شرح القصيدة النونيّة - ج ١

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ١

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥
الجزء ١ الجزء ٢

«لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات». وقد نزل في شأن هذه الغزوة قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً* وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) [الأحزاب : ٢٦ ، ٢٧].

وأما قوله : واذكر حديثا للبراء الخ ، فهو إشارة إلى ما رواه البراء بن عازب رضي الله عنه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما معناه أن روح العبد إذا فارقت البدن تصعد بها الملائكة من سماء إلى سماء حتى تنتهي إلى السماء الذي فها الرب الخ ، فهو صريح بوجود الرب جل شأنه في السماء ، أي في جهة العلو.

* * *

واذكر حديثا في الصحيح وفيه

تحذير لذات البعل من هجران

من سخط رب في السماء على التي

هجرت بلا ذنب ولا عدوان

واذكر حديثا قد رواه جابر

فيه الشفاء لطالب الايمان

في شأن أهل الجنة العليا وما

يلقون من فضل ومن احسان

بيناهم في عيشهم ونعيمهم

وإذا بنور ساطع الغشيان

لكنهم رفعوا إليه رءوسهم

فإذا هو الرحمن ذو الغفران

فيسلم الجبار جل جلاله

حقا عليهم وهو ذو الاحسان

الشرح : قوله : واذكر حديثا في الصحيح الخ ، اشارة الى قوله عليه‌السلام ما معناه «والذي نفسي بيده ما من امرأة تبيت هاجرة فراش زوجها إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى تصبح» فالذي في السماء إنما هو الرب جل شأنه لا يصح أن يحمل على شيء آخر من ملك ونحوه ، فإن المقصود من الحديث الزجر والتهديد والوعيد الشديد لمن تفعل ذلك ، والذي يناسب هذا إنما هو سخط الرب وغضبه.

وأما قوله : واذكر حديثا ، قد رواه جابر الخ ، فهو اشارة إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما

٢٨١

معناه فيما رواه ابن ماجه في سننه «بينما أهل الجنة في نعيمهم اذ سطع عليهم نور فرفعوا رءوسهم فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم ، فقال السلام عليكم يا أهل الجنة ، فذلك قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] قال فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم» رواه ابن ماجة في كتاب السنة من سننه عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب.

* * *

واذكر حديثا قد رواه الشافعي

طريقه فيه أبو اليقظان

في فضل يوم الجمعة اليوم الذي

بالفضل قد شهدت له النصان

يوم استواء الرب جل جلاله

حقا على العرش العظيم الشأن

واذكر مقالته ألست أمين من

فوق السماء الواحد الرحمن

واذكر حديث أبي رزين ثم سقه

بطوله كم فيه من عرفان

والله ما لمعطل بسماعه

أبدا قوي إلا على النكران

فأصول دين نبينا فيه أتت

في غاية الايضاح والتبيان

وبطوله قد ساقه ابن إمامنا

في سنة والحافظ الطبراني

وكذا أبو بكر بتاريخ له

وأبوه ذاك زهير الرباني

الشرح : أخرج الشافعي رحمه‌الله في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أتى جبريل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمرآة بيضاء فيها نكتة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هذه؟ فقال هذه يوم الجمعة ، فضلت بها أنت وأمتك والناس لكم فيها تبع ، اليهود والنصارى ولكم فيها خير وفيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم يدعوا الله بخير إلا استجيب له ، وهو عندنا يوم المزيد ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يوم المزيد يا جبريل؟ قال ان ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثب من مسك ، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله سبحانه وتعالى ما شاء من ملائكته وحوله منابر من نور عليها مقاعد النبيين ، وحف تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت

٢٨٢

والزبرجد عليها الشهداء والصديقون ، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب ، فيقول الله عزوجل : أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فسلوني أعطكم ، فيقولون ربنا نسألك رضوانك ، فيقول قد رضيت عنكم ولكم ما تمنيتم ولدي مزيد ، فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير ، وهو اليوم الذي استوى فيه ربك على العرش وفيه خلق آدم وفيه تقوم الساعة).

والشاهد هنا في قوله : وهو اليوم الذي استوى فيه ربك على العرش ، وهو موافق لما في القرآن من أن استواءه تعالى على العرش كان بعد خلق السموات والأرض ، ومعلوم أن الله ابتدأ الخلق يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة حيث خلق آدم وهو آخر المخلوقات في آخر ساعة منه بعد العصر ثم استوى بعد ذلك على العرش ، فيكون الاستواء قد وقع يوم الجمعة بعد الفراغ من الخلق.

وأما قوله : واذكر مقالته ألست أمين من فوق السماء (البيت) فهو اشارة إلى ما ورد في الصحيح من حديث الخوارج من قوله عليه‌السلام (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء ، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء) والشاهد في قوله : وأنا أمين من في السماء ، فليس له معنى إلا أنه أمين الله الذي في السماء ، لا يجوز أبدا أن يراد بمن في السماء غير ذلك.

