تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٤

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٤

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩١

فقال : لانّ الإنسان لا يسأم (مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) فلذلك ظنّوا انّهم لا محيص لهم (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) وذلك لما تكرّر منّا انّ الخيال حين الاستيحاش وغلبة الهمّ يفرّ كالشّيطان ويظهر سلطان العقل فاذا رفع الخوف لا يدّعى الحكم للعقل ويظهر بانانيّته وينكر المبدء والمعاد كما هو شأنه وشأن الشّيطان ، ويظنّ انّه ان كان ما يقولون صادقا فالله لا يختار عليه غيره لكرامته عليه (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا) كناية عن جزائهم بأعمالهم السّيّئة خلاف ما ظنّوه (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ) عنّا وعن شكر نعمنا (وَنَأى بِجانِبِهِ) اى نأى عنّا ومال الى جانبه بمعنى انّه ظهر بانانيّته ورؤية نفسه والاعجاب بها وظنّ انّ النّعمة باستحقاقها ونسي أنعامنا وانّ النّعمة عارية عليها لا مدخليّة لها فيها (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) لحفظ انانيّته ووجوده (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) قد مضى بيان هذه الكلمة في سورة الانعام عند قوله تعالى : قل أرأيتكم ان أتاكم عذاب الله (إِنْ كانَ) هذا الانعام أو الرّسول أو القرآن أو قرآن ولاية علىّ (ع) أو نصب علىّ (ع) (مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ) في طرف من الله أو من الرّسول (ص) (بَعِيدٍ) الجملة جزاء الشّرط بتقدير القول أو بتقدير الفاء فقط أو الجزاء محذوف ومن اضلّ مستأنف (سَنُرِيهِمْ آياتِنا) جواب لسؤال مقدّر ولمّا كان القرآن خوان إطعام الله وكان فيه وفي آياته طعام الا داني والا عالى والكافر والمؤمن والضّال والمهتدى كما يرى من تمسّك كلّ فرقة في مذهبهم به ، ونعم ما قيل :

منعم كامل چو خوانباشى بود

بر سر خوانش ز هر آشى بود

كان الآية بالنّسبة الى كلّ فرقة جوابا لسؤال غير ما للفرقة الاخرى فكأنّه قيل : بالنّسبة الى الجاحدين والمنكرين : متى يعترف هذه الفرقة؟ ـ فقال تعالى : سنريهم آياتنا (فِي الْآفاقِ) بالنّقص في أموالهم وأنفسهم بأنواع البلايا الّتى كانت خارجة من عاداتهم (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) بأنواع الأمراض والأوجاع (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ) اى لمن لم يكن له استعداد التّوبة والسّعادة عند معاينة الموت ، ولمن كان له استعداد التّوبة قبل ذلك (أَنَّهُ الْحَقُ) فيتوب من يتوب ويشقى من يشقى ، وكأنّه قيل بالنّسبة الى الضّالين المتحيّرين في الله أو في الرّسالة أو في الولاية : متى يهتدون ويخرجون من التّحيّر والضّلال؟ ـ فقال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا) الدّالّة على مبدء عليم قدير حكيم رؤف رحيم ، أو على صدق رسولنا (ص) ورسالته ، أو على الولىّ (ع) وولايته في الآفاق من الآيات السّابقة وجبران ما فات منهم ، وترتّب الفوائد الكثيرة على البلايا الواردة في الآفاق وفي أنفسهم ممّا ذكر سابقا وممّا يشاهدونها في المنام أو في اليقظة من تبدّلات أحوالهم ومن بسطاتهم وقبضاتهم وممّا القى في قلوبهم من العلوم والخوف والاستبشار حتّى يتبيّن لهم انّ الله حقّ أو الرّسول (ص) حقّ أو عليّا (ع) حقّ ، وكأنّه قيل بالنّسبة الى المسلم الّذى كان واقفا عن الولاية : متى يظهر عليهم حقيّة الولاية؟ ـ فقال تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم انّ الله هو الحقّ المضاف الّذى هو علىّ (ع) ، وبالنّسبة الى المؤمن الّذى بايع البيعة الخاصّة الواقف عن مقام الحضور سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن بظهور ولىّ الأمر في صدورهم انّه الحقّ ، وبالنّسبة الى من كان له مقام الحضور عند ربّه قوله تعالى (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ) ولكون هذا لمن كان له مقام الحضور أتى بالخطاب عامّا أو خاصّا بمحمّد (ص) (أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) حاضر أتى بعلى للاشارة الى

٤١

احاطته بكلّ شيء ولذلك قال (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) لمّا كان الله تعالى بحسب وجود ذاته بلا نهاية وليس له حدّ يحدّ وجوده ولا نهاية ينتهى إليها فلا بدّ ان لا يخرج من حيطة وجوده شيء من الأشياء فانّه لو خرج من وجوده ذرّة تحدّ به ومن حدّه فقد عدّه ، ومن عدّه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّاه ، ومن جزّاه فقد جهله ، ونعم ما قيل برهانا عليه :

اى خداى بى نهايت جز تو كيست

چون توئى بيحدّ وغايت جز تو كيست

هيچ چيز از بى نهايت بيشكى

چون برون نامد كجا ماند يكى

واحاطته بالأشياء ليست كاحاطة الظّرف بالمظروف أو المكان بالمتمكّن بل كاحاطة المقوّم بالمتقوّم ، فانّه مع كلّ شيء بالقيّوميّة وغير كلّ شيء بحسب حدوده.

سورة الشّورى

ثلاث وخمسون آية ، وقيل : خمسون آية مكّيّة ، وقيل : الّا قوله : والذين استجابوا

(الى قوله) لا يحبّ الظّالمين ، وقيل : الّا اربع آيات نزلن بالمدينة : قل لا اسألكم

عليه اجرا الّا المودّة في القربى (الى قوله) والكافرون لهم عذاب شديد.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم عسق كَذلِكَ) الوحي الّذى أوحينا إليك قبل ذلك من اخبار المغيبات ومن الأحكام والمواعظ (يُوحِي إِلَيْكَ) بعد هذا الزّمان ، أو كذلك الوحي بالرّمز والحروف المقطّعة الّذى أوحينا إليك قبل ذلك يوحى إليك بعد ذلك ، أو كذلك الوحي المحفوف بأذى القوم وإنكارهم الّذى أوحينا إليك يوحى بعد ذلك ، أو كذلك الوحي باهلاك القوم وإسكان الأرض يوحى إليك (وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) اى واوحى الى الّذين من قبلك وأتاه بطريق عطف المفرد للاغتفار في الثّوانى أو لتقدير المعطوف بقرينة المعطوف عليه ، وقرئ : يوحى بالبناء للفاعل ، وبالبناء للمفعول ، وإذا كان مبنيّا للمفعول فقوله تعالى (اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يكون فاعل فعل محذوف أو مبتدء والجملة مستأنفة في موضع التّعليل وخبره العزيز أو الحكيم أو قوله تعالى (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) والمعنى له السّماوات والأرض وما فيهما (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) من جهة فوقهنّ أو من فوق الأراضي (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ) عطف على السّماوات عطف المفرد ، ويسبّحون مستأنف أو عطف مع يسبّحون على اسم تكاد وخبره ، أو الجملة معطوفة على جملة (تَكادُ السَّماواتُ) (الى آخره) (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) يعنى لمؤمنى الأرض فانّهم عقلاء حقيقة وغيرهم ملحقون بالبهائم كما سبق

٤٢

في سورة المؤمن عند قوله تعالى ويستغفرون للّذين آمنوا قال القمىّ ، للمؤمنين من الشّيعة التّوابين خاصّة ، ولفظ الآية عامّ والمعنى خاصّ ومراده بالتّوّابين التّوّابون في ضمن البيعة الخاصّة ، وعن الصّادق (ع) يستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين لانّ المؤمن الّذى بايع البيعة الخاصّة الولويّة يحصل في قلبه كيفيّة الهيّة هي بمنزلة الانفحة وبتلك الجوهرة الالهيّة يتوجّه اليه الملائكة السّماويّة ويحفّ به الملائكة الارضيّة ويطلبون ستر مساويه من الله ويسترون مساويه ويحفظونه من ظهور المساوى عنه ، وامّا غيره فلا التفات للملائكة السّماويّة اليه ويتنفّر عنه الملائكة الارضيّة فلا يحفّون به ولا يسترون مساويه (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) جواب لسؤال مقدّر (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) اى أولياء حالكونهم غيره ، أو اتّخذوا من دون اذنه أولياء وعلى اىّ تقدير فالمقصود منهم مقابلوا المؤمنين الّذين اتّخذوا عليّا (ع) وليّا (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) مقابل استغفار الملائكة للّذين بايعوا مع علىّ (ع) أو معنى حفيظ عليهم حافظ جميع أعمالهم على ضررهم ومن كان الله حافظا عليه لا يدع صغيرا ولا كبيرا من اعماله (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ) برسالتك (بِوَكِيلٍ) حتّى تحزن بخلافهم لك أو بعنادهم لعلىّ (ع) ، أو تحفظ عليهم أعمالهم ، أو تحفظهم عن المخالفة لعلىّ (ع) (وَكَذلِكَ) الوحي الّذى نوحى إليك في علىّ (ع) أو مطلقا (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قبل (قُرْآناً عَرَبِيًّا) بلسان العرب لا بلسان العجم أو ذا حكمة وعلم ومواعظ واحكام ، لا اعرابيّا لم يكن فيه حكمة ومواعظ واحكام (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) أهل امّ القرى (وَمَنْ حَوْلَها) من أهل الأرض جميعا ، فانّ تمام الأرض بالنّسبة الى عالم المثال تكون حول مكّة (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) لتنذر جميع الخلق من كلّ ما ينذر منه من أمور الدّنيا وأمور الآخرة وتنذر من يوم الجمع مخصوصا وهو يوم القيامة لاجتماع الخلائق فيه (لا رَيْبَ فِيهِ) قد مضى بيان عدم الرّيب في أمثاله في اوّل البقرة عند قوله تعالى لا ريب فيه (فَرِيقٌ) من المجتمعين (فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ) منهم (فِي السَّعِيرِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) على دين واحد ومذهب واحد وارادة واحدة هي ارادة الطّاعة ولمّا كان مشيّته بحسب استعداداتهم ما شاء ذلك (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ) بحسب استعداده (فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍ) يتولّى أموره ويجذب خيراته (وَلا نَصِيرٍ) يدفع الضّرّ عنه وينصره في شدائده وقد مضى مكرّرا انّ النّبىّ (ص) بولايته ولىّ وبرسالته نصير ، وغيّر الأسلوب اشعارا بانّ الإدخال في الرّحمة من أوصافه تعالى الذّاتيّة وعقوبة الظّالم من عرضيّات رحمته الرّحمانيّة دون أوصافه الذّاتيّة (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أم هاهنا بمعنى بل مع الهمزة أو مجرّدة عن الهمزة فلا يربحوا (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) لا ولىّ سواه (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى) عن الحيوة الحيوانيّة أو الموتى عن الحيوة الانسانيّة الّتى هي الولاية التّكليفيّة (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) اى ممّا يصدق عليه اسم الشّيء من امر الدّين أو من امر الدّنيا من المعاملات أو المعاشرات أو المناكحات أو التّوارث (فَحُكْمُهُ) راجع (إِلَى اللهِ) يعنى الحكم في ذلك الشّيء بكونه حقّا أو باطلا صحيحا أو فاسدا ينبغي ان يرجع فيه الى الله في الدّنيا بحسب مظاهره الّذين هم مظاهر الولاية وأصل الكلّ علىّ (ع) فانّه ليس عند أحدكم حقّ الّا ما خرج من ذلك البيت ولا يصل البشر الى مقام الغيب حتّى يكون الله يحكم بنفسه بينهم ، وينتهى حكم ذلك في الآخرة الى علىّ (ع) لانّ إياب الخلق اليه وهو قسيم الجنّة والنّار ، وامّا رجوعه الى كتاب الله بمعنى استنباط حكمه منه فممّا لا حاصل له لانّ الكتاب مجمل متشابه والرّجوع اليه من دون الرّجوع الى الامام المبيّن له غير مجد (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي) حكاية لقول الرّسول (ع) اى قال الرّسول

