شرح القصيدة النونيّة - ج ١

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ١

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥
الجزء ١ الجزء ٢

فصل

في طريقة ابن سينا وذويه

من الملاحدة في التأويل

وأتى ابن سينا بعد ذا بطريقة

أخرى ولم يأنف من الكفران

قال المراد حقائق الألفاظ تخيي

لا وتقريبا الى الأذهان

عجزت عن الادراك للمعقول ا

لا في مثال الحس كالصبيان

كي يبرز المعقول في صور من المحس

وس مقبولا لدى الأذهان

فتسلط التأويل أبطال لهذا القصد

وهو جناية من جان

هذا الذي قد قاله مع نفيه

لحقائق الألفاظ في الأذهان

وطريقة التأويل أيضا قد غدت

مشتقة من هذه الخلجان

وكلاهما اتفقا على أن الحقيق

ة منتف مضمونها ببيان

الشرح : وجاء بعد ذلك أبو علي ابن سينا الذي يلقبه أشياعه بالشيخ الرئيس فابتدع طريقة أخرى في التأويل ، فقال ان المراد بالألفاظ حقائقها ، لكن على سبيل التخييل تقريبا الى الأذهان ، فإن عقول العامة تعجز عن ادراك هذه المعاني العقلية لشدة اتصالها بالمحسوسات ، فإذا أبرزت لها هذه المعقولات في صورة الأمور المحسوسة كانت مقبولة لديها. وقال ان تسلط التأويل على هذه النصوص يبطل ما قصد إليه الشارع من جعلها مثالا للحقائق تقربها من الأذهان فهو جناية يا لمرتكبها من جان ، ولكن ابن سينا نسي أنه هو أيضا ينفي حقائق الألفاظ المعقولة ، ويدعي عليها أنها مستعملة في حقائق حسية ليست هي مقصود المتكلم بهذه الألفاظ. فطريقته في الايهام والتخييل أخت لطريقة أهل التحريف والتأويل كلتاهما مشتقة من أصل واحد وهو الانكار والتعطيل ، وهما متفقتان على نفي حقائق الألفاظ وعزلها عن أن تكون مقصودة من التنزيل.

* * *

٣٠١

لكن قد اختلفا فعند فريقكم

ما أن أريدت قط بالتبيان

لكن عندهم أريد ثبوتها

في الذهن اذ عدمت من الاحسان

اذ ذاك مصلحة المخاطب عندهم

وطريقة البرهان أمر ثان

فكلاهما ارتكبا أشد جناية

جنيت على القرآن والايمان

جعلوا النصوص لأجلها غرضا بهم

قد خرقوه بأسهم الهذيان

وتسلط الأوغاد والاوقاح

والأرذال بالتحريف والبهتان

كل اذا قابلته بالنص قا

بله بتأويل بلا برهان

الشرح : يعني أن الطريقتين وإن اتفقتا في نفي حقائق النصوص وإنكار معانيها قد اختلفتا في وجود هذه الحقائق ، فعند فريق المؤولة هي من قبيل المستحيل الذي لا وجود له لا في الذهن ولا في الخارج ، ولا يمكن أن تراد من النص أصلا. وعند ابن سينا وأشياعه من المتفلسفة هي حقائق ثابتة ، لكن ثبوتها ذهني لا خارجي ، والنصوص إنما دلت على أمثلة ضربت لها من عالم الحس ، وذلك لمصلحة المخاطبين ، اذ كانوا لا يستطيعون ادراك هذه المعاني الا بطريق التخييل. وأما طريقة البرهان عندهم ، فهي التي توصل الى إدراك هذه المعقولات بذاتها ، وهي طريقة الخواص ، يعنون بذلك أنفسهم ، فيا عجبا لهؤلاء الحمقى يجعلون طريقة القرآن خطابية شعرية تخييلية ، وأما طريقتهم التي بنوها على قواعد المنطق الارسطي فهي طريقة البرهان واليقين ، وما هي الا طريقة الضلال والتجهيل ، الا ساء ما يزعمون.

وكلا الفريقين من المؤولة والمتفلسفة قد ارتكب أشد جناية على القرآن والايمان حيث جعلوا النصوص الكريمة هدفا لسهام هذيانهم وفتحوا المجال لكل وغد ورذيل ليقول في النصوص بما شاء له هواه. فكلما أوردت له نصا قابله بتأويل من تلك التأويلات السمجة بلا دليل ولا برهان.