* * *

واذكر كلام مجاهد في قوله

أقم الصلاة وتلك في سبحان

في ذكر تفسير المقام لأحمد

ما قيل ذا بالرأي والحسبان

ان كان تجسيما فإن مجاهدا

هو شيخهم بل شيخه الفوقاني

ولقد أتى ذكر الجلوس به وفي

أثر رواه جعفر الرباني

أعني ابن عم نبينا وبغيره

أيضا أتى والحق ذو التبيان

والدارقطني الامام يثبت الآثار

في ذا الباب غير جبان

وله قصيد ضمنت هذا وفيها

لست للمروي ذا نكران

وجرت لذلك فتنة في وقته

من فرقة التعطيل والعدوان

٢٨٣

روي ابن جرير وغيره في تفسير : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء ٧٩] ان المقام المحمود هو الشفاعة العظمى ، وذكر عن مجاهد أن المقام المحمود هو أن الله تعالى يجلس رسوله معه على العرش ، والله أعلم.

* * *

والله ناصر دينه وكتابه

ورسوله في سائر الأزمان

لكن بمحنة حزبه من حربه

ذا حكمة مذ كانت الفئتان

وقد اقتصرت على يسير من

كثير فائت للعد والحسبان

ما كل هذا قابل التأويل بالتحريف

فاستحيوا من الرحمن

الشرح : إذا كانت الحرب في هذا الباب قائمة بين أهل الحق والاثبات من جهة ، وبين أهل النفي والتعطيل من جهة أخرى ، فإن النصر فيها مضمون لأقربهما الى كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث وعد الله عزوجل بذلك في كتابه ، قال تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات : ١٧١ ، ١٧٢] وقال : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر : ٥١] ولكن ما يجري على أهل الحق من عدوان أهل الباطل عليهم وإيذائهم لهم ، فإن ذلك امتحان من الله تبارك وتعالى لحزبه وأوليائه ليصفي بذلك جوهرهم ويمحص قلوبهم ويزيدهم عنده كرامة ورفعة على ما أوذوا في سبيله وصبروا وعلى ما احتملوا في جهاد أعدائه المبطلين ، قال تعالى : (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) [محمد : ٤].

ثم ذكر الشيخ رحمه‌الله أنه لم يذكر من أدلة علو الله تعالى على خلقه واستوائه على عرشه إلا طرفا يسيرا جدا من كثير لا يمكن عده واحصاؤه ، ولا يعقل أن تكون هذه النصوص كلها من الآيات والأحاديث والآثار في كثرتها ووضوحها قابلة لتأويل هؤلاء المعطلة لو لا أن القوم قد أصبحوا ولا حياء عندهم يمنعهم من الجرأة على كتاب الله عزوجل بالتحريف ، ويلزمهم الوقوف

٢٨٤

عند ما وقف سلف هذه الأمة الذين هم أكملها علما وأوسعها فهما بدلا من أن يتخبطوا في هذه المتاهات التي أضلتهم عن سواء السبيل.

* * *

فصل

في جناية التأويل على ما جاء به الرسول

والفرق بين المردود منه والمقبول

هذا وأصل بلية الإسلام من

تأويل ذي التحريف والبطلان

وهو الذي قد فرق السبعين بل

زادت ثلاثا قول ذي البرهان

وهو الذي قتل الخليفة جامع

القرآن ذا النورين والاحسان

وهو الذي قتل الخليفة بعده

أعني عليا قاتل الأقران

وهو الذي قتل الحسين وأهله

فغدوا عليه ممزقي اللحمان

وهو الذي في يوم حربهم أبا

ح حمى المدينة معقل الإيمان

حتى جرت تلك الدماء كأنها

في يوم عيد سنة القربان

وغدا له الحجاج يسفكها ويقتل

صاحب الإيمان والقرآن

وجرى بمكة ما جرى من أجله

من عسكر الحجاج ذي العدوان

الشرح : بعد أن بين الشيخ رحمه‌الله فساد مذهب أهل التأويل في مسألة العلو وما يفضي إليه من نفي وجود الرب جل شأنه قرر هنا أن أساس كل بلية أصيب بها الإسلام إنما هو التأويل الذي هو في الحقيقة تحريف والحاد ، فجميع الأحداث الكبار التي وقعت في هذه الأمة وهزت من كيانها وفرقتها شيعا لم يكن لها من سبب إلا جنوح فريق منها إلى أتباع الهوى والاستحسان بالرأي وترك الاعتصام بالكتاب والسنة. فهذا هو الذي فرق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة مصداق قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «ان بني إسرائيل تفرقوا على ثنتين وسبعين ملة ، وأن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين

٢٨٥

ملة كلها في النار ، إلا ملة واحدة. قيل من هي يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام : ما أنا عليه اليوم وأصحابي».

وهو الذي كان سببا في قتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه صاحب المناقب الغراء في جمع القرآن في المصحف الإمام وتجهيز جيش العسرة من ماله واختصاصه بتزوج اثنتين من بناته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. اذ لو لا ظهور التأويل ونشر الدعايات الخبيثة في الأمصار ضد خليفة الإسلام لما جرأت هذه الوفود التي قدمت المدينة على محاصرة داره واقتحامها عليه وقتله ظلما وهو يتلو كتاب الله عزوجل.

وكان مما تأوله هؤلاء القتلة في ذلك قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤] فقالوا أن عثمان كفر لحكمه بغير الحق وكل كافر فهو مشرك حلال الدم والمال ، وبهذه التأويلات الفاسدة استحل الخوارج الذين خرجوا في زمن علي رضي الله عنه دماء المسلمين وأموالهم وكفروا عليا ومعاوية ومن معهما من الصحابة وخرج منهم عبد الرحمن بن ملجم أشقى هذه الأمة فقتل عليا رضي الله عنه وهو ينادي لصلاة الصبح بمسجد الكوفة سنة ٤٠ من الهجرة.

