شرح القصيدة النونيّة - ج ١

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ١

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥
الجزء ١ الجزء ٢

ذاك الذي هو صاحب الترغيب

والترهيب ممدوح بكل لسان

وانظر إلى ما قاله في السنة

الكبرى سليمان هو الطبراني

وانظر إلى ما قاله شيخ الهدى

يدعى بطلمنكيهم ذو شان

وانظر إلى قول الطحاوي الرضي

وأجره من تحريف ذي بهتان

وكذلك القاضي أبو بكر هو

ابن الباقلاني قائد الفرسان

قد قال في تمهيده ورسائل

والشرح ما فيه جلي بيان

في بعضها حقا على العرش استوى

لكنه استولى على الأكوان

من أوجه شتى وذا في كتبه

باد لمن كانت له عينان

أول من ذكر هنا هو عثمان بن سعيد الدارمي ، وكتبه كان لها أثر فعال في زلزلة بناء النفاة عند ظهورها في عالم المطبوعات ، والبخاري صاحب الصحيح ، وكم في تراجم أبوابه من غصة للنفاة ، واللالكاني هو الإمام أبو القاسم الطبري أحد أئمة أصحاب الشافعي رحمه‌الله وله كتاب في السنة ، وهو من أجل الكتب.

والتيمي هو الإمام إسماعيل بن محمد بن الفضل ، كان إماما للشافعية ، والطلمنكي هو أبو عمر وله كتاب في الأصول ، والطحاوي هو أبو جعفر إمام الحنفية في وقته في الحديث والفقه ومعرفة أقوال السلف وله كتاب نفيس (العقيدة الطحاوية) ولها شروح عدة.

والباقلاني هو القاضي أبو بكر الأشعري له كتاب التمهيد.

* * *

وانظر إلى قول ابن كلاب وما

يقضي به لمعطل الرحمن

اخرج من النقل الصحيح وعقله

من قال قول الزور والبهتان

أو ليس الاله بداخل في خلقه

أو خارج عن جملة الأكوان

وأنظر إلى ما قاله الطبري في الت

فسير والتهذيب قول معاني

وانظر إلى ما قاله في سورة

الاعراف مع طه ومع سبحان

٢٤١

وانظر إلى ما قاله البغوي في

تفسيره والشرح بالاحسان

في سورة الاعراف عند الاستواء

فيها وفي الاولى من القرآن

وانظر إلى ما قاله ذو سنة

وقراءة ذاك الإمام الداني

وكذاك سنة الاصبهاني أبي

الشيخ الرضي المستلّ من حبان

وانظر إلى ما قاله ابن سريج

البحر الخضم الشافعي الثاني

وانظر الى ما قاله علم الهدى

أعني أبا الخير الرضي النعمان

أول من ذكر هنا ابن كلاب وهو من أئمة المتكلمين وامام الطائفة الكلابية ، والطبري هو الإمام محمد بن جرير امام أهل التفسير ، والبغوي هو الحسين بن مسعود محيي السنة وقد اجتمعت على تلقي تفسيره بالقبول.

وختم المؤلف هذا السجل الحافل بابن سريج وهو أبو العباس امام الشافعية في وقته ، ونحن نحيل القارئ إلى الكتب التي سردها المؤلف إذا أراد الاطلاع على ما فيها ليرى بنفسه اجماع سلف الأمة وأئمتها على هذه المقالة دون نكير حتى لا يغتر بتلبيسات أهل التعطيل وشبههم الفاسدة وتأويلاتهم الباردة ، فليسع كل مؤمن ناصح لنفسه ما وسع هؤلاء الأئمة الأعلام الذين هم أكمل هذه الأمة علما وعملا وأرضاها دينا ، نسأل الله أن يوفقنا لاتباع سبيلهم بمنه وكرمه.

* * *

وكتابه في الفقه وهو بيانه

يبدي مكانته من الايمان

ووانظر الى السنن التي قد

صنف العلماء بالآثار والقرآن

زادت على المائتين منها مفردا

أوفى من الخمسين في الحسبان

منها لأحمد عدة موجودة

فينا رسائله إلى الاخوان

واللاء في ضمن التصانيف التي

شهرت ولم تحتج إلى حسبان

فكثيرة جدا فمن يك راغبا

فيها يجد فيها هدى الحيران

وهم النجوم لكل عبد سائر

يبغي الاله وجنة الحيوان

أصحابها هم حافظو الإسلام لا

أصحاب جهم حافظو الكفران

٢٤٢

وسواهم والله قطاع الطريق

أئمة تدعو إلى النيران

ما في الذين حكيت عنهم آنفا

من حنبلي واحد بضمان

بل كلهم والله شيعة أحمد

فأصوله وأصولهم سيان

وبذاك في كتب لهم قد صرحوا

وأخو العماية ما له عينان

أتظنهم لفظية جهلية

مثل الحمير تقاد بالارسان

حاشاهم من ذاك بل والله هم

أهل العقول وصحة الأذهان

الشرح : بعد أن سرد المؤلف هذه المصنفات الكثيرة في السنن والآثار وتفسير القرآن وبين تضافرها على اثبات صفة العلو له سبحانه على ما تقتضيه النصوص الصريحة القطعية من الكتاب والسنة ، قال ان أصحاب هذه المصنفات هم بحق حملة الإسلام الحافظون له الذين ورد فيهم الأثر القائل (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) وهم رضي الله عنهم نجوم الهدى يهتدي بهم كل سائر إلى الله يبغي رضوانه وجنته. وأما سواهم من أتباع جهم وشيعته من أهل التعطيل ، فهم قطاع طريق يصدون عن سبيل الله الحقة ويبغونها عوجا ، وهم أئمة تدعو إلى النيران ، يعني إلى الأسباب الموجبة لها من المروق والتعطيل والالحاد.

