شرح القصيدة النونيّة - ج ١

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ١

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥
الجزء ١ الجزء ٢

بل يستوي في علمه الداني مع ال

قاصي وذو الأسرار والاعلان

وهو العليم بما يكون غدا وما

قد كان والمعلوم في ذا الآن

وبكل شيء لم يكن لو كان كي

ف يكون موجودا لذي الأعيان

الشرح : يعتقد أهل السنة والجماعة بأن الله سميع يسمع ، هو صفة له قائمة بذاته ، وأنه كذلك بصير ببصر زائد على ذاته ، فالسمع والبصر صفتان ثابتتان له سبحانه لا كما تزعم الجهمية نفاة الأسماء ، من كونه ليس سميعا ولا بصيرا ، ولا كما تزعم المعتزلة من كونه سميعا بذاته لا يسمع ، وبصيرا بذاته لا يبصر ، فإن نفي الأسماء تكذيب بصريح القرآن ، وهو كفر ، واثبات الموصوف بدون الصفة أو ادعاء أن الصفة عين الموصوف سفسطة.

ويعتقد أهل السنة كذلك أن سمع الله يتعلق بكل مسموع مهما دق وخفت ، وأن بصره يتعلق بكل مرئي مهما لطف لا يؤثر فيهما بعد مسافة ، ولا يمنعهما حجب وأستار ، فهو سبحانه مع كونه فوق عرشه عاليا على خلقه يرى أصغر مخلوقاته وهي النملة ويسمع دبيبها على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ، ويرى تحرك أجفان خلقه في أغماضها وفتحها ، ويسمع كذلك ضجيج أصوات عباده ويميز بينها فلا تتشابه الأصوات عنده ولا تغلطه كثرة المسائل ولا يشغله شأن عن شأن. ويعتقدون أن الله عليم بعلم كما قال تعالى : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [النساء : ١٦٦] وكما قال : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) [البقرة : ٢٥٥] وأن علمه متعلق بكل ما من شأنه أن يعلم لا يعزب عنه من ذلك شيء ، فهو يعلم ما يحدث به المرء نفسه ، وما يرد على خاطره من الهواجس وان لم يحرك به لسانه ، ويستوي في علمه ما قرب وما بعد ، وما أسر وما أعلن كما قال تعالى : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) [الرعد : ١٠] بل يستوي في علمه الماضي والحاضر والمستقبل فهو يعلم ما سيكون مستقبلا ، كما يعلم ما قد كان في الماضي ، وكما يعلم ما هو كائن الآن ، فالاشياء كلها حاضرة لديه ، وهو يعلم الكيفيات التي ستكون عليها الأشياء

١٠١

قبل وجودها ، فيعلم ما لم يوجد من الاشياء لو وجد ، فعلى أي كيفية يكون وجوده في عالم الأعيان.

* * *

وهو القدير فكل شيء فهو مق

دور له طوعا بلا عصيان

وعموم قدرته تدل بأنه

هو خالق الأفعال للحيوان

هي خلقه حقا وأفعال لهم

حقا ولا يتناقض الأمران

لكن أهل الجبر والتكذيب با

لاقدار ما انفتحت لهم عينان

نظروا بعيني أعور اذ فاتهم

نظر البصير وغارت العينان

فحقيقة القدر الذي حار الورى

في شأنه هو قدرة الرحمن

واستحسن بن عقيل ذا من أحمد

لما حكاه عن الرضا الرباني

قال الإمام شفا القلوب بلفظه

ذات اختصار وهي ذات بيان

الشرح : ويعتقد أهل السنة والجماعة أن الله قدير بقدرة ، وأن قدرته عامة تتعلق بجميع الممكنات إيجادا واعداما ، فلا يخرج شيء منها عن نطاق قدرته ، ومهما أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون ، دون معاندة أو اباء ، وعموم قدرته سبحانه لكل شيء من الأعيان والصفات والأفعال يرد على القدرية في قولهم ان الحيوان يخلق أفعال نفسه وأنها ليست مخلوقة لله.

والحق الذي عليه أهل السنة أن أفعال الحيوانات تنسب إلى الله عزوجل على أنه خالقها وموجدها كما قال تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٦] وتنسب إليها على أنها أفعال لها صادرة عن قدرها وارادتها الحادثة ، ولا تنافي بين الأمرين ، فإن معنى كونها مخلوقة لله أن الله خلق جميع الأسباب التي وجدت بها مثل القدر والارادات والحواس والآلات والمواد الخارجية التي تقع عليها الأفعال.

ومعنى كونها أفعالا للعباد أنهم هم الذين باشروها بقدرهم واراداتهم مباشرة تجوز اتصافهم بها على الحقيقة فيقال : صلى وصام وزنى وسرق.

١٠٢

هذا هو مذهب الأمة الوسط الذي يجمع بين الآيات الدالة على عموم خلقه سبحانه مثل قوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرعد : ١٦] وبين الآيات الدالة على نسبة الأفعال إلى العباد ، وهي كثيرة مثل قوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] وقوله : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [التوبة : ١٠٥] الآية. وقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ، ٨].

ولكن أهل الجبر الذين ينفون عن العبد القدرة على الفعل ولا يسمونه فاعلا إلا على جهة المجاز ، والقدرية الذين يزعمون أن العبد مستقل بخلق أفعاله دون أن تتعلق بها قدرة الله ومشيئته نظروا إلى المسألة بعين أعور حين أخذ كل منهم بجانب من الحق دون جانب فالمجبرة غلبوا عموم القدرة والمشيئة ، فلم يجعلوا للعبد فعلا ولا جعلوه مسئولا عما يصدر منه ، إذ لا يسأل عما ليس من فعله.

والقدرية غلبوا جانب التكليف والأمر والنهي فخصصوا في القدر والمشيئة ، وعزلوا أفعال العباد عن الدخول تحتهما تحقيقا لمسئولية العبد وتصحيحا للتكليف.

