أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٢

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣١

«الفصل الحادى والعشرون»

فى الترك ، وتحقيق معناه

اعلم أن الترك : قد يطلق فى اللغة على عدم الفعل. ولهذا يصح أن يقال : ترك فلان الفعل الفلانى. إذا لم يفعله ، وسواء تعرض لضده ، أم لا.

وسواء كان قاصدا له ، أم لا. كما فى حالة النوم ، والغفلة. ولا مانع منه لغة مع شيوعه ، وإن خالف فيه بعض المتكلمين ؛ لكن بشرط أن يكون ذلك الفعل مقدورا فى العادة.

ولهذا : فإنه لا يحسن أن يقال : ترك فلان خلق الأجسام ، والألوان : عند عدم خلقه لهما ؛ حيث لم يكن الخلق له مقدورا ، وقد يطلق الترك (١) فى غالب اصطلاح المتكلمين : على موجود مقدور مضاد لموجود آخر مقدور فى العادة ؛ وذلك كما يقال :

ترك فلان الحركة يمنة بالحركة يسرة ، وكذلك بالعكس ، وترك فلان الحركة بالسكون ، وبالعكس ، ولا يحسن إطلاق ذلك عند كون كل واحد من الضدين غير مقدور.

ولهذا لا يحسن أن يقال : ترك فلان بقعوده ، أو قيامه : الصعود إلى السماء ، أو خلق الأجسام ، والألوان ؛ حيث لم يكن الصعود إلى السماء ، وخلق الأجسام والألوان ، مقدورا للعبد. ولا يحسن أن يقال : ترك فلان بحركته (٢) الاضطرارية ، الحركة الاختيارية. ولا بحركته (٢) الاضطرارية ، الصعود إلى السماء.

وعلى هذا : إن أوجبنا ربط الثواب والعقاب ، بالأفعال ؛ فلا يكون مرتبطا بالترك بمعنى عدم الفعل ؛ بل بالاصطلاح الأصولى. وإن لم يوجب ارتباطه بالفعل ؛ بل جوزنا نصب العدم علامة على الثّواب ، والعقاب ؛ فلا مانع من ارتباطه بالترك بالمعنى اللغوى.

وعلى كلا الاصطلاحين : فيمتنع إطلاق ترك خلق العالم فى الأزل على الله ـ تعالى ـ إذ الخلق فى الأزل غير مقدور.

ويخص امتناع ذلك على الاصطلاح الأصولى : أن الترك لذلك فعل مضاد لخلق العالم ، وتقدير فعل الله ـ تعالى ـ فى الأزل غير ممكن.

__________________

(١) فى ب (الخلق).

(٢) فى ب (الحركة الاضطرارية لا الحركة الاختيارية ولا الحركة).

٣٨١

فإن قيل : إذا اشترطتم على الاصطلاح الأصولى أن يكون الترك والمتروك / مقدورين ، فمن ترك الصلاة بفعل ضدها : فإما أن يقولوا : بأن الصلاة مقدورة حالة كون ضدها مقدورا ، أو لا يقولوا بكونها مقدورة.

فإن كان الأول : فهو خلاف أصلكم فى تعلق قدرة واحدة ، أو قدرتين بضدين معا ؛ ضرورة أن المقدور لا بد وأن يكون مقارنا للقدرة عند تعلقها به ، وذلك يفضى إلى اجتماع الضدين ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى : فالصلاة غير متروكة ؛ لفوات شرط الترك ؛ وهو خلاف الشرع. واصطلاح العقلاء وأهل اللسان.

قلنا : ليس المراد من قولنا : يجب أن يكون الترك ، والمتروك مقدورين معا ؛ بل على سبيل البدل ؛ وذلك لا ينافى ما ذكرناه.

ومن المعتزلة : من شرط فى الترك أن يكون التارك معتمدا بالفعل الانفكاك عن ضده.

وهو بعيد ؛ فإنه إذا لم يبعد كونه متصفا بالفعل مع عدم القصد : كما فى الفعل القليل فى حالة النوم ؛ فكذلك فى الترك.

ومن المعتزلة : من زعم أن الترك من أفعال القلوب : وهو انصراف القلب من ارتياد الفعل ؛ بخلاف أفعال الجوارح.

وهو بعيد أيضا ؛ فإن العرب تقول : ترك فلان القيام ، وإن لم يخطر لهم ما هجس فى (١) قلبه.

ومنهم : من لم يجوز إطلاق الترك على الله ـ تعالى ـ وهو خلاف قوله ـ تعالى (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) (٢).

وبالجملة : فالنزاع فى هذه الإطلاقات آئل إلى الاصطلاح ، ولا حرج فيه.

وإذ أتينا على ما أردناه من الأصول ، ونقحناه من الفصول ، فنعود إلى المقصود من خلق الأفعال.

__________________

(١) فى ب (له فى).

(٢) جزء من الآية رقم ١٧ من سورة البقرة.

٣٨٢

«القول فى خلق الأفعال (١)»

مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى (٢) : أنه لا تأثير للقدرة الحادثة فى حدوث مقدورها ، ولا فى صفة من صفاته. وإن أجرى الله ـ تعالى ـ العادة بخلق مقدورها مقارنا لها ؛ فيكون الفعل خلقا من الله ـ تعالى ـ إبداعا ، وإحداثا ، وكسبا من العبد ؛ لوقوعه مقارنا للقدرة (٣).

ووافقه على ذلك جماعة من أصحابه ، والقاضى أبو بكر : فى أحد أقواله ، والنجار من المعتزلة.

