تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٤

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٤

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩١

(فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) الهيم بالكسر الإبل العطاش جمع الهيمان والهيمى بمعنى العطشان ، أو الإبل الّتى بها داء يصيبها شبه الاستسقاء جمع الهيمان والهيمى ، والهيام كسحاب الرّمل الّذى لا يتمالك كلّما صبّ عليه الماء استنقعه ، والهائم المتحيّر والهيام كغراب حالة كالجنون من العشق (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) النّزل ما يعدّ للنّازل تشريفا له وهو تهكّم بهم وتهديد بانّ هذا نزلهم فكيف بهم في منازلهم المقرّرة لهم؟! (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ) لا غيرنا (فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) بمخلوقيّتكم حتّى تصدّقوا بخالقكم ، أو لو لا تصدّقون ببعثكم بعد إقراركم بخلقكم ابتداء ، والبعث أهون في انظاركم من الخلق ابتداء (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) جواب شرط مقدّر والتّقدير ان لم نكن نحن خلقنا فأخبرونى عمّا تمنون (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) أو الفاء للسّببيّة ، والهمزة على التّقديم والتّأخير والتّقدير نحن خلقنا بسبب ان يقال : أخبروني عمّا تمنون عن جواب هذا السّؤال الّذى هو أأنتم تخلفونه أم نحن الخالقون ولا جواب لكم الّا ان تقولوا : الله هو الخالق فلو لا تصدّقون بخالقيّتنا؟ (نَحْنُ قَدَّرْنا) قرئ بالتّخفيف والتّشديد (بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) لا غيرنا (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) بمغلوبين (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) اى في عالم لا تعلمونه يعنى نحن شأننا وشغلنا على الاستمرار تبديل الخلق بخلق آخر وإخراج الخلق الاوّل من قبور الأبدان وانشاؤهم في عالم آخر نظير إخراج الجنين من الرّحم وإنشائه في عالم لا يعلمه وتبديله بجنين آخر ولا مانع لنا من ذلك (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) اى النّشأة الدّنيا وتبديلنا للنّبات بنبات آخر وإنشاء النّبات في نشأة الحيوان والإنسان وتبديل الحيوان وإنشائه في عالم حيوان آخر أو إنسان ، وتبديل النّطفة من صورة الى صورة ومن مقام الى مقام ومن حال الى حال وكلّما طرأ عليها من الأحوال والصّور كان أعلى وأشرف من سابقه ، وانّ الدّنيا ليست الّا كالرّحم للجنين ، وانّ نقل الجنين من الرّحم الى الدّنيا ليس الّا النّقل من السّجن الى فسحة وسيعة (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) نقلكم من الدّنيا الى الآخرة ولو لا تذكّرون؟! انّ هذا النّقل أيضا ليس الّا النّقل من السّجن الى فسحة عظيمة وسيعة فلو لا تذكّرون؟! انّه كما يكون نقل الجنين الى الدّنيا استكمالا له بكثير من الكمالات الّتى لا يمكن تحصيلها له في الرّحم كذلك يكون نقل جنين الدّنيا من رحم الدّنيا الى الآخرة استكمالا بكثير من الكمالات الّتى لا يمكن تحصيلها له في الدّنيا ، ولو لا تذكّرون؟! انّ عالم الآخرة نسبته الى الدّنيا مثل نسبة الدّنيا الى الرّحم بل فوق ذلك ، ولقد علمتم النّشأة الاولى وكونكم في الدّنيا واتّصالكم بالآخرة في النّوم الّذى هو أخو الموت وشهودكم لعالم المثال كلّ يوم مرّة أو مرّتين ، واطلاقكم من قبوركم الّتى يتعسّر عليكم طىّ الزّمان والمكان معها وطيّكم للزّمان وشهود ما يأتى وطيّكم للمكان وشهود الوقائع الواقعة في الأمكنة البعيدة فلو لا تذكّرون؟! انّ الموت ان لم يكن اشدّ من النّوم في ذلك لم يكن انقص منه فتشتاقوا الى هذا الإطلاق ، وطىّ الزّمان والمكان وشهود ما يأتى وشهود ما لم يكن في مكانك وبلدتك ، عن السّجّاد(ع) العجب كلّ العجب لمن أنكر النّشأة الاخرى وهو يرى النّشأة الاولى (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) اى أأنتم تنبتونه وتبلّغونه الى مقام بلوغ الحبّ والحصاد أم نحن فاعلون ذلك؟ لستم تقولون انّ الإنبات والتّبليغ الى الحصاد فعل البشر فانّه (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) هشيما يليق للنّار (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) فكّههم بملح الكلام اظرفهم بها فالمعنى تتحدّثون بالأحاديث المليحة على سبيل التّهكّم أو ظلتم تتحدّثون وتنقلون بينكم الأحاديث والأسمار في ذلك (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) من الغرام بمعنى الشّرّ الدّائم والهلاك والعذاب والولوع (بَلْ نَحْنُ) قوم (مَحْرُومُونَ) عن الأرزاق

١٤١

(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) لا تقدرون ان تقولوا أنزله البشر فانّا (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) بتعظيم المنعم بهذه النّعم بامتثال أوامره ونواهيه (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) اى الشّجرة الّتى تأخذون منها الزّند والزّندة وهما تؤخذان من الشّجر الأخضر فيحكّ الزّند بالزّندة فتنقدح النّار (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ نَحْنُ جَعَلْناها) اى النّار أو الشّجرة (تَذْكِرَةً) لتصرّف الحقّ تعالى وجعل كلّ شيء من سنخه كالنّار ، أو تذكرة لقدرة الحقّ وعنايته بخلقه حيث اخرج من الشّجر الأخضر نارا تنتفعون بها في كثير من معايشكم (وَمَتاعاً) وما يتمتّع به (لِلْمُقْوِينَ) أقوى استغنى وافتقر وبات على القىّ بالكسر اى القفر من الأرض وكذلك القواء بالكسر والمدّ والقواية بالفتح ، وأقوى نزل فيه ، إذا كان ربّك يفعل هذه وينعم بهذه (فَسَبِّحْ) أنت ولا تكترث بردّهم (بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الباء للسّببيّة اى سبّح الله بسبب اسم ربّك يعنى بسبب تذكّره أو بسبب بشريّة علىّ (ع) أو بسبب مقام نورانيّته فانّ الكلّ اسم الله ، أو سبّح اسم ربّك فيكون الباء صلة سبّح (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) لا زائدة أو نافية ردّ لما قالوه في القرآن من انّه سحر أو شعر أو أساطير الاوّلين ، أو نافية ونفى للقسم والمعنى لا اقسم فيما أدّعيه من انّه قرآن كريم بوضوحه وعدم احتياجه الى القسم ، ومواقع النّجوم مغاربها ، أو مطالعها ، أو انتشارها يوم القيامة ، أو الأنواء الّتى كانوا في الجاهليّة يقولون : أمطرنا بنوء كذا وهو سقوط كوكب وقت طلوع الفجر وطلوع آخر مقابله ، أو رجومها للشّياطين كما في الخبر ، فانّه روى عن الصّادق (ع) انّ مواقع النّجوم رجومها للشّياطين ، وكان المشركون يقسمون بها فقال سبحانه : فلا اقسم بها ، أو المراد بمواقع النّجوم مواقع نزول القرآن فانّه نزل نجوما (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) اى انّ المتلوّ عليك أو الموحى إليك أو قرآن ولاية علىّ (ع) قرآن كريم عزيز خطير (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) هو كتاب العقول الّذى هو الامام المبين ، أو كتاب النّفوس الكلّيّة الّذى هو الكتاب المحفوظ ، فانّ القرآن نزل من مقام جمع الجمع الّذى هو المشيّة الى مقام الجمع الّذى هو مقام العقول الطّوليّة والعرضيّة ، والى مقام النّفوس الكلّيّة وثبت في تلك المقامات اوّلا ثمّ منها الى صدر النّبىّ (ص) ثمّ منه الى حسّه المشترك ، ثمّ منه الى الخارج بصورة الألفاظ والحروف ، أو بصورة الكتابة والنّقوش وهو في كلّ تلك المقامات قرآن جامع بين الوحدة والكثرة واحكام القلب والقالب والعلم والعمل (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) خبر وباق على خبريّته فانّ القرآن الّذى هو في كتاب مكنون لا يصل الى حريم قدسه الّا الّذى تطهّر من الواث المعاصي والمحرّمات ، وادناس التّوجّه الى الكثرات والانانيّات ، وأرجاس الحدود والتّعيّنات ، ولكن لمّا كان التّكليف مطابقا للتّكوين والظّاهر موافقا للباطن كان التّكليف بحسب المقام البشرىّ ان لا يمسّ قالب الإنسان قالب القرآن وظاهره كما ورد في الاخبار وافتى به العلماء وقالوا : انّ الخبر هاهنا في معنى النّهى اى الّا المطهّر من الاحداث والاخباث ، ولذلك نهوا عن مسّ خيطه وعلاقته وجلده وقرطاسه بدون الطّهارة واستشهدوا بهذه الآية ، وروى انّه لمّا استخلف عمر سأل عليّا (ع) ان يدفع إليهم القرآن فقال : يا أبا الحسن ان جئت بالقرآن الّذى جئت به الى ابى بكر حتّى نجتمع عليه ، فقال : هيهات ليس الى ذلك سبيل انّما جئت به الى ابى بكر لتقوم الحجّة عليكم ولا تقولوا يوم القيامة : انّا كنّا عن هذا غافلين أو تقولوا : ما جئتنا به فانّ القرآن الّذى عندي لا يمسّه الّا المطهّرون والأوصياء من ولدي ، فقال عمر : فهل وقت لإظهاره معلوم؟ ـ قال علىّ : نعم ، إذا قام القائم من ولدي يظهره ويحمل النّاس عليه فتجرى السّنّة به (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) تشريف آخر له (أَفَبِهذَا