وهكذا نظرت كل من الطائفتين نظرا قاصرا ، فلم يؤمنوا بالكتاب كله الدال على اثبات عموم قضاء الله وقدره ومشيئته ، وعلى أن أفعال العباد واقعة منهم بقدرتهم ومشيئتهم ، فلو وفقوا لذلك كما وفق له أهل السنة والجماعة لهدوا ، ولذلك قال الإمام أحمدرحمه‌الله : (القدر هو قدرة الله) واستحسن ابن عقل هذه الكلمة من الإمام أحمد وقال : إنه شفى بهذه الكلمة ووفى.

* * *

فصل

وله الحياة كمالها فلأجل ذا

ما للممات عليه من سلطان

وكذلك القيوم من أوصافه

ما للمنام لديه من غشيان

١٠٣

وكذاك أوصاف الكمال جميعها

ثبتت له ومدارها الوصفان

فمصحح الأوصاف والأفعال والأ

سماء حقا ذانك الوصفان

ولأجل ذا جاء الحديث بأنه

في آية الكرسي وذي عمران

اسم الاله الأعظم اشتملا على اس

م الحي والقيوم مقترنان

فالكل مرجعها إلى الاسمين يد

ري ذاك ذو بصر بهذا الشأن

الشرح : ويعتقد أهل السنة والجماعة أن الله حي قيوم ، وأن حياته أكمل حياة ، لأنها ذاتية له لم يستفدها من غيره ، بل هو واهب الحياة ومفيدها ، ولذلك كانت حياته أزلية أبدية لا يمكن أن يلحقها موت أو فناء. وأن قيوميته كذلك شاملة كاملة ، فهو قائم بنفسه غني عن غيره وكل شيء قائم به فقير إليه ، ومن أجل تمام قيوميته لا يمكن أن تأخذه سنة ولا نوم ، وعلى هذين الوصفين ، أعني الحياة والقيومية تدور جميع أوصاف الكمال الثابتة له سبحانه ، فالحياة تصحح اتصافه بصفات الكمال في الذات من العلم والقدرة والسمع والبصر وغيرها من الصفات التي لا تكمل الحياة بدونها ، والقيومية تصحح اتصافه بصفات الكمال في الفعل من الخلق والرزق والاحياء والاماتة الخ ...

ولأجل هذا ورد هذان الاسمان الكريمان مقترنين في ثلاث مواضع من كتاب الله عزوجل ، وورد في الحديث ما يدل على أنهما اسم الله الاعظم حيث أجاب النبي عليه‌السلام من سأله عنه بأنه في آية الكرسي وأول آل عمران ، لأنهما اشتملا على هذين الاسمين مقترنين ، ففي آية الكرسي التي هي أعظم آية في كتاب الله يقول الله عزوجل : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة : ٢٥٥] وفي أول آل عمران يقول : (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [آل عمران : ٢].

ومن هنا يعلم أن على هذين الاسمين مدار الاسماء الحسنى كلها وإليهما ترجع معانيها فإن حياته إذا كانت أكمل حياة وأتمها استلزم اثباتها اثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة. وأما القيوم فإنه متضمن كمال غناه ، وكمال قدرته فانه

١٠٤

القيوم بنفسه الذي لا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجود ، ولا قيام لغيره إلا بإقامته فانتظم هذان الاسمان الكريمان صفات الكمال أتم انتظام يعرف ذلك أهل البصر بهذه الشئون الإلهية العالية وأهل العلم بأسماء الله وصفاته.

* * *

وله الإرادة والكراهة والرضا

وله المحبة وهو ذو الاحسان

وله الكمال المطلق العاري عن الت

شبيه والتمثيل بالانسان

وكمال من أعطى الكمال لنفسه

أولى وأقدم وهو أعظم شان

أيكون قد أعطى الكمال وما له

ذاك الكمال أذاك ذو إمكان

أيكون انسان سميعا مبصرا

متكلما بمشيئة وبيان

وله الحياة وقدرة وإرادة

والعلم بالكلي والأعيان

والله قد أعطاه ذاك ليس ه

ذا وصفه فاعجب من البهتان

الشرح : ويعتقد أهل السنة والجماعة أن الله متصف بالارادة وهي صفة تختص الفعل بأحد وجوهه الممكنة ، فالله عزوجل يخص بإرادته كل مخلوق بما يشاء من الصفات المتباينة المتقابلة من مثل السواد والبياض ، والطول والعرض ، واللطافة والكثافة والصلابة والليونة الخ. وضدها الكره وهو مستحيل على الله إذ لا مكره له ، قال تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) [القصص : ٦٨] ونفى الفلاسفة والمعتزلة صفة الإرادة عن الله عزوجل ، أما الفلاسفة فنفوا عنه القصد إلى الفعل وقالوا أن الفاعل بالقصد مستكمل ، وإن الإرادة تغير وانفعال وميل إلى الملائم وهو نقص يستحيل على الله ، ولهذا قالوا ان العالم صدر عنه بطريق الإيجاب والتعليل لا بطريق القدرة والاختيار.