٤٣

لهم ، أو امر له (ص) بهذا القول بتقدير الأمر من القول اى قل لهم ، ذلكم الموصوف بهذه الأوصاف ربّى (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فيما تخوّفوننى به (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) في جميع أموري ، أو أنيب بذاتى في آخر أمري (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) هو من قول الرّسول (ص) أو ابتداء كلام من الله (وَمِنَ الْأَنْعامِ) الثّمانيّة كما مضى في سورة الانعام (أَزْواجاً) اى وخلق من الانعام أزواجا ذكرا وأنثى ، أو أزواجا اهلية ووحشيّة ، أو خلق لكم من الانعام أزواجا (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) اى يكثّركم ويبثّكم في جعل الأزواج من أنفسكم والأزواج من الانعام وهذه الجملة أيضا من قول الرّسول (ص) أو من الله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الكاف زائدة أو اسميّة وهي خبر ليس وحينئذ يكون الكلام مبالغة في نفى المماثلة لا انّه يكون اثباتا للمثل له وقد مضى في اوّل البقرة انّ الله تعالى وجود بحت وبسيط الحقيقة ، واقتضاء بساطته ان لا يكون له ثان والّا كان مركّبا وإذا لم يكن له ثان لم يكن له مثل ولا ضدّ (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) بمنزلة النّتيجة لنفى المثل عنه لانّه إذا لم يكن له مثل فلم يكن سمع الّا كان سمعه ، ولا بصر الّا كان بصره ، والّا كان غيره سميعا وبصيرا مثله فيكون السّمع والبصر محصورا فيه (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) المقلاد كالمفتاح والقلّيد كالسّكّيت الخزانة (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) على قدر استعداده (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم قدر استعداد كلّ واستحقاقه (شَرَعَ لَكُمْ) اى جعل لكم مشرعا وجادّة (مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الجمل السّابقة يحتمل كلّ منها كونه من قول الرّسول (ص) وكونه ابتداء كلام من الله كما أشرنا اليه وكان قوله تعالى (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) عطفا على (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) عطف المفرد ويجوز ان يكون مستأنفا من الله سواء جعلت الجمل السّابقة من الله أو من الرّسول (ص) ويكون حينئذ مبتدء وخبره ان أقيموا الدّين أو كبر على المشركين ويكون العائد مستترا في كبر وما تدعوهم اليه بدلا منه (وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) ان تفسيريّة أو مصدريّة والدّين يطلق على الطّريق الى الله ، والطّريق الى الله تكوينا هي الولاية التّكوينيّة وتكليفا الولاية التّكليفيّة وقد فسّر بعلىّ (ع) وعلى الأعمال الّتى تعين السّالك على الطّريق في سيره ولذلك يسمّى الملّة دينا ، واقامة الدّين بوصل كلّ مرتبة من الطّريق الى المرتبة الاخرى وبوصل اعمال كلّ مرتبة منها الى اعمال المرتبة الاخرى نظير اقامة الصّلوة وقد مضى تفصيل اقامة الصّلوة في اوّل البقرة (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) في الدّين اى الأعمال اللّازمة للطّريق أو نفس الطّريق أو في علىّ (ع) وولايته بان اختار كلّ عملا وطريقا مغايرا لعمل الآخر وطريقه ، أو بان يكون كلّ له طرق عديدة واعمال مختلفة ، أو يكون في عمله اهوية عديدة وأغراض كثيرة (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) بالله أو بالولاية (ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من التّوحيد وحصر العبادة في الله أو من الولاية (اللهُ يَجْتَبِي) اى يولّى بالاجتباء (إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) فلا تحزن أنت على ادبارهم عن الله أو عن علىّ (ع) (وَيَهْدِي) اى يوصل أو يسلك (إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) من يرجع اليه ، عن الصّادق (ع) ان أقيموا قال الامام (ع) ولا تتفرّقوا فيه كناية عن أمير المؤمنين (ع) ما تدعوهم اليه من ولاية علىّ (ع) من يشاء كناية عن علىّ (ع) وبهذا المضمون وبالقرب منه اخبار كثيرة ، ولمّا كان القرآن ذا وجوه كثيرة كان هذا أحسن وجوهه (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بصحّة دين نبيّهم أو بصدق خلافة علىّ (ع) فقبل بعضهم عن علم ، وأنكر بعضهم حسدا (بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بإمهالهم (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بالإهلاك للمنكر والخلاص للمقرّ من بين المنكر

٤٤

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) بعد الأنبياء (ع) وأممهم (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) وقد فسّر بغيا بينهم ببغى بعضهم على بعض لمّا رأوا من تفاضل أمير المؤمنين (ع) وقوله تعالى لفي شكّ منه مريب بانّه كناية عن الّذين نقضوا امر رسول الله (ص) (فَلِذلِكَ فَادْعُ) اى للدّين وإقامته ، أو لعلىّ (ع) وولايته واللّام بمعنى الى أو للتّعليل ، ويكون المعنى ادع جميع النّاس الى الشّريعة الّتى شرعتها لك لأجل الولاية فانّ الإسلام اى الشّريعة هداية الى الولاية ، ولو لم يكن الولاية لم يكن للإسلام فائدة ، وعن الصّادق (ع) يعنى الى ولاية أمير المؤمنين (ع) (وَاسْتَقِمْ) واعتدل وتمكّن في الدّين (كَما أُمِرْتَ) كاستقامة أمرت بها وهي الاستقامة في جميع المقامات وفيما فوق الإمكان وهو حقيقة الولاية ولعدم انضمام الامّة معه (ص) هاهنا لم يرد منه ما ورد في سورة هود من قوله : شيّبتنى سورة هود (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) في الدّين أو في ولاية أمير المؤمنين (ع) (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) في الأمم الماضية وفي هذا الزّمان حتّى يكون تعريضا بالايمان بكتاب ولاية علىّ (ع) وتعريضا بهم في عدم الايمان بولاية علىّ (ع) (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) ومن العدالة بينكم اقامة رجل منكم إماما لكم لرفع الخلاف بينكم بعد وفاتي واقامة عوجكم (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) فما أقول لكم من الأمر والنّهى نفعه لكم وضرّه عليكم لا نفع ولا ضرّ منه علىّ حتّى تتّهمونى في ذلك (لا حُجَّةَ) لا محاجّة (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) لظهور الحقّ وبرهانه وعدم الحاجة الى المحاجّة فهو بمنزلة المتاركة معهم (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) تهديد لهم بمحاكمة الله بينهم (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فيحكم للمحقّ على المبطل (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) اى يحاجّون الله في علىّ (ع) بعد الموت أو في القيامة أو في عبادة الله ومعصيته بعد الموت أو في القيامة ، أو يحاجّون خلفاء الله والمؤمنين في حقّ الله اى في دينه أو في حقّيّته وثبوته أو في عبادته أو في الإشراك به أو في السّلوك اليه أو في توحيده أو في مظاهره يعنى في نبوّتهم وخلافتهم خصوصا في خلافة علىّ (ع) أو في إعادته ، وفي الجملة في جملة صفاته الحقيقيّة أو الاضافيّة وفي جملة أفعاله وفي مظاهره (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) في ندائه ونداء ملائكته للموت أو في ندائه في القيامة للحساب ، أو من بعد ما استجيب له في نداء خلفائه ودعوتهم وظهور حجّتهم وعدم بقاء الاشتباه في حقّيّتهم ، أو من بعد ما استجيب للنّبىّ (ص) دعاءه على الكافرين والمشركين بقتلهم يوم بدر وبقحط أهل مكّة وبنى مضر ، أو من بعد ما استجيب للنّبىّ (ص) في إعطاء المعجزات أو من بعد ما استجيب لأجل النّبىّ (ص) فانّ اليهود كانوا يستفتحون بمحمّد (ص) ويجابون في استفتاحهم (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) اى باطلة (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) لكونهم ظالمين في محاجّتهم (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ) كتاب النّبوّة والرّسالة أو كتاب الولاية والقرآن صورة الكلّ (بِالْحَقِ) بسبب الحقّ المخلوق به أو متلبّسا بالحقّ والجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدّر وتسلية للرّسول في محاجّتهم كأنّه قيل : هل لهم ان يبطلوا الكتاب أو يمنعوا عليّا (ع) عن مقامه أو يبطلوا الدّين؟ ـ فقال تعالى : الله لا غيره هو الّذى انزل الكتاب بالحقّ فلا يأتيه البطلان (وَالْمِيزانَ) قد سبق في اوّل سورة الأعراف وفي سورة الأنبياء بيان اجمالىّ للوزن والميزان ، ولمّا كان المراد بالكتاب النّبوّة أو الرّسالة أو الولاية أو الكتاب التّدوينىّ الّذى هو صورة الكلّ أو الأحكام الملّيّة الّتى هي أيضا صورة الكلّ وكان كلّ منها ميزانا لوجود العباد وأعمالهم وأحوالهم وأخلاقهم وأقوالهم عطف على الكتاب الميزان (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) فلا تحزن على عدم مؤاخذتهم ، والخطاب عامّ أو خاصّ بالنّبىّ (ص) وتعريض بالامّة وتهديد للكفّار ومنافقي الامّة ، ولجعل قريب شبيها بالفعيل بمعنى المفعول قد يسوّى فيه بين المذكّر والمؤنّث (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) اى لا يذعنون

