شرح القصيدة النونيّة - ج ١

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ١

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥
الجزء ١ الجزء ٢

تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] فإن كان ذلك الإثبات يسمى عندهم تشبيها ـ وحاشاه ـ فهو على كل حال خير من تشبيههم ، فإنه تشبيه له بالأشياء الكاملة ذوات الشأن والرفعة ، وأما نفيهم للصفات فيقتضي تشبيهه بالناقصات من الجمادات وغيرها ، بل بالعدوم الذي لا حقيقة له ، والذي لا يصح فرضه إلا في الأذهان فمن المشبه إذا على الحقيقة منكم ، ومن مثبتي الصفات للرحمن؟

* * *

فصل

في نكتة بديعة تبين ميراث الملقبين

والملقبين من المشركين والموحدين

هذا وثم لطيفة عجب سأبديها

لكم يا معشر الأخوان

فاسمع فذاك معطل ومشبه

واعقل فذاك حقيقة الإنسان

لا بد أن يرث الرسول وضده

في الناس طائفتان مختلفان

فالوارثون له على منهاجه

والوارثون لضده فئتان

إحداهما حرب له ولحزبه

ما عندهم في ذاك من كتمان

فرموه من ألقابهم بعظائم

هم أهلها لا خيرة الرحمن

فأتى الألى ورثوهم فرموا بها

وراثه بالبغي والعدوان

هذا يحقق إرث كل منهما

فاسمع وعه يا من له أذنان

والآخرون أولو النفاق فاضمروا

شيئا وقالوا غيره بلسان

وكذا المعطل مضمر تعطيله

قد أظهر التنزيه للرحمن

هذي مواريث العباد تقسمت

بين الطوائف قسمة المنان

الشرح : بعد أن بين المؤلف ما وقع فيه هؤلاء المعطلة من التشبيه الذي رموا به أهل الإثبات كذبا وبهتانا أراد أن يقفنا على لطيفة من اللطائف الخفية التي

٤٠١

تدل على عجيب صنع الله في خلقه ، فقال إن الناس منذ كانوا : ثلاثة أقسام :

معطل يجحد الخالق جل وعلا وينكر وجوده أو ينكر ما ينبغي له من الصفات.

ومشبه يؤمن بوجود الله سبحانه ، ولكنه يثبت له مثل صفات المخلوقين.

ومؤمن موحد يثبت لله ما يليق به من الأسماء والصفات مع تنزيهه عن مشابهة المخلوقات. وإذا علم هذا فينبغي لكل ذي عقل تتحقق به إنسانيته وتتميز به عن سائر الحيوان أن يدرك أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم له ورثة من أمته ، ولخصومه أيضا وراث ، فالوارثون له هم السائرون على منهجه ، الواقفون عند ما حده لهم دون زيادة أو ابتداع ، والوارثون لضده فريقان : فريق جاهر بالعداوة له ولحزبه دون تستر أو كتمان ، فرموه وهو خيرة الله من خلقه من شنيع الألقاب بما هم أولى به وأهله.

ثم أتى الذين ورثوهم في الضلال والعداوة ، فرموا بهذه الألقاب وراث الرسول وحزبه بغيا وعدوانا ، فهذا يحقق إرث كل منهما عند كل من عقل وتدبر وألقى السمع وهو شهيد.

وأما الفريق الثاني فهم أهل النفاق الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فهم يضمرون في قلوبهم الكفر والعداوة للحق ، ويظهرون الإيمان والمسالمة. وما أشبه المعطلة بهذا الفريق الثاني ، فإنهم يضمرون التعطيل والإنكار ، ويسمون ذلك تنزيها لله جل شأنه ، قولا بألسنتهم مع انطواء قلوبهم على خلافه ، فهذه هي مواريث العباد قسمها الله بين خلقه على وفق حكمته وعلمه ، ولله في خلقه شئون.

اللغة : اللطيفة ، المعنى الخفي من اللطافة التي هي ضد الظهور. والحرب مصدر بمعنى اسم الفاعل أي محارب ، والعظائم جمع عظيمة وهي الأمر الشنيع.

* * *

٤٠٢

هذا وثم لطيفة أخرى بها

سلوان من قد سب بالبهتان

تجد المعطل لاعنا لمجسم

ومشبه لله بالإنسان

والله يصرف ذاك عن أهل الهدى

كمحمد ومذمم اسمان

هم يشتمون مذمما ومحمد

عن شتمهم في معزل وصيان

صان الإله محمدا عن شتمهم

في اللفظ والمعنى هما صنوان

كصيانة الاتباع عن شتم المعطل

للمشبه هكذا الإرثان

والسب مرجعه إليهم اذ هم

أهل لكل مذمة وهوان

وكذا المعطل يلعن اسم مشبه

واسم الموحد في حمى الرحمن

الشرح : ومع هذه اللطيفة التي تقدمت هناك لطيفة أخرى يتسلى بها أهل الحق عن شتم هؤلاء المجرمين لهم وبهتهم إياهم مما هم منه براء ، وهي أنك تجد المعطل لاعنا لكل من يقول بالتجسيم وتسببه الله بخلقه ، ولكن هذا اللعن لا يضير أهل الحق ، فقد صرفه الله عنهم بتطهير عقيدتهم من اعتقاد التجسيم والتشبيه ، وإنما يلحق هذا اللعن من يطلق الجسم على الله أو يشبهه بخلقه ، وذلك كمحمد ومذمم ، فإنهما اسمان متقابلان ، والثاني منهما هو الحقيق بالشتم والتنقيص ، فإذا شتم الكفار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم لا يضيرونه بشتمهم ، فإن شتمهم إنما يلحق مذمما ، ولكنه هو محمد لا مذمم ، فهو من شتمهم في حصن حصين وحرم مصون وقد صانه الإله عن شتمهم لفظا ومعنى ، اما لفظا فبتسميته محمدا ، وأما المعنى فبتطهيره عن كل ما يذم ويعاب من العقائد والأخلاق والأعمال ، والضمير في قوله هما للفظ والمعنى ، ومعنى كونهما صنوان أن أصلهما واحد كما في قوله تعالى : (وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) [الرعد : ٤] وكما في قوله عليه الصلاة والسلام في شأن عم العباس «أن عم الرجل صنو أبيه».

