أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٢

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣١

وإن كان له بعد : فلا بد وأن يكون متناهيا من جميع الجهات ، وإلا فهو غير متناه من جميع الجهات ، أو من بعض الجهات ؛ وهو محال ؛ لما سيأتى فى تناهى الأبعاد.

كيف : ويلزم من كونه غير متناه من جميع الجهات ، ما ألزمناه فى المسلك الأول ؛ وهو محال.

وإذا كان متناهيا من جميع الجهات : فله شكل ، ومقدار. وما من شكل ومقدار يقدر (١) له (١) إلا وفرض الأكبر (٢) ، والأصغر (٢) جائز عليه عقلا ، ونسبة الكل إلى ذاته واحدة ؛ فاختصاص ذاته بالبعض دون البعض ، يستدعى مخصصا من خارج ، وإلا فلا أولوية لما اختصت به دون غيره.

ثم ذلك المخصص : لا جائز أن يكون مخصصا بذاته ؛ لأن نسبة الذات إلى سائر الجائزات نسبة واحدة. فلم يبق إلا أن يكون فاعلا بالاختيار. وفعل الفاعل بالاختيار لا يكون إلا حادثا ـ على ما سنبينه فى مسألة (٣) حدوث العالم (٤) ، ويلزم من / ذلك أن يكون ما اختص به الرب ـ تعالى ـ من الشكل والمقدار ، حادثا ؛ وهو محال ؛ لما فيه من القول بحلول الحوادث بذات الرب ـ تعالى ـ كما سبق (٥).

ولقائل أن يقول :

القول بحدوث المقدار ، والشكل ؛ فرع جواز اتصاف الرب ـ تعالى ـ بمقدار أكبر مما هو عليه ، أو أصغر ؛ وهو غير مسلم ؛ إذ المقادير والأشكال مختلفة. وعند ذلك : فلا مانع من القول بوجوب اختصاص الرب ـ تعالى ـ بواحد منها لذاته ، دون غيره. وإنما يلزم الامتناع أن لو تماثلت المقادير ، والأشكال ؛ وهى غير متماثلة.

المسلك الرابع :

أنه لو كان الرب ـ تعالى ـ مختصا بحيز ، وجهة : فإما أن يصح عليه الخروج (٦) والانتقال (٦) عنه ، أو لا يصح عليه ذلك.

__________________

(١) فى ب (تعدد).

(٢) فى ب (الأصغر والأكبر).

(٣) ساقط من ب.

(٤) انظر الجزء الثانى ل ٨٢ / ب وما بعدها.

(٥) انظر ل ١٤٦ / أوما بعدها.

(٦) فى ب (الانتقال والخروج).

٤١

فإن كان الأول : فيلزم عليه جواز اتصافه بالحركة ، والحركة حادثة لحدوث أجزائها ؛ فيكون محلا للحوادث ؛ وهو محال ؛ لما سبق (١).

وإن كان الثانى : فيكون كالزّمن العاجز ؛ وذلك صفة نقص فى حق الله تعالى.

ولقائل أن يقول :

لا نسلم أن امتناع الخروج عليه من حيزه صفة نقص. والعجز عن الانتقال عنه إنما يتحقق فيما من شأنه أن يكون قابلا للانتقال. فما (٢) لم يتبين أن الرب ـ تعالى ـ قابل للانتقال عن حيزه ؛ فامتناع الانتقال عليه منه ؛ لا يكون عجزا ، فلا يكون ذلك من صفات النقص. وإلا كان الرب ـ تعالى ـ موصوفا بالعجز عن الحركة ؛ لامتناعها عليه ، وإن لم يكن متحيزا ؛ وهو (٣) محال.

وللخصوم شبه عقلية ونقلية :

أما الشبه العقلية : فأربع.

الأولى : أن كل شيئين قاما بأنفسهما بحيث لا يكون أحدهما محلا للآخر : فإما أن يكونا متصلين ، أو منفصلين. وعلى كلا التقديرين. فلا بد وأن يكون كل واحد منهما بجهة من الآخر ؛ وهو معلوم بالضرورة ، والبارى ـ تعالى ـ والعالم كل واحد قائم بنفسه ؛ فيجب أن يكون كل واحد منهما بجهة من الآخر : كانا متصلين ، أو منفصلين.

وربما عبر عن هذا المعنى بعبارة أخرى ؛ فقيل : البارى ـ تعالى ـ إما أن يكون قد خلق العالم فى ذاته ، أو خارجا عن ذاته.

لا جائز أن يقال بالأول : وإلا كان محلا للحوادث ؛ وهو محال كما سبق.

وإن كان الثانى : فإما أن يكون متصلا به ، أو منفصلا عنه ، وعلى كلا التقديرين.

يجب أن يكون بجهة منه.

__________________

(١) انظر ل ١٤٦ / أوما بعدها.

(٢) فى ب (فلما).

(٣) فى ب (فهو).

٤٢

الثانية : أنه اما أن يكون داخل / العالم ، [أو (١) خارجا (١)] عنه. أو لا داخل العالم ، [ولا خارجا (٢)] عنه.

لا جائز أن يكون لا داخل العالم ، ولا خارجا عنه ؛ فإن إثبات موجود هذا حاله (٣) غير معقول.

وإن كان داخل العالم : فالعالم (٤) فى جهته (٤) ؛ فما هو فيه يكون فى جهة. وإن كان خارج العالم : فلا بد وأن يكون موازيا للعالم ، ومقابلا (٥) له ؛ فيكون فى جهته ، وإلا لما كان خارجا عنه.

الثالثة : هو أن الوجود منقسم (٦) إلى : قائم بنفسه ، وإلى غير قائم بنفسه ؛ بل هو معنى قائم بغيره ، والقائم بنفسه : لا معنى له غير المتحيز بنفسه ، والقائم بغيره : لا معنى له غير القائم بالحيز تبعا لمحله فيه ؛ فالبارى تعالى إن لم يكن متحيزا بنفسه ؛ فيكون (٧) قائما بغيره ؛ وهو محال ؛ كما سيأتى بعد.