٤٥

فيسخرون منها ويستعجلون بها (وَالَّذِينَ آمَنُوا) اى أذعنوا بها والّذين أسلموا بالبيعة العامّة أو آمنوا بالبيعة الخاصّة (مُشْفِقُونَ مِنْها) خائفون منها لعلمهم بالحساب على الجليل والقليل فيها (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) الثّابت (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ) سواء أريد بالسّاعة ساعة ظهور القائم أو ساعة القيامة أو ساعة الرّجعة أو ساعة الموت (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) قيل : كانوا يقولون لرسول الله (ص) : أقم لنا السّاعة وائتنا بما تعدنا ان كنت من الصّادقين فردّ الله عليهم (اللهُ لَطِيفٌ) اى برّ (بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) العلم والفهم والايمان ويؤخّر عنهم السّاعة لعلّهم يتوبون ويتذكّرون فيعترفون (وَهُوَ الْقَوِيُ) الّذى بقدر على ما يشاء (الْعَزِيزُ) الّذى لا يمنعه مانع من فعله فتأخير مؤاخذتهم ليس لعجز ولا لمانع منه عن ذلك بل للطفه بهم (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فليس لمن سعى للآخرة أو للدّنيا شيء من سعيه؟ ـ فقال تعالى : من كان يريد بسعيه حرث الآخرة (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) أعطيناه بقدر سعيه وزدناه على سعيه (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) بقدر حرثه أو اقلّ منه فانّه لا يفيد في مقابل نزد له في حرثه أزيد من ذلك (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) لانّه ما زرع للآخرة ، عن الصّادق (ع): المال والبنون حرث الدّنيا ، والعمل الصّالح حرث الآخرة ، وقد يجمعها الله لا قوام ، وعنه (ع): من أراد الحديث لمنفعة الدّنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب ، ومن أراد خير الآخرة أعطاه الله خير الدّنيا والآخرة ، والاخبار في انّ من كان همّته الدّنيا بأعماله وأقواله فرّق الله عليه امره ، وشتّت باله وجعل الفقر بين عينيه ، ولم يأته من الدّنيا الّا ما كتب له ، ومن كانت همّته الآخرة جمع الله شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدّنيا وهي راغمة كثيرة ، وقيل للصّادق (ع): الله لطيف بعباده يرزق من يشاء؟ ـ قال : ولاية أمير المؤمنين (ع) ، قيل (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ؟) ـ قال : معرفة أمير المؤمنين (ع) والائمّة (ع) ، قيل نزد له في حرثه؟ ـ قال : نزيد ه منها يستوفي نصيبه من دولتهم و (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) ، قال ليس له في دولة الحقّ مع الامام (ع) نصيب (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) لله يأمرونهم بخلاف ما يأمرهم الله (شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) ممّا جعلوه ملّة من البحيرة والسّائبة وغير ذلك (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) كلمة الفصل هي اللّطيفة الانسانيّة الفاصلة للإنسان من سائر الحيوان وهي الولاية التّكوينيّة وهي ما به عناية الحقّ للإنسان وتكريمه له ويمهل الله الإنسان حتّى تظهر تلك اللّطيفة وتستكمل أو تذهب من الإنسان ويلتحق الإنسان بالانعام بل يصير اضلّ منها وإذا خرجت من الإنسان وانقطعت منه يصير الإنسان مرتدّا فطريّا غير مقبول التّوبة وواجب القتل بحسب احكام الشّرع ، وما ورد عن الباقر (ع) في تفسير الآية من قوله : لو لا ما تقدّم فيهم من الله عزّ ذكره ما أبقى القائم منهم أحدا ، ولعلّ المراد بالقائم هو خليفة الله القائم بأمره للعباد ، يؤيّد ما ذكرنا في تفسيره كلمة الفصل (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) جملة حاليّة والمعنى انّ الظّالمين لآل محمّد (ص) في وجودهم وهم اللّطيفة المذكورة وكلّ من تولّد منها سواء كانوا ظالمين لآل محمّد (ص) في الخارج أو لم يكونوا لهم عذاب اليم في الدّنيا والحال الحاضر لكن لخدارة أعضائهم لا يشعرون به ، أو في الآخرة لكن لعدم تيقّنهم بالعذاب في الآخرة ظلموهم (تَرَى) في الحال أو سوف ترى في الآخرة والخطاب خاصّ بمحمّد (ص) أو عامّ (الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ) خائفين (مِمَّا كَسَبُوا) من جزاء ما كسبوا من الأعمال أو من نفس ما كسبوا بناء على تجسّم الأعمال في الدّنيا كما هو حال بعض المذنبين أو في الآخرة كما هو حال الجميع (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) في الدّنيا

٤٦

ولكن لا يشعرون به أو في الآخرة (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) عطف على مفعولي ترى اى وترى الّذين آمنوا (الى آخرها) ، أو عطف على اسم انّ وخبرها ، أو على جملة انّ الظّالمين (الى آخرها) أو على جملة ترى الظّالمين أو على جملة هو واقع بهم (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الظّرف مستقرّ وحال عن فاعل يشاؤن أو عن الموصول أو عن مجرور لهم أو عن المستتر فيه أو خبر بعد خبر أو خبر مبتدء محذوف ، أو متعلّق بيشاؤن أو بل هم (ذلِكَ) المذكور (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذلِكَ) المذكور العظيم القدر البعيد المنزلة (الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قد مضى مكرّرا انّ المراد في أمثال هذه العبارة بالايمان الإسلام الحاصل بالبيعة العامّة ، أو نفس البيعة العامّة وبالعمل الصّالح الايمان الحاصل بالبيعة الخاصّة ، أو نفس البيعة الخاصّة ، أو المراد بالايمان الايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الخاصّة أو نفس تلك البيعة ، وبالعمل الصّالح العمل بشروط تلك البيعة (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) اى على هذا الأمر الّذى انا فيه من تبليغ رسالة الله ودعائكم الى الايمان بالله (أَجْراً) منكم حتّى تتّهمونى بطلب الدّنيا في ادّعائى (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) الاستثناء متّصل والمودّة في القربى وان كانت نافعة لهم وتكميلا لنفوسهم ولكن باستكمالهم ينتفع النّبىّ لكونهم (ص) أجزاء له وسعة لوجوده فقوله تعالى : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) اشارة الى كلا الانتفاعين حيث جعله اجرا له من حيث انتفاعه بمودّتهم لاستكمالهم بها وسعته (ص) باستكمالهم ، فما قيل : انّه استثناء منقطع ، ليس في محلّه ، والقربى مصدر قرب والمقصود المودّة في التّقرّب الى الله أو في حال قربكم من الله فيكون بمعنى الحبّ في الله أو المعنى التّحابّ في ما تقرّب الى الله من الأعمال ، أو المعنى لا أسألكم اجرا الّا ان تودّوني لأجل قرابتي منكم ، هكذا قيل ، ولكن ما وصل إلينا من ائمّتنا (ع) في اخبار كثيرة انّ المعنى لا أسألكم اجرا الّا ان تودّوا أقربائى ، فيكون القربى مصدرا بمعنى اسم الفاعل ، ويكون التّعبير بالمصدر للاشعار بانّ مودّة أقربائى نافع لكم من حيث قرابتهم لي جسمانيّة كانت القرابة أو روحانيّة ، وروى انّ رسول الله (ص) حين قدم المدينة واستحكم الإسلام قالت الأنصار فيما بينها : نأتى رسول الله (ص) فنقول له : انّه يعروك أمور فهذه أموالنا تحكم فيها غير حرج ولا محظور عليك ، فأتوه في ذلك ، فنزلت : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ، فقرأها عليهم وقال : تودّون قرابتي من بعدي ، فخرجوا من عنده مسلّمين لقوله فقال المنافقون : انّ هذا لشيء افتراه في مجلسه أراد بذلك ان يذلّلنا لقرابته من بعده فنزلت : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ، فأرسل إليهم فتلاها عليهم فبكوا واشتدّ عليهم فأنزل الله وهو الّذى يقبل التّوبة عن عباده (الآية) فأرسل في أثرهم فبشّرهم ، وبهذا المضمون وبالقرب منه اخبار كثيرة (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) قد مضى منّا مكرّرا انّ الحسن الحقيقىّ والحسنة الحقيقيّة هي الولاية لا غير ، وكلّما كان متعلّقا بالولاية من قول وفعل وحال وخلق وعلم وشهود وعيان فهو حسن بحسنها ، وكلّما لم يكن متعلّقا بالولاية كان قبيحا ولذلك فسّروا في اخبار كثيرة اقتراف الحسنة بولايتهم ومودّتهم سواء جعل التّنكير للتّفخيم أو للتّحقير (نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) اى نزد له في تلك الحسنة حسنا لانّ الحسنة إذا حصل منها فعليّة حسنة للنّفس وبقي الفاعل على تلك الفعليّة ولم يبطلها ولم يحرقها زادها الله تعالى لانّ الكون باقتضاء ذاته في التّرقّى (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر ما كسب من سيّئة قبل تلك الحسنة (شَكُورٌ) واقتضاء شكوريّته الزّيادة في تلك الحسنة الى عشر الى ما شاء الله (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) قد مضى وجه نزول هذه الآية (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) حتّى تفترى على الله فاشكر نعمة عدم الختم والإيحاء إليك فيكون إظهارا لمنّته عليه بشرح صدره وعدم ختمه ، أو المعنى

٤٧

ان يشأ الله عدم إظهار فضل عترتك يختم على قبلك حتّى لا يوحى إليك فضل أهل بيتك فأظهر فضل أهل بيتك ولا تبال بردّهم وقبولهم فانّ الله حافظ لهم ومظهر لفضلهم ويكون تسلية له (ص) عن انكار قومه (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) فلو كان قول محمّد (ص) افتراء وباطلا لمحاه الله عن الايّام والحال انّه في ازدياد الثّبات في الايّام (وَيُحِقُّ الْحَقَ) فلو لم يكن قوله حقّا لما حقّ بكلماته التّكوينيّة الّتى هي افراد البشر ، أو المعنى انّه يمح الله الباطل فلا تحزن يا محمّد (ص) على ما قالوا من قولهم : لو أمات الله محمّدا (ص) لا ندع الأمر في أهل بيته ، أو المعنى انّه (يَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) عن القلوب من الشّكّ والرّيب في أهل بيتك ويحقّ الحقّ الّذى هو ولاية أهل بيتك في القلوب في أمد الزّمان ، أو المعنى انّه يمح الله الباطل عن الزمان ويحقّ الحقّ الّذى هو علىّ (ع) والائمّة (ع) وولايتهم (بِكَلِماتِهِ) الّذين هم خلفاؤك بعدك (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فيعلم ما يلج في قلوب المنافقين من عداوتك وعداوة أهل بيتك (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) قد مضى وجه نزول الآية. اعلم انّ أكثر ما ورد من ذكر التّوبة في الكتاب كان المراد منها التّوبة الّتى تكون على أيدي خلفائه تعالى في ضمن الميثاق والبيعة ، والقابل لتلك التّوبة في الظّاهر هو خليفة الله الّذى يكون البيعة على يده لكنّه لمّا كان مظهرا لصفاته تعالى خصوصا حين أخذ البيعة من العباد نسب قبول التّوبة الى نفسه بطريق الحصر كما في قوله تعالى : فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) قرئ بالخطاب وبالغيبة (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) اى يستجيبهم في دعائهم مطلقا ، أو في دعائهم لله ولقائه ، أو في دعائهم لإخوانهم بظهر الغيب كما في الخبر والمراد بالايمان الإسلام ، أو الايمان الخاصّ ، وعلى الاوّل فالمراد بالعمل الصّالح البيعة الخاصّة والايمان الخاصّ ، أو المعنى يستجيب الّذين آمنوا لله أو للنّبىّ (ص) في مودّة أقربائه (ص) (وَيَزِيدُهُمْ) على مسئولهم (مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ) بولاية علىّ (ع) (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) وللاشارة الى انّ عذاب الكافرين من لواحق أعمالهم ومن توابع مشيّته بالعرض غيّر الأسلوب (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) اعلم ، انّ النّفس الانسانيّة ليس اختيالها وظلمها وعداوتها مع خلق الله وعدولها عن الحقّ الّا لانانيّتها واعجابها بنفسها ، وكلّما قلّل حاجتها وزاد غناءها زاد في انانيّتها ، وكلّما زيد في انانيّتها زاد اعجابها بنفسها ولوازم اعجابها من تحقير العباد والعداوة مع من يظنّ انّه يريد الاستعلاء عليه والظّلم على من يقابله ولا يكون ملائما لحاله والعدول عن الحقّ ، وإذا بسط الله الرّزق النّباتىّ من المأكول والمشروب أو الرّزق الحيوانىّ من الشّهوات البهيميّة والبسطات السّبعيّة والاعتبارات الشّيطانيّة أو الرّزق الانسانىّ من الإلهامات والعلوم والحكم والمكاشفات الصّوريّة والمعنويّة على العباد عدوا على العباد وظلموهم وحقّروهم وعدلوا عن الحقّ فانّ الإنسان ما كان باقيا عليه شوب من نفسه كانت العلوم الصّوريّة مورثة لازدياد انانيّته وكذلك المشاهدات الصّوريّة والمكاشفات المعنويّة فانّ المذاهب الباطلة أكثرها تولّدت من المشاهدات الّتى كانت للنّاقصين كما سبق منّا تفصيل ذلك (وَلكِنْ يُنَزِّلُ) الأرزاق الثّلاثة على العباد (بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) يعنى ينزّل ما يشاء ان ينزّل بقدر استحقاق المنزّل عليه لانّه لا يشاء ما يشاء الّا بحسب حال من يشاء له وقوله لو بسط الله الرّزق (الى قوله) بصير لرفع توهّم نشأ من قوله تعالى يستجيب الّذين آمنوا فانّه يورث توهّم انّه لو كان هذا حقّا لكان ينبغي ان لا يكون من المؤمنين فقير محتاج مع انّ أكثر المؤمنين محتاجون في امر معيشتهم (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) تعليل لسابقه يعنى انّه يعلم قدر استحقاقهم وقدر ما يصلحهم وما يفسدهم فيعطى المؤمنين قدر ما يصلحهم ، والكافرين قدر ما يصلح العالم والنّظام الكلّىّ ، وقدر

