أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٢

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣١

وبيان الملازمة : أنه لو كان موجدا لأفعاله فلا يخلو : إما أن يكون موجدا لها بذاته وطبعه ، أو بالقدرة ، والاختيار.

لا جائز أن يقال بالأول ؛ إذ (١) هو (١) خلاف الإجماع منا ، ومن الخصوم.

كيف : وأنا قد بينا امتناع الإيجاد بالطبع فى الرد على الطبائعيين (٢).

/ وإن كان الثانى : فالموجد بالقدرة ، والاختيار ؛ لا بد وأن يكون قاصدا لما يوجده ، ومخصصا له بالقصد دون غيره ، وإلا لما كان وجود ذلك المخصص بالوجود دون غيره أولى من العكس ، وإذا كان لا بد من القصد ؛ فلا بد وأن يكون القاصد للشىء عالما به ؛ فإن قصد العاقل لما لا علم له به محال ؛ وهو معلوم بالضرورة.

وإذا ثبتت الملازمة. فبيان انتفاء اللازم : هو أنا نعلم علما ضروريا من أنفسنا عدم العلم بوجود أكثر حركاتنا (٣) ، وسكناتنا (٣) فى حالة المشى ، والقيام ، والقعود. ولو أردنا قصد كل جزء من أجزاء حركاتنا فى حالة إسراعنا بالمشي ، والحركة ، والإحاطة به ؛ لم نجد إليه سبيلا ؛ بل ويعلم ذلك من حال أكمل العقلاء. فما ظنك بالحيوانات العجماوات : البرية ، والبحرية ، والهوائية فى مشيها ، وسباحتها ، وطيرانها. حتى الذر ، والبعوض ؛ بل وكذا حال النائم فى منامه ؛ بل أبلغ من حيث أن النّوم ضدّ للعلم باتفاق العقلاء ، وقد قالوا : إنه فاعل لما يصدر عنه من الأفعال القليلة دون الكثيرة.

وإذا ثبت انتفاء اللازم ؛ لزم انتفاء الملزوم.

فإن قيل : سلمنا أنه لا بد وأن يكون الموجد بالقدرة ، والاختيار قاصدا لما يوجده ، وعالما به ؛ ولكن على وجه كلى ، أو على وجه جزئى.

الأول : مسلم. والثانى : ممنوع ؛ فلم قلتم : إنه غير عالم وقاصد ، لما يوجده على وجه كلى.

__________________

(١) فى ب (وهو).

(٢) انظر ل ٢٢٠ / ب وما بعدها.

(٣) فى ب (سكناتنا وحركاتنا).

٤٠١

وإن كان جاهلا بخصوص الواقع المخصص من الجزئيات كما ذكرتموه ، وقررتموه (١) من أحوال العقلاء.

وبيان امتناع اشتراط القصد للجزئى (٢) الحادث (٢) فى الإحداث : هو أن القصد للشىء نسبة (٣) بينه (٣) ، وبين القاصد له ؛ فيكون صفة له من حيث هو نسبة بينه ، وبين القاصد. والصفة تابعة للموصوف فى الوجود ؛ فيكون القصد تابعا لذلك الجزئى فى الوجود. فلو كان حدوث ذلك الجزئى مشروطا بالقصد إليه ؛ لكان تابعا للقصد إليه فى الوجود ؛ وهو دور ممتنع.

ثم وإن سلمنا : دلالة ما ذكرتموه على امتناع كون العبد خالقا لفعله ؛ لكنه قدح فى البديهيات ، وإبطال للضّروريات كما قاله أبو الحسين البصرى الملقب بجعل.

وبيان ذلك : هو أن كل عاقل يعلم من نفسه أنه فاعل لما يصدر عنه : من الحركات ، والسكنات الواقعة على / وفق قصده ، وداعيته : كقيامه ، وقعوده ، ومشيه ، وغير ذلك من أفعاله. بخلاف حركة الارتعاش ، والمجرور المسحوب على وجهه : على وجه لا يتمارى فيه عاقل ولا يشككه مشكك ، والقدح فى الضروريات لا يكون مقبولا.

سلمنا أن العلم بكون العبد فاعلا ، وموجدا لفعله غير ضرورى ؛ لكن ما ذكرتموه معارض بما يدل على كونه موجدا ، وفاعلا.

وبيانه من حيث المعقول ، والمنقول :

أما المعقول :فمن عشرين وجها :

الأوّل : أنه قد (٤) قام الدليل على وجود القدرة الحادثة بما سبق (٥).

وعند ذلك : فلو لم تكن القدرة الحادثة مؤثرة فى الفعل المقدور ، ولا فى صفة من صفاته ؛ لم يبق بين المقدور ، وغير المقدور معنى ؛ وفيه إبطال دليل وجود القدرة الحادثة.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) فى ب (الحادث الجزئى).

(٣) فى ب (نسبة له بينه).

(٤) فى ب (لو).

(٥) انظر ل ٢٢٩ / أوما بعدها.

٤٠٢

الثانى : أنه قد ثبت كون فعل العبد مقدورا للعبد. فلو لم يكن مخلوقا له ؛ لكان مخلوقا لغيره ، ؛ لضرورة حدوثه ، ويلزم من كونه مخلوقا للغير أن يكون مقدورا لذلك الغير.

وعند ذلك : فإما أن يبقى مقدورا للعبد ، أو لا يبقى مقدورا له.

فإن كان الأول : لزم وجود مقدور بين قادرين ؛ وهو محال كما سبق.

وإن كان الثانى : فيلزم منه إبطال دليل القدرة الحادثة ؛ وهو ممتنع.

الثالث : هو أن الفعل المقدور واقع على حسب القصد ، والداعية ؛ بخلاف ما ليس بمقدور. فلو كان الفعل المقدور واقعا بغير القدرة الحادثة ؛ لما وقع على حسب القصد ، والداعية ؛ بخلاف ما ليس بمقدور. فلو كان الفعل المقدور واقعا بغير القدرة الحادثة ؛ لما وقع على حسب القصد ، والداعية لغير المقدور.