ويقول المؤلف ردا على خصوم الحنابلة الذين يتهمونهم بالحشو والتجسيم أنه ليس في الذين حكى أقوالهم وسرد مصنفاتهم آنفا حنبلي واحد ولكنهم مع ذلك هم شيعة أحمد المتفقون معه في الأصول ، فإن الأصول لا يسع أحد الخلاف فيها وكلمة أهل الحق فيها متفقة كما صرحوا جميعا بذلك في كتبهم. وينكر المؤلف على هؤلاء الجهمية رميهم هؤلاء الأئمة الكبار بالألقاب الشنيعة مثل قولهم أنهم لفظية يعنون بذلك أنهم يقفون عند ظواهر الالفاظ ولا يتعمقون في فهم ما تحتمله من تأويلات ، وقولهم أنهم جهلية نسبة إلى الجهل وحشوية يعنون أنهم من طغام الناس وحاشاهم رضي الله عنهم من مقالة السفهاء ولمز الأغبياء ، بل هم أهل العقول الراجحة والأذهان الصحيحة والفطرة السليمة المستقيمة.

* * *

٢٤٣

فانظر إلى تقريرهم لعلوه

بالنقل والمعقول والبرهان

عقلان عقل بالنصوص مؤيد

ومؤيد بالمنطق اليوناني

والله ما استويا ولن يتلاقيا

حتى تشيب مفارق الغربان

أفتقذفون أولاء بل أضعافهم

من سادة العلماء كل زمان

بالجهل والتشبيه والتجسيم

والتبديع والتضليل والبهتان

يا قومنا الله في اسلامكم

لا تفسدوه لنخوة الشيطان

يا قومنا اعتبروا بمصرع من خلا

من قبلكم في هذه الأزمان

لم يغن عنهم كذبهم ومحالهم

وقتالهم بالزور والبهتان

كلا ولا التدليس والتلبيس عند الناس والحكام والسلطان الشرح : فانظر ان شئت دليلا على سمو علومهم وجودة اذهانهم إلى تقريرهم لعلوه سبحانه ببراهين النقل والعقل. ولكن العقل الذي يستعملونه هو العقل السليم المؤيد بالنصوص الصريحة لا عقل الجهمية المؤيد بقضايا المنطق اليوناني الفاسدة. ثم يلتفت المؤلف إلى هؤلاء المجترئين على أئمة السلف بقالة السوء فيقول لهم أفترمون هؤلاء ممن ذكرنا وأضعافهم من سادة العلماء في كل زمان بما هم منه براء من الجهل والتشبيه وغيرهما ولا تتقون الله في اسلامكم الذي أفسدتموه بعوامل الهوى والعصبية وحمية الشيطان كأنكم لم تعتبروا بمصارع من قبلكم من المارقين الكاذبين الذين لم يغن عنهم كذبهم وزورهم ولا ترويجهم لبدعهم بالتدليس والتلبيس عند العامة وعند الحكام والسلاطين وكأن الشيخ يشير بذلك إلى مصرع المعتزلة في عهد الخليفة المتوكل بعد ما كان لهم من صولة في عهد المأمون والمعتصم من قبله؟

* * *

وبدا لهم عند انكشاف غطائهم

ما لم يكن للقوم في حسبان

وبدا لهم عند انكشاف حقائق ال

إيمان أنهم على البطلان

ما عندهم والله غير شكاية

فأتوا بعلم وانطقوا ببيان

٢٤٤

ما يشتكي إلا الذي هو عاجز

فاشكوا لنعذركم إلى القرآن

ثم اسمعوا ما ذا الذي يقضي لكم

وعليكم فالحق في الفرقان

لبستم معنى النصوص وقولنا

فغدا لكم للحق تلبيسان

من حرف النص الصريح فكيف لا

يأتي بتحريف على إنسان

الشرح : يعني أنه قد ظهر لهؤلاء الماضين من أهل التعطيل والكفر عند ما انكشف عنهم الغطاء بالموت ما لم يكونوا يحتسبون فعرفوا زيف ما كانوا عليه من باطل وبهتان ، وأن الحق كان مع خصومهم من أهل العلم والإيمان. فليعتبر بهم هؤلاء الذين يجرون وراءهم ويقلدونهم في باطلهم ، فإنه يوشك أن ينزل بهم ما نزل بأسلافهم لا سيما وليس عندهم على ما يقولون أثارة من علم ولا بيان صريح وانما هي شكاية العاجز الذي لا حيلة له. وإلى من يشتكون؟! إلى هذا المنطق السقيم والجدل العقيم كلا أنهم إذا أرادوا أن تسمع شكواهم ، وأن يعذروا فيها ، فليشتكوا إلى من يملك الفصل فيها وهو القرآن الذي هو الحكم العدل ، ثم ليسمعوا ما الذي يقضي به ، هل يقضي لهم أو عليهم؟ ولكنهم ما ارتضوا حكم القرآن ، فقد لبسوا معاني نصوصه حين عمدوا إلى تأويلها بما يخرجها عن مواضعها ، كما لبسوا على الناس معاني ما قال السلف حين أرادوا أن يخرجوا أقوالهم عما دلت عليه من الاثبات ، وقالوا ان السلف يفوضون في المعاني أيضا كما يفوضون في الكيفيات ، ولا ريب أن من اجترأ على تحريف النص الصريح من كتاب الله وكلام رسوله هو على تحريف غيرهما أشد اجتراء.

