أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٢

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣١

وقد تمسك بعض أصحابنا : فى جواز التكليف بما لا يطاق بقوله ـ تعالى ـ : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) (١). ووجه الاحتجاج به أنهم سألوا دفع التكليف بما لا يطاق ، ولو كان ذلك محالا فى نفسه ؛ لكان مندفعا بنفسه من غير حاجة إلى السؤال فى دفعه ؛ فحيث سألوا دفعه دل على كونه جائزا.

فإن قيل : لا نسلم أن الآية ظاهرة فى سؤال (٢) دفع (٢) التكليف بالمحال ؛ فإنها إنما تكون ظاهرة فيه أن لو كان التكليف بالمحال ممكنا ؛ لأنه إذا لم يكن ممكنا ؛ فيكون مندفعا بنفسه كما ذكرتموه ولا حاجة إلى سؤال دفعه.

وعند ذلك : فيتوقف إمكان التكليف بالمحال على كون الآية ظاهرة فيه ، ويتوقف ظهورها فيه على كونه ممكنا ؛ وهو دور ممتنع.

سلمنا أنها ظاهرة فى دفع التكليف بالمحال ؛ ولكن يحتمل أن يكون المراد إنما هو دفع ما فيه كلفة ، ومشقة على النفس. ولهذا يصح أن يقال لمن كلف عبده ما شق عليه مشقة مفضية إلى هلاكه ، كلفه ما لا طاقة له به. ويدل عليه أول الآية وهو قوله ـ تعالى ـ : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) (٣) والمراد بالإصر (٤) : ما فيه ثقل ومشقة ، هكذا قال أهل اللغة.

سلمنا أن المراد به تكليف المحال ؛ ولكن ليس فيه ما يدل على جواز التكليف بالمحال ؛ إذ هو حكاية حال الداعين ، ولا حجة فى قولهم ، ولو صرحوا بالجواز.

سلمنا صحة الاحتجاج بقولهم ؛ ولكن لا يخلو : إما أن يقولوا بأن كل تكليف تكليف بما لا يطاق ، أو بعض التكاليف ، دون البعض.

فإن كان الأول : فالسؤال يكون لدفع كل تكليف ، ولا فائدة فى (٥) التخصيص (٦) بما لا يطاق.

وإن كان الثانى : فالتكليف : إما تكليف عاجز ، أو غير عاجز ، فما يطاق إما تكليف العاجز ، أو من ليس بعاجز.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٢٨٦.

(٢) فى ب (دفع سؤال).

(٣) سورة البقرة ٢ / ٢٨٦.

(٤) فى ب (من الإصر).

(٥) فى ب (به).

(٦) فى ب (للتخصيص).

١٨١

لا جائز أن يقال بالأول : وإلا لكان (١) ما لا يطاق : هو تكليف من ليس بعاجز ؛ ولا يخفى أن العكس أولى.

وإن كان الثانى : فقد بطل ما ذكرتموه من الدليل العقلى.

والجواب عن السؤال الأول : هو أن الآية بوضعها لغة تدل على طلب دفع التكليف بما لا يطاق ؛ ولهذا يتبادر فهم ذلك من الآية عند إطلاقها إلى الفهم. / وإن كنا غافلين عن كون التكليف بما لا يطاق ممكنا.

وعند ذلك : فيلزم القول بالإمكان ضرورة حمل اللفظ على ظاهره. فإنه لو لم يكن ممكنا ؛ لما كان للسؤال فائدة ، على ما سبق ، إلا بطريق التأويل ؛ وهو خلاف الأصل.

وعن السؤال الثانى : أنه ترك للظاهر من غير دليل ، وليس فى أول الآية ما يدل على مخالفة الظاهر فى آخرها ؛ إذ لا إحالة فى طلب دفع ما فيه ثقل ومشقة ، وطلب دفع ما لا يطاق فى نفسه ؛ بل ربما كان ذلك مما يوجب حمل آخر الآية على ظاهره تكثيرا لفائدة التأسيس ؛ إذ هى أولى من التأكيد.

وعن الثالث : هو أن الرب ـ تعالى ـ إنما ذكر ذلك فى معرض التقرير لهم على ما قالوه ، والتحريض والندب إلى مثل هذه الدعوات باتفاق المفسرين ؛ فيكون الاحتجاج بذلك لا بقولهم فقط.

وعن الرابع : أنا نقول : كل (٢) تكليف ، فإنه عندنا فى الحقيقة تكليف بما لا يطاق على ما أسلفناه. غير أن العرف قد خصص التكليف بما لا يطاق بتكليف المحال لذاته : كالجمع بين الضدين ، وتكليف العاجز عن القيام بالقيام ، ونحوه دون التكليف بالفعل قبل خلق القدرة عليه ؛ والشارع إنما يخاطب أهل العرف بعرفهم غالبا.

وعند ذلك : فيجب حمل اللفظ على ما لا يطاق عرفا ، لا عقلا ؛ لكن (مثل) (٣) هذا الظاهر إنما ينفع فى المسائل التى يقتنع فيها بالظهور دون القطع ، وما نحن فيه ليس كذلك.

__________________

(١) فى ب (وإن كان).

(٢) فى ب (إن كل).

(٣) فى أ (ما مثل).

