شرح القصيدة النونيّة - ج ١

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ١

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥
الجزء ١ الجزء ٢

ناراً) [نوح : ٢٥] فدل العطف بالفاء على أن دخولهم النار حصل عقيب اغراقهم وأنه قبل القيامة.

وقد صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «القبر اما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» وأنه مر بانسانين يعذبان في قبورهما ، فقال : «يعذبان وما يعذبان في كبير بلي» الحديث.

وأما ان كانت روحا مؤمنة فإنها تكون في نعيم دائم إلى يوم البعث ، تنعم فيه بالروح بفتح الراء وهو الرحمة والفرح ، والريحان قيل هو الرزق الحسن ، وقيل النبت المعروف الذي واحده ريحانة.

وأما قول المؤلف (وتصير طيرا سارحا الخ) فهو اشارة إلى قوله عليه‌السلام فيما رواه الامام أحمد رحمه‌الله «إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم القيامة» ولكن ليس في الحديث أن روح المؤمن تجني من ثمار الجنة أو تشرب من أنهارها كما ذكر المؤلف وإنما تلك خصوصية الشهداء ، فإن الله عزوجل يجعل أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ، تأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها ، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش. قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران : ١٦٩].

وانما استحق الشهداء هذه الكرامة لأنهم بذلوا حياتهم رخيصة في سبيل الله فعوضهم الله عنها هذه الحياة الكريمة ، وعوضهم عن أجسامهم التي قدموها للضرب والطعان طيورا خضرا تحمل أرواحهم في رحبات الجنان.

* * *

فالروح بعد الموت أكمل حالة

منها بهذي الدار في جثمان

وعذاب أشقاها أشد من الذي

قد عاينت أبصارنا بعيان

والقائلون بأنها عرض أبوا

ذا كله تبا لذي نكران

٤١

الشرح : هذا تفريع على ما ذكره من أحوال الروح بعد الموت ، وأنها اما في عذاب أو نعيم ، والمعنى أن الروح بعد مفارقتها للبدن بالموت تظل حية لا تموت ، بل تصير أكمل حالة منها ، وهي حالة بالبدن في هذه الدار الدنيا. ويكون احساسها بالعذاب اذا كانت شقية أشد مما نراه ونعانيه من أنواع العذاب المادي المحسوس.

أما القائلون بأن الروح عرض قائم بالبدن فقد أنكروا ذلك كله ، إذ ليس عندهم روح تفارق ثم تبقى حية بعد المفارقة ، ولكنها عندهم عرض يفنى بفناء البدن كسائر الاعراض فهلاكا لهؤلاء المنكرين لحياة الروح بعد المفارقة وما يجري عليها من شئون بعد ما نطق بذلك الكتاب الكريم والسنة المطهرة. وإن يهلكون بهذا الانكار إلا أنفسهم وما يشعرون؟

* * *

وإذا أراد الله إخراج الورى

بعد الممات الى المعاد الثاني

ألقى على الأرض التي هم تحتها

والله مقتدر وذو سلطان

مطرا غليظا أبيضا متتابعا

عشرا وعشرا بعدها عشران

فتظل تنبت منه أجسام الورى

ولحومهم كمنابت الريحان

حتى إذا ما الأم حان ولادها

وتمخضت فنفاسها متدان

أوحى لها رب السما فتشققت

فبدا الجنين كأكمل الشبان

وتخلت الأم الولود وأخرجت

أثقالها أنثى ومن ذكران

الشرح : هذا بيان لكيفية البعث بعد الموت على ما وردت به الآثار الصحيحة وحاصل ذلك أن الناس عند ما ينفخ في الصور النفخة الأولى يصعقون وتسوى بهم الأرض ، فإذا أراد الله عزوجل اخراجهم بعد الموت للمعاد ألقى على هذه الأرض التي هم في بطنها لا على أرض جديدة غيرها كما يزعم ذلك من يزعمه مطرا غليظا كمني الرجال يتتابع أربعين يوما فتنبت منه أجسام الناس ولحومهم من عجب الذنب ، فقد ورد أن ابن آدم كله يبلى إلا عجب الذنب ،

٤٢

منه ينبت ومنه يخلق في النشأة الأخرى ، كما ينبت العود المسمى بالريحان ، حتى إذا ما اكتملت الأجسام وتناهى خلقها وحان للأم ولادها وجاءها المخاض ، فنفاسها متدان قريب ، أوحى إليها ربها وأذن لاسرافيل أن ينفخ في الصور النفخة الثانية ، فتنشق الأرض وتلقي ما فيها وتتخلى ويخرج منها الناس ، ذكورهم وإناثهم ، في أكل خلقه.

وقوله (والله مقتدر وذو سلطان) جملة معترضة أريد بها بيان أن الله كان قادرا أن يخرج الناس من قبورهم بدون هذه الأسباب ، ولكن حكمته اقتضت أن تكون النشأتان متشابهتين كما قال تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف : ٢٩] وكما قال : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء : ١٠٤](فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤].

