شرح القصيدة النونيّة - ج ١

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ١

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥
الجزء ١ الجزء ٢

الأخيرين أعني علو القدر والقر فقط وينفون عنه المعنى الأول وهو علو الذات ، ولا شك أن العلو المطلق من كل وجه أكمل من العلو الذي يكون مقيدا ببعض الوجود فم بتقييدهم للعلو سلبوه سبحانه كمال العلو ، وسلب الكمال مستلزم للنقص ، وحاشاه سبحانه مما يأفك به هؤلاء النفاة من نقصه في علوه بل له الكمال المطلق في علوه وفي سائر صفاته.

* * *

وعلوه فوق الخليقة كلها

فطرت عليه الخلق والثقلان

لا يستطيع معطل تبديلها

أبدا وذلك سنة الرحمن

كل إذا ما نابه أمر يرى

متوجها بضرورة الإنسان

نحو العلو فليس يطلب خلفه

وأمامه أو جانب الانسان

ونهاية الشبهات تشكيك

وتخميش وتغبير على الايمان

لا يستطيع تعارض المعلوم وال

معقول عند بدائه الإنسان

فمن المحال القدح في المعلوم

بالشبهات هذا بين البطلان

وإذا البداءة قابلتها هذه

الشبهات لم تحتج إلى بطلان

شتان بين مقالة أوصى بها

بعض لبعض أول للثاني

ومقالة فطر الإله عباده

حقا عليها ما هما عدلان

الشرح : هذا استدلال على علوه تعالى فوق خلقه بدليل الفطرة الذي هو أقوى من دليل العقل عند من أنصف لاستناده إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها فلا يستطيع أحد تبديلها ، وذلك أن الله عزوجل قد فطر عباده على أن يتوجهوا في دعائهم الى جهة الفوق رافعي أكفهم رائين بأبصارهم حتى أن كل من نابه من العباد أمر أو مسه ضر يرى متوجها بفطرته إلى جهة العلو وحدها دون الأمام أو الخلف أو اليمين أو الشمال ، ولو رجع هؤلاء المعطلة إلى أنفسهم لوجدوا هذا المعنى مركوزان في فطرهم ، ولكنهم يكابرون ويحاولون اثارة الشبهات حول ما هو معلوم بالنقل والعقل والفطرة ، ولكن نهاية شبهاتهم هي

٢٠١

اثارة الشكوك والتغيير في وجه الايمان إذ هي لا تقوى على معارضة أمر ثابت بضرورة العقل ومعلوم بالبديهة فإنه من المحال أن تنال الشبهات من المعلوم على وجه اليقين فإذا حصلت مقابلة بينهما فلا شك أن هذه الشبهات تضمحل وتزول ويبقى الحق ثابتا فإنه شتان بين قضية وهم أوصى بها كل معطل من خلفه وبين قضية فطرة فطر الله العباد عليها وما هما في ميزان العدل سواء؟

* * *

فصل

هذا وثالثها صريح الفوق مص

حوبا بمن وبدونها نوعان

إحداهما هو قابل التأويل والأ

صل الحقيقة وحدها ببيان

فإذا ادعى تأويل ذلك مدع

لم تقبل الدعوى بلا برهان

لكنما المجرور ليس بقابل التأ

ويل في لغة وعرف لسان

وأصح لفائدة جليل قدرها

تهديك للتحقيق والعرفان

إن الكلام إذا أتى بسياقة

يبدي المراد لمن له أذنان

أضحى كنص قاطع لا يقبل

التأويل يعرف ذا أولو الأذهان

فسياقة الألفاظ مثل شواهد ال

أحوال انهما لنا صنوان

إحداهما للعين مشهود بها

لكن ذاك لمسمع الإنسان

الشرح : هذا هو الوجه الثالث من الوجوه الدالة على علوه تعالى ، وهو التصريح بلفظ الفوق في القرآن الكريم مصحوبا بمن أحيانا ، كما في قوله تعالى في صفة ملائكته : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٥٠] وبدونها أخرى ، كما في قوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : ١٨] ولا شك أن الفوق المجرور بمن نص في معناه لا يقبل التأويل ، إذ لا يقال هذا اللفظ إلا في تعيين الجهة التي يكون فيها الشيء بالنسبة لما تحته ، كما يقال : السماء من فوقنا ، ومنه قوله تعالى : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) [الأنعام : ٦٥].

٢٠٢

وأما الفوق المجرد عن الاقتران بمن فهو قد يقبل التأويل ، ولكن لا يقبله إلا بدليل ، لأن الأصل هو الحقيقة ، فلا يصرف اللفظ عن معناه الحقيقي إلا بقرينة صارفة تمنع من إرادة المعنى الأصلي ، فإذا ادعى الخصم ان قرينة العقل هي التي أوجبت ذلك الصرف لاستحالة الفوقية الحسية ، قلنا هذه القرينة معارضة عندنا بضرورة العقل القاضية بأن كل موجودين إذا نسب أحدهما إلى الآخر ، فأما أن يكون متداخلين أو متباينين ، وإذا كانا متباينين فلا بد أن يكون أحدهما في جهة من الآخر.