الرابع : هو أن الأفعال الاختيارية مختلفة باختلاف القدر. حتى أن الأيّد القوى ؛ يقدر على حمل أضعاف ما يقدر عليه الضّعيف ، ولو استويا فى عدم تأثير القدرة فى المقدور ؛ لما وقع التفاوت أصلا.

وحيث وقع التفاوت ؛ دلّ على تأثير القدرة الحادثة فى مقدوراتها.

الخامس : هو أنه لو كان تعلق القدرة الحادثة بمقدورها من غير تأثير لها فيه ؛ لما امتنع تعلقها بالألوان ، والطعوم ، والجواهر ، والمستحيلات : كما فى العلم. وحيث لم تتعلق بهذه الأمور ؛ لم يكن إلا لكونها مؤثرة.

السادس : هو أنه لو لم تكن قدرة العبد مؤثرة فى مقدوره ؛ لكان / مقدوره حاصلا فيه بفعل الله ـ تعالى ـ ضرورة : كما فى حركة الارتعاش ، ويلزم من ذلك أن يكون العبد مضطرا إلى الفعل ، وهو مقدور له ؛ وذلك (١) محال.

السابع : أنه لو لم تكن القدرة الحادثة مؤثرة فى مقدورها ؛ بل المؤثر فيه هو الله ـ تعالى ـ ؛ لأمكن وجود مقدورات من العبد فى غاية الحكمة (٢) والإتقان : كالصنائع البديعة ، والأبنية المشيدة الرفيعة. وهو لا يشعر بها ، ولا يحيط بها مع كونها مقدورة له ؛ لضرورة (٣) وقوعها بفعل الله ـ تعالى ـ ؛ وذلك محال.

__________________

(١) فى ب (وهو).

(٢) فى ب (من الحكمة).

(٣) فى ب (ضرورة).

٤٠٣

الثامن : هو أن مقدور العبد ينقسم : إلى طاعة ، ومعصية ، وخير وشر ، وذل ، وخشوع. وفعل الله ـ تعالى ـ لا يوصف بشيء من ذلك ؛ فلو كان مقدورا للعبد غير مخلوق له ؛ بل لله ـ تعالى ـ ؛ لا تصف بهذه الصفات ؛ وهو محال.

التاسع : أنه من فعل الظلم : فإنه يسمى ظالما ، والشر : شريرا ، والفسق : فاسقا ، والخير : خيرا ، والمعصية : عاصيا ، والخشوع : خاشعا ، إلى غير ذلك.

ولا يخفى أن مقدورات العبد : منقسمة إلى هذه الأقسام. فلو لم تكن من فعله ؛ بل من فعل الله ـ تعالى ـ ؛ لسمى بما ذكرناه ؛ وهو محال.

العاشر : أنه لو لم يكن مقدور العبد حاصلا بقدرته ؛ بل بإيجاد الله ـ تعالى ـ ؛ لكان كفره بإيجاد الله ـ تعالى ؛ وهو ممتنع لوجهين :

الأول : أنه لو كان كذلك ؛ لكان الرب ـ تعالى ـ أضر على العبيد من إبليس اللعين ، من حيث أن إبليس داع إلى الكفر ، والرب ـ تعالى ـ موجد له ؛ وذلك غير لائق بالموصوف باللطيف ، وأرحم الراحمين ، على ما قال ـ تعالى ـ (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) (١) وقال ـ تعالى ـ (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٢).

الثانى : أنه يلزم منه أن لا يكون لله ـ تعالى ـ على الكافر نعمة على ما تقرر قبل ؛ وهو محال لما سبق.

الحادى عشر : هو أن العقلاء : يستحسنون شكر المحسن ، وذم المسىء ولا يستحسنون شكره ، ولا ذمه على سواده ، وبياضه ، وطوله ، وقصره ، وحركته حال ارتعاشه. ولو لم يكن ما (٣) شكر (٣) ، وذم عليه : من فعله ، وإيجاده ؛ لما حسن الشكر ، والذم : كما فى الصور المستشهد بها ؛ ضرورة التساوى فى عدم تأثير القدرة الحادثة.

الثانى عشر : هو أن العقلاء : (يستحسنون) (٤) الأمر ، والنهى للقادر على الفعل ، وطلبه منه ، وزجره عنه ، والوعد والوعيد عليه. ولا يستحسنون ذلك فيما ليس بمقدور :

__________________

(١) جزء من الآية رقم ١٩ من سورة الشورى.

(٢) سورة يوسف جزء من الآية رقم ٦٤.

(٣) فى ب (ما شكر عليه).

(٤) فى أ (لا يستحسنون).

٤٠٤

كحركة / الارتعاش ، ووجود الجواهر ، والألوان ، والطعوم ، ولو تساويا فى عدم تأثير القدرة الحادثة فى الكل ؛ لما حسن هذا الفرق.

الثالث عشر : أن القول يكون العبد غير خالق لفعله : يسد باب إثبات الصانع ؛ وذلك من حيث أن الطريق إلى إثبات الصانع : إنما هو حدوث العالم ، وافتقاره إلى محدث بالقياس على أفعالنا الحادثة ، فإذا كان حكم الأصل فى الأصل غير ثابت ؛ ففى الفرع أولى.

الرابع عشر : أن الإجماع من الأمة منعقد على أن العبد مأمور ، ومنهى ؛ فلو كان ما أمر به ، ونهى عنه : ليس من فعله ؛ لكان ذلك تكليفا بفعل الغير ؛ وهو تكليف بما لا يطاق. ولو أمكن ذلك ؛ لأمكن التكليف بخلق الجواهر ، والألوان ، والطعوم ؛ بل بالمستحيلات ؛ وذلك محال. كما سبق تقريره فى (١) مسألة تكليف ما لا يطاق (١).

الخامس عشر : أن مقدورات العبد منقسمة : إلى حسنة ، وقبيحة ؛ فلو لم تكن مقدوراته من فعله. وإيجاده ؛ لكانت من فعل الله ـ تعالى ـ ويلزم من ذلك أن يكون الله فاعلا للقبيح ؛ وهو محال من ثلاثة أوجه :

الأول : أن من يفعل القبيح إذا كان مختارا له ؛ فلا يتصور فعله له إلا بتقدير جهله بقبحه ، أو احتياجه إليه ، ويلزم من ذلك أن يكون الرب ـ تعالى ـ جاهلا ، أو محتاجا ؛ وهو محال.