* * *

ويقول تأويلي كتأويل ال

ذين تأولوا فوقية الرحمن

٣٠٢

بل دونه فظهورها في الوحي بالنص

ين مثل الشمس في التبيان

أيسوغ تأويل العلو لكم ولا

تتأولوا الباقي بلا فرقان

وكذاك تأويل الصفات مع أنها

ملء الحديث وملء ذا القرآن

والله تأويل العلو أشد من

تأويلنا لقيامة الابدان

وأشد من تأويلنا لحياته

ولعلمه ومشيئة الاكوان

وأشد من تأويلنا لحدوث ه

ذا العالم المحسوس بالامكان

وأشد من تأويلنا بعض الشرا

ئع عند ذي الانصاف والميزان

وأشد من تأويلنا لكلامه

بالفيض من فعال ذي الاكوان

الشرح : ويقول الفلسفي اذا حدثته في فساد تأويله وشناعته أن تأويلي كتأويل هؤلاء الجهمية الذين تأولوا فوقية الرحمن ، بل هو دونها في الشناعة ، فإن نصوص الفوقية من الكتاب والسنة كالشمس في الوضوح والبيان ، فكيف يسوغ لكم أيها الجهمية تأويل علوه سبحانه على كثرة نصوصه ووضوحها ، ثم تنكرون علينا ما تأولناه ، وكيف ساغ لكم أن تتأولوا آيات الصفات وأحاديثها مع أنها ملء الكتاب والسنة ولا يسوغ لنا ذلك. والله لتأويلكم للعلو أشد من تأويلنا للقيامة بأن المراد بها رجوع الروح الى عالمها الأول مع عود الجسم الى العناصر التي تركب منها وأشد من تأويلنا لحياته وعلمه ومشيئته بأن ذلك كله نفس ذاته وأشد من تأويلنا لحدوث هذا العالم بأنه ليس معناه الوجود من عدم ، بل معناه أنه ممكن في ذاته مفتقر الى علة يستند إليها في وجوده. فإن الممكن لا وجود له من ذاته لكنه مع ذلك لم يسبق بعدم لأن علته قديمة لا أول لها في الزمان وهو مقارن لها وأشد من تأويلنا بعض الشرائع من الصلاة والحج ونحوهما بأن المراد بهما معان فكرية وأشد من تأويلنا لكلامه بأنه فيض من العقل الفعال الذي هو عقل القمر المختص بالتدبير في عالم العناصر وإفاضة المعلومات على العقول الانسانية وانزالها على لوح قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانتقاش صور تلك المعاني في خياله حروفا وكلاما منظوما.

* * *

٣٠٣

وأشد من تأويل أهل الرفض

أخبار الفضائل حازها الشيخان

وأشد من تأويل كل مؤول

نصا أبان مراده الوحيان

اذ صرح الوحيان مع كتب الاله

جميعها بالفوق للرحمن

فلأي شيء نحن كفار بذا

التأويل بل أنتم على الإيمان

انا تأولنا وأنتم قد تأو

لتم فهاتوا وأضح الفرقان

ألكم على تأويلكم أجران

حيث لنا على تأويلنا وزران

هذي مقالتهم لكم في كتبهم

منها نقلناها بلا عدوان

ردوا عليهم ان قدرتم أو فنحوا على طريق عساكر الإيمان لا تحطمنكم جنودهم كحطم السيل ما لاقى من الديدان الشرح : وتأويلكم للعلو أشد كذلك من تأويل الرافضة للأخبار التي وردت في فضل الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وأشد من تأويل كل من تأول نصا أظهر المراد منه الوحيان من كتاب وسنة ، فإن نصوص الفوقية فيهما وفي غيرهما من الكتب السماوية في غاية الصراحة ونهاية الكثرة ، فلأي شيء إذا أيها الجهميون نكون نحن كفارا بتأويلنا وأنتم المؤمنون ، وأي فرق بين تأويلنا وتأويلكم ، دلونا ان استطعتم على ما يصلح أن يكون فارقا بينهما ، لعلكم تقولون اننا مجتهدون في هذا التأويل ومصيبون فيه ، فلنا على تأويلنا أجران ، ولكنكم أنتم مخطئون في هذا التأويل متعمدون فعليكم فيه وزران. وهذا كذب فنحن وأنتم سواء في تعمد الكذب على النصوص ، حيث لا موضع للاجتهاد.

هذه مقالة الفلاسفة في الرد على الجهمية الذين ينكرون عليهم التأويل منقولة من كتبهم بلا زيادة ولا تبديل ، فهل يستطيع هؤلاء الجهمية أن يردوا عليهم أو يتخلصوا من هذا الالزام الذي وجهوه إليهم؟ كلا فليتركوا الميدان إذا لأهل الحق وعساكر الإيمان ، وليخلوا لهم الطريق حتى لا تحطمهم جنودهم كحطم السيل المنهمر لما يقابله من الخشاش والديدان.

* * *

٣٠٤

وكذا نطالبكم بأمر رابع

والله ليس لكم بذا امكان

وهو الجواب عن المعارض اذ

به الدعوى تتم سليمة الأركان

لكن ذا عين المحال ولو يسا

عدكم عليه رب كل لسان

فأدلة الأثبات حقا لا يقو

م لها الجبال وسائر الأكوان

تنزيل رب العالمين ووحيه

مع فطرة الرحمن والبرهان

أني يعارضها كناسة هذه

الأذهان بالشبهات والهذيان

وجعاجع وفراقع ما تحتها

إلا السراب لوارد ظمآن

الشرح : سبق أن طالب المؤلف مدعي التأويل بأربعة أمور ، ذكر منها ثلاثة هناك ، وهي الاتيان بدليل صارف للفظ عن معناه ، واثبات أن اللفظ محتمل للمعنى الذي ادعوه والاتيان بدليل على أن هذا المعنى يتعين ارادته من اللفظ.

ثم ذكر هنا الأمر الرابع ، وهو الجواب عن المعارض حتى تتم لهم دعوى التأويل سليمة ، وذلك من أمحل المحال وان استعانوا عليه بكل فصيح مقوال ، فإن المعارض هنا لا يقوم له شيء حتى ولا شم الجبال وغيرها من سائر الأكوان كيف وهو تنزيل رب العالمين ووحيه مع فطرة الله التي لا تبديل لها ، ومع براهين العقل القطعية ، فإنى يعارض ذلك كله بأوساخ القرائح وزبالة الأذهان من تلك الشبهات والهذيانات التي هي كالطبل الأجوف ، أو كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.