وقد ذكر المؤلف هنا فائدة جليلة ينبغي التنويه بها وهي اعتبار سياق الكلام في تحديد مدلولات الألفاظ ، فإذا جاء السياق يبدي المراد للمخاطب أصبح كالنص في افادة القطع وعدم قبول التأويل ، فبعض الألفاظ قد يكون محتملا لأكثر من معنى ، ولكن سياق الكلام هو الذي يعين المراد باللفظ من هذه المعاني ، فسياق الألفاظ مثل شواهد الأحوال كل منهما قرينة تعين المعنى المقصود إلا أن هذه قرينة مرئية بالعيان وهذه قرينة مسموعة بالآذان.

* * *

فإذا أتى التأويل بعد سياقة

تبدي المراد أتى على استهجان

وإذا أتى الكتمان بعد شواهد ال

أحوال كان كأقبح الكتمان

فتأمل الألفاظ وانظر ما الذي

سيقت له ان كنت ذا عرفان

والفوق وصف ثابت بالذات من

كل الوجوه لفاطر الأكوان

لكن نفاة الفوق ما وافوا به

جحدوا كمال الفوق للديان

بل فسروه بأن قدر الله أع

لى لا بفوق الذات للرحمن

قالوا وهذا مثل قول الناس في

ذهب يرى من خالص العقبان

هو فوق جنس الفضة البيضاء لا

بالذات بل في مقتضى الأثمان

والفوق انواع ثلاث كلها

لله ثابتة بلا نكران

هذا الذي قالوا وفوق القهر وال

فوقية العليا على الاكوان

٢٠٣

الشرح : بعني إذا دل سياق الكلام وفحواه على المعنى المراد من اللفظ ، فإن التأويل عند ذلك يكون قبيحا مستهجنا كقبح الكتمان لما دلت عليه شواهد الأحوال ، فالواجب هو تأمل الالفاظ والنظر فيما سيقت له حتى يعرف المراد بها.

ولا شك أن لفظ الفوق في جميع سياقاته في القرآن الكريم يفيد أن الثابت لله عزوجل هو الفوقية المطلقة بجميع معانيها. فإن الفوق وصف ثابت لله ، فيجب أن يكون الثابت له هو كمال الفوق لا بعض الفوق ، ولكن نفاة الفوق جحدوا كمال هذا الوصف ، كما جحدوا كمال علوه من قبل ، وفسروا الفوق بأحد المعاني الذي يحتملها ، وهو فوقية القدر ، كما يقال الذهب فوق الفضة ، بمعنى أنه أغلى منها ثمنا.

ولا شك ان هذا المعنى الذي ذكروه صحيح ولكن ليس هو كل المراد من لفظ الفوق ، فان للفوقية معاني ثلاثة : هي فوقية الذات ، وفوقية القدر والعظمة ، وفوقية القهر ، وكلها ثابتة لله جل شأنه حسبما يقتضيه اطلاق اللفظ.

* * *

فصل

هذا ورابعها عروج الروح وال

أملاك صاعدة الى الرحمن

ولقد أتى في سورتين كلاهما اشتملا

على التقدير بالازمان

في سورة فيها المعارج قدرت

خمسين ألفا كامل الحسبان

وبسجدة التنزيل ألفا قدرت

فلأجل ذا قالوا هما يومان

يوم المعاد بذي المعارج ذكره

واليوم في تنزيل في ذا الآن

وكلاهما عندي فيوم واحد

وعروجهم فيه إلى الديان

فالألف فيه مسافة لنزولهم

وصعودهم نحو الرفيع الداني

هذي السماء فإنها قد قدرت

خمسين في عشر وذا صنفان

٢٠٤

لكنما الخمسون ألف مسافة

السبع الطباق وبعد ذي الأكوان

من عرش رب العالمين إلى الثرى

عند الحضيض الأسفل التحتاني

الشرح : الوجه الرابع من تلك الوجوه النقلية الدالة على علوه تعالى على خلقه اخباره سبحانه بعروج الملائكة والروح إليه ، ورد ذلك في سورتين من كتاب الله ، وفي كل منهما قدر العروج بالأزمان ، ففي سورة المعارج قدر ذلك بخمسين ألف سنة ، قال تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ* فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) [المعارج : ٤ ، ٥].

وفي سورة الم تنزيل السجدة قدر بألف سنة فقط ، قال تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [السجدة : ٥] ومن أجل هذا الاختلاف في مدة العروج ظن كثير من المفسرين أنهما يوما متغايران ، وليس المراد بهما يوما واحدا ، فاليوم المذكور بذي المعارج هو يوم المعاد كما يفيده السياق في قوله تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً* وَنَراهُ قَرِيباً* يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) [المعارج : ٦ ، ٨] الآيات.

وأما اليوم المذكور في الم تنزيل فهو في الدنيا ، واختار المؤلف رحمه‌الله أن المراد بهما يوم واحد ، وأن العروج فيه إلى الله عزوجل ، وانما اختلفت المدة في الآيتين ، فكانت في احداهما ألفا وفي الأخرى خمسين ألفا لاختلاف المسافة المقطوعة في كل منهما ، فالألف جعلت مدة لنزول الملائكة وصعودهم إلى السماء الدنيا ، فإن المسافة بين الأرض والسماء الدنيا قدرت في الأحاديث بخمسمائة عام فإذا قدر نزولهم وصعودهم كان المجموع ألف سنة. وأما الخمسون ألفا فهي المدة التي يعرجون فيها من فوق السبع الطباق من عند العرش إلى المركز الأسفل الذي هو الحضيض.