الثانى : أنه لو جاز عليه فعل القبيح ؛ لجاز أن يبعث نبيا كاذبا : داعيا إلى الكفر ، والضلال ، والبدع ، والفسق ، وأفعال الشر ؛ وذلك كله محال.

الثالث : أنه إذا جاز عليه فعل القبائح ؛ فلا يمتنع عليه الكذب فى وعده ، ووعيده ، وكل ما يخبر به.

__________________

(١) من أول (فى مسألة ...) ناقص من ب. انظر ل ١٩٤ / ب وما بعدها.

٤٠٥

ويلزم من ذلك : إبطال الشرائع ، وتجويز أن يكون ما أخبرنا به من (أن) (١) دين الإسلام حق ، وما عداه باطل بالضد ؛ وكل (٢) ذلك (٢) محال لا يرتضيه عاقل لنفسه ؛ فضلا عن خالقه.

السادس عشر : لو كانت مقدورات العبد من أفعال الله ؛ لكانت حسنة بكل حال ؛ وليس كذلك.

السابع عشر : أنه لو لم يكن العبد موجدا لفعله ؛ لما كان الثواب ، والعقاب على فعل العبد مجازاة له على فعله ، وهو خلاف قوله ـ تعالى ـ (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣). وقوله ـ تعالى ـ (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) (٤). وقوله ـ تعالى ـ (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٥). وقوله ـ تعالى ـ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (٦).

/ إلى غير ذلك من الآيات ، والدلالات السمعيات ؛ وذلك محال.

الثامن عشر : أنه يلزم من كون العبد غير موجد لفعله : أن يكون الثواب والعقاب من الله ـ تعالى ـ لا بطريق المجازاة على الفعل. ولو كان كذلك لجاز عقاب الأنبياء ، وثواب الكفرة الأغبياء ، وعقاب الطائع ، وثواب العاصى ، ولم يبق لأحد وثوق بعمله.

ولا يخفى : ما فى ذلك من تشويش الدين ، والخبط فى الشريعة ، وتعطيل معنى الرسالة.

التاسع عشر : أنه لو كان البارى ـ تعالى ـ هو الفاعل لمقدورات العبد ، وهو آمر بها ، وناه عنها ؛ لكان آمرا للعبد بفعل نفسه ، ناهيا له عنه ، ولا يخفى أن أمر الآمر لغيره بفعل الأمر ، ونهيه عن فعله ، مما يعد جهلا ، وحمقا ؛ والرب منزه عن ذلك كله.

العشرون : أنه لو كان الكفر ، والإيمان من فعل الله ـ تعالى ـ ؛ لكان من قضائه ، وقدره.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) فى ب (وهو).

(٣) سورة السجدة ٣٢ / ١٧.

(٤) سورة آل عمران ٣ / ١٨٢.

(٥) سورة التوبة جزء من الآية رقم ٨٢ والآية رقم ٩٥.

(٦) سورة النجم ٥٣ / ٣١.

٤٠٦

وعند ذلك : إما أن يكون قضاؤه حقا ، أو باطلا.

فإن كان باطلا : فالإيمان باطل.

وإن كان حقا : فالكفر حق ؛ وهو محال.

وأيضا : فإنه : إما أن يرضى بقضائه وقدره ، أو لا يرضى به.

فإن كان الأول : لزم الرضى بالكفر.

وإن كان الثانى : لزم أن لا يرضى بالإيمان ؛ وهو محال مخالف لإجماع الأمة.

وأما من جهة المنقول :

فمن جهة الكتاب ، والسنة ، وإجماع الأمة.

أما الكتاب :

فقوله ـ تعالى ـ (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) (١). وقوله ـ تعالى ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) (٢). وقوله ـ تعالى ـ (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٣). وقوله تعالى ـ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٤). وقوله ـ تعالى ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (٥). وقوله ـ تعالى ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) (٦). إلى غير ذلك من الآيات الدالة على نسبة العمل إلى العبد.

وأما السنة :

فقوله ـ عليه‌السلام ـ : «الأعمال بالنّيات» (٧). وقوله : «لا عمل إلّا بنيّة». وقوله:

__________________

(١) سورة طه ٢٠ / ٨٢.

(٢) سورة فصلت ٤١ / ٤٦.

(٣) سورة هود ١١ / ٧.

(٤) سورة الجاثية ٤٥ / ٢١.

(٥) سورة المائدة ٥ / ٩.

(٦) سورة المؤمنون ٢٣ / ٤.

(٧) جزء من حديث ـ متفق عليه ـ عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى البخارى ١ / ٤ (كتاب بدء الوحى) ومسلم ٣ / ١٥١٥ ـ ١٥١٦ (كتاب الإمارة ، باب قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما الأعمال بالنية. والحديث ورد بألفاظ عدة فى مواضع كثيرة فى كتب الصحاح والسنن.

٤٠٧

«نيّة المؤمن خير من عمله» (١). وقوله : «اعملوا وقاربوا وسدّدوا فكلّ ميسّر لما خلق له» (٢).

وأما الإجماع :

فهو أن الأمة مجمعة على إطلاق القول : بإضافة العمل إلى العبد ، وأنه فاعل. وأنه فعل كذا ، وما فعل كذا. وكذا فعله.

والفعل : عبارة عن الحادث ممن كان قادرا عليه.

والفاعل : هو القادر على إيجاد الفعل.

وإن سلمنا أن القدرة الحادثة غير مؤثرة فى نفس الفعل : ولكن ما المانع من كونها مؤثرة فى إثبات صفة (٣) للفعل؟ / كما هو مذهب القاضى أبى بكر والأستاذ أبى إسحاق ؛ وهو أولى ؛ لما فيه من الجمع بين الأدلة الدالة على كون الرب خالقا لفعل العبد ، والأدلة الدالة على كون العبد فاعلا ، ومؤثرا.