الرابعة : أنا أجمعنا على أن الرب ـ تعالى ـ متصف بصفات قائمة به ، ولا معنى لقيام الصفات بالذات إلا أنها موجودة فى جهة الذات ، تبعا للذات ، فلو لم تكن ذات الرب ـ تعالى ـ فى جهة ؛ لما عقل قيام الصفات بها.

وأما الشبه النقلية :

فمنها : قوله ـ تعالى ـ : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٨). [ومنها] (٩) قوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) (١٠) الآية ؛ والعندية مشعرة بالحيز ، والجهة.

__________________

(١) فى أ (ولا خارجا).

(٢) فى أ (أو خارجا).

(٣) فى ب (شأنه).

(٤) فى ب (والعالم فى جهة).

(٥) فى ب (أو مقابلا).

(٦) فى ب (ينقسم).

(٧) فى ب (كان).

(٨) سورة طه ٢٠ / ٥.

(٩) فى أ (ومنه).

(١٠) سورة فصلت ٤١ / ٣٨.

٤٣

ومنها قوله ـ تعالى ـ : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) (١). وقوله ـ تعالى ـ : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) (٢) ؛ وذلك مشعر بالجهة.

ومنها قوله ـ تعالى ـ : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (٣). وقوله ـ تعالى ـ : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) (٤) ؛ وذلك أيضا مشعر بالجهة.

ومنها قوله ـ تعالى ـ : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) (٥).

دل على أن الرب ـ تعالى ـ فى السماء ؛ فإن مثل ذلك الفعل لا يكون لغير الله ـ تعالى ـ.

ومنها قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) (٦)

وأما من جهة السنة فحديث النزول على (٧) ما سبق (٧).

وأيضا : قوله عليه‌السلام للجارية الخرساء : «أين الله؟». ووجه الاحتجاج به من وجهين :

الأول : قوله (٨) : «أين الله؟» سأل عن الأينية. ولو لا أن الله ـ تعالى ـ متأين ؛ لما سأل عن [الأينية] (٩).

الثانى : أنها أشارت الى السماء. ولم ينكر النبي عليه‌السلام عليها ؛ بل قررها على ذلك ، وتقريره نازل منزلة صريح لفظه.

قالوا : وإذا ثبت أنه فى جهة ، وجب أن تكون هى جهة العلو ، إذ هى أشرف الجهات ، وتخصيص أشرف الموجودات ، بأشرف الجهات أولى ، ولهذا فإن الناس / بفطرهم يرفعون أيديهم عند الدعاء والمسألة ، إلى جهة السماء. ولو لا اعتقادهم أنها أشرف الجهات ، وأنه مختص بها ؛ لما كان كذلك.

__________________

(١) سورة فاطر ٣٥ / ١٠.

(٢) سورة المعارج ٧٠ / ٤.

(٣) سورة الفجر ٨٩ / ٢٢.

(٤) سورة البقرة ٢ / ٢١٠.

(٥) سورة الملك ٦٧ / ١٦.

(٦) سورة النجم ٥٣ / ٨ ، ٩.

(٧) فى ب (كما سبق) انظر ل ١١٨ / أ.

(٨) فى ب (أنه قال).

(٩) فى أ (أينية).

٤٤

والجواب عن الشبهة الأولى : أن يقال :

إن أريد بالاتصال ، والانفصال ؛ قيام أحدهما بالآخر ، وامتناع القيام به. فالبارى ـ تعالى ـ بهذا الاعتبار منفصل عن العالم ؛ ولكن ذلك مما لا يوجب كون كل واحد منهما فى جهة من الآخر إلا أن يكون الرب ـ تعالى ـ قابلا للكون فى الجهة ؛ وهو عين محل النزاع.

وإن أريد بالاتصال : ما يلازمه الاتحاد فى الجهة ، والحيز. وبالانفصال : ما يلازمه الاختلاف فى الجهة ، والحيز ؛ فذلك إنما يتم ويلزم ، أن لو كان البارى ـ تعالى ـ قابلا للحيز ، والجهة ؛ وإلا فلا مانع من خلوه (١) عنهما معا. فإن راموا إثبات الجهة بالانفصال والاتصال بهذا الاعتبار ـ والخصم (لا) (٢) يسلمه إلا فيما هو قابل للجهة (٣) ، والحيز (٣) ـ كان دورا ؛ ودعوى البديهة فى ذلك ممتنع ؛ فإن البديهى لا يخالف فيه أكثر العقلاء ، وأكثر العقلاء ، مخالفون فى نفى الجهة عن الله ـ تعالى ـ وإن اكتفى فى ذلك بمجرد الدعوى ؛ فقد لا تؤمن المعارضة بمثله فى طرف النقيض.

وعن الشبهة الثانية :

باختيار أنه لا داخل العالم ، ولا خارجا (٤) عنه ؛ فإن ذلك إنما (٤) هو من لوازم الجهة والحيز ، فما لا يكون فى جهة ، ولا حيز ؛ فلا يكون متصفا به.

والقول بأن ذلك غير معقول ، إنما يصح فيما كان من ذوات الجهة والحيز. أما ما ليس من ذوات الجهة والحيز ؛ فالقول بأنه (٥) إما داخل العالم ، وإما خارج (٥) عنه ؛ لا يكون معقولا.

وعن الشبهة الثالثة :

منع أنه لا معنى للقائم بنفسه غير المتحيز ؛ بل القائم بنفسه : هو المستغنى عن محل يقومه. والبارى ـ تعالى ـ كذلك ؛ وذلك لا يلزم منه كونه فى الجهة.

__________________

(١) فى ب (حيزه).

(٢) فى أ (فلا).

(٣) فى ب (للحيز والجهة).

(٤) فى ب (ولا خارج فإن ذلك).

(٥) فى ب (بأنه داخل أو خارج).