٤٨

ما يصلح المؤمنين فانّ من العباد من لا يصلحه الّا الفقر ومنهم من لا يصلحه الّا الغنى ولو أصبح المؤمن يملك ما بين المشرق والمغرب لكان خيرا له ، ولو أصبح يقطع اربا اربا لكان خيرا له (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) المطر النّافع الّذى يغيثهم من الجذب ولذلك سمّى غيثا والجملة في معنى التّعليل لقوله ينزّل بقدر (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) بيان لانزال الغيث وتسميته للمطر باسم آخر فانّه يسمّى المطر في العرف بالرّحمة لانّه رحمة من الله على العباد والحيوان والنّبات ، أو المراد مطلق الرّحمة سواء كانت مطرا أو غيره فيكون تعميما بعد التّخصيص (وَهُوَ الْوَلِيُ) الّذى يتولّى أمور عباده وسائر مخلوقاته فيربّيهم أحسن التّربية (الْحَمِيدُ) الّذى لا محمود سواه وكان محمودا في نفسه (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) فانّ في خلق السّماوات بهيئة خاصّة وحركة مخصوصة وكوكب ومدار خاصّ ، وفي خلق الأرض بسيطة قابلة لانحاء التّصرّف فيها من بناء الابنيّة وزرع الزّراعات وغرس الأشجار واجراء المياه على وجهها ، وقبولها تأثيرات السّماوات والسّماويّات ، وفي خلق المواليد على وجهها كلّ بنحو خاصّ لائق بنوعه وببقائه آيات عديدة دالّة على علمه بالجزئىّ والكلّىّ واحاطته وقدرته ورأفته بخلقه وغير ذلك (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) بمنزلة النّتيجة فانّ الّذى نشر هذه المواليد بعد ما لم تكن إذا شاء ان يجمعهم جمعهم وهو أسهل عليه من نشرهم (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ) عطف فيه أيضا رفع توهّم انّه لو كان ينشر رحمته وكان وليّا لعباده حميدا في صفاته فلم يصاب العباد بالمصائب (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا) برحمته وتربيته (عَنْ كَثِيرٍ) ممّا كسبت أيديكم وهل ذلك عامّ لكلّ من يصاب أو خاصّ ببعض والبعض الآخر مصيبته لرفع درجته لا لذنب وقع منه كما في الاخبار ، ويمكن التّعميم بتعميم الذّنب للذّنوب الّتى عدوّها في الشّريعة ذنوبا ولما يعدّ في الطّريق ذنوبا ولما يعدّ من المقرّبين ذنوبا ، فانّ خطرات القلوب ذنوب الأولياء (ع) ، والالتفات الى غير الله ذنوب الأنبياء (ع) ، مع انّهم كانوا مأمورين بالتّوجّه الى الكثرات ، وعن الصّادق (ع) انّه سئل : أرأيت ما أصاب عليّا (ع) وأهل بيته (ع) من بعده؟ اهو بما كسبت أيديهم؟ وهم أهل بيت طهارة معصومون؟! فقال : انّ رسول الله (ص) كان يتوب الى الله ويستغفره في كلّ يوم وليلة مائة مرّة من غير ذنب ، انّ الله يخصّ أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب ، وعن علىّ (ع) انّه قال : قال رسول الله (ص): خير آية في كتاب الله هذه الآية ، يا علىّ ما من خدش عود ولا نكبة قدم الّا بذنب ، وما عفا الله عنه في الدّنيا فهو أكرم من ان يعود فيه ، وما عاقب عليه في الدّنيا فهو اعدل من ان يثنّى على عبده (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) قانتين عن الله (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) قد مضى مكرّرا بيان الولىّ والنّصير (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ) قرئ بحذف الياء في الوصل والوقف اجراء للوصل بنيّة الوقف ، وقرئ بإثباتها فيهما ، وقرئ بحذفها في الوصل دون الوقف (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) العلم محرّكة الجبل الطّويل أو عامّ (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ) ثوابت (عَلى ظَهْرِهِ) اى ظهر البحر (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) لكلّ مؤمن كامل الايمان فانّ الايمان نصفان ، نصف صبر ونصف شكر ، ولاختفاء دلالة السّفن على علمه وقدرته وحكمته واعتنائه بخلقه واحتياجها في الدّلالة المذكورة الى تأمّل تام وتوجّه كامل الى الحقّ الاوّل بحيث يرى كلّ النّعم منه ويراه في انعامه قال لكلّ صبّار شكور (أَوْ يُوبِقْهُنَ) يهلكن بالاغراق وإهلاك اهلهنّ (بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) قرئ يعف بالجزم عطفا على يوبقهنّ اى ان شاء يوبقهنّ بإرسال الرّيح العاصف وان شاء يعف عن كثير ، وقرئ يعفو بالرّفع على الاستيناف ومعنى

٤٩

ومعنى الاستدراك والمعنى لكنّه يعفو عن كثير (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) قرئ بالجزم وبالرّفع وهو واضح ، وقرئ بالنّصب بجعل الواو بمعنى مع ونصب الفعل بعده (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) مخلص من العذاب (فَما أُوتِيتُمْ) عطف وتعقيب باعتبار الاخبار يعنى إذا علمتم ذلك فاعلموا انّ ما أوتيتم (مِنْ شَيْءٍ) من حيث انّكم من أبناء الدّنيا (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ولا بقاء له ولا خلوص من شوب الآلام وخوف الزّوال (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ) لعدم شوبه بالآلام وخوف الزّوال (وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا) متعلّق بخير وأبقى ، أو خبر مبتدء محذوف اى ذلك للّذين آمنوا (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) والمراد بالايمان الإسلام الحاصل بالبيعة العامّة وقبول الدّعوة الظّاهرة فيكون قوله وعلى ربّهم يتوكّلون اشارة الى الايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الخاصّة وقبول الدّعوة الباطنة (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) جمع الفاحشة الزّنا مخصوصا ، أو ما يشتدّ قبحه من الذّنوب ، أو كلّ ما نهى الله عزوجل عنه ، وعلى الاوّلين يكون من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ للاهتمام به ، ويجوز ان يكون عطفا على الإثم وعلى كبائر الإثم ، وعلى الثّالث يكون مرادفا للاثم وعطفا عليه تأكيدا وقد سبق في سورة النّساء بيان الكبيرة والصّغيرة عند قوله : ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) هم مبتدء ويغفرون خبره والجملة جواب بحذف الفاء ، أو بجعل إذا خالية من معنى الشّرط ، أو لعدم حاجتها الى الفاء لضعف معنى الشّرطيّة فيها ، أو هم تأكيد للضّمير المتّصل أو فاعل غضبوا راجع الى النّاس وهم مفعول غضبوا بحذف الخافض اى إذا غضب النّاس عليهم يغفرون ، أو هم فاعل فعل محذوف والمذكور يفسّره (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) في دعوة خلفائه (ع) دعوة عامّة اسلاميّة أو دعوة خاصّة ايمانيّة ، أو الّذين استجابوا لربّهم المضاف وهو ربّهم في الولاية في دعوته الباطنة الى الولاية (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) بعد قبول الولاية فانّ اقامة الصّلوة لا يتيسّر لأحد بدون قبول الولاية (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) اى أمرهم ذو شورى يعنى يستشيرون في أمورهم ولا يستبدّون بآرائهم لخروجهم من انانيّاتهم واعتماد كلّ على الآخر في طلب الخير وبيانه له (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) قد مضى في اوّل البقرة بيان اقامة الصّلوة وكيفيّة الإنفاق وفي سورة النّساء عند قوله : لا تقربوا الصّلوة وأنتم سكارى بيان معاني الصّلوة (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) هم تأكيد للضّمير المنصوب ، أو مبتدء مثل هم يغفرون ، ولمّا كان الانظلام مذموما ومعدودا من الرّذائل ذكرهم بوصف الانتصار يعنى انّ شأنهم الانتصار ، وامّا العفو عن المسيء وترك الانتقام مع وجود قوّة المدافعة في المظلوم فليس انظلاما مذموما بل هو عفو ممدوح ، والانظلام ان لا يكون في المظلوم قوّة ثوران الغضب عند الظّلم ، ولمّا كان النّفس المنتصرة لا تقنع في الانتصار بقدر الظّلم بل تطلب الزّيادة على الجناية قال تعالى : تأديبا لعباده (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) وسمّى الثّانية سيّئة للمشاكلة ، أو لانّها إساءة بالنّسبة الى الجاني يعنى لا تزيدوا في الانتصار عن المماثلة (فَمَنْ عَفا) عن المسيء بترك الانتقام بعد الاقتدار عليه ، والجملة معطوفة على جملة جزاء سيّئة سيّئة والفاء للتّرتيب في الاخبار يعنى إذا علمت انّ التّجاوز في الانتصار عن المماثلة ليس جزاء للسّيّئة بل كان ظلما فاعلم انّ من عفى (وَأَصْلَحَ) إساءة المسيء بالعفو (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) غاية تفخيم للعفو حيث لا يوكّل اجره الى غيره (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) جواب سؤال مقدر كأنّه قيل : أيحبّ الله الظّالم فيأمر بالعفو عنه؟ ـ فقال : انّه لا يحبّ الظّالمين فلا يرغّب في العفو