* * *

فلتهنكم هذي العلوم اللاء قد

ذخرت لكم من تابع الإحسان

بل عن مشايخهم جميعا ثم

وفقتم لها من بعد طول زمان

والله ما ذخرت لكم لفضيلة

لكم عليهم يا أولى النقصان

لكن عقول القوم كانت فوق ذا

قدرا وشأنهم فأعظم شان

وهم أجل وعلمهم أعلى وأشرف

أن يشاب بزخرف الهذيان

فلذاك صانهم الاله عن الذي

فيه وقعتم صون ذي احسان

٣٠٥

الشرح : فإن كنتم لا تجدون ما تعارضون به النصوص الصريحة من الكتاب والسنة مع ما ينضم إليها من أدلة العقل والفطرة إلا هذه الهذيانات التي ورثتموها عن أسلافكم في الضلال من فلاسفة اليونان والرومان وغيرهم من ضلال اليهود والنصارى والصابئة ، فلتهنكم إذا هذه العلوم التي هي أحق أن تسمى جهالات ، والتي قد ادخرت لكم في بطون الكتب التي تركها لكم هؤلاء الأسلاف حتى وقعتم عليها بعد زمان طويل ، فاشتغلتم بها عن الوحي ونقلتموها إلى لسانكم العربي وفتنتم بها ايما فتنة وظننتم أنكم وقعتم على لحم ، وأنكم تميزتم بها عن أئمة الهدى ممن أحسنوا الاتباع ووقفوا عند ما سنه لهم سلفهم الصالح رضي الله عنهم أجمعين. فلا تظنوا أن هذه العلوم قد ادخرت لكم لكي يرفعكم الله بها ، أو أن اشتغالكم بهذه العلوم قد أورثكم فضلا وكمالا فقتم به هؤلاء الاخيار من أهل السنة والاتباع ، فإن عقولهم أسمى من أن تشتغل بهذه الترهات ، وهم أجل أن ينزلوا بأنفسهم إلى هذا الدرك الذي نزلتم إليه ، وعلمهم أعلى وأشرف من أن يدنسوه بهذه المقالات السخيفة. وهذا من فضل الله عزوجل عليهم أن صانهم وحماهم عما تورطتم أنتم فيه من أوساخ وأقذار هي نتاج عقول لم تستضيء بنور الله ولم تنتفع بما جاء به رسله عليهم الصلاة والسلام من الهدى والعلم النافع الصحيح.

* * *

سميتم التحريف تأويلا

كذا التعطيل تنزيها هما لقبان

وأضفتم أمرا إلى ذا ثالثا

شرا وأقبح منه ذا بهتان

فجعلتم الاثبات تجسيما وتشبيها

وذا من أقبح العدوان

فقلبتم تلك الحقائق مثل ما

قلبت قلوبكم عن الايمان

وجعلتم الممدوح مذموما كذا

بالعكس حتى استكمل اللبسان

وأردتم أن تحمدوا بالاتبا

ع نعم لكن لمن يا فرقة البهتان

وبغيتم أن تنسبوا للابتدا

ع عساكر الآثار والقرآن

الشرح : هذه العلوم التي ورثتموها عن أسلافكم في الضلال ، وظننتموها

٣٠٦

مسلمات عقلية لا تقبل الجدل ، وأحسنتم الظن بأصحابها الى حد اعتقاد العصمة ، بل قدمتموها على الوحي بدعوى أنها أمور قطعية لا يتطرق إليها الاحتمال هي التي أفسدت عقولكم وسممت أفكاركم ، فغدت مريضة منتكسة تعطي الأشياء غير اسمها ، وتقلب الحقائق على رأسها ، فهي تسمى التحريف للنصوص والخروج بها عن وضعها الحقيقي الذي توجبه اللغة تأويلا ، وهي تسمى التعطيل الذي هو نفي ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصفات تنزيها بل أدهى من ذلك أمر ، وادخل في باب الافتراء والبهتان أنها تسمى الاثبات للأسماء والصفات التي وردت به النصوص الصريحة تشبيها وتجسيما ، وما قلبكم لهذه الحقائق والتباسها عليكم إلا نتيجة حتمية لفساد فطركم وزيغ قلوبك ، فجعلتم بجهلكم ، المحمود من الاثبات للأسماء والصفات التي هي كمالات محضة ، مذموما وبالعكس ، جعلتم المذموم من النفي والتعطيل محمودا ، وأردتم أن تحمدوا بالاتباع فنعم ولكن من تتبعون؟ ان تتبعون إلا أهواءكم الجامحة وظنونكم الكاذبة وشياطينكم الذين زخرفوا لكم وموهوا.

واعجب من ذلك أنكم ترمون بدائكم في الابتداع والزيغ جند الرحمن وعساكر الآثار والقرآن.

* * *

وجعلتم الوحيين غير مفيدة

للعلم والتحقيق والبرهان

لكن عقول الناكبين عن الهدى

لهما تفيد ومنطق اليونان

وجعلتم الإيمان كفرا والهدى

عين الضلال وذا من الطغيان

ثم استحقيتم عقولا ما أرا

د الله ان تزكوا على القرآن

حتى استجابوا مهطعين لدعوة

التعطيل قد هربوا من الايمان

يا ويحهم لو يشعرون بمن دعا

ولما دعا قعدوا قعود جبان

الشرح : ومن شر حماقاتكم وأشنع غلطاتكم ما اجترأتم به من الحكم على نصوص الوحيين من الكتاب والسنة بأنها غير مفيدة للعلم اليقيني وليست من

٣٠٧

قبيل البراهين التي تفيد القطع ولا تحتمل النقيض بما زينه لكم الشيطان من أن هذه النصوص ألفاظ تحتمل الحقيقة والمجاز ، ويدخلها التعميم والتخصيص والاجمال والتفصيل والاطلاق والتقييد وغير ذلك مما ينافي العلم بالمراد ، ألا ساء ما تحكمون ، وبئس ما تظنون بكتاب ربكم وسنة نبيكم حيث عزلتموهما عن افادة العلم والهدى في الوقت الذي تزعمون فيه أن عقولكم المريضة التي نكبت عن صراط الله وحادت عن سبيله هي التي يوثق بأدلتها ، فهي في نظركم براهين مفيدة للعلم اليقيني وموصلة إلى النتائج القطعية إذا كانت مؤلفة تأليفا صحيحا على أساس المنطق اليوناني الذي وضعه أرسطو.