٤٥

وعن الرابعة :

بمنع أنه لا معنى لقيام الصفة بمحلها إلا كونها موجودة فى الحيز تبعا لمحلها فيه ، ومن المعلوم أن ذلك غير ضرورى ، ولا دليل عليه.

وأما الشبه النقلية :

فمن باب الظواهر الظنية ؛ فلا تقع فى مقابلة الأدلة العقلية اليقينية (١).

كيف وأنه مهما تعارض دليلان ؛ فالجمع بينهما أولى من العمل بأحدهما ، وتعطيل الآخر ، وقد أمكن الجمع بتأويل ما ذكروه من الظواهر ، على وجه موافق للدليل العقلى الدال على نفى الجهة ، والحيز.

أما / قوله ـ تعالى ـ : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٢). فقد سبق تأويله. وقوله ـ تعالى ـ (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) (٣) لم يرد به التقارب بالذوات ، والأحياز ؛ بل أراد به الاختصاص بالاصطفاء ، والإكرام ، والاجتباء. ولهذا يقال : فلان عند الملك بمنزلة عظيمة ؛ أى أنه مختص بالاصطفاء ، والاجتباء.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) (٤). معناه وقوعه من الله تعالى ـ موقع الرضا ، وعلو الرتبة ، وتعظيم شأنه ، وليس المراد به الحركة ، والانتقال إلى جهة الله ـ تعالى ـ ؛ فإن الكلام عرض ؛ وهو غير منتقل.

وقوله ـ تعالى ـ : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) (٥) ؛ فالمراد به عروجهم إلى حيث يأمرهم بالتقرب إليه. وليس المراد به التقرب بالذوات ؛ وذلك كما فى قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) (٦) : أى بالتقرب إليه بالطاعة لا أن المراد به التقرب بالمسافة.

__________________

(١) يلاحظ تطبيق الآمدي للمنهج الّذي ارتضاه ؛ وهو أن أدلة القرآن الكريم والسنة النبوية تفيد الظن. انظر ما سبق ل ٤٠ / ب.

(٢) سورة طه ٢٠ / ٥.

(٣) سورة فصلت ٤١ / ٣٨.

(٤) سورة فاطر ٣٥ / ١٠.

(٥) سورة المعارج ٧٠ / ٤.

(٦) سورة النساء ٤ / ١٠٠.

٤٦

وقوله ـ تعالى ـ : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (١) ؛ ليس المراد به الحركة والانتقال ؛ بل المراد به مجىء أمر الرب ـ تعالى ـ لفصل القضاء يوم الدين بطريق حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ؛ وذلك كما فى قوله تعالى ـ : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) (٢) : أى أمره ، بالاتفاق منا ، ومن الخصوم.

وقوله ـ تعالى ـ : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) (٣) ، أى عذاب الله فى ظلل من الغمام ، بطريق حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه. وإنما خصصه بالظلل من الغمام ؛ لأن أكثر العقوبات كانت يتقدمها ظلل من الغمام كما نقل.

وقوله ـ تعالى ـ : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) (٤). فيحتمل أن يكون المراد به من حكمه فى السماء وقهره. ويحتمل أنه أراد به ملكا مسلطا على عذاب المستوجبين للعذاب : إما جبريل ، أو غيره ؛ ولهذا قد نقل أرباب التفسير (٥) أن جبريل عليه‌السلام هو الّذي جعل قرى قوم لوط دكا ؛ بقلب أعاليها على أسافلها.

وقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) (٦) ؛ فليس فى الآية ما يدل على أن القرب ، والدنو من الله ـ تعالى ـ للرسول. وعند ذلك : فيحتمل أنه أراد به قرب الرسول ، ودنوه من درجة لا تقرب منها إلّا أجلّ الخلائق.

وإن أريد به القرب من الله ـ تعالى ـ فليس المراد به القرب بالذوات ؛ بل بالطاعة.

وقوله : (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) تأكيد له. وعليه حمل قوله ـ تعالى ـ «إذا تقرّب العبد إلى ذراعا : ـ أى بالطاعة ـ / تقرّبت إليه باعا» (٧) بالرأفة والرحمة.

وأما حديث النزول إلى سماء الدنيا ؛ فقد سبق تأويله (٨).

وأما قوله عليه‌السلام للخرساء : «أين الله؟» فيحتمل أحد أمرين :

__________________

(١) سورة الفجر ٨٩ / ٢٢.

(٢) سورة النحل ١٦ / ٢٦.

(٣) سورة البقرة ٢ / ٢١٠.

(٤) سورة الملك ٦٧ / ١٦.

(٥) فى ب (التفاسير).

(٦) سورة النجم ٥٣ / ٨ ، ٩.

(٧) جزء من حديث عن أبى هريرة فى البخارى ٩ / ١٤٧ ـ ١٤٨ (كتاب التوحيد ، باب ما يذكر فى الذات والنعوت وأسامى الله). والحديث ورد فى مواضع كثيرة من الصحاح والسنن.

(٨) انظر ل ١١٨ / أ.

٤٧

الأول : أنه يحتمل أنه أراد استنطاقها بما ظن أنه معتقد لها من الأينية ، ولا يدل ذلك على أن الرب ـ تعالى ـ متأين. وهذا كما روى عنه عليه‌السلام ـ أنه قال لأم جميل «كم تعبدين من الآلهة»؟ فقالت : خمسة ، وإن كنا نعلم امتناع التعدد فى الآلهة ، وامتناع اعتقاد النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لذلك. ويحتمل أنه أراد بقوله : «أين الله؟» : أى أين موقع معرفة الله ـ تعالى منك. بطريق حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه. إما أن يكون ذلك إشارة من النبي عليه الصلاة والسلام إلى أينية الرب ـ تعالى ـ فكلا.

ولهذا قد روى عنه عليه‌السلام أنه قيل له : أين الله؟ فقال «ليس لمن أيّن الأين أين» (١).

وأما إشارة الخرساء إلى السماء. وتقرير النبي عليه‌السلام لها ؛ فليس فيه ما يدل على أنها قصدت بالإشارة إثبات الجهة ؛ بل لعلها قصدت تعريف إلهها بخالق السماء ، ورافعها ؛ تنبيها بالأعلى ، على الأدنى.