٥٠

حبّا لهم بل حبّا للمؤمنين بتعرّضهم للثّواب الجزيل ، أو تعليل لقوله ينتصرون أو لقوله جزاء سيّئة سيّئة أو لقوله فمن عفى وأصلح فأجره على الله اى لما يستفاد منه من التّرغيب على العفو كأنّه قال : انّ الانتقام نحو ظلم بالنّسبة الى القوّة العاقلة الّتى شأنها العفو فانّ شأنه شأن الله العفوّ الغفور ، وانّه لا يحبّ الظّالمين فاتركوا الانتقام واعفوا عن المسيء (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) عطف فيه رفع توهّم انّ المنتصر ظالم وغير محبوب فكان له مؤاخذة دنيويّة وعقوبة اخرويّة (فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) لا في الدّنيا ولا في الآخرة (إِنَّمَا السَّبِيلُ) في الدّنيا بالمؤاخذة وفي الآخرة بالعقوبة (عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) في العالم الصّغير أو الكبير (بِغَيْرِ الْحَقِ) والمنتصر وان كان ظالما بوجه على المسيء وعلى قوّته العاقلة لكنّه ظلم بالحقّ (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ) اى لكن من صبر عن الانتقام (وَغَفَرَ) بتطهير القلب عن الحقد على المسيء (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) اى الأمور الّتى ينبغي ان يعزم عليها لكونها من اجلّ الخصال (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) استدراك اى ولكن من يضلل الله عن هاتين الخصلتين بالاقدام على الاقتصاص (فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) سمّى عدم الوصول والاهتداء الى تينك الخصلتين ضلالا لانّه انحراف عن الكمال الانسانىّ الّذى هو الجادّة الى الله ، أو المعنى ومن يضلله الله بالجناية والظّلم على العباد بغير الحقّ (وَتَرَى الظَّالِمِينَ) الخطاب خاصّ بمحمّد (ص) وحينئذ جاز ان يكون ترى للاستقبال وجاز ان يكون للحال فانّه يرى حالهم في الحال ، أو الخطاب عامّ وحينئذ يكون للاستقبال أو للحال بمعنى ينبغي ان ترى (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) اى على النّار قبل دخولهم النّار (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ) والخشوع من الذّلّ لا ينفع بخلاف الخشوع من الحبّ فانّه متى وجد نفع (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) الطّرف العين أو حركة جفنيها ، فان كان بمعنى العين فالمعنى من طرف خفىّ النّظر ، وان كان بمعنى حركة الجفنين فالمعنى ينظرون نظرا ناشئا من حركة خفيّة لاجفانهم والمقصود انّهم لغاية خوفهم ووحشتهم لا يقدرون على النّظر التّامّ الى النّار (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا) التّأدية بالماضي لتحقّق وقوعه ان كان المراد انّهم يقولون يوم القيامة ذلك بعد ما رأوا الظّالمين في العذاب أو لكونه بالنّسبة الى محمّد (ص) ماضيا ، أو المعنى قال الّذين آمنوا في حال الحيوة الدّنيا بعد ما علموا بحال الظّالمين وسوء عاقبتهم (إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا) يعنى انّ الخاسرين هؤلاء الظّالمون الّذين خسروا (أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) هذا من قول المؤمنين أو من الله (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ) هذا أيضا من المؤمنين أو من الله (يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) الى الخير والنّجاة (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) هذا بمنزلة النّتيجة وجواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فما نفعل حتّى لا نكون ظالمين؟ ـ فقال : استجيبوا لربّكم المطلق في دعوة مظاهره وخلفائه أو لربّكم المضاف الّذى هو ربّكم في الولاية (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) المراد باليوم البليّة والعذاب فانّه كثيرا ما يستعمل فيها ، أو المراد يوم الموت أو يوم القيامة ، والضّمير المجرور راجع الى صاحبه أو عذابه اى لا مردّ لصاحبه الى الدّنيا ، أو لعذابه عن اهله ، أو المعنى لا مردّ بتأخيره (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) يعنى لا تقدرون على إنكاره أو ما لكم من منكر ينكر ما حلّ بكم ويدفعه عنكم وينصركم

٥١

فيه (فَإِنْ أَعْرَضُوا) صرف الخطاب عنهم الى محمّد (ص) (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) يعنى لا تغتمّ باعراضهم لانّا ما أرسلناك عليهم حفيظا (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) وقد بلّغت (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) نعمة دنيويّة أو نعمة اخرويّة من العلوم والإلهامات والمكاشفات (فَرِحَ بِها) اى بالرّحمة من حيث صورتها لا من حيث أنعامنا لانّ نفس الإنسان ما دامت حاكمة في وجوده لا تنظر الى المنعم وانعامه في النّعمة بل تنظر الى صورة النّعمة ونسبتها الى نفسها لا نسبتها الى المنعم والّا لم يفرح بصورة النّعمة بل بالمنعم أو يغتمّ بصورة النّعمة لاحتمال استدراجه تعالى بالنّعمة (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) للنّعمة السّابقة ولا يتذكّرها ولا يشكرها ، وتكرار الإنسان للاشارة الى انّ ذلك من مقتضى خلقته ، ولا يخفى وجه تخالف الفقرتين فانّ الرّحمة لمّا كانت ذاتيّة لمشيّته تعالى أتى في جانبها بالتّأكيدات وبأداة التّحقيق ونسب اذاقتها الى نفسه ونسب الرّحمة أيضا الى نفسه ، وأتى في جانب المصيبة بأداة الشّكّ ولم يأت بالتّأكيد ولم ينسب المصيبة الى نفسه وجعل سبب وصولها إليهم ما كسبت أيديهم (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فما لله في المصائب من صنع (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من خير وشرّ ورحمة ومصيبة (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) نكّر الإناث وعرّف الذّكور للاشارة الى انّ الإناث لتنفّر الاناسىّ منهنّ كأنّهنّ منكورات عند نفوسهم ، وانّ الذّكور لحبّهم لهم معهودون عندهم حاضرون في أذهانهم (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) يعنى يعطى لبعض الإناث فقط ، ولبعض الذّكور فقط ، ويجمع بينهما لبعض (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) فكلّ ذلك بإعطاء الله ومنعه لا بأسباب طبيعيّة كما يقوله الطّبيعىّ والّذين ينظرون الى الأسباب الطّبيعيّة (إِنَّهُ عَلِيمٌ) بصلاح كلّ وما يصلحه وما يفسده فيعطى ما يصلحه ويمنع ما يفسده (قَدِيرٌ) على ذلك سواء وافقه الأسباب الطّبيعيّة أم لم توافقه (وَما كانَ لِبَشَرٍ) ما ينبغي له وما كان في سجّيّته (أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ) لانّ البشريّة لتحدّدها بحدود كثيرة سفليّة لو سمعت كلام الله من دون تنزّله الى مقام البشريّة المحدودة لفنت وهلكت لانّه كالشّمس وحدود البشريّة كالفيء (إِلَّا وَحْياً) الوحي في اللّغة الاشارة والكتابة والمكتوب والرّسالة والإلهام والكلام الخفىّ وكلّما ألقيته الى غيرك لكنّ المراد معه هنا معنى اعمّ من الإلهام والكتابة اى الكتابة في الألواح الغيبيّة والرّسالة لكن رسالة الملك مثل جبرئيل (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) مثل تكلّمه مع موسى (ع) من الشّجرة ومثل تكلّمه مع محمّد (ص) ليلة ـ المعراج من وراء السّتر (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) اى الّا ان يرسل رسولا بشريّا (فَيُوحِيَ) ذلك الرّسول البشرىّ (بِإِذْنِهِ) اى يتكلّم مع سائر البشر بكلام خفىّ البطون جلّى الظّهور فانّ كلام ذلك الرّسول البشرىّ لكونه نائبا عن الله تعالى شأنه ومظهرا له كلام الله ، ولكلامه بمضمون ما ورد في الاخبار الكثيرة انّ حديثهم صعب مستصعب وسرّ مستسرّ ومقنّع بالسّرّ بطون خفيّة غاية الخفاء وظهر جلّى غاية الجلاء ، وقرئ يرسل ويوحى بالنّصب عطفا على وحيا بجعله تميزا أو مفعولا مطلقا من غير لفظ الفعل ، وقرءا بالرّفع عطفا على وحيا بجعله حالا بمعنى الفاعل (ما يَشاءُ) الرّسول أو الله تعالى أو ما يشاء ذلك البشر الّذى أرسل الله اليه بلسان استعداده (إِنَّهُ عَلِيٌ) فلا يقدر على سماع كلامه بشر دان (حَكِيمٌ) لا يدعهم من غير تكلّم معهم لاقتضاء حكمته إلقاء الحكم والمصالح إليهم واقتضائها جعل الوسائط في ذلك الإلقاء حتّى لا يهلكوا حين الإلقاء (وَكَذلِكَ) التّكلّم بالانحاء الثّلاثة (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) اى أرسلنا

٥٢

(رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) اى روحا عظيما ناشئا من محض أمرنا من غير مداخلة مادّة فيه ، أو بعضا من عالم أمرنا والمراد به جبرئيل أو روح القدس الّذى هو أعظم من جبرائيل وميكائيل (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) المراد بالكتاب النّبوّة والرّسالة وأحكامهما وبالايمان الولاية وآثارها والقرآن صورة الثّلاثة (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) اى الكتاب أو الايمان أو المذكور منهما أو الرّوح الموحى إليك وقد فسّر بعلىّ (ع) ، فعن الباقر (ع) ولكن جعلناه نورا يعنى عليّا وعلىّ (ع) هو النّور هدى به من هدى من خلقه (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) سئل الصّادق (ع) عن العلم ، أهو شيء يتعلّمه العالم من أفواه الرّجال؟ أم في الكتاب عندكم تقرؤنه فتعلمون منه؟ ـ قال : الأمر أعظم من ذلك وأوجب! اما سمعت قول الله عزوجل (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) ثمّ قال : بلى ، قد كان في حال لا يدرى ما الكتاب ولا الايمان حتّى بعث الله عزوجل الرّوح الّتى ذكر في الكتاب فلمّا أوحاها علم بها العلم والفهم وهي الرّوح الّتى يعطيها الله عزوجل من شاء فاذا أعطاها عبدا علّمه الفهم (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يعنى انّك برسالتك تهدى الى الولاية فانّ الرّسالة وقبولها هداية الى الايمان والولاية كما قال تعالى : قل لا تمنّوا علىّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم ان هداكم للايمان ان كنتم صادقين ؛ عن الباقر (ع) يعنى انّك تأمر بولاية علىّ (ع) وتدعو إليها وعلىّ (ع) هو الصّراط المستقيم (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وعنه (ع) يعنى عليّا انّه جعله خازنه على ما في السّموات وما في الأرض من شيء وائتمنه عليه ، ولعلّه (ع) ارجع الضّمير المجرور الى الصّراط ، أو فسّر الصّراط بعلىّ (ع) (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) اى تنتهي جميع الأمور اليه في الواقع ، أو تنتهي بلحاظ اللّاحظ اليه بمعنى انّه إذا نظر الى جزئىّ من جزئيّات الوجود ولو حظ مصدره ومصدر مصدره تنتهي المصادر كلّها الى الله فيكون مصدر الكلّ.