وكذلك نتج عن التواء فهمكم وانتكاس عقولكم جعلتم الايمان بعلو الله فوق خلقه وغير ذلك من صفاته كفرا ، وجعلتم هذا الهدى هو عين الضلال طغيانا منكم وتجاوزا عن الحد ، لأن عقولكم لم تطق حمل حقائق القرآن ، ولا أراد الله لها أن تزكو بآياته وتحسن الفهم لمقاصده وغاياته ، فارتكست في غيها وضلالها ، واستجابت مسرعة لمن دعاها إلى النفي والتعطيل ، هاربة من الإيمان بمقتضى التنزيل ، ولو علمت بحال من دعاها وحال ما دعاها إليه لقعدت قعود الجبان عن سلوك هذا السبيل المؤدي إلى أسوأ عاقبة وشر مقيل.

* * *

فصل

في شبه المحرفين للنصوص باليهود وارثهم التحريف منهم

وبراءة أهل الاثبات مما رموهم به من هذا الشبه

هذا وثم بلية مستورة

فيهم سأبديها لكم ببيان

ورث المحرف من يهود وهم أولو

التحريف والتبديل والكتمان

فأراد ميراث الثلاثة منهم

فعصت عليه غاية العصيان

اذ كان لفظ النص محفوظا

فما التبديل والكتمان في الامكان

٣٠٨

فأراد تبديل المعاني اذ هي

المقصود من تعبير كل لسان

فأتى إليها وهي بارزة من ال

ألفاظ ظاهرة بلا كتمان

فنفى حقائقها وأعطى لفظها

معنى سوى موضوعه الحقاني

فجنى على المعنى جناية جاحد

وجنى على الألفاظ بالعدوان

الشرح : وهناك بلية أخرى خفية قد ابتلى بها هؤلاء المتأولون قد لا يفطن إليها كثير من الناس ، وهي أنهم ورثوا تحريفهم للنصوص عن اليهود واتبعوا سنتهم فيه حذو القذة بالقذة ، فإن اليهود ـ قبحهم الله ـ جمعوا بين جريمة التحريف الذي هو تفسير الألفاظ بغير معانيها وإمالتها عن المقصود منها وبين جناية التبديل الذي هو حذف بعض نصوص الكتاب المنزل ووضع أخرى مكانها مما كتبته أيديهم وزورته أقلامهم ، وبين خيانة الكتمان الذي هو اخفاء ما عندهم من الحق وعدم بيانه للناس مع حاجة الناس إليه ، فأراد هؤلاء المتأولون أن يرثوا عن اليهود هذه العظائم الثلاث. ولكنهم لم يجدوا إلى التبديل والكتمان سبيلا ، إذ كانت ألفاظ النصوص محفوظة لا يمكن لأحد أن ينال منها بتغيير أو تبديل ، ولا بحذف أو زيادة ، كما لا يمكن أن يجحد منها شيئا ، فاكتفى من ذلك بالتحريف وتبديل المعاني التي هي المقصود من الألفاظ ، فعمد إليها وهي بارزة من الألفاظ تكاد تنطق معلنة عن نفسها وتتراءى للعقول من خلال الألفاظ واضحة لا خفاء فيها ، فنفى حقائقها وحول الألفاظ إلى معان أخرى ، يعلم كل من مارس اللغة وعرف مدلولاتها أنها ليست هي المقصود من هذه الألفاظ وبذلك جنى على المعاني والألفاظ جميعا ، فجنى على المعاني بالجحد والانكار ، وجنى على الألفاظ بحملها قسرا على ما لا تحتمله من المعاني عدوانا وظلما ، فبعدا للقوم الظالمين.

* * *

وأتى إلى حزب الهدى أعطاهم

شبه اليهود وذا من البهتان

اذ قال انهم مشبهة وأنتم

مثلهم فمن الذي يلحاني

٣٠٩

في هتك أستار اليهود وشبههم

من فرقة التحريق للقرآن

يا مسلمون بحق ربكم اسمعوا

قولي وعوه وعي ذي عرفان

ثم احكموا من بعد من هذا الذي

أولى بهذا الشبه بالبرهان

أمر اليهود بأن يقولوا حطة

فأبوا وقالوا حنطة لهوان

وكذلك الجهمي قيل له استوى

فأبى وزاد الحرف للنقصان

قال استوى استولى وذا من جهله

لغة وعقلا ما هما سيان

الشرح : والعجيب من أمر هؤلاء المتأولين أنهم يرمون أهل الحق بما هم به أولى وأحق وهو بهم أشبه وألصق من الشبه باليهود حيث يقولون أن اليهود شبهوا حين قالوا أن الله فقير ونحن أغنياء ، وأنه استراح من الخلق يوم السبت الخ وأنتم شبهتم حين قلتم أن الله مستو على عرشه ، وأن له وجها ويدا ، وأنه ينزل ويجيء الخ ، سبحانك هذا بهتان عظيم. اننا حين نثبت لله عزوجل ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صفات لا نعتقد أن هذه الصفات له تشبه ما للمخلوق من ذلك ، بل نثبتها له على ما يليق بعظمته وجلاله فنحن لسنا مشبهين ولا ممثلين ، كما أننا لسنا معطلين ولا جاحدين ، بل شأننا في ذلك إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل كما قال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ثم أننا نحتكم نحن وأنتم إلى كل مسلم يمكن أن يعي قولنا ويعرفه ليحكم اينا أقرب شبها إلى اليهود ، وأولى أن ينسب إليهم.