وأما رفع الأيدى إلى السماء حالة الدعاء ؛ فليس فى ذلك ما يدل على أن الله ـ تعالى ـ فى جهة السماء ؛ بل إنما كان كذلك ؛ لأنها قبلة الدعاء. كما أن البيت العتيق قبلة للصلاة. وكما أن جهة الأرض محل للسجود ؛ فكما لا يدل التوجه فى الصلاة إلى البيت على أن الله ـ تعالى ـ فى جهة البيت ، ولا السجود ، ووضع الجبهة على الأرض على أن الله ـ تعالى ـ فى جهة الأرض ؛ فكذلك رفع الأيدى إلى السماء وذلك لأن الله ـ تعالى ـ كما له تخصيص بعض الأماكن ، وبعض الأزمان ؛ ببعض العبادات ؛ فكذا له تخصيص بعض الجهات ، بالتقرب إليه ببعض العبادات ، دون البعض.

٤٨

«المسألة السادسة»

فى أن وجود الرب ـ تعالى ـ ليس فى زمان (١)

اتفق العقلاء على أن وجود الرب ـ تعالى ـ ليس وجودا زمانيا ، ولم ينقل عن أحد من أرباب المذاهب خلاف فى ذلك. وإن كان مذهب المجسمة (٢) يجر إليه كما يجر إلى التحيز ، والمكان. ومعنى كون الوجود زمانيا : أنه لا يتصور كونه إلا فى زمان ، كما أن الوجود المكانى ، هو الّذي لا يتصور كونه إلا فى مكان ، والدليل على أن وجود الرب ـ تعالى ـ ليس وجودا زمانيا. هو أن المفهوم / من الزمان : إما أن يكون وجودا ، أو عدما.

لا جائز أن يكون عدما : وإلا كان سلب الزمان قبل وجود العالم وجودا ولا أول لسلبه ؛ فيكون قديما ؛ وهو محال. كما سيأتى فى تحقيق حدوث كل موجود سوى الله ـ تعالى ـ (٣).

وإن كان المفهوم من الزمان وجودا : فلا يخلو : إما أن يكون قديما ، أو حادثا. لا جائز أن يكون قديما : لما يأتى.

وإن كان حادثا : فإما أن يتصور وجود الرب ـ تعالى ـ دونه ، أو لا يتصور.

لا جائز أن يقال بعدم وجود الرب تعالى دونه : وإلا كان وجود الرب تعالى حادثا ؛ ضرورة ملازمة الحادث له ، وخرج عن كونه واجبا ؛ وهو محال.

وإن قيل بجواز وجود الرب ـ تعالى ـ دونه : فليس وجوده وجودا زمانيا ؛ وهو المطلوب.

__________________

(١) انظر المواقف للإيجي ص ٢٧٤.

(٢) المجسمة : هم الذين قالوا إن الله تعالى جسم ، وإن قال بعضهم أنه جسم لا كالأجسام.

ومنهم من قال : إن الله تعالى جسم ممدود ، عريض ، عميق ، طويل طوله مثل عرضه ، وعرضه مثل عمقه ، وهو يتحرك ، ويسكن ، ويقعد ، ويقوم (تعالى الله عن قولهم).

وقد قال بالجسمية بعض الروافض من الشيعة ، والكرامية ، وبعض المدعين للسلفية (انظر الملل والنحل ١ / ١٠٣ ـ ١١٣ ونشأة الفكر الفلسفى فى الإسلام ١ / ٣٨٥ ـ ٤٢٩).

(٣) انظر الجزء الثانى ل ٨٢ / ب وما بعدها.

٤٩

نعم غايته أنه يصدق عليه أن وجوده مقارن فى وقتنا هذا للزمان ، وموجود مع وجود الزمان ؛ وذلك لا يوجب كون وجوده زمانيا. كما أن وجوده فى الآن منع وجود المكان ، ومقارن له ؛ وليس وجوده ؛ وجودا مكانيا.

وأما ما هو المفهوم من المكان ، والزمان ؛ فسيأتى تحقيقه مفصلا فيما بعد إن شاء الله ـ تعالى ـ (١).

__________________

(١) عن المكان انظر الجزء الثانى ل ٤٩ / ب وما بعدها. أما عن الزمان فانظر الجزء الثانى ل ٦١ / ب وما بعدها.

٥٠

«المسألة السابعة»

فى استحالة حلول ذات البارى ـ تعالى ـ أو صفة

من صفاته فى محل (١)

اتفق العقلاء ، وأرباب الملل على استحالة حلول ذات البارى ـ تعالى ـ وصفاته فى محل. خلافا للنصارى (٢) ، والنّصيريّة ، والإسحاقية (٣) من غلاة الشيعة ، وبعض المشبهة.

أما النّصارى : فلهم تفصيل مذهب فى حلول اللاهوت بالناسوت ، وتدرعه به ، واتحاده به ، نأتى على استقصائه عند الرد عليهم إن شاء الله تعالى (٤).

وأما النّصيرية ، والإسحاقيّة : فإنهم قالوا : ظهور الروحانى بالجسد الجسمانى أمر غير منكر.

أما فى جانب الخير : فكظهور جبريل عليه‌السلام ببعض الأشخاص ، والتصور بصورة بعض الأعراب.

وأما فى جانب الشر : فكظهور الشيطان بصورة إنسان حتى يعلم به الشر ، ويتكلم بلسانه.

وعلى هذا فغير ممتنع أن يظهر الرب ـ تعالى ـ بصورة أشخاص. ولما لم يكن بعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أفضل من على ـ عليه‌السلام ـ وبعده أولاده

__________________

(١) انظر شرح الطوالع ص ١٥٨ والمواقف ص ٢٧٤ وشرح المقاصد ٢ / ٥٢.