سورة الزّخرف

مكّيّة كلّها ، وقيل : الّا آية واسئل من أرسلنا من رسلنا ، ثمان وثمانون آية ،

وقيل : تسع وثمانون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ) اى جعلنا ذلك الكتاب المبين الّذى لا رطب ولا يابس الّا فيه بحيث لا يعتريه ريب وشكّ ولا خفاء وإجمال وتشابه (قُرْآناً) مجموعا فيه جميع المطالب (عَرَبِيًّا) بلغة العرب أو ذا حكم وآداب واحكام ومواعظ ونصائح (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تصيرون باستماعه وتدبّره عقلاء ، أو تدركون ما فيه من المواعظ والحكم (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ) وهو الكتاب المبين الّذى هو اللّوح المحفوظ المعبّر عنه في لسان الحكماء بالنّفس الكلّيّة ، أو هو القلم الا على فانّه بوجه قلم وبوجه كتاب وهو المسمّى في لسان الحكماء بالعقل الكلّىّ ، أو هو مقام المشيّة المعبّر عنها بنفس الرّحمان والاضافة الاشراقيّة فانّها بوجه اضافة الحقّ ، وبوجه فعله ، وبوجه

٥٣

كلمته ، وبوجه كتابه وهي امّ جميع الكتب (لَدَيْنا لَعَلِيٌ) على الكلّ لا أعلى منه (حَكِيمٌ) ذو حكم أو محكم لا يتطرّق الخلل والشّكّ والرّيب والفساد اليه ، وعن الصّادق (ع): هو أمير المؤمنين (ع) في امّ الكتاب يعنى الفاتحة فانّه مكتوب فيها في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال : الصّراط المستقيم هو أمير المؤمنين (ع) ومعرفته ، ولا منافاة بين هذا الخبر وبين ما ذكرنا في تفسير الآية فانّ عليّا (ع) والقرآن في هذا العالم منفكّان والّا ففي العوالم العالية علىّ (ع) هو القرآن والقرآن هو علىّ (ع) ، كما انّ فاتحة الكتاب في العوالم العالية هي النّفوس الكلّيّة والعقول الكلّيّة وهي المشيّة الّتى بها تحقّق كلّ ذي حقيقة (أَفَنَضْرِبُ) الهمزة على التّقديم والتّأخير والمعنى جعلناه قرآنا عربيّا لتعقّلكم واستكمالكم فهل نضرب (عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) اى اعراضا ونصرفه الى غيركم ، أو المستفهم عنه مقدّر بعد الهمزة والمعنى أنهملكم ولا ندعوكم فنصرف عنكم القرآن (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) قرئ بفتح الهمزة بتقدير اللّام وبكسر الهمزة (وَكَمْ أَرْسَلْنا) يعنى لا تطمعوا في صرف الذّكر عنكم وعدم دعوتكم فانّا ما اهملنا الأمم الماضية مع انّهم كانوا اشدّ منكم إسرافا وعصيانا وأرسلنا فيهم رسلا ولمّا تجاوزوا الحدّ في العصيان أهلكناهم فاحذروا عن عذابنا وإهلاكنا ولا تتجاوزوا الحدّ في العصيان (مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) كما تستهزؤن أنتم ان كان الخطاب للمشركين ، ويجوز ان يكون الخطاب مصروفا الى محمّد (ص) ويكون المقصود تسليته والمعنى كما يستهزئ قومك بك (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) يجوز ان يكون الضّمير المجرور للاوّلين ، ويكون من تبعيضيّة أو تفضيليّة يعنى أهلكنا اشدّاءهم فليحذر الّذين يستهزؤن برسولنا ، أو أهلكنا الّذين كانوا اشدّ منهم فكيف بهم وبكم؟! ويجوز ان يكون لقوم محمّد (ص) وكان المقصود أهلكنا الاوّلين الّذين كانوا اشدّ من قومك فكيف بهم ان فعلوا مثل فعلهم؟! لكنّه ادّاه بهذه الصّورة لافادة هذا المعنى مع الاختصار (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) يعنى مضى صفة الاوّلين وقد بلغ النّوبة الى قومك أو مضى حكاية حال الاوّلين فيما أنزلنا إليك سابقا فليرجعوا اليه وليتدبّروا فيه (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) فما لهم يقرّون بانّ الله خالق السّماوات والأرض ويشركون به ما خلقوهم ونحتوهم بأيديهم ، أو يشركون ما خلقه بيده (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) هذه الكلمة ضمّه الله الى ما حكاه منهم سواء جعل صفة للعزيز العليم أو خبرا لمحذوف فانّه قد يضمّ الحاكي شيئا من نفسه الى الحكاية ، أو هو أيضا جزء الحكاية ويكون الخطاب من بعضهم لبعض آخر (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) تسلكونها الى مقاصدكم ولا تتحيّرون في بيدائها (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الى حاجاتكم ومقاصدكم ، أو لعلّكم تهتدون الى مبدئكم وصفاته من العلم والقدرة والرّأفة والتّدبير ، أو تهتدون الى إمامكم الّذى هو سبيل الى المقصد الكلّىّ الّذى هو الفوز بنعيم الآخرة فانّه لم يدع مقاصدكم الدّنيويّة الدّانية الّتى لا اعتناء بها بدون السّبيل الّذى يسلك إليها فكيف يدع المقصد الكلّىّ من غير سبيل (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ) من جهة العلو أو من السّحاب (ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ) التفات الى التّكلّم تجديدا لنشاط السّامع واشعارا بانّ إنبات النّبات بكيفيّات مخصوصة وتصويرات عديدة عجيبة وتوليدات غريبة ليس الّا من مبدء عليم قدير مباشر له فكأنّه صار في حكاية إنبات النّبات حاضرا عند السّامع مشهودا له بعد ما كان غائبا عنه (بَلْدَةً مَيْتاً) عن النّبات (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) من الأرض بعد موتكم فلم تستغربون الاعادة؟! (وَالَّذِي خَلَقَ

٥٤

الْأَزْواجَ كُلَّها) اى أصناف المخلوقات (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) اى ظهور ما تركبون ، جمع الظّهور وافراد الضّمير المضاف اليه باعتبار اللّفظ والمعنى (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) يعنى انّ غاية جميع المخلوقات تذكّركم وشكركم له على انعام ما رأيتموه نعمة لكم (وَتَقُولُوا) يعنى تذكروا بقلوبكم وتقولوا بألسنتكم فانّ ألسنتكم مكلّفة بجريان كلمة الشّكر عليها (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) يعنى ان تنزّهوا الله من وسمة الحاجة الى المركوب والانتقال من مكان الى مكان وتذكّروه بنعمة تسخير المركوب ليكون شكرا (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) اقرن للأمر اطاقه وقوى ، واقرنه جعله في الحبل (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) يعنى انّ الغرض تذكّر النّعمة وشكر المنعم في النّعمة وتذكّر النّقلة العظيمة الّتى هي النّقلة من الدّنيا الى الآخرة (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) اى ولدا فانّه جزء من الوالد بحسب مادّته يعنى بعد ما اقرّوا بخالقيّته للسّماوات والأرضين جعلوا له من مخلوقاته ولدا (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) بنعمة الحقّ وصفاته فيجري على لسانه ما لا يليق بمنعمه غفلة عن المنعم وصفاته (مُبِينٌ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) يعنى ينبغي التّعجّب من حالهم حيث لم يقنعوا بان جعلوا له من عباده جزء وجعلوا اخسّ الأولاد له (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) اى بما ضرب الأسماع به حالكونه مثلا وشبيها ، أو من حيث كونه صفة وحكاية لحاله فانّ الولد مجانس للوالد وشبيه له وكأنّ التّأدية بهذه العبارة للاشارة الى انّهم لا يقولون انّ الله ولد حقيقة بل شبّهوا النّسبة بينه وبين الملائكة أو بين الجنّ بنسبة الوالد والولد (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) رجل كظيم ومكظوم مكروب ، أو هو كاظم لغيظه غير مظهر له أو ساكت (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) الم يتفكّروا وجعلوا من ينشّأو ويربّى في الزّينة ولدا له؟ أو من مبتدء خبر محذوف ، أو خبر مبتدء محذوف والمعنى اهو ادنى منكم ومن ينشّأو في الزّينة ولد له ومن يبارز في المحاربة ولد لكم؟ أو المعنى اهو ادنى منكم وولده من ينشّأو في الزّينة؟ (وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) لدعواه وحجّته بل في الأغلب يتكلّم حين المخاصمة بما هو حجّة عليه ، وقرئ ينشّأو من الثّلاثىّ المجرّد مبنيّا للفاعل ، ومن التّفعيل ومن المفاعلة ومن الأفعال مبنيّا للمفعول (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) قرئ عباد الرّحمن وعبيد الرّحمن وعند الرّحمن بالنّون يعنى انّ قولهم الملائكة بنات الله متضمّن لقبائح عديدة ، الاوّل جعله مركّبا متجزّئا وليس الّا وصف ادنى الممكنات ، والثّانى نسبة التّوالد اليه وهو يستلزم الاحتياج ووجود المثل له وهو غنىّ على الإطلاق ، ولو كان له مثل لكان ممكنا مركّبا ، والثّالث نسبة امر اليه إذا نسب الى أنفسهم تغيّروا واسودّت وجوههم وهو يستلزم جعله ادنى وأهون من أنفسهم ، والرّابع جعل أضعف الأولاد ولدا له ، والخامس جعل الملائكة الّذين هم مكرمون على الله بوصف أرذل النّاس (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) فانّ الانوثة والذّكورة لا تعلمان الّا بالمشاهدة (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) الّتى شهدوا بها على الملائكة انّهم إناث (وَيُسْئَلُونَ) عن هذه الشّهادة يوم القيامة وهو تهديد لهم (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) يعنى انّهم قالوا هذه الكلمة من غير تصوّر لمعناها ومن غير علم بنسبتها ولذلك كانوا كاذبين وانّما أرادوا