* * *

يا قوم والله العظيم أسأتم

بأئمة الإسلام ظن الشاني

ما ذنبهم ونبيهم قد قال ما

قالوا كذاك منزل الفرقان

ما الذنب إلا للنصوص لديكم

اذ جسمت بل شبهت صنفان

ما ذنب من قد قال ما نطقت به

من غير تحريف ولا عدوان

هذا كما قال الخبيث لصحبه

كلب الروافض أخبث الحيوان

٢٤٥

لما أفاضوا في حديث الرفض

عند القبر لا تخشون من انسان

يا قوم أصل بلائكم ومصابكم

من صاحب القبر الذي تريان

كم قدم ابن أبي قحافة بل غدا

يثني عليه ثناء ذي شكران

ويقول في مرض الوفاء يؤمكم

عني أبو بكر بلا روغان

ويظل يمنع من إمامة غيره

حتى يرى في صورة ميلان

الشرح : ينكر المؤلف على هؤلاء المعطلة أنهم أساءوا الظن بأئمة الإسلام حين رموهم ظلما بالتجسيم والتشبيه ، وما نقموا منهم إلا أنهم قالوا ما قال الله ورسوله بلا زيادة ولا نقص ، ولا تحريف ولا تبديل ، ووقفوا عند ما جاءت به النصوص الصريحة في الاثبات بلا كيف ولا تمثيل فليتهموا النصوص إذا وليرموها هي بالتجسيم والتشبيه ، وليفعلوا ما فعله ذلك الرافضي الخبيث حين أشار إلى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال لأصحابه مقالة المغيظ المحنق ، ان أصل بلائكم وسر شقائكم هو ما صرح به صاحب هذا القبر من تقديم أبي بكر على جميع أصحابه ، وثنائه عليه ثناء الشاكر له سالفته في الإسلام حيث يقول : «ان من أمن الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر» وقوله في مرضه الذي توفي فيه ، حين عجز عن الخروج للصلاة : «مروا أبا بكر فليصل بالناس» ولما قالت له عائشة أن أبا بكر رجل أسيف لا يملك نفسه ان هو قام مقامك من البكاء غضب وقال : انكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس.

* * *

ويقول لو كنت الخليل لواحد

في الناس كان هو الخليل الداني

لكنه الأخ والرفيق وصاحبي

وله علينا منة الاحسان

ويقول للصديق يوم الغار لا

تحزن فنحن ثلاثة لا اثنان

الله ثالثنا وتلك فضيلة

ما حازها إلا فتى عثمان

يا قوم ما ذنب النواصب بعد ذا

لم يدهكم إلا كبير الشأن

فتفرقت تلك الروافض كلهم

قد أطبقت اسنانه الشفتان

٢٤٦

وكذلك الجهمي ذاك رضيعهم

فهما رضيعا كفرهم بلبان

ثوبان قد نسجا على المنوال يا

عريان لا تلبس فما ثوبان

والله شر منهما فهما على

أهل الضلالة والشقا علمان

الشرح : ويقول صلوات الله وسلامه عليه «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن اخوة الإسلام ، فإن صاحبكم خليل الرحمن» وعند ما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو وأبو بكر في الغار مختفيين من قريش نظر أبو بكر إلى فم الغار فوجد القوم مجتمعين عليه فبكى وقال : والله يا رسول الله لو نظر أحدهم موضع قدمه لأبصرنا ، فقال لهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما حكاه القرآن : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠] وروي أنه قال له «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» وهذه منقبة عظيمة لأبي بكر ما حازها أحد من هذه الأمة غيره ، وإذا فلا ذنب للنواصب يا قوم في تقديمهم أبا بكر وعمر ، وإنما الذنب على من قدمهما ودل على فضلهما ، فلما سمع الروافض مقالة ذلك الخبيث تفرقوا وكلهم يعض بأسنانه على شفتيه من الغيظ ، فكذلك الجهمي رضيع الرافضة الذي رضع معهم بلبان الكفر يصب كل غيظه ونقمته على النصوص التي تفسد عليه أمره وتنادي بفساد مذهبه ، فالرفض والتجهم ثوبان قد نسجا على منوال واحد ، وهما والله شر ما عرف الناس من أثواب ما ارتداهما أحد إلا كانا علامة على شقائه وضلاله.

* * *

فصل

هذا وسابع عشرها أخباره

سبحانه في محكم القرآن

عن عبده موسى الكليم وحربه

فرعون ذي التكذيب والطغيان

تكذيبه موسى الكليم بقوله

الله ربي في السماء نباني

ومن المصائب قولهم أن اعتقا

د الفوق من فرعون ذي الكفران

٢٤٧

فإذا اعتقدتم ذا فأشياع له

أنتم وذا من أعظم البهتان

فأسمع إذا من ذا الذي أولى بفر

عون المعطل جاحد الرحمن

وانظر إلى ما جاء في القصص التي

تحكي مقال امامهم ببيان

الشرح : هذا هو الوجه السابع عشر من الوجوه الدالة على علوه تعالى فوق خلقه خلقه ، وهو ما أخبر به سبحانه في كتابه عن كليمه موسى عليه‌السلام وعن عدوه فرعون ذي التكذيب والطغيان ، فقد أخبر سبحانه أن فرعون كذب موسى عند ما قال له انه مرسل من الله الذي في السماء. وقال ما حكاه عنه القرآن : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ* أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) [غافر : ٣٦ ، ٣٧].