وذهب القاضى أبو بكر فى قول آخر : إلى أن القدرة الحادثة مؤثرة لا فى نفس الفعل القائم بمحل القدرة ؛ بل فى صفة وحالة للفعل ، وهى ما تقول المعتزلة : إنها من توابع الحدوث والوجود ؛ وذلك لأن المفهوم من الفعل مطلقا ، ومن كونه حادثا : أعم من المفهوم من خصوص القيام والقعود ، وغيره من الأفعال الخاصة من حيث / هو قيام ، وقعود ؛ فالقدرة القديمة مستقلة بالتأثير فى أصل الفعل ، ووجوده.

وأما القدرة الحادثة : فهل هى مستقلة بالتأثير فى الصفة؟ اختلف قوله فيه.

فقال مرة : بأنها أثر للقدرة القديمة ، والحادثة ، وأثبت مقدورا بين قادرين من جهة واحدة ، ووافقه على ذلك ضرار بن عمرو.

وقال مرة : وعليه تعويله. إن القدرة الحادثة مستقلة بالتأثير فى تلك الصفة ، ولا تأثير للقدرة القديمة فيها ، كما لا تأثير للقدرة الحادثة فى مقدور القدرة القديمة.

ووافقه على هذا الأستاذ أبو إسحاق ، وذلك مما يبعد من الأستاذ أبى إسحاق مع اشتهار إنكاره للأحوال.

__________________

(١) فى ب (الأعمال).

(٢) زائد فى ب (رضى الله عنه).

(٣) فى ب (لقدرته).

٣٨٣

وذهب إمام الحرمين : إلى أن إثبات قدرة لا أثر لها بوجه : كنفى القدرة ، وإثبات تأثيرها فى حالة لا تعقل : كنفى التأثير ؛ فلا بد من نسبة فعل العبد إلى قدرته (١) وجودا. وإلى قدرة الله ـ تعالى ـ بواسطة خلق قدرة العبد عليه.

وذهب أكثر المعتزلة : إلى أن القدرة الحادثة موجبة لحدوث مقدورها ، وأنه لا تأثير للقدرة القديمة فيه ، كما لا تأثير للقدرة الحادثة فى مقدور القدرة القديمة.

وعند هذا : فلا بد من الإشارة إلى إبطال تأثير القدرة الحادثة فى حدوث مقدورها (٢). ثم نحقق (٢) بعده إبطال مذهب القاضى ، والإمام أبى المعالى. ونحقق بعده اختيار الشيخ أبى الحسن فى الكسب ، والخلق آخرا.

فنقول : أما أن القدرة الحادثة غير مؤثرة فى حدوث مقدورها ؛ فقد استدل عليه الأصحاب بمسالك ضعيفة.

المسلك الأول :

أنه لو جاز تأثير القدرة الحادثة فى الفعل بالإيجاد ، والإحداث ؛ لجاز تأثيرها فى إيجاد كل موجود ، واللازم ممتنع ؛ فكذا الملزوم.

وبيان الملازمة من وجهين :

الأول : هو (٣) أن الوجود (٣) قضية واحدة مشتركة بين جميع الموجودات الممكنة على ما سبق تقريره.

وإن اختلفت محاله ، وجهاته. ويلزم من صحة تأثير القدرة فيه فى البعض الصحة فى الكل ؛ ضرورة اتحاد المتعلق ، وأن ما ثبت لأحد المثلين ؛ يكون ثابتا للآخر.

الثانى : هو أن المصحح للتأثير فى البعض : إنما هو الإمكان المشترك على ما سبق فى امتناع خالق غير الله ـ تعالى ـ ويلزم من الاشتراك فى المصحح لتأثير القدرة الحادثة فى المقدور ؛ الاشتراك فى صحة التأثير.

__________________

(١) فى ب (تركه).

(٢) فى ب (لم يتحقق).

(٣) فى ب (أن الواحد).

٣٨٤

وبيان امتناع اللازم :

أنها غير مؤثرة فى إيجاد الأجسام ، وما عدا الأفعال / القائمة بمحل القدرة من الأعراض : كالطعوم ، والروائح ، والألوان ، ونحو ذلك بالاتفاق ، ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم ؛ وهو غير سديد ؛ لما حققناه فى امتناع خالق غير الله ـ تعالى.

والّذي يخصه هاهنا : هو أن غير ما ذكروه فى امتناع تأثير القدرة الحادثة فى الإيجاد لازم على القول بجواز تعلق القدرة الحادثة ببعض الموجودات دون البعض.

وإن لم يكن تعلق تأثير ؛ فما هو الجواب عن صورة الإلزام ؛ فهو بعينه جواب فى محل الاستدلال ، ولا مخلص منه (١).

المسلك الثانى :

أنه لو كانت مقدورات العباد مخلوقة لهم ؛ لما كانت مخلوقة لله ـ تعالى ـ لأنها لو كانت مخلوقة لله ـ تعالى ـ : فإما أن تكون مخلوقة له وحده ، أو له وللعبد.

لا جائز أن يقال بالأول : وإلا لما كانت مخلوقة للعبد ؛ وهو خلاف الفرض.

ولا جائز أن يقال بالثانى : وإلا لزم منه وجود مخلوق بين خالقين ؛ وهو محال كما سبق (٢).

ولا جائز أن تكون غير مخلوقة لله ـ تعالى ـ : لأنها لو امتنع كونها مخلوقة لله ـ تعالى ـ لم يكن إلا لاستحالة مقدور بين قادرين ؛ واللازم ممتنع.

وبيانه : أنه قبل إقدار العبد على الفعل ؛ لم يكن الفعل مقدورا للعبد ؛ فيجب أن يكون مقدورا للرب ـ تعالى.

وبيانه : أن الفعل فى نفسه ممكن ، والمانع من كونه قادرا بعد إقدار العبد : إنما هو استحالة وقوع مقدور بين قادرين. وهذا المانع غير موجود قبل إقدار العبد ، وإذا كان مقدورا لله ـ تعالى ـ قبل إقدار العبد ، فعند إقداره على الفعل يستحيل أن يخرج ما كان

__________________

(١) فى ب (له).