وأما المعتزلة فبعد أن اتفقوا على نفي الإرادة فاختلفت عباراتهم في ذلك ، فمنهم من ذهب إلى أن معنى الإرادة أنه لا مكره له فهي ترجع إلى معنى سلبي. ومنهم من قال إنه مريد بإرادة حادثة لا في محل الخ. وكلا المذهبين مخالف للنصوص الصريحة الدالة على ثبوت المشيئة والإرادة ونفوذها في جميع

١٠٥

الموجودات ، ويعتقد أهل السنة كذلك أنه سبحانه متصف بصفة الكراهة التي هي ضد المحبة ، فهو يكره الكفر والفسوق وأهلهما والدليل على ثبوتها له قوله تعالى : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) [التوبة : ٤٦] وقوله عليه‌السلام «وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال واضاعة المال» وأنه متصف بصفة الرضى فهو رضي عن المؤمنين وعن أفعالهم كما قال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح : ١٨] وضدها وهو السخط صفة له كذلك كما قال تعالى : (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) [المائدة : ٨٠] وأنه متصف بصفة المحبة فهو يحب الصالحين من عباده المتقين المحسنين ويحب الأعمال الصالحة وينبغي أن يعلم أن ارادته ومشيئته غير كراهته ومحبته ، فالإرادة عامة لكل ما وجد من محبوب ومكروه والمحبة والكراهة خاصتان. ويعتقد أهل السنة كذلك أن الله له الرحمة الواسعة والإحسان العظيم الذي عم جميع المخلوقات ، وأن له الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه فلا يمكن أن يقاربه أو يماثله في كماله أحد والدليل على ثبوت صفات الكمال له سبحانه أنه هو واهب الكمال ومعطيه للمخلوق فيكون هو أولى بذلك الكمال من غيره ويكون أقدم بالاتصاف به من غيره ، ويكون الكمال الثابت له أعظم من الكمال الموجود في المخلوق اذ لا يعقل أن يكون هو معطي الكمال ، ويكون فاقدا له فإن فاقد الشيء لا يعطيه ، فإذا كان هو سبحانه الذي خلق الانسان وجعله سميعا بصيرا متكلما بمشيئته واختياره حيا قادرا مريدا عالما بحقائق الأشياء وماهياتها الكلية وأعيانها الخارجية الجزئية ، وكانت هذه كلها صفات كمال في الانسان فلا بد أن تكون ثابتة له سبحانه على نحو أتم وأكمل مما هي في الانسان ، وأما خلوه عن هذه الصفات والكمالات التي هو واهبها ومفيدها فهذا من أعظم الزور والبهتان ، والحاصل أن كل كمال في المخلوق وأمكن أن يتصف به الخالق جل وعلا فهو أحق به وأولى كما أن كل نقص في المخلوق ، فالخالق أولى بتنزهه عنه.

* * *

١٠٦

بخلاف نوم العبد ثم جماعه

والأكل منه وحاجة الأبدان

اذ تلك ملزومات كون العبد مح

تاجا وتلك لوازم النقصان

وكذا لوازم كونه جسدا نعم

ولوازم الأحداث والإمكان

يتقدس الرحمن جل جلاله

عنها وعن أعضاء ذي جسمان

الشرح : يعني أن الثابت لله عزوجل من الكمالات ما لا يستلزم نقصا بوجه من الوجوه بخلاف ما يكون من لوازم البشرية وضرورات الجسد وما يكون من مقتضيات الحدوث والامكان مثل نوم العبد فإنه فتور يعتري جسم الحي فيتطلب الراحة من أجل استعادة نشاطه في القيام بوظائفه ، ومثل الجماع فإنه ضرورة يريد بها الحي التخلص من بعض الفضلات التي تؤذيه لو بقيت كالبول والتغوط وهو أيضا يحتاجه من أجل الولد الذي يعتبر كمالا في حقه ، ومثل الأكل والشراب ، فإن الحي يحتاجهما من أجل بقاء حياته وتجديد ما تهدم من أجزائه وإذا علم أن هذه الأشياء تستلزم نقصا واحتياجا وتقتضي حدوثا وامكانا فالله عزوجل يتقدس عنها كما يتقدس عن كونه جسما له أعضاء وجوارح كما يصفه بذلك المشبهة مثل داود الجورابي وأمثاله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. ولكن ينبغي أن لا يتخذ نفي الأعضاء والجوارح ذريعة إلى نفي الصفات الثابتة لله عزوجل بالأدلة القطعية من الوجه واليد والعين والقدم وغيرها.

* * *

والله ربي لم يزل متكلما

وكلامه المسموع بالآذان

صدقا وعدلا أحكمت كلماته

طلبا واخبارا بلا نقصان

ورسوله قد عاذ بالكلمات من

لدغ ومن عين ومن شيطان

أيعاذ بالمخلوق حاشاه من ال

اشراك وهو معلم الإيمان

بل عاذ بالكلمات وهي صفاته

سبحانه ليست من الأكوان

وكذلك القرآن عين كلامه ال

سموع منه حقيقة ببيان

هو قول ربي كله لا بعضه

لفظا ومعنى ما هما خلقان

١٠٧

تنزيل رب العالمين وقوله

اللفظ والمعنى بلا روغان

الشرح : هذا بيان لمذهب أهل السنة والجماعة في صفة كلام الرب جل شأنه فالله عندهم لم يزل متكلما ، لأن الكلام صفة كمال ، ومن يتكلم من المخلوقين أكمل ممن لا يتكلم ، والله لم يزل ولا يزال متصفا بصفات الكمال كلها ومنها الكلام ، والكلام من صفات الأفعال التابعة لمشيئته وارادته ، فهو يتكلم متى شاء وكيف شاء ، فهو من الافعال الاختيارية التابعة لمشيئته وحكمته.

وهو سبحانه يتكلم بحروف وأصوات يسمعها من يكلمه كما كلم موسى عليه‌السلام عند مجيئه للميقات وناداه من جانب الطور الايمن وقربه نجيا ، وكما يكلم عباده المؤمنين يوم القيامة ويسلم عليهم ويبشرهم برحمة منه ورضوان ، وقد تمت كلماته سبحانه وأحكمت ، صدقا في اخباره وعدلا في أحكامه ، لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم.