وكان التأويل أيضا سببا في مقتل الحسين والايقاع به هو وأهله في كربلاء حيث قتله جند يزيد بن معاوية متأولين أنه من البغاة الخارجين عن طاعة الإمام.

وكان التأويل كذلك هو السبب في استباحة جند يزيد حمى المدينة المنورة في وقعة الحرة ثلاثة أيام يسفكون الدماء وينهبون الأموال ويهتكون الاعراض حتى فني في هذه الموقعة معظم الأنصار الذين آووا ونصروا رضي الله عنهم أجمعين.

ومن بعد ذلك جرى بمكة ما جرى من عسكر الحجاج الغشوم حيث حاصرها في أيام ابن الزبير رضي الله عنه وضربها بالمنجنيق وانتهت المعركة بمقتل ابن الزبير بعد أن تخلى عنه أصحابه.

٢٨٦

فكل هذه البلايا ما وقعت الا بسبب تأويلات الخوارج والمرجئة والقدرية والرافضة وغيرهم من فرق الضلال والزيغ التي اتبعت ما تشابه من الكتاب ، وتركت محكمة فصاروا في أمر مريج.

* * *

وهو الذي أنشأ الخوارج مثل انش

اء الروافض أخبث الحيوان

ولأجله شتموا خيار الخلق بع

د الرسل بالعدوان والبهتان

ولأجله سل البغاة سيوفهم

ظنا بأنهم ذوو احسان

ولأجله قد قال أهل الاعتزا

ل مقالة هدت قوى الأيمان

ولأجله قالوا بأن كلامه

سبحانه خلق من الأكوان

ولأجله قد كذبت بقضائه

شبه المجوس العابدي النيران

ولأجله قد خلدوا أهل الكبا

ئر في الجحيم كعابدي الأوثان

ولأجله قد أنكروا لشفاعة ال

مختار فيهم غاية النكران

الشرح : والتأويل كذلك هو الذي كان سببا في ظهور الخوارج والروافض أما الخوارج فهم الذين يسمون بالحرورية أو الشراة ، وقد كانوا أو لا في معسكر علي رضي الله عنه ثم خرجوا عليه بعد حادثة التحكيم وقالوا لا حكم الا لله وكفروا عليا ومعاوية ومن معهما من الصحابة رضي الله عنهم واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم ومن مذهبهم أن من ارتكب كبيرة ولم يتب منها فهو كافر مخلد في النار ومن شبههم الفاسدة في هذا أن الله عزوجل قال : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [التحريم : ٨] ثم قال في آية أخرى (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران : ١٩٣] فقالوا أن الله قد نفى الخزي عن المؤمنين وأثبته لأهل النار وعلى ذلك فكل من دخل النار فليس بمؤمن وكل من ليس بمؤمن فهو كافر. وهم محجوبون بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] وبالأحاديث المتواترة في خروج الموحدين من النار. وأما الروافض فهم غالية الشيعة الذين

٢٨٧

غلوا في علي رضي الله عنه وفي أهل بيته ، وكان سبب تسميتهم بهذا الاسم انهم طلبوا من زيد بن علي أن يتبرأ من إمامة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلما لم يجبهم انفضوا عنه. فقال رفضني هؤلاء فسموا رافضة وهؤلاء الروافض أخبث الناس قولا في صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأكذبهم في الحديث عنه. ويقولون بالإمام المعصوم وبالتقية والرجعة وهم خارجون عن دائرة الاسلام. والتأويل كذلك هو السبب في خروج البغاة على الأئمة ، وشقهم عصا الطاعة وخروجهم عن الجماعة وترويعهم المسلمين ويظنون أنهم بذلك من أهل الاحسان لأنهم يريدون إقامة العدل ، ودك صروح الظلم والطغيان وينسون قوله عليه‌السلام «من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه» وهو كذلك السبب فيما ذهب إليه أهل الاعتزال من أقوال منكرة كانت معاول هدم في صرح الايمان منها قولهم أن كلام الله مخلوق منفصل عنه ، وليس صفة قائمة به فخالفوا بذلك العقل والنقل واتوا منكرا من القول وزورا. وقد سبق الكلام في هذه المسألة ، ومنها تكذيبهم بقضاء الله وقدره وقولهم أن الأمر أنف وأن الله لم يكن يعلم أعمال العباد قبل أن يفعلوها وأن الله لا يريد أفعال العباد ولا يقدر عليها ، بل هم الذين يخلقونها ، فأشبهوا بذلك المجوس حيث اثبتوا خالقا غير الله.

ومنها حكمهم على أهل الكبائر بالخلود في النار مع الكفار كما قالت الخوارج الا أنهم لا يسمونهم كفارا ولا مؤمنين بل يجعلونهم في منزلة بين المنزلتين ومنها انكارهم لشفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أهل الكبائر وهي ثابتة بالأحاديث البالغة حد التواتر ويتمسكون في هذا بالآيات التي تنفي الشفاعة (١) مع أنها خاصة بالشفاعة لأهل الشرك ، ونفي الشفاعة عن هؤلاء يفيد ثبوتها لغيرهم كقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] فنفي الشفاعة بغير اذن يفيد ثبوتها بالاذن كقوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ

__________________

(١) مثل قوله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨] وقوله على لسان المشركين : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء : ١٠٠].