أن اليهود أمرهم الله عزوجل أن يدخلوا الباب سجدا ، وأن يقولوا حطة من الحط ، يعني أن تحط عنا ذنوبنا وتغفر لنا خطايانا ، فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ، ووضعوا حنطة مكان حطة لهوان نفوسهم واخلادهم إلى هذه الارض وقصر أنظارهم على حطام الحياة ومادة العيش دون اعتبار للمعاني السامية والمبادي الكريمة.

وهكذا أنتم معشر الجهمية ، يقول الله لكم استوى على العرش فتأبون الا أن تزيدوا حرفا على النص ، وذلك من نقصانكم في العلم والفهم ، فتقولون استولى

٣١٠

بدلا من استوى جهلا منكم بمواضع الألفاظ في اللغة التي لم يستعمل فيها لفظ استوى قط بمعنى استولى. ومخالفة منكم لمنطق العقل الذي يحكم بأن كل موجودين ، فلا بد أن يكونا اما متداخلين يعني أحدهما داخل في الآخر ، وأما متباينين كل منهما منفصل عن الآخر ، وما دام الله عزوجل باتفاق منا ومنكم ليس داخلا في العالم ولا حالا فيه فلم يبق إلا أن يكون منفصلا عنه عاليا عليه.

وقول الشيخ : فمن الذي يلحاني استفهام انكاري تعجبي أي لا أحد يلومني ويعنفني على ما قصدت إليه من فضيحة اليهود واخوانهم المحرفين للقرآن.

* * *

عشرون وجها تبطل التأويل باس

تولى فلا تخرج عن القرآن

قد أفردت بمصنف هو عندنا

تصنيف حبر عالم رباني

ولقد ذكرنا أربعين طريقة

قد أبطلت هذا بحسن بيان

هي في الصواعق ان ترد تحقيقها

لا تختفي إلا على العميان

نون اليهود ولام جهمي هما

في وحي رب العرش زائدتان

وكذلك الجهمي عطل وصفه

ويهود قد وصفوه بالنقصان

فهما إذا في نفيهم لصفاته

العليا كما بينته أخوان

الشرح : يعني أن تأويل الجهمية للفظ استوى باستولى باطل من عشرين وجها ، ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره في مصنف خاص. وقد ذكرها المصنف رحمه‌الله في كتابه (الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة) وزاد عليها عشرين وجها أخرى ، فصار المجموع أربعين وجها مع قوة في الحجة وحسن في البيان كما هو دأبه في كل كتبه صغيرها وكبيرها ، فهو بحق كما وصفه أحد الاخوان من أنصار السنة (صاحب القلم السيال والسحر والحلال) جزاه الله وجزى أستاذه شيخ الإسلام عن هذه الأمة خير ما يجزي به العلماء العاملين الذين أناروا الطريق للسالكين ، ومهدوا لمن بعدهم سبل الحق واليقين.

ولا نطيل الكلام في سرد هذه الوجوه ، فليرجع إليها من أراد في كتاب

٣١١

الصواعق المذكور غير أننا نحب أن نشير إلى بعض ما يظهر به فساد هذا التأويل وتتضح به تفاهته أو سخافته وهو أنه يقتضي أن الله لم يكن مستوليا على العرش ولا مالكا له ثم استولى عليه وملكه ، وذلك يقتضي أن العرش كان في حوزة ملك آخر قبل أن يقهره الله وينتزع العرش منه.

ثم ما الحكمة في تخصيص العرش وحده باستيلاء الله عزوجل عليه وهو مالك الملك كله من عرشه إلى فرشه كله في قبضته مقهور بقهر جبروته وعزته. أفلا يستحي هؤلاء من ترديد مثل هذا الهراء وتدريسه للناشئة من طلاب المعاهد اللذين يأخذونه من أفواه شيوخهم عقيدة مسلمة لا يجرءون على مناقشتهم فيها ، وإلا رموا بالكفر والالحاد.

وما أحسن قول من قال (لام الجهمية كنون اليهودية) فكلتاهما زائدة على الوحي حيث جاء آمرا لليهود بأن يقولوا حطة فقالوا حنطة. وجاء مخبرا عن الله بأنه استوى فقال الجهمية : استولى. وكما وصف اليهود ربهم بما لا يليق به من النقائص. من قولهم أنه فقير ويده مغلولة ، وأنه تعب من الخلق فاستراح في يوم السبت الخ. كذلك عطله الجهمية عن صفات كماله ونفوها عنه.

وبذلك اتفق الفريقان على نفي صفاته العليا التي هي كمالات محضة وبان لكل أحد أنهما أخوان متشابهان.

* * *

فصل

في بيان بهتانهم في تشبيه أهل الاثبات بفرعون وقولهم أن مقالة

العلو عنه أخذوها وأنهم أولى بفرعون وهم أشباهه

ومن العجائب قولهم فرعون مذ

هبه العلو وذاك في القرآن

ولذاك قد طلب الصعود إليه

بالصرح الذي قد رام من هامان

هذا رأيناه بكتبهم ومن

أفواههم سمعا إلى الآذان

٣١٢

فاسمع إذا من ذا الذي أولى بفر

عون المعطل جاحد الرحمن

وانظر إلى من قال موسى كاذب

حين ادعى فوقية الرحمن

فمن المصائب أن فرعونيكم

أضحى يكفر صاحب الايمان

ويقول ذاك مبدل للدين سا

ع بالفساد وذا من البهتان

الشرح : ومن عجائب هؤلاء الجهمية كذلك أنهم يرمون أهل الاثبات لصفة العلو وغيرها بأنهم أشباه لفرعون ، فقد حكي عنه القرآن أنه كان يعتقد أن إله موسى في السماء ، ولهذا قال لهامان وزيره : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ* أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) [غافر : ٣٦ ، ٣٧] ويذكرون هذا في كتبهم ويصرحون به في مجالسهم ، ونحن نبين من هو أولى بفرعون المعطل الجاحد لوجود الصانع جل وعلا ، ومن هو أحق أن ينسب إليه نحن أم هم؟ ان فرعون حين أخبره موسى عليه‌السلام بأنه رسول من رب العالمين سأله فرعون سؤال المتظاهر بالجحد والانكار : ما رب العالمين وأين هو؟ فأخبره موسى بأن إلهه الذي أرسله في السماء ، فقال فرعون ما حكاه عنه القرآن : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) [القصص : ٣٨] ففرعون كذب موسى في قوله ان إلهه في السماء ولهذا طلب بناء الصرح ليرقى عليه ويستطلع جلية الخبر.