١٨٢

وربما احتجوا بقوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) (١). وهو دليل التكليف بالسجود مع عدم الاستطاعة له (٢).

وهو أضعف من الأول ؛ فإنه مع إمكان حمل نفى الاستطاعة على نفى السهولة ، والانقياد من غير حرج ومشقة ؛ فليس فيه ما يدل على تكليفهم بالسجود حتى يقال به مع عدم الاستطاعة ؛ إذ الدعاء فى الدار الآخرة إلى السجود ليس بتكليف ، لانعقاد الإجماع على أن الدار الآخرة ليست دار تكليف ؛ بل دار مجازاة ، ومقابلة على ما فعل فى الدنيا.

وإذا ثبت أن كل تكليف ؛ فإنه قبل خلق القدرة عليه تكليف بما لا يطاق فلا معنى لمخالفة من وافق من أصحابنا على ذلك فى كون التكليف بما لا يطاق واقعا ؛ فإن التكليف قبل خلق القدرة متفق على وقوعه / بين الأمة إلا أن يريد به التكليف بالمحال الّذي لا يتصور تعلق القدرة القديمة ، ولا الحادثة به : كالجمع بين الضدين ، ونحوه ـ فهذا هو موضع الاختلاف فى الوقوع.

وقد استدل من قال بوقوع التكليف بالجمع بين الضدين ، بتكليف أبى لهب بتصديق النبي عليه الصلاة والسلام فى أخباره. ومن أخبار النبي عليه‌السلام أن أبا لهب لا يصدقه لإخبار الله ـ تعالى ـ لنبيه بذلك ؛ فقد كلفه بأن يصدقه فى إخباره بأنه لا يصدقه ؛ فتكليفه بالتصديق (٣) له (٣) ، تكليف له بأن لا يصدقه ؛ وهو تكليف بالجمع بين الضدين.

واستدل أيضا بقوله ـ تعالى ـ : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) (٤) أخبر أنه لا يؤمن غير من (آمن) (٥) مع أنهم كانوا مكلفين بتصديقه فيما يخبر به (٦) ، ومن ضرورة ذلك تكليفهم بأن لا يصدقوه تصديقا (٧) له فى خبره : أنهم لا يؤمنون.

__________________

(١) سورة القلم ٦٨ / ٤٢.

(٢) فى ب (عليه).

(٣) فى ب (بتصديقه).

(٤) سورة هود ١١ / ٣٦.

(٥) فى أ (لم يؤمن).

(٦) فى ب (به عليه).

(٧) فى ب (لأنه تصديق).

١٨٣

وللخصم أن يقول :

لا نسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أن أبا لهب لا يؤمن قطعا. وغاية ما ورد فيه قوله ـ تعالى ـ : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) (١) ، وليس فى ذلك ما يدل على الإخبار بمعنى تصديقه للنبى عليه الصلاة والسلام قطعا ؛ فإنه لا يمتنع تعذيب المؤمن عندكم ، وبتقدير امتناع ذلك أمكن أن يكون قوله : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) بتقدير أن لا يؤمن.

وكذلك أيضا قوله ـ تعالى ـ : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) (٢) بتقدير أن لا يهديهم الله ـ تعالى ـ ويبعث دواعيهم إلى الايمان.

ثم وإن سلمنا وجود الإخبار بعدم الإيمان والتصديق فى الآيتين قطعا ؛ ولكن لا نسلم تصور تكليفهم بأن يصدقوه بأن لا يصدقوه ـ وهذا مما اتفق عليه المعتزلة ، ومن قال بامتناع وقوع التكليف بالجمع بين الضدين.

وأما من قال من الثنوية : بامتناع جواز التكليف بخلاف معلوم الله ـ تعالى ـ فمستندهم ليس إلا تقبيح العقل له وقد أبطلناه.

__________________

(١) سورة المسد ١١١ / ٣.

(٢) سورة هود ١١ / ٣٦.

١٨٤

«المسألة السادسة»

فى أنه هل لله ـ تعالى ـ على من علم إصراره على الكفر نعمة ،

أم لا؟ وفى معنى الحمد ، والشكر ، والتعظيم

ولا نعرف خلافا بين أصحابنا فى أن الله ـ تعالى ـ ليس له نعمة دينية على من علم الله ـ تعالى ـ إصراره على الكفر.

وأما النعم الدنيوية : فقد اختلف فيها جواب الشيخ أبى الحسن الأشعرى / فأثبتها تارة ، ونفاها أخرى.

ووافقه على كل واحد من القولين جمع كثير من أصحابه (١). وميل القاضى أبى بكر إلى الإثبات.

وأجمعت المعتزلة : على أن الله ـ تعالى ـ أنعم على الكفار بالنعم الدينية ، والدنيوية (٢).

ونحن الآن نذكر (٣) حجة كل فريق ، وننبه على ما فيها. ثم نذكر ما هو المختار إن شاء الله ـ تعالى ـ.