ومن المصائب أن الجهمية يعكسون المسألة ويجعلون اعتقاد الفوق من رأي فرعون ذي الكفران لم يسمعه من موسى ، وأن كل من اعتقد الفوق فهو من شيعة فرعون وحزبه ، وهذا من أعظم الكذب والبهتان ، وذلك يظهر بأدنى تأمل في القصص التي حكي الله فيها مقالة امام المعطلة فرعون كما سيأتي.

* * *

والله قد جعل الضلالة قدوة

بأئمة تدعو إلى النيران

فامام كل معطل في نفسه

فرعون مع نمرود مع هامان

طلب الصعود إلى السماء مكذبا

موسى ورام الصرح بالبنيان

بل قال موسى كاذب في زعمه

فوق السماء الرب ذو السلطان

فأبنوا لي الصرح الرفيع لعلني

أرقى إليه بحيلة الإنسان

وأظن موسى كاذبا في قوله

الله فوق العرش ذو السلطان

وكذاك كذبه بأن إلهه

ناداه بالتكليم دون عيان

هو أنكر التكليم والفوقية ال

عليا كقول الجهمي ذي صفوان

فمن الذي أولى بفرعون اذا

منا ومنكم بعد ذا التبيان

الشرح : يعني أن الله تعالى جعل الضلال في الاقتداء بفرعون وملئه الذين هم

٢٤٨

ائمة الضلال الداعون الى النار ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) [القصص : ٤١] وهم انما يدعون إلى النار أشياعهم في الجحد والتعطيل فامام كل معطل في نفسه هم هؤلاء الثلاثة : فرعون. وهو لقب لمن ملك مصر ، ونمرود ، وهو لقب الكنعانيين ، وهامان هو وزير فرعون. فأولهم وهو فرعون انما طلب الصعود إلى السماء وأمر هامان ببناء الصرح تكذيبا منه لموسى عليه‌السلام حين أخبره أن الرب في السماء ، فإن موسى حين أخبره بأنه رسول من رب العالمين ، سأله عن مكانه وأين هو ، فأخبره أنه في السماء ، فقال ما قال وكذلك كذبه حين أخبره أن الله ناداه وكلمه من وراء حجاب دون رؤية ، وبذلك يكون فرعون قد أنكر تكليم الله لموسى وفوقيته على عرشه ، كما أنكرهما الجهم وشيعته. فمن إذا أولى بفرعون وأحق بالانتساب إليه منا ومنكم ، لا شك أن أولى الناس به هم من وافقوه على الجحد والتعطيل.

* * *

يا قومنا والله ان لقولنا

ألفا تدل عليه بل ألفان

عقلا ونقلا مع صريح الفطرة الأ

ولى وذوق حلاوة القرآن

كل يدل بأنه سبحانه

فوق السماء مباين الأكوان

أترون انا تاركو ذا كله

لحباجع التعطيل والهذيان

يا قوم ما أنتم على شيء إلى

أن ترجعوا للوحي بالاذعان

وتحكموه في الجليل ودقه

تحكيم تسليم مع الرضوان

الشرح : بعد أن أورد المؤلف هذا الوجه وقرره هذا التقرير الحسن التفت إلى هؤلاء النفاة المعاندين مبينا لهم أن الأدلة على ثبوت الفوق لله عزوجل قد بلغت من الكثرة أن صارت ألف دليل بل ألفين وهي أذلة متنوعة ، فمنها ما يرجع إلى العقل الصريح ، ومنها ما يرجع إلى النقل الصحيح ، ومنها ما يرجع إلى الفطرة الأولى التي فطر الله عباده عليها ، ومنها ما يفهمه العلماء الراسخون من أساليب القرآن بأذواقهم السليمة ، وكل واحد من هذه الأدلة المتكاثرة يكفي

٢٤٩

وحده لاثبات ذلك المطلوب ، وهو أن الله فوق عرشه مباين لخلقه ، فهل يعقل بعد ذلك أن يترك أهل الحق هذه الأدلة القاطعة التي هي أوضح من الشمس في رائعة النهار من أجل تشغيب هؤلاء المعطلة وتمويهاتهم الباطلة ، وقد حكموا عقولهم الفاسدة في أمور نطق بها صريح الوحي ولم يترك فيها مجالا لرأي ، فما هم على شيء من الدين حتى ينزعوا عن غرورهم ويرجعوا إلى وحي ربهم ويذعنوا له ويحكموه في كل دقيق وجليل من أمور الدين ، ثم يرضوا بحكمه ويسلموا له تسليما.

* * *

قد أقسم الله العظيم بنفسه

قسما يبين حقيقة الايمان

أن ليس يؤمن من يكون محكما

غير الرسول الواضح البرهان

بل ليس يؤمن غير من قد حكم ال

وحيين حسب فذاك ذو إيمان

هذا وما ذاك المحكم مؤمنا

ان كان ذا حرج وضيق بطان

هذا وليس بمؤمن حتى يسلم

للذي يقضي به الوحيان

يا قوم بالله العظيم نشدتكم

وبحرمة الايمان والقرآن

هل حدثتكم قط أنفسكم بذا

فسلوا نفوسكم عن الإيمان

الشرح : يشير المؤلف بهذه الأبيات الى الآية الكريمة التي في سورة النساء والتي نزلت في شأن المنافقين الذين احتكموا الى الطاغوت وأعرضوا عن حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أعني قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : ٦٥] فقد أقسم الله في هذه الآية الكريمة بنفسه أن هؤلاء لا يكونون مؤمنين أبدا حتى يحكموا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما ينشب بينهم من خصومات ، ثم لا يقابلوا حكمه بالحرج وضيق الصدر ، بل يرضوا به ويذعنوا ، وبعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم انما يكون التحاكم الى كتاب الله وسنة رسوله فلا يتم ايمان أحد حتى يحكمهما وحدهما ويسلم للذي يحكمان به كما قال تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ

٢٥٠

وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء : ٥٩].