وكما صان الله عزوجل نبيه عن شتم الكفار وتنقيصهم ، فقد صان أتباعه عن شتم المعطل للمشبه ، فلا يلحقهم من معرته شيء ، بل هو في الحقيقة راجع إلى

٤٠٣

هؤلاء الشاتمين ، فإنهم هم أحق بكل مذمة وتنقيص ، فالمعطل يلعن اسم المشبه ، فلا يلحق لعنه إلا كل من صدق عليه هذا الاسم وهو غير صادق على أحد من أهل الحق ، بل الذي يصدق عليه أنه موحد ، فهو في حمى الله من كل ما يتلاعن به المبطلون.

* * *

هذي حسان عرائس زفت لكم

ولدى المعطل هن غير حسان

والعلم يدخل قلب كل موفق

من غير أبواب ولا استئذان

ويرده المحروم من خذلانه

لا تشقنا اللهم بالحرمان

يا فرقة نفت الإله وقوله

وعلوه بالجحد والكفران

موتوا بغيظكم فربي عالم

بسرائر منكم وخبث جنان

فالله ناصر دينه وكتابه

ورسوله بالعلم والسلطان

والحق ركن لا يقوم لهذه

أحد ولو جمعت له الثقلان

توبوا إلى الرحمن من تعطيلكم

فالرب يقبل توبة الندمان

من تاب منكم فالجنان مصيره

أو مات جهميا ففي النيران

الشرح : يخاطب المؤلف إخوانه من أهل الحق بأن تلك اللطائف التي أبداها لهم هي في جمالها وروعتها كحسان العرائس المجلوة ، حثا لهم على تأملها والنظر فيها ، ولكنها عند المعطل ليست بذاك لبلادة عقله وغبائه ، فهو لا يدرك ما فيها من معنى رائق لطيف ، لأنه لا حظّ له في إدراك جواهر العلم وفرائده ، إذ العلم لا يناله إلا كل موفق مسدد ، وأما المخذول المطرود فإن قلبه عن ذلك في صدود ، نعوذ بالله من الخذلان والحرمان.

ثم ينادي هذه الفرقة الضالة من أهل الجحد والتعطيل التي نفت الإله وكلامه وعلوه على خلقه بأن يموتوا غيظا وحسرة ، فإن الله عالم بخبث طواياهم ودخن قلوبهم ، وهو لا بد ناصر دينه وكتابه ورسوله بالعلم الصحيح والحجة الظاهرة ، فإنها الحق الذي من أوى إليه فقد أوى إلى ركن شديد لا يقدر أحد على النيل

٤٠٤

منه ولو اجتمعت على حربه الثقلان من أنس ومن جان ، ثم هو بعد ذلك يعرض عليهم أن يتوبوا إلى الله ويرجعوا إليه من إثم تعطيلهم وجرم إنكارهم ، فإن الله يقبل توبة من تاب نادما على ما فعل ، فمن تاب منكم فإن مآله إلى جنة عرضها السموات والأرض ، ومن مات منكم على تجهمه وتعطيله فإن مأواه جهنم وبئس المصير.

* * *

فصل في بيان اقتضاء التجهم والجبر والإرجاء

للخروج عن جميع ديانات الأنبياء

واسمع وعه سرا عجيبا كان

مكتوما من الأقوام منذ زمان

فأذعته بعد اللتيا والتي

نصحا وخوف معرة الكتمان

جيم وجيم ثم جيم معهما

مقرونة مع أحرف بوزان

فيها لدى الأقوام طلسم متى

تحلله تحلل ذروة العرفان

فإذا رأيت الثور فيه تقارن

الجيمات بالتثليث شر قران

دلت على أن النحوس جميعها

سهم الذي قد فاز بالخذلان

جبر وارجاء وجيم تجهم

فتأمل المجموع في الميزان

فاحكم بطالعها لمن حصلت له

بخلاصة من ربقة الإيمان

الشرح : هذه الأبيات تدل على تمكن المؤلف رحمه‌الله من علم الفلك والهيئة وحساب الجمل ، وأنا لست ممن يحذقون هذه الفنون ، فلا أحسن أن أعبر عما يريده بهذه الأبيات إلا على سبيل الإجمال ، فهو يطلب منا أن نسمع ونعي هذا السر العجيب الذي كتمه في صدره مدة طويلة ، ثم أذاعه بعد اللتيا والتي ، أي بعد ما سفرت العداوة بينه وبين خصومه ، واستعرت المعركة ، فأيداه على جهة النصح لهم ، وخروجا من عهدة الكتمان ومعرته ، وهذا السر هو أن هناك ثلاث جيمات في ثلاث كلمات ، هي الجبر والإرجاء والتجهم ، فكل جيم منها مقرونة مع

٤٠٥

أحرف بوازنها ، أي بقدرها ، وأن في هذه الجيمات الثلاث عند القوم لغزا بديعا من يحلله ، فقد حل ذروة المعرفة وركب سنام الحقيقة ، فإذا رأيت الثور ـ وهو أحد البروج التي تقطعها الشمس في حركتها الظاهرية جنوبي مدار السرطان في فصل الربيع ـ تتقارن فيه الجيمات الثلاث وتجتمع شر اجتماع ، فاعلم بأن النحس كله نصيب الذي قد باء بالخذلان ، فإن كل جيم منها نحس على صاحبها ، فإذا اجتمعت كانت نحوسا وكانت أشأم طالع ، فاحكم بطالعها النحس لمن حصلت له هذه الجيمات الثلاث واقترنت فيه بأن جمع بين القول بالجبر والإرجاء والتجهم بانخلاعه من ربقة الإيمان وعري اليقين.