أما من نفى النعمة (٤) الدينية ، والدنيوية :

فقد احتج على ذلك بأن النعمة هى اللذة الخالصة ، عما يلزمها من الضرر المساوى ، أو الراجح فى العاجل ، والآجل ؛ وذلك غير متحقق فى حق من علم الله ـ تعالى ـ أنه يموت على كفره ؛ فإن ما أمده به من أسباب الترفه ، والتنعم ، وإزاحة العلل وخلق الشهوات ، والتمكن من إدراك اللذات ، والمرادات ، ونصب الأدلة ، والآيات الدالة على الهداية ، والحث على ذلك ببعثة الرسل المؤيدين بالمعجزات القاطعة ، وتكميل العقل وآلة الإدراك ؛ لتحصيل السعادة الأخروية ، وإن كانت على صور النعم ؛ فهى نقم على الحقيقة ؛ وليست نعما.

وبيانه : هو أن ما يلزمها من الإضرار راجح عليها ، وما يكون الإضرار اللازم منه راجحا عليه ، لا يكون نعمة.

__________________

(١) فى ب (أصحابنا).

(٢) انظر الأصول الخمسة ص ٥٢٥ ، ٥٢٦.

(٣) فى ب (نثبت).

(٤) فى ب (النعم).

١٨٥

وبيان (١) المقدمة الأولى بنصوص خمسة :

الأول : قوله ـ تعالى ـ : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ* وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٢)

ووجه الاحتجاج به أنه جعل ما يقدره الكفار نعمة استدراجا ، مفضيا إلى الهلكة ، وفى معناه قوله ـ تعالى ـ : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ* نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (٣)

الثانى : قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) (٤)

الثالث : قوله ـ تعالى ـ : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٥)

الرابع : قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) (٦)

الخامس : قوله ـ تعالى ـ : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) (٧)

ووجه الاحتجاج به. أن الابتلاء بصورة الإكرام والإنعام ، لتعرضه للشكر ، والقيام بموجب ما أنعم عليه به. فإذا قابله بالكفر كان ذلك سببا لهلاكه ؛ ولذلك رد عليه ما توهمه من الإكرام والإنعام بقوله / تعالى : (كَلَّا) ؛ فقد ثبت أن ما يلزم من صور النعم عليهم من الإضرار راجح.

وبيان المقدمة الثانية :

وهى أن كل ما يكون الإضرار اللازم عنه راجحا ؛ فلا يكون نعمة ـ وإن كان ملتذا به ، ومتصورا بصور النعم ؛ بل هو نقمة ؛ فإن من قدم بين يدى إنسان طعاما لذيذا مشتهى ، وأذن له فى أكله ، ومكنه منه ، وهو مسموم ، والمضيف يعلم كون الطعام

__________________

(١) فى ب (بيان).

(٢) سورة الأعراف ٧ / ١٨٢ ، ١٨٣.

(٣) سورة المؤمنون ٢٣ / ٥٥ ، ٥٦.

(٤) سورة آل عمران ٣ / ١٧٨.

(٥) سورة التوبة ٩ / ٥٥.

(٦) سورة البقرة ٢ / ١٢٦.

(٧) سورة الفجر ٨٩ / ١٥.

١٨٦

مسموما ، وأنه يفضى إلى هلاكه ، والآكل جاهل بكونه مسموما ؛ فإنه لا يعد ذلك إنعاما عليه ؛ بل إهلاكا له ، منقمة منه عليه ، وإن حصل به فى الحالة الراهنة لذة ، وقضاء شهوة ؛ فكذلك فيما نحن فيه. وهذا أمر ظاهر لا مراء فيه.

وربما احتجوا بقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) (١) ؛ فإنه يدل ظاهرا على أنه قصد بخلق هذه الطيبات (٢) الإنعام على المؤمنين دون الكافرين.

وأما من أثبت النعم الدينية ، والدنيوية : فقد قال :

أما النعم الدينية : فلا يخفى أن الله ـ تعالى ـ أنعم على المؤمنين بخلق العقول المدركة ، ونصب الأدلة على وحدانيته ، وما يليق (به) (٣) وما لا يليق. وبعثه الرسل ، والحث على سلوك طرق (٤) الهداية ، وتجنب مسالك الضلالة ، وتهيئة أسباب النجاة ، والتمكين من ذلك. وأن هذه الأمور من أجل النعم المطلوبة ، والتفضلات المرغوبة ، وأنه قد أنعم بها على الكفار حسب ما أنعم بها على المؤمنين. غير أن الكفار أساءوا إلى أنفسهم ، وأهملوا وجوه مصالحهم ، ورفع مضارهم ؛ بتصامهم عن الإصغاء إلى سماع إنذار الرسل ، وتعاميهم عن النظر فى الأدلة ، والآيات الدالة على ما ينجيهم من الهلاك ، ويوصلهم إلى النعيم المقيم ؛ وذلك لا يخرج ما أنعم الله به عليهم من الأمور المذكورة عن أن يكون نعمة ؛ وذلك كما لو قدم إنسان طعاما شهيا نافعا غير مضر بين يدى مضطر فى مخمصة ، ومكنه منه ، وقال كل منه ؛ ففيه نجاتك من الهلكة ؛ فإنه يعد نعمة ، وإن امتنع المضطر من الأكل حتى هلك بسوء صنعه.