* * *

والله ينشئ خلقه في نشأة

أخرى كما قد قال في القرآن

هذا الذي جاء الكتاب وسنة ال

هادي به فأحرص على الايمان

ما قال إن الله يعدم خلقه

طرا كقول الجاهل الحيران

الشرح : يزعم الفلاسفة المنكرون للبعث والمعاد الجسماني أنه لا بد في البعث من اعادة الأجسام التي كانت في الدنيا بأعيانها ، يعني بجميع صفاتها وأعراضها التي كانت لها في الدنيا. ولما كان ذلك مستحيلا فقد أدى بهم ذلك إلى انكار البعث ، وللرد عليهم نقول : ان الله ينشئ الخلق ويؤلفهم تأليفا جديدا كما قال تعالى : (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) [العنكبوت : ٢٠](وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) [النجم : ٤٧] وليس بلازم في الاعادة ولا في كون الشخص الثاني عين الأول أن يعاد الجسم بجميع أجزائه ، فإن الشخص في الدنيا يكون صغيرا ثم ينمو وينتقل من طور إلى طور ، وهو في كل هذه الأطوار في تجدد دائم واستحالة مستمرة ، فتخرج منه أجزاء وتتجدد له أخرى ، ومع ذلك هو في كل هذه الأطوار هو ، لم يقل أحد أنه شخص آخر ، فكذلك النشأة الأخرى هي

٤٣

بمثابة طور من تلك الأطوار التي تحدث للانسان بحيث لا يشك من يراه أنه هو ذلك الشخص الذي كان في الدنيا.

هذا هو ما دل عليه الكتاب الكريم وسنة الهادي صلوات الله وسلامه عليه ولم يقل الله قط ولا رسوله ان الله يعدم الأشياء كلها ثم يعيدها من عدم كما يقول هذا الجاهل الحيران جهم بن صفوان قبحه الله.

* * *

وقضى بأن الله ليس بفاعل

فعلا يقوم به بلا برهان

بل فعله المفعول خارج ذاته

كالوصف غير الذات في الحسبان

والجبر مذهبه الذي قرت به

عين العصاة وشيعة الشيطان

كانوا على وجل من العصيان ذا

هو فعلهم والذنب للانسان

واللوم لا يعدوه اذ هو فاعل

بإرادة وبقدرة الحيوان

فأراحهم جهم وشيعته من ال

لّوم العنيف وما قضوا بأمان

لكنهم حملوا ذنوبهم على

رب العباد بعزة وأمان

وتبرءوا منها وقالوا إنها

أفعاله ما حيلة الانسان

الشرح : يرى الجهم ويشايعه في ذلك المعتزلة والأشاعرة الذين يقولون بحدوث العالم : ان الله ليس فاعلا بفعل هو وصف له قائم به ، بل فعله هو مفعوله الخارج عن ذاته. أما الجهم والمعتزلة فلأنهم ينفون الصفات فلا وصف عندهم قائم بالذات ، بل كل من فعله وكلامه عندهم مخلوق من جملة المخلوقات. وأما الأشاعرة فيثبتون الأفعال لا على أنها صفة له سبحانه ، بل يجعلونها متعلقات للقدرة القديمة وقوله (بلا برهان) متعلق بقضى ، يعني حكم بذلك بلا حجة له عليه.

وذهب الجهم أيضا إلى القول بأن الانسان مجبور على ما يصدر عنه من أفعال فلا قدرة له ولا اختيار ، فقرت بمذهبه أعين العصاة وأولياء الشيطان الذين كانوا على خوف من المعاصي والذنوب ، لعلمهم بأنها أفعالهم الصادرة عنهم بقدرهم

٤٤

وارادتهم ، حتى أراحهم جهم وشيعته من عودهم بالأئمة على أنفسهم كلما أحدثوا ذنبا ، فأخذوا بعد مقالة جهم يحملونها ربهم جل شأنه ويتبرءون منها ، ويقولون مقالة الجاهل المغرور انها أفعاله لا أفعالنا ، ولا حيلة لنا في دفعها ، اذ لا قدرة لنا ولا اختيار.

* * *

ما كلف الجبار نفسا وسعها

أنى وقد جبرت على العصيان

وكذا على الطاعات أيضا قد غدت

مجبورة فلها اذا جبران

والعبد في التحقيق شبه نعامة

قد كلفت بالحمل والطيران

اذ كان صورتها تدل عليهما

هذا وليس لها بذاك يدان

فلذاك قال بأن طاعات الورى

وكذاك ما فعلوه من عصيان

هي عين فعل الرب لا أفعالهم

فيصح عنهم عند ذا نفيان

نفي لقدرتهم عليها أولا

وصدورها منهم بنفي ثان

الشرح : إذا كان الجهم يرى أن العبد لا قدرة له على الفعل ولا اختيار له فيه ، فهو عنده قد كلف بما لا يطيق ، حيث أنه مجبور على كل من الطاعة والمعصية فإذا كلف بترك المعصية أو بفعل الطاعة فقد كلف بما لا يدخل تحت قدرته ، وهو عند التحقيق أشبه شيء بالنعامة ، يراها الرائي في صورة الجمل فيكلفها حمل الاثقال ويرى لها جناحين فيكلفها الطيران ، وليس لها على هذا أو ذاك قدرة واحتمال ، وإذا لم يكن للعباد يد بشيء من الطاعات أو المعاصي لم تكن هي أفعالهم ، بل عين فعل الرب سبحانه ، لأنه هو الذي خلقها فيهم ، وليس لهم فيها إلا أنهم محل فقط لظهورها ، وعلى هذا فيصح أن ننفي عنهم قدرتهم عليها كما ننفي صدورها منهم بنفي ثان.