٢٨٨

شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم : ٢٦].

* * *

ولأجله ضرب الامام بسوطهم

صديق أهل السنة الشيباني

ولأجله قد قال جهم ليس رب

العرش خارج هذه الأكوان

كلا ولا فوق السموات العلى

والعرش من رب ولا رحمن

ما فوقها رب يطاع جباهنا

تهوى له بسجود ذي خضعان

ولأجله جحدت صفات كماله

والعرش أخلوه من الرحمن

ولأجله أفنى الجحيم وجنة ال

مأوى مقالة كاذب فتان

ولأجله قالوا الاله معطل

أزلا بغير نهاية وزمان

ولأجله قد قال ليس لفعله

من غاية هي حكمة الديان

الشرح : ولأجل التأويل أيضا ضرب أحمد بن حنبل الشيباني صديق أهل السنة رضي الله عنه حيث أراد المأمون بتأثير المعتزلة أن يحمل العلماء على القول بخلق القرآن ، وامتحنهم بذلك امتحانا شديدا ، فأجابوه الى ذلك تقية وخوفا من القتل ، ولم يثبت في المحنة الا أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح ، فأمر المأمور بحملهما إليه بواسط ولكن المنية عاجلته قبل أن يصلا إليه فقام بها أخوه المعتصم بوصية منه ، وضرب أحمد بن حنبل وطيف به وهو مصر على قولة الحق في أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود ، فاستحق بذلك منصب الامامة في الدين ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) [السجدة : ٢٤].

وكانت محنة أحمة نقطة سوداء في تاريخ بني العباس والمعتزلة قبحهم الله ، ولأجل التأويل كذلك نفي جهم شيخ المعطلة وجود الله عزوجل فوق عرشه بذاته وقال : ليس في السماء إله يعبد ولا فوق العرش رب يصلي له ويسجد ، وتأول جميع الآيات والاحاديث الواردة في إثبات جهة العلو ، وهي من الكثرة والوضوح بحيث لا ينكرها الا ضال أعمى كما قدمنا ، ولا متمسك له هو

٢٨٩

وأشياعه على هذا النفي الا شبه واهية يسمونها عقلية ، وهي جهليات لا تغني من الحق شيئا كقولهم : اذا كان الله في جهة كان محدودا ومتحيزا وذا صورة ، ويمكن أن يشار إليه بالاشارة الحسية وهذا من خواص الاجسام.

والجواب ما قدمناه من أن استواءه تعالى على العرش ليس كاستواء المخلوق على المخلوق ، فلا يلزمه ما يلزمها ، على أن ما ذكروه من اللوازم ليس كله فاسدا ، كالحد والتحيز والصورة والاشارة الحسية الخ ، وادعاؤهم أن هذا من لوازم الأجسام أن أرادوا تلك الأجسام الاصطلاحية التي هي مركبة عندهم ، أما من الجواهر الفردة على رأي المتكلمين أو الهيولي ، والصورة على رأي الفلاسفة فممنوع ، وانما هي من خواص كل موجود قائم بنفسه وله وجود مستقل ، اذ لا يعقل وجود بدون هذه اللوازم ، ولأجل التأويل أيضا جحد الجهم وأشياعه صفات الله عزوجل من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام وغيرها. وقالوا لا نصفه بصفة المخلوق ، ومنهم من أثبت بعضا ونفى بعضا على اختلاف مذاهبهم في التجهم والتعطيل ، وكل من نفى صفة من الصفات اضطر الى تأويل ما ورد في اثباتها من النصوص ، ولا متمسك لهم على هذا النفي أيضا الا ادعاؤهم أن الاثبات يقتضي المماثلة بين الله عزوجل وبين خلقه ، وهو وهم فاسد ، فإن الاثبات لا يستلزم المماثلة ، بل يثبت للخالق من ذلك ما يليق به ويثبت للمخلوق ما يليق به ، فليس العلم كالعلم ، ولا القدرة كالقدرة ، وليست اليد كاليد ولا العين كالعين ، وليس الاستواء كالاستواء ولا النزول كالنزول الخ. فان الاشتراك انما هو في مسمى الاسم الكلي ، وذلك يستلزم التماثل بين أفراده في الخارج ، ألا ترى أن الوجود الكلي يشترك فيه الواجب والممكن ، وليس وجود الواجب في الخارج يماثل وجود الممكن ، وهكذا ، ولأجل التأويل ذهب الجهم الى القول بفناء الجنة والنار ، وهي مقالة لم يقلها في الاسلام غيره.

وقال هو ومن تبعه من المعتزلة والأشاعرة ان الله لم يكن فاعلا في الأزل ثم صار فاعلا ، أي انه لم يزل معطلا عن الفعل مدة لا نهاية لها من الزمان قبل أن

٢٩٠

يخلق هذا العالم ، ثم ابتدأ الخلق ، وكان هذا مما أعان الفلاسفة عليهم حيث أوردوا عليهم أنه يلزم حدوث شيء في ذاته اقتضى الفعل بعد أن لم يكن مقتضيا ، كأن كان عاجزا فقدر ، أو كان فاقدا لآلة فوجدها ، أو كان غير مريد للفعل ثم أراد الخ.