وأما النعم الدنيوية : فلا يخفى أن ما الكفار فيه من تحصيل / اللذات العاجلة من المطعومات ، والمشروبات ، والمنكوحات ، وغير ذلك من أنواع المرادات ؛ مخلوقة لله ـ تعالى ـ وقد مكنهم منها ، وأزاح العلل المانعة عنها من غير سابقة إيجاب عليه ، وأن

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ / ٣٢.

(٢) فى ب (الكلمات).

(٣) ساقط من أ.

(٤) فى ب (طريق).

١٨٧

ذلك من أجلّ النعم. وغايته أنهم كفروا ، وسلكوا طريق الضلال المؤدى إلى الهلاك ، وقابلوا الإحسان بالإساءة ، والنعمة بالكفر الموجب للعقاب ؛ وذلك لا يخرج ما فعله فى حقهم ابتداء عن كونه نعمة وهذا كما أنه لو ابتدأ إنسان بالإحسان ، والإنعام على غيره. ثم عاقبه بجنايته عليه ؛ فإن العقوبة على الجناية ، لا تخرج الفعل الأول عن كونه نعمة وإحسانا.

هذا ما يخص كل واحدة من النعمتين من الدلالة العقلية.

وأما الدلالة السمعية :

فمنها ما يدل على وجود النعمة ، غير مخصص بإحدى النعمتين دون الأخرى ، ومنها ما يدل على خصوص إحدى النعمتين.

أما الدلالة الأولى : فمن جهة الكتاب ، والإجماع.

أما من جهة الكتاب : فآيتان.

الأولى : قوله ـ تعالى ـ : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) (١).

والثانية : قوله ـ تعالى ـ : فى قصة قارون : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) (٢).

وأما الإجماع : فهو أن الأمة متفقة (٣) على أن الكفار تاركون لشكر نعم الله ـ تعالى ـ عليهم.

وأما ما يدل على خصوص نعمة الدنيا من جهة الكتاب : فقوله ـ تعالى ـ فى حق آل فرعون : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ* وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) (٤). وقوله ـ تعالى ـ لثمود : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) (٥). إلى غير ذلك من الآيات.

ثم اعترض (٦) هذا القائل على الحجة الأولى وقال (٦) :

__________________

(١) سورة النحل ١٦ / ٨٣.

(٢) سورة القصص ٢٨ / ٧٧.

(٣) فى ب (معتقدة).

(٤) سورة الدخان ٤٤ / ٢٥ ـ ٢٧.

(٥) سورة الأعراف ٧ / ٧٤.

(٦) فى ب (اعترضوا على الحجة الأولى فقالوا).

١٨٨

أما قوله ـ تعالى ـ : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (١) فقد قال أهل التفسير فيها : الاستدراج : أن ينعم على العبد بنعمة ، ولا يلهم الشكر عليها ، أو يقضى عليه بنقمة ، ولا يلهم الصبر عليها ؛ وذلك يفضى إلى ثبوت النعمة لا نفيها.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) (٢) فالمراد من الإملاء الإبقاء ، وازدياد الإثم بسبب ما يقترفون من الجنايات ، ويرتكبون من المحظورات ، وليس فيه ما يدل على نفى النعمة فيما قررناه من النعم الدينية ، ولا الدنيوية.

وقوله (٣) ـ تعالى (٣) ـ : (فَلا / تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٤). فليس فيه دلالة أيضا ؛ فإن الأموال والبنين ليست سببا للعذاب ، وإلا كانت (٥) سببا له فى حق الأنبياء ، والأولياء ؛ وليس كذلك ؛ بل السبب لذلك. إنما هو ترك الشكر عليها ، وذلك يقرر كونها نعما. ويدل عليه قوله ـ تعالى ـ : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ) (٦). أثبت كون الباقيات الصالحات خيرا منها ؛ وذلك يستدعى الاشتراك فى أصل الخير ، وأصل الخير نعمة ، لا نقمة.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) (٧) ودليل إبقائه قليلا ، وأن مأواه إلى النار ، وليس فيه ما يدل على نفى ما ذكرناه من النعم ، ولا إثباتها.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) (٨) الآية ؛ فهى صريحة فى الإكرام ، والنعمة.

والقول بأن الابتلاء بالإكرام ، والإنعام ؛ ليعرضه للشكر بما أنعم عليه حتى إذا تركه عوقب ، ففيه ما يوجب كون المتروك شكره نعمة. وإلا لما استحق الشكر عليه ، ولما عوقب بتركه.

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ / ١٨٢.

(٢) سورة آل عمران ٣ / ١٧٨.

(٣) فى ب (فقوله).

(٤) سورة التوبة ٩ / ٥٥.

(٥) فى ب (لكانت).

(٦) سورة الكهف ١٨ / ٤٦.

(٧) سورة البقرة ٢ / ١٢٦.

(٨) سورة الفجر ٨٩ / ١٥.

١٨٩

والقول بأن كل ما يكون الإضرار اللازم له زائدا عليه ، لا يكون نعمة. فإنما يلزم ذلك أن لو كان الإضرار لازما من النعمة المفروضة ؛ وليس كذلك ؛ بل إنما هو لازم من الكفر ، ومقابلة الإحسان بالإساءة ، والإنعام بالكفر على ما بيناه.

وإن سلمنا لزومه عن النعمة المفروضة ؛ فلزوم القدر الراجح عن النعمة المرجوحة لا يخرجها عن حقيقتها ، وعن كونها نعمة ، كما لا يخرجها عن كونها لذة.