فهؤلاء المبتدعة من أرباب المقالات والمذاهب حكموا في دين الله عقولهم وقدموا كلام رؤسائهم وقادتهم في الضلال على حكم الله ورسوله ، فأشبهوا هؤلاء المنافقين الذين حكى الله عنهم تحاكمهم الى الطاغوت وصدودهم عن حكم الرسول عليه‌السلام ، ولهذا ينشدهم المؤلف بالله العظيم وبحرمة الايمان والقرآن أن يراجعوا أنفسهم وأن يسألوها هل لا يزال فيها شيء من الايمان.

* * *

لكن رب العالمين وجنده

ورسوله المبعوث بالقرآن

هم يشهدون بأنكم اعداء من

ذا شأنه أبدأ بكل زمان

ولأي شيء كان أحمد خصمكم

أعني ابن حنبل الرضي الشيباني

ولأي شيء كان بعد خصومكم

أهل الحديث وعسكر القرآن

ولأي شيء كان أيضا خصمكم

شيخ الوجود العالم الحراني

أعني أبا العباس ناصر سنة المخت

ار قامع سنة الشيطان

والله لم يك ذنبه شيئا سوى

تجريده لحقيقة الايمان

اذ جرد التوحيد عن شرك كذا

تجريده للوحي عن بهتان

فتجرد المقصود عن قصد له

فلذاك لم ينصف الى انسان

الشرح : فإذا لم تشهدوا على أنفسكم ببراءتها من الايمان بسبب معاداتها للوحي من السنة والقرآن ، فاعلموا أن الله وجنده من الملائكة ورسوله المبعوث بالقرآن ، كلهم يشهدون عليكم بأنكم في كل زمان أعداء لمن شأنه التمسك بالسنة والقرآن ، دالا فأخبرونا لما ذا عاديتم أمام أهل السنة وناصر مذهب السلف وقدوة أهل الحق في الثبات والصبر والجهاد لأعداء الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه. ولما ذا كان أعداؤكم دائما هم أهل الحديث وعسكر القرآن. ثم لأي شيء عاديتم شيخ الاسلام وعلم الأعلام غير منازع الذي بعثه الله على رأس المائة الثامنة

٢٥١

ليجدد لهذه الأمة ما رث من أمر دينها ويشد ما وهى من عقد ايمانها من نصر الله به السنة وقمع به البدعة وأقام به على المارقين الحجة (تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني الدمشقي) الذي لم يأت الزمان له بنظير في الجمع بين المعقول والمنقول ، وهل كان ذنبه الا أنه جرد الدين من كل دخيل وأزال ما لصق به من أوضار الشرك وظلمات البدع حتى رده سليما نقيا. وأنه جرد الوحي مما زاده المفترون الكذابون.

هذا واعتذر للقارىء عن شرح البيت الأخير أعني قوله (فتجرد المقصود عن قصد له الخ) فإني لم أفهمه والله تعالى أعلم. ويجوز أن يكون الشيخ قد أراد أن المقصود من التوحيد والوحي قد تجرد عما لصق به من زيادات ومحدثات حين قصد شيخ الاسلام الى تجريده ، فلهذا عودي رحمة الله ولم ينصفه من الناس أحد.

* * *

ما منهم أحد دعا لمقالة

غير الحديث ومقتضى الفرقان

فالقوم لم يدعوا إلى غير الهدى

ودعوتم انتم لرأي فلان

شتان بين الدعوتين فحسبكم

يا قوم ما بكم من الخذلان

قالوا لنا لما دعوناهم الى

هذا مقالة ذي هوى ملآن

ذهبت مقادير الشيوخ وح

رمة العلماء بل عبرتهم العينان

وتركتم أقوالهم هدرا وما

أصغت إليها منكم اذنان

لكن حفظنا نحن حرمتهم ولم

نعد الذي قالوه قدر بنان

الشرح : يعني أن هؤلاء الذين عاديتموهم من أهل الحديث وأئمة الهدى مثل أحمد وابن تيمية ، وأضرابهما لم يدع أحد منهم الى مقالة مبتدعة ولا تزيد في دين الله ما ليس منه ، وانما دعوا الى الأخذ بالحديث وما يفهم من صريح الكتاب. وأما أنتم فتعرضون عن السنة والكتاب جانبا وتدعون لرأي فلان وفلان ممن يجوز عليهم الخطأ وليسوا بمعصومين فشتان ما بين الدعوتين دعوة الى هدى ،

٢٥٢

ودعوة الى ضلال ، وكفاكم هذا خذلانا.

والعجيب من أمركم انكم كلما دعاكم داع الى الرجوع للأصل الأول ، وهو كتاب الله وسنة رسوله نفرتم منه نفار الوحش وقلتم له مقالة المغيظ المحنق ، لقد أزريت بأقدار الشيوخ وانتهكت حرمة العلماء حيث تدعونا الى ترك أقوالهم وعدم الإصغاء الى آرائهم وأما نحن فقد حفظنا حرمتهم حيث لم نتجاوز أقوالهم ولم نعد آراءهم مقدار بنان أي طرف إصبع ، وهذا الذي أشار إليه المؤلف هو دأب هؤلاء المقلدة الجامدين في كل زمان يعدون كل من يدعو الى الكتاب والسنة وأخذ الدين منهما متهجما على الأئمة مزريا بمذاهبهم التي يجب في نظرهم اتباعها وأخذ الأحكام منها دون مناقشة فبئس ما رضوا لأنفسهم أن يحرموها ميزة الفهم والادراك التي جعلها الله خاصة الانسان.