وهكذا أنتم أيها الجهمية أشياع لفرعون في التعطيل والانكار ، اذا أخبركم أهل الحق بأن الله فوق خلقه مستو على عرشه قلتم حشوية كفار وخشيتم منهم ما خشيه فرعون من موسى حين قال : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) [غافر : ٢٦] فأنتم أشياع فرعون في الكذب والبهتان ترمون به أهل الحق والإيمان كما رمى به هو موسى بن عمران.

* * *

أن المورث ذا لهم فرعون حين

رمى به المولود من عمران

٣١٣

فهو الامام لهم وها فيهم

بمتبوع يقودهم إلى النيران

هو أنكر الوصفين وصف

الفوق والتكليم انكارا على البهتان

اذ قصده إنكار ذات الرب

فالتعطيل مرقاة لذا النكران

وسواه جاء بسلم وبآلة

وأتى بقانون على بنيان

وأتى بذاك مفكرا ومقدرا

ورث الوليد لعابد الأوثان

وأتى إلى التعطيل من أبوابه

لا من ظهور الدار والجدران

الشرح : فهذا البهت الذي بهتم به أهل السنة والجماعة من قولكم حشوية ومجسمة حددوا ربهم وجعلوا له مكانا الخ ، إنما ورثتموه من فرعون إمامكم في الضلال حين رمى به موسى بن عمران كليم الرحمن ، فقال انه ما جاء إلا لتبديل الدين والسعي في الأرض بالفساد فهو إمامكم في الدنيا ، وسيكون كذلك إماما لكم في الآخرة يقودكم إلى النار ، كما قال تعالى : (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ* يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) [هود : ٩٧ ، ٩٨].

وهو أنكر الوصفين جميعا ، وصف الفوق ووصف التكليم ، أما وصف الفوق فيما تقدم من قوله في شأن موسى (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) وأما وصف التكليم فلأنه جحد رسالة موسى وكذب بها ، والرسالة انما مبناها على تكليم الله لمن يرسله فمن جحدها فقد جحد ما تنبني عليه من وصف التكليم ، وكان قصد فرعون من الجحد لهذين الوصفين انكار ذات الرب جل شأنه ، فجعل من هذا التعطيل مرقاة يثب منها إلى جحد الصانع جل وعلا وتعطيل العالم عن صانعه وإلهه ، ولكنكم حين قصدتم إلى هذا التعطيل والانكار أعددتم للأمر عدته واستكملتم لآلته وبنيتم على هندسة ونظام مع تفكير وتقدير ورثتموه عن سلفكم في الجحود والانكار : الوليد بن المغيرة حين قال في القرآن بعد أن فكر وقدر ان هذا الا سحر يؤثر. ودخلتم إلى التعطيل من بابه ولم تتسوروا الجدران ولا أتيتم البيت من ظهره ، لهذا راج باطلكم وجاز تلبيسكم وخداعكم على كثير لا من العامة

٣١٤

فحسب بل ممن ينسبون إلى العلم والدين ، ونالوا لقب الامامة والزعامة بين المسلمين ، والله في خلقه شئون.

* * *

وأتى به في قالب التنزيه

والتعظيم تلبيسا على العميان

وأتى إلى وصف العلو فقال ذا

التجسيم ليس يليق بالرحمن

فاللفظ قد أنشأه من تلقائه

وكساه وصف الواحد المنان

والناس كلهم صبي العقل لم

يبلغ ولو كانوا من الشيخان

إلا أناسا سلموا للوحي هم

أهل البلوغ وأعقل الانسان

فأتى إلى الصبيان فانقادوا له

كالشاء إذ تنقاد للجوبان

فانظر إلى عقل صغير في يدي

شيطان ما يلقى من الشيطان

الشرح : يعني أنكم حين عطلتم الباري عن صفاته سميتم هذا التعطيل تنزيها وتعظيما للرب جل شأنه لكي تلبسوا بذلك على أهل الغفلة والعمي فينقادوا لكم ويدينوا بتعطيلكم وعمدتم إلى وصف العلو الثابت له سبحانه بما لا يحصى من الأدلة النقلية والعقلية ، فقلتم هذا تجسيم يجب تنزيه الله عنه ، وهكذا أنشأتم لفظ التنزيه من عند أنفسكم وكسوتموه مما تشاءون من صفات ، فاقتضى تنزيهكم أن تنفوا عنه الجهة والمكان والحيز والحركة والنزول والصعود والمقدار والصورة والإشارة الحسية الخ ، مما يجعله سبحانه ، وحاشاه أقرب إلى المعدوم منه إلى الموجود ، وكل صفة مما أثبته هو لنفسه أو أثبته له رسوله لا تروق لكم تنفونها بحجة التنزيه. والناس ينقادون لكم في هذا النفي والتعطيل ، لأنهم صبيان العقول وان كانوا كبار الأعمار ، ولكن المتبعين للوحي والواقفين عند النص هم الذين بلغوا رشدهم واستوت أحلامهم فهم لا ينقادون لكم ولا يغترون بجعجعتكم ، وإنما ينقاد لكم الصبيان انقياد الشاء للجوبان ، يعني الراعي ، وما ذا يصنع عقل صغير بين يدي شيطان إلا أن يلعب به كما تلعب بالكرة الصولجان.