وأما الاستشهاد بالطعام المسموم : فغير مناظر لما نحن فيه ؛ إذ الآكل غير عالم بمخالطة السم للطعام ، ولا هو متميز فى علمه عن الطعام ، ولو كان كذلك لما تناوله ، وتناوله سبب للهلاك بخلاف ما نحن فيه ؛ فإن النعم متميزة عن الأسباب الموجبة للهلاك ، ولا النعم سبب الهلاك ؛ فلا يلزم من كون ذلك ليس نعمة أن لا يكون ما نحن فيه نعمة.

وقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) (١). الآية. دليل (٢) على اختصاص من آمن فى الدنيا بالطيبات يوم القيامة ، وليس فيه (٣) ما يدل على أنه قصد الإنعام بخلقها فى الدنيا على المؤمنين دون الكفار.

وأما من فرق بين النعمة الدينية ، والدنيوية ، حتى / أنه نفى النعمة الدينية دون الدنيوية فقال : النعمة الدنيوية هى اللذة الحاصلة فيها ؛ وذلك متحقق لا مراء فيه ، كما تقدم تقريره.

وأما النعمة الدينية : فهى الهدى. والهدى إنما يتحقق بشرح صدورهم على ما قال ـ تعالى ـ : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (٤) ولم يتحقق ذلك ؛ فلا يكون نعمة فى حقهم.

والحق فى هذه المسألة أنها اجتهادية ، وليست قطعية ؛ ولعل حاصل الخلاف فيها لا يرجع إلى غير التسمية.

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ / ٣٢.

(٢) فى ب (فدليل).

(٣) فى ب (فيها).

(٤) سورة الأنعام ٦ / ١٢٥.

١٩٠

وذلك أن من نفى النعم الدينية ، والدنيوية ، لا ينكر حصول الملاذ فى الدنيا وتحقيق أسباب الهداية ، غير أنه لا يسميها نعما ؛ لما يعقبها من الهلاك ، والنقم.

ومن أثبت كونها نعما لا ينازع فى تعقبها الهلاك لها ، غير أنه سماها نعما لصورها ، ولا حرج فى الاصطلاح اللفظى بعد فهم غور المعنى.

وقد جرت العادة بتعقيب الكلام فى معنى النعمة بتحقيق معنى الحمد ، والشكر ، والتعظيم.

أما الحمد :

فقد قيل هو الشكر. ومنه يقال : الحمد لله شكرا ، فيجعل الشكر مصدر الحمد. وقيل : الحمد هو الرضا. ومنه يقال : الحمد لله حق حمده. أى حق رضاه.

والحق : أن الحمد المطلق أعم من الشكر ؛ فإنه يتناول شكر النعمة ، والثناء على الخصال الحميدة ، والصفات الكمالية. ولهذا يقال : حمدت فلانا على نعمته ، وحمدته (١) على عمله ، وشجاعته (١). والشكر مخصص (٢) بالنعمة.

وأما (٣) التعظيم (٣) :

فإما أن يكون من الخالق لغيره ، أو من المخلوق لغيره.

فإن كان من الخالق لغيره : فقد يطلق ويراد به حمده له بطاعته. وقد يراد به إرادة منفعته.

وإن كان من المخلوق لغيره : فقد يطلق أيضا ويراد به معنى فى النفس زائد على القول ، وعلى العلم بكون المنعم منعما ، وإليه ميل أبى هاشم.

وقد يراد به المدح بالقول ، وما يقوم مقامه من الأفعال : كالقيام له ، وتقديم نعله ، والمشى بين يديه ، ونحوه ، وإليه ميل كثير من المعتزلة.

وقال عباد : هو العلم بحاله ، والمميز بينه وبين المنحط عن رتبته.

__________________

(١) فى ب (وحمدت على علمه وشكره وشجاعته).

(٢) فى ب (مختص).

(٣) فى ب (والتعظيم).

١٩١

والحق أنه لا مراء فى اختلاف هذه المعانى. وإنما النزاع فى إطلاق اسم التعظيم عليها ، والمتبع فى ذلك كله التوقيف.

وعلى هذا فشكر النعمة فى اللغة : هو إظهار النعمة.

وأما فى اصطلاح الأصوليين : فقال بعضهم : هو الثناء / على المحسن بذكر إحسانه ، وبهذا الاعتبار يجوز أن يسمى الرب ـ تعالى ـ شاكرا.

والّذي ذهب إليه أئمتنا : أن شكر المنعم : هو قول فى القلب ، واعتراف بالنعمة على جهة الخضوع والتعظيم ، ثم ما وجب من ذلك ؛ فإنما يجب بالشرع على ما تقدم ، وكذلك التعبرة عنه بالأقوال وغيرها.

وعلى هذا يكون الحكم فى وجوب التعظيم أيضا.

١٩٢

«المسألة السابعة»

فى معنى الهداية ، والإضلال (١).

أما الهداية ، والإضلال ؛ وإن أطلقا بإزاء محامل على ما سيأتى.

غير أن الهداية : عند أئمتنا حقيقة فى خلق الهدى ، وهو الإيمان ، ومجاز فيما سواه.