والدليل على أن الكلام المسموع المتلو صفة لله غير مخلوق أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه وآله استعاذ بكلمات الله من شر ما خلق ، ومعلوم أنه لا يجوز الاستعاذة بالمخلوق ، بل لا يستعاذ الا بأسمائه تعالى وصفاته. والقرآن كذلك عين كلامه المسموع منه على الحقيقة ، فقد تكلم الله به بألفاظه ومعانيه بصوت نفسه وسمعه منه جبريل عليه‌السلام وبلغه الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما سمعه. وهو كله قول الله وكلامه غير مخلوق ، لا فرق بين لفظه ومعناه ، خلافا لمن زعم أن المعنى قديم يرجع إلى صفة قديمة وأن اللفظ حادث مخلوق. فالقرآن كله تنزيل رب العالمين وقوله.

ولا شك أن المنزل هو كلام الله وليس هو الفاظا فقط دون معان ، ولا هو معان بلا الفاظ ، بل هو الفاظ دالة على معانيها ، فهو كلام الله المنزل من عنده بألفاظه ومعانيه ، فتخصيص المعنى دون اللفظ بالقدم ، وكونه غير مخلوق روغان عن الحق ومكابرة للدليل.

* * *

١٠٨

لكن أصوات العباد وفعلهم

كمدادهم والرق مخلوقان

فالصوت للقاري ولكن الكلا

م كلام رب العرش ذي الاحسان

هذا إذا ما كان ثم وساطة

كقراءة المخلوق للقرآن

فإذا انتفت تلك الوساطة مثل ما

قد كلم المولود من عمران

فهنالك المخلوق نفس السمع لا

شيء من المسموع فافهم ذان

هذي مقالة أحمد ومحمد

وخصومهم من بعد طائفتان

إحداهما زعمت بأن كلامه

خلق له ألفاظه ومعاني

والآخرون أبوا وقالوا شطره

خلق وشطر قام بالرحمن

الشرح : بعد أن بين أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وأن الله تكلم به على الحقيقة بلفظه ومعناه ، ذكر أن أصوات العباد بالقرآن وكتابتهم له ، والمداد الذي يكتبون به والورق الذي يكتبون عليه ، كل ذلك مخلوق ، ولكن المقروء والمكتوب هو كلام الله ، فإذا قرأ القارئ القرآن. فصوته بالقرآن مخلوق ، ولكن القرآن المؤدى بذلك الصوت غير مخلوق ، وكذلك إذا كتبه الكاتب في المصحف فالكتابة نفسها فعل الكاتب ، وهي مخلوقة ، ولكن المكتوب كلام الله ، فالمقروء بالألسنة والمكتوب في المصاحف والمحفوظ في الصدر هو كلام الله عزوجل ، فإن طرق الاداء والتعبير قد تختلف وتتعدد ، ولكن المؤدى والمعبر عنه بها جميعا شيء واحد وهو كلام الله عزوجل ، فإن الكلام انما ينسب لمن قاله مبتدئا لا إلى من بلغه مؤديا.

وهذا الذي ذكره في حكم أصوات القارئين ومداد الكاتبين وأنها مخلوقة ، أنما يتأتى اذا كان ثمة واسطة في الأداء والتبليغ ، كقراءة المخلوق للقرآن. وأما إذا انتفت تلك الواسطة وكان الكلام مسموعا من الله عزوجل مباشرة كما في تكليم موسى عليه‌السلام ، فالمخلوق هنالك هو نفس السمع الذي هو أدرك المسموع ، وأما المسموع نفسه فهو كلام الله لا شيء منه بمخلوق ، فإنه نعت الله وصفته.

هكذا فرق الإمام أحمد والإمام البخاري وغيرهما من أئمة أهل السنة بين

١٠٩

كلام الله الذي هو غير مخلوق ، وبين ما هو من فعل العباد من القراءة أو الكتابة أو الحفظ أو السماع الذي هو مخلوق.

وأما خصوصهم فطائفتان : طائفة الجهمية والمعتزلة ، وهؤلاء ذهبوا الى أن القرآن كله بألفاظه ومعانيه مخلوق ، وذلك بناء على مذهبهم في نفي الصفات ، وزعموا أن الله متكلم بمعنى خالق للكلام ، فالله عزوجل عندهم لا يتكلم بكلام هو صفة له قائمة به ، ولكنه يخلق الكلام ، أما في الهواء أو في اللوح المحفوظ أو في غيرهما ، واحتجوا لمذهبهم بالآيات التي تدل على حدوث القرآن من مثل قوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) [الأنبياء : ٢] ولا شك أننا لا ننازعهم في الحدوث ، ولكنهم يبنون عليه الحكم بأنه مخلوق ، اذ كل حادث عندهم مخلوق ، فإنهم لم يثبتوا الا قديما واحدا وهو ذات الله عزوجل ، وما وراءها فهو حادث مخلوق ، ولهذا نفوا الصفات فرارا من القول بتعدد القدماء.

وأما الطائفة الأخرى فهم الكلابية والأشعرية ، ذهبوا الى أن القرآن ألفاظ ومعان ، فألفاظه المتلوة المسموعة المكتوبة في المصاحف حادثة مخلوقة ، وأما معانيه المعبر عنها بتلك الألفاظ فقديمة قائمة بذاته تعالى ، ويسمونها الكلام النفسي وهو عندهم معنى واحد لا تعدد فيه ولا تبعض.

وهذا هو معنى قول المؤلف رحمه‌الله (والآخرون) يعني الكلابية والاشعرية أبوا القول بما قاله المعتزلة من أن القرآن كله مخلوق ، وقالوا شطره ، أي نصفه وهو اللفظ خلق ، يعني مخلوق ، وشطره الآخر ، وهو المعاني قام بالرحمن ، يعني أنه صفة له فالمعاني عندهم ترجع الى الصفة القديمة ، وأما الالفاظ فحادثة مخلوقة.