(٢) انظر ل ٢١٧ / ب وما بعدها.

٣٨٥

مقدورا لله ـ تعالى ـ عن كونه مقدورا ؛ فإنه لو خرج عن كونه مقدورا للرب ـ تعالى ـ بسبب تعلق القدرة الحادثة به ، لم يكن أولى من امتناع تعلق القدرة الحادثة به ، واستيفاء تعلق القدرة القديمة ؛ بل بقاء ما كان على ما كان أولى من نفيه ، وإثبات ما لم يكن ، وإذا ثبت كونه مقدورا للرب ؛ وجب أن يكون الرب ـ تعالى ـ خالقه ، ومبدعه ، من حيث أنه يستحيل انفراد العبد بخلق ما هو مقدور لله ـ تعالى.

وهو ضعيف (أيضا) (١) إذ لقائل أن يقول :

وإن سلمنا الملازمة : فلا نسلم انتفاء اللازم.

والقول : بأنه لو امتنع كون أفعال العباد (٢) مخلوقة للرب ـ تعالى ـ لم يكن (إلا (٣) لامتناع (٣)) مقدور واحد بين قادرين ؛ لا نسلم الحصر. وما المانع من امتناع / كونها مخلوقة له ؛ لامتناع قبول قدرته لإيجاد الأفعال لذاتها وإن كان لمانع (٤) من خارج ؛ فما المانع أن يكون غير ما ذكرتموه؟ ولا طريق إلى نفيه بغير البحث ، والسبر ؛ وهو غير يقينى كما تقدم (٥).

ثم وإن سلمنا حصر المانع فيما ذكروه : ولكن لا نسلم انتفاء قولهم قبل إقدار العبد على الفعل : يجب أن يكون مقدورا للرب ـ تعالى ـ لا نسلم ذلك.

قولهم : لأن الفعل قبل إقدار العبد ممكن فى نفسه : والمانع من كون الرب قادرا عليه بعد إقدار العبد : إنما هو استحالة كون المقدور الواحد بين قادرين ؛ لا نسلم أيضا حصر المانع من كونه قادرا على فعل العبد فيما ذكرتموه. ولا سبيل إلى إثباته إلا بالبحث ؛ وهو غير يقينى.

ثم وإن سلمنا كونه مقدورا للرب قبل إقدار العبد : ولكن ما المانع أن يكون مقدورا له ، مشروطا بعدم إقدار العبد عليه. وعند إقدار العبد لا يكون مقدورا للرب ؛ لفوات شرطه.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) فى ب (العبد).

(٣) فى أ (الامتناع).

(٤) فى ب (المانع).

(٥) انظر ل ٣٩ / ب.

٣٨٦

ثم وإن سلمنا كونه مقدورا للرب ـ تعالى ـ قبل إقدار العبد مطلقا لا بشرط : فما المانع من أن يكون إقدار العبد مانعا من دوام اقتدار الرب ـ تعالى.

قولهم : ليس جعل الحادث مانعا من استمرار ما كان ، أولى من العكس.

قلنا : فتحتاجون إذن إلى (١) الترجيح (١) ؛ لأنكم فى مقام الاستدلال.

وما ذكروه من الترجيح ؛ فغير موجب لليقين. كيف : وهو مقابل بمثله ، فإن الشيء فى ابتداء وجوده لقربه من سببه يكون أقوى منه فى حالة (٢) دوامه ، لبعده من سببه كما تقدم.

ثم وإن سلمنا كونه مقدورا للرب مع كونه مقدورا للعبد : ولكن ليس نسبته إلى الله ـ تعالى ـ بالإيجاد ؛ لكونه مقدورا له : أولى من نسبته إلى العبد ؛ لكونه مقدورا له. والرب ـ تعالى ـ وإن كان أقدر من العبد ؛ فليس إلا بمعنى أن مقدوراته أكثر ، وأعظم ؛ وليس فى ذلك ما يوجب الترجيح بالنظر إلى مقدور واحد.

ولا سبيل إلى القول بكونه مخلوقا لهما ؛ لأنه محال على (٣) ما (٣) تقدم ؛ ولأنه على خلاف الإجماع.

المسلك الثالث :

أن الرب ـ تعالى ـ قادر على مثل جميع الأجناس التى هى مقدورة للعبد.

وعند ذلك : فيجب أن يكون قادرا على مقدور العبد ؛ فإنه لو لم يقدر عليه. لم يكن قادرا على مثله ؛ وهو خلف.

وإذا ثبت أنه قادر على أفعال العباد. فإذا حدثت : وجب أن تكون مخلوقة له ؛ لما تقدم فى المسلك الّذي قبله.

وهو أيضا / غير سديد ؛ إذ لقائل أن يقول :

لا نسلم أن الرب ـ تعالى ـ قادر على مثل مقدور العبد : على ما هو مذهب البلخى.

__________________

(١) فى ب (للترجيح).

(٢) فى ب (حال).

(٣) فى ب (كما).

٣٨٧

وإن سلم كونه قادرا على مثل فعل العبد : ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك أن يكون قادرا على فعل العبد. وما المانع أن يكون تعين ذلك الجنس شرطا ، أو أن تعين مقدور العبد مانع؟ ثم لو كان يلزم من تعلق قدرة الرب بمثل مقدور العبد ؛ لكونه مثلا له. أن تكون متعلقة بمقدور العبد ، للزم أن تتعلق قدرة العبد بمقدور (١) الرب ؛ لكونه قادرا على مثله على (٢) ما (٢) قررتموه ؛ وهو محال.

ثم (٣) وإن سلم (٣) كون الرب ـ تعالى ـ قادرا على فعل العبد ؛ فلا يلزم أن يكون هو الخالق له ، على ما سبق فى المسلك الّذي قبله.