(٢) النصارى : أمة المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام ، وكانت مدة دعوته ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام ، أثبتوا لله ـ تعالى ـ أقانيم ثلاثة ؛ فهو واحد بالجوهرية ثلاثة بالأقنومية ، وقد افترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة ، وكبار فرقهم ثلاث : الملكانية ، والنسطورية ، واليعقوبية كما سيأتى (الملل ٢ / ٢٥ ـ ٣٣ المغنى ٥ / ٨٠ ـ ١٥١).

(٣) النصيرية والإسحاقية :

من جملة غلاة الشيعة ، وهما يتفقان فى أمور ، ويختلفان فى أمور أخرى قالوا : ظهور الروحانى بالجسد الجسمانى أمر واقع غير منكر فى جانبى الخير والشر ، وبينهما خلاف فى كيفية إطلاق اسم الإلهية على الأئمة من أهل البيت ، وربما أثبتوا الشركة فى الرسالة بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإمام على ـ إلا أن النصيرية أميل إلى تقرير الجزء الالهى.

والإسحاقية أميل إلى تقرير الشركة فى النبوة ـ وهما من الفرق الخارجة عن الإسلام. (الملل والنحل ١ / ١٨٩ ، ١٩٠).

(٤) انظر المسألة الثامنة ل ١٥٧ / أوما بعدها.

٥١

المخصوصون ، وهم خير البرية ـ ظهر البارى ـ تعالى ـ بصورهم ، ونطق بألسنتهم. وأطلقوا باعتبار ذلك اسم الآلهة عليهم. تعالى الله عن قولهم.

وأما بعض المشبهة (١) : / فإنهم قالوا : روح الآدمى صفة من صفات الرب ـ تعالى ـ لأنها من أمر الرب كما قال ـ تعالى ـ : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (٢) وأمر الله ـ تعالى ـ صفة من صفاته القديمة ؛ فكانت الروح صفة من صفاته.

والدليل على مذهب أهل الحق.

أما أن ذات البارى ـ تعالى ـ يمتنع حلولها فى المحل.

فلنا فيه ثلاث مسالك :

المسلك الأول :

أنه لو حلت ذاته فى محل ؛ فذلك المحل : إما أن يكون قديما ، أو حادثا.

لا جائز أن يكون قديما ؛ لما سيأتى فى بيان حدوث كل موجود سوى الله ـ تعالى.

وإن كان حادثا فقبل حدوثه. إما أن يكون الرب ـ تعالى ـ محتاجا فى وجوده إلى حلوله فى ذلك المحل ، أو لا يكون محتاجا إليه.

فإن كان الأول : فهو محال ؛ لثلاثة أوجه :

الأول : أنه يلزم منه خروج الرب ـ تعالى ـ عن كونه واجب الوجود ؛ وهو محال.

الثانى : (أنه) (٣) يلزم منه : إما قدم المحل ؛ ضرورة احتياج القديم إليه ، أو حدوث القديم ؛ وكل واحد من الأمرين محال.

الثالث : أنه يلزم منه الدور ضرورة توقف وجود المحل على وجود البارى تعالى ـ لكونه مصدر الكائنات ، وتوقف وجود الرب ـ تعالى ـ على حلوله فى ذلك المحل ؛ وهو ممتنع.

__________________

(١) لتوضيح رأى المشبهة وبيان أصنافهم : انظر الفرق بين الفرق للبغدادى ص ٢٢٥ ـ ٢٣٠ ، والملل والنحل ١ / ١٠٣ ـ ١١٣ ، ١٨٨ ـ ١٨٩.

وانظر ما سيأتى فى الجزء الثانى ـ القاعدة السابعة ل ٢٥٦ / ب وما بعدها.

(٢) سورة الإسراء ١٧ / ٨٥.

(٣) ساقط من أ.

٥٢

وإن لم يكن الرب ـ تعالى ـ قبل حدوث ذلك المحل محتاجا إلى حلوله فيه فبعد حدوثه (١) : إما أن يكون محتاجا إليه ، أو لا يكون محتاجا إليه.

فإن كان محتاجا إليه : ففى حالة احتياجه إليه يخرج عن كونه واجب الوجود ؛ وهو محال.

وإن لم يكن محتاجا إليه : ففى حالة حلوله فيه : إما أن يكون قائما بنفسه ، أو بذلك المحل.

فإن كان قائما بنفسه ؛ والمحل قائم بنفسه ؛ فليس القول بحلول أحدهما فى الآخر ، أولى من العكس ؛ بل الواجب أن كل واحد قائم بنفسه ، وليس محلا للآخر ، ولا حالا فيه.

وإن كان قائما بذلك المحل لا بنفسه ؛ فليس واجب الوجود لذاته ؛ ضرورة تقومه بغيره ؛ وهو محال.

المسلك الثانى :

أنه لو حلت ذاته فى محل ؛ فذلك المحل : إما أن يكون قابلا للانقسام ، أو لا يكون قابلا للانقسام.

فإن كان قابلا للانقسام : فما حل فيه وطابقه ، يجب أن يكون أيضا قابلا للانقسام ؛ فتكون ذات الرب ـ تعالى ـ قابلة للانقسام ، ومركبة من أجزاء ، وكل واحد من أجزائها غيرها ؛ إذ المفهوم من الجملة ، يزيد على المفهوم من كل / واحد من الأفراد ؛ فيكون غير كل واحد من الأفراد ، وهو مفتقر إلى كل واحد من الأفراد ، وما كان مفتقرا فى وجوده إلى غيره ؛ فلا يكون واجب الوجود لذاته.

وإن لم يكن المحل قابلا للانقسام : فيكون من الصغر ، والحقارة بمنزلة الجوهر الفرد ، فما حل فيه يكون مثله ؛ والرب يتعالى ويتقدس عن ذلك.

__________________

(١) فى ب (الحدوث).