* * *

فاحمل على الأقدار ذنبك كله

حمل الجذوع على قوى الجدران

وافتح لنفسك باب عذر إذ ترى

الأفعال فعل الخالق الديان

فالجبر يشهدك الذنوب جميعها

مثل ارتعاش الشيخ ذي الرجفان

لا فاعل أبدا ولا هو قادر

كالميت أدرج داخل الأكفان

والأمر والنهي اللذان توجها

فهما كأمر العبد بالطيران

وكأمره الأعمى بنقط مصاحف

أو شكلها حذرا من الألحان

وإذا ارتفعت دريجة أخرى

رأيت الكل طاعات بلا عصيان

إن قيل قد خالفت أمر الشرع قل

لكن أطعت إرادة الرحمن

ومطيع أمر الله مثل مطيع ما

يقضي به وكلاهما عبدان

عبد الأوامر مثل عبد مشيئة

عند المحقق ليس يفترقان

فانظر إلى ما قادت الجيم الذي

للجبر من كفر ومن بهتان

الشرح : هذا خطاب لصاحب الجيم الأولى وهي جيم الجبر الذي يزعم بأن الإنسان لا قدرة له ولا اختيار ، وأنه مجبور على ما يقع منه من أفعال فهي ليست أفعالا له على الحقيقة ، وإنما تنسب إليه على جهة المجاز ، كما يقال : طلعت الشمس وهبت الريح ، فالأفعال والتكليف بها والثواب والعقاب عليها ، كل ذلك

٤٠٦

جبر على العبد لا اختيار له فيه فيلزم هذا الجبر أن لا يقر على نفسه بذنب ، وأن يحمل ذنوبه كلها على القدر كما يحمل السقف على قوي الجدر. وأن يفتح لنفسه باب العذر في كل ما يرتكب من وزر إذ يرى أنه لا فعل له. وأن الأفعال كلها صادرة من الله جل شأنه ويلزمه أيضا أن يسوي بين ما يصدر عنه بإرادته واختياره ، وبين ما يصدر منه على جهة الضرورة كحركة الرعدة والارتعاش ، فلا يحس فرقا بين الذنوب التي تصدر عنه باختياره ، وبين رعشة الشيخ الكبير التي تصدر عنه بلا قصد منهن بل بسبب الهرم والضعف فالعبد عنده ليس بفاعل على الحقيقة. ولا هو قادر على الفعل بل هو كالميت المدرج في أكفانه لا قدرة له على حركة أصلا. ويلزمه أيضا أن الله كلف العباد ما لا يطيقونه ، وأنه أمرهم ونهاهم بما لا قدرة لهم على فعله أو تركه ، فهو كأمر العبد بأن يطير في الهواء مع عجزه عنه إذ لا أجنحة له تساعده على الطيران ، أو كأمر الأعمى الذي لا يبصر بأن يضع النقط على حروف المصحف أو يشكله خوفا من وقوع اللحن في قراءته. ومعلوم أن الأعمى لا قدرة له على ذلك. وفي هذا نسبة العبث إلى الله جل شأنه.

وهذا الذي ذكرناه من مذهب الجبرية ، إنما هو قول عامتهم ، واما متصوفتهم ممن يزعمون الترقي في مقام الشهود للحقيقة الكونية والربوبية الشاملة فيرون كل ما يصدر من العبد من ظلم وكفر وفسوق هو طاعة محضة لأنها إنما تجري وفق ما قضاه الله وقدره ، وكل ما قضاه وقدره فهو ، محبوب لديه مرضي عنده. فإذا كان قد خالف أمر الشرع بارتكابه هذه المحظورات فقد أطاع إرادة الله ونفذ مشيئته. فمن أطاع الله وقضاءه وقدره هو كمن أطاعه في أمره ونهيه كلاهما قد قام بحق العبودية لله إلا أن هذا عبده بامتثال أمره وهذا عبده بتنفيذ مشيئته. فمن حقق الأمر لم يجد فرقا بين العبوديتين بل وجد العبادة بالمشيئة أليق بمن لا يرون لأنفسهم فعلا وأن الأفعال كلها من الله.

فانظر يا أخا العقل والدين إلى ما انتهت جيم الجبر إليه ، وكيف قادت صاحبها إلى شر أنواع الكفر والبهتان ، فجعلته يسوي في النهاية بين الإيمان

٤٠٧

والكفر والطاعة والمعصية وينفض يده من أحكام الشريعة كلها ولا يفرق بين أمر ونهي ولا يرى ذلك لازما لأحد بل يرى ارتكاب المنهيات عبادة يتقرب بها إلى الله ما دامت موافقة للإرادة ، فأي كفر أقبح من هذا. نعوذ بالله من الضلال والخذلان. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