* * *

فيقال ما صاموا ولا صلوا ولا

زكوا ولا ذبحوا من القربان

وكذاك ما شربوا وما قتلوا وما

سرقوا ولا فيهم غوي زان

٤٥

وكذاك لم يأتوا اختيارا منهم

بالكفر والاسلام والايمان

إلا على وجه المجاز لأنها

قامت بهم كالطعم والألوان

جبروا على ما شاءه خلاقهم

ما ثم ذو عون وغير معان

الكل مجبور وغير ميسر

كالميت أدرج داخل الأكفان

الشرح : وإذا لم يكن للعباد قدرة على شيء من الطاعات والمعاصي ، ولا هي صادرة عنهم ، فيصح إذا نفيها عنهم نفيا حقيقيا ، فيقال أنه لم يقع منهم صيام ولا صلاة ولا زكاة ولا ذبح قرابين ولا غيرها من أنواع الطاعات. وكذلك يقال أنهم لم يشربوا خمرا ولا قتلوا نفسا ، ولا فيهم من هو غوى زان ، وأنهم لم يأتوا عن اختيار منهم بشيء من الكفر والايمان والاسلام ، بل هم في كل ذلك مجبورون على ما شاءه خلاقهم سبحانه ، فليس فيهم من يعينه الله وييسره ومن لا يعينه ، بل الكل سواء في الجبر والقهر ونفي الاختيار ، كميت أدرج في كفنه ، ولا تنسب إليهم الأفعال إلا على وجه المجاز كما تنسب الأفعال الطبيعية إلى مصادرها ، مثل قولنا جرى النهر وهبت الريح وطلعت الشمس.

* * *

وكذاك أفعال المهيمين لم تقم

أيضا به خوفا من الحدثان

فإذا جمعت مقالتيه أنتجا

كذبا وزورا واضح البهتان

إذ ليست الأفعال فعل إلهنا

والرب ليس بفاعل العصيان

فإذا انتفت صفة الإله وفعله

وكلامه وفعائل الإنسان

فهناك لا خلق ولا أمر ولا

وحي ولا تكليف عبد فان

الشرح : يعني أن الجهم كما ينفي وقوع الفعل من العبد ، كذلك ينفي قيام الفعل بالرب سبحانه خوفا من قيام الحوادث بذاته ، وذلك يستلزم حدوثه في زعمه ومن العجيب أن تلك القضية الكاذبة التي نادى بها الجهم والتي تقول ان ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث قد تبعه عليها معظم المتكلمين من المعتزلة والاشاعرة واتخذوها ذريعة لنفي قيام الأفعال الاختيارية بذاته سبحانه ، فهو

٤٦

عندهم لا يتكلم متى شاء ، ولا يحب ولا يرضى ، ولا يغضب ولا يسخط ، ولا يجيء يوم القيامة ، ولا ينزل كل ليلة كما وردت الأخبار الصحيحة بذلك.

والمقصود أن الجهم إذا كان ينفي صدور الفعل من العبد ، وكان الفعل ليس قائما بالرب ، فإذا جمع القولان كل منهما إلى الآخر أنتجا قضية من أكذب الكذب ، فإن السلب لا ينتج إلا سلبا ، فإذا نفى صفات الرب وفعله وكلامه ، ونفى مع ذلك فعل العبد ، أنتج ذلك أن لا خلق ، ولا أمر ، ولا وحي ، ولا تكليف عبد فان.

* * *

وقضى على أسمائه بحدوثها

وبخلقها من جملة الأكوان

فانظر إلى تعطيله الأوصاف وال

أفعال والأسماء للرحمن

ما ذا الذي في ضمن ذا التعطيل من

نفي ومن جحد ومن كفران

لكنه أبدى المقالة هكذا

في قالب التنزيه للرحمن

وأتى إلى الكفر العظيم فصاغه

عجلا ليفتن أمة الثيران

وكساه أنواع الجواهر والحلى

من لؤلؤ صاف ومن عقيان

فرآه ثيران الورى فأصابهم

كمصاب إخوتهم قديم زمان

عجلان قد فتنا العباد بصوته

إحداهما وبحرفه ذا الثاني

الشرح : كما نفى الجهم صفات الرب عزوجل وأفعاله ، فهو كذلك ينفي أسماءه الحسنى التي سمى بها نفسه والتي سماه بها رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويرى أنها أسماء لبعض مبتدعاته ، وأنها حادثه ، وإنما تطلق عليه سبحانه على سبيل المجاز. ومن العجب أن هذا الجهم مع غلوه في النفي والتعطيل ، ومع ما يتضمنه هذا التعطيل من الكفر والانكار والجحود يصوغ ذلك في عبارات يوهم بها الأغرار أنه إنما يقصد تنزيه الرب عما لا يليق به من المشابهة لخلقه ، ويصوغ من ذلك الكفر الشنيع عجلا ليفتن به أمة الجهل والضلال ، لا سيما وقد كساه من حلل التمويه وزخارف التحريف ما بهر أبصارهم ، ففعلوا به حين رأوه ما فعله إخوة لهم من

٤٧

قبل بالعجل الذي صاغه لهم السامري ، فكان هناك عجلان فتن بهما الناس ، عجل فتن بصوته وخواره ، وعجل فتن بتحريفه وتمويهه ، وهو العجل الذي صاغه الجهم لثيران هذه الأمة وأبقارها.