٥٣

المسلك الثالث :

وهو خصيص بامتناع حلول ذات البارى ـ تعالى ـ فى بعض الأجسام دون البعض كما هو مذهب الحلولية (١) ، وهو أنه لو جاز حلول ذات البارى ـ تعالى ـ فى بعض الأجسام ؛ فلا بد وأن تكون ذات ذلك الجسم قابلة لحلول ذات البارى تعالى ـ فيها ؛ وأن تكون ذات البارى ـ تعالى ـ قابلة للحلول فى ذلك الجسم ، وإلا كان القول بجواز الحلول مع امتناع القبول من الطرفين ، أو من أحدهما ؛ ممتنعا.

وعند ذلك : فإما أن يكون قبول ذلك الجسم لحلول ذات الله ـ تعالى ـ فيه ، وقبول ذات الله ـ تعالى ـ لحلولها فيه ، لعموم كونه جسما ، أو لما به تعينه ، وتخصصه من الصفات الموجبة لتميزه عن غيره من الأجسام.

فإن كان الأول : فيلزم منه جواز حلول الرب ـ تعالى ـ بكل جسم من الأجسام حتى أجسام الجمادات ، والحشرات ، والمستقذرات من النجاسات (٢) والرب تعالى ـ يتقدس (٢) عن ذلك.

وإن كان الثانى : فما اختص به ذلك الجسم من الصفات إما أن يكون ذلك لذاته ، أو لمخصص من خارج.

فإن كان لذاته : فالأجسام مشتركة فى معنى الجسمية. فما اختص به جاز أن يختص به غيره ؛ فيكون أيضا قابلا لحلول ذات البارى ـ تعالى ـ فيه. وإن كان لمخصص من خارج : فإما أن يكون مخصصا بالطبع ، أو الاختيار. فإن كان مخصصا بالطبع ؛ فهو محال ؛ لتساوى الأجسام بالنسبة إليه.

وإن كان مخصصا بالاختيار ؛ فما (٣) جاز على الفاعل المختار تخصيص ذلك الجسم بما تخصص به ؛ جاز أن يخصص به ما هو مماثل له فى الجسمية.

__________________

(١) الحلولية : هم قوم أجمعوا على إفساد القول بتوحيد الصانع. وهم النصارى الذين قالوا بحلول اللاهوت بالناسوت ، وتدرعه به ، واتحاده به ، والنصيرية والإسحاقية من غلاة الشيعة الذين قالوا : إن الله حل فى أئمتهم ؛ فظهر بصورهم ، ونطق بألسنتهم. ومنهم بعض المشبهة الذين قالوا إن روح الآدمى من روح الله ، ومنهم بعض المتصوفة القائلين بالحلول ، والاتحاد.

(٢) فى ب (النجاسة والرب يتعالى ويتقدس).

(٣) فى ب (فكما).

٥٤

وعند ذلك : فيجوز على ذات الرب (١) ـ تعالى ـ الحلول بالنسبة إلى كل جسم من الأجسام ، ويمتنع الاختصاص بالبعض دون البعض.

وعلى هذا : فلا يمتنع أن يكون الرب (٢) ـ تعالى ـ حالا فى بدن كل من نراه من الناس ؛ بل فيما نشاهده من أبدان الحيوانات العجماوات ، لجواز أن يكون متصفا بما به القبولية ، وعدم المعرفة بذلك غير مانع من الجواز ، وأن يكون فى نفس الأمر كذلك / ؛ فإنه لا يلزم من انتفاء الدليل ، انتفاء المدلول فى نفسه ؛ على ما سبق تحقيقه (٣).

وأما أنه يمتنع حلول صفة من صفات الله ـ تعالى ـ فى محل غير ذاته ، فلأن ما يقدر من الصفات الثابتة لذات الرب ـ تعالى ـ حالا فى محل آخر غير ذات الله ـ تعالى ـ [(٤) إما أن يكون ذلك مع بقاء تلك الصفة حالة فى ذات الله ـ تعالى ـ] ، أو مع زوالها عن ذات الله ـ تعالى ـ

فإن كان الأول : فيلزم منه قيام الصفة المتحدة لمحلين ؛ وهو ممتنع.

وإن كان الثانى : فهو محال لوجهين :

الأول : أنه يلزم منه خلو ذات الله ـ تعالى ـ عما له من الصفات النفسانية ، أو بعضها ؛ وهو ممتنع ، لما سبق فى إثبات الصفات (٥).

الثانى : أنه يلزم منه جواز انتقال الصفة من محل ، إلى محل ؛ وهو محال ؛ لأن الصفة المنتقلة لها حالة اتصال بالمحل الأول ، وحالة اتصال بالمحل الثانى. وليست حالة اتصالها بالمحل الأول. هى حالة اتصالها بالمحل الثانى ، وإلا كانت الصفة الواحدة فى حالة واحدة ، قائمة بمحلين ؛ وهو محال.

وإنما صارت متصلة بالمحل الثانى بعد انفصالها عن المحل الأول بالانتقال ؛ إذ لو لم يقدر الانتقال ، لما كانت زائلة عن المحل الأول ، ومتصلة بالمحل الثانى ، وليست

__________________

(١) فى ب (البارى).

(٢) فى ب (البارى).

(٣) انظر ل ٣٨ / أ ، ب.

(٤) من أول (إما أن يكون ذلك ...) ساقط من أ.

(٥) انظر ل ٥٤ / أوما بعدها.

٥٥

حالة الانتقال هى حالة الاتصال ، لا بالمحل الأول ، ولا الثانى. وإلا كانت حالة اتصالها بمحلها منتقلة عنه ، أو إليه ؛ وهو محال.

فحالة الانتقال : إما أن تكون قائمة بمحل ، أو لا تكون قائمة بمحل.

فإن كانت قائمة بمحل : فلا بد وأن تكون منتقلة إليه عن المحل الأول لما تحقق ، والكلام فى حالة انتقالها إليه : كالكلام فى الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

وإن كانت قائمة لا بمحل : فقد خرجت عن أن تكون صفة مفتقرة إلى المحل ؛ وهو خلف محال.

وهذه المحالات : إنما لزمت من القول بجواز حلول صفات الرب ـ تعالى ـ بمحل غير ذاته ؛ فالقول به محال.