* * *

يا قوم والله العظيم كذبتم

وأتيتم بالزور والبهتان

ونسبتم العلماء للأمر الذي

هم منه أهل براءة وأمان

والله ما أوصاكم أن تتركوا

قول الرسول لقولهم بلسان

كلا ولا في كتبهم هذا بلى

بالعكس أوصاكم بلا كتمان

اذ قد أحاط العلم منهم أنهم

ليسوا بمعصومين بالبرهان

كلا وما منهم احاط بكل ما

قد قاله المبعوث بالقرآن

فلذاك أوصاكم بأن لا تجعلوا

أقوالهم كالنص في الميزان

لكن زنوها بالنصوص فإن توا

فقها فتلك صحيحة الاوزان

الشرح : يقسم المؤلف بالله العظيم أن هؤلاء المقلدة المتباكين على حرمة الائمة ومذاهبهم قد كذبوا على هؤلاء الائمة ونسبوهم الى ما هم منه براء من دعوة الناس الى الأخذ بمذاهبهم دون نظر في أدلتها من الكتاب والسنة. والله سبحانه ما أمرنا في كتابه أن نترك قول الرسول لقول أحد من الناس ، بل قال سبحانه : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] وقال :

٢٥٣

(فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) [النساء : ٥٩] وكذلك الأئمة رحمهم‌الله لم يدع أحد منهم أن مذهبه هو الحق الذي يجب اتباعه بل صح عنهم جميعا أنهم يبرءون إلى الله من كل قول لهم يخالف الحديث وقد صح عن الشافعي رحمه‌الله أنه قال (إذا جاء الحديث يخالف ما قلناه فخذوا به ودعوا ما قلناه).

وورد عن مالك رحمه‌الله أنه قال (كل انسان يؤخذ من قوله ويترك الا صاحب هذا القبر) وأشار الى قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وصح عن أحمد أنه قال (لا يحل لأحد أن يأخذ بشيء من أقوالنا حتى يعلم من أين قلناه).

وهذا هو اللائق بهم رحمهم‌الله ، فإنهم يعلمون أنهم ليسوا بمعصومين ، بل هم مجتهدون يصيبون ويخطئون ، ويعلمون كذلك أن أحدا منهم لم يحط علما بكل ما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلذلك جاءت وصيتهم جميعا بأن لا تجعل أقوالهم مساوية للنص في الميزان ، بل يجب أن توزن بالنصوص فإن وافقتها فهي صحيحة والا وجب اتباع النص.

* * *

لكنكم قدمتم أقوالهم

أبدا على النص العظيم الشأن

والله لا لوصية العلماء نف

ذتم ولا لوصية الرحمن

وركبتم الجهلين ثم تركتم النص

ين مع ظلم ومع عدوان

قلنا لكم فتعلموا قلتم أما

نحن الأئمة فاضلو الأزمان

من أين والعلماء أنتم فاستحوا

أين النجوم من الثرى التحتاني

لم يشبه العلماء الا أنتم

أشبهتم العلماء في الأذقان

والله لا علم ولا دين ولا

عقل ولا بمروءة الانسان

عاملتم العلماء حين دعوكم

للحق بل بالبغي والعدوان

الشرح : لكنكم بالرغم من أمر الله لكم أن لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ومن وصية الأئمة لكم أن لا تقدموا آراءهم ومذاهبهم على قول الله وحديث

٢٥٤

رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد خالفتم هذا كله وقدمتم أقوالهم على النصوص الصريحة من الكتاب والسنة ، فلا أنتم امتثلتم أمر ربكم بالوقوف عند ما جاء به الرسول عليه‌السلام ، ولا أنتم نفذتم وصية العلماء بترك أقوالهم إذا ظهر مخالفتها لصريح النص وركبتم الجهلين ، جهلكم بالحق الذي يجب اتباعه والايمان به ، وجهلكم انكم تجهلونه ، وهذا هو الجهل المركب ، ثم تركتم النصين من الكتاب والسنة ظلما وعدوانا ، واذا نصح لكل ناصح أن تتعلموا لأنكم لستم على شيء غضبتم من رميه لكم بالجهل ، وقلتم تبجحا وغرورا : ألسنا نحن الأئمة الفضلاء والعلماء الأذكياء ، كذبتم فأين أنتم من هؤلاء او هؤلاء؟ ألم يبق في وجوهكم قطرة من حياء؟ فأين الثرى من الثريا؟ أم أين الأرض من السماء؟ ألم يبق مما يشبه العلماء ألا أنتم ، صدقتم ، ولكنكم أشبهتموهم في طول اللحى والأذقان أما ما وراء ذلك فأنتم لا علم ولا دين ولا عقل ولا حتى مروءة انسانية ، فقد كنتم لئاما حين عاملتم من يدعوكم من العلماء الى الحق بالبغي والكيد الدنيء والاعتداء الاثيم ، وكأنه يشير بذلك رحمه‌الله الى ما وقع عليه وعلى شيخه شيخ الاسلام ابن تيمية من علماء عصرهم من الجهلة المتعصبين للمذاهب من ايذاء واعتداء على حين لا ذنب لهما الا الذب عن دين الله ونصر السنة المطهرة والرجوع بالأمة الى ما كان عليه سلفها الصالح قبل نجوم الخلاف ، وظهور البدع والمقالات.