ولا يخفى : أن الجمع بين الأدلة أولى من العمل بالبعض ، وتعطيل البعض.

والجواب :

قولهم : الموجد بالاختيار لا بد وأن يكون قاصدا لما يوجده ، وعالما به على وجه كلى ، أو جزئى.

قلنا : القصد يجب أن يكون إلى الشيء الّذي يتعلق به الحدوث والوجود ، وليس ذلك غير الجزئى ، لا الكلى.

__________________

(١) أخرجه الطبرانى عن سهل بن سعد الساعدى مرفوعا. انظر كشف الخفاء ومزيل الإلباس للعجلونى ص ٣٢٤.

وفى قول آخر أنه فى الأمثال للعسكرى ، والبيهقى فى الشعب من جهة ثابت عن أنس به مرفوعا. وانظر حلية الأولياء لأبى نعيم الأصبهانى ٣ / ٢٥٥ ، وفيه الحديث ورد مرفوعا عن سهل بن سعد.

(٢) جمع الآمدي بين حديثين فى قول واحد :

الأول : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سددوا وقاربوا ويسروا فإنه لن يدخل الجنة أحد عمله. وهو جزء من حديث عن عائشة رضى الله عنها فى مسند أحمد ٦ / ١٢٥.

الثانى : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اعملوا فكل ميسر لما خلق له. وهو جزء من حديث عن عمران بن حصين فى البخارى ٩ / ١٩٥ (كتاب التوحيد ، باب فى قول الله تعالى «ولقد يسرنا القرآن للذكر» والحديث ورد باختلاف طفيف فى الألفاظ فى كتاب الصحاح والمسانيد.

(٣) فى ب (صيغة).

٤٠٨

وإذا كان القصد لا يكون إلا للجزئى ؛ فالمقصود يجب أن يكون معلوما ؛ لضرورة تعلق القصد بإيجاده. فلو كان المقصود المعلوم هو الكلى دون (١) الجزئى : لكان المعلوم المقصود غير الحادث ، والحادث غير مقصود ولا معلوم ؛ وهو محال.

قولهم : لو اشترط قصد الجزئى : من حيث هو جزئى ؛ لزم الدور كما قرروه. إنما يلزم : أن لو كان القصد نسبة ، وإضافة ؛ وليس كذلك ؛ بل المراد بالقصد : الإرادة. والإرادة : كما سبق ـ عبارة عن صفة وجودية صالحة أن يتأتى بها تخصيص المقدور بحالة دون حالة. والّذي يتخيل أنه نسبة وإضافة : إنما هو تعلقها بالمقدور. والدور (٢) أيضا : غير لازم من تعلقها بالمقدور الجزئى ؛ لأن معنى تعلق الإرادة بالمقدور : حصول تخصيصه مستندا إليها : بمعنى أنه : لو لا الإرادة لما كان ذلك التخصيص.

ولا يخفى : أن تفسير التعلق بهذا المعنى مما لا يلزم منه الدّور أصلا.

قولهم : ما ذكرتموه تشكيك فى الضّروريات ؛ ممنوع.

قولهم : كل عاقل يعلم من نفسه أنه موجد لما يفعله ضرورة.

قلنا : كل عاقل يجد من نفسه العلم بوجود فعله : مقارنا لقدرته ، أو أن قدرته مؤثرة فى فعله. الأول : مسلم ، ولا منافاة بينه ، وبين ما ذكرناه. والثانى ؛ ممنوع.

ولهذا : خالف فيه خلق كثير ـ تقوم الحجة بقولهم ـ من العقلاء : كالأشاعرة ، والقدرية ؛ والضرورى ليس كذلك.

قولهم : لو لم تكن القدرة الحادثة مؤثرة : لما فرق (٣) بين المقدور ، وما ليس بمقدور.

قلنا : لا نسلم أنه يلزم من عدم تأثير القدرة الحادثة فى مقدورها ؛ امتناع الفرق بين المقدور ، وما ليس بمقدور ، كما لا يلزم من امتناع تأثير العلم فى المعلوم ؛ امتناع الفرق بين المعلوم ، وما / ليس بمعلوم. اللهم إلا أن يبينوا : امتناع تعلق القدرة الحادثة بالمقدور ؛ ولا سبيل إليه.

ولا يلزم : من امتناع التأثير ؛ امتناع التعلق : بدليل العلم ، والإدراك.

__________________

(١) فى ب (لا).

(٢) فى ب (والأول).

(٣) فى ب (وقع الفرق).

٤٠٩

ثم كيف السبيل : إلى إنكار المعتزلة انقسام القدرة : إلى مؤثرة ، وغير مؤثرة. ومن أصلهم : أن الإرادة مما تقع بها الصفات التابعة للحدوث كصرف صيغة أفعل. إلى الإيجاب ، والاستحباب. وصرف الفعل إلى التعظيم ، والإهانة ؛ ومع ذلك فحدوث الفعل غير واقع تبعا (١) مع كونه مرادا بها.

وكذلك حكموا : بأنّ صفة الاتفاق ، والإحكام فى الفعل المحكم المتقن واقعه بالعلم ؛ وهو غير مؤثر فى ذات الله ـ تعالى ـ والجواهر وكثير من الأعراض. وإن كان متعلقا بها ؛ وهى معلومة به ؛ ولو سئلوا عن الفرق لم يجدوا إليه سبيلا.

قولهم : يلزم مما ذكرتموه : وجود مقدور بين قادرين.

قلنا : قادرين خالقين ، أو قادرين مخترع ، ومكتسب. الأول ؛ ممنوع ، والثانى مسلم.

ولكن لا نسلم امتناع ذلك على ما سبق تقريره.

قولهم : الفعل المقدور واقع على حسب القصد ، والداعية.

قلنا : لا معنى للقصد : غير الإرادة. والداعى : لا معنى له غير علم الفاعل ، أو اعتقاده ، أو ظنه بما يتوقعه من نفع فى فعله ، أو دفع ضرر به.