* * *

والناس أكثرهم فأهل ظواهر

تبدو لهم ليسوا بأهل معان

فهم القشور وبالقشور قوامهم

واللب حظ خلاصة الانسان

ولذا تقسمت الطوائف قوله

وتوارثوه إرث ذي السهمان

لم ينج من أقواله طرا سوى

أهل الحديث وشيعة القرآن

فتبرءوا منها براءة حيدر

وبراءة المولود من عثمان

من كل شيعي خبيث وصفه

وصف اليهود محللي الحيتان

الشرح : جازت حيلة الجهم وعظمت فتنته وانخدع بها كثير من الناس ، لأن الناس معظمهم أهل ظواهر ، يغرهم بريقها ، ويخدعهم عما وراءها من كفر وباطل وسم قاتل وليسوا بأهل حقائق ومعان لأنها تحتاج في إدراكها إلى سلامة فطرة ، وإلى ذكاء وفطنة ، وهؤلاء أهل بله وغفلة فهم أشبه شيء بالقشرة الظاهرة التي تستر الثمرة وتحميها ، لذلك لا يدركون من الأشياء إلا قشورها ، وأما ادراك اللب فهو حظ المصطفين من عباد الله ذوي الألباب السليمة والأفكار المستقيمة ومن أجل هذا راج مذهب الجهم وتقسمت أقواله طوائف أهل الكلام ، فمن آخذ بقوله في النفي والتعطيل ، ومن قائل برأيه في الجبر والتسيير ، ومن ذهب مذهبه في نفي العلم بالمتجددات وخلق القرآن ومن متأثر به في غير هذا وذاك من ترهاته وأباطيله التي لم ينج من أحابيلها إلا أهل الحديث والقرآن المعتصمين بعروتهما الوثقى ، فتبرءوا من مقالة الجهم براءة حيدر ، وهو لقب علي رضي الله عنه ، وبراءة المولود من عثمان من أهل التشيع الخبثاء ، الذين أشبهوا في وصفهم اليهود حرم الله عليهم الاصطياد في يوم السبت ، فتحايلوا على ذلك وخرجوا

٤٨

عن طاعة الله. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه‌الله في كتابه منهاج السنة وجوه شبه كثيرة بين الشيعة واليهود ، قبح الله الجميع وأذلهم وأخزاهم.

* * *

فصل

يا أيها الرجل المريد نجاته

اسمع مقالة ناصح معوان

كن في أمورك كلها متمسكا

بالوحي لا بزخارف الهذيان

وانصر كتاب الله والسنن التي

جاءت عن المبعوث بالفرقان

واضرب بسيف الوحي كل معطل

ضرب المجاهد فوق كل بنان

واحمل بعزم الصدق حملة مخلص

متجرد لله غير جبان

واثبت بصبرك تحت ألوية الهدى

فإذا أصبت ففي رضا الرحمن

الشرح : بعد أن فرغ المؤلف رحمه‌الله من ذكر مقالات الجهم الفاسدة ، وما أغرق فيه من الضلال بسبب اعراضه عن النصوص وابعاده في التأويل ، تقدم بهذه النصائح الغالية لمن ينشد لنفسه النجاة من عذاب الله الذي توعد به كل مارق ضال. فوصاه بأن يتمسك في أمور دينه كلها بالوحي المبين ، معرضا عن تمويه المبطلين ، وأن يجتهد في نصر كتاب الله والسنن المأثورة عمن بعثه الله بالفرقان ، صلوات الله وسلامه عليه وآله ، وأن يتخذ من نصوص الوحيين سيفا يضرب به أهل التعطيل والبهتان ، ضرب المجاهد لأعدائه فوق كل بنان ، وأن يكون صادق العزم في حملته ، مخلصا لله عزوجل غير هياب ولا وجل وأن يثبت تحت راية الهدى والإيمان ، غير فار ولا منهزم ، فإن صابه شيء ففي رضا الرحمن وهو غاية يرخص في سبيلها كل بذل وتهون كل تضحية.

* * *

واجعل كتاب الله والسنن التي

ثبتت سلاحك ثم صح بجنان

من ذا يبارز فليقدم نفسه

أو من يسابق يبد في الميدان

٤٩

واصدع بما قال الرسول ولا تخف

من قلة الانصار والأعوان

فالله ناصر دينه وكتابه

والله كاف عبده بأمان

لا تخش من كيد العدو ومكرهم

فقتالهم بالكذب والبهتان

فجنود أتباع الرسول ملائك

وجنودهم فعساكر الشيطان

شتان بين العسكرين فمن يكن

متحيرا فلينظر الفئتان

الشرح : وأوصاه كذلك أن يجعل كتاب الله والسنن الصحيحة الثابتة سلاحه وعدته في النزال ، فإذا ما لبس تلك الشكه واستكمل الأهبة فليصح هل من مبارز هل من مناجز ، فإن معه أقوى الأسلحة وأمضاها ، فلا يخشى أسلحة أهل الباطل فإنها مفلولة مثلومة ، وأن يصدع بما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مستوحش من قلة الأنصار وندرة الأعوان ، فإن الله ناصر دينه وكتابه وهو حسبه وكافيه وأن لا يخشى بأس الأعداء ومكرهم ، فإنهم يقاتلون بأسلحة الكذب والبهتان وهو يقاتل بسلاح التوحيد والايمان ، وشتان بين السلاحين ، كما أنه يحاربهم بجند من الملائكة ، وأما هم فجنودهم عساكر الشيطان ، فما أبعد الفرق بين العسكرين ، وما أبين التمايز بين الفئتين : (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) [آل عمران : ١٣].