* * *

زعموا القرآن عبارة وحكاية

قلنا كما زعموه قرآنان

هذا الذي نتلوه مخلوق كما

قال الوليد وبعده الفئتان

والآخر المعنى القديم فقائم

بالنفس لم يسمع من الديان

١١٠

والأمر عين النهي واستفهامه

هو عين اخبار وذو وحدان

وهو الزبور وعين توراة وان

جيل وعين الذكر والفرقان

الكل شيء واحد في نفسه

لا يقبل التبعيض في الأذهان

ما ان له كل ولا بعض ولا

حرف ولا عربي ولا عبراني

الشرح : يعني أن الكلابية أتباع ابن كلّاب (بضم الكاف وتشديد اللام) والأشعرية أتباع أبي الحسن الأشعري زعموا أن هذا القرآن الموجود بين دفتي المصحف؟ والذي نقرؤه بالألسنة ونحفظه في الصدور ليس كلام الله ، وانما هو عبارة وحكاية عن كلام الله ودال عليه فقط ، وتسميته قرآنا أو كلاما مجاز من قبيل تسمية الدال باسم المدلول وعلى زعمهم هذا يكون هناك قرآنان : هذا الذي نتلوه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا ونحفظه في صدورنا ، وهو عندهم مخلوق كما وصفه بذلك أحد أئمة الكفر ، وهو الوليد بن المغيرة حين فكر وقدر : (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) [المدثر : ١٩ ، ٢٥] وكما وصفه بذلك أيضا الفئتان من الجهمية والمعتزلة بعد الوليد حيث قالوا أن القرآن ليس الا هذه الالفاظ الحادثة المخلوقة.

وأما الآخر فهو المعنى القديم القائم بالنفس ، وهو الكلام عندهم على الحقيقة ولا يكون بحروف وأصوات مسموعة ، بل هو عندهم معنى واحد في الأزل لا انقسام فيه ولا تبعض ، فالأمر فيه عين النهي ، والاستفهام عين الخبر ، وكذلك الزبور فيه عين التوراة ، والإنجيل عين القرآن ، الكل شيء واحد في نفسه هو الأمر بكل مأمور ، والنهي عن كل محظور ، والخبر عن كل مخبر عنه ، ان عبر عنه بالعربية صار قرآنا ، وان عبر عنه بالعبرانية كان توراة ، فلا يقبل هذا المعنى الواحد التبعيض والانقسام اصلا ، بل ليس له كل ولا بعض ، ولا هو مركب من حروف وأصوات ، ولا عربي ولا عبراني.

* * *

١١١

ودليلهم في ذاك بيت قاله

فيما يقال الأخطل النصراني

يا قوم قد غلط النصارى قبل في

معنى الكلام وما اهتدوا لبيان

ولأجل ذا جعلوا المسيح إلههم

اذ قيل كلمة خالق رحمن

ولأجل ذا جعلوه ناسوتا ولا

هوتا قديما بعد متحدان

ونظير هذا من يقول كلامه

معنى قديم غير ذي حدثان

والشطر مخلوق وتلك حروفه

ناستوته لكن هما غيران

فانظر الى ذاك الاتفاق فإنه

عجب وطالع سنة الرحمن

الشرح : يعني أنه لا دليل لهؤلاء الكلابية والأشاعرة على اثبات الكلام النفسي الذي هو معنى قائم بالمتكلم الا بيتا من الشعر ينسب للأخطل ، وهو شاعر نصراني من بني تغلب كان في زمان بني أمية يقول فيه :

ان الكلام لفي الفؤاد وانما جعل

اللسان على الفؤاد دليلا

على أن هذا البيت لو صحت نسبته إليه ـ وكثير من اللغويين ينكرها ـ فإنه لم يرد به المعنى الذي ارادوه من اثبات الكلام النفسي العاري عن الحروف والالفاظ ولكنه يقصد به ان الانسان إذا أراد أن يتكلم فإنه يزور الكلام في نفسه أو لا قبل أن ينطق به ، ويزنه بعقله ثم يعبر عنه باللسان.

هذا شأن كل عاقل يعلم أنه مؤاخذ بما ينطق به ، أما أجراء الكلام على اللسان دون تقدير أو روية ، فإنما هو من شأن المجنون والهاذي ونحوهما. ويشهد لهذا قول عمر الله عنه يوم السقيفة : زورت في نفسي كلاما ، فهذا الكلام لم يكن مجرد معان قائمة بنفس عمر ، ولكنه كان جملا وعبارات أعدها ليلقيها من أجل استخلاف أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو فرضنا أنه أراد هذا المعنى فإنه نصراني ، وقد غلط النصارى قديما في معنى الكلام حيث زعموا أن عيسى نفس كلمة الله ، فجعلوا الكلام الذي هو من قبيل الاعراض جوهرا قائما بنفسه ، ومن أجل هذا اتخذوه إلها. وقالوا أن اللاهوت يعنون الكلمة التي هي شيء من الاله اتحد بالناسوت ، اي بجسد عيسى عليه‌السلام.

١١٢

فعيسى عندهم فيه جزء إلهي قديم ، وهو الكلمة ، وجزء حادث مخلوق وهو الجسد ، ولكنهما اتحدا وصارا شيئا واحدا يسمى المسيح.

وقول الكلابية ومن وافقهم من الأشعرية هو من هذا الجنس حيث زعموا أن القرآن شطره قديم ، وهو المعنى النفسي وشطره محدث ، وهو هذا الموجود في المصحف ، فهو عندهم عبارة وحكاية عن كلام الله ، وجعلوه ناسوتا لذلك المعنى القديم ، لأنه حال فيه ومدلول عليه به ، فما أقوى ما ضاهى هؤلاء بقولهم في القرآن قول النصارى في نبيهم ، وليس هناك من فرق ، الا أن النصارى اثبتوا اتحاد الجزءين ، وأما هؤلاء فقالوا أنهما غيران ، وهذا الاتفاق بين هؤلاء وبين النصارى مما يقضي منه العجب ، ويحمل على التأمل في مجارى سنن الله جل شأنه في خلقه.