وعند ذلك : فلا نسلم أن الفعل المقدور واقع على حسب القصد والداعية ؛ فإن الفعل القليل : مقدور للنائم بالإجماع منا ، ومنهم. وهو غير واقع على حسب القصد ، والداعية إليه ؛ إذ النوم : مضاد للعلوم ، والإدراكات بالإجماع منا ، ومنهم.

وكذلك الحركة الواقعة لا على خط مستقيم : مقدورة لمن قصدها على خط مستقيم ؛ وهى غير واقعة على حسب قصده ، وداعيته ؛ بل أبلغ من ذلك ما نراه (٢) من حركات الحيوانات العجماوات : فى طيرانها ، وسباحتها ، وحركة أجفانها : انفتاحا ، وانطباقا ؛ فإنها مقدورة لهم بالإجماع مع علمنا أن كل حركة منها ـ على الخصوص ـ غير واقعة على حسب القصد ، والداعية.

__________________

(١) فى ب (بها).

(٢) فى ب (وما نراه).

٤١٠

وعلى أصلهم : المتولدات من حركات المختارين مقدورة لهم ؛ وبعضها غير واقعة على حسب القصد ، والداعية.

وأيضا : فإنهم أثبتوا للعبد أفعالا لا بقاء لها : كالحركات ، وما لا بقاء له من الأعراض ؛ فإنهم أوجبوا : اختصاصه بوقت لا يتصور تقدمه عليه ولا تأخره / عنه ؛ فوقوعه فيه لا يكون على حسب القصد ، والداعية ؛ لأن (١) القصد ، والداعية متوقف (١) على التمييز بين الفعل ، والترك.

سلمنا وقوع المقدور على حسب القصد ، والداعية : ولكن لا نسلم أن ما ليس بمقدور ، ليس كذلك ؛ وبيانه من ثلاثة أوجه :

الأول : أن من طلب منه فعل فأتى به ؛ فقد وقع على حسب قصد الطالب ، وداعيته. وليس ذلك الفعل مقدورا له ؛ فإن فعل زيد لا يكون مقدورا لعمرو بالاتفاق.

الثانى : أن الاتفاق منا ، ومنهم واقع على أن الشبع ، والرى واقعان عقيب الأكل ، والشرب. بفعل الله ـ تعالى ـ على وفق القصد ، والداعية فى الأكثر ؛ وليس ذلك من فعل العبد.

الثالث : أنا قد اتفقنا : على إمكان خلق إرادة ضرورية ، وداع ضرورى لفعل (٢) مخلوق فى العبد بالضرورة على وفق قصده ، وداعيته ؛ ولا يكون فعلا للعبد.

سلمنا أن المقدور واقع على حسب القصد ، والداعية ، وأن ما ليس بمقدور ليس كذلك : ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك أن يكون المقدور مفعولا لمن له القصد ، والداعية.

قولهم : لو لم يكن كذلك ؛ لما وقع المقدور على حسب القصد والداعية ، لغير المقدور. إنما يلزم ذلك : أن لو كان عدم وقوع الفعل على حسب القصد والداعية ، فيما ليس بمقدور ؛ لعدم تأثير القدرة الحادثة فيه ؛ وهو غير مسلم.

__________________

(١) فى ب (والقصد والإرادة متوقفان).

(٢) فى ب (بفعل).

٤١١

وما المانع أن يكون ذلك لكونه غير مقدور؟ لا لعدم تأثير القدرة فيه؟ أو لمعنى آخر لا سبيل إلى نفيه بطريق قطعى (١).

كيف : وأنه إذا لم يستبعد امتناع وقوع الفعل بالقصد والداعية ، مع وقوعه على حسبهما ، فكيف يستبعد وقوعه لا بالقدرة الحادثة؟

قولهم : الأفعال الاختيارية (٢) مختلفة باختلاف القدر على ما ذكروه.

قلنا : التفاوت : إنما هو فى كثرة المقدورات لكثرة القدر ؛ وليس فى ذلك ما يدل على وقوع الفعل بالقدرة.

قولهم : لو لم تؤثر القدرة الحادثة فى مقدورها ؛ لما امتنع تعلقها بالجواهر ، والألوان ، والطعوم ، والمستحيلات : كما فى العلم.

قلنا : هذا إنما يلزم أن لو بينوا أن علة تعلق العلم بالجواهر ، وباقى ما ذكر ، عدم تأثيره ؛ وهو غير مسلم ، ولا مبرهن عليه ؛ فيكون ما ذكروه تمثيلا من غير علة جامعة / ؛ وهو غير صحيح.

فإن قيل : فإذا (٣) قيل : تتعلق القدرة بالمقدور من غير تأثير ؛ فليس تعلقها ببعض المقدورات دون البعض ؛ أولى من العكس.

قلنا : (ليس) (٤) كذلك ؛ فإنه لا مانع أن تكون لذاتها مقتضية للتعلق بما تعلقت به لخصوص تعينه ، أو أن يكون تعين ما لم تتعلق به مانعا من تعلقها به.

ثم هو لازم : على القائل بتأثير القدرة الحادثة فى مقدور ، دون مقدور ، وكل ما يقال فى الجواب فى تخصيص التأثير ؛ فهو جواب فى تخصيص التعلق من غير تأثير.

قولهم : لو كان مقدور العبد مخلوقا للرب ـ تعالى ـ فيه ؛ لكان العبد مضطرا إليه ؛ وقد سبق جوابه فى الفصول المتقدمة.

__________________

(١) فى ب (قطع).

(٢) فى ب (الاعتبارية).

(٣) فى ب (إذا).

(٤) فى أ (أليس).

٤١٢

قولهم : لو كان المؤثر فى مقدورات العبد القدرة القديمة ؛ لجاز أن يوجد منه فعل فى غاية الحكمة ، والإتقان ؛ وهو لا يشعر به ؛ عنه جوابان :

الأول : أنا نقول بجوازه ، وإن كان على خلاف العادة (الغالبة) (١).

الثانى : وإن كان ذلك ممتنعا : فما المانع أن يكون ذلك لتلازم القدرة الحادثة والعلم ، وإن كان المؤثر فى المقدور القدرة القديمة ؛ وذلك كتلازم : الألم ، والعلم به. وإن كان المؤثر فى الألم هو القدرة القديمة.