* * *

٣١٥

فصل

في بيان تدليسهم وتلبيسهم الحق بالباطل

قالوا إذا قال المجسم ربنا

حقا على العرش استوى بلسان

فسلوه كم للعرش معنى واستوى

أيضا له في الوضع خمس معان

وعلى فكم معنى لها أيضا لدى

عمرو فداك أمام هذا الشأن

بين لنا تلك المعاني والذي

منها أريد بواضح التبيان

فاسمع فذاك معطل هذي الجعا

جع ما الذي فيها من الهذيان

قل للمجعجع ويحك اعقل ذا الذي

قد قلته إن كنت ذا عرفان

العرش عرش الرب جل جلاله

واللام للمعهود في الأذهان

ما فيه إجمال ولا هو موهم

نقل المجاز ولا له وضعان

ومحمد والأنبياء جميعهم

شهدوا به للخالق الرحمن

منهم عرفناه وهم عرفوه من

رب عليه قد استوى ديان

الشرح : مما أوصى به المعطلة النفاة بعضهم بعضا أنهم قالوا : إذا قال لك المجسم ـ يعنون المثبت لعلوه تعالى واستوائه على العرش ـ ربنا على العرش استوى حقا كما جاء ذلك صريحا في كتابه بلسان عربي مبين ، فسله أي معنى من معاني العرش تريد؟ فإن العرش يطلق ويراد به سرير الملك ، ويطلق ويراد به عرش الكروم ، ويطلق ويراد به العريشة ، ويطلق ويراد به عرش بلقيس ملكة سبأ ، ويطلق ويراد به السقف.

وكذلك سله عن معنى استوى فإنه كذلك لفظ محتمل لعدة معان ، يقال استوى بمعنى جلس ، واستوى بمعنى قصد ، واستوى بمعنى بلغ تمامه وكماله ، واستوى بمعنى ساوى. وسله أيضا عن معنى على فانها تأتي للاستعلاء ولغيره ، كما ذكر ذلك أئمة اللغة ، فقل له بين لنا كل هذه المعاني التي تراد من هذه الألفاظ ، وأي هذه المعاني تريد ، فإذا حاول المعطل تشكيكك بمثل هذه الهذيانات ، وأراد أن يسد عليك باب الفهم للنصوص بسلب الألفاظ دلالتها على

٣١٦

معانيها المتبادرة منها ، وادعاء أنه لا يمكن فهم مقصود المتكلم بهذه الألفاظ لاحتمالها لعدة معان ، فقل له : دع عنك هذه الجعاجع والمغالطات ، فكل لفظ من هذه الالفاظ الثلاثة واضح الدلالة على معناه.

فالمراد بالعرش هنا ليس إلا عرش الرب جل شأنه الذي هو فوق السموات وهو المذكور في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) [غافر : ٧] وفي قوله : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ) [غافر : ١٥] وفي قوله (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [المؤمنون : ٨٦] إلى ما لا يحصى من الآيات والأحاديث واللام فيه للعهد الذهني ، وليس في هذا اللفظ بحمد الله اجمال يحتاج معه إلى تفصيل ، ولا هو موهم أنه مستعمل في معنى مجازي ، ولا هو من الالفاظ المشتركة الموضوعة لعدة معان ، وهو العرش الذي شهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجميع الأنبياء قبله بثبوته لربهم ، وقد عرفنا نحن ذلك من أخبارهم كما عرفوه هم بالوحي الذي أنزل عليهم ممن على العرش استوى جل وعلا.

* * *

لم تفهم الأذهان منه سرير

بلقيس ولا بيتا على الأركان

كلا ولا عرشا على بحر ولا

عرشا لجبريل بلا بنيان

كلا ولا العرش الذي ان ثل من

عبد هوى تحت الحضيض الداني

كلا ولا عرش الكروم وهذه

الأعناب في حرث وفي بستان

لكنها فهمت بحمد الله منه عر

ش الرب فوق جميع ذي الاكوان

وعليه رب العالمين قد استوى

حقا كما قد جاء في القرآن

الشرح : يعني أن العرش المذكور في مثل قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] قد جاء إما مطلقا معرفا بلام العهد كما في الآية ، أو مضافا إلى الرب جل شأنه كما في قوله «وكان عرشه على الماء» فلا يمكن أن يفهم الذهن منه غير معنى واحد وهو هذا الجسم المخصوص الذي تنتهي به كرة

٣١٧

العالم ، ولا يعقل أن يفهم منه أنه عرش بلقيس ملكة سبأ ، فإنه مضاف إليها كما يدل عليه قول سليمان لجنوده : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [النمل : ٣٨] وقوله لها حين جاءت : (أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) [النمل : ٤٢] ولا يفهم منه كذلك أنه عرش على بحر ، وهو عرش الشيطان كما ورد في حديث ابن صوريا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأله عما يرى ، فقال (أرى عرشا على الماء) فقال عليه‌السلام ذاك عرش الشيطان ، ولا يفهم منه أيضا أنه العرش الذي استوى عليه جبريل حين رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا على كرسي بين السماء والأرض قد سد الافق ، كما ورد في حديث جابر ، وذلك بعد فترة الوحي وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جاور بحراء شهرا ، فلما خرج سمع صوتا يناديه فرفع رأسه فرآه على صورته الملكية فرعب منه ، ولا يمكن أن يفهم منه أنه عرش ملك من ملوك الدنيا بحيث لو ثل أي سلب عنه هوى أي سقط عن عز ملكه وصار واحدا من الناس ، ولا يفهم منه أنه العرش الذي تقوم عليه الكروم والاعناب ، إلى غير ذلك من المعاني التي لا يمكن أن تخطر ببال أحد يقرأ هذه الآيات ولكنه لا يفهم منه إلا أنه عرش الرب الموجود فوق جميع هذه الموجودات ، ولا يفهم إلا أن الله استوى عليه استواء حقيقيا كما جاء في القرآن.