المسلك الرابع :

لو كان العبد موجدا لأفعال نفسه : لأمكن أن يريد من أفعاله ما هو ضد مراد الله ـ تعالى.

وعند ذلك : فإما أن يقع مرادهما : وهو محال ؛ لما فيه من اجتماع الضدين. وإما أن لا يقع واحد من مرادهما : وهو أيضا محال ؛ لأن وجود كل واحد من المرادين ممكن الوقوع بتقدير انفراد مريده به ، وتعلق قادريته ، أو قدرته به. فلو لم يقع مرادهما : فإما أن يكون المانع من وقوع كل واحد من المرادين تعلق إرادة الآخر بمراده ، وقدرته بمقدوره. وإما أن يكون المانع من وقوع كل واحد من المرادين : وقوع مراد الآخر ؛ إذ لا نتخيل سواهما.

فإن كان الأول : فقد بينا فى المسلك الّذي قبله : أن كل ما كان مقدورا للعبد ؛ فهو مقدور للرب ـ تعالى ـ فإذا كان تعلق قدرة الرب بمقدور العبد مانعا من وقوع مقدور العبد بقدرته ؛ فهو المطلوب ؛ فعلم أن ذلك ليس هو المانع.

وإن كان الثانى : فإما أن يكون المانع من وقوع مراد كل واحد منهما وقوع مراد الآخر ، أو عدم وقوعه.

فإن كان الأول : فيلزم من امتناع وقوع المرادين ، وقوع المرادين ؛ وهو محال.

__________________

(١) فى ب (بمثل مقدور).

(٢) فى ب (كما).

(٣) فى ب (وإن سلمنا).

٣٨٨

وإن كان الثانى : فلا يخفى أن المانع لا بد وأن يكون منافيا لما منع منه. وعدم أحد المرادين ؛ غير مناف لوقوع المراد الآخر ؛ لتصور اجتماعهما.

وإما أن يقع مراد أحدهما دون الآخر : وهو أيضا محال ؛ لأن عدم حصول مراد أحدهما : إما أن يكون مع بقاء قادريته ، أو لا مع بقاء قادريته.

فإن كان الأول : فهو ممتنع ؛ لأن قادرية كل واحد منهما إذا كانت باقية ، فترجح مراد / أحدهما على الآخر : إما أن يكون لذات ذلك المراد ، أو لأمر من خارج.

لا جائز أن يقال بالأول : لأن مراد كل واحد منهما ممكن لذاته ، والممكن لذاته هو (١) ما فرض وجوده ، وعدمه بالنسبة إلى ذاته سيان.

وإن كان الثانى : فذلك الخارج لا بد وأن يرجع إلى ترجيح أحد القادرين على الآخر. إما بأن تأثيره فى مقدوره أكثر من تأثير الآخر فى مقدوره ، أو بأن ما يفعله بقادريته من الأمثال (٢) أكثر مما يفعله الآخر.

والأول باطل : لأن الموجود الواحد لا يقبل الزيادة والنقصان ؛ فلا يكون التأثير (٣) فيه (٣) قابلا للزيادة ، والنقصان.

والثانى : باطل ؛ لاستحالة اجتماع المثلين.

وأما إن كان عدم حصول مراده لا مع بقاء قدرته : فهو محال ؛ لأن أحد القادرين لا يمكنه إعدام قادرية الآخر حال حصول قادريته ؛ لما فيه من اجتماع الوجود ، والعدم فى شيء واحد من جهة واحدة.

وإن كان إعدامه لقادريته فى الحالة الثانية من حال وجود قادريته : فعدم القادرية فى الحالة الثانية من وجودها لا يمنع من وجود مقدورها ؛ لأنه إن كان وجود المقدور مقارنا للقدرة على ما هو مذهبنا ؛ فعدم القادرية فى الحالة الثانية لا يمنع من وجود المقدور مفارقا للقادرية فى الحالة الأولى.

__________________

(١) فى ب (مع).

(٢) فى ب (الامتثال).

(٣) فى ب (الثانى).

٣٨٩

وإن كان وجود المقدور لا يقع إلا فى الحالة الثانية من وجود القدرة : فعدم القدرة فى الحالة الثانية لا يمنع من وجود المقدور بها فى الحالة الثانية : كما هو مذهب المعتزلة ؛ كما سبق تقريره (١).

وهذه المحالات اللازمة : إنما لزمت من فرض كون العبد موجدا لأفعال نفسه ؛ فيكون محالا.

وهو من النمط الأول فى الضعف أيضا ؛ إذ لقائل أن يقول :

اجتماع الإرادة القديمة ، والحادثة على التضاد : إما أن يكون محالا ، أو لا يكون محالا.

فإن كان محالا : فهذه المحالات (٢) اللازمة من الأقسام المذكورة : إنما هى لازمة من فرض اجتماع الإرادتين ؛ لا من كون العبد خالقا لفعله.

وإن لم يكن اجتماع الإرادتين محالا : فيجب اعتقاد عدم الاستحالة فى بعض الأقسام اللازمة عند اجتماع الإرادتين ؛ لأن ما ليس بمحال لا يلزم عنه المحال.

وأيضا : فما المانع من عدم وقوع المرادين؟

قولهم : بأن وقوع كل واحد من المرادين ممكن بتقدير الانفراد : مسلم. ولكن لا يلزم منه أن / يكون ممكنا حالة الاجتماع ؛ لجواز أن يكون الإمكان مشروطا بحالة الانفراد.

وإن سلم الإمكان حالة الاجتماع : ولكن لا نسلم انحصار المانع من الوقوع فى تعلق الإرادة ، والقدرة بوقوع المراد. وعدم الاطلاع على مانع غير المذكور : لا يدل على عدمه فى نفسه ؛ لما تقدم تحقيقه.