فإن قلتم أن الإرادة قديمة والقدرة موجودة في الأزل وجميع الشرائط المعتبرة في الفعل مستكملة ، فما الذي منعه من أن يفعل وليس لكم أن تقولوا ان الإرادة القديمة إنما تعلقت بالايجاد في هذا الوقت دون غيره ، فان الأوقات كلها متساوية بالنسبة للارادة في الأزل وليس وقت منها أولى من غيره ، ولأجل التأويل أيضا نفي الجهم وأشياعه من الفلاسفة والمعتزلة والأشاعرة الحكمة عن فعله تعالى ، وقالوا أن أفعاله لا تعلل بالأغراض والغايات ، فإن الفاعل لغرض مستكمل ، وتوهموا أن اثبات غاية باعثة له عزوجل على الفعل نقص يجب تنزيه الله تعالى عنه ، وجوزوا ترجيح القادر لأحد الأمرين المتساويين بلا مرجح ، وفاتهم أن مثل ذلك يكون عبثا يستحيل صدوره عن الله عزوجل ، على ان الغايات والمصالح التي من أجلها يفعل ربنا سبحانه ظاهرة متجلية في كل ما خلقه أو أمر به ، والقرآن والسنة فيهما الكثير من تلك الحكم التي لا ينكرها الا مكابر مثل قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف : ٧] ومثلها قوله : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢] ومثل قوله جل وعلا : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣](ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة : ٦](يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) [المائدة : ٩٤](وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) [البقرة : ١٤٣](وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ

٢٩١

الْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٤٠ ، ١٤١].

الخ ما لا يمكن حصره من آيات الكتاب العزيز.

* * *

ولأجله قد كذبوا بنزوله

نحو السماء بنصف ليل ثان

ولأجله زعموا الكتاب عبارة

وحكاية عن ذلك القرآن

ما عندنا شيء سوى المخلوق وال

قرآن لم يسمع من الرحمن

ما ذا كلام الله قط حقيقة

لكن مجاز ويح ذا البهتان

ولأجله قتل ابن نصر أحمد

ذاك الخزاعي العظيم الشأن

اذ قال ذا القرآن نفس كلامه

ما ذاك مخلوق من الأكوان

الشرح : وكما جنى التأويل على صفة العلو والاستواء على العرش التي جاء بها صريح الكتاب والسنة ، كذلك حمل هؤلاء المتأولة على التكذيب بنزوله سبحانه وتعالى الى السماء الدنيا حين يبقى شطر الليل الآخر مع صحة الحديث بذلك وبلوغه مبلغ التواتر ، ومن سلم منهم بصحة الحديث تأوله بدنو الرحمة أو بنزول الامر أو الملك الى غير ذلك مما لا تدل عليه العبارة لا تصريحا ولا تلميحا وهل يعقل أن يكون الأمر أو الملك هو الذي يقول : هل من سائل فأعطيه الخ.

ومن أجل التأويل أيضا ذهب الكلابية والأشعرية الى إثبات الكلام النفسي ونفي الحرف والصوت عن كلام الله عزوجل ، ولهذا قالوا ان هذا المتلو بالالسنة والمكتوب في المصاحف والمحفوظ في الصدور ليس كلام الله ، بل هو عبارة أو حكاية عنه ، فإن كلام الله قديم ليس بحرف ولا صوت ، وهذا الذي عندنا محدث مخلوق لأنه مركب من حروف وأصوات. والله لم يتكلم عندهم بالقرآن ، لأن كلامه ليس بحروف وأصوات مسموعة ، فجبريل عليه‌السلام لم يسمع القرآن من الله عزوجل ، ولكنه أخذه من اللوح المحفوظ او سمع كلاما في الهواء الخ.

٢٩٢

ثم اختلفوا هل يطلق لفظ القرآن بالاشتراك بين المعنى النفسي القائم بذاته تعالى وبين هذا المتلو المسموع او هو حقيقة في النفسي مجاز في اللفظي أو العكس. فهذا القرآن عندهم ليس كلام الله على الحقيقة بل على سبيل المجاز من باب اطلاق اسم المدلول على الدال.

ومن أجل التأويل أيضا قتل الشيخ أحمد بن نصر الخزاعي رحمه‌الله زمان المحنة حين ثبت مع الامام أحمد في القول بأن هذا القرآن المتلو المسموع هو نفس كلامه تعالى ليس بمخلوق من جملة المكونات.

* * *

وهو الذي جر ابن سينا والآلي

قالوا مقالته على الكفران

فتأولوا خلق السموات العلى

وحدوثها بحقيقة الامكان

وتأولوا علم الاله وقوله

وصفاته بالسلب والبطلان

وتأولوا البعث الذي جاءت به

رسل الاله لهذه الأبدان

بفراقها لعناصر قد ركبت

حتى تعود بسيطة الأركان

وهو الذي جر القرامطة الألى

يتأولون شرائع الايمان

فتأولوا العملي مثل تأول الع

لمي عندكم بلا فرقان

وهو الذي جر النصير وحزبه

حتى أتوا بعساكر الكفران

فجرى على الإسلام أعظم محنة

وخمارها فينا الى ذا الآن

الشرح : والتأويل كذلك هو الذي جرأ أبو علي ابن سينا الفيلسوف ، ومن لف لفه على القول بقدم العالم بالزمان ، لأنه معلول لعلة قديمة والعلة التامة يجب أن يقارنها معلولها ولا يتأخر عنها ، وتأولوا خلق الله للعالم وحدوثه عنه بأنه مفتقر إليه لامكانه افتقار المعلول الى علته ، وليس معنى الخلق أو الحدوث أن الله أوجده من العدم ، والقول بقدم العالم كانت إحدى المسائل التي كفر بها الغزالي الفلاسفة في كتابه (التهافت).