١٤٢

الْحَدِيثِ) اى القرآن الّذى هو بهذا الوصف أو قرآن ولاية علىّ (ع) أو حديث انّه كريم لا يمسّه الّا المطهّرون أو حديث انحصار الخلق والزّرع وإنزال الماء وإنشاء شجرة النّار في الله تعالى (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) دهن نافق ، وداهن وادهن أظهر خلاف ما في قلبه (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) اى تجعلون رزقكم الانسانىّ الّذى هو الحظّ من القرآن واستمداد الحيوة الانسانيّة منه فانّ القرآن رزق الإنسان بعلومه وأخلاقه انّكم تكذّبون به ، أو بمحمّد (ص) أو بالله ، أو تجعلون تكذيبكم شبيه رزقكم الّذى لا انفكاك لكم عنه ، أو تجعلون القرآن الّذى رزقكم الله ، أو سائر أرزاقكم الّتى رزقكم الله بها على صفة انّكم تكذّبون منعمها ورازقها ، أو تجعلون شكر رزقكم انّكم تكذّبون كما نقل انّه أصاب النّاس عطش شديد في بعض اسفار محمّد (ص) فدعا (ص) فسقوا ، فسمع رجلا يقول أمطرنا بنوء كذا فنزلت الآية ، وروى عن أمير المؤمنين (ع) انّه قرأ الواقعة فقال تجعلون شكركم انّكم تكذّبون ، فلمّا انصرف قال : انّى قد عرفت انّه سيقول قائل لم قرء هكذا ، قرأتها انّى قد سمعت رسول الله (ص) يقرؤها كذلك وكانوا إذا امطروا قالوا أمطرنا بنوء كذا وكذا فأنزل الله وتجعلون شكركم انّكم تكذّبون (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ) الأنفاس أو الأرواح (الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ) يا من بلغت أرواحكم الحلقوم أو يا أهل المحتضرين (حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) الى أحوالكم وخروج أرواحكم أو تنظرون حال المحتضرين وخروج أرواحهم ولا يمكنكم علاجهم وردّ أرواحهم (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) اى الى المحتضر (مِنْكُمْ) ووجه كونه أقرب انّ النّاس قربهم له قرب مكانىّ مشتمل على البينونة والفرقة والغيبة بخلاف قربه تعالى فانّ قربه تعالى من الأشياء قرب تقويمىّ قرب الفصول للانواع وهذا القرب لا يكون لشيء من الأشياء الى شيء من الأشياء الّا للمقوّم بالنّسبة الى المتقوّم فانّ المقوّم أقرب الى المتقوّم منه الى نفسه ولذلك كان تعالى أقرب الى الأشياء من أنفسهم (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) اى لا تبصروننا أو لا تبصرون قربنا (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) اى غير مجزيّين أو غير محاسبين أو غير مملوكين فانّ الدّين بمعنى الجزاء والذّلّ والدّاء والحساب والقهر والغلبة والاستعلاء والسّلطان والحكم والإكراه والملك ، والكلّ مناسب هاهنا (تَرْجِعُونَها) اى الرّوح (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في تكذيبكم فانّه لا ثواب ولا عقاب ولا جزاء ولا اله (فَأَمَّا إِنْ كانَ) المتوفّى (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) اى السّابقين (فَرَوْحٌ) قرئ بضمّ الرّاء اى فله روح أو فمنه روح فانّ السّابق مالك للكلّ ، أو فهو روح فانّ الكلّ له ومنه وهو قوامه ، والرّوح بالضّمّ ما به حيوة الأنفس ويؤنّث ، والقرآن والوحي وجبرئيل وملك أعظم من جبرائيل وميكائيل ، أوامر النّبوّة وحكم الله ، وبالفتح الرّاحة والرّحمة ونسيم الرّيح (وَرَيْحانٌ) الرّيحان نبت معروف ، أو كلّ نبت طيّب الرّائحة والرّزق (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) كأنّه تعالى أشار بالرّوح والرّيحان الى المراتب العالية من الجنان ، وبجنّة النّعيم الى المراتب الدّانية ، أو المراد بجنّة النّعيم معنى يشمل جميع مراتب الجنّات على تعميم النّعيم للنّعيم الصّورىّ والمعنوىّ ، أو المعنى فروح وريحان في البرازخ وجنّة نعيم في الآخرة كما في الخبر (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) قد مضى تفسير اليمين بعلىّ (ع) وتفسير أصحابه بشيعته الّذين باعوا البيعة الخاصّة الولويّة على يده ، وقد مضى أيضا مكرّرا انّ اليمين عالم الأرواح ، وأصحاب اليمين هم الّذين تمكّنوا في التّوجّه أو الاتّصال بعالم الأرواح الطّيّبة ، ولا يحصل التّوجّه أو الاتّصال بعالم الأرواح الطّيّبة الّا بالولاية الحاصلة بالبيعة الخاصّة الولويّة (فَسَلامٌ لَكَ) يا محمّد (ص) (مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) يعنى انّهم يكونون في الجنّات مجاورين لك بحسب مراتبك الدّانية ويسلّمون عليك سلام التّحيّة أو سلامة لك منهم بمعنى انّهم بمنزلة اجزائك ولهم السّلامة

١٤٣

من آفات الآخرة وسلامتهم سلامتك أو سلام لك يا من هو من أصحاب اليمين يعنى لا يكون بعضهم شرّا لبعض ، أو يحيّى بعضهم بعضا بتحيّة السّلام ، أو يا من يتأتّى منه الخطاب فانّ أصحاب اليمين سلامة على الكلّ ويحيّون الكلّ (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) الماء الحارّ البالغ في الحرارة اى لهم ذلك معدّا لهم كما يعدّ للنّازل تشريفا له (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) وإدخال النّار (إِنَّ هذا) المذكور من الأصناف الثّلاثة وجزاءهم (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ).

اعلم ، انّ الشّيء المتيقّن له ثلاث أحوال : فانّ المدرك المتيقّن امّا متيقّن في مقام العلم ، أو في مقام الشّهود بمعنى انّ المدرك كان مشهودا له ببصره أو بصيرته ، أو في مقام التّحقّق بمعنى انّ المدرك كان متحقّقا بالمدرك وصار ذاته مثاله المتيقّن بالنّار بإدراك الدّخان الّذى هو من آثارها أو بشهودها ، أو بصيرورته عين النّار ، والاوّل هو علم اليقين ، والثّانى عين اليقين ، والثّالث حقّ اليقين ، والاضافة من قبيل اضافة السّبب الى المسبّب ، أو المسبّب الى السّبب ، والمعنى انّ هذا لهو متحقّق وواقع ومورث بآثاره لليقين أو حاصل من اليقين به ٩ (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قد مضى هذه الآية قبيل هذا.