* * *

وكذلك الأرجاء حين تقر

بالمعبود تصبح كامل الإيمان

فارم المصاحف في الحشوش

وخرب البيت العتيق وجد في العصيان

واقتل إذا ما اسطعت كل موحد

وتمسحن بالقس والصلبان

واشتم جميع المرسلين ومن أتوا

من عنده جهرا بلا كتمان

وإذا رأيت حجارة فاسجد لها

بل خر للأصنام والأوثان

وأقر أن الله جل جلاله

هو وحده الباري لذي الأكوان

واقر أن رسوله حقا أتى

من عنده بالوحي والقرآن

فتكون حقا مؤمنا وجميع ذا

وزر عليك وليس بالكفران

هذا هو الارجاء عند غلاتهم

من كل جهمي أخي الشيطان

الشرح : الارجاء في اللغة معناه التأخير ، ومنه سميت المرجئة لأنهم يؤخرون الأعمال عن الإيمان ، ويقولون لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا تنفع مع الكفر طاعة. والإيمان عندهم هو مجرد الاقرار بأن الله هو الخالق للموجودات فمتى أقر العبد بذلك أصبح عندهم كامل الإيمان ، وليس عليه بعد ذلك حرج أن يرتكب ما شاء من معصية أو يقصر في طاعة فليرم المصاحف إن شاء في الحشوش أي في بيوت الخلاء امتهانا لها ، وليخرب الكعبة البيت الحرام وينقض بنيانها ، وليجتهد في ارتكاب كل موبقة ، وليقتل إن استطاع كل نفس مؤمنة ، وليذهب إن شاء الى الكنيسة متبركا بالقس عابدا للصليب وليسب جميع المرسلين ومن أرسلهم سبحانه علنا ومجاهرة ، وليسجد لكل ما قابله من صنم ووثن فإن ذلك كله وغيره لا ينقص من إيمانه مقدار خردلة عندهم ما دام يقر بأن الله جل

٤٠٨

شأنه هو الفاطر للكائنات وما دام يقر بأن محمدا رسول الله الذي أرسله بالوحي والقرآن ، فإن كل ما عدا ذلك ليس إلا ذنوبا لا توقع صاحبها في الكفر. هذا هو معنى الإرجاء عند غلاة المرجئة الجهمية إخوان الشيطان وأهل البهت والكفران ، وأما الارجاء الذي ينسب إلى بعض السلف كالحسن البصري وغيره ، فمعناه التفويض في أمر مرتكب الكبيرة إذا مات ولم يتب منها بمعنى عدم القطع له بشيء ، بل إن شاء الله عذبه عليها وإن شاء عفا عنه ، فهذا الإرجاء لا يضر بل هو مذهب أهل الحق قابلوا به قول الخوارج إن مرتكب الكبيرة إذا مات ولم يتب منها فهو كافر مخلد في النار.

* * *

فأضف إلى الجيمين جيم تجهم

وانف الصفات وألق بالارسان

قل ليس فوق العرش رب عالم

بسرائر منا ولا إعلان

بل ليس فوق العرش ذو سمع ولا

بصر ولا عدل ولا إحسان

بل ليس فوق العرش معبود سوى

العدم الذي لا شيء في الأعيان

بل ليس فوق العرش من متكلم

بأوامر وزواجر وقران

كلا ولا كلم إليه صاعد

أبدا ولا عمل لذي شكران

إني وحظ العرش منه كخط ما

تحت الثرى عند الحضيض الداني

بل نسبة الرحمن عند فريقهم

للعرش نسبته إلى البنيان

فعليهما استولى جميعا قدرة

وكلاهما من ذاته خلوان

هذا الذي أعطته جيم تجهم

حشوا بلا كيل ولا ميزان

الشرح : عرفنا ما جنته جيم الجبر من نفي مسئولة العبد عن فعله وإلقاء اللوم كله على القدر وما انتهت إليه من التسوية بين الإيمان والكفر والطاعة والمعصية ، وعرفنا كذلك ما جنته جيم الارجاء من الإغراء بفعل المعاصي والمنكرات والتراخي وفي أداء الواجبات اتكالا على الإيمان الناقص المبتور ، وأما ثالثها وهي جيم التجهم نسبة إلى رأس الفتنة الجهم بن صفوان الترمذي أمام أهل

٤٠٩

التعطيل فتقتضي نفس صفات الرب جل وعلا والانطلاق في هذا النفي إلى أبعد حد كما أشار إليه المصنف بقوله (وألق بالأرسان) فإن الأرسان جمع رسن وهو الحبل الذي تقاد به الدابة ليمنعها من الجري والجموح.

فقوله (وألق بالارسان) كناية على الانطلاق في النفى والايغال فيه ، فينفي فوقية الرب على عرشه وعلوه على خلقه ، كما ينفي علمه الشامل المحيط بأحوال عباده في سرهم وجهرهم وينفي سمعه الذي وسع أصواتهم مهما خافتوا بها وينفي رؤيته لهم رؤية لا يحول دونها حجاب ولا ظلمة ، ولا يؤثر فيها بعد ولا يغنى منها تخف واستتار ، وينفي عدله الذي قامت به السموات والأرض واحسانه الذي وسع جميع خلقه ، بل لو حقق الأمر على هذا الجهمي الخبيث لوجد أنه لا يعبد الا عدما لا حقيقة له في عالم الأعيان ، بل انما يفرض في الأذهان ، ولا يؤمن بأن فوق العرش إلها متكلما على الحقيقة بأوامر ونواه ، ومتكلما بالقرآن والتوراة والإنجيل بل يقول ان معنى كونه متكلما أنه خالق للكلام ، ولا يؤمن كذلك بأن كلام العباد يصعد إليه ، ولا أن أعمالهم ترفع عنده ، كما قال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠].

وكيف يؤمن بذلك وهو لا يقر بوجوده فوق عرشه ، بل يرى أن حظ العرش منه سبحانه كحظ أسفل مكان ، وهو الذي عند مركز الأرض المسمى بالحضيض ، وأن نسبته تعالى للعرش كنسبته الى بيته الحرام ، فكما أنه ليس ساكنا في البيت مع اضافته إليه ، فكذلك ليس مستويا على العرش ، بل هو مستول عليهما جميعا بقدرته ، وكلاهما خال من وجوده بذاته فيه.

هذا هو ما أفادته جيم الجهم من تعطيل الواحد الديان حشوا بلا كيل ولا ميزان.