* * *

وأثبت وقاتل تحت رايات الهدى

واصبر فنصر الله ربك دان

واذكر مقاتلهم لفرسان الهدى

لله در مقاتل الفرسان

وادرأ بلفظ النص في نحر العدا

وارجمهم بثواقب الشهبان

لا تخش كثرتهم فهم همج الورى

وذبابه أتخاف من ذبان

وأشغلهم عند الجدال ببعضهم

بعضا فذاك الحزم للفرسان

وإذا هم حملوا عليك فلا تكن

فزعا لحملتهم ولا بجبان

وأثبت ولا تحمل بلا جند فما

هذا بمحمود لدى الشجعان

الشرح : يكرر المؤلف رحمه‌الله الوصية لمن يريد النجاة بأن يثبت تحت راية

٥٠

الهدى معتصما بحبل الله عزوجل صابرا محتسبا موقنا بأن نصر الله قريب ، وأن يدل فرسان الهدى وجند الحق على مقاتل هؤلاء الأعداء أي المواضع التي يقتلون منها ، وأن يدفع في نحورهم بألفاظ النصوص الثابتة وأن يرميهم بشهبها الثاقبة وأن لا يخشى كثرة عددهم ولا شدة صخبهم وضجيجهم فإنهم همج رعاع لا يثبتون عند لقاء بل هم أهون من هذا الذبان الذي لا يقدر على شيء رغم ما له من طنين.

على أن هؤلاء الأعداء وان كانوا البا واحدا على أهل الحق ، فإنهم متنازعون فيما بينهم ، فالحزم يقتضي بأن نصرفهم عن مناوشتنا بأن نشغل بعضهم ببعض ، فنستفيد من ذلك معرفة بفساد مقالتهم جميعا ، وبالمطاعن التي يوجهها كل منهم إلى الآخرين ، أما إذا تصالحوا على حربنا وحملوا علينا ، فالواجب أن لا نحزن لحملاتهم وأن لا نجبن عن لقائهم ، وأن نحشد جنودنا لمقاتلتهم ، فإن الحرب بلا جند وأعوان ليست مما يحمده الأبطال والشجعان.

* * *

فإذا رأيت عصابة الإسلام قد

وافت عساكرها مع السلطان

فهناك فاخترق الصفوف ولا تكن

بالعاجز الواني ولا الفزعان

وتعر من ثوبين من يلبسهما

يلقى الردى بمذمة وهوان

ثوب من الجهل المركب فوقه

ثوب التعصب بئست الثوبان

وتحل بالانصاف أفخر حلة

زينت بها الأعطاف والكتفان

واجعل شعارك خشية الرحمن مع

نصح الرسول فحبذا الأمران

وتمسكن بحبله وبوحيه

وتوكلن حقيقة التكلان

الشرح : بعد أن نهى صاحب الحق أن يحارب وحده بلا جند وأعوان ، وأن ذلك من التهور الذي لا يليق بأهل الإيمان أمره إذا توافدت عصابة الحق ووافت عساكرها مع السلطان أن لا يكون بخائر ولا جبان ، بل عليه أن يقتحم الصفوف ويخوض غمار الردى في غير عجز ولا ونى ولا فزع من العدا. ثم أمره أن يتجرد

٥١

من ثوبين طالما أوردا من لبسهما ورد الردى وسقياه كأس المذلة والهوان ، وهذان الثوبان هما ثوب الجهل المركب وفوقه ثوب التعصب ما اجتمع هذان الثوبان على أحد إلا أدخلاه في لجج الباطل ومتاهات الضلال وزينا له سوء عمله وقبح اعتقاده فرآه حسنا والمراد بالجهل المركب أن يعتقد الانسان خلاف الحق مع اعتقاده أنه على الحق فهو جاهل بالحق ولا يدري أنه جاهل به. وهذا أشنع من الجهل البسيط الذي هو عدم العلم بالحق بمعنى خلو الذهن عنه. وما أحسن قول الشاعر :

قال حمار الحكيم تومأ

لو أنصف الدهر كنت أركب

فإنني جاهل بسيط

وصاحبي جاهل مركب

ثم أمره بعد ذلك أن يتحلى بحلية الانصاف فإنها أبهى حلة تزين بها الاعطاف والكتفان والمراد أن ينصف خصومه من نفسه فلا يجحد ما عندهم من الحق ولا ما تتسم به بعض حججهم من وجاهة ، بل يجب أن يذكر ما لهم وما عليهم في غير غمط ولا انكار. وأن يجعل شعاره في محاربته لهؤلاء الخصوم خشية الله عزوجل لانها تحجزه عن الاعتداء والطغيان ونصح الرسول له بترك المراء والجدل فإنه صمام الامام وأن يعتصم بحبل الله المتين ووحيه المبين وأن يتوكل عليه حقيقة التوكل وهو أن يفوض إليه أمره ، ويستعين به على أعدائه بعد أن يكون قد بذل غاية وسعه في تهيئة أسباب الغلب والنجاح.

* * *

فالحق وصف الرب وهو صراطه ال

هادي إليه لصاحب الايمان

وهو الصراط عليه رب العرش أي

ضا وذا قد جاء في القرآن

والحق منصور وممتحن فلا

تعجب فهذي سنة الرحمن

وبذاك يظهر حزبه من حزبه

ولأجل ذاك الناس طائفتان

ولأجل ذاك الحرب بين الرسل وال

كفار مذ قام الورى سجلان

لكنما العقبي لأهل الحق أن

فأتت هنا كانت لدى الديان

٥٢

الشرح : لما دعاه إلى الاستمساك بالحق والثبات عليه والقتال دونه أراد أن يظهر شأن ذلك الحق ، وأنه جدير بكل تضحية تبذل في سبيله ، فذكر أن للحق عدة معان : منها أنه وصف للرب جل شأنه كما قال تعالى : (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور : ٢٥] ومنها أنه صراط الله الذي يهدي إليه من يشاء من عباده من أهل الإيمان والهدى كما قال تعالى : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) [يونس : ٣٥] وكما قال تعالى : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢١٣].