سورة الحديد

مدنيّة كلّها ، تسع وعشرون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قد مضى في سورة بنى إسرائيل بيان تسبيح الأشياء عند قوله :

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ، ومضى مكرّرا انّ المقصود من التّسبيح من اىّ شيء كان هو تنزيه لطيفته الإلهيّة ووجهته الرّبّانيّة من نقائص المادّة وحدودها فانّ كلّ موجود ممّا له قوّة واستعداد بفطرة ذاته يخرج من القوّة الى الفعليّة ، ومن النّقص الى الكمال ، ومن الحدود الى الإطلاق بالاضافة الى مراتبه النّاقصة ، وهذا الخروج هو تسبيحه الفعلىّ ولمّا كان تلك الوجهة الالهيّة بوجه ربّه وبوجه اسم ربّه وبوجه مظهر الله وبوجه شيئيّة ذلك الشّيء وذاته كان المقصود من التّسبيح سواء علّق على الله أو على الرّبّ أو على اسم الرّبّ هو تنزيه تلك اللّطيفة ، واللّام في الله زائدة للتّقوية ، والله مفعول به لسبّح أو للتّعليل ، ومفعوله محذوف ، ولفظ سبّح مأخوذ من سبحان الله بطريق المشتقّات الجعليّة اى قال سبحان الله ، أو هو من التّسبيح بمعنى نزّه الله ، والاختلاف بالمضىّ والمضارعة في تلك السّور للاشعار بانّ التّسبيح فطريّ للأشياء غير مقيّد بزمان دون زمان ولتجديد نشاط السّامع والتّفنّن في العبارة ، والإتيان بالمصدر في بنى إسرائيل للاشعار بانّه تعالى منزّه في ذاته سبّحه مسبّح أم لم يسبّحه (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب الّذى غلبته تقتضي تسبيح كلّ شيء فانّ الغالب يتوجّه كلّ شيء اليه ويعظّمه وينزّهه من كلّ نقص (الْحَكِيمُ) الّذى اتقن صنع كلّ شيء بحيث لا يوجد شيء الّا وهو مسبّح له ولاتقان صنعه لا يشعر أحد بتسبيح شيء من الأشياء ولو أشعر هلك أو جنّ ما لم ينفتح سمعه الملكوتىّ (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وجه آخر لتسبيح كلّ شيء له (يُحْيِي)

١٤٤

على الاستمرار في كلّ آن جمعا بنفخ الحيوة الحيوانيّة في الاجنّة (وَيُمِيتُ) على الاستمرار جمعا من الحيوة الحيوانيّة ، أو يحيى على الاستمرار نفوسا بالحيوة الانسانيّة بنفخ النّفخة الولويّة فيهم ويميت نفوسا عن الحيوة الانسانيّة ، أو يحيى بالحيوة البرزخيّة ويميت عن الحيوة الحيوانيّة ، أو يحيى الأراضي بالنّبات ، والنّبات بالماء والنّضارة والطّراوة والحيوان بالحيوة الحيوانيّة ، والإنسان بالحيوة الانسانيّة ، ويميت كلّ ذلك بالموت المناسب له ، أو يحيى كلّ شيء بإخراجه من القوى والاستعدادات على الاستمرار ويميت ذلك الشّيء عن الفعليّات النّاقصة ، وهذا أوفق بتسبيح الأشياء كأنّه قال : سبّح لله ما في السّموات وما في الأرض بالخروج من القوى الى الفعليّات ، والمخرج هو الله لانّه يحيى بالفعليّات ويميت عن النّقائص (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الاماتة والأحياء وغير ذلك (قَدِيرٌ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) اى هو الاوّل في تركيب الموجودات وهو الآخر في تحليلها نظير الوحدة في الاعداد وللاشارة الى هذا ورد : يا من لك وحدانيّة العدد ، فانّ مراتب الاعداد كلّها تركيبها من الوحدة لا غير ، وتحليلها الى الوحدة لا غير ، وبهذا اللّحاظ قال تعالى (وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) فانّ مراتب الاعداد ظواهرها وبواطنها ليست الّا الوحدة وما به التّميّز بين المراتب ليس الّا اعتباريّا عدميّا ، أو المعنى هو الاوّل بلحاظ المراتب واعتبار حيثيّة العلّيّة والمعلوليّة فانّه تعالى بهذا اللّحاظ اوّل العلل الفاعليّة وآخر العلل الغائيّة لانّه مسبّب الأسباب وعلّة العلل وغاية الغايات ونهاية النّهايات ، أو المعنى هو الاوّل في الإدراك فانّ الظّاهر على المدارك اوّلا هو الوجود الّذى حقيقة الحقّ الاوّل تعالى والآخر في الإدراك بمعنى انّ المدرك كلّما ميّز مدركاته بعض اجزائها من بعض لم يجد المدرك في الحقيقة الّا الاوّل تعالى شأنه فكان آخر المدركات هو الاوّل تعالى وبهذا المعنى قال تعالى والظّاهر والباطن يعنى انّ المدرك من الأشياء اوّلا هو الاوّل تعالى لانّه الظّاهر من كلّ الأشياء ، والمدرك من الأشياء آخرا هو أيضا لانّه الباطن من كلّ شيء ، والباطن المختفى من الإدراك المدرك بالتّعمّل من الأشياء ، أو هو اشارة الى ما يقوله الصّوفيّة من مقام التّوحيد الّذى يظهر لبعض السّالكين بطريق الحال ، ولبعض بنحو المقام ، ولا يجوز التّفوّه به لأحد ما لم يصر ذلك التّوحيد حالا أو مقاما له ، وإذا صار حالا للسّالك لا يجوز التّفوّه به له حين زواله ، وإذا لم يكن ذلك التّوحيد حاله أو مقامه فتفوّه به كان مباح ـ الدّم وهو ان يتجلّى الله للسّالك باسم الواحد أو الأحد فلا يرى في الوجود الّا الواحد أو الأحد فلا يرى اوّلا ولا آخرا ولا علّة ولا معلولا ولا ظاهرا ولا باطنا ولا صاعدا ولا نازلا ولا مدركا ولا مدركا بل يرى كلّ ذلك اعتبارات من النّفوس المحجوبة عدميّات لا حقّيّة ولا حقيقة لها فيكون المعنى هو الاوّل من غير اعتبار اوّليّة له ، وهو الآخر من غير اعتبار آخريّة له ، وهو الظّاهر والباطن كذلك يعنى ليس شيء وشيء ولا اعتبار واعتبار في دار الوجود ، والى هذا المقام كانت الاشارة في هذا الشّعر :

حلول واتحاد اينجا محال است

كه در وحدت دوئى عين ضلال است

وكلّما ذكروا نثرا ونظما من هذه المقولة كان اشارة الى هذا المقام أو ناشئا منه ، والى عدم جواز التّفوّه بهذا الوحدة وعدم جواز اعتبارها لغير من كانت حاله أو مقامه قيل :

الا تا با خودى زنهار زنهار

عبارات شريعت را نگهدار

(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بمنزلة قوله تعالى : وهو (بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) فانّ علمه عين ذاته ولإحاطته بكلّ الأشياء كان اوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا من الجميع (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) هذه الجمل كلّها مستأنفة واجوبة لأسئلة مقدّرة إذا لم تكن مع العاطف أو حاليّة (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قد مضى