وكذلك تأولوا علم الله عزوجل وجميع صفاته بمعان سلبية تحاشيا من القول

٢٩٣

بالتركيب. يقول ابن سينا في كتابه النجاة : فإذا حققت تكون الصفة الأولى لواجب الوجود أنه أن وموجود ، ثم الصفات الأخرى يكون بعضها المتعين فيه هذا الوجود مع اضافة ، وبعضها هذا الوجود مع السلب ، وليس ولا واحد منها موجبا في ذاته كثرة البتة ولا مغايرة.

وكذلك تأولوا علم الله عزوجل وجميع صفاته لمعان سلبية تحاشيا من البعث الجسماني الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام والذي هو خروج الموتى من قبورهم أحياء بأنه فراق الروح لعالم العناصر الذي هو عالم الكون والفساد ورجوعها الى عالمها الأول ، حين كانت تعيش في عالم البسائط والمجردات التي لا يعتريها تحلل ولا فساد ، ولا يجوز أن يكون الضمير في قوله (بفراقها) عائدا على الأبدان ، لأن الأبدان من عالم العناصر ، فكيف تفارقه؟ اللهم إلا إذا اريد بهذا أنها تتحلل فيعود كل عنصر منها الى حاله قبل التركيب ، ولكن اطلاق اسم البعث على هذا المعنى بعيد ، فالظاهر أن المراد بالبعث هنا مفارقة الروح لعالم العناصر.

وكذلك جرأ التأويل القرامطة اتباع حمدان قرمط ، وهم من غلاة الشيعة على أن يتأولوا شرائع الايمان العملية ، كما تأولوا شرائعه العلمية بلا فارق بينهما ، فتأولوا الصلاة والصيام ، والحج والزكاة ، والجهاد وغيرها بمعان اصطلحوا عليها تناسب مذاهبهم الخبيثة ، وفسروا آيات الكتاب برموز واشارات وقالوا أن لها ظاهرا وباطنا. ولهذا سموا باطنية.

والتأويل كذلك هو الذي جرأ نصير الدين الطوسي الخبيث شارح الاشارات لابن سينا ، والمحصل للرازي على أن يكيد للاسلام وأهله. فيقال أنه هو الذي كتب الى هولاكو ليغزو بجيوشه الباغية بلاد الاسلام ، ويقوض أركان الخلافة الاسلامية ، وقد جرى للمسلمين على أيدي هؤلاء التتار من المحن والبلايا ما بقيت آثاره الى أيام الشيخ ابن القيم رحمه‌الله.

وجميع ما في الكون من بدع واح

داث تخالف موجب القرآن

٢٩٤

فأساسها التأويل ذو البطلان لا

تأويل أهل العلم والايمان

اذ ذاك تفسير المراد وكشفه

وبيان معناه الى الأذهان

قد كان أعلم خلقه بكلامه

صلى عليه الله كل أوان

يتأول القرآن عند ركوعه

وسجوده تأويل ي برهان

هذا الذي قالته أم المؤمن

نين حكاية عنه لها بلسان

فانظر الى التأويل ما تعني به

خير النساء وافقه النسوان

أتظنها تعني به صرفا عن آل

معنى القوي لغير ذي الرجحان

الشرح : يعني أن جميع ما أحدث في الدين من بدع مخالفة لمقتضى الكتاب والسنة الصحيحة فلا سبب له الا التأويل الباطل الذي هو في الحقيقة تحريف للكلم عن مواضعه وعدول بالألفاظ عن معانيها المتبادرة منها بغير موجب لذلك الصرف الا محاولة تصحيح ما جنح إليه القوم من الأهواء الضالة التي أخذوها مما عند اليهود والنصارى وفلاسفة اليونان والصائبة وغيرهم.

وأما تأويل أهل العلم والايمان فهو تأويل صحيح لأن المراد به كشف المعنى وتفسيره وبيان المراد منه وحقيقته نفس ما يؤول إليه الشيء ، فإن كان اللفظ خبرا فتأويله هو نفس المخبر عنه وذلك مثل آيات الصفات والوعد والوعيد وأحوال أهل الجنة وأهل النار ، فتأويلها هو نفس حقيقة ما أخبر الله عنه فيها ، ومنه قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [الأعراف : ٥٣]. ومعناه ما ينتظر هؤلاء المكذبون بيوم البعث والجزاء الا تأويله أي وقوع ما أخبر عنه القرآن من ذلك ، ومنه أيضا قول القرآن حكاية عن الصديق يوسف عليه الصلاة والسلام : (قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) [يوسف : ١٠٠] فقد أراد بتأويل الرؤيا وقوع مضمونها المفسر لها فيما جرى بينه وبين أخوته وما تقلب فيه من محن وأرزاء حتى بلغ من استخلاص الملك اياه وجعله على خزائن الأرض ، ومنه قول الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٩٥

كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي» يتأول القرآن ، تعني أنه كان ينفذ ما أمر به في القرآن ، بقوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) [النصر : ٣] لأن اللفظ ان كان طلبا فتأويله هو نفس المأمور به أو المنهى عنه.