سلمنا الحصر ؛ ولكن لم قلتم (٣) بأن المانع ليس هو تعلق القدرة بالمقدور؟

قوله : لأنا بينا أن كل ما كان مقدورا للعبد ؛ فهو مقدور للرب ـ تعالى.

__________________

(١) فى ب (تحقيقه).

(٢) فى ب (الحالة).

(٣) فى ب (قال).

٣٩٠

فهو ممنوع على ما سلف فى المسلك الّذي قبله.

وإن (١) سلم (١) أن كل مقدور للعبد ؛ فهو مقدور للرب ـ تعالى ـ ولكن ما اللازم منه.

قوله : لأنه إذا كان تعلق قدرة الرب بمقدور العهد مانعا من تعلق قدرة العبد به ؛ فهو المطلوب. ليس كذلك ؛ فإن الفرض أن تعلق قدرة كل واحد منهما بمقدوره مانع من تعلق قدرة الآخر بمقدوره. فهذا وإن لزم منه امتناع تعلق قدرة العبد بمقدوره ، فتعلق (٢) قدرة العبد بمقدوره مانع من تعلق قدرة الرب بمقدوره. وكما يلزم منه امتناع كون العبد هو الفاعل لفعل نفسه ؛ فيلزم منه امتناع كون الرب هو الفاعل لفعل العبد ؛ وهو المطلوب أيضا من جانبنا.

ثم وإن سلمنا امتناع عدم المرادين : فما المانع من وقوع أحد المرادين دون الآخر؟

قوله : لأن عدم حصول مراد أحدهما : أما أن يكون مع بقاء قادريته ، أو لا مع بقاء قادريته.

قلنا : ما المانع من ذلك مع بقاء قادريته؟

قوله : لأن ترجح مراد أحدهما على الآخر : إما أن يكون لذات المراد ، أو لأمر خارج.

قلنا : ما المانع أن يكون لأمر خارج؟

قوله : وذلك الخارج لا بد وأن يعود إلى ترجيح أحد القادرين على الآخر بما ذكر ؛ غير مسلم.

وما المانع من أن يكون امتناع مراد أحدهما ، لا لترجيح قادرية الآخر (على (٣)) قادريته ؛ بل لاختصاصه بمانع لا وجود له بالنسبة إلى الآخر؟

وإن سلم أنه لا بد وأن يعود إلى ترجيح قادرية أحد القادرين على قادرية الآخر :

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) فى ب (فيتعلق).

(٣) ساقط من أ.

٣٩١

ولكن لا نسلم حصر الترجيح فيما ذكره وعدم الاطلاع على غير المذكور لا يدل على عدمه فى نفسه على ما علم.

وإن سلمنا أن امتناع وقوع المراد مع بقاء القادرية : فما المانع من امتناعه مع انتفاء القادرية؟

قوله : لأن أحد القادرين لا يقدر على إعدام قادرية الآخر فى وقت حصول قادريته : مسلم ؛ / ولكن ما المانع أن يكون مانعا لابتداء وجودها فى وقت إمكان وجودها؟

وعند ذلك : فيمتنع وجود المقدور بها ، وسواء قيل بمقارنته للقدرة بتقدير وجودها كما هو مذهبه ، أو فى الحالة الثانية من وجودها كما هو مذهب الخصم ؛ إذ لا وجود للقدرة عليه.

وإن سلمنا امتناع ذلك : فما المانع من كونه مانعا لها فى الحالة الثانية من وجودها؟

قوله : لأن ذلك لا يمتنع (١) معه وجود المقدور ؛ لا نسلم ذلك ، وما (٢) المانع (٢) من القول بتأثير القدرة فى المقدور فى ثانى الحال من وجودها مشروطا ببقائها إلى الحالة الثانية من وجودها ، كما قدمناه من مذهب بعض المعتزلة.

سلمنا امتناع ذلك : غير أن ما ذكروه ينتقض بامتناع جواز تعلق (٣) قدرة الإله ـ تعالى ـ بالحركة ، والسكون معا. مع جواز تعلق قدرته (٣) بكل واحد منهما بتقدير الانفراد مع لزوم كل ما ذكروه من الأقسام ، فما هو الجواب فى صورة الإلزام ؛ فهو الجواب فى محل التعليل.

المسلك الخامس :

لو صلحت القدرة الحادثة للإيجاد ، والإحداث : للزم حصول مخلوق بين خالقين ؛ واللازم ممتنع.

وبيان الملازمة : أن القدرة الحادثة لو كانت صالحة للإيجاد ؛ لكان مقدورها مقدورا للرب ـ تعالى.

__________________

(١) فى ب (يمتنع).

(٢) فى ب (ولكن ما المانع).

(٣) من أول (تعلق قدرة ... قدرته) الموجود بدلها فى نسخة ب (تعلقهما).

٣٩٢

وبيان ذلك : هو أن العبد إذا كان قادرا على إيجاد السكون فى الجوهر ؛ فلا نزاع فى أن الرب قادر على إيجاد السكون أيضا فى ذلك الجوهر.

وعند ذلك : فإما أن يكون ما هو متعلق قادرية (١) الله ـ تعالى (١) ـ هو عين متعلق قدرة العبد ؛ أو غيره.

فإن كان الأول ؛ فهو المطلوب.

وإن كان الثانى ؛ فهو (٢) باطل (٢) ؛ لأن المقدور قبل وجوده عدم صرف ، والعدم (٣) الصرف يمتنع وجود أعدام (٣) متمايزة فيه ، حتى يقال : بأن منه ما هو مقدور الرب ، ومنه ما هو مقدور العبد ، وبتقدير جواز التعدد ، والتغاير ؛ فيلزم أن يكون مقدور العبد (٤) مقدورا لله ـ تعالى ـ وبيانه من وجهين :

الأول : أن الإجماع منعقد على أن الرب ـ تعالى ـ قادر على مثل كل ما يقدر عليه العبد ؛ فوجب أن يكون قادرا على فعل العبد ؛ ضرورة كونه قادرا على مثله ؛ لأن ما ثبت لأحد المثلين ؛ يكون ثابتا للمثل الآخر.