وتكايست أخرى وقالت ان ذا

قول محال وهو خمس معان

تلك التي ذكرت ومعنى جامع

لجميعها كالأس للبنيان

فيكون أنواعا وعند نظيرهم

أوصافه وهما فمتفقان

أن الذي جاء الرسول به لمخ

لوق ولم يسمع من الديان

والخلف بينهم فقيل محمد

أنشأه تعبيرا عن القرآن

والآخرون أبوا وقالوا انما

جبريل انشاه عن المنان

الشرح : لما كان القول بأن الكلام النفسي القديم معنى واحد في الأزل غير معقول لاستلزامه أن يكون الأمر عين النهي ، والاستخبار عين الخبر ، وأن تكون معاني كتب الله عزوجل كلها معنى واحد ، وان تكون آية الكرسي مثلا في معاني آية الدين ، وسورة تبت يدا أبي لهب في معنى قل هو الله أحد إلى غير ذلك من اللوازم الفاسدة ، تكايست طائفة من الأشاعرة وقالوا ان الكلام في الأزل خمسة أنواع الأمر والنهي ، والاستفهام والخبر ومعنى خامس يعمها جميعا فهو لها كالاساس للبنيان.

ومنهم من جعلها أوصافا للكلام لا أنواعا له ، ومهما كان اختلافهم في هذا

١١٣

المعنى النفسي ، فإنهم متفقون جميعا على أن هذا الذي جاء به الرسول من الألفاظ المقروءة المتلوة انما هو من وضع المخلوق ، وليس بكلام مسموع من الله جل شأنه ثم اختلفوا فيمن وضعه ، فقالت طائفة أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي أنشأه وألفه تعبيرا عن القرآن الذي هو المعنى النفسي القديم فالوحي ينزل عليه بالمعاني ، ثم هو يعبر عنها بألفاظ من عنده ، وأبت طائفة أخرى هذا القول لأنه يضاهى قول الكفار في القرآن : (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) [المدثر: ٢٥] وقولهم : (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) [الفرقان : ٤] وذهبوا الى أن جبريل عليه‌السلام هو الذي أنشأ الفاظ القرآن بأمر من الله عزوجل ، ثم نزل بها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

* * *

وتكايست أخرى وقالت أنه

نقل من اللوح الرفيع الشأن

فاللوح مبدؤه ورب اللوح قد

أنشأه خلقا فيه ذا حدثان

هذي مقالات لهم فانظر ترى

في كتبهم يا من له عينان

لكن أهل الحق قالوا انما

جبريل بلغه عن الرحمن

القاه مسموعا له من ربه

للصادق المصدوق بالبرهان

الشرح : وتكايست طائفة ثالثة وقالت لا يجوز القول بأن محمدا أو جبريل عليهما الصلاة والسلام هو الذي الف القرآن وأنشأه ، فان ذلك مما يقوي كلام الطاعنين فيه ، والقائلين بأنه مختلق مفتري ، وليس كلام الله بل الواجب أن نقول أن الله عزوجل قد أنشأ القرآن وخلقه كتابة في اللوح المحفوظ ، كم قال تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج : ٢١ ، ٢٢] وكما قال : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الزخرف : ٤] ثم أن جبريل عليه‌السلام يأخذه من اللوح وينزل به على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتلوه عليه ، فاللوح هو مبدأ انزاله ، وليس منزلا من عند الله جل شأنه ورب اللوح هو الذي أنشأه في اللوح مخلوقا ذا حدثان أي حدوث. وهذه المقالات الثلاث في القرآن المسمى عندهم باللفظي المخلوق موجودة في كتب هذه الطائفة المسماة بالأشعرية يراها ويطالعها كل من له عينان.

١١٤

وأما أهل الحق من أتباع مذهب السلف فإنهم لا يقولون بشيء من ذلك الكلام المحدث المبتدع ، ولكنهم يذهبون الى أن القرآن منزل من عند الله حقا وانه كلامه الذي تكلم به ، وسمعه منه عبده جبريل عليه‌السلام ، فبلغه الى الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه كما سمعه من الرب جل شأنه فالكلام كلام الله وما كان جبريل الا مبلغا ومؤديا لما سمع بأمانة هو جدير بها حيث وصفه الله بها في قوله : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء : ١٩٢ ، ١٩٤].

* * *

فصل

في مجامع طرق أهل الأرض واختلافهم في القرآن

واذا أردت مجامع الطرق التي

فيها افتراق الناس في القرآن

فمدارها أصلان قام عليها

هذا الخلاف هما له ركنان

هل قوله بمشيئة أم لا وهل

في ذاته أم خارج هذان

أصل اختلاف جميع أهل الأرض في

القرآن فأطلب مقتضى البرهان

ثم الألى قالوا بغير مشيئة

وإرادة منه فطائفتان

احداهما جعلته معنى قائما

بالنفس او قالوا بخمس معان

والله أحدث هذه الألفاظ كي

تبديه معقولا الى الاذهان

الشرح : هذا شروع من المؤلف في بحث اختلاف الطوائف في مسألة الكلام وقد أولاها هنا عناية خاصة ، وأفاض في معالجتها نظرا لما لها من أهمية كبرى ، فقد كثر تنازع الفرق حولها واختلفت مذاهب الناس فيها ، وكانت السبب في المحنة التي وقعت على أهل السنة في زمن المأمون والمعتصم حتى ضرب الامام أحمد رضي الله عنه وطيف به من أجل امتناعه عن القول بخلق القرآن ، وقد حصر المؤلف الأقوال في هذه المسألة حصرا مفيدا حين رد الخلاف فيها الى

١١٥

أصلين هما كالأساس له ، أما الأصل الأول فهو هل قوله تعالى متعلق بمشيئته وقدرته أم لا.