* * *

تالله ما استجمعن عند معطل

جيماتها ولديه من ايمان

والجهم أصلها جميعا فاغتدت

مقسومة في الناس بالميزان

٤١٠

والوارثون له على التحقيق هم

أصحابها لا شيعة الايمان

لكن تقسمت الطوائف قوله

ذو السهم والسهمين والسهمان

لكن نجا أهل الحديث المحض أتب

اع الرسول وتابعوا القرآن

عرفوا الذي قد قال مع علم بما

قال الرسول فهم أولو العرفان

وسواهم في الجهل والدعوى م

ع الكبر العظيم وكثرة الهذيان

مدوا يدا نحو العلى بتكلف

وتخلف وتكبر وتوان

أترى ينالوها وهذا شأنهم

حاشا العلى من ذا الزبون الغاني

الشرح : يقسم المؤلف بالله العظيم أن هذه الجيمات الثلاث ما اجتمعت عند أحد وبقى عنده شيء من الايمان. وكيف يبقى له ايمانه ، وقد رأيت ما ترتب على كل واحدة منها من أنواع الكفر والضلال ، فكيف بها اذا لو اجتمعت؟ لا شك أن من كتب عليه أن تجتمع هذه الخلايا فيه فيكون جبريا مرجئا جهميا يصير بها من العتاة في الكفر والالحاد.

والجهم بن صفوان الترمذي قبحه الله هو الذي أسس قواعد هذه الضلالات الثلاث ، فغدت من بعده قسمة بين أصحاب المذاهب والمقالات ، كل منهم يأخذ منها بنصيب مقدور ، وهؤلاء الذين شايعوا جهما في ضلالاته هم وراؤه على الحقيقة وان كان نصيب كل منهم من هذه التركة الوبيئة يختلف عن الآخر ، فمنهم صاحب السهم الواحد ، ومنهم صاحب السهمين ، ومنهم صاحب السهمان الكثيرة.

وأما أهل الحديث الصرف من اتباع الرسول وجند القرآن فقد نجوا من التلبس بشيء منها ، لأنهم عرفوا ما قاله القرآن وما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستمسكوا بنصوص الوحيين ، واستضاءوا بذينك النورين ، ولم يكترثوا لما خالفهما. وأما سواهم فهو يرتع في جهله ودعاواه العريضة ، مع ما فيه من الصلف والتكبر وكثرة الخلط والهذيان. ومن العجيب أنه ينشد المعالي ويمد إليها يده مع تكلفه وتخلفه وتكبره وتوانيه ، فهل تظنه ينالها الا كل من قدم لها غالي الأثمان ،

٤١١

من جد وصبر ومثابرة وتواضع وتقوى وايمان.

* * *

فصل

في جواب الرب تبارك وتعالى يوم القيامة

اذا سأل المعطل والمشبه عن قول كل منهما

وسل المعطل ما تقول اذا أتى

فئتان عند الله يختصمان

احداهما حكمت على معبودها

بعقولها وبفكرة الاذهان

سمته معقولا وقالت أنه

اولى من المنصوص بالبرهان

والنص قطعا لا يفيد فنحن أول

نا وفوضنا لنا قولان

قالت وقلنا فيك لست بداخل

فينا ولست بخارج الأكوان

والعرش أخليناه منك فلست فو

ق العرش لست بقابل لمكان

وكذاك لست بقائل القرآن بل

قد قاله بشر عظيم الشأن

ونسبته حقا أليك بنسبة التش

ريف تعظيما لذي القرآن

وكذاك قلنا لست تنزل في الدجى

ان النزول صفات ذي الجثمان

وكذاك قلنا لست ذا وجه ولا

سمع ولا بصر فكيف يدان

وكذاك قلنا لا ترى في هذه الدني

ا ولا يوم المعاد الثاني

وكذاك قلنا ما لفعلك حكمة

من أجلها خصصته بزمان

ما ثم غير مشيئة قد رجحت

مثلا على مثل بلا رجحان

لكن منا من يقول بحكمة

ليست بوصف قام بالرحمن

هذا وقلنا ما اقتضته عقولنا

وعقول أشياخ ذوي عرفان

قالوا لنا لا تأخذوا بظواه

ر الوحيين تنسلخوا من الايمان

بل فكروا بعقولكم ان شئتم

أو فاقبلوا آراء عقل فلان

فلأجل هذا لم نحكم لفظ آ

ثار ولا خير ولا قرآن

اذ كل تلك أدلة لفظية

معزولة عن مقتضى البرهان

٤١٢

الشرح : يصور لنا المؤلف في هذه الأبيات الرائعة مشهدا من مشاهد يوم القيامة حين يجمع الله المتخاصمين فيه ليحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون ، هنالك يظهر الحق ويعلو ويذهب بأصحابه الى الجنة بررة مكرمين ، ويسفل الباطل ويخزي ويذهب بأتباعه الى العذاب المهين ، فيقول سل هذا المعطل الجاحد لصفات رب العالمين ، ما ذا يكون جوابك عند ما تجتمع الفئتان المختصمتان عند الله.

أما احداهما وهي فئة التعطيل والانكار فقد كذبت على ربها وقالت عليه ما لا تعلم ، وعولت في ذلك لا على القرآن والآثار ، بل على ما عندها من زبالات الأذهان والأفكار ، وسمت ذلك دلائل عقلية وقدمتها على النصوص الصريحة من الكتاب والسنة ، وزعمت أنها أولى باسم البرهان من تلك النصوص لأنها يقينية ، وأما النصوص ، فلا تفيد الا غلبة ظن لا يغني في باب الاعتقاد ، ولهذا تراهم اذا تعارض ظاهر النص مع ما يزعمونه قواطع عقلية ، فانهم اما أن يؤولوا النص بما يصرفه عن هذا الظاهر الى معنى آخر يكون موافقا لما حكم به العقل. واما أن يفوضوا في معنى النص فيقولوا لا نعلم المراد به ، وان كنا نعلم ان هذا الظاهر غير مراد.