١٤٥

هذه الآية مع بيانها في سورة الأعراف (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) قد مضى الآية ببيانها في اوّل سورة السّبا (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) معيّة قيّوميّة لازمة لرحمته الرّحمانيّة فانّه تعالى بوجوده الفعلىّ كلّ الأشياء وقوامها وفعليّتها واوّلها وآخرها وظاهرها وباطنها وهو تهديد وترغيب (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تتميم للتّهديد والتّرغيب (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تأكيد في مقام المدح فانّ التّأكيد والتّكرير مطلوب في مقام المدح والرّضا ، وفي مقام الذّمّ والغضب ، والاوّل في مقام التّعليل لتسبيح الأشياء والثّانى في مقام التّعليل لاحاطة علمه بالأشياء وتتميم لتهديده وترغيبه (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) قد مضى الآية في سورة آل عمران (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) من النّيّات والخطرات والخيالات والحالات والسّجيّات ، أو من القوى والاستعدادات الّتى لا خبر لصاحبي الصّدور عنها (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) بمنزلة النّتيجة للسّابق كأنّه قال : إذا علمتم ذلك فلا عذر لكم في الانصراف عن الله وعن رسوله (ص) ، أو لا عذر لكم في الانصراف عن الله ورسوله (ص) في الخروج عن قولهما في ولاية علىّ (ع) فآمنوا بالله وصدّقوه فيما قاله لكم من مطلق الأوامر والنّواهى ، أو فيما قاله لكم من ولاية علىّ (ع) وآمنوا برسوله (ص) بالبيعة العامّة أو البيعة الخاصّة ، أو صدّقوه فيما قاله لكم من الأحكام أو من ولاية علىّ (ع) ، ولمّا كان الخطاب من الله تعالى عامّا للموجودين المسلمين وغير المسلمين والمعدومين فكان لفظ آمنوا أيضا عامّا وشاملا للإذعان والتّصديق والبيعة الاسلاميّة العامّة والبيعة الايمانيّة الخاصّة كأنّه قال : ايّها الكفّار والمستعدّون للإسلام من الموجودين والمعدومين آمنوا بالله ورسوله (ص) بالبيعة العامّة على يد رسوله (ص) ، وايّها المسلمون أذعنوا وصدّقوا الله ورسوله (ص) فيما قال الرّسول (ص) لكم من مطلق الأحكام أو ولاية علىّ (ع) وآمنوا بالبيعة الخاصّة الولويّة بالله ورسوله (ص) على يد رسوله (ص) أو على يد خليفته ، وقد مضى في اوّل البقرة معاني الايمان (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) من الأموال الدّنيويّة والاعراض والحشمة والأعضاء والقوى ومن نسبة الأفعال والأوصاف الى أنفسكم ومن انانيّاتكم وللاشعار بانّ ما لكم من جميع ذلك انّما هو عارية لكم وشأن العارية ان يستردّ حتّى يسهل عليكم إنفاقه قال مستخلفين (فَالَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة أو البيعة الخاصّة (مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) وعد الأجر الكبير للاشعار بانّ المنظور من الايمان البيعة الخاصّة الولويّة فانّ الأجر الكبير ليس الّا على الولاية الحاصلة بالبيعة الخاصّة (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) لا تذعنون أو لا تسلمون بالبيعة العامّة النّبويّة أو لا تؤمنون بالبيعة الخاصّة الولويّة (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) المطلق الّذى هو ربّ الأرباب ، أو بربّكم في الولاية وهو علىّ (ع) (وَقَدْ أَخَذَ) الله (مِيثاقَكُمْ) في عالم الذّرّ بالايمان بالله أو بالبيعة مع محمّد (ص) أو بالبيعة مع علىّ (ع) وقد أخذ الرّسول (ص) ميثاقكم بعدم التّخلّف عن قوله في البيعة العامّة ، وقرئ بالبناء للمفعول (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) اى مصدّقين مذعنين أو بائعين البيعة العامّة الاسلاميّة وجوابه محذوف بقرينة السّابق اى ان كنتم مؤمنين فما لكم لا تؤمنون بعلىّ (ع) بالبيعة الخاصّة الولويّة وقد أخذ الرّسول (ص) ميثاقكم على عدم التّخلّف عن قوله (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ) الّذى هو الرّسول (ص) الدّاعى لكم الى الايمان بعلىّ (ع) (آياتٍ بَيِّناتٍ) من الآيات القرآنيّة والمعجزات النّبويّة (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) اى من ظلمات المادّة والشّبهات والشّكوك والاهوية والتّعلّقات الى

١٤٦

نور التّجرّد واليقين والإطلاق من الاهوية والتّعلّقات (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) حالكونكم في سبيل الله الّذى هو الجهاد ، أو سبيل الحجّ أو سبيل الهجرة الى الرّسول (ص) أو الى الامام ، أو حالكونكم في طريق القلب والسّلوك اليه والى الله ، أو ما لكم ان لا تنفقوا في تحصيل سبيل الله وهو الولاية وطريق القلب ، أو ما لكم لا تنفقون في تعظيم سبيل الله وهو كلّ خير من العبادات والجهاد والحجّ ، أو هو الرّسالة ، أو الولاية (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) جملة حاليّة في موضع التّعليل ، واضافة الميراث امّا بيانيّة أو بتقدير في أو بتقدير اللّام فانّ سماوات الأرواح وما فيها وأراضي الأشباح وما فيها ميراث مقام المشيّة يرثها الإنسان الكامل والعقول من المشيّة ، ويرثها ما بعد العقول من العقول ، وما بعد النّفوس من النّفوس ، وما بعد عالم المثال من عالم المثال ، والكلّ من الله تعالى ، والمواليد المكوّنة ميراث ومتخلّف من الكمّلين من بعض لبعض ، والأموال العرضيّة الدّنيويّة ميراث من بنى آدم من بعض الى بعض فما بال ما كان لله لا تنفقون منها بأمره تعالى (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل فحذف القرين بقرينة ما يأتى.

الإنفاق قبل الفتح

اعلم ، انّ الفتح يطلق على النّصر والظّفر ، وعلى إعطاء الله الغنائم الدّنيويّة أو الاخرويّة الّذى هو لازم الظّفر وفتح البلاد وفتح باب القلب وعلى فتح البلاد وعلى فتح باب القلب ، والمخاطبون كانوا مسلمين مقصورا همم أكثرهم على الظّفر على الأعداء وفتح البلاد وجمع الغنائم الدّنيويّة ، ومؤمنين مقصورا همم أكثرهم على فتح باب القلب وجمع الغنائم الاخرويّة ، وآيات القرآن منزّلة على مراتب حالات النّاس بكثرتها وسعتها ، واختلاف التّفاسير الواردة من المعصومين (ع) باعتبار اختلاف أحوال النّاس ، وسعة وجوه القرآن بحسب سعة أحوال النّاس فصحّ ان يقال : لا يستوي منكم من أنفق من قبل النّصر والظّفر ، أو من قبل الغنائم الدّنيويّة أو الاخرويّة ، أو من قبل فتح البلاد للمسلمين أو من قبل فتح مكّة وان يقال : لا يستوي منكم من أنفق من قبل فتح باب القلب الى الملكوت ومن أنفق بعد قوّة المسلمين وغلبتهم ، وحين كثرة الغنائم وقوّة رجاء تعاقبها وتعاقب فتح البلاد ، وحين انفتاح باب القلب وشهود ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ، فانّ الإنفاق والمقاتلة قبل ذلك لا يكونان الّا عن قوّة اليقين وثبات القلب وقوّة الشّجاعة والسّخاوة ، وامّا بعد الحضور فلا يبقى عدوّ وقوىّ حتّى يكون المقاتلة صعبا ولا يبقى ميل ومحبّة الى ماله من الأموال والقوى والانانيّات لوجدان العوض الأشرف الأعلى الأبهى حتّى يكون الإنفاق صعبا ، فالمنفق والمقاتل حين ضعف المسلمين كان أعظم درجة لكونه أقوى يقينا والمنفق والمقاتل في الغياب البتّة أعظم اجرا من المنفق والمقاتل في الحضور ، وقيل : لا يستوي منكم من أنفق من قبل فتح الرّسول (ص) بسبب المعراج فانّه (ص) بعد المعراج كان أقوى تأثيرا ، ومن أنفق قبل المعراج كان كالّتى يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، ونعم ما قال المولوىّ رضوان الله عليه في بيان هذه الآية :