قولهم : من فعل ظلما : يسمى ظالما ؛ سبق الجواب عنه فيما تقدم.

قولهم : لو كان الرب هو الخالق للكفر ؛ لكان أضرّ على العبيد من إبليس على ما قرروه.

قلنا : هذا هو اللازم على الخصم من وجهين :

الأول : أنه إن كان الموجد للكفر ؛ أضرّ من الدّاعى إليه ؛ فالممكن منه بخلق القدرة عليه ، والداعى إليه ، وآلات التوصّل إلى الكفر مع علمه بوقوعه ممن مكنه أيضا ؛ أضرّ من الدّاعى إليه.

ولهذا : فإن فى الشاهد لو خلق الله ـ تعالى ـ العلم الضرورى لشخص ، أو باعلام نبى مرسل له بطريق الوحى : أنه لو مكن عبدا من العدد ، والأموال ؛ لقطع الطريق ، وأخاف السبيل ، وارتكب الفواحش ؛ فإنه يكون أضرّ على العبد من الداعى إليه. إذا لم يكن موجدا ، ولا ممكنا لتلك المعاصى والرب ـ تعالى ـ قد مكن عبده من الكفر على أصلكم بما حققناه ؛ فليكن أضرّ عليه من إبليس الداعى إليه.

وما هو جواب لكم : عن هذا الإلزام ؛ فهو جواب لنا : هاهنا.

الثانى : أنه يلزم على سياق ما ذكروه : أن يكون العبد ؛ لكونه فاعلا للإيمان ـ على أصلهم ـ أحق بالثناء من الله ـ تعالى ـ لكونه ممكنا منه غير فاعل له ؛ وهو محال.

فلئن قالوا : إنما كان الرب أحق / بالثناء من العبد ؛ لأنه لو لا تمكينه من الكفر لما أوجد العبد الإيمان.

__________________

(١) فى أ (الحالية).

٤١٣

قلنا : فليكن الرب أحقّ بالذّم على تمكينه من الكفر ؛ لأنه لولاه لما أوجد العبد الكفر.

فلئن قالوا : الرب ـ تعالى ـ محسن بتمكينه العبد من الكفر ؛ ليعظم ثوابه بإيمانه (١) عن (١) الكفر ، وامتناعه منه.

قلنا : الثواب (٢) عندكم : إنما يكون على الفعل ، ولا فعل عدم ؛ وليس بفعل. والمتحقق هاهنا : إنما هو التمكين من الفعل ، وعدم الفعل. والتمكين من فعل الله ؛ فلا يستحق عليه العبد ثوابا. ولا فعل غير مثاب عليه ، فلو أثيب ؛ لأثيب على ما ليس من (٣) فعله (٣) ؛ وهو محال على أصلكم.

هذا كله : إذا علم الله ـ تعالى ـ أن العبد لا يفعل ما مكنه منه.

وأما إذا علم أنه لا يمتنع مما مكنه منه ، وأنه يفعله ؛ فلا يعد محسنا.

كيف : وأن جميع ما ذكروه فمبنى على إلحاق الغائب بالشاهد ؛ وهو ممتنع كما سبق (٤).

فلو (٥) صح : لصح (٥) تقبيح فعل الله ـ تعالى ـ تمكينه (٦) للخلق من الفواحش وارتكابهم لها ؛ مع اطلاعه عليهم ، وعلمه أنهم لا ينزجرون ؛ كما يقبح ذلك فى الشاهد من السيد إذا ترك عبيده ، وإماءه يرتكبون الفواحش ؛ وهو مطلع عليهم ، وقادر على منعهم ؛ وهو محال.

قولهم : يلزم من ذلك أن لا يكون لله ـ تعالى ـ على الكافر نعمة.

قلنا : قد بينا ـ فيما سبق ـ أن مذهب أصحابنا : أنه لا نعمة لله ـ تعالى ـ على الكافر من النعم الدينية ، وإن اختلفوا فى النعم الدنياوية ، وبينا ما فى ذلك فى موضعه.

__________________

(١) فى ب (بإبائه من).

(٢) فى ب (القول).

(٣) فى ب (بفعله).

(٤) انظر ل ٤٠ / أ.

(٥) في ب (ولو صلح صح).

(٦) فى ب (لتمكينه).

٤١٤

قولهم : العقلاء يستحسنون شكر المحسن ، وذم المسىء ، ولا يستحسنون الشكر والذم على سواده ، وبياضه ؛ مسلم.

قولهم : ولو لم يكن ذلك من فعله ، وتأثيره ؛ لما حسن ذلك ؛ كما فى السواد ، والبياض.

قلنا : هذا إنما يلزم أن لو بينتم أن امتناع الشكر ، والذم على سواده وبياضه ؛ لعدم تأثيره فيه ؛ ولا سبيل إليه بأمر يقينى.

كيف وأن حاصل ما ذكروه : يرجع إلى الاحتجاج على قضية عقلية ؛ بأمر عرفى ؛ وهو فاسد.

قولهم : العقلاء يستحسنون الأمر والنهى ، للقادر ؛ مسلم.

قولهم : ولو لم يكن موجدا لما أمر به ؛ لما حسن ذلك.

قلنا : القول بامتناع الأمر ، والنهى بما ليس من فعل المأمور : إما أن يكون معلوما ، أو غير معلوم.

فإن لم يكن معلوما : امتنع الجزم به.

وإن كان معلوما : فإما بالضرورة ، أو بالدليل. لا سبيل إلى الأول : إذ ليس دعوى الضرورة فى محل الخلاف : / أولى من دعوى الضرورة فى الضد.

كيف : وإنه لم يقل بذلك قائل ممن يؤبه به من المعتزلة غير الملقب بجعل.

وإن كان بدليل : فلا بد من إظهاره ضرورة إصرار الخصم على المنع.

وعند ذلك : فإن احتجوا بالعرف (١) ؛ فقد سبق ما فيه.

وإن عادوا إلى شبهة أخرى غير هذه الشبهة من الشبه المذكورة ، عاد الكلام فيها.