الثانى : هو أن الله ـ تعالى ـ قادر على بعض الموجودات بالاتفاق ، والمصحح لذلك : إنما هو الإمكان / على ما تقدم ، وفعل العبد ممكن ؛ فكان مقدورا لله ـ تعالى ـ وإذا كان مقدور العبد ، هو مقدور الرب ؛ لزم حصول مخلوق بين خالقين.

وبيان ذلك : هو أن البارى لو علم حصول المصلحة فى إيجاده هو لذلك الفعل ، فحينئذ يحاول البارى ـ تعالى ـ إيجاد ذلك الفعل ، فلو قدرنا أن العبد حاول إيجاد ذلك الفعل. فإما أن لا يوجد ذلك الفعل ، أو يوجد. لا جائز أن يقال بالأول : لأن الفعل كان ممكنا. وامتناع الوجود : إما أن يكون لتعلق قادرية كل واحد منهما به ، أو لوقوع المقدور ، وكل واحد من القسمين محال ؛ لما تقدم فى المسلك الّذي قبله.

__________________

(١) فى ب (قدرة الله).

(٢) فى ب (فباطل أيضا).

(٣) فى ب (يمنع وجود أعداد).

(٤) فى ب (الرب).

٣٩٣

وإن كان الثانى : فإما أن يكون وجود ذلك الفعل بأحدهما ، أو بهما. لا جائز أن يقال بالأول : لاستوائهما فى الاستقلال بالتأثير ، وعدم الأولوية.

وإن كان الثانى : فقد لزم وجود خلق بين خالقين ؛ وهو محال كما تقدم تقريره (١).

وهو بعيد عن التحقيق أيضا ؛ إذ لقائل أن يقول :

لا نسلم أنه لو صلحت القدرة الحادثة للإيجاد ، أنه (٢) يلزم حصول (٢) مخلوق بين خالقين.

قولهم : لأنه يلزم أن يكون مقدور العبد ، مقدورا للرب ـ تعالى ـ لا نسلم ذلك.

قولهم : إذا كان العبد قادرا على إيجاد السكون فى الجوهر ؛ فالرب قادر عليه أيضا.

قلنا : الرب ـ تعالى ـ وإن كان قادرا على إيجاد السكون فى الجوهر ؛ فلا نسلم أن العبد قادر على إيجاد السكون فى الجوهر.

أما على أصول (٣) أصحابنا : فظاهر. فإن مقدوره : لا يخرج عن محل قدرته ، وهو الفعل القائم به ، والسكون : فصفة فى الجوهر ؛ فلا يكون مقدورا للعبد ، ولا هو مخلوق له ؛ بل هو مخلوق لله ـ تعالى.

وأما على أصول المعتزلة : فهو ممنوع على مذهب كثير منهم : كثمامة (٤) ، ومعمر ، وغيرهما.

وعلى هذا : فقد بطل كل ما يبنى عليه من الأحكام ، والأقسام.

وإن سلمنا أن العبد قادر على إيجاد السكون فى الجوهر ، وكذلك الرب ـ تعالى : ولكن ما المانع من تعدد المقدور؟

قولهم : لأن المقدور قبل

وجوده عدم صرف ، والعدم لا تمايز فيه.

__________________

(١) انظر ل ٢١٧ / ب وما بعدها.

(٢) فى ب (للزم منه وجود).

(٣) فى ب (أصل).

(٤) ثمامة بن أشرس النميرى. أبو معن ، من كبار المعتزلة البغداديين. كان شيخا للثمامية المنسوبة إليه ، وأحد الفصحاء البلغاء المقدمين ، كان له اتصال بالرشيد ، والمأمون ، والمعتصم ، ويقال إنه الّذي أقنع المأمون بالاعتزال ، وتوفى سنة ٢١٣ ه‍.

(الفرق بين الفرق ١٧٣ والملل ٧٠ وتاريخ بغداد ٧ / ١٤٥. وراجع ما سيأتى فى الجزء الثانى ـ القاعدة السابعة : عن الثمامية المنسوبة إلى ثمامة بن أشرس ل ٢٤٦ / أوهامشها.

٣٩٤

قلنا : لا نسلم أنه عدم صرف ؛ بل عدم مضاف. وإذا كان كذلك فلا نسلم أن الاعدام المضافة لا تمايز فيها.

وما ذكروه من الوجهين فى بيان أن مقدور العبد / هو مقدور الرب بتقدير التعدد فى السكون المقدور ؛ فقد سبق إبطالهما فيما تقدم.

وإن سلمنا أن مقدور العبد هو مقدور الرب : فلا نسلم أنه يلزم من ذلك وجود مخلوق بين خالقين.

وما المانع من كونه مخلوقا للعبد ، ومقدورا للرب من غير تأثير فى إيجاده؟ كما قلتم بأن العقل مخلوق للرب ـ تعالى ـ ومقدور للعبد (١) من غير تأثير فى إيجاده.

قولهم : لو علم الله

ـ تعالى ـ أن المصلحة فى إيجاده هو لذلك الشيء ؛ فيحاول إيجاده.

قلنا : متى يعلم أن

المصلحة فى خلقه (٢) لذلك (٢) الشيء : إذا أمكن أن يكون مخلوقا له ، أو إذا لم يكن.

الأول ؛ مسلم. والثانى ؛ ممنوع.

فلم قلتم : إنه يلزم من كونه مقدورا له : إمكان كونه مخلوقا له ، ولو لزم ذلك فى حق الرب ـ تعالى ـ ؛ للزم مثله فى حق العبد ؛ ولم يقولوا به.