يؤمنون بالغيب مى بايد مرا

زان ببستم روزن فانى سرا

ليك يك درصد بود ايمان بغيب

نيك دان وبگذر از ترديد وريب

بندگى در غيب آيد خوب وكش

حفظ غيب آيد در استبعاد خوش

قلعه داري كز كنار مملكت

دور از سلطان وسايه سلطنت

پاس دارد قلعه را از دشمنان

قلعه نفروشد بمال بى كران

نزد شه بهتر بود از ديگران

كه بخدمت حاضرند وجان فشان

پس بغيبت نيم ذرّه حفظ كار

به كه اندر حاضري زان صد هزار

١٤٧

(أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) المثوبة الحسنى أو العاقبة الحسنى (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فلا حاجة لكم في أعمالكم الى الحضور (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) يعنى فيردّه اليه مضاعفا وكان له أجر كريم لا امتنان فيه ولا قصور ولا زوال ، وقد مضى الآية ببيانها في أواخر البقرة ، عن الكاظم (ع): نزلت في صلة الامام ، وفي رواية : في دولة الفسّاق (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ) ظرف ليضاعفه أو للخبر في قوله تعالى له أجر كريم أو لكريم ، أو ظرف ليقال المقدّر عند قوله تعالى بشريكم اليوم أو ظرف ليسعى والمعنى كلّما ترى المؤمنين (وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) يعنى انّك فتحت بصيرتك فيوم ترى المؤمنين تريهم يسعى نورهم بين أيديهم والمراد بهذا النّور هو الكيفيّة الدّاخلة في قلب البائع البيعة الخاصّة الولويّة بقبول الولاية وهو فعليّته الاخيرة ولذلك يصير ابنا لمن باع معه وقد يرى في الواقعة بصورة من باع على يده ، وقد يرى بصورة ولده من صلبه وتلك الكيفيّة ليست كيفيّة عرضيّة بل هي صورة جوهريّة نازلة من ولّى امره داخلة في قلبه وقوله تعالى : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) اشارة الى تلك الصّورة ، وتلك الصّورة لا ترى بالأبصار الحسّيّة ، وترى بالبصيرة في الدّنيا والآخرة ، وفي البرازخ والآخرة يخلّص تلك الصّورة من غواشي المادّة ويخلّص البصيرة لكلّ أحد من حجاب البصر فيشهدها كلّ أحد ويشهدها صاحب النّور أيضا فيرى تلك الكيفيّة بصورة امامه يسعى بين يديه ، واختيار بين الأيدي والايمان لانّ تلك الصّورة نورانيّة يستنير منها كلّما تظهر عليه ، وخلف المؤمن الدّنيا الظّلمانيّة ، وشماله الملكوت السّفلى الّتى هي أظلم ولا مناسبة للنّورانىّ مع الظّلمانىّ ، وقدّامه عالم الغيب الّذى هو نور محض ، ويمينه عالم الأرواح الطّيّبة الّذى هو أيضا نورانىّ ، وقد يظهر ذلك النّور على السّالك إذا اشتدّ محبّته واستقام في سلوكه ومات بالموت الاختيارىّ ، وهذا هو الّذى يقوله الصّوفيّة من انّه ينبغي للسّالك ان يكون اهتمامه في سلوكه بحصول حال الحضور ، وهذا هو معرفة علىّ (ع) بالنّورانيّة الّتى هي معرفة الله ، وهذا هو المسمّى بالحضور والسّكينة والفكر ، وهذا هو ذكر الله الحقيقىّ (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ) اى تقول أو يقول الملائكة أو يقال بشريكم اليوم (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) قد مضى في آخر آل عمران بيان جريان الأنهار من تحت الجنّات (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) بدل من يوم ترى المؤمنين أو من اليوم (وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا) انظروا إلينا أو انتظروا لنا (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) ولمّا لم يكن بين المؤمنين ونورهم وبين المنافقين مناسبة (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) كما كنتم في الدّنيا راجعين الى ورائكم (فَالْتَمِسُوا نُوراً) قيل ذلك لهم استهزاء (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) حائط (لَهُ بابٌ باطِنُهُ) اى باطن الباب أو باطن السّور (فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) فانّ السّور هو الحجاب الحاجز بين الملكوت السّفلى والملكوت العليا ، وباطنه الى الملكوت العليا وفيها الرّحمة والرّضوان ، وظاهره الى الملكوت السّفلى وفيها الجحيم ونيرانها وأنواع عذابها (يُنادُونَهُمْ) اى ينادى المنافقون والمنافقات الّذين آمنوا (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) في الانسانيّة ، أو في الإسلام والبيعة العامّة ، أو في الايمان والبيعة الخاصّة (قالُوا بَلى) كنتم معنا في ظاهر الإسلام وفي ظاهر الايمان (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ) الفتنة إعجابك بالشّيء وإذابة الذّهب

١٤٨

والفضّة والإضلال والإيقاع في الفتنة (أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ) بمحمّد (ص) أو بالمؤمنين الدّوائر (وَارْتَبْتُمْ) في دينكم وما كنتم فيه معنا (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) عن طلب الآخرة والعمل لها (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) بقبض أرواحكم (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) اى الشّيطان حيث قال انّ الله كريم وزمان التّوبة وسيع (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) لو كان لكم الفدية ولا فداء لكم (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ظاهرا وباطنا (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) الّذى يلي أمركم فانّها ملكتكم ولا تصرّف لغيرها فيكم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) النّار (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) لمّا ذكر حال المنافقين ونور المؤمنين وكان النّفاق ينشأ من الوقوف على مرتبة والرّضا بالمقام فيها استبطأ حركة المؤمنين الى مقاماتهم العالية بنحو يكون تحذيرا من المقام على مراتبهم الحاصلة فانّ الاستفهام هاهنا للتّوبيخ والإنكار ، وقد مضى في سورة البقرة بيان معنى الخشوع والفرق بينه وبين الخضوع والتّواضع عند قوله تعالى : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) ، والمراد بذكر الله هو الذّكر المأخوذ من صاحب الذّكر ، أو تذكّر الله وتذكّر عظمته ، أو صاحب الذّكر الّذى هو علىّ (ع) ببشريّته ، أو هو صاحب الذّكر بمقام نورانيّته (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) من آيات القرآن ، أو احكام الرّسالة ، أو قرآن ولاية علىّ (ع) ، أو الواردات الآفاقيّة ، أو الانفسيّة (وَلا يَكُونُوا) قرئ بالغيبة ويكون نفيا وعطفا على تخشع أو نهيا وعطفا على الم يأن باعتبار المعنى كأنّه قال : لا يقف المؤمنون على مقامهم ولا يكونوا ، وقرئ بالخطاب نفيا وعطفا على تخشع ويكون التفاتا من الغيبة ونهيا وعطفا باعتبار المعنى ويكون التفاتا والتّقدير لا يقفوا ولا يكونوا (كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) الزّمان اى طال زمان وقوفهم على مقامهم الحاصل لهم من دون التّرقّى الى المقامات المفقودة عنهم (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) يعنى صار كثير منهم منافقين فصاروا فاسقين خارجين من حكم امامهم ، روى عن الصّادق (ع) انّ هذه الآية يعنى ولا تكونوا في القائم (ع) والمعنى انّها نزلت في المؤمنين بالغيبة فانّ الله حذّرهم ان يصيروا بسبب الوقوف على مقام واحد وعدم الخروج الى المقامات العالية منافقين مثل المنافقين الّذين كانوا في زمان محمّد (ص) ونافقوا بسبب الوقوف وعدم الخروج ، فانّهم أوتوا كتاب النّبوّة وقبلوها قبلهم (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) كأنّه بعد ما حذّرهم عن الوقوف ووبّخهم عليه يئس جمع من الواقفين عن الرّحمة وقالوا : فما لنا الّا قساوة القلوب فقال رفعا ليأسهم وترجيحا بجانب الرّجاء : اعلموا انّ الله يحيى ارض قلوب المؤمنين بذكر الله في الدّنيا أو بنور الامام في الآخرة (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) ، عن الباقر (ع) انّه قال : يحييها الله تعالى بالقائم بعد موتها (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) التّدوينيّة والآيات الآفاقيّة والانفسيّة (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تصيرون عقلاء ، أو تدركون إدراكا عقلانيّا ، أو تدركون بعقولكم انّ الوقوف مورث للقسوة ، وانّ الذّكر جلاء للقلوب ومورث للخشوع (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) قرئ بتشديد الصّاد من التّفعّل بمعنى الّذين يعطون الصّدقات ، وقرئ بتخفيف الصّاد من التّفعيل بمعنى الّذين صدقوا الله ورسوله (وَأَقْرَضُوا اللهَ) جملة حاليّة أو متعرضة أو معطوفة على صلة الالف واللّام ، وعلى اىّ تقدير هو تقييد للتّصدّق ان كان بمعنى الإنفاق المطلق ، أو تأكيد له ان كان بمعنى الإنفاق لوجه الله ، أو يكون المراد بالتّصدّق الإنفاق على الفقراء ، وباقراض الله صلة الامام (ع) ، وعلى قراءة تخفيف الصّاد يكون عطفا وبمنزلة ان يقال : انّ الّذين