كيف : وأن ما ذكره المعتزلة من استبعاد الأمر والنهى ، بما ليس مفعولا للمأمور ، والمنهى ينعكس عليهم من وجهين :

__________________

(١) فى ب (فى العرف).

٤١٥

الأول : أنهم زعموا أن القدرة الحادثة غير مؤثرة فى المقدور فى حال (١) حدوثها ؛ بل فى الحالة الثانية من وقت حدوثها. وقد بينا فيما تقدم أنه يلزم من ذلك : امتناع تعلق القدرة بالمقدور. ومع ذلك ؛ فهو مأمور ، ومنهى.

الثانى : هو أن الذوات ثابتة عندهم فى العدم. والوجود حال زائدة عليها ، والقدرة غير متعلقة بالذوات عندهم ، والوجود حال ، والأحوال غير مقدورة عندهم. والأمر بالفعل لا يخرج عن أن يكون بالذات ، أو الوجود ، أو بهما ؛ والكل تكليف بما ليس بمقدور.

وقد عكس القاضى عليهم هذه الشبهة من وجهين آخرين :

الأول : أنه قال : ليس الغرض عندكم من الفعل المأمور به حدوثه ، ووجوده. وإلا لعم الأمر جميع الأفعال ؛ ضرورة اتحاد معنى الوجود عندكم فى جميع الأفعال ؛ بل المقصود : إنما هو حسنه. والحسن على أصول المعتزلة غير واقع بالقدرة ؛ بل هو من توابع الحدوث عندهم. وإذا لم يبعد كون المقصود بالأمر غير مفعول بالقدرة ؛ فلأن لا (٢) يبعد (٢) كون الفعل ـ مع أنه ليس بمقصود من الأمر ـ غير مفعول بالقدرة كان أولى.

وهو ضعيف ؛ إذ لهم أن يقولوا :

المأمور إنما : هو حدوث الفعل الّذي من توابعه الحسن ؛ وهو المقصود.

فإن قيل : إذا كان الحدوث والحسن ، من الصفات الزائدة على نفس الفعل ، ولا انفكاك لإحداهما عن الأخرى. فإذا خرج الحسن عن كونه مقدورا ـ مع كونه المقصود الأصلي ـ فلأن يخرج الحدوث عن كونه مقدورا ؛ كان أولى.

قلنا : عنه جوابان :

الأول : لا نسلم أن المقصود : هو الحسن ؛ بل الحدوث : الّذي من توابعه الحسن.

الثانى : وإن كان المقصود : هو الحسن ؛ فالقول بأنه إذا لم يكن مقدورا ؛ فما ليس بمقصود أولى. دعوى مجردة عن الدليل ؛ فلا تقبل.

__________________

(١) فى ب (حالة).

(٢) فى ب (يبعد).

٤١٦

وما المانع من أن / تكون القدر لذاتها تقتضى التعلق بالحدوث لتعينه دون الحسن ، أو أن تعين الحسن ؛ يكون مانعا من تعلقها به؟

الثانى : أنه قال : الفعل وإن كان حادثا بالقدرة الحادثة عندكم. إلا أنه لا يتم وقوعه دون القدرة ، وحدوث القدرة : غير مقدور للعبد.

وإذا جاز توجه الأمر بفعل متعلق بما ليس مقدورا للعبد ؛ فلا يمتنع توجهه بما ليس مفعولا للعبد.

وهو أيضا ضعيف : فإنه لا يلزم من جواز توجه الأمر بما هو مقدور ، متوقف على ما ليس بمقدور ؛ لكونه (١) ممكن الوقوع عادة ؛ جواز توجهه إلى ما ليس مقدورا أصلا.

قولهم : يلزم من كون العبد غير خالق لأفعاله : سد باب إثبات الصانع على ما ذكروه : إنما يلزم أن لو انحصر طريق الإثبات فيما ذكروه ؛ وهو غير مسلم. ولا سبيل لهم إلى نفى طريق آخر : بغير البحث ، والسبر ؛ وهو غير يقينى ؛ لما سلف (٢).

كيف : وأن حاصل ما ذكروه من الطريق : يرجع إلى قياس الغائب على الشاهد ؛ وهو فاسد لما سبق (٣).

ثم وإن سلمنا صحته : لكن بشرط الاشتراك فى العلة الدالة على كون العبد مؤثرا وهى غير مشترك فيها. وذلك أن من أصلهم فى الدلالة على كون العبد فاعلا ، ومؤثرا فى مقدوره : وقوع مقدوره على حسب قصده ، وداعيته. ولا سبيل إلى إثبات القصد فى حق الله ـ تعالى ـ إلا بصدور الفعل عنه ، فلو وقفنا العلم بصدور الفعل عنه على كونه واقعا ، على حسب قصده ؛ لكان دورا ممتنعا.

قولهم : لو لم يكن مقدور العبد من فعله ؛ لكان تكليفه به تكليفا بما لا يطاق.

فقد أجاب عنه بعض الأصحاب : مع تقريره لطريقة الشيخ أبى الحسن الأشعرى رضى الله عنه ؛ فى امتناع تأثير القدرة فى مقدورها بأن التكليف : إنما هو بكسب العباد لا بفعل الله ـ تعالى ـ ولا وجه له ؛ فإنه لا معنى للكسب : غير الفعل القائم بمحل القدرة والمحل والقدرة فى المقدور.

__________________

(١) فى ب (لكنه).

(٢) انظر ل ٣٩ / ب.

(٣) انظر ل ٤٠ / أ.

٤١٧

وقيام المقدور بمحل القدرة : ليس من فعل العبد. والتكليف لا يخرج عن أن يكون بأحد هذه الأمور ، أو بجملتها ، والجملة ، والأفراد ليست من فعله ؛ فيكون تكليفا بما لا يطاق.

فالطريق المرضى على تقرير قاعدة الشيخ (١) : إنما هو التكليف بفعل الغير ، وتجويز تكليف ما لا يطاق على ما تقدم تقريره فى التعديل ، والتجوير (٢).

قولهم : إن مقدورات العبد منقسمة إلى حسنة ، وقبيحة فلو كانت من فعل الله ـ تعالى ـ ؛ لكان الله / ـ تعالى ـ فاعلا للقبيح.