وأما قوله ـ تعالى ـ : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (١) (فليس) (٢) المراد به أن الروح بعض من الأمر الّذي هو صفة لله ـ تعالى ـ ؛ لما بيناه من استحالة حلول الصفة القديمة بغير الله ـ تعالى ـ ؛ بل المراد من قوله : (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) : أى من خلق ربى ؛ على ما ذكره أهل التفسير ، والله أعلم.

__________________

(١) سورة الإسراء ١٧ / ٨٥.

(٢) فى أ (ليس).

٥٦

«المسألة الثامنة»

فى الرد على النّصارى

وقد اتفقت النصارى على أن الله ـ تعالى ـ جوهر. بمعنى أنه قائم بنفسه غير متحيز ، ولا مختص بجهة ، ولا مقدر بقدر ، ولا يقبل حلول الحوادث / بذاته ، ولا يتصور عليه الحدوث والعدم ، وأنه واحد بالجوهرية. ثلاثة بالأقنومية. والأقانيم : هى صفات الجوهر القديم. وهى الوجود ، والعلم ، والحياة. وعبروا عن الوجود : بالأب ، والحياة : بروح القدس ، والعلم : بالكلمة.

واتفقوا على تدرع الكلمة : ـ وهى أقنوم العلم ـ بالمسيح ، واتحادها به دون باقى الأقانيم ، وعلى تسمية المسيح مع ما تدرع به من أقنوم العلم ابنا.

واتفقوا أيضا على أن عيسى ولدته أمه مريم ، وأنه قتل ، وصلب ، وصعد إلى السماء.

ثم اختلفوا :

فذهبت الملكانية (١) : أصحاب ملكا ـ الّذي ظهر بالروم ، واستولى عليها ـ إلى أن الأقانيم : غير الجوهر القديم ، وأن كل واحد منها : إله. وصرحوا بإثبات التثليث (٢). كما قال الله ـ تعالى ـ إخبارا عنهم : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (٣). وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح ، وتدرعت بناسوته ، وامتزجت به : كامتزاج الخمر بالماء ، أو اللبن. ثم صارا شيئا واحدا ، وانقلبت الكثرة قلة : أى العدد وحدة ، وأن المسيح ناسوت كلى لا جزئى. وهو قديم أزلى ، وأن مريم ولدت إلها أزليا ، مع اختلافهم فى مريم : أنها إنسان كلى ، أو جزئى.

واتفقوا : على أن اتحاد اللاهوت بالمسيح ، دون مريم ، وأن القتل ، والصلب وقع على الناسوت ، واللاهوت معا. واطلقوا لفظ الابن : على عيسى ، والأب : على الله تعالى.

__________________

(١) الملكانية : من أقدم المذاهب المسيحية : وهم أصحاب ملكا الّذي ظهر بأرض الروم واستولى عليها ، وكان معظم الروم ملكانية. وهذا المذهب كان منتشرا فى البلاد التى فتحها المسلمون ، ويبدوا أنه كان المذهب الرسمى فى ذلك العهد. (انظر المغنى ٥ / ٨٤ والملل ٢ / ٢٧ ـ ٢٩ ونشأة الفكر الفلسفى ١ / ٩٧ ، ٩٨).

(٢) فى ب (الثلاث).

(٣) سورة المائدة ٥ / ٧٣.

٥٧

وذهب نسطور (١) الحكيم : الّذي ظهر فى زمان المأمون ـ : الى أن الله ـ تعالى ـ واحد ، والأقانيم الثلاثة ليست غير ذاته ، ولا (٢) هى نفس (٢) ذاته ، وفسر أقنوم العلم بالنطق ، والكلمة. وقال : الله ـ تعالى ـ موجود حي ناطق. وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح عليه‌السلام لا بمعنى الامتزاج ؛ بل بمعنى الإشراق ، أى أنها أشرقت عليه : كإشراق الشمس من كوة على بلور.

ومن النسطورية (٣) من قال : إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة : حي ، ناطق ، إله ، وصرحوا بالتثليث (٤) : كمذهب الملكانية ؛ كما سبق.

ومنهم : من منع من ذلك.

ومنهم : من أثبت لله ـ تعالى صفات أخرى : كالقدرة ، والإرادة ، ونحوها ؛ ولكن لم يجعلوها أقانيم : كالحياة (٥) ، والعلم (٥). وزعموا أن الابن لم يزل متولدا من الأب ؛ وإنما تجسد ، وتوحد بجسد المسيح حين ولد ، والحدوث راجع إلى الناسوت ؛ فالمسيح إله تام ، وإنسان تام ؛ وهما جوهران قديم ، وحادث ؛ والاتحاد غير مبطل لقدم القديم ، ولا / لحدوث المحدث ، واتفقوا على أن القتل ، والصلب إنما ورد على الناسوت ، دون اللاهوت. ومنهم من قال : بأن الإله واحد ، وأن المسيح ابتدأ من مريم ، وأنه عبد صالح مخلوق. إلا أن الله ـ تعالى ـ شرفه ، وكرمه ؛ لطاعته ، وسماه ابنا على سبيل التبنى ؛ لا أنه ولد منه.

__________________

(١) نسطور هو مؤسس النسطورية ، وقد ظهر فى أوائل القرن الثانى الميلادى ، وجلس على كرسى البطريركية فى بيزنطة (القسطنطينية) وفيها أعلن مذهبه فى طبيعة المسيح ، وقد أثار عليه ثورة كبرى فى العالم المسيحى وقتئذ.

وقد تابع الآمدي الشهرستانى على خطئه حيث ذكر أن نسطور ظهر فى زمان المأمون ، والحق أن نسطور قد ظهر قبل المأمون بأكثر من ستة قرون.

(انظر المغنى ٥ / ٨٤ والملل والنحل ٢ / ٢٩ ، ٣٠ ونشأة الفكر الفلسفى ١ / ٩٨ ـ ١٠١.

(٢) فى ب (ولا نفس).