* * *

واختار هذا القول في تفسيره البغوي ذاك العالم الرباني

٢٠٥

ومجاهد قد قال هذا القول لكن ابن اسحاق الجليل الشأن قال المسافة بيننا والعرش ذا المقدار في سير من الإنسان

والقول الأول قول عكرمة وقو

ل قتادة وهما لنا علمان

واختاره الحسن الرضي ورواه عن

بحر العلوم مفسر القرآن

ويرجع القول الذي قد قاله

ساداتنا في فرقهم أمران

إحداهما ما في الصحيح لمانع

لزكاته من هذه الأعيان

يكوي بها يوم القيامة ظهره

وجبينه وكذلك الجنبان

خمسون ألفا قدر ذاك اليوم في

هذا الحديث وذاك ذو تبيان

الشرح : هذا القول الذي اختاره المؤلف من أن المراد باليومين يوم واحد وأن الاختلاف في الزمن مبني على اختلاف المسافة المقدرة لكل منهما قد اختاره الإمام البغوي في تفسيره ، وهو مروي أيضا عن مجاهد الذي هو أشهر من نقل عن ابن عباس حتى قال فيه القائل (إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به) وأما ابن اسحاق صاحب السيرة فقال : أن الاختلاف يرجع الى كيفية السير فالمسافة التي بيننا وبين العرش تقطع بسير الانسان في هذا المقدار وهو خمسون الف سنة.

وأما القول الأول الذي فرق بين اليومين ، فجعل أحدهما وهو المذكور بذي المعارج ليوم المعاد ، والآخر في هذه الدنيا فقد ذهب إليه جل المفسرين عكرمة وقتادة ، واختاره الحسن البصري وأسنده الى ابن عباس رضي الله عنهما ، ومما يرجح هذا القول ما ورد في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام «ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته الا أحمي عليه في نار جهنم ، فيجعل صفائح فتكوى بها جنباه وجبهته حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين الف سنة» الحديث بطوله رواه أحمد ومسلم.

وقد مال إلى هذا الفرق أيضا علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن آل سعدي غفر الله له في شرحه على القصيدة النونية فقال (والظاهر لي أن آية المعارج التقدير

٢٠٦

فيها ليوم القيامة ، وأن معنى الكلام الاخبار بعظمة ذلك اليوم وطوله العظيم ، وأنه في ذلك اليوم يظهر للخلائق من عظمة الرب وعظمة ملكه وكمال تدبيره ، وأن أمور الملك وتدابيره تعرج بها الملائكة إليه وتنزل فيها منه ، والسياق في الآيات التي في المعارج ، يدل على ذلك. وأما تقديره بالألف في سورة السجدة فإنه في الدنيا ، لأن السياق أيضا يدل عليه ، فإنه في سياق بيانه في الدنيا ليعرفوا عظمة الله وكبرياءه ونفوذ تدبيره).

فالظاهر اليومان في الوجهين يو

م واحد ما أن هما يومان

قالوا وإيراد السياق يبين المض

مون منه بأوضح التبيان

فانظر الى الإضمار ضمن يرونه

ونراه ما تفسيره ببيان

فاليوم بالتفسير أولى من عذا

ب واقع للقرب والجيران

ويكون ذكر عروجهم في هذه الدني

ا ويوم قيامة الابدان

فنزولهم أيضا هنالك ثابت

كنزولهم أيضا هنا للشأن

وعروجهم بعد القضا كعروجهم

أيضا هنا فلهم اذا شأنان

ويزول هذا السقف يوم معادنا

فعروجهم للعرش والرحمن

هذا وما اتضحت لدي وعلمها الم

وكول بعد لمنزل القرآن

وأعوذ بالرحمن من جزم بلا

علم وهذا غاية الامكان

والله أعلم بالمراد بقوله

ورسوله المبعوث بالفرقان

الشرح : يعني أن الظاهر هو كون اليومين المذكورين في آية المعارج وحديث مانع الزكاة يوم واحد لا يومان ، وايراد السياق في كل من السورة الكريمة ، والحديث يبين أن المراد به يوم واحد هو يوم المعاد بأوضح بيان وأجلاه ، ونحن إذا تأملنا في الضمير الواقع مفعولا في كل من يرونه ونراه والى مرجعه في الكلام السابق وجدنا أن رجوعه الى اليوم وتفسيره به أولى من رجوعه إلى عذاب واقع وذلك لأن اليوم أقرب مذكور ، ويكون حينئذ ما في آية السجدة بيانا لعروجهم في هذه الدنيا ، وما في آية المعارج بيانا لعروجهم يوم القيامة ، ولهم كذلك نزولان نزول يوم القيامة ، وهو المشار إليه لقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ

٢٠٧

بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان : ٢٥] ونزولات في الدنيا للقيام بما يكلفهم الله بهم من شئون خلقه ، وإليه الإشارة لقوله تعالى : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم : ٦٤] وقوله : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ) [القدر : ٤ ، ٥] وعروجهم بعد فصل القضاء وفراغ الله عزوجل من محاسبة الخلق ، هو كعروجهم في هذه الدنيا هو الى العرش والرحمن ، ولكن العروج الأول يكون بعد زوال هذا السقف ، يعني السموات السبع ، وطيها كطي السجل للكتب ، فلا يبقى هناك مراحل للصعود والعروج.