* * *

وكذا استوى الموصول بالحرف الذي

ظهر المراد به ظهور بيان

لا فيه اجمال ولا هو مفهم

للاشتراك ولا مجاز ثان

تركيبه مع حرف الاستعلاء نص

في العلو بوضع كل لسان

فإذا تركب مع الى فالقصد مع

معنى العلو لوضعه ببيان

وإلى السماء قد استوى فمقيد

بتمام صنعتها مع الاتقان

لكن على العرش استوى هو مطلق

من بعدها قد تم بالاركان

لكنما الجهمي يقصر فهمه

عن ذا فتلك مواهب المنان

فإذا اقتضى واو المعية كان

معناه استوى متقدم والثاني

فإذا أتى من غير حرف كان

معناه الكمال فليس ذا نقصان

٣١٨

لا تلبسوا بالباطل الحق الذي

قد بين الرحمن في الفرقان

الشرح : وكذلك الفعل استوى إذا تعدى بالحرف ، فإن معناه في غاية الظهور فليس فيه اجمال يحتاج معه إلى التفصيل ولا هو من الالفاظ المشتركة التي تحتمل أكثر من معنى ولا هو منقول من حقيقته إلى مجازه ، بل إذا تعدى بعلى الموضوعة للاستعلاء كان نصا في العلو لا يحتمل معنى آخر ، قال تعالى : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [المؤمنون : ٢٨] وقال : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) [الزخرف : ١٣] ولا يمكن أن يقال استوى على كذا من غير أن يفيد ذلك معنى العلو ، ويكون نصا فيه ، وإذا تعدى بإلى أفاد القصد مع العلو وضعا يقال استوى إلى كذا بمعنى قصد إليه مستعليا عليه ، وقوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) [فصلت : ١١] يفيد القصد إلى خلقها مع الاحكام والاتقان للخلق كما قال تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) [الذاريات : ٤٧] أما قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] فهو مطلق لا يفيد إلا علوه تعالى على العرش الذي قام على أركانه بعد السموات ، والذي هو أعلى الموجودات ، ولكن الجهمي المعطل يعجز عن فهم هذه المعاني لجهله بأوضاع اللغة والله هو الذي يهب الفهم من يشاء بمنه وكرمه. أما إذا اقتضى الفعل استوى واو المعية كما في قولنا : استوى الماء والخشبة أفاد أن ما قبل الواو قد ساوى ما بعدها. فإذا أتى من غير حرف واستعمل لازما كما في قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) [القصص : ١٤] أفاد معنى الكمال وتمام القوة. هذه هي استعمالات الفعل استوى في لغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم ، فلا تخلطوا أيها الجهمية الحق الذي بينه الله في كتابه بما تختلقونه من المفتريات والأباطيل.

* * *

وعلا للاستعلاء فهي حقيقة

فيه لدى أرباب هذا الشأن

٣١٩

وكذلك الرحمن جل جلاله

لم يحتمل معنى سوى الرحمن

يا ويحه بعماه لو وجد اسمه الر

حمن محتملا لخمس معان

لقضى بأن اللفظ لا معنى له

إلا التلاوة عندنا بلسان

فلذاك قال أئمة الإسلام في

معناه ما قد ساءكم ببيان

ولقد أحلناكم على كتب لهم

هي عندنا والله بالكيمان

الشرح : وكذلك الحرف (على) الذي تعدى به فعل الاستواء هو نص في إفادة الاستعلاء عند أهل اللغة لا يجوز صرفه عن هذا المعنى الذي هو حقيقة فيه بلا قرينة كلامية توجب ذلك وتدل عليه. وكذلك الاسم الكريم (الرحمن) لا يحتمل معنى سوى الرب الموصوف بالرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء جل شأنه. فيا ويح هذا المعطل الأعمى لو رأى كذلك أن اسمه الرحمن ليس نصا في الدلالة على مسماه وطرد قاعدته الفاسدة في احتمال الألفاظ عليه ، وادعى له هو الآخر أنه محتمل لخمس معان ، كما ادعى ذلك في العرش : إذا لوجب أن يحكم بأن الألفاظ خالية من معانيها ، وأن نصيب القارئ منها هو التلاوة باللسان فقط دون أن يفقه لها معنى. وهذا هو ما يهدف إليه هؤلاء المعطلة أعداء الكتاب والسنة أن يعزلوا نصوصهما عن إفادة الحق واليقين ليرجعوا في ذلك إلى قضايا عقولهم الفاسدة ، وإذا ثبت أن كل لفظة من ألفاظ الآية الكريمة ، أعني قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] هو نص في معناه بحيث لا يجوز صرفه عنه لم يكن حينئذ للاستواء على العرش معنى إلا العلو والارتفاع عليه ، وهذا المعنى هو الذي أطبق عليه أئمة الإسلام ولكن قلوبكم المريضة لم تتسع له لامتلائها من الباطل الذي ورثتموه عن فلاسفة اليونان وغيرهم فساءكم ما قاله أئمة الهدى ، وملأ قلوبكم غيظا عليهم ، ولن تستطيعوا إنكار نسبة هذا القول إليهم ، فقد أحلناكم على كتبهم التي لا يشك في نسبتها إليهم وهي بحمد الله من الكثرة بحيث تشبه الكيمان ، والكيمان جمع أكوام الذي هو جمع كومة ، والكومة هي الجملة من الشيء المتكومة المجتمعة.

* * *

٣٢٠