وكذلك تجيب هذه الفئة الجاحدة ربما يوم القيامة بأنها كانت تقوم عليه بأنه ليس داخل هذا العالم ولا خارجه ، وأن العرش خلو منه ، فهو ليس فوق العرش بذاته ، زعما منهم أنه لا يجوز عليه الحلول في المكان ، لأن ذلك عندهم من خصائص الأجسام ، وبأنه ليس هو المتكلم بالقرآن ، اذ لا يجوز عليه الحرف والصوت ، بل انما هو قول رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانما نسبه سبحانه الى نفسه تشريفا له وتعظيما لقارئه ، وبأنه لا ينزل كل ليلة الى سماء الدنيا ، كما صرح الحديث الصحيح بذلك ، لأن النزول من صفات الأجسام ، وبأنه ليس له وجه ولا سمع ولا بصر ، ومن باب أولى لا يكون له يدان ، وبأن رؤيته بالأبصار مستحيلة في هذه الدنيا وفي الآخرة ، اذ لا جهة له ، وما لا يكون في جهة لا تمكن رؤيته ، وبأنه ليس لأفعاله حكمة تفعل من أجلها ، ويخصص كل فعل منها بزمانه

٤١٣

بسببها ، بل ليس هناك الا مجرد مشيئة ترجح احد المتساويين على الآخر بلا مرجح دون أن يكون في أحدهما ما يقتضي رجحانه وتعلق المشيئة به.

ومنهم من يثبت الحكمة ، لكن لا يجعلها صفة قائمة بذاته سبحانه ، بل يجعلها قائمة بالمفعول ، وتجيب أيضا هذه الفئة الباغية ربما بأننا انما حكمنا عليها بما اقتضته عقولنا ، وبما أخذناه من شيوخنا الذين كنا نظن فيهم التحقيق والعرفان ، والذين كانوا يحذروننا من الأخذ بظواهر الوحيين من الكتاب والسنة ويرون ذلك خروجا من ربقة الايمان ، ويزعمون لنا أن العقائد لا يرجع فيها الا الى حكم العقل فيقولون لنا فكروا بعقولكم والا فقلدوا في عقيدتكم من سبقكم من العقلاء ، فلأجل هذا الذي قالوه لنا لم نحكم في عقيدتنا لفظ آثار ولا أخبار ولا قرآن ، وانما جرينا معهم فيما أسسوه لنا من أفك ومن بهتان.

* * *

فصل

والآخرين أتوا بما قد قاله

من غير تحريف ولا كتمان

قالوا تلقينا عقيدتنا ع

ن الوحيين بالأخبار والقرآن

فالحكم ما حكما به لا رأى أه

ل الاختلاف وظن ذي الحسبان

آراؤهم احداث هذا الدين نا

قضة لأصل طهارة الايمان

آراؤهم ريح المقاعد أين تلك

الريح من روح ومن ريحان

قالوا وأنت رقيبنا وشهيدنا

من فوق عرشك يا عظيم الشأن

انا أبينا أن ندين ببدعة

وضلالة أو افك ذي بهتان

لكن بما قد قلته أو قاله

من قد أتانا عنك بالفرقان

وكذاك فارقناهم حين احتيا

ج الناس للأنصار والأعوان

كيلا تصير مصيرهم في يومنا

هذا ونطمع منك بالغفران

الشرح : وأما الآخرون وهم أهل الحق ، فقد أتوا الى ربهم سليمة عقائدهم

٤١٤

من أدران التعطيل والالحاد ، لم يتبعوا فيها الا ما قاله هو سبحانه ، من غير تحريف له عن أصل وضعه ، ولا صرف له عن ظاهره ، ومن غير ما جحد له ولا كتمان ، قالوا لربهم حين سألهم : انما تلقينا عقيدتنا عن الوحيين من القرآن والأخبار ، فهما مصدر ديننا كله ، فلا حكم عندنا الا لهما ، ولا مرجع الا إليهما فلا نقدم عليهما قول أحد ولا رأيه ولا نعارض حكمهما بقضية عقل ولا غيره ولا نعدل عنهما الى رأى هؤلاء المختلفين المضطربين الذين يحسبون أنهم على شيء وهم ضلال عن الحق المبين ، آراؤهم مفسدة للدين افساد الحدث لطهارة المتطهرين فكما ينقض الحدث الطهارة الحاصلة بالوضوء تنقض آراؤهم أصل طهارة الايمان فهي كهذا الفساء والضراط الخارجين من الدبر ، فأين تلك الريح المنتنة مما جاء به الوحيان من روح وريحان ، وقال أهل الحق لربهم كذلك أنت كنت الرقيب علينا من فوق عرشك تسمعنا وترانا وتعلم سرنا وعلانيتنا لا يخفى عليك شيء من أمرنا. فأنت تعلم أنا قد أبينا أن ندين بالبدع والضلالات أو نقول بقول الافاكين ذوي البهتان والجهالات ، بل لم نقل الا بما قلته أنت في كتابك الحكيم ، أو قاله رسولك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما صح عنه لم نتجاوز ذلك قيد أنملة ولم نركن الى هؤلاء المبتدعة بل عاديناهم فيك وفارقناهم رغم احتياجنا الى الانصار والاعوان. وانا خشينا ان تجر علينا صحبتهم أن نصير الى ما صاروا إليه من ذلة وهوان في يوم نطمع منك فيه بالغفران.