١٤٩

آمنوا وأنفقوا ، وعلى قراءة تشديد الصّاد يكون قوله : انّ المصّدّقين والمصّدّقات وأقرضوا الله (قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) بمنزلة انّ الّذين يعطون الزّكاة وبيانا لجزاء الإنفاق ويكون قوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) بيانا لجزاء الايمان وبعبارة اخرى انّ المصدّقين بيان لجزاء القوّة العمّالة وانّ الّذين آمنوا بيان لجزاء القوّة العلّامة ، وبعبارة اخرى الاوّل بيان لجزاء الزّكاة ، والثّانى بيان لجزاء الصّلوة وترجيح لجانب القوّة العلّامة والصّلوة على القوّة العمّالة والزّكاة فانّ قوله تعالى أولئك هم الصّدّيقون (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) لحصر كمال الصّدق والشّهادة فيهم وقوله تعالى (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) تفخيم لاجرهم ونورهم بإضافتهما إليهم بمعنى انّ أجرهم لا يمكن معرفته الّا بإضافته إليهم ، وقيل : انّ الشّهداء مبتدء وخبره لهم أجرهم ، وعن الباقر (ع) انّه قال : العارف منكم هذا الأمر المنتظر له المحتسب فيه الخير كمن جاهدوا لله مع القائم (ع) بسيفه ثمّ قال : بل والله كمن جاهد مع رسول الله (ص) بسيفه ، ثمّ قال الثّالثة : بل والله كمن استشهد مع رسول الله (ص) في فسطاطه ، وفيكم آية من كتاب الله قيل : واىّ آية؟ ـ قال : قول الله والّذين آمنوا بالله ورسله (الآية) ثمّ قال : صرتم والله صادقين شهداء عند ربّكم ، والاخبار الواردة بهذا المضمون يعنى تخصيص الصّدّيقين والشّهداء بشيعتهم كثيرة ، وفي هذا الخبر غنية عن نقلها ، وروى عن أمير المؤمنين (ع) انّه لمّا قتل يوم النّهروان الخوارج قام اليه رجل ، فقال : يا أمير المؤمنين (ع) طوبى لنا إذ شهدناها معك هذا الموقف وقتلنا معك هؤلاء الخوارج ، فقال أمير المؤمنين (ع): والّذى فلق الحبّة وبرأ النّسمة لقد شهدنا في هذا الموقف أناس لم يخلق الله آباءهم ولا أجدادهم بعد ، فقال الرّجل : وكيف شهدنا قوم لم يخلقوا؟ ـ قال : بل قوم يكونون في آخر الزّمان يشركوننا فيما نحن فيه ويسلّمون لنا فأولئك شركاؤنا فيه حقّا حقّا (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) مقابل الّذين آمنوا بالله ورسله (اعْلَمُوا) ابتداء كلام منقطع عن سابقه وتزهيد عن الحيوة الدّنيا ولوازمها ، وترغيب في الآخرة والإنفاق وتسهيل له (أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) اللّعب ماله غاية خياليّة غير عقليّة ، واللهو ما لم يكن له غاية خياليّة مدركة مشعورا بها وان كان لا يجوز ان يكون فعل المختار بلا غاية ، والتّقدير اعلموا انّ متاع الحيوة الدّنيا أو حاصل الحيوة الدّنيا لعب ولهو (وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) اى تغالب في ذلك ولا يبقى للعاقلة شيء من ذلك (كَمَثَلِ غَيْثٍ) مفعول ثان لاعلموا أو انّما وما بعده قائم مقام المفعولين أو هو خبر مبتدء محذوف (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) اى نبات الغيث الّذى نبت بسبب الغيث وقال تعالى : أعجب الكفّار لانّ الكفّار لكفرهم بالله اشدّ إعجابا بصورة النّبات بخلاف غير الكفّار فانّهم يفرحون بالمنعم وانعامه (ثُمَّ يَهِيجُ) ييبس ببلوغه الى غايته أو بعاهة (فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) لائقا للنّار (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) مثّل الحيوة الدّنيا ونزول ماء الحيوة من سماء الأرواح بنزول المطر من السّماء وصورة الإنسان في بدو الأمر بنبات النّبات في اوّل الأمر ضعيفا ثمّ استواء الإنسان باستواء النّبات في خضرته وطراوته وإعجابه للغافل عن الآخرة ثمّ انحطاطه بانحطاط النّبات ثمّ موته بيبس النّبات واصفراره وتكسّره ثمّ العذاب في الآخرة للمفتون بالحيوة باحتراق النّبات اليابس (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) لمن لم يفتتن أو للكلّ بشرط الاستعداد والاستحقاق (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ)

١٥٠

اى التّمتّع المسبّب من الغرور أو متاع سبب للغرور (سابِقُوا) هذا بمنزلة النّتيجة أو جواب لسؤال مقدّر ناش من سابقه كأنّه قيل : ان كان الحيوة الدّنيا متاع الغرور وفي الآخرة عذاب لأهلها أو مغفرة فما نفعل؟ ـ فقال : سابقوا (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) قد مضى في سورة آل عمران بيان تشبيه عرض الجنّة بعرض السّماوات والأرض (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) هذه صفة أو حال أو مستأنفة (ذلِكَ) الايمان بالله ورسله أو ذلك المذكور من المغفرة والجنّة (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) فانّ مبدء التّوفيق للايمان الّذى هو سبب المغفرة والجنّة منه تعالى فلا يدخل الجنّة أحد بنفسه ولا بعمله (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ما أَصابَ) منقطعة عن سابقها أو جواب لسؤال ناش من السّابق كأنّه قيل : ان كان الله ذا الفضل بعباده فممّ يكون هذه المصائب والبلايا؟ ـ فقال في الجواب : ما أصاب (مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) في العالم الكبير من البلايا العامّة الواردة على اموال أهل الأرض (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) اى من قبل ان نبرأ الأنفس أو من قبل ان نبرأ الأرض والأنفس والمراد بالكتاب كتاب اللّوح المحفوظ والمقصود انّه ليست المصائب الّا بعلمنا وقدرتنا وأصابتنا (إِنَّ ذلِكَ) الثّبت في الكتاب (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا) متعلّق بقوله في كتاب أو متعلّق بمحذوف والتّقدير أخبرناكم بذلك لتعلموا انّ ما يقع في الأرض هو ثابت في اللّوح وبعلمنا وارادتنا لكيلا تأسوا (عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) ولكي تصبروا وترضوا عند ما فاتكم وتشكروا الله عند ما آتيكم وهذا هو غاية الزّهد فانّ عدم التّغيّر في فوت ما في اليد وفي إتيان ما ليس في اليد كمال الزّهد كما روى عن أمير المؤمنين (ع) انّه قال : الزّهد كلّه بين كلمتين من القرآن قال الله تعالى : لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتيكم ، ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتى فقد أخذ الزّهد بطرفيه ، وعن الباقر (ع): نزلت في ابى بكر وأصحابه واحدة مقدّمة وواحدة مؤخّرة لا تأسوا على ما فاتكم ممّا خصّ به علىّ بن ابى طالب (ع) ولا تفرحوا بما آتيكم من الفتنة الّتى عرضت لكم بعد رسول الله (ص) (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) عطف على قوله ما أصاب والمقصود انّ عدم الحزن على الفائتة وعدم الفرح قد يكون للاختيال والفخر وليس هذا ممدوحا انّما المدح على ذلك إذا كان للزّهد في الدّنيا ، أو المعنى انّ المصّدّقين المنفقين والمؤمنين كذلك وغير المصّدّقين الّذين يختالون ولا ينقصون من انانيّاتهم ، والّذين يفخرون ولا يؤمنون بالله ورسوله مبغوضون لله فانّه قد تكرّر فيما سبق انّ مفهوم هذه العبارة وان كان اعمّ من كونهم مبغوضين لكنّ المراد بحسب المقام ذلك (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بأموالهم واعراضهم وقويهم وانانيّاتهم فلا ينفقون ولا ينقصون من انانيّاتهم فلا ينقادون لله ورسوله (ص) (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَ) عن الإنفاق والايمان فلا يضرّ الله شيئا (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) الّذى لا حاجة له الى أموالكم واعراضكم وانفاقكم ممّا ينبغي ان ينفق منه (الْحَمِيدُ) الّذى لا حاجة له الى ايمانكم وتصديقكم وتعظيمكم والمقصود من يتولّ عن علىّ (ع) أو عن الله والرّسول (ص) في ولاية علىّ (ع) فانّ عليّا (ع) الّذى هو مظهر الله هو الغنىّ عنه وعن إنفاقه الحميد في نفسه صدّقه مصدّق أو كذّبه ولمّا كان هناك مظنّة ان يسأل أحد : بما يصير الإنسان مؤمنا ومنفقا حتّى لا يتولّى عن الايمان وعن علىّ (ع)؟ ـ فقال تعالى جوابا لهذا السّؤال (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) اى بأحكام الرّسالة أو بالمعجزات الدّالّة على صدقهم فمن أراد الايمان فليقبل عليهم (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) اى كتاب النّبوّة والكتب التّدوينيّة