(٣) النسطورية : هم أصحاب نسطور الحكيم الّذي مرت ترجمته. أما عن آرائهم بالتفصيل ؛ فانظر الملل والنحل ٢ / ٢٩ ، ٣٠ والمغنى ٥ / ٨٤ ونشأة الفكر الفلسفى ١ / ٩٨ ـ ١٠١.

(٤) فى ب (بالثلاث).

(٥) فى ب (كالعلم والحياة).

٥٨

وذهب بعض اليعقوبية (١) : الى أن الكلمة : انقلبت لحما ، ودما ؛ فصار الإله هو المسيح. وهم الذين أخبر الله عنهم بقوله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (٢)

ومنهم من قال : ظهر اللاهوت بالناسوت ، بحيث صار هو ، هو ، كما يقال : ظهر الملك بصورة إنسان ، وقد قال الله ـ تعالى ـ : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) (٣).

ومنهم من قال : إن جوهر الإله القديم ، وجوهر الإنسان المحدث تركبا كتركب النفس الناطقة مع البدن ، فصارا جوهرا واحدا وهو المسيح ؛ فهو إله كله ، وإنسان كله وصار الإله إنسانا ، وإن لم يصر الإنسان إلها. كما يقال فى الفحمة إذا طرحت فى النار ، صارت الفحمة نارا ، ولا يقال صارت النار فحمة ، ولا يكون فى الحقيقة لا نارا مطلقة ، ولا فحمة مطلقة ؛ بل جمرة.

وقالوا : إن اتحاد اللاهوت بالإنسان الجزئى ، دون الكلى ، وأن مريم ولدت إلها ، وأن القتل ، والصلب ، وقع على اللاهوت والناسوت معا ؛ وإلا فلو وقع على أحدهما ؛ لبطل معنى الاتحاد.

ومنهم من قال : المسيح مع اتحاد جوهره قديم ، من وجه ، محدث من وجه.

ومن اليعقوبية من قال : إن الكلمة لم تأخذ من مريم شيئا ، وإنما مرت بها كمرور الماء فى الميزاب.

ومنهم من زعم أن الكلمة : كانت تداخل جسد المسيح ؛ فتصدر عنه الآيات التى كانت تظهر عنه ، وتفارقه تارة ؛ فتحله الآفات ، والآلام ، والأوجاع.

ومن النصارى من زعم : أن معنى : اتحاد اللاهوت بالناسوت ؛ ظهور اللاهوت على الناسوت ، وإن لم ينتقل من اللاهوت إلى الناسوت شيء ، ولا حل فيه ، وذلك : كظهور نقش الطابع على الشمع المتصل به ، أو ظهور الصورة المرئية فى المرآة الصقيلة.

__________________

(١) اليعقوبية : وقد اختلف فى صاحب المذهب : هل هو يعقوب البرذعانى ، أم ساويرس بطريرك انطاكية ، أو أوطاخس؟ والّذي ذهب إليه الشهرستانى أنهم أصحاب يعقوب : وقد نقل الشهرستانى موجزا لهذا المذهب فى كتابه الملل والنحل يدل على فهم كامل له. بين فيه ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه كما أورده الآمدي هنا.

(المغنى ٥ / ٨١ ، ٨٣ والملل والنحل ٢ / ٣٠ ونشأة الفكر الفلسفى ١ / ١٠١ ـ ١٠٢).

(٢) سورة المائدة ٥ / ٧٢.

(٣) سورة مريم ١٩ / ١٧.

٥٩

ومنهم من قال : إن الوجود والكلمة ؛ قديمان ، والحياة ؛ مخلوقة.

ومنهم من قال : إن الله ـ تعالى ـ واحد ، وسماه أبا ، وأن المسيح كلمة الله ، وابنه على طريق الاصطفاء [والاجتباء] (١) ؛ وهو مخلوق قبل خلق العالم ، وهو خالق الأشياء كلها.

وجملة هذه / الأقاويل ، وحاصل هذه الأباطيل ـ مع أنها مخالفة للأصول ، ومراغمة للعقول ـ ؛ فمما لا مستند لها ولا معول لهم فيها ؛ غير التقليد عن أسلافهم ، والأخذ بظواهر ألفاظ لا يحيطون بمفهومها.

وأشبه ما احتج به من قال إن المسيح عليه‌السلام إله ، أنه قال : قد ثبت أن المسيح عليه‌السلام أبرأ الأكمه ، والأبرص ، وأحيى الموتى ، وفعل أفعالا ، وقع الاتفاق من العقلاء على أنها لا يمكن صدورها عن (٢) البشر المخلوقين ، وأنه لا صدور لها عن غير (٣) الله تعالى (٣) ـ ؛ فكان إلها.

وربما احتجوا على ذلك نقلا : بما (٤) روى (٤) فى الإنجيل : أن مريم تلد إلها.

وربما احتج علينا من قال بأن المسيح كلمة الله بما نطق به كتابنا من قوله تعالى ـ : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) (٥) وبقوله ـ تعالى ـ (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) (٦).

واحتجوا قاطبة على جواز إطلاق اسم الأب على الله ـ تعالى والابن على المسيح. بما رواه فى الإنجيل «إنك أنت الابن الوحيد» (٧) ويقول المسيح عليه‌السلام : «من رآنى فقد رأى أبى فإننى وإياه واحد» (٨) ويقول شمعون الصفا : «إنك ابن الله حقا».

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) فى ب (من).

(٣) فى ب (الإله).

(٤) فى أ (بما رواه).

(٥) سورة النساء ٤ / ١٧١.

(٦) سورة التحريم ٦٦ / ١٢.

(٧) الموجود فى إنجيل يوحنا الاصحاح ١ / ١٨ (الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الّذي هو فى حضن الأب هو خبر).

(٨) الموجود فى نسخة ب (من رآنى فقد رآنى وأبى فإنى وإياه واحد).

وقد رجعت إلى إنجيل يوحنا ١٤ / ٩ فوجدت الآتى (الّذي رآنى فقد رأى الأب).

٦٠