* * *

أن أنتم الا الذباب اذا رأى

طعما فيا لمساقط الدبان

وإذا رأى فزعا تطاير قلبه

مثل البغاث يساق بالعقبان

وإذا دعوناكم الى البرهان كا

ن جوابكم جهلا بلا برهان

نحن المقلدة الألى ألفوا كذا

آباءهم في سالف الأزمان

قلنا فكيف تكفرون وما لكم

علم بتكفير ولا ايمان

اذ أجمع العلماء أن مقلدا

للناس والأعمى هما أخوان

والعلم معرفة الهدى بدليله

ما ذاك والتقليد مستويان

حرنا بكم والله لا أنتم مع العلم

اء تنقادون للبرهان

كلا ولا متعلمون فمن ترى

تدعون نحسبكم من الثيران

٢٥٥

لكنها والله أنفع منكم

للأرض في حرث وفي دوران

نالت بهم خيرا ونالت منكم المعه

ود من بغي ومن عدوان

فمن الذي خير وأنفع للورى

أنتم أم الثيران بالبرهان

الشرح : يشبه المؤلف هؤلاء الأدعياء من أهل التعصب والتقليد الأعمى في دناءتهم وتهافتهم على حطام الدنيا بالذباب إذا رأى طعما ، أي شيئا حلوا كالعسل كثر تساقطه فيه ، وهم من ذلك جبناء رعاديد اذا رأوا هيعة طارت نفوسهم منها شعاعا وانخلعت قلوبهم ، كأنهم رخم تسوقه الصقور والعقبان ، واذا ناظرهم العلماء وطالبوهم بالبرهان لم يقدروا على اقامته ، وكان جوابهم هو جواب أهل التقليد في كل زمان : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) فقيل لهم كيف تكفرون اذا من خالفكم وأنتم لا علم عندكم بمواضع التكفير والايمان ، وهل التقليد الا عمى في العقل والبصيرة ، يحمل المقلد على الانقياد لمن يقلده ، كانقياد الأعمى لمن يقوده ، فأين هو من العلم الصحيح الذي يكون قائما على الدليل والبرهان ، فشتان ما بينهما ثم شتان ، ولقد تركتمونا في حيرة من أمركم فلا ندري الى أي قبيل ننسبكم ، فلا أنتم مع العلماء في طلب الدليل والبرهان ولا أنتم ترضون أن تتعلموا لتزيلوا عن أنفسكم غشاوة الجهل والتقليد ، فلا نظنكم الا أمة من الثيران التى لا تفقه ولا تعي ، على أن الثيران كذلك خير منكم وأنفع ، فإنها تحرث الأرض وتسقي الزرع ، وأما أنتم فما نالت بكم الأرض الا شرا ، فقد أكثرتم فيها البغي والعدوان ، فأصبحتم أخف وزنا حتى من الثيران.

* * *

فصل

هذا وثامن عشرها تنزيهه

سبحانه عن موجب النقصان

وعن العيوب وموجب التمثيل

والتشبيه جل الله ذو السلطان

ولذاك نزه نفسه سبحانه

عن ان يكون له شريك ثان

٢٥٦

أو أن يكون له ظهير في الورى

سبحانه عن افك ذي بهتان

أو أن يوالي خلقه سبحانه

من حاجة او ذلة وهوان

أو أن يكون لديه أصلا شافع

الا باذن الواحد المنان

وكذاك نزه نفسه عن والد

وكذاك عن ولدهما نسبان

وكذاك نزه نفسه عن زوجة

وكذاك عن كفو يكون مداني

الشرح : هذا هو الوجه الثامن عشر من الوجوه الدالة على علوه تعالى وفوقيته ، وخلاصة هذا الوجه أن الله سبحانه قد نزه نفسه في كتابه عن كل ما يوجب نقصا أو عيبا ، وعن كل ما يقتضي تمثيلا أو تشبيها له بأحد من خلقه ، تعالى الله عن ذلك ، فنزه نفسه سبحانه عن أن يكون له شريك ينازعه الملك والسلطان ، ويكون مستحقا للعبادة معه.

وآيات نفي الشريك في القرآن أكثر من أن تحصر ، ومنها آيات مشتملة على دليل ذلك النفي ، كقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] وقوله (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) [المؤمنون : ٩١] وكذلك نزه نفسه سبحانه عن الظهير ، وهو المظاهر المعاون له في شيء من الخلق أو التدبير ، كقوله تعالى : (وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) [سبأ : ٢٢] ونزه نفسه عن أن يكون له ولي من خلقه يواليه من ذل أو حاجة ، قال تعالى : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) [الإسراء : ١١١] ونزه نفسه عن أن يكون لديه شافع أصلا يشفع بغير أذنه فيقبل شفاعته لرغبة أو رهبة ، كما يقبل الملوك في الدنيا شفاعة من حولهم من القواد والأمراء وذوي الجاه لخوفهم منهم وحاجتهم إليهم. أما الشفاعة عنده سبحانه فإنها لا تكون أبدا الا بشرطين ، أحدهما في الشافع ، وهو اذن الله له بالشفاعة والثاني في المشفوع له ، وهو أن يكون مرضيا عنه ، قال تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] وقال (وَكَمْ مِنْ

٢٥٧

مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم : ٢٦].

وكذاك نزه نفسه سبحانه عن الوالد والولد فقال : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) [الإخلاص : ٣] وعن الزوجة والكفء الذي هو النظير المساوي قال تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٤] وقال : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم : ٦٥] أي شبيها ونظيرا يستحق مثل اسمه ، وقال تعالى : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) [الأنعام : ١٠١] وقال حكاية عن الجن : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) [الجن : ٣].