١٥١

والملل الالهيّة صورها ولهذا ورد عن الصّادق (ع) في هذه الآية الكتاب الاسم الأكبر الّذى يعلم به علم كلّ شيء الّذى كان مع الأنبياء (ع) قال : وانّما عرف ممّا يدعى كتاب التّوراة والإنجيل والفرقان فيها كتاب نوح وفيها كتاب صالح وشعيب وإبراهيم (ع) فأخبر الله عزوجل (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (ع) فأين صحف إبراهيم؟ انّما صحف إبراهيم (ع) الاسم الأكبر وصحف موسى (ع) الاسم الأكبر (وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الميزان كلّما يقاس به شيء آخر من ذي الكفّتين والقبان وخيوط البنّائين وسيرة السّلاطين في سلطنتهم واحكام الشّرائع القالبيّة الملّيّة والعقل والرّسول والرّسالة والولىّ والولاية والكتب السّماويّة ، لكنّ الميزان الّذى يقوم النّاس به بالقسط هو الولاية وقبولها وأحكامها وولىّ الأمر فانّ كلّما سواها ميزان لقيام النّاس بالقسط بشرط اتّصاله بها ، فالمراد بالكتاب الّذى مع الرّسل هو النّبوّة والرّسالة وهما الاسم الأكبر الّذى كلّ شيء فيه وشرائع الرّسل وكتبهم صورتهما ، والمراد بالميزان هو الولاية الّتى نزلت من مقامها العالي الى بشريّة الرّسل وظهرت بعدهم في أوصيائهم ليقوم النّاس بها بالقسط ، ولمّا كانت الولاية الّتى هي ميزان العدل والنّبوّة والرّسالة اللّتان هما ميزانان بالولاية من أعظم أسباب قيام النّاس بالقسط أتى بهذه الغاية قبل ذكر الحديد وأضاف الحديد بعدها فقال (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) يعنى مع الرّسل أو مطلقا لكن لمّا كان المنظور من ذكر الحديد ترتّب غاية نصرة الرّسل عليه وعلى ما سبقه فالاولى ان يقال : وأنزلنا الحديد مع الرّسل ، ومعنى إنزال الحديد مع انّه يتكوّن في المعادن إيجاده ، أو المقصود انّ كلّ موجود في هذا العالم كان موجودا في عالم المثال وفي العوالم الّتى فوقه ثمّ نزل من تلك العوالم الى عالم الكون والفساد (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) كما يرى من قطع الأعضاء والمفاصل من الحيوان به وقطع حيوة الحيوان والإنسان به (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) لانّ منه آلات أكثر الصّنّاع والصّنائع (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) حالكون النّاصر بالغيب من الله ، أو حالكون الله بالغيب من النّاصر ، أو هو ظرف لينصره وقوله تعالى ليعلم عطف على قوله ليقوم النّاس وقد مضى وجه تأخيره عن نزول الحديد (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) لا حاجة له الى نصرتكم لانّه قوىّ يقدر على كلّ ما أراد عزيز لا مانع له من مراده ولا غالب عليه وانّما أراد اختباركم بذلك وامتياز الكافر والمنافق من المؤمن الموافق (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) عطف على قوله لقد أرسلنا عطف التّفصيل على الإجمال (نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) اى الرّسالة (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ) في غاية الاهتداء كالأنبياء والأولياء (ع) أو في أواسط الاهتداء كسائر المؤمنين (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) لم يقل في مقابل منهم مهتد ومنهم فاسق للاشارة الى الغلبة في جانب الضّلالة (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) من أنبياء بنى إسرائيل وموسى (ع) وشعيب (ع) (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) بالنّسبة الى دين موسى (ع) لا انّهم ابتدعوها في الدّين حتّى تكون بدعة ، والرّأفة اشدّ الرّحمة أو ارقّها أو ما يظهر اثره في الظّاهر ، والرّحمة ما لا يظهر اثره في الظّاهر أو بالعكس ، والرّهبانية والرّهبة مصدرا الرّاهب واحد رهبان النّصارى الّذين كانوا ينقطعون عن النّاس ويلبسون المسوح ويتعبّدون في الجبال وفي الخلوات (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) اى ما القيناها في قلوبهم (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) اى الّا لابتغاء رضوان الله أو في حال ابتغاء رضوان الله فانّه لا يجوز ان يكون مفعولا له لكتبنا أو المعنى انّهم ابتدعوها وما فرضناها عليهم أصلا ولكنّهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله فيكون الاستثناء