فمن الذي منا أحق بأمنه

فاختر لنفسك يا أخا العرفان

لا بد نلقاه نحن وأنتم

في موقف العرض العظيم الشأن

وهناك يسألنا جميعا ربنا

ولديه قطعا نحن مختصمان

فنقول قلت كذا وقال نبينا

أيضا كذا فأمامنا الوحيان

فافعل بنا ما أنت أهل بعد ذا

نحن العبيد وأنت ذو الاحسان

أفتقدرون على جواب مثل ذا

أم تعدلون على جواب ثان

ما فيه قال الله قال رسوله

بل فيه قلنا مثل قول فلان

وهو الذي أدت إليه عقولنا

لما وزنا الوحي بالميزان

٤١٥

ان كان ذلكم الجواب مخلصا

فامضوا عليه يا ذوي العرفان

تالله ما بعد البيان لمنصف

الا العناد ومركب الخذلان

الشرح : يعني اذا كنا نحن معشر اهل الحق قد وقفنا عند نصوص الوحيين واستضأنا بنورهما ، ولم نقل الا بقولهما وكنتم أنتم معشر أهل التعطيل قد عزلتم هذه النصوص وجعلتموها وراءكم ظهريا وعولتم على عقولكم وحدها وجعلتم لها الحكم فيما يثبت وينفي ، ولم ترفعوا بالوحي رأسا ، فمن أحق منا ومنكم أن يأتي ربه آمنا يوم القيامة.

واذا ظهر الحق على جليته وبان الفرق الهائل بيننا وبينكم فليختر كل عاقل لنفسه ما يعتقد أن فيه نجاته من عذاب الله ، فاننا لا بد ملاقوه نحن وأنتم في مشهد يوم عظيم يوم يوقفنا بين يديه للعرض والحساب فيسألنا جميعا عما قدمناه لهذا اليوم ، فنختصم عنده ويقول كل منا ما كان يدين به ويعتقده أما نحن فنقول له سبحانه : انك قلت في كتابك كذا فاتبعنا ، وقال نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا كذا فأطعنا قد جعلنا الوحي إمامنا وقدوتنا ، وقد قدمنا عليك وأنت رب كريم فافعل بنا ما أنت أهل له من الكرم والجود فنحن العبيد وأنت الرب ذو الفضل والاحسان ولكنكم لن تقدروا على مثل هذا الجواب بل ستجدون أنفسكم مضطرين للعدول عنه الى جواب آخر ليس فيه اعتراف باتباع ما قاله الله ورسوله بل ستقولون لربكم حين يسألكم قلنا مثل ما قاله فلان أو فلان ، مما اهتدينا إليه بعقولنا حين وزنا الوحي فرأيناه لا يصلح للاهتداء به في هذا المجال ، فهل تظنون أن مثل هذا الجواب يصلح أن يكون مخلصا لكم من عذاب الله؟ ان كان ذلك فاستمروا عليه وغدا سترون أنه لن يغني عنكم شروى نقير. أما نحن فقد أعذرنا إليكم وبينا لكم الحق فأبيتم الا العناد واللجاجة في الباطل وتلك علامة الخذلان ونفخة الشيطان.

* * *

٤١٦

فصل

في تحميل أهل الاثبات للمعطلين

شهادة تؤدي عند رب العالمين

يا أيها الباغي على أتباعه

بالظلم والبهتان والعدوان

قد حملوك شهادة فاشهد بها

ان كنت مقبولا لدى الرحمن

واشهد عليهم ان سئلت بأنهم

قالوا إله العرش والأكوان

فوق السموات العلى حقا على الع

رش استوى سبحان ذي السلطان

والأمر ينزل منه ثم يسير في الا

قطار سبحان العظيم الشأن

وإليه يصعد ما يشاء بأمره

من طيبات القول والشكران

وإليه قد صعد الرسول وقبله

عيسى ابن مريم كاسر الصلبان

وكذلك الاملاك تصعد دائما

من هاهنا حقا على الديان

وكذاك روح العبد بعد مماتها

ترقى إليه وهو ذو ايمان

الشرح : ينادي المؤلف هؤلاء البغاة الخارجين عن مذهب أهل الحق المتجنين عليهم بالظلم والعدوان والرامين لهم بالافك والبهتان بأنهم قد حملوهم شهادة يؤدونها عنهم عند الله يوم القيامة ان كانوا أهلا لتحمل الشهادة بأن كونوا عدولا أمناء ، فليشهدوا عليهم ان سئلوا عنهم بأنهم كانوا يصرحون بأن الله فوق سماواته مستو على عرشه يدبر شئون خلقه ، وأن الأمور تنزل من عنده ينزل بها ملك الوحي ، ثم تسير في أقطار السموات والأرض ، وأنه يصعد إليه ما يشاء من كلام العباد وأعمالهم كما قال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صعد إليه ليلة المعراج حتى كان قاب قوسين أو أدنى ، فكلمه وناجاه وفرض عليه وعلى أمته الصلاة ، وأنه سبحانه قبل ذلك قد رفع إليه عيسى ابن مريم بجسده حيا كما قال تعالى : (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥] وسينزل قرب قيام الساعة فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية كما ورد الحديث بذلك ،

٤١٧

وأن الملائكة الموكلين بأعمال العباد يصعدون بها على الدوام متعاقبين بالليل والنهار ويعرضونها على رب العالمين ، وقد سبق ذكر الحديث الدال على ذلك من رواية أبي هريرة وأن روح المؤمن ترقى بها ملائكة الرحمة حتى يبلغوا بها الرب جل شأنه فتعرض عليه ، ثم ترد الى روح وريحان. فسبحان من له العلو كله ذات وقهر وقدرة ورفعة شأن.