وأما الأصل الثاني فهو : هل قوله وصف له قائم بذاته أم خارج عنها ، فهذان الاصلان عليهما يدور كل خلاف بين أهل الأرض حول هذه المسألة أما الذين قالوا أن الكلام لا تعلق له بمشيئته تعالى وارادته فطائفتان : الكلابية والاشعرية وهؤلاء ذهبوا الى أن الكلام معنى قديم قائم بذاته تعالى ، فمنهم من جعله معنى واحدا في الازل كما تقدم ، ومنهم من قال أنه خمس معان مختلفة. وأما الفاظ القرآن عندهم فحادثة احدثها الله عزوجل للدلالة على هذا المعنى القديم وجعله معقولا للأذهان.

* * *

وكذاك قالوا أنها ليست هي ال

قرآن بل دلت على القرآن

ولربما سمي بها القرآن تس

مية المجاز وذاك وضع ثان

وكذلك اختلفوا فقيل حكاية

عنه وقيل عبارة لبيان

اذ كان ما يحكى كمحكي وه

ذان اللفظ والمعنى فمختلفان

ولذا يقال حكى الحديث بعينه

اذ كان أوله نظير الثاني

فلذاك قالوا لا نقول حكاية

ونقول ذاك عبارة الفرقان

والآخرون يرون هذا البحث لف

ظيا وما فيه كبير معان

الشرح : وكذلك قال الكلابية والأشعرية أن هذه الالفاظ لا يصح اطلاق القول بأنها القرآن بل هي دالة عليه فقط ، وربما أطلقوا عليها اسم القرآن مجازا تسمية للدال باسم المدلول ، ومنهم من قال أن القرآن مشترك لفظي يطلق على كل من المعنى القديم واللفظ الحادث. ثم اختلفوا فقال الكلابية : ان هذه الالفاظ المقروءة حكاية عن الكلام النفسي ، وقال الاشعرية : بل هي عبارة عنه فقط وليست حكاية ، اذ الحكاية عن الشيء لا بد أن تكون عين المحكي ، كما تقول حكيت الحديث بعينه ، تريد أن روايتك له مطابقة للأصل تماما بلا تغيير لفظ

١١٦

ولا زيادته ولا تقديم ولا تأخير ، وما هنا ليس كذلك ، فان اللفظ والمعنى مختلفان ، فلا يصح القول بأن أحدهما حكاية عن الآخر ، ويرى بعض الاشاعرة أن هذا الخلاف لفظي لا يتعلق به غرض علمي ، وليس وراءه ثمرة مرجوة ، فان الفريقين من الكلابية والاشعرية متفقون على أن هذه الألفاظ ليست هي القرآن ، وانما هي دالة عليه فقط ، فسواء جعلت حكاية عنه أو عبارة لم يختلف هذا المعنى الذي هو محل اتفاق.

* * *

فصل

في مذهب الاقترانية

والفرقة الأخرى فقالت إنه

لفظا ومعنى ليس ينفصلان

واللفظ كالمعنى قديم قائم

بالنفس ليس بقابل الحدثان

فالسين عند الباء لا مسبوقة

لكن هما حرفان مقترنان

والقائلون بذا يقولوا انما

ترتيبها بالسمع بالآذان

ولها اقتران ثابت لذواتها

فأعجب لذا التخليط والهذيان

الشرح : وأما الفرقة الثانية ممن قالوا ان الكلام لا يتعلق بمشيئته تعالى وقدرته ، فهم الاقترانية نسبة إلى الاقتران الذي هو مذهبهم ، فإنهم زعموا أن الحروف التي تركب منها القرآن قد اقترن بعضها ببعض في الأزل ، فليس لأحدها تقدم بالزمان على غيره ، إذ لا يوجد قبل وبعد في الأزل. وذهب هؤلاء إلى أن القرآن ألفاظ ومعان ، ليس ينفصل أحدهما عن الآخر ، إذ لا تعقل ألفاظ بلا معان ، ولا تعقل معان مجردة عن الألفاظ ، وكل من اللفظ والمعنى قديم قائم بذاته تعالى ليس بقابل للحدوث أصلا ، وما دامت الألفاظ قديمة فالحروف التي تألفت منها هذه الألفاظ قديمة ، وحينئذ لا يصح القول بوجودها في الأزل على الترتيب والتعاقب ، بل وجدت مقترنة مجتمعة ، فالسين من بسم الله الرحمن الرحيم تكون

١١٧

عند الباء لا مسبوقة بها ، فإنه لا نسبة بين المقترنين بالتقدم والتأخر ، وإنما يكون الترتيب بن الحروف وتعاقبها عند السمع با لآذان ، إذا لا تطيق الاسماع إدراك الحروف على سبيل الاجتماع ، وهذا الترتيب الواقع بين الحروف في الأسماع لا يعني أن الاقتران غير لازم لها ، بل هو ثابت لهذه الحروف لذواتها ، وما بالذات لا يعقل تخلفه ، ولا شك أن هذا الكلام تخليط وهذيان يدعو إلى الضحك من هؤلاء المجانين ، فإن اللفظ إذا كان مؤلفا من حرفين مثلا ، فإنه لا يمكن النطق بالثاني منها قبل النطق بالأول ، ولا يمكن النطق بهما مجتمعين بحال من الأحوال فلا وجود للحروف أصلا إلا على سبيل الترتيب والتعاقب بمعنى أنها توجد شيئا بعد شيء ، وعلى هذا النحو تصل إلى الآذان فتسمعها وتميزها ، وإلا فلو جاز أن توجد مجتمعة فما الذي يميز لفظا عن لفظ إذا كانت حروفها واحدة ولكنها مختلفة في الترتيب كعذل ولذع وسبق وقبس مثلا.