وربما ذهب بعض أصحابنا : إلى أنها حقيقة أيضا فى الدعاء ، وشرع سبيل الرشد ، والزجر عن طريق الغى ، مع كونها حقيقة فى خلق الهدى ؛ فتكون الهداية عنده مشتركة بين المعنيين حقيقة ، والاعتماد على الأول.

وأما الإضلال : فهو حقيقة فى خلق الضلال ، ومجاز فيما عداه.

وذهبت المعتزلة : إلى أن الهداية والإضلال ، حقيقة فيما وراء هذين المحملين على ما يأتى تحقيقه.

وقد احتج الأصحاب بالنصوص ، والإطلاق العرفى.

أما النصوص :

فمنها : قوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) (٢) الآية.

وأيضا : قوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣).

وقوله ـ تعالى ـ : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٤).

__________________

(١) لتوضيح مذهب أهل الحق الأشاعرة فى هذه المسألة بالإضافة إلى ما ورد هنا : انظر الإبانة للأشعرى ص ٥٧ ـ ٦٢ وأصول الدين للبغدادى ص ١٤٠ ـ ١٤٢ والإرشاد لإمام الحرمين ص ٢١٠ ـ ٢١٣.

ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي : شرح المواقف ٢ / ٣٨٨ ، ٣٨٩ وشرح المقاصد ٢ / ١١٧.

(٢) سورة الأنعام ٦ / ١٢٥.

(٣) سورة يونس ١٠ / ٢٥.

(٤) سورة الأعراف ٧ / ١٧٨.

١٩٣

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (١).

وهذه النصوص ظاهرة فى الهداية والإضلال ، بالاعتبار المذكور ؛ إذ هو المتبادر إلى الفهم منها (٢).

وأما الإطلاق العرفى :

فهو أنه لو قال القائل : فلان هداه الله ؛ فإنه لا يتبادر إلى الفهم منه عند إطلاقه غير خلق الهدى ، وكذلك إذا قال : أضله الله. لا يتبادر. منه إلى الفهم غير خلق الضلال.

فإن قيل : لا نسلم أن الهداية والإضلال ، حقيقة فيما ذكرتموه ، والمراد بالنصوص / إنما هو الهداية بمعنى الإرشاد إلى طرق (٣) الجنان. ومنه قوله ـ تعالى ـ فى حق الشهداء فى الجهاد : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ* سَيَهْدِيهِمْ) (٤).

قال أهل التفسير : أى إلى طرق الجنان ، وهو متعذر الحمل (٥) على خلق الإيمان بعد الموت.

ومنه قوله ـ تعالى ـ : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) (٦) : أى يدلهم على (٧) الجنان بسبب إيمانهم ، والإضلال فى مقابلته ؛ وهو تعمية الطرق عليهم.

سلمنا تعذر الحمل على هذا المعنى ؛ ولكن أمكن حمل الهداية على الدعاء ، وشرع سبيل الرشد ، والزجر عن طريق الغى.

ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (٨).

وليس المراد منه خلق الهدى ؛ فإن من خلق له الهدى لا يستحب العمى عليه ؛ بل المراد بقوله : فهديناهم ؛ أى دعوناهم ، وشرعنا لهم سبيل الرشد ، والإضلال فى مقابلته.

سلمنا تعذر الحمل عليه ؛ ولكن ما المانع من حمل لفظ الهداية على تسمية الرب ـ تعالى ـ للمؤمن مقتديا ، والإضلال فى مقابلته؟

__________________

(١) سورة القصص ٢٨ / ٥٦.

(٢) فى ب (هاهنا).

(٣) فى ب (طريق).

(٤) سورة محمد ٤٧ / ٤ ، ٥.

(٥) فى ب (لا يحمل).

(٦) سورة يونس ١٠ / ٩.

(٧) فى ب (الى).

(٨) سورة فصلت ٤١ / ١٧.

١٩٤

ومنه يقال : ضللت فلانا. إذا نسبته إلى الضلال ، ووصفته به.

وربما حمل بعضهم الإضلال على نفس المعاقبة فى العاجل ، والآجل ، تمسكا بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (١).

والجواب :

أما منع كون الهداية والإضلال ، حقيقة فيما ذكرناه ؛ فجوابه بما ذكرناه من الإطلاق النصيّ ، والعرفى.

وما ذكروه من الاحتمال الأول. فقد قال بعض الأصحاب فيه. أنه يمتنع حمل النصوص المذكورة عليه لثلاثة أوجه.

الأول : أنها دالة على الهداية بالإضلال فى الحالة الناجزة. وما قيل من الاحتمال ؛ فلا يمكن إلا فى الدار الآخرة ، وفيه نفى الهداية (٢) والإضلال فى الدنيا ، مع اتفاق الأمة على خلافه.

الثانى : هو أن الهداية والإضلال فى غالب (٣) النصوص المذكورة ، مقيدان بالمشيئة والاختيار ، وهو متعذر فى الاحتمال المذكور ؛ ضرورة وجوبه فى حق المؤمن (٤) غير معلق بالاختيار على أصل المتأول.

الثالث : هو أن قوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (٥) نصّ (٦) فى وصف الهداية الواقعة فى الدنيا.