وبعد أن ساق المؤلف رحمه‌الله كلا من المذهبين ، المذهب الذي اختاره هو والمذهب الذي رواه عن جمهرة المفسرين ، وبعد ان ساق الأدلة المقوية لهذا المذهب الثاني أعتذر بأن المسألة لم تتضح له تماما ، ووكل علمها إلى الله عزوجل ، واستعاذ بالله من أن يقطع فيها برأي على غير علم وبينة ، وقال ان هذا هو أقسى ما امكنه من تحقيقها ، والله ورسوله أعلم بالمراد من كلامه عزوجل.

* * *

فصل

هذا وخامسها صعود كلامنا

بالطيبات إليه والاحسان

وكذا صعود الباقيات الصالحا

ت إليه من أعمال ذي الايمان

وكذا صعود تصدق من طيب

أيضا إليه عند كل أوان

وكذا عروج ملائك قد وكلوا

منا بأعمال وهم بدلان

فإليه تعرج بكرة وعشية

والصبح يجمعهم على القرآن

كي يشهدون ويعرجون إليه بالاعم

ال سبحان العظيم الشأن

وكذاك سعي الليل يرفعه الى ال

رحمن من قبل النهار الثاني

وكذاك سعي اليوم يرفعه له

من قبل ليل حافظ الانسان

الشرح : هذا هو خامس الوجوه النقلية ، وهو اخباره سبحانه بصعود الكلم

٢٠٨

الطيب والأعمال الصالحة إليه ، قال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] وكذا تصعد إليه الصدقة اذا كانت من كسب طيب ، فقد أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يصعد الى الله تعالى الا الطيب ، فإن الله عزوجل يقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل أحد».

وكذلك ورد الأثر بأن أعمال العباد يعرج بها إلى الله الملائكة الموكلون بها فيصعد بها ملائكة النهار بعد صلاة العصر ، وملائكة الليل بعد صلاة الفجر ، روى الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمعه يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الملائكة يتعاقبون فيكم ، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ، ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم ، فيقول كيف تركتم عبادي؟ فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون» ولهذا كان الأرجح في الصلاة الوسطى أنها صلاة العصر ، وقال تعالى في صلاة الفجر : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [الاسراء : ٧٨] يعني تشهده الملائكة ، ثم يعرجون الى الله بالأعمال بعد الفراغ من الصلاة.

وورد كذلك ان عمل الليل يرفع إليه سبحانه قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : «قام فينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربع كلمات فقال : «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل النار وعمل النار قبل عمل الليل حجابه النور أو قال النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجه ما انتهى إليه بصره من خلقه».

* * *

وكذلك معراج الرسول إليه ح

ق ثابت ما فيه من نكران

بل جاوز السبع الطباق وقد دنا

منه الى أن قدرت قوسان

٢٠٩

بل عاد من موسى إليه صاعدا

خمسا عداد الفرض في الحسبان

وكذاك رفع الروح عيسى المرتضى

حقا إليه جاء في القرآن

وكذاك تصعد روح كل مصدق

لما تفوز بفرقة الابدان

حقا إليه كي تفوز بقربه

وتعود يوم العرض للجثمان

وكذا دعا المضطر أيضا صاعد

أبدا إليه عند كل اوان

وكذا دعا المظلوم أيضا صاعد

حقا إليه قاطع الأكوان

الشرح : وكذلك ثبت بالأحاديث الصحيحة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الاسراء عرج بشخصه يقظة الى السماء فقد جاء في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه : «ثم عرج به الى الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو ادنى فأوحى الى عبده ما أوحى وفرض له خمسين صلاة فرجع حتى مر على موسى فقال : بم أمرت؟ قال بخمسين صلاة ، فقال أن أمتك لا تطيق ذلك أرجع إلى ربك فأسأله التخفيف لأمتك فالتفت الى جبرائيل كأنه يستشيره في ذلك فأشار أن نعم أن شئت فعلا به جبريل حتى جاء به الى الجبار تبارك وتعالى وهو في مكانه فوضع عنه عشرا ، ثم نزل حتى مر بموسى فأخبره ، فقال ارجع الى ربك فأسأله التخفيف فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله تبارك وتعالى حتى جعلها خمسا فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف فقال قد استحييت من ربي ولكن أرضى وأسلم ، فلما نفذ نادى مناد قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي».

وكذلك أخبر الله عنه عيسى روح الله وكلمته انه رفعه إليه لما أراد اليهود قتله قال تعالى: (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : ٥٥] وقال (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) [النساء : ١٥٨] وقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «كيف انتم اذا نزل ابن مريم من السماء فيكم وإمامكم منكم» والمراد بهذا نزوله من السماء بعد رفعه الى الله عزوجل.

٢١٠

وكذلك ثبت أن روح المؤمن حين تفارق جسده عند الموت تصعد بها ملائكة الرحمة حتى تقف بين يدي الله عزوجل ، وأنها تنعم هناك بقربه في الجنة حتى تعود إلى جسدها يوم القيامة ، وكذاك يرفع إليه دعاء المضطرين فيجيب ما دعوه إليه ان شاء كما قال سبحانه : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) [النمل : ٦٢] ودعاء المظلومين فينتقم لهم ممن ظلمهم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ حين بعثه الى اليمن «واتق دعوة المظلوم فأنها ليس بينها وبين الله حجاب» وردد ان الله يرفعها فوق الغمام ويقول وعزتي لأجيبنك ولو بعد حين.