ومنها أن الحق هو الصراط الذي يخبر الله عن نفسه أنه عليه ، كما قال تعالى : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود : ٥٦] يعني في قوله تعالى وفعله ، فقوله صدق ورشد ونصح وهدى. وفعله حكمة وعدل ورحمة ومصلحة.

ثم ذكر من شأن الحق أيضا أنه منصور وأن العاقبة له ولكنه ممتحن ومبتلي بمناوأة الباطل وتشويشه ، وأن سنة الله قد جرت بذلك حتى يتميز حزب الله من حزب الشيطان ، وحتى تظل معركة الحق والباطل سجالا مستمرة بين رسل الله وبين أعدائهم من الكفار ثم تكون العاقبة للمتقين كما قال تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) [طه : ١٣٢] ، وكما قال تعالى على لسان موسى عليه‌السلام : (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨] وهذه العاقبة ان فاتت أهل الحق في الدنيا فهي مدخرة لهم عند الله عزوجل يوافيهم بها يوم الدين وينتصف لهم من البغاة المعتدين.

* * *

واجعل لقلبك هجرتين ولا تنم

فهما على كل امرئ فرضان

فالهجرة الأولى إلى الرحمن بال

اخلاص في سر وفي اعلان

فالقصد وجه الله بالأقوال وال

أعمال والطاعات والشكران

٥٣

فبذاك ينجو العبد من أشراكه

ويصير حقا عابد الرحمن

والهجرة الأخرى الى المبعوث بال

حق المبين وواضح البرهان

فيدور مع قول الرسول وفعله

نفيا وإثباتا بلا روغان

الشرح : يجب على طالب النجاة الناصح لنفسه أن يقوم بهاتين الهجرتين العظيمتين في قوة وعزم بلا كسل ولا فتور ، فإنه لا صلاح للعبد ولا نجاة إلا بهما ، فالقيام بهما واجب حتم على كل انسان.

أما الهجرة الأولى فهجرته إلى الله عزوجل باخلاص العبادة له في السر والعلانية ، وأن لا يقصد بكل ما يصدر عنه من قول وفعل وطاعة وشكر إلا وجهه سبحانه ، حتى يسلم من الوقوع في شرك الاشراك ، وتقع عبادته موقعها من الصحة والقبول.

وأما الهجرة الأخرى فهجرته إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه وآله بحسن الاقتداء والاتباع وعدم المخالفة عن أمره والخروج على حكمه ، فيدور مع قوله وفعله في النفي والاثبات ، فلا يثبت ما نفاه الرسول ، ولا ينفي ما أثبته ميلا مع الهوى واعتسافا في التأويل ومتابعة للشيطان.

* * *

ويحتكم الوحي المبين على الذي

قال الشيوخ فعنده حكمان

لا يحكمان بباطل أبدا وكل

العدل قد جاءت به الحكمان

وهما كتاب الله أعدل حاكم

فيه الشفا وهداية الحيران

والحاكم الثاني كلام رسوله

ما ثم غيرهما لذي ايمان

فإذا دعوك لغير حكمهما فلا

سمعا لداعي الكفر والعصيان

قل لا كرامة لا ولا نعمى ولا

طوعا لمن يدعو إلى طغيان

وإذا دعيت إلى الرسول فقل لهم

سمعا وطوعا لست ذا عصيان

الشرح : يشير المؤلف بهذه الأبيات الى أصل عظيم ضل عنه أكثر الناس فوقع

٥٤

بينهم الاختلاف والتنازع ، وفاتهم من الحق بقدر اهمالهم له ، ذلك هو تحكيم الوحي المبين في كل مسائل الدين ، أصوله وفروعه وايثاره على تقليد المشايخ والآباء في أقوالهم بلا بينة ، فهناك حكمان اثنان لا يحكمان الا بكل ما هو حق وعدل ، ولا يعقل أن يصدر منهما حكم بخلاف ذلك ، فأولهما كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والذي من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، وفيه الشفاء من جميع أمراض القلوب ، وهدى كل ضال حيران.

والثاني هو كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أمره الله أن يحكم بين الناس بما أنزله إليه ، وأن يبلغهم البلاغ المبين ، وأن يبين لهم ما نزل إليهم ، قال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : ٦٥] فإذا دعي الانسان لغير حكمهما فيجب أن يرفض بكل اباء ، وأن لا يجيب من يدعوه إلى ذلك قائلا له بملء فمه لا ، ولا كرامة ولا نعمى ولا طاعة لمن يدعو الى الكفر والطغيان. وأما اذا دعي الى الله ورسوله فليقل على السمع والطاعة في غير إباء ولا استكبار. قال تعالى : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور : ٥١].

* * *

وإذا تكاثرت الخصوم وصيحوا

فأثبت فصيحتهم كمثل دخان

يرقى إلى الأوج الرفيع وبعده

يهوي الى قعر الحضيض الداني

هذا وإن قتال حزب الله بال

أعمال لا بكتائب الشجعان

والله ما فتحوا البلاد بكثرة

أنى وأعداهم بلا حسبان

وكذاك ما فتحوا القلوب بهذه ال

آراء بل بالعلم والايمان

الشرح : يجب على صاحب الحق المستمسك بأهداب الوحي أن لا يعبأ بكثرة الخصوم ولا يفزعه صياحهم وضجيجهم ، فإن كيد الباطل ضعيف مآله إلى

٥٥

التلاشي والزوال السريع ، كمثل دخان تصاعد إلى طبقات الجو العليا ، ثم أخذ بعد ذلك في الهبوط إلى الحضيض.