٥٥

بذلك الفرار من قبح عبادة غير الله ولم يعلموا انّ فاعليّة المشيّة أو سببيّتها للأشياء ليست بحيث يسلب الاختيار عنهم ويرفع القبح عن فعلهم (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) اى من قبل القرآن أو من هذا القول (فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) يعنى ليس لهم علم تحقيقىّ بمعنى هذا القول ولا علم تقليدىّ وليس لهم سوى الخرص والخرص والتّخمين في باب العقائد مطرود عن باب الله وقد سبق في سورة الانعام بيان لهذه الآية عند قوله تعالى : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) (الآية) (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) اى على طريقة وملّة (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) يعنى انّهم ما علموا تحقيقا ولا علموا تقليدا ممّن يصحّ تقليده بل قلّدوا آباءهم الّذين لا يجوز لهم تقليدهم ولذلك قال في موضع آخر : أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) تسلية له (ص) بانّ هذا كان ديدن النّاس قديما وجديدا وقد كان الأنبياء السّابقون (ع) مبتلين بأمثال هؤلاء ، وتخصيص المترفين بالذّكر لانّهم هم الّذين كانوا يعارضون الأنبياء والأولياء (ع) ، وامّا غيرهم فليس نظرهم الّا إليهم (قالَ) النّذير لهم (أَ) تقلّدون آباءكم (وَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما قالوا؟ فقال تعالى : قالوا (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) ولو كان أهدى ممّا وجدنا عليه آباءنا (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) بأنواع النّقم الّتى ذكرنا بعضها لك (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) عطف باعتبار المعنى كأنّه قال : اذكر أو ذكّر إذ جعلوا لله من عباده جزء وجعلوا له بنات حتّى يتنبّهوا بقبحه واذكر إذ قالوا لو شاء الرّحمن ما عبدناهم ، وأظهر قبح هذا القول لهم حتّى يتنبّهوا ، واذكر إذ أرسلنا في كلّ قرية نذيرا فكذّبوه فأهلكناهم حتّى تتسلّى عن تكذيبهم ، واذكر إذ قالوا انّا وجدنا آباءنا على أمّة وأظهر قبح هذا القول لهم واذكر إذ قال إبراهيم (لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) حتّى يكون أسوة لقومك في التّبرّى عن التّقليد لمن لا يجوز تقليده ، ويكون أسوة لهم في التّقليد ان أرادوا التّقليد فانّه جعل التّبرّى عن تقليد من لا يجوز تقليده كلمة باقية في عقبه ، ويكون أسوة لك في عدم الاعتناء بالقوم وشدّة إنكارهم ، وفي إظهار دعوتك وعدم الاعتداد بردّهم وقبولهم (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) الى ما هو بغية الإنسان (وَجَعَلَها) اى كلمة التّبرّى عن تقليد من لا يجوز تقليده أو جعل كلمة التّوحيد (كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) اى ذرّيّته أو أمّته أو من يأتى في عقبه من ذرّيّته وذرّيّة أمّته (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) من جهلهم الّذى كانوا مفطورين عليه وهؤلاء ممّن أتوا على عقبه فليأخذوا بتلك الكلمة وليرجعوا من جهلهم وتقليدهم لمن لا يجوز تقليده ، وقد فسّر تلك الكلمة الباقية في أخبارنا بالامامة وانّها باقية في عقب الحسين (ع) ، وفسّر قوله تعالى لعلّهم يرجعون برجوع الائمّة الى الدّنيا (بَلْ) ليس بقاؤهم على طريقتهم الباطلة لاعتمادهم على تقليد آباءهم وتمسّكهم به ولكن (مَتَّعْتُ هؤُلاءِ) قريشا (وَآباءَهُمْ) بالتّمتّعات الحيوانيّة من غير منذر لهم من البلايا والمصائب ومن الأنبياء (ع) فسكنوا الى تلك التّمتّعات واطمأنّوا بها (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) اى الولاية (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) ظاهر رسالته وصدقه فيها ، أو مظهر رسالته (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) المنذر عمّا اطمأنّوا به ورأوه مخالفا لما تمرّنوا عليه أنكروه وطلبوا ما اسندوا إنكارهم اليه و (قالُوا هذا) الّذى يدّعى انّه كتاب سماوىّ إلهىّ ، أو هذا الّذى يدّعيه من الرّسالة من الله ، أو هذا الّذى يظهر من خوارق العادات (سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ

٥٦

وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) مكّة والطّائف (عَظِيمٍ) لمّا لم يروا عظمة وشرفا الّا ما هو بحسب الانظار الحسّيّة من الشّرافات الدّنيويّة من الحسب والنّسب والخدم والحشم وكثرة المال والأولاد ولم يكن لمحمّد (ص) شيء من ذلك أنكروا نزول الكتاب من الله عليه وقالوا : لو كان الله ينزل كتابا ويرسل رسولا فليرسل الى رجل شريف عظيم القدر كالوليد بن المغيرة بمكّة وعروة بن مسعود بالطّائف ولينزل الكتاب الى أحدهما ، لكنّهم لم يعلموا انّ الرّسالة منصب روحانىّ والشّرافة الصّوريّة لا تبلغ الرّجل الى ذلك المنصب ان لم تكن تمنعه منه (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) في الاستفهام واضافة الرّبّ الى محمّد (ص) دونهم انكار وتحقير لهم واستهزاء بهم (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) يعنى انّ معيشتهم الّتى هي من مكسوباتهم ومحسوساتهم ولهم بحسب الظّاهر اختيار في تحصيلها لا صنع لهم فيها بل نحن قسمناها بينهم فكيف يقسمون النّبوّة الّتى هي رحمة من الله غير محسوسة لهم ولا صنع ولا اختيار لهم فيها (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ) في المراتب الدّنيويّة والمناصب الظّاهرة (دَرَجاتٍ) فكيف نكل هذا المنصب العظيم الى آرائهم (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) السّخرىّ اسم مصدر من سخر به ومنه ، وهكذا السّخريّة والسّخرىّ بكسر السّين ، ولعلّه هاهنا من مادّة التّسخير واسم له بمعنى التّذليل (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من الأموال والأولاد والاعراض ، وفي خبر : الا ترى يا عبد الله كيف اغنى واحدا وقبّح صورته وكيف حسّن صورة واحد وأفقره ، وكيف شرّف واحدا وأفقره ، وكيف اغنى واحدا ووضعه؟! ثمّ ليس لهذا الغنىّ ان يقول : هلّا أضيف الى يساري جمال فلان ، ولا للجميل ان يقول : هلّا أضيف الى جمالي مال فلان ، ولا للشّريف ان يقول : هلّا أضيف الى شرفى مال فلان ، ولا للوضيع ان يقول : هلّا أضيف الى ضعتى شرف فلان ، ولكنّ الحكم لله يقسم كيف يشاء وهو حكيم في أفعاله كما هو محمود في اعماله ، وذلك قوله تعالى : وقالوا : لو لا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ، قال الله تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) يا محمّد (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فأحوجنا بعضهم الى بعض ، أحوج هذا الى مال ذلك ، وأحوج ذلك الى سلعة هذا والى خدمته فترى اجلّ الملوك واغنى الأغنياء محتاجا الى أفقر الفقراء في ضرب من الضّروب امّا سلعة معه ليست معه وامّا خدمة تصلح لما لا يتهيّأ لذلك الملك ان يستغنى الّا به ، وامّا باب من العلوم والحكم هو فقير الى ان يستفيدها من ذلك الفقير وهذا الفقير محتاج الى مال ذلك الملك الغنىّ ، وذلك الملك يحتاج الى علم هذا الفقير أو رأيه أو معرفته ، ثمّ ليس للملك ان يقول : هلّا اجتمع الى مالي علم هذا الفقير ، ولا للفقير ان يقول : هلّا اجتمع الى رأيى وعلمي وما أتصرّف فيه من فنون الحكم مال هذا الملك الغنىّ (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) اى لو لا كراهة ذلك (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) بالتّوسعة في أموالهم حتّى يجعلوا سقف بيوتهم فضّة (وَمَعارِجَ) من فضّة (عَلَيْها يَظْهَرُونَ) السّطوح (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً) من فضّة (عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً) زينة من غير ذلك يعنى لو لا ان يكونوا كلّهم كفّارا لجعلنا ذلك لانّ الكافر مخذول منّا ومكروه لنا ولم نرد منه توجّهه إلينا ، ولو لا مراعاة حال من في وجوده استعداد الايمان لوسّعنا عليه في دنياه بحيث لا يغتمّ آنا بشيء من دنياه حتّى لا يتوجّه إلينا ولكن لمراعاة حال المستعدّين للايمان جعلنا في الكفّار غنى وفقرا كما انّ في المؤمنين غنى وفقرا ، وعن الصّادق (ع) قال الله عزوجل : لو لا ان يجد عبدي المؤمن في نفسه (١) لعصّبت الكافر بعصابة من ذهب ، وعن النّبىّ (ص): يا معشر المساكين طيبوا وأعطوا الله الرّضا من قلوبكم يثبّتكم الله عزوجل على فقركم فان

__________________

(١) اى كراهة منّى.

٥٧

لم تفعلوا فلا ثواب لكم ، وعنه (ع) قال : ما كان من ولد آدم (ع) مؤمن الّا فقيرا ولا كافرا الّا غنيّا حتّى جاء إبراهيم (ع) فقال : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) فصيّر الله في هؤلاء أموالا وحاجة ، وفي هؤلاء أموالا وحاجة (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ) المذكور من سقف الفضّة ومعارجها وأبوابها وسررها وزخرف البيوت (لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) قرئ لمّا بالتّشديد فيكون ان نافية ولمّا استثنائيّة ، وقرئت بالتّخفيف فان مخفّفة واللّام فارقة وما زائدة أو موصولة أو موصوفة (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) من متاع الحيوة الدّنيا كأنّ غيرهم لا آخرة لهم ، وبأمثال هذه الآية توسّل من قال غير المؤمنين أو غير من له عقل مجرّد إذا مات فات ولا بقاء له في الآخرة ، وليس كذلك ، لانّ التّحقيق انّ مطلق الحيوان له بقاء في الآخرة لتجرّد خياله وعدم انطباعه وهذا القدر من التّجرّد يكفى في البقاء بعد خراب البدن (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) اعلم ، انّ الولاية السّارية في جميع الموجودات تكوينا حقيقة ذكر الله ، وكذلك الولاية الجارية على الإنسان وبنى الجانّ تكليفا ، ولذلك أضاف الذّكر الى الرّحمن وصاحب الولاية المتحقّق بها أيضا ذكر ولذلك كان رؤيته مذكّرا كما عن عيسى (ع) في جواب الحواريّين حين قالوا : من نجالس يا روح الله؟ ـ قال : من يذكّركم الله رؤيته ، ثمّ الذّكر المأخوذ من صاحب الولاية ذكر الله ثمّ الفكر الحاصل من الذّكر المأخوذ من صاحب الولاية وان كان الفكر أكمل في الذّكريّة من الذّكر المأخوذ ثمّ تذكّر الله في الخاطر ثمّ تذكّر امره ونهيه عند الفعال ، ثمّ الذّكر اللّسانىّ من التّلهيل والتّسبيح والتّحميد وغيرها ثمّ كلّ ما يذكّرك الله اىّ شيء كان ، والمقصود انّ من يعمى عن الولاية وعن ولىّ الأمر فانّ العمى عن الولاية يورث العمى عن جميع أقسام الذّكر (نُقَيِّضْ) نسبّب ونقدّر (لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) يمنعه عن الانسانيّة والسّلوك على طريقها ويجرّه الى البهيميّة والسّبعيّة والشّيطانيّة ويسلكه على طريقها الى النّار ، وممّا روى من الأكابر : من لم يكن له شيخ اى ولىّ يتولّاه بالبيعة الخاصّة تمكّن الشّيطان من عنقه ، ومن تمكّن الشّيطان من عنقه لا يرجى له خير ، ولا نجاة له من السّعير ، وعن أمير المؤمنين (ع): من تصدّى بالإثم اعشى (١) عن ذكر الله تعالى ، ومن ترك الأخذ عمّن امر الله بطاعته قيّض له شيطان فهو له قرين (وَإِنَّهُمْ) اى الشّياطين القرناء للعاشين (لَيَصُدُّونَهُمْ) اى العاشين (عَنِ السَّبِيلِ) الّذى ينبغي ان يسلكه الإنسان وهو الولاية التّكوينيّة والتّكليفيّة ، ولمّا كان أغلب خطابات القرآن غير خالية من الاشارة الى الولاية وقبولها وردّها فمعنى الآية انّ من يعش عن علىّ (ع) وولايته نقيّض له شيطانا وانّهم يعنى الشّيطان واتباعه ليصدّون العاشين عن علىّ (ع) وولايته (وَيَحْسَبُونَ) اى الشّياطين أو العاشون أو المجموع (أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) والحال انّهم ضالّون مصدودون عن الطّريق (حَتَّى إِذا جاءَنا) اى العاشى وقرئ جاءانا على التّثنية (قالَ) العاشى للشّيطان (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) اى المشرق والمغرب (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) لمّا رأى انّه صدّه عن الولاية وبواسطة صدوده عن الولاية هلك ودخل النّار تمنّى ان لم يكن هو قرينا له (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) فاعل ينفعكم التّمنّى المستفاد من قوله : يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين أو إذ ظلمتم على ان يكون إذ اسما خالصا ، أو انّكم في العذاب ولفظة إذ اسم خالص فاعل ، أو للتّعليل على ان تكون حرفا إذا أفادت التّعليل وانّكم للتّعليل أو فاعل لن ينفعكم ، وقرئ انّكم بكسر الهمزة جوابا لسؤال مقدّر في مقام التّعليل ، روى عن الباقر (ع) انّه نزلت هاتان الآيتان هكذا حتّى إذا جاءانا يعنى فلانا وفلانا يقول أحدهما لصاحبه حين يراه : يا ليتني بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين فقال الله لنبيّه (ص) : قل لفلان وفلان واتباعهما : لن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم آل محمّد حقّهم انّكم