وإن سلمنا إمكان كونه مخلوقا له : ولكن متى إذا علم الله ـ تعالى ـ أن العبد يحاول إيجاده وخلقه ، أو إذا لم يعلم؟

الأول : ممنوع. والثانى : مسلم.

فلم قلتم بالمحاولة لإيجاده مطلقا؟

سلمنا إمكان المحاولة للعبد ، والرب معا : ولكن لم قلتم بامتناع عدم الوقوع ، أو بوقوعه بقدرة أحدهما دون الآخر؟ وما قيل فيهما ؛ فقد سبق إبطاله فى المسلك الّذي قبله.

__________________

(١) فى ب (للرب).

(٢) فى أ (حقه لذلك). أما فى ب (خلقه ذلك).

٣٩٥

المسلك السادس :

أنه لو كان العبد موجدا لأفعال نفسه ، فعند ما يوجد منه الفعل : إما أن يصح منه الترك بدلا عن الفعل ، والفعل بدلا عن الترك ، أو لا يصح منه ذلك.

فإن كان الأول : فترجح أحد الطرفين على الآخر : إما أن يتوقف على مرجح ، أو لا يتوقف على مرجح.

فإن توقف على المرجح : فذلك المرجح : إما أن يكون من فعل العبد ، أو من فعل الله ، أو لا من فعل أحد.

فإن كان (من (١)) فعل العبد : فالكلام فيه كالكلام فى الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

وإن كان من فعل الله ـ تعالى ـ : فعند حصول ذلك المرجح : إما أن لا يصح معه الترك ، أو يصح معه الترك.

فإن كان الأول ؛ فهو مجبور غير مختار.

وإن كان الثانى : فكل ما هو ممكن أن يكون لا يلزم من فرض وقوعه المحال. فلنفرض الفعل تارة ، والترك أخرى.

وعند ذلك : ففرض الوجود دون العلم (٢) به : إن كان لا بمرجح ؛ فقد تحقق (ترجح (٣)) أحد الجائزين لا بمرجح ؛ وهو محال.

وإن كان بمرجح : فما فرض أو لا ليس هو (٤) المرجح (٤) ؛ وهو خلاف الفرض. ثم إن التقسيم بعينه عائد : وهو أنه مع فرض / وجود هذا المرجح هل يصح معه الترك ، أو لا؟ والجبر ، أو التسلسل يكون لازما.

وإن كان وجود ذلك المرجح لا بفعل أحد فهو : إما قديم ، أو حادث.

لا جائز أن يكون قديما : وإلا لما كان صفة للحادث.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) فى ب (العدم).

(٣) ساقط من أ.

(٤) فى ب (بمرجح).

٣٩٦

ولا جائز أن يكون حادثا ؛ إذ الحادث لا يستغنى عن محدث على ما سبق تقريره.

وأما إن كان أحد الطرفين لا يتوقف فى وقوعه على مرجح : ففيه وقوع أحد طرفى الجائز من غير مرجح ؛ وهو محال كما سبق فى إثبات واجب الوجود (١).

كيف : وأنه لا يلزم منه أن يكون وقوع أحد الطرفين لا بأمر صدر من العبد ؛ وهو أيضا جبر.

هذا كله : إن كان العبد ممن يصح منه كل واحد من الطرفين بدلا عن الآخر.

وإن كان لا يصح منه ذلك ؛ فهو مجبور غير مختار.

وهذا المسلك أيضا ضعيف ؛ إذ لقائل أن يقول :

قولكم : إذا صح منه بدلا عن الترك ، والترك بدلا عن الفعل ؛ فلا بد لوقوع أحد الأمرين من منع ؛ مسلم.

قولكم : المرجح إما من فعل العبد ، أو من فعل الله ، أو لا من فعل أحد : مسلم ؛ ولكن لم قلتم إنه لا يكون من فعل العبد؟

قولكم : التسلسل يكون لازما : ممنوع. وما المانع من كونه من فعل العبد على وجه لا يكون متمكنا من تركه؟ ولا يلزم من سلب الاختيار عن العبد فى فعل المرجح ؛ سلبه عنه فى أفعاله مطلقا.

وإن سلمنا أنه من فعل الله ـ تعالى ـ فما المانع منه

قولهم (٢) : إما أن يصح معه الترك أو لا؟ والجبر ، أو التسلسل يكون لازما.

قلنا : إن عنيتم بكونه مجبورا : أنه غير مختار فى تركه بتقدير وجود المرجح للفعل : فسلم ، ونحن لا ننفى الجبر عن فعل العبد بهذا الاعتبار.

وإن عنيتم به أنه وجد لا بإيجاده : فهو ممنوع.

ونحن إنما ننفى الجبر عن فعل العبد بهذا الاعتبار.

__________________

(١) راجع ما سبق ل ٤١ / أوما بعدها.

(٢) فى ب (قولكم).

٣٩٧

وإن سلمنا امتناع الجبر عن (١) فعل العبد (١) على ما ذكرتموه ؛ فما المانع من صحة الترك مع وجود المرجح؟

قولكم : يلزم منه التسلسل.

قلنا : متى إذا كان المرجح : هو القدرة ، والاختيار ، أو إذا لم يكن؟

الأول : ممنوع. والثانى : مسلم.

وذلك لأن المرجح إذا كان هو القدرة ، والاختيار ؛ فليس يمتنع معه الترك ، ولا يفتقر إلى مرجح آخر. بتقدير الوجود حتى يقال : بالتسلسل ، أو خروج ما فرض مرجحا عن كونه مرجحا على ما ذكروه ؛ فإن هذا / هو شأن القدرة وخاصيتها.