* * *

فصل

هذا وسادسها وسابعها النزول

كذلك التنزيل للقرآن

والله أخبرنا بأن كتابه

تزيله بالحق والبرهان

أيكون تنزيلا وليس كلام من

فوق العباد اذاك ذو إمكان

أيون تنزيلا من الرحمن والر

حمن ليس مباين الأكوان

وكذا نزول الرب جل جلاله

في النصف من ليل وذاك الثاني

فيقول لست بسائل غيري بأح

وال العباد أنا العظيم الشأن

من ذاك يسألني فيعطي سؤله

من ذا يتوب الى من عصيان

من ذاك يسألني فأغفر ذنبه

فأنا الودود الواسع الغفران

من ذا يريد شفاءه من سقمه

فأنا القريب مجيب من ناداني

ذا شأنه سبحانه وبحمده

حتى يكون الفجر فجرا ثان

يا قوم ليس نزوله وعلوه

حقا لديكم بل هما عدمان

وكذا يقول ليس شيئا عندكم

لا ذا ولا قول سواه ثان

كل مجاز لا حقيقة تحته

أول وزد وانقص بلا برهان

الشرح : هذا بيان للوجهين السادس والسابع من الأدلة النقلية الدالة على علوه

٢١١

تعالى وهما نزوله سبحانه إلى السماء الدنيا كل ليلة على ما وردت به الأحاديث الصحيحة المتواترة في المعنى ، والثاني تنزيله القرآن من عنده كما نطقت به الآيات في مثل قوله تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل : ١٠٢] وقوله في أول سورة [غافر : ١ ، ٢](حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) وقوله : (حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [فصلت : ١ ، ٢] وفي أول سورة [الزمر : ١](تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) الخ. وهذا التنزيل يقتضي علو من أنزله وكونه فوق عرشه مباينا لخلقه ، فإن التنزيل مصدر نزل بمعنى القي الشيء من أعلى الى أسفل فيكون الملقى عاليا على من أنزله إليهم والا لم يصح تسميته تنزيلا إذا كان المتكلم به ليس فوق عباده ولا مباينا لهم بل يسمى بغير ذلك مما لا يقتضي العلو كالتبليغ والتوصيل.

وأما نزوله تبارك وتعالى فقد ورد من طرق متعددة فيها اختلاف في بعض الالفاظ ففي بعضها انه ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر ، وفي بعضها أنه ينزل حين يتعار من الليل شطره الأول ولكنها كلها متفقة على اثبات النزول وأنه الى السماء الدنيا ويقول سبحانه اذا نزل لا أسأل عن عبادي غيري من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له ، من ذا الذي يدعوني فأستجب له ويظل هكذا سبحانه الى أن يطلع الفجر الثاني الذي يعرف بالصادق.

ولا شك ان معنى النزول معروف لا يمكن جحده ولا المماراة فيه وتأويل ذلك بنزول الملك او بقرب الرحمة كما يقوله المعطلة اخراج للكلام عن معناه المتبادر منه بلا قرينة ، فإن ادعوا ان النزول الحسي مستحيل لأنه يقتضي هبوطا وانتقالا من مكان إلى آخر وتفريغ محل وشغل آخر وان تكون السماء ظرفا للرب تبارك وتعالى قلنا لهم نحن نثبت النزول على ما اراده الله عزوجل بلا خوض في كيفيته فلا يقتضي نزوله عندنا شيئا من هذه اللوازم الفاسدة التي يقتضيها نزول المخلوق وأما هم فلا يثبتون له نزولا ولا علوا ، بل ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله بدعوى ان ذلك من لوازم الجسم ، وأنه يقتضي المشابهة ،

٢١٢

وكذلك ينفون عنه أنه يقول هذه الكلمات التي تضمنها هذا الحديث كما ينفون عنه كل قول آخر وكل ذلك عندهم محمول على المجاز والتأويل بلا دليل ولا برهان.