__________________

(١) عشى يعشى عشا ساء بصره باللّيل والنّهار واعشى عن شيء أعرض وصدر عنه الى غيره.

٥٨

في العذاب مشتركون فقوله لن ينفعكم بتقدير القول سواء جعل التّقدير قل يا محمّد (ص) لن ينفعكم ، أو يقول الملائكة ، أو يقول الله (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) يعنى إذا كان الله يمدّ العمى ويقيّض له شيطانا فهل أنت تقدر ان تسمع الصّمّ (أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) عطف عطف السّبب على المسبّب والمجمل على المفصّل (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) روى انّه (ص) ارى ما يلقى عترته من أمّته بعده فما زال منقبضا ولم ينبسط ضاحكا حتّى لقى الله تعالى ، وروى جابر بن عبد الله الانصارىّ قال : انّى لأدناهم من رسول الله (ص) في حجّة الوداع بمنى قال لألقينّكم ترجعون بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، وايم الله لئن فعلتموها لتعرّفني في الكتيبة الّتى تضاربكم ثمّ التفت الى خلفه فقال : أو علىّ ، ثلاث مرّات فرأينا انّ جبرئيل غمزه ، فانزل الله على اثر ذلك فامّا نذهبنّ بك فانّا منهم منتقمون بعلىّ بن ابى طالب (ع) ، وعن الصّادق (ع) فامّا نذهبنّ بك يا محمّد (ص) من مكّة الى المدينة فانّا رادّوك إليها ومنتقمون منهم بعلىّ بن ابى طالب (ع) (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) يعنى لا تحزن على ما قالوا في حقّ أهل بيتك وعلى ما سيفعلونه بعدك واستمسك بالّذى اوحى إليك في علىّ (ع) أو في أهل بيتك (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو صراط الولاية ، ومن كان على صراط مستقيم لا يبال بما قيل أو يقال ، أو فعل أو يفعل به ، وعن الباقر (ع) انّك على ولاية عليّ (ع) ، وعليّ (ع) هو الصّراط المستقيم ، أو المعنى فاستمسك بالّذى القى إليك من ولاية عليّ (ع) انّك بهذا الإلقاء على صراط مستقيم (وَإِنَّهُ) اى ما اوحى إليك أو الصّراط المستقيم أو علىّ (ع) (لَذِكْرٌ لَكَ) أو لشرف لك أو لذكرك الله فانّه ذكر الله حقيقة وسبب تذكّر الله ، أو ذكر الله لك ولا شرف أشرف من ان يذكّرك الله (وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) عنه فانّه النّبأ العظيم الّذى هم فيه مختلفون ، والنّعيم الّذى تسألون عنه (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) المفعول الاوّل محذوف ومن أرسلنا مفعول ثان اى اسئل النّاس وأهل الخبرة والعلماء باخبار الماضين وسيرهم عن حال من أرسلنا قبلك ، أو من مفعول اوّل وقوله اجعلنا في مقام المفعول الثّانى يعنى اسئل الرّسل الماضين (ع) فانّهم ان كانوا غائبين عن الانظار البشريّة فهم غير غائبين عن نظرك ، وورد في اخبار كثيرة انّه (ص) أرى ليلة المعراج جميع الأنبياء (ع) وهم قد صلّوا خلفه في بيت المقدّس أو في السّماء فانزل الله تعالى هذه الآية عليه ، فعن الباقر (ع) انّه سئل عن هذه الآية من ذا الّذى سأله محمّد (ص) وكان بينه وبين عيسى (ع) خمس مائة سنة فتلا هذه الآية : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) ، قال : فكان من الآيات الّتى أراها الله محمّدا (ص) حين اسرى به الى البيت المقدّس ان حشر الله له الاوّلين والآخرين من النّبيّين والمرسلين (ع) ثمّ امر جبرئيل فاذّن شفعا واقام شفعا ثمّ قال في إقامته : حىّ على خير العمل ، ثمّ تقدّم محمّد (ص) فصلّى بالقوم فانزل الله عليه واسئل من أرسلنا (الآية) فقال لهم رسول الله (ص) : على ما تشهدون وما كنتم تعبدون؟ ـ فقالوا : نشهد ان لا اله الّا الله وحده لا شريك له ، وانّك لرسول الله (ص) أخذت على ذلك مواثيقنا وعهودنا (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) عطف فيه تسلية لرسول الله (ص) وحمل له على الصّبر على أذى القوم (فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) استهزؤا بها مقام ان ينقادوا لها ويخافوا من الله ويصدّقوا رسوله (ع) بها (وَما نُرِيهِمْ

٥٩

مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) بالقحط والرّجز والطّوفان والجراد والقمّل (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) من غيّهم ويصدّقون رسولنا (وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) نادوه بهذا الاسم تعظيما له لانّ السّحر كان له قدر عظيم عندهم ، أو لانّ السّاحر كان اسما لكلّ عالم ماهر ، وقيل : انّما قالوا ذلك استهزاء بموسى (ع) فانّهم لغاية حمقهم وشدّة عنادهم ما تركوا الاستهزاء به في حال الشّدّة والابتلاء ، وقيل : انّ السّاحر من سحر بمعنى غلب في السّحر والمعنى يا ايّها الّذى ساحرنا فغلبنا بسحره (ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) يعنى ان كشفت عنّا فانّا آمنون بك كما مضى الآية في سورة الأعراف وقد مضى بيانها أيضا (فَلَمَّا كَشَفْنا) اى فدعا موسى (ع) فكشفنا فلمّا كشفنا (عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) ينقضون يعنى كلّما عذّبناهم بعذاب قالوا ذلك وكلّما كشفنا عنهم نقضوا عهدهم (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) يعنى بعد ما كشفنا عنهم العذاب خاف فرعون على ملكه وخاف ان يقرّ بموسى بعض أهل مملكته فجمع النّاس وخطبهم وموّه عليهم بإظهار حسن حاله في الدّنيا ورثاثة حال موسى (ع) فيها (قالَ يا قَوْمِ) لا تبالوا بموسى وما رأيتموه منه من كشف العذاب فانّى ابسط منه يدا وأكثر مالا وأقوى تصرّفا (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) اشارة الى بسط يده في البلاد (وَهذِهِ الْأَنْهارُ) اى أنهار النّيل ، قيل : كان معظمها اربعة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) اى من تحت قصرى أو من تحت أمري فانّهم كانوا معتقدين انّ النّيل يجرى بأمره (أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ) بهذه الأموال والجمال وحسن الحال وحسن الصّورة وحسن السّيرة وكثرة البسطة والسّعة (مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) حقير ليس له شيء من هذا الّذى ترونه علىّ (وَلا يَكادُ يُبِينُ) الكلام ويقرّر المرام يعنى انّه مهين بحسب البسطة والسّعة والزّينة ، ومهين بحسب حاله في نفسه فانّه لا يقدر على أداء الكلام ، وأم منقطعة مجرّدة عن الهمزة ، أو متضمّنة لها ، أو متّصلة والمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) قيل : كانوا إذا سوّروا رجلا سوّروه وطوّقوه بسوار وطوق من ذهب ، موّه عليهم وقاس السّيادة من الله بالسّيادة من الخلق وقال : إذا كان رسولا ونائبا من الله فلم لا يلقى عليه من الله اسورة من ذهب حتّى يكون علامة لسيادته ، وقرئ : القى مبنيّا للمفعول ، واسورة مرفوعا ومبنيّا للفاعل ، واسورة منصوبا ، وقرئ : اسورة واساورة واساوير وأساور (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) اى مصطفّين فانّه يقول : انّ لله الّذى يدّعى الرّسالة منه ملائكة كثيرة فان كان صادقا في رسالته من الله الموصوف بما وصف فليكن صفوف من الملائكة معه ليكونوا جنوده ، ومعينين له في أموره ، وحافظين له عن الواردات والأعداء (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) اى طلب منهم الخفّة والسّرعة في خدماته بهذه التّمويهات أو فاستخفّ أحلامهم (فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونا) أحزنونا ، أسف كفرح حزن اشدّ الحزن ، وأسف عليه غضب ، وباىّ معنى كان لا يكون لائقا بشأن الله ، ولذلك ورد عن الصّادق (ع): انّ الله تبارك وتعالى لا يأسف كأسفنا ولكنّه خلق أولياءه لنفسه يأسفون ويرضون وهم مخلوقون مربوبون فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه وذلك لانّه جعلهم الدّعاة اليه والادلّاء عليه فلذلك صاروا كذلك وليس ان ذلك يصل الى الله كما يصل الى خلقه ولكن هذا معنى ما قال من ذلك وقال أيضا : من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها ، وقال أيضا : من يطع الرّسول فقد أطاع الله وقال أيضا (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) وكلّ هذه وشبهه على ما ذكرت لك ، وهكذا الرّضا والغضب وغيرهما من الأشياء ممّا يشاكل ذلك ، ولو كان يصل الى المكوّن الأسف والضّجر وهو الّذى أحدثهما وانشأهما لجاز لقائل ان يقول : انّ المكوّن يبيد يوما ، لانّه إذا دخله الضّجر والغضب

٦٠