ولقد أتى التنزيه عما لم يقم

كي لا يزور بخاطر الانسان

فأنظر الى التنزيه عن طعم ولم

ينسب إليه قط من انسان

وكذلك التنزيه عن موت وعن

نوم وعن سنة وعن غشيان

وكذلك التنزيه عن نسيانه

والرب لم ينسب الى نسيان

وكذلك التنزيه عن ظلم وفي الافع

ال عن عبث وعن بطلان

وكذلك التنزيه عن تعب وعن

عجز ينافي قدرة الرحمن

الشرح : يعني أنه سبحانه كما نزه نفسه عما قاله المبطلون ووصفوه به نزه نفسه عما لم يقله أحد ولم ينسبه إليه حتى لا يقع بخاطر أحد ، فنزه نفسه عن الطعم مع أن أحدا لم يصفه به ، قال تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) [الأنعام : ١٤] وقال سبحانه (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) الذاريات : ٥٧] وكذلك نزه نفسه عن الموت وعن السنة النوم وعن الغشيان الذي هو الجماع وعن النسيان الذي هو ضد الذكر مع أن أحدا لم ينسبه الى شيء من ذلك قال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) [الفرقان : ٥٨] وقال : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥] وقال تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم : ٦٤].

ونزه نفسه كذلك عن الظلم في معاملة خلقه فلا يعاقب أحدا بغير ذنب ، ولا

٢٥٨

يضيع عمل عامل ، ولا ينقصه شيئا من أجره. ونزه نفسه في الأفعال عن العبث والباطل وهو خلو الفعل عن الحكمة المقتضية له قال تعالى : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] وقال : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] وقال : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) وقال : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) [المؤمنون ١١٥] وقال : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الدخان : ٣٨ ، ٣٩].

* * *

ولقد حكى الرحمن قولا قاله

فنحاص ذو البهتان والكفران

ان الاله هو الفقير ونحن أصح

اب الغنى ذو الوجد والامكان

وكذاك أضحى ربنا مستقرضا

أموالنا سبحان ذي الاحسان

وحكى مقالة قائل من قومه

أن العزير ابن من الرحمن

هذا وما القولان قط مقالة

منصورة في موضع وزمان

لكن مقالة كونه فوق الورى

والعرش وهو مباين الأكوان

قد طبقت شرق البلاد وغربها

وغدت مقررة لذي الأذهان

فلأي شيء لم ينزه نفسه

سبحانه في محكم القرآن

عن ذي المقالة مع تفاقم أمرها

وظهورها في سائر الأديان

بل دائما يبدي لنا اثباتها

ويعيده بأدلة التبيان

الشرح : روى عكرمة عن ابن عباس في سبب نزول قوله تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١] الآية ان أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل بيت المدراس فوجد ناسا كثيرة من اليهود قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له فنحاص وكان من علمائهم وأحبارهم ، فقال له أبو بكر : اتق الله يا فنحاص واسلم فو الله انك لتعلم أن محمدا رسول من عند الله قد جاء بالحق من عنده تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل. فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر وأنه إلينا لفقير ، ولو

٢٥٩

كان عنا غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم. فغضب أبو بكر وضربه على وجهه ضربا شديدا ، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشكو أبا بكر. فقال له الرسول عليه‌السلام «ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر» فقال : يا رسول الله ان عدو الله قال قولا عظيما يزعم أن الله فقير وأنهم أغنياء ، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال ، فضربت وجهه فجحد فنحاص ذلك فنزلت الآية.

وكما حكى الله عزوجل مقالة فنحاص هذه حكى لنا مقالة بعض الجهلة من قومه اليهود أن عزيرا ابن الله لما كتب لهم التوراة بقلمه بعد غلبة العمالقة على بني إسرائيل وذهاب علمائهم مع أن كلا من هاتين المقالتين فسادها ظاهر ، وليست مشهورة في أي مكان وزمان. فإذا كان الله سبحانه قد نزه نفسه عما تقدم من العيوب والنقائص وعما قاله اليهود مع عدم اشتهاره وظهور فساده ، فلأي شيء إذا لم ينزه نفسه عن تلك المقالة وهي كونه فوق عرشه مباينا لخلقه إذا كانت متضمنة لمعنى فاسد لا يجوز اعتقاده في حق الله تعالى مع شهرة هذه المقالة وتفاقم أمرها واجماع أهل الأديان عليها ، فكانت هي أحق من هذا كله بالتنبيه على فسادها والتحذير منها مع ان العكس هو الواقع ، فالله عزوجل يثبت لنا هذه المقالة ويعيدها ويكررها في كتابه في اسلوب واضح صريح مثل قوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) [الملك : ١٧](ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [يونس : ٣](إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر : ١٠](تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) [المعارج : ٤] إلى غير ذلك من الآيات التي لا تقبل تأويلا. وقوله ـ ذو البهتان ـ أي الكذب والافتراء واتهام الغير بما ليس فيه. وقوله ذو الوجد بضم الواو : بمعنى الغنى والتفاقم الزيادة والاشتهار.

* * *

لا سيما تلك المقالة عندكم

مقرونة بعبادة الاوثان

أو أنها كمقالة لمثلث

عبد الصليب المشرك النصراني

إذ كان جسما كل موصوف بها

ليس الإله منزل الفرقان

فالعابدون لمن على العرش استوى

بالذات ليسوا عابدي الديان

٢٦٠