* * *

هذا وثامنها بسورة غافر

هو رفعة الدرجات للرحمن

درجاته مرفوعة كمعارج

أيضا له وكلاهما رفعان

وفعيل فيها ليس معنى فاعل

وسياقها يأباه ذو التبيان

لكنها مرفوعة درجاته

لكمال رفعته على الأكوان

هذا هو القول الصحيح فلا تحد

عنه وخذ معناه في القرآن

فنظيرها المبدى لنا تفسيرها

في ذي المعارج ليس يفترقان

والروح والأملاك تصعد في معا

رجه إليه جل ذو السلطان

ذا رفعة الدرجات حقا ما هما

الا سواء أو هما شبهان

فخذ الكتاب ببعضه بعضا كذا

تفسير اهل العلم للقرآن

الشرح : هذا هو الوجه الثامن ، وهو اخباره سبحانه عن نفسه في سورة غافر بأنه رفيع الدرجات ، ولا يصح أن يكون رفيع هنا بمعنى رافع. فإن السياق يأباه ، فقد وصف الله نفسه قبل هذا بأنه العلي الكبير ، ثم وصف نفسه بعد ذلك بأنه رفيع الدرجات ذو العرش ، فالأوصاف كلها راجعة الى رفعته هو وارتفاعه على خلقه لا الى رفعه بعض خلقه على بعض درجات ، كما فهمه من لا يحسن تذوق كلام الله عزوجل ، ولكن فعيل هنا بمعنى مفعول ، والمراد أن درجاته مرفوعة لكمال علوه على خلقه ، فهو كقوله تعالى [المعارج : ٣](مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) يعني المصاعد التي تصعد فيها الملائكة إليه جل سلطانه ، فهي درجات بعضها فوق بعض ، وانتهاؤها إليه سبحانه هذا هو التفسير الذي يجب المصير إليه ، فإن الله قد أنزل القرآن يصدق بعضه بعضا ، وخير ما يفسر به القرآن هو القرآن.

* * *

٢١٣

فصل

هذا وتاسعها النصوص بأنه

فوق السماء وذا بلا حسبان

فاستحضر الوحيين وأنظر ذاك تلق

اه مبينا واضح التبيان

ولسوف نذكر بعض ذلك عن قر

يب كي تقوم شواهد الايمان

وإذا أتتك فلا تكن مستوحشا

منها ولا تك عندها بجبان

ليست تدل على انحصار إلهنا

عقلا ولا عرفا ولا بلسان

اذ أجمع السلف الكرام بأن معن

اها كمعنى الفوق بالبرهان

أو أن لفظ سمائه يعني به

نفس العلو والمطلق الحقاني

والرب فيه وليس يحصره من ال

مخلوق شيء عز ذو السلطان

كل الجهات بأسرها عدمية

في حقه هو فوقها ببيان

قد بان عنها كلها فهو المحي

ط ولا يحاط بخالق الأكوان

ما ذاك ينقم بعد ذو التعطيل من

وصف العلو لربنا الرحمن

أيرد ذو عقل سليم قط ذا

بعد التصور يا أولي الأذهان

والله ما رد امرؤ هذا بغ

ير الجهل أو بحمية الشيطان

الشرح : هذا هو الوجه التاسع ، وهو ما صرحت به النصوص التى لا تحصى كثرة من الكتاب والسنة بأن الله عزوجل في السماء ، ومن يستحضرهما وينظر فيهما يلق ذلك في غاية الوضوح والبيان ، فمن الكتاب قوله عزوجل : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ* أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) [الملك : ١٦ ، ١٧].

ومن السنة قوله عليه الصلاة والسلام «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء» وقوله «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء». وقوله في الرقية «ربنا الله الذي في السماء تقدس أسمك» الخ الحديث.

وقوله لابي حصين : كم إلها تعبد؟ فقال سبعة ، ستة في الأرض وواحد في السماء ، فمن تعد لرغبتك ورهبتك؟ فقال الذي في السماء ولم ينكر عليه الرسول

٢١٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله انه في السماء ، ومثل ذلك قوله للجارية : اين الله؟ فقالت في السماء ، فقال لسيدها اعتقها فانها مؤمنة.

وينبغي لرجل السنة أن لا يستوحش من قراءة هذه الآيات والأحاديث ولا يتهيب الاستدلال بها على علوه تعالى على خلقه لما فيها من ايهام انحصاره تعالى في بعض مخلوقاته على ما «في» من معنى الظرف ، لانا نقول انها لا تدل على الانحصار عقلا ولا عرفا ولا لغة ، فقد أجمع السلف على أن «في» هنا ليست على معناها من الظرفية ، وانما هي بمعنى «على» كما في قوله تعالى : (لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] فهي هنا بمعنى الفوق للاتفاق على أن الله لا يحصره ولا يحيط به شيء من خلقه ، أو يراد من السماء في الآيات والأحاديث جهة العلو ، ولا شك أن الله في هذه الجهة ، فله العلو المطلق على سائر خلقه ، بحيث لا يكون شيء منها حاصرا له ولا محيطا به ، فهو سبحانه ليس في جهة وجودية من هذه الجهات الواقعة داخل هذا العالم ، ولكن الجهات كلها بالنسبة إليه عدمية ، فإنه فوق عرشه ، والعرش هو الجسم الذي تنتهي به كرة العالم ، فالله عز شأنه هناك حيث انتهت جميع المخلوقات ، فهو فوقها مباين لها محيط بها ، ولا يحيط به شيء منها.

فإذا فهم علوه تعالى على خلقه بهذا المعنى ، فما الذي ينكره المعطل على من أثبت هذا العلو وصفا لله عزوجل ما دام هذا العلو لم يقتض حلولا ولا انحصارا والا اتصالا بالمخلوق. وهل يجوز لمن عنده مسكة من العقل السليم والفهم الصحيح أن يرد هذا بعد تصوره على هذا النحو الذي لا يقتضي نقصا ولا محالا ، ان رده وانكاره لا يكون إلا عن أحد أمرين لا ثالث لهما : اما جهل بحقيقته وعدم فهم لمعناه ، واما تعصب وحمية وطاعة للشيطان الرجيم.