وأما أهل الحق فإنهم لا يقاتلون أعداءهم بكثرة عددهم ، ولكن بجليل أعمالهم وقويم أخلاقهم ، ولو كانت المسألة مسألة عدد لما استطاعوا أن يفتحوا هذه الممالك العتيدة ، ويواجهوا هذه الجيوش الجرارة التي كانت تفوقهم عشرات بل مئات المرات. وكذلك ما فتحوا قلوب الناس للهدى وحببوا إليها الإسلام بمثل هذه الآراء المبتدعة التي يتبجح بها المتفلسفة وعلماء الكلام ، وإنما كانت تقوم دعوتهم على العلم والإيمان مما جمع حولهم القلوب وحملها على الطاعة والاذعان.

* * *

وشجاعة الفرسان نفس الزهد في

نفس وذا محذور كل جبان

وشجاعة الحكام والعلماء زه

د في الثنا من كل ذي بطلان

فإذا هما اجتمعا لقلب صادق

شدت ركائبه الى الرحمن

واقصد إلى الأقران لا أطرافها

فالعز تحت مقاتل الأقران

واسمع نصيحة من له خبر بما

عند الورى من كثرة الجولان

ما عندهم والله خير غير ما

أخذوه عمن جاء بالقرآن

والكل بعد فبدعة أو فرية

أو بحث تشكيك ورأي فلان

الشرح : يقسم المؤلف الشجاعة إلى شجاعة مادية يتصف بها الفرسان في ميدان القتال ، ويعرفها بأنها الزهد في الحياة واسترخاص النفوس في حومة الوغى ، وهذا ما لا يطيقه الجبان ويتحاماه ، وإلى شجاعة معنوية ويتصف بها العلماء والحكام الذين يقولون قولة الحق ولا يخشون فيها أحدا ويعرفها بأنها الزهد في المديح والثناء الذي يزجيه أهل الباطل لمن يجاريهم على باطلهم ولا يواجههم بالحق خوفا من هياجهم عليه وذمهم له ، ولا شك أن الشجاعة في الحق أفضل أنواع الجهاد كما قال عليه‌السلام «أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان جائر» فإذا اجتمعت هاتان الشجاعتان لقلب صادق العزم بريء من

٥٦

الهوى والنفاق كانا عونا له على السير إلى الله عزوجل والقرب منه ـ ولا ينبغي لمن توفرت له هذه الشجاعة أن يقصد من دونه من أطراف القوم وأوشابهم بالقتال ، بل يقصد إلى الأقران من خصومه فإن العز تحت مقاتلهم ، ثم عليه أن يسمع لنصيحة خبير مجرب ، يعني نفسه رحمه‌الله عنده علم بكل ما عند الورى من مذاهب وآراء ، وهو يقسم بالله أنه ليس عندهم أفضل ولا أنفع مما أخذوه عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما وراءه مما يقول الناس فهو اما بدعة محدثة لا أصل لها في دين الله ، وإما فرية مختلقة افتراها أحد الكذابين ، وأما بحث يقصد منه اثارة الشكوك والشبهات حول العقائد الصحيحة المسلمة ، وإما رأي مأثور عمن ليس قوله حجة ولا له عليه دليل.

* * *

فاصدع بأمر الله لا تخش الورى

في الله واخشاه تفز بأمان

واهجر ولو كل الورى في ذاته

لا في هواك ونخوة الشيطان

واصبر بغير تسخط وشكاية

وأصفح بغير عتاب من هو جان

واهجرهم الهجر الجميل بلا أذى

أن لم يكن بد من الهجران

وانظر إلى الأقدار جارية بما

قد شاء من غي ومن إيمان

الشرح : الصدع بالأمر معناه الجهر والاعلان ، كما قال تعالى لنبيه عليه‌السلام : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [الحجر : ٩٤] والمعنى فاجهر بكلمة الحق ولا تكتمها خشية الناس ، فإن الله أحق أن تخشاه وفي خشيته الفوز بكل طمأنينة وأمان ، ولو اقتضاك الجهر بكلمة الحق أن تعادي الناس جميعا وتهجرهم في ذات الله عزوجل لا في سبيل هوى النفس ونفخة الشيطان ، فلا يثقلن عليك ذلك ، وتلقه بالصبر الجميل في غير ضجر ولا شكوى ، واصفح الصفح الجميل دون عتب على من جنى عليك وآذاك ، وإذا اضطررت إلى هجر الناس واجتنابهم ، فليكن هجرك جميلا غير مصحوب بأذى ، وليكن نظرك إلى

٥٧

مجاري أقدار الله عزوجل وما تعلقت به مشيئته من اختلاف الناس في غي وإيمان.

