جبريل ملك الوحي وقتئذ ، وقد ورد أنه استشار جبريل فيما قاله موسى فقال له نعم ان شئت. وأما قوله : واذكر بقصة خندق حكما جرى الخ ، فهو اشارة إلى ما كان من أمر بني قريظة حين حاصرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب نقضهم العهد وانضمامهم للأحزاب في غزوة الخندق ، فطلبوا منه أن يحكم فيهم سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه ، فحكم فيهم سعد بأن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى نساؤهم وذراريهم ، وأن تؤخذ أموالهم غنيمة للمسلمين ، فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم :

٢٨٠