* * *

فصل

هذا وعاشرها اختصاص البعض

من أملاكه بالعند للرحمن

٢١٥

وكذا اختصاص كتاب رحمته

بعند الله فوق العرش ذو تبيان

لو لم يكن سبحانه فوق الورى

كانوا جميعا عند ذي السلطان

ويكون عند الله إبليس وجبريل

هما في العند مستويان

وتمام ذاك القول أن محبة

الرحمن عين إرادة الأكوان

وكلاهما محبوبه ومراده

وكلاهما هو عنده سيان

الشرح : هذا هو الوجه العاشر ، ويقوم على ما وردت به النصوص من الكتاب والسنة ، من اختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده سبحانه ، فمن الكتاب قوله تعالى في شأن الملائكة : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) [الأنبياء : ١٩] وقوله في شأنهم أيضا : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) [فصلت : ٣٨] وقوله تعالى في أهل الجنة : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٤ ، ٥٥] ومن السنة مثل قوله عليه الصلاة والسلام «ان الله كتب كتابا فهو عنده فوق العرش ان رحمتي سبقت غضبي».

فهذا من أعظم الأدلة على علوه تعالى على خلقه ، فتكون بعض مخلوقاته أقرب إليه من بعض ، إذ لو لم يكن كذلك لما كان هناك معنى لاختصاص بعضها بالقرب منه ، بل تكون جميعا عنده سواء ، بل يكون أقربها وهو جبريل عليه‌السلام بمنزلة ، أبعدها وهو إبليس في تلك العندية ، وهذا لازم للجهمية الذين نفوا علوه تعالى ومنعوا نسبة العباد إليه بالقرب والبعد ، وجعلوا نسبتهم إليه نسبة واحدة ، وزعموا أن محبته عين ارادته. وأن كل ما أراده الله فقد أحبه ، فلزمهم على هذا أن يكون كل من جبريل وابليس مرادا له ومحبوبا ، وأن يكون كلاهما سواء عنده والحق أن محبته سبحانه غير ارادته للأشياء بالارادة الكونية القدرية ، لأن المحبة انما تتعلق بما يأمر الله به عباده ويريده منهم شرعا ، وهذا ليس بلازم أن يقع فقد لا يريده الله كونا وقدرا ، وأما الإرادة الكونية فتتعلق بكل كائن. سواء كان مما يحبه الله ويرضاه ، أو كان مما يبغضه ويسخطه.

* * *

٢١٦

ان قلتم عندية التكوين فالذاتان عند الله مخلوقان أو قلتم عندية التقريب تقريب الحبيب وما هما عدلان

فالحب عندكم المشيئة نفسها

وكلاهما في حكمها مثلان

لكن منازعكم يقول بأنها

عندية حقا بلا روغان

جمعت له حب الإله وقربه

من ذاته وكرامة الإحسان

والحب وصف وهو غير مشيئة

والعند قرب ظاهر التبيان

الشرح : يعني يقال لهؤلاء الجهمية الذين ينفون العندية الحقيقية المستلزمة لقرب بعض عباده منه قربا حقيقيا ، كما دلت عليه الآيات والأحاديث ، بما ذا تفسرون تلك العندية؟ فإن قلتم إنها عندية تكوين ، فقد نفيتم أن يكون لجبريل زيادة اختصاص على عدو الله إبليس في ذلك ، إذ لا شك أن ذات كل منهما مخلوقة لله ، فهما في تلك العندية سواء.

وإن قلتم انها عندية تقريب ومحبة ، وليس جبريل وإبليس في حكمها سواء ، فقد نقضتم مذهبكم ، فإنكم تقولون ان المشيئة عين المحبة ، ولا شك أن جبريل وابليس في حكم المشيئة سواء ، فيكونان كذلك في المحبة أيضا ، فإن المتماثلين في حكم أحد المتساويين يتماثلان في حكم الآخر.

وإذا بطل تفسير العندية على الوجهين عندكم ، فالحق ما ذهب إليه السلف من أن العندية هنا على حقيقتها ، فهي تجمع لمن ثبتت له حب الإله عزوجل وقربه من ذاته وكرامته بإحسانه ، وذلك لأن لفظ العند واضح في معنى القرب ، وهو قرب ذات ومحبة واحسان ، ولا يلزم من قرب المحبة عموم ذلك لكل كائن ، لأن الحب غير المشيئة.

* * *

فصل

هذا وحادي عشر هن اشارة

نحو العلو بإصبع وبنان

٢١٧

لله جل جلاله لا غيره

إذ ذاك اشراك من الانسان

ولقد أشار رسوله في مجمع

الحج العظيم بموقف الغفران

نحو السماء بإصبع قد كرمت

مستشهدا للواحد الرحمن

يا رب فاشهد انني بلغتهم

ويشير نحوهم لقصد بيان

فغدا البنان مرفعا ومصوبا

صلى عليك الله ذو الغفران

أديت ثم نصحت إذ بلغتنا

حق البلاغ الواجب الشكران

الشرح : هذا هو الوجه الحادي عشر ، وهو الإشارة بالأصبع إلى جهة العلو عند ذكر الله عزوجل أو اشهاده على أمر من الأمور ، فلا شك أن تلك الإشارة ينبغي أن لا تكون إلا لله ، فإن الاشارة الى غيره في مثل هذا المقام اشراك ، ولقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يخطب الناس يوم المجمع العظيم بعرفة في حجة الوداع يشير بإصبعه الكريمة إلى السماء كلما ألقى إليهم أمرا من أمور الدين ووصاياه قائلا : الا هل بلغت اللهم فأشهد ثم يخفضها إليهم وهذا من أقوى الادلة على علوه تعالى وفوقيته اذ لو كانت كل الامكنة والجهات إليه متساوية لما كان هناك معنى للاشارة إلى جهة العلو بالذات بل لم يكن هناك حاجة إلى الاشارة أصلا ، فصلوات الله وسلامه على من هو أعلم الخلق بربه وبما ينبغي له من التنزيه ، لقد أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح لأمته ، فجزاه الله عنها خير ما يجزي به رسولا كريما ، وقائدا برا رحيما.