فهل يظن أن عائشة رضي الله عنها كانت تعني بقولها يتأول القرآن ، ذلك المعنى الفاسد للتأويل الذي اصطلح عليه أهل الكلام وهو صرف اللفظ عن المعنى الراجح المتبادر منه الى المعنى المرجوح بلا صارف.

* * *

وانظر الى التأويل حين يق

ول علمه لعبد الله في القرآن

ما ذا أراد به سوى تفسيره

وظهور معناه له ببيان

قول ابن عباس هو التأويل لا

تأويل جهمي أخي بهتان

وحقيقة التأويل معناه الرجو

ع الى الحقيقة لا الى البطلان

وكذاك تأويل المنام حقيقة ال

مرئي لا التحريف بالبهتان

وكذاك تأويل الذي قد أخبرت

رسل الإله به من الايمان

لا خلف بين أئمة التفسير في

هذا وذلك واضح البرهان

نفس الحقيقة اذ تشاهدها لدي

يوم المعاد برؤية وعيان

الشرح : وتأمل كذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» فهل أراد به الا أن يرزقه الله الفهم لتفسير كتابه وبيان معناه ، وقد استجاب الله دعوة نبيه عليه‌السلام لابن عمه فكان يسمى ترجمان القرآن. فما أثر عن ابن عباس من تفسير للقرآن وكشف عن معناه هو الذي يصح أن يسمى تأويلا لا تأويلات هؤلاء الجهمية المبطلين. وذلك لان حقيقة التأويل كما قدمنا هي الرجوع الى حقيقة المعنى الذي يدل عليه اللفظ ويقتضيه عند الاطلاق لا الى معنى باطل لا يدل عليه الا باحتمال مرجوح فتأويل المنام مثلا وقوع نفس ما رآه النائم في حال اليقظة مطابقا للرؤية.

٢٩٦

وتأويل ما أخبرت به الرسل عليهم الصلاة والسلام من أسماء الله وصفاته واليوم الآخر وما فيه ونعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار الخ هو نفس الحقائق المخبر عنها كما سبق بحيث تشاهدها يوم القيامة مطابقة للخبر عنها ولا خلاف بين أئمة التفسير في أن هذا المعنى للتأويل هو الذي يدل عليه قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [الأعراف : ٥٣] الآية أي ما ينتظرون الا حصول ما انذروا به من العذاب ووقوعه.

* * *

هذا كلام الله ثم رسوله

وأئمة التفسير للقرآن

تأويله هو عندهم تفسيره

بالظاهر المفهوم للأذهان

ما قال منهم قط شخص واحد

تأويله صرف عن الرجحان

كلا ولا نفي الحقيقة لا ولا

عزل النصوص عن اليقين فذان

تأويل أهل الباطل المردود عن

د أئمة العرفان والايمان

وهو الذي لا شك في بطلانه

والله يقضي فيه بالبطلان

الشرح : فهذا كلام الله وقرآنه لم يجيء فيه التأويل في جميع استعمالاته الا بمعنى التفسير وبيان المعنى أو وقوع المخبر عنه ، وهذا كلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه لابن عمه بتعلم التأويل لم يرد الا هذا المعنى كذلك. وهؤلاء أئمة التفسير من السلف الذين هم أعلم الناس بمعاني كتاب الله عزوجل مطبقون على أنه لا معنى للتأويل الا كشف المعنى وتفسيره ، ما قال أحد منهم قط بمثل مقالتكم المحدثة التي لا أصل لها ولا فسر التأويل بما فسرتموه به من أنه صرف اللفظ عن معناه الراجح الذي هو حقيقة فيه وحمله على معنى مرجوح بطريق المجاز ولا أدعي أحد منهم أن نصوص الكتاب والسنة لا تفيد اليقين ، لان اللفظ يحتمل الحقيقة والمجاز والعموم والخصوص الخ ، ولكنكم أنتم اللذين اجترأتم على التلاعب بالنصوص فحرفتموها عن مواضعها ، ونفيتم حقائقها وعزلتموها عما جاءت له من افادة العلم واليقين وحملتموها على ما شاء لكم الهوى من معان

٢٩٧

موافقة لمذاهبكم الباطلة ، فهذه هي تأويلاتكم التي لا يعرفها أهل المعرفة والايمان ، بل ينكرونها أشد النكران وهي في حكم الله مقضي عليها كذلك بالبطلان.