* * *

لكن زاغونيهم قد قال ان

ذواتها ووجودها غيران

فترتبت بوجودها لا ذاتها

لا للعقول وزيغة الأذهان

ليس الوجود سوى حقيقتها لذي ال

أذهان بل في هذه الأعيان

لكن إذا أخذ الحقيقة خارجا

ووجودها ذهنا فمختلفان

والعكس أيضا مثل ذا فإذا هما

اتحدا اعتبارا لم يكن شيئا

وبذا يزول جميع إشكالاتهم

في ذاته ووجوده الرحمن

الشرح : قد عرفت ما يلزم مذهب هؤلاء الاقترانية من الفساد ومخالفة الواقع المحسوس بزعمهم أن الحروف قديمة وأنها مجتمعة في الأزل على سبيل الاقتران بلا تعاقب ولا ترتيب بينها. ولكن أحدهم وهو ابن الزاغوني يريد أن يتكايس ويدعي الفلسفة فيفرق بين ذوات هذه الحروف ، يعني حقائقها الثابتة التي هي بها هي وبين وجودها ، فيقول أنها مترتبة بحسب وجودها لا بحسب ذواتها وهذه مغالطة مكشوفة ، فإن ذات الشيء وحقيقته لا بد أن تكون موجودة ، أما

١١٨

بالوجود العيني الخارجي ، وإما بالوجود الذهني ، ولا تختلف الحقيقة والذات في هذا الوجود عنها في ذاك إلا بالاعتبار ، فإن كانت الذات الثابتة للحروف مقتضية للترتيب والتعاقب بالنسبة لأحد الوجودين ، وهو الوجود الخارجي ، فهي كذلك بالنسبة للوجود الآخر ، وإن أراد بقوله ان الذات والوجود غيران ، ان الذات من حيث هي مجردة عن الاتصاف بأحد الوجودين غير الوجود ، هذه الذات غير معقولة ، فإن ما ليس بموجود هو معدوم.

نعم يمكن القول بأن الوجود الخارجي للحقيقة غير وجودها في الذهن ، فتكون الحقيقة مغايرها لنفسها بالاعتبار. وكذلك يمكن العكس ، فيقال الوجود للتي بحسب الذهن مغاير للوجود بحسب الخارج ، ولكن هذا لا يعني أن الذات يمكن أن تنفصل عن الوجود أو أن تقتضي من حيث هي أمرا ، ولا يكون لازما لها عند الوجود ، أما إذا أخذت الحقيقة مجردة عن الاعتبارات المترتبة على اختلاف الوجود ، فهي شيء واحد حينئذ لا شيئان. وبهذا التفسير يزول الأشكال الذي أورده المتكلمون كالرازي وغيره ، وهو : هل وجود الباري غير ذاته وحقيقته أم لا. والجواب أن الذات إذا أخذت من حيث هي فلا شك أن الوجود وصف لها فهو غيرها بهذا المعنى ، وأما الذات الموجودة بوجودها ، فلا يقال ان الوجود غيرها ، ولكن يمكن أن يقال أن هناك فرقا بين وجودها الذهني ووجودها الخارجي بالاعتبار.

* * *

فصل

في مذاهب القائلين بأنه متعلق بالمشيئة والإرادة

والقائلون بأنه بمشيئة

إرادة أيضا فهم صنفان

إحداهما جعلته خارج ذاته

كمشيئة للخلق والأكوان

قالوا وصار كلامه بإضافة ال

تشريف مثل البيت ذي الأركان

١١٩

وقال عندهم ولا هو قائل

والقول لم يسمع من الديان

فالقول مفعول لديهم قائم

بالغير كالأعراض والأكوان

هذي مقالة كل جهمي وهم

فيها الشيوخ معلم الصبيان

الشرح : بعد أن فرغ المؤلف من ذكر مذاهب القائلين بأن القرآن صفة قديمة قائمة بذاته تعالى لا تعلق لها بمشيئته وقدرته بين أن الأولى منهما وهي الكلابية والأشعرية ادعت ذلك في المعنى فقط ، والأخرى ادعته في اللفظ والمعنى جميعا ، وهم الاقترانية ، أخذ في بيان مذاهب القائلين بأن القرآن متعلق بمشيئته تعالى وارادته ، فذكر أنهما طائفتان أيضا : احداهما وهم الجهمية ومتأخرو المعتزلة قالوا بأن القرآن مخلوق خلقه الله كما خلق السموات والأرض وسائر المخلوقات ومعنى كونه تعالى متكلما عندهم إنه خالق للكلام وإنما يضاف إليه القرآن فيقال كلام الله على سبيل التشريف ، كما يقال بيت الله ، وناقة الله ، وهذه سفسطة ظاهرة ، فإنه ولا شك فيه أنه لا يعقل من المتكلم إلا من قام به الكلام ، فطن الكلام صفة المتكلم ، ولا يقال لمن أوجد الكلام في غيره أنه هو المتكلم بذلك الكلام ، بل يكون الكلام صفة للمحل الذي قام به وصار عرضا له.

وأما قولهم ان اضافة الكلام إلى الله إنما هي اضافة تشريف ، كاضافة البيت والناقة فغلط صريح ، بل هي اضافة صفة إلى موصوف ، لأن الاضافة نوعان : أحدهما ما يضيفه الله إلى نفسه من الأعيان المخلوقة ، كالبيت والناقة ونحوهما ، فهذه الإضافة تفيد تشريف المضاف والتنويه بما امتاز به من الصفات العظيمة ، والثاني ما يضيفه الله إلى نفسه من المعاني والصفات التي لا تقوم بنفسها ، كعلم الله وقدرته وارادته وكلامه الخ.

فهذه الإضافة تقتضي قيام هذه المعاني بالمضاف إليه واتصافه بها ، وهذا فرق بديهي ، ويلزم على مذهب هؤلاء أن الله لم يتصف بالقول أبدا ، فلا هو قال في الماضي ، ولا هو قائل الآن أو مستقبلا ، وأنه لم يسمع منه قول ، إذ كان القول عندهم مفعوله الذي خلقه في الغير على أنه عرض له كسائر الأعراض القائمة

١٢٠