* * *

وأشهد عليهم أنه سبحانه

متكلم بالوحى والقرآن

سمع الأمين كلامه منه وأد

اه الى المبعوث بالفرقان

هو قول رب العالمين حقيقة

لفظا ومعنى ليس يفترقان

وأشهد عليهم أنه سبحانه

قد كلم المولود من عمران

سمع ابن عمران الرسول كلامه

منه إليه مسمع الاذان

وأشهد عليهم أنهم قالوا بأن

الله ناداه بلا كتمان

وأشهد عليهم أنهم قالوا بأن

الله نادى قبله الأبوان

وأشهد عليهم أنهم قالوا بأن

الله يسمع صوته الثقلان

والله قال بنفسه لرسوله

اني أنا الله العظيم الشأن

والله قال بنفسه لرسوله

اذهب الى فرعون ذي الطغيان

والله قال بنفسه حم مع

طه ومع يس قول بيان

الشرح : وليشهدوا عليهم كذلك بأنه سبحانه تكلم القرآن بصوت نفسه كلاما حقيقيا سمعه منه الأمين جبريل عليه‌السلام ، ثم أداه الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما سمعه ، فهو قول الله على الحقيقة لفظه ومعناه لا يجوز القول بأن معناه من عند الله. وأما ألفاظه فمن اختراع جبريل أو محمد عليهما‌السلام الى آخر ما يقوله المفترون الذين جعلوا القرآن عضين ، وليشهدوا عليهم كذلك انه سبحانه كلم موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام بكلام حقيقي مؤلف من حروف وأصوات سمعها موسى عليه‌السلام بأذنه ، وعلم أن الذي يكلمه هو الله عزوجل

٤١٨

وليس بكلام خلقه في الهواء أو في الشجرة أو بإلقاء المعاني في قلب موسى مجردة عن الألفاظ ، كما يزعم أهل التعطيل.

وليشهدوا عليهم أنهم قالوا بأن الله سبحانه نادى موسى بصوت سمعه ، وأنه قربه نجيا ، كما صرحت الآيات بذلك وأنه نادى من قبله الأبوان آدم وحواء معاتبا لهما على الأكل من الشجرة واقتراف الخطيئة كما قال تعالى : (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) [الأعراف : ٢٢] وأنه ينادى عباده يوم القيامة بصوت يسمعه الثقلان من الانس والجن كما في الحديث ، وأنه هو سبحانه الذي قال بنفسه لرسوله وكليمه موسىعليه‌السلام: (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه : ١٤] وهو الذي قاله له بنفسه : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [طه : ٢٤] وهو الذي تكلم وقال بنفسه حم وطه ويس وغيرهما من الفواتح قولا بينا لا خفاء فيه ولا اشتباه.

* * *

وأشهد عليهم أنهم وصفوا الال

ه بكل ما قد جاء في القرآن

وبكل ما قال الرسول حقيقة

من غير تحريف ولا عدوان

وأشهد عليهم أن قول نبيهم

وكلام رب العرش ذا التبيان

نص يفيد لديهم علم اليق

ين افادة المعلوم بالبرهان

واشهد عليهم أنهم قد قابلوا

التعطيل والتمثيل بالنكران

ان المعطل والممثل ما هما

متيقنين عبادة الرحمن

ذا عابد المعدوم لا سبحانه

أبدا وهذا عابد الأوثان

وأشهد عليهم أنهم قد أثبتوا الأ

سماء والأوصاف للديان

وكذلك الأحكام أحكام الصفا

ت وهذه الأركان للايمان

الشرح : وليشهد هؤلاء المعطلة على أهل الحق بأنهم يصفون الله عزوجل بكل ما وصف به نفسه في كتابه ، وبكل ما وصفه به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويعتقدون حقيقة ما دلت عليه النصوص من تلك الصفات ، لا يحرفون الكم عن مواضعه ،

٤١٩

ولا يعتدون على النصوص بصرفها عن حقيقتها الى المجاز ، ويعتقدون أن كلام الله عزوجل وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في باب الأسماء والصفات نصوص صريحة في معانيها ، فهي تفيد من العلم اليقيني ما تفيده البراهين العقلية القائمة على الضروريات.

وليشهدوا عليهم بأنهم ينكرون أشد الإنكار كلا من التعطيل والجحد للصفات والتمثيل والتشبيه بالمخلوقات ، ويعتقدون أن كلا من المعطل والممثل ليسوا من عبادة الرحمن على يقين ، بل الأول يعبد عدما حيث نفى عن ربه من الصفات ما لا يعقل وجود الموصوف بدونه ووصفه بصفات المعدوم. والثاني وهو الممثل يعبد صنما ، لأنه يعبد الله على الصورة التي رسمها له في خياله ، وهي لا تفترق عن تلك المنحوتة من الحجارة.

وليشهدوا عليهم بأنهم في باب الاثبات لا يثبتون الأسماء دون الصفات كالمعتزلة ، ولا يثبتون الصفات دون الأحكام ، بل يثبتون كلا من الأسماء والصفات والأحكام ، وهذه كلها عندهم أركان للايمان.

* * *

قالوا عليم وهو ذو علم يع

لم غاية الاسرار والاعلان

وكذا بصير وهو ذو بصر ويبص

ر كل مرئي وذي الأكوان

وكذا سميع وهو ذو سمع ويسم

ع كل مسموع من الأكوان

متكلم وله كلام وصفه

ويكلم المخصوص بالرضوان

وهو القوي بقوة هي وصفه

ومليك يقدر يا أخا السلطان

وهو المريد له الإرادة هكذا

أبدا يريد صنائع الاحسان

والوصف معنى قائم بالذات والاس

ماء أعلام له بوزان

أسماؤه دلت على أوصافه

مشتقة منها اشتقاق معان

وصفاته دلت على أسمائه

والفعل مرتبط به الامران

والحكم نسبتها الى متعلقا

ت تقتضي آثارها ببيان

٤٢٠