وهذه الأجوبة بعيدة عن التحصيل :

أما الأول : فلأنه ليس فى النصوص المذكورة ما يدل على تنجيز الهداية والإضلال فى الدنيا.

__________________

(١) سورة القمر ٥٤ / ٤٧.

(٢) فى ب (الهدى).

(٣) فى ب (مثالنا).

(٤) فى ب (المرض غير متعلق).

(٥) سورة الأنعام ٦ / ١٢٥.

(٦) من أول (نص فى وصف الهداية ... إلى دليل) الموجود بدلها فى ب (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد فى السماء ، الآية فدليل).

١٩٥

أما قوله / ـ تعالى ـ : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) دليل على تنجيز شرح الصدر ، وجعله ضيقا حرجا فى الدنيا ؛ وليس فيه ما يدل على تنجيز الهداية ، والإضلال ؛ إذ أمكن أن يكون المراد من قوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) : أى فى الدار الآخرة (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) فى الدنيا (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) فى الآخرة (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) فى الدنيا.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (١). لا يمتنع أن يكون محمولا على الدعاء إلى دار السلام فى الدنيا ، والهداية فى الأخرى (٢) ؛ إذ ليس فى اللفظ ما يدل على تخصيص الهداية بالدنيا لا من جهة اللفظ ، ولا المعنى ، وكذلك الكلام فيما بقى من النصوص.

وليس فى حمل النصوص على الهداية والإضلال ـ على ما تأوله الخصم أيضا ـ ما يوجب رفع الهداية ، والإضلال فى الدنيا ؛ لجواز استفادته من دليل آخر.

وأما الوجه الثانى : فإنما يلزم بتقدير أن يكون المتأول قائلا بإيجاب الهداية بالاعتبار المذكور ، وإلا فلا.

وعلى تقدير أن يكون قائلا به ؛ فلا يخرج بذلك عن الاختيار ـ وهو أن يكون ذلك بالقدرة ، والمشيئة الأزلية ـ وإن كان لا بد من وقوعه. وإن كان لزوم الوقوع ، أو لزوم عدمه مع كونه بالقدرة ، والمشيئة ـ مما يخرج الرب ـ تعالى ـ عن كونه مختارا ؛ للزم منه ذلك.

وإن حمل لفظ الهداية ، والإضلال : على خلق الهدى ، والضلال فى الدنيا أيضا. وذلك لأنه لا يخلو : إما أن يكون وقوع ذلك معلوما لله ـ تعالى ـ أو عدمه.

فإن كان المعلوم هو الوقوع ؛ فلا بد منه.

وإن كان المعلوم هو العدم ؛ فلا بد منه ؛ حتى لا يكون علم الله ـ تعالى ـ جهلا ؛ وذلك يوجب خروج الرب ـ تعالى ـ عن كونه مختارا ، مع أن الوقوع وعدم الوقوع بالقدرة ، والمشيئة الأزلية ؛ ولا محيص عنه.

__________________

(١) سورة يونس ١٠ / ٢٥.

(٢) فى ب (الآخرة).

١٩٦

وأما الوجه الثالث : فقد سبق إبطاله فى إبطال الوجه الأول.

والأقرب فى ذلك أن يقال :

نحن لا ننكر صحة إطلاق لفظ الهداية والإضلال بالمعنى المذكور فيما ذكرناه من النصوص ، وما ذكروه ، غير أن النزاع فيما وراء ذلك ؛ وهو أنه هل هو حقيقة؟ أو بطريق المجاز؟ وقد بينا جهة الحقيقة فيما ذكرناه من ضرورة تبادره إلى الفهم عند إطلاق اللفظ ، بخلاف ما عداه ؛ وهو / أمارة الحقيقة ؛ فإن الغالب إنما هو اشتهار اللفظ فى جهة الحقيقة دون جهة المجاز.

وأما الاحتمال الثانى :

فلا نسلم ورود لفظ الهداية بمعنى الدعاء. وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) (١) الآية ؛ فالمراد بها الهداية بمعنى خلق الهدى ؛ فإنهم كانوا آمنوا لما رأوا الآية الباهرة ، من ظهور الناقة من باطن الصخرة الجامدة وارتسموا بما رسمه لهم صالح ، من قسمة الماء بين الناقة وبينهم ، على ما قال ـ تعالى ـ : (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٢). ثم إنهم عادوا لما نهوا عنه ، واستحبوا الضلالة على الهدى.

وإن سلمنا أن المراد من الآية ما ذكروه من الاحتمال ، غير أنه يمتنع حمل بعض ما ذكرناه من النصوص عليه ؛ لأنه أثبت الهداية ، والإضلال ، وجعلهما متقابلين حيث قال : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) (٣). والشرح ، والضيق متقابلان ، والشرح ملازم للهداية ، والضيق ملازم للإضلال ؛ فالملزومان متقابلان.

والهداية بمعنى الدعاء ، وشرع سبل الخيرات ، لا تقابل الإضلال بالمعنى المذكور ؛ لتصور اجتماعهما.

ثم : وإن سلمنا إمكان حمل ما ذكرناه من النصوص عليه. غير أنه لا بد له من دليل ، ضرورة أن ما ذكرناه حقيقة على ما تقدم.