ثم وإن سلمنا أنه لا من فعل الله ـ تعالى ـ : فما المانع من كونه لا من فعل أحد ، وأن يكون قديما؟

قولكم : إنه صفة للحادث : ممنوع. وإلا كان موجد الحادث حادثا ؛ وهو محال.

ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه : لكن غايته الدلالة على أن العبد غير مختار فى فعله ، وليس فيه ما يدل على امتناع كونه فاعلا مطلقا.

ثم ما ذكرتموه لازم عليكم من وجهين :

الأول : أنه لازم عليكم فى إثبات الكسب ؛ حيث أثبتم كون الفعل مكتسبا للعبد ، غير مجبور عليه.

وبيان ذلك : هو أن ما أثبتموه من الكسب : وهو الفعل المقدور بالقدرة الحادثة : إما أن يكون بحيث يصح للعبد (٢) معه الفعل ، بدل الترك ، وبالعكس : أو لا.

فإن صحّ : فلا بد له من مرجح ؛ وذلك المرجح : إما من فعل العبد ، أو من فعل الله ، أو لا من فعل أحد (٣) ، وهلم جرا إلى آخر القسمة ، ولا بد من الجبر ، أو التسلسل الممتنع ، أو حدوث الجائز ، من غير مرجح.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) ساقط من ب.

(٣) فى ب (أحدهما).

٣٩٨

الثانى : أنه لازم عليكم فى كون الفعل حاصلا بخلق الله ؛ إذ التقسيم وارد عليه حسب وروده على كون العبد خالقا لفعله ؛ فما هو الجواب فى صور الإلزام ؛ فهو بعينه الجواب فى محل النزاع.

فإن قيل : الفرق بين البارى ـ تعالى ـ والعبد ، أنّ صدور الفعل عن القادر موقوف على الإرادة. والإرادة فى الشاهد محدثة ؛ فافتقرت إلى (محدث (١)). فإن كان ذلك المحدث هو العبد : لزم التسلسل ؛ فوجب انتهاء جميع الإرادات إلى إرادة ضرورية يخلقها الله ـ تعالى ـ فى القلب ابتداء ، ويلزم منه الجبر. بخلاف إرادة الله ـ تعالى ـ إذ هى قديمة مستغنية عن إرادة أخرى ؛ فلا تسلسل.

قلنا : وإن كانت إرادة البارى ـ تعالى ـ قديمة : فإما أن يصح معها الفعل بدلا عن الترك ، أو الترك بدلا عن الفعل ، أو لا :

فإن كان الأول : فلا بد لأحد الطرفين من مرجح ، والكلام فى ذلك المرجح كالكلام فى الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

وإن كان الثانى ؛ فقد لزم الجبر ، ولا خلاص عنه.

المسلك السابع :

أن ضلال الكافر ، وجهله عند الخصوم ؛ مخلوق للكافر ، وموجود بإيجاده اختيارا ، ولو كان كذلك ؛ لكان قاصدا له ؛ إذ القصد من لوازم الفعل اختيارا ؛ واللازم / ممتنع فإن عاقلا لا يقصد لنفسه الضلال ، والجهل ؛ (فلا (٢) يكون (٢)) فاعلا له اختيارا.

وهو فاسد أيضا ؛ إذ لقائل أن يقول :

ما يفعله الكافر من الضلال ، والجهل لا بد وأن يكون قاصدا له.

وقولكم : العاقل لا يقصد لنفسه الضلال ، والجهل.

قلنا : متى إذا علم كونه ضلالا ، وجهلا ، أو إذا ظن كونه هديا ، وعلما؟

__________________

(١) فى أ (محدثه).

(٢) ساقط من أ.

٣٩٩

الأول : مسلم. والثانى : ممنوع.

وعلى هذا : فلا يبعد أن يكون قاصدا لإيجاده مع هذا الظن.

فإن قيل : فإذا كان قصده

لإيجاد الكفر متوقفا على الظّن بكونه هديا وحقا ؛ فهذا الظن أيضا جهل.

فإن كان القول فيه : كالقول فى الأول ؛ لزم أن يكون كل جهل مسبوقا بجهل آخر إلى غير النهاية ؛ وهو محال.

وإن وقع الانتهاء إلى جهل : غير مسبوق بجهل آخر ؛ فذلك الجهل لا يكون مقصودا له ؛ فلا يكون من فعله ؛ بل من الله ـ تعالى ـ وباقى الجهالات مترتبة عليه ؛ فكان الكل مستندا إلى خلق الله ـ تعالى ـ وتكوينه.

قلنا : بل لا بد من

الانتهاء إلى جهل لا يكون مقصودا ، ولا هو من فعله ، ولا يمتنع أن تكون بعض الجهالات مقدورة (١) للعبد ، والبعض غير مقدورة (٢) له ؛ بل كما فى العلوم. وذلك الجهل الأول : الّذي ليس بمقدور للعبد ، وإن كان شرطا فى قصد باقى الجهالات ؛ فلا يلزم أن تكون باقى الجهالات مخلوقة لله ـ تعالى ـ ؛ بل جاز أن تكون مخلوقة للعبد. وإن توقفت على شرط مخلوق لله ـ تعالى ـ كما فى الحياة ؛ فإنها شرط كون الفعل مقدورا للعبد على اختلاف المذهبين. وإن كانت الحياة غير مقدورة للعبد بالاتفاق.

والمعتمد فى المسألة مسلكان :

الأول : لو كان العبد خالقا لأفعال نفسه ؛ للزم وجود خالق غير الله ، ووجود خالق غير الله ، محال ؛ لما سبق. ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم.

المسلك الثانى :

لو كان العبد موجدا لفعل نفسه ، ومحدثا له ؛ لكان عالما به ، واللازم ممتنع ، فالملزوم ممتنع.

__________________

(١) فى ب (مقدورا).

(٢) فى ب (مقدور).

٤٠٠