قلنا : هذا إنما يلزم على فاسد أصولهم فى التحسين ، والتقبيح الذاتى (٣) ؛ وقد بينا إبطاله فيما تقدم (٣) ، وعلى ما قررناه فمعنى كون الفعل القائم بمحل قدرة العبد قبيحا أنه مأمور بذمه ، أو أنه منهى عنه. والفعل بالإضافة إلى فعل الله ـ تعالى ـ ليس كذلك ؛ فلا يكون قبيحا.

وعلى هذا فقد اندفع ما ذكروه من المحالات الثلاثة.

على أنا نجيب عما (٤) ذكروه من الإلزامات من وجهين :

الأول : إن كل ما ألزموه (٥) جائز عندنا عقلا. ما عدا الكذب على الله ـ تعالى ـ فإنا بينا استحالته على الله ـ تعالى ـ بالدليل العقلى لا من جهة كونه قبيحا لذاته ، ومع جواز تلك الأمور : فنقطع بعدم وقوعها كما نقطع بعدم انقلاب البحر دما ، وغور الجبال الراسية ، نظرا إلى العادة ، وإن كان ذلك يجوز عقلا.

الثانى : هو أن ما ذكروه لازم عليهم فى خلق الدواعى ، والصوارف إلى هذه الأفعال ؛ فإنه كما يقبح من الله ـ تعالى ـ بعثة الرسل بها ، والحث عليها وشرعها ؛ لكونها قبيحة ، وأن ما يفضى إلى القبيح قبيح.

__________________

(١) فى ب (الشيخ أبى الحسن الأشعرى).

(٢) انظر ل ١٩٤ / ب وما بعدها.

(٣) فى ب (الذاتيين وقد سبق إبطاله). انظر ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

(٤) فى ب (على ما).

(٥) فى ب (ما ألزموا به).

٤١٨

فلا يخفى : أن خلق القدرة عليها ، والداعى إليها مما يفضى إليها ؛ فيكون قبيحا.

فما هو جواب لهم فى خلق الداعية ، والقصد إليها : هو جوابنا فى شرعها ، وإرسال الرسل بها.

وعلى هذا : فقد خرج الجواب عن الشبهة السادسة عشرة إلى بعد هذه الشبهة.

قولهم : لو لم يكن العبد موجدا لفعله ؛ لامتنع الثواب والعقاب عليه ، بجهة المجازاة. لا نسلم ذلك ؛ بل الثواب والعقاب عندنا يستدعى كون الفعل مقدورا لا مخلوقا.

كيف : وأن ما ذكروه لازم عليهم : حيث اعتقدوا أن ذات الفعل غير مقدورة ، وأن الوجود حال زائدة غير مقدورة كما بينا. والثواب لا يخرج عن أن يكون على الفعل ، أو الحدوث ، أو مجموع الأمرين ؛ والكل غير مقدور ؛ فالإلزام يكون مشتركا.

قولهم : لو لم يكن مقدور العبد من فعله ؛ لجاز عقاب الأنبياء ، وثواب الكفرة.

قلنا : مسلم ؛ ولكن جوازا تحيله العادة ، أو لا تحيله العادة. الأول : مسلم. والثانى : ممنوع.

وعلى هذا : فلا تشكك فى انتفاء ما ذكروه ، وإن كان جائزا عقلا.

قولهم : لو كان مقدور العبد من فعل الله ـ تعالى ـ مع ورود الأمر به ؛ لكان الله ـ تعالى ـ آمرا بفعل نفسه ، وهو محال.

لا نسلم الإحالة فى ذلك ، ولا يلزم (من) (١) قبح ذلك فى الشاهد ، قبحه فى الغائب ؛ لما / بيناه من امتناع قياس الغائب على الشاهد (٢).

أما (٣) ما ذكروه من شبه القضاء ؛ فجوابها يستدعى تحقيق معنى القضاء ، وبيان اعتباراته.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) انظر ل ٤٠ / أوما بعدها.

(٣) فى ب (وأما).

٤١٩

فنقول : القضاء : قد يطلق بمعنى الإعلام : كما قال ـ تعالى ـ : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) (١) : أى أعلمناهم.

وقد يطلق بمعنى الأمر : منه قوله ـ تعالى ـ : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (٢) : أى أمر ربك.

وقد يطلق بمعنى الاختراع (٣) ، والخلق (٣) : ومنه قوله ـ تعالى ـ : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) (٤) : أى خلقهن.

وقد يطلق : بمعنى انقضاء الأجل ـ ومنه يقال : فلان (٥) قضى نحبه (٥) ، ونزل به القضاء. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) (٦).

وقد يطلق بمعنى إلزام الحكم (٧) ، وإبرامه (٧) ومنه يقال : «قضى القاضى».

وقد يطلق : ويراد به توفية الحق : ومنه قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) (٨) : أى وفاه حقه.

وقد يطلق ويراد به الإرادة : ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٩) : أى إذا أراد.

وعلى هذا : فالإيمان من قضاء الله ـ تعالى ـ بكل اعتبار ، ولا يكون الكفر من قضاء الله : بمعنى أنه مأمور به. وإنما هو من القضاء : بمعنى خلقه ، وإرادته ، والحكم به ، والإعلام به.

وعلى هذا : فخلق الكفر ، وإرادته ، والإعلام به ، والإلزام به : يكون حقا. وإن كان الكفر فى نفسه باطلا.

وعلى هذا : فقولهم : القضاء : إما أن يرضى به ، أو لا يرضى به على ما قرروه.

__________________

(١) سورة الإسراء ١٧ / ٤.

(٢) سورة الإسراء ١٧ / ٢٣.

(٣) فى أ (الاختيار والخلق) وفى ب (الاختراع).

(٤) سورة فصلت ٤١ / ١٢.

(٥) فى ب (قضى فلان نحبه).

(٦) سورة الأحزاب ٣٣ / ٢٣.

(٧) فى ب (الحاكم).

(٨) سورة القصص ٢٨ / ٢٩.

(٩) سورة البقرة ٢ / ١١٧.

٤٢٠