__________________

(١) سورة فصلت ٤١ / ١٧.

(٢) سورة الشعراء ٢٦ / ١٥٥.

(٣) سورة الأنعام ٦ / ١٢٥.

١٩٧

وأما الاحتمال الثالث :

فالجواب عنه من وجهين :

الأول : أنا لا نسلم صحة إطلاق الهداية ، والإضلال على تسمية الشخص مهتديا ومضلا ؛ فإنه لا يحسن أن يقال : هدى فلان لفلان ؛ إذا سماه مهتديا ، وكذا فى الإضلال.

وأيضا : فإنه لو جاز إطلاق الإضلال على تسمية الشخص مضلا ؛ لجاز أن يقال للأنبياء (عليهم‌السلام) مضلون للكفرة ؛ إذا سموهم بذلك ؛ وهو غير سائغ فى الإطلاق.

الثانى : وإن سلمنا صحة الإطلاق بذلك ؛ ولكن يمتنع حمل ما أوردناه من النصوص عليه لوجوه خمسة :

الأول : أن الرب ـ تعالى ـ إنما ذكر الهداية ، والإضلال ، وأسند كل واحد إلى مشيئته فى معرض التمدح ، والاستعلاء. ولو كان المفهوم من ذلك محمولا على التسمية ؛ لبطلت فائدة التخصيص بالتمدح.

الثانى : أنه لو كان المراد ما ذكروه ؛ لما امتنع على (١) النبي عليه‌السلام الهداية (١) لمن شاء ؛ لعدم امتناع التسمية عليه بذلك ، وهو خلاف قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ / أَحْبَبْتَ) (٢).

الثالث : هو أن الله ـ تعالى ـ أخبر بتقدم شرح الصدر على من أراد هدايته ، وضيقه على من أراد إضلاله ؛ وذلك مما لا يتوقف عليه الهداية ، والإضلال بمعنى التسمية.

الرابع : هو أن الأمة مجمعة على التضرع إلى الله ـ تعالى ـ بالهداية ، وتجنب الإضلال مع حث الشرع ، وندبه إلى ذلك ، وفى حمل ذلك على مجرد التسمية بهت ، وخروج عن تصرفات العقلاء.

الخامس : أنه بعيد عن الفهم. وما ذكرناه قريب ؛ فيمتنع الحمل عليه إلا بدليل.

وبهذا الوجه الأخير يندفع ما ذكروه ، من تأويل الضلال على نفس المعاقبة أيضا.

__________________

(١) فى ب (من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

(٢) سورة القصص ٢٨ / ٥٦.

١٩٨

وعلى الجملة : فالبحث فى هذه المسألة ، بحث عن أمر لغوى ، لا معنوى والمستند فيها نفيا ، وإثباتا ؛ فظنى غير قطعى.

١٩٩

«المسألة الثامنة»

«فى معنى الطبع ، والختم ، والأكنة»

وقد ورد الكتاب العزيز بالطبع ، والختم ، والأكنة على القلوب. قال الله ـ تعالى ـ (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) (١) الآية.

وقال ـ تعالى ـ : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) (٢) الآية. وقال ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) (٣).

وقد أختلف المتكلمون فى مدلول هذه الألفاظ :

فذهب أهل (٤) الحق : ـ إلى أنه عبارة عن خلق الضّلال فى القلوب.

وأما المعتزلة : فمختلفون على مذاهب سنبينها فى معرض الاعتراض والانفصال عنها إن شاء الله ـ تعالى.

ووجه الاحتجاج على مذهب أهل الحق : هو أن خلق الضّلال فى القلوب مانع من الإيمان ، والهدى ؛ بمعنى أنه يتعذر الجمع بينهما. والختم ، والطبع ، والأكنة ، فى اللغة موانع على الحقيقة.

وإنما سميت بذلك : لكونها مانعة ، وخلق الضّلال فى القلوب مانع من الهدى ، فصح تسميته بهذه الأسماء ؛ إذ الأصل إنما هو الاطراد. اللهم إلا أن يمنع مانع ، والأصل عدمه ؛ فمن ادعاه يحتاج إلى البيان.

فإن قيل : إنما يتعين حمله على ما ذكرتموه أن لو تعين ، وليس كذلك ؛ بل أمكن أن نحمل هذه الألفاظ على معنى الوسم ؛ فإن الطّبع والختم فى اللغة ، هو الوسم.

__________________

(١) الموجودة فى نسخة أ (بل طبع الله على قلوبهم فهم لا يؤمنون) والأصح حذف بل وهذه الآية رقم ٩٣ من سورة التوبة.

أما نسخة ب فالموجود فيها ما أثبته ، وهي الآية رقم ١٥٥ من سورة النساء.

(٢) سورة البقرة ٢ / ٧.

(٣) سورة الأنعام ٦ / ٢٥.

(٤) لتوضيح رأى أهل الحق فى هذه المسألة وردهم على خصومهم : انظر الإبانة للأشعرى ص ٥٤ ـ ٥٥ والإرشاد لإمام الحرمين ص ٢١٣ ، ٢١٤ ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٤١١ ـ ٤١٥.

ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي : انظر شرح المواقف ٢ / ٣٨٨ وشرح المقاصد ٢ / ١١٧.

٢٠٠