* * *

واجعل لقلبك مقلتين كلاهما

بالحق في ذا الخلق ناظرتان

فانظر بعين الحكم وارحمهم بها

إذ لا ترد مشيئة الديان

وانظر بعين الأمر واحملهم على

أحكامه فهما اذا نظران

واجعل لوجهك مقلتين كلاهما

من خشية الرحمن باكيتان

لو شاء ربك كنت أيضا مثلهم

فالقلب بين أصابع الرحمن

الشرح : إذا كان الله عزوجل قد أجرى مقاديره على العباد وحكم فيهم بما شاء من كفر وإيمان ، وهو مع ذلك قد أمرهم جميعا بالإيمان والطاعة ، فيجب أن ينظر الانسان إلى الخلق تبعا لذلك بنظرين مختلفين ، نظر بعين الحكم النافذ والقدر السابق ، فيرجمهم ويرثي لهم لعلمه أن حكم الله وقدره لا راد له ولا دافع ، ونظر بعين الأمر الشامل لجميع المكلفين ، فيجاهدهم في ذلك ويغلط عليهم حملا لهم على أمر الله عزوجل وحكمه الديني ، فهذان نظران مختلفان ، ولا يلزم من ذلك الاختلاف التناقض ، فإن جهة كل منهما مخالفة للآخر ، وإنما يكون التناقض عند الاتحاد. ويجب على العبد كذلك عند نظره إلى اختلاف الناس في الهدي والضلال أن يستفرغ الدمع من عينيه باكيا من خشية الله عزوجل ، شاكرا له نعمة الهداية والتوفيق ، إذ لو شاء الله لكان هو أيضا مثلهم ، فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عزوجل يقلبها كيف شاء ولهذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر أن يقول في دعائه «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك».

* * *

واحذر كمائن نفسك اللاتي متى

خرجت عليك كسرت كسر مهان

واذا انتصرت لها فأنت كمن بغى

طفي الدخان بموقد النيران

٥٨

والله أخبر وهو أصدق قائل

أن سوف ينصر عبده بأمان

من يعمل السوأى سيجزى مثلها

أو يعمل الحسنى يفز بجنان

هذي وصية ناصح ولنفسه

وصي وبعد سائر الاخوان

الشرح : الكمائن جمع كمينة ، والمراد بكمائن النفس غرائزها السيئة وشهواتها الدنيا يوصي المؤلف بأن يحذرها الانسان وينهض دائما لتأديبها كلما تمردت وخرجت عليه ، وإلا هزمته هزيمة منكرة يصبح بعدها مهانا ذليلا. كما يجب أن لا ينتصر لها يبغي شفاءها واطفاء ثورتها ، فإن ذلك يزيدها حدة واشتعالا ويكون حينئذ كمن يريد اطفاء الدخان بموقد النيران ، بل يحسن أن يصبر ويغفر والله عزوجل قد ضمن له النصر ، واخبر بذلك في كتابه حيث يقول : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) [الحج : ٣٨] ويقول في آية أخرى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر : ٥١] كما أخبر سبحانه أن جزاء السيئة مثلها ، وأن جزاء الحسنى مغفرة من الله ورضوان.

وبعد : فهذه وصية المؤلف رحمه‌الله يوصي بها نفسه أولا ثم سائر اخوانه من طالبي الهدى ، أهل الصدق والتوحيد والايمان.

* * *

فصل

فاجلس إذا في مجلس الحكمين للر

حمن لا للنفس والشيطان

الأول النقل الصحيح وبعده ال

عقل الصريح وفطرة الرحمن

واحكم إذا في رفقة قد سافروا

يبغون فاطر هذه الأكوان

فترافقوا في سيرهم وتفارقوا

عند افتراق الطرق بالحيران

فأتى فريق ثم قال وجدته

هذا الوجود بعينه وعيان

ما ثم موجود سواه وانما

غلط اللسان فقال موجودان

الشرح : إذا جعل طالب النجاة من أهل الحق هذه الوصية شعاره ووقف

٥٩

عند النصوص يحكمها في كل مسألة من مسائل الدين ، فقد أصبح بذلك أهلا لأن يتصدى للحكومة بين المتنازعين ، فليجلس إذا في مجلس الحكمين وليكن في حكمه طالبا وجه الحق لا يصدر في حكمه عن هو نفس ، ولا إيحاء شيطان ، والحكمان هما النقل الصحيح أولا من الكتاب والسنة ثم بعده العقل الصريح. الخالي من شوائب الجهل والوهم وفطرة الله التي فطر الناس عليها ، والتي لم تفسد بالتقليد والجمود ، ثم ليحكم بعد ذلك في جماعة من الرفقاء قد سافروا يقصدون الوصول إلى مبدع هذه الأكوان جل شأنه.

والسفر هنا كناية عن سفر الفكر والطلب بالنظر. فبدءوا السفر من نقطة واحدة وترافقوا في سيرهم ولكنهم لم يلبثوا أن افترقوا وذهبوا في ربهم مذاهب شتى. فذهب فريق وهم أصحاب وحدة الوجود بزعامة ابن عربي الزنديق أن الله هو هذا الوجود بعينه وعيانه ، وأنه ليس هناك إلا موجود واحد وإنما يغلط اللسان فيقول موجودان.

* * *

فهو السماء بعينها ونجومها

وكذلك الأفلاك والقمران

وهو الغمام بعينه والثلج وال

أمطار مع برد ومع حسبان

وهو الهواء بعينه والماء وال

ترب الثقيل ونفس ذي النيران

هذي بسائطه ومنه تركبت

هذي المظاهر ما هنا شيئان

وهو الفقير لها لأجل ظهوره

فيها كفقر الروح للأبدان

وهي التي افتقرت إليه لأنه

هو ذاتها ووجودها الحقاني

الشرح : هذا تفريع على ذلك المذهب الفاسد القائل بأن الحق هو عين الخلق وأنه ما ثم إلا وجود واحد ، وأن هذه الكثرة التي نراها إنما هي مظاهر له فقط وأثواب يلبسها ويخلعها. فهو السماء بما فيها من شمس وقمر ونجوم وأفلاك ، وهو هذا السحاب الذي نراه مسخر بين السماء والأرض بما فيه من ثلج وبرد وأمطار وهو الهواء والماء والتراب والنار ، التي هي البسائط الأربعة في زعم

٦٠