* * *

فصل

هذا وثاني عشرها وصف الظهو

ر له كما قد جاء في القرآن

والظاهر العالي الذي ما فوقه

شيء كما قد قال ذو البرهان

حقا رسول الله ذا تفسيره

ولقد رواه مسلم بضمان

فاقبله لا تقبل سواه من التفا

سير التي قيلت بلا برهان

والشيء حين يتم منه علوه

فظهوره في غاية التبيان

٢١٨

أو ما ترى هذي السما وعلوها

وظهورها وكذلك القمران

والعكس أيضا ثابت فسفوله

وخفاؤه إذ ذاك مصطحبان

الشرح : هذا هو الوجه الثاني عشر وهو ما وصف الله به نفسه في كتابه من الظهور ، قال الله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) [الحديد : ٣].

ومعنى الظاهر في الآية هو العالي الذي لا شيء فوقه كما فسره بذلك أعلم الخلق بمعاني أسماء الله وصفاته محمد عبد الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه ، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أراد أحدكم أن ينام فليضطجع على شقه الأيمن ثم ليقل : اللهم رب السموات ورب الأرض رب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء ، فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والفرقان أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعد شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر» والشاهد هنا في قوله : وأنت الظاهر فليس فوقك شيء. فلا شك أن ما بعد الفاء تفسير لما قبلها ونفي فوقية شيء عليه يستلزم علوه المطلق على كل ما سواه ، وهذا التفسير المأثور يتعين المصير إليه وعدم الالتفات إلى ما سواه مما يعرف به من لا علم عندهم بمعاني أسمائه سبحانه من المعطلة الذين يؤولون الظهور هنا بأنه ظهور القدرة أو الغلبة ، أو بأنه ظهوره في أفعاله ووضوح دلالتها على وجوده ، فكلها تفاسير لا دليل عليها ، ولا يجوز لمؤمن بعد ورود التفسير عنه عليه‌السلام لاسم من أسمائه تعالى أن يضع له هو تفسيرا من عنده أو يلتفت إلى ما فسره الناس به فقد قطعت جهيزة قول كل خطيب ، ومما يشهد لصحة هذا التفسير دون ما سواه ، اننا نرى في الشاهد أن الشيء كلما تم علوه كان في غاية الظهور فالعلو والظهور متلازمان بحيث يصح أن يقال كل عال ظاهر وبالعكس. ومثال ذلك أن السماء والشمس والقمر لما كانت فوق

٢١٩

الأرض كانت ظاهرة لأهلها ، ونشاهد كذلك أن السفول والخفاء متلازمان ، فالشيء كلما زاد سفوله زاد خفاؤه.

* * *

فانظر إلى علو المحيط وأخذه

صفة الظهور وذاك ذو تبيان

وانظر خفاء المركز الادنى ووصف

السفل فيه وكونه تحتاني

وظهوره سبحانه بالذات

مثل علوه فهما له صفتان

لا تجحدنهما جحود الجهم أو

صاف الكمال تكون ذا بهتان

وظهوره هو مقتض لعلوه

وعلوه لظهوره ببيان

وكذاك قد دخلت هناك الفاء

للتسبيب مؤذنة بهذا الشأن

فتأملن تفسير أعلم خلقه

بصفاته من جاء بالقرآن

إذ قال أنت كذا فليس لضده

أبدا إليك تطرق الاتيان

الشرح : ومما يدل على التلازم بين الظهور والعلو أن العرش وهو الجسم المحيط بالمخلوقات لما كان فوقها جميعا كان أشدها ظهورا كما أن المركز الادنى وهو الحضيض التحتاني لما كان أسفلها كان أشدها خفاء ، فظهوره سبحانه هو مقتض لعلوه وكذلك العكس فكل منهما صفة ثابتة له على الحقيقة لا يجوز جحدها ، ولا تأويلها بما يصرفها عن حقيقتها بلا دليل ، كما هو دأب الجهمية في تفهيم صفات الكمال عنه سبحانه وحملهم اياها على معان بعيدة متكلفة يعلم كل أحد أنها ليست هي المتبادر من اللفظ عند اطلاقه زاعمين أن قرينة العقل كافية في ذلك الصرف ، فيا لسخافة العقول ، ولما كان الظهور والعلو كما قدمنا كل منهما مقتض للآخر جاءت فاء السببية في كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤذنة باستلزام ما قبلها لما بعدها ، فكونه ظاهرا على الأشياء جميعا مستلزم أن لا يكون منها شيء فوقه ، ونفي فوقية شيء عليه مستلزم لاثبات علوه على كل شيء (١).

* * *

__________________

(١) قال ابن القيم : والمقصود أن التعبد باسمه الظاهر يجمع القلب على المعبود ، ويجعل له ربا ـ

٢٢٠