* * *

فجعلتم للفظ معنى غير

معناه لديهم باصطلاح ثان

وحملتم لفظ الكتاب عليه حتى

جاءكم من ذاك محذوران

كذب على الألفاظ مع كذب على

من قالها كذبان مقبوحان

وتلاهما أمران أقبح منهما

جحد الهدى وشهادة البهتان

اذ يشهدون الزور أن مراده

غير الحقيقة وهي ذو بطلان

الشرح : ويقال لهؤلاء المتأولين الذين جعلوا القرآن عضين ، فجعلوا للالفاظ معاني أخرى باصطلاحهم الفاسد غير المعاني المفهومة منها ، واستكرهوا ألفاظ الكتاب في حملها على هذه المعاني البعيدة. يقال لهم يلزمكم في صنيعكم هذا أمران محذوران. أحدهما : الكذب على الألفاظ حيث حملتموها من المعاني ما لا تحتمل وصرفتموها قسرا واعتسافا الى هذه المعاني التي لا تخطر لأحد ممن يفهم معاني هذه الألفاظ عند اطلاقها. والثاني هو الكذب على من قالها حيث زعمتم أن مراده منها كذا وكذا وزورا ، بل يلزمكم في صنيعكم هذا أمران آخران هما أقبح من المذكورين ، أحدهما جحدكم الهدى الذي دلت عليه هذه الألفاظ حيث نفيتم معانيها الحقة التي أراد الله أن تكون بيانا وهدى. والثاني شهادتكم الزور والبهتان. اذ تشهدون على الله عزوجل أن مراده من هذه الألفاظ كذا وكذا ، وأنه لم يرد منها حقائقها ، وان تلك الحقائق لا يمكن أن تكون مرادة لله من هذه الالفاظ لما يترتب عليها في زعمكم من محالات ، فأي شهادة زور أشنع من هذه التي شهدتموها على ربكم أنها الجاهلون.

* * *

٢٩٨

فصل

فيما يلزم مدّعي التأويل لتصحيح دعواه

وعليكم في ذا وظائف أربع

والله ليس لكم بهن يدان

منها دليل صارف للفظ عن

موضوعه الأصلي بالبرهان

اذ مدعي نفس الحقيقة مبدع

للأصل لم يحتج الى برهان

فإذا استقام لكم دليل الصرف يا

هيهات طولبتم بأمر ثان

وهو احتمال اللفظ للمعنى الذي

قلتم هو المقصود بالتبيان

فإذا أتيتم ذاك طولبتم بأمر

ثالث من بعد هذا الثاني

اذ قلتم ان المراد كذا فما

ذا دلكم اتخرص الكهان

الشرح : ويلزمكم لتصحيح ما ادعيتموه من التأويل أربع أمور ليس لكم والله قدرة على واحد منها ، الأول أن تأتوا بدليل صارف للفظ عن معناه الأصلي ، فإن اللفظ لا يجوز صرفه عن معناه الموضوع له الا لدليل يدل على استحالة ذلك المعنى ، وما تدعونه من قرائن عقلية موجبة لذلك لا يسلمها لكم خصومكم ، وأما نحن فلا نحتاج الى مثل ذلك الدليل لأننا ندعي أن اللفظ مستعمل في حقيقته التي هي الأصل فيه ، فإذا ظفرتم بالدليل الصارف للفظ عن معناه ، وهيهات طولبتم باثبات أن اللفظ محتمل لذلك المعنى الذي ادعيتم أنه المقصود من اللفظ ، ثم عليكم بعد هذا أن تثبتوا بالدليل أن المعنى الذي عنيتموه حين قلتم أن المراد كذا هو المقصود للمتكلم ، فهذه أمور ثلاثة تلزم مدعي التأويل فلا تستقيم له دعواه الا إذا أثبت كل واحد منها بالدليل ، وما له الى ذلك من سبيل.

ثم ينضم إليها أمر رابع سيذكره المصنف فيما سيأتي ، وهو الجواب عن المعارض فان الدعوى لا تتم الا بذلك ، والمعارض هنا هو جميع أدلة الاثبات في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين وأدلة العقل والفطرة ، مما لا سبيل الى معارضته بما يشغب به القول من ترهات وأباطيل.

* * *

٢٩٩

هب أنه لم يقصد الموضوع لك

ن قد يكون القصد معنى ثان

غير الذي عينتموه وقد يكو

ن اللفظ مقصودا بدون معان

كتعبد وتلاوة ويكون ذا

ك القصد أنفع وهو ذو امكان

من قصد تحريف لها يسمى بتأ

ويل مع الأتعاب للاذهان

والله ما القصدان في حد سوا

ء في حكمة المتكلم المنان

بل حكمة الرحمن تبطل قص

ده التحريف حاشا حكمة الرحمن

وكذاك تبطل قصده انزالها

من غير معنى واضح التبيان

وهما طريقا فرقتين كلاهما

عن مقصد القرآن منحرفان

الشرح : فلو قدر أن المتكلم لم يقصد المعنى الحقيقي الموضوع له اللفظ لم يمكن إثبات أنه أراد به المعنى الذي عينتموه ، لجواز أن يكون له قصد آخر ، أو أن يكون اللفظ مجردا عن المعنى قد قصد من إنزاله التعبد بتلاوته ، وهذا مع كونه جائزا أنفع وأقرب الى الحكمة من قصد معنى بعيد لا يدل عليه اللفظ ، فإن ذلك تحريف للفظ عن معناه مع ما في ذلك من كد الأذهان واتعابها في استخراج ذلك المعنى البعيد. فإذا وازنا هذا القصد الثاني بالأول الذي هو انزال اللفظ للتعبد لم نجدهما سواء في حكمة المتكلم المنان جل شأنه ، بل وجدنا الأول أقرب الى الحكمة وأدنى الى النفع من الآخر ، بل الحكمة الالهية في سموها وكمالها تبطل أن يكون قصده جل شأنه التحريف للألفاظ باستعمالها في غير معانيها ، كما هو زعم المؤولة ، وكذلك تبطل أن يكون قصده منها معنى غير مفهوم من اللفظ ، ولا يمكن للعباد إدراكه كما هو زعم المفوضة. فهذان الطريقان للمؤولة والمفوضة كلاهما منحرف عما قصد إليه القرآن الكريم من استعمال الألفاظ في معانيها الموضوعة لها في اللغة التي نزل بها ، فلا تفويض ولا تأويل.

* * *

٣٠٠