١٥٢

منقطعا ولكن قوله تعالى (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) يؤيّد المعنى الاوّل بان جعلوها بأهوية أنفسهم أو ما عملوا بمقتضاها ، أو ما قصدوا بها رضوان الله ، أو ما انتهوا بها الى خليفة الله المؤسّس لآداب السّلوك الى الله ونسب الى النّبىّ (ص) انّه قال لتكذيبهم بمحمّد (ص) (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمّد (ص) (مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) عن اتّباع ولىّ الأمر وخليفة الله ، روى عن رسول الله (ص) انّه قال : اختلف من كان قبلكم على ثنتين وسبعين فرقة نجا منهما ثنتان وهلك سائرهنّ فرقة قاتل الملوك على دين عيسى (ع) فقتلوهم ، وفرقة لم يكن لهم طاقة لموازاة الملوك ولا ان يقيموا بين ظهرانيّهم يدعونهم الى دين الله تعالى ودين عيسى (ع) فساحوا في البلاد وترهّبوا وهم الّذين قال الله عزوجل : ورهبانيّة ابتدعوها ما كتبناها ثمّ قال : من آمن بى وصدّقنى واتّبعنى فقد رعاها حقّ رعايتها ، ومن لم يؤمن بى فأولئك هم الهالكون (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بعد ما مدح المؤمنين من أهل الكتاب وذمّ الّذين بقوا على صورة ملّتهم ولم يؤمنوا بمحمّد (ص) بقوله : وكثير منهم فاسقون نادى مطلق من آمن بمحمّد (ص) بالبيعة العامّة النّبويّة ، أو نادى المؤمنين بمحمّد (ص) من أهل الكتاب بالبيعة العامّة وقال : لو كان يكفى للنّجاة الإسلام الحاصل بالبيعة العامّة وقبول الملّة لكان يكفى أهل الكتاب قبول ملّتهم ولم يكونوا يسمّون فاسقين فلا تقفوا أنتم ايّها المؤمنون على صورة ملّة محمّد (ص) ولا تكتفوا بالبيعة العامّة بل (اتَّقُوا اللهَ) في جميع أوامره ونواهيه أو اتّقوا الله في مخالفة الرّسول (ص) ومخالفة قوله في علىّ (ع) (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) بالايمان الحقيقىّ الّذى يحصل بالبيعة الخاصّة الولويّة (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ) نصيبين (مِنْ رَحْمَتِهِ) نصيبا على قبول الرّسالة ونصيبا على قبول الولاية ، وبعبارة اخرى نصيبا على البيعة العامّة ونصيبا على البيعة الخاصّة ، وبعبارة اخرى نصيبا على الإسلام ونصيبا على الايمان ، وبعبارة اخرى نصيبا في مقام النّفس الانسانيّة ونصيبا في مقام القلب ، وبعبارة اخرى نصيبا من جنّات النّعيم ونصيبا من جنّة الرّضوان ، وبعبارة اخرى نصيبا للقوّة العمّالة ونصيبا للقوّة العلّامة (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) والمقصود من النّور هو صورة ولىّ الأمر الّذى يدخل بالبيعة الخاصّة في قلب البائع المعبّر عنه بالايمان الدّاخل في القلب وإذا خرج تلك الصّورة من حجب الأهواء والتّعلّقات ظهر نورها بحيث كان الإنسان يستغنى من نور الشّمس وأشرقت الأرض بنور ربّها اشارة الى ظهور تلك الصّورة ومعرفة علىّ (ع) بالنّورانيّة الّتى هي معرفة الله ، وليست الّا للمؤمن الممتحن قلبه للايمان عبارة عن ظهور هذه الصّورة ، وإذا خلعت تلك الصّورة من حجب النّفس وتعلّقاتها استغنى صاحبها من كلّ ما سواها وكانت تلك الصّورة قرينة للنّصر ونزول الملائكة ، وظهور تلك الصّورة هي نزول السّكينة ولذلك قال : نورا تمشون به في النّاس فانّ تلك الصّورة هي الفعليّة الاخيرة للإنسان وجميع افعال الشّيء تكون بفعليّته الاخيرة فيجعل الله بتلك البيعة نورا مختفيا أو ظاهرا يكون جميع حركاته وسكناته وعباداته ومكاسبه بذلك النّور (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) بذلك النّور فانّ هذا النّور هو باعث غفران الله ، فانّ الله يستحيي ان يعذّب أمّة دانت بامامة امام عادل من الله وان كانت الامّة في أعمالها فجرة (وَاللهُ غَفُورٌ) سجيّته المغفرة سواء كان لها باعث أو لم يكن ، فمن كان له مادّة المغفرة الّتى هي الولاية كان مغفورا لا محالة (رَحِيمٌ) سجّيّته الرّحمة سواء كان لها باعث أو لم يكن ، وقد فسّر النّور بالإمام الّذى يأتمّون به ، وروى عن الصّادق (ع) انّه قال : كفلين من رحمته الحسن (ع) والحسين (ع) ونورا تمشون به يعنى إماما يأتّمون به ، وفي رواية والنّور علىّ (ع) (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) لا زائدة والمعنى على

١٥٣

ما ذكر في نزول الآية ليعلم أهل الكتاب اى اليهود والنّصارى (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) قيل في نزوله : انّ رسول الله (ص) بعث جعفرا في سبعين راكبا الى النّجاشىّ يدعوه فقدم عليه ودعاه فاستجاب له وآمن به ، فلمّا كان عند انصرافه قال ناس ممّن آمن به من أهل مملكته وهم أربعون رجلا : ائذن لنا فنأتي هذا النّبى فنسلّم به فقدموا مع جعفر فلمّا رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة استأذنوا رسول الله (ص) وقالوا : يا نبىّ الله انّ لنا أموالا ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة فان أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها ، فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين فانزل الله فيهم : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) (الى قوله) (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) فلمّا سمع أهل الكتاب ممّن لم يؤمن به قوله أولئك يؤتون أجرهم مرّتين بما صبروا فخروا على المسلمين فقالوا : يا معاشر المسلمين امّا من آمن منّا بكتابكم وكتابنا فله أجران ، ومن آمن منّا بكتابنا فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا؟ ـ فنزل قوله تعالى : يا ايّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وآمنوا برسوله (الآية) فجعل لهم أجرين وزادهم النّور والمغفرة يعنى جعلنا لمن آمن بمحمّد (ص) واتّقى أجرين ، ليعلم أهل الكتاب انّهم لا يقدرون على شيء من فضل الله (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ولكن نقول على ما ذكر من الفرق بين الإسلام والايمان والملّة والدّين وانّ المراد بقوله : يا ايّها الّذين آمنوا يا ايّها الّذين أسلموا بقبول الدّعوة الظّاهرة والبيعة العامّة وانّ قوله آمنوا امر بالايمان الحقيقىّ وقبول الدّعوة الباطنة بالبيعة الخاصّة الولويّة يجوز ان يراد باهل الكتاب أهل الملّة سواء كان بنحو النّحلة أو بقبول الرّسالة بالبيعة العامّة وسواء كانوا أهل ملّة محمّد (ص) أو أهل سائر الملل وان لا يكون لا في قوله لئلّا يعلم أهل الكتاب زائدة ، ويكون تعليلا للقول المستفاد من قوله : آمنوا برسوله بالبيعة الخاصّة يعنى قلنا آمنوا برسوله بقبول الدّعوة الباطنة لانّ القانعين بالبيعة الاسلاميّة الّذين كانوا أهل كتاب الرّسالة لا يعلمون انّهم لا يقدرون على شيء من فضل الله بل يظنّون انّهم قادرون على فضل الله الظّاهر من اموال الدّنيا وفضل الله الباطن من درجات الايمان ومقامات الرّسالة والنّبوّة والولاية كما كنّا نسمع من بعض يقول : إذا خلونا أربعين يحصل لنا كثير من المراتب الغيبيّة ، وإذا آمنتم بالرّسول (ص) بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبلتم الولاية ظهر لكم قصوركم وانّكم لا تقدرون على شيء من فضل الله وبذلك تتدرّجون في نقصان الانانيّة الّتى هي أعظم المعاصي في الطّريق ، وإذا لم تعلموا ذلك تتدرّجون في ازدياد الانانيّة.

الجزء الثّامن والعشرون

سورة المجادلة

مدنيّة ، احدى وعشرون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) نزلت في امرأة من الأنصار اسمها خولة وزوجها أوس بن الصّامت وكانت امرأة حسن الجسم فأرادها

١٥٤

زوجها فأبت فغضب عليها وقال : أنت علىّ كظهر أمّي ، وكان في الجاهليّة إذا قال الرّجل لأهله : أنت علىّ كظهر أمّي ، حرمت عليه آخر الأبد ، فندم الرّجل وقال لامرأته قد أتانا الإسلام فاذهبي الى رسول الله (ص) فاسأليه فأتت الى رسول الله (ص) فقالت : بابى أنت وأمّي انّ أوس بن الصّامت هو زوجي وابو ولدي وابن عمّى فقال لي : أنت علىّ كظهر أمّي ، وانّا نحرّم ذلك في الجاهليّة ، وقد أتانا الله بالإسلام بك فقال لها رسول الله (ص): ايّتها المرأة ما أراك الّا حرّمت عليه ، فأعادت عليه قوله الاوّل ، فقال (ص) : ما أراك الا حرّمت عليه ولم أو مر في شأنك بشيء ، فجعلت تراجع رسول الله (ص) وكلّما قال لها رسول الله (ص) ، حرّمت عليه هتفت وقالت : أشكو الى الله فاقتي وحاجتي وشدّة حالي ، اللهمّ فأنزل على لسان نبيّك وكان هذا اوّل ظهار في الإسلام فنزل عليه الآيات فقال : ادعى زوجك ، فدعته ، فتلا عليه رسول الله (ص) هذه الآيات (الى قوله) وللكافرين عذاب اليم (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) يعفو عنهم ويغفر لهم إذا تابوا (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) ظاهر الآية انّ من ظاهر فليس عليه شيء ان لم يكرّر القول ، أو ليس عليه شيء في المرتبة الاولى فاذا عاد وظاهر ثانيا فعليه الكفّارة المذكورة ، وروى عن أمير المؤمنين (ع) انّه قال : انّ الله عفى عن المظاهر الاوّل وغفر له بدون الكفّارة ، فان عاد أحد بعد المظاهر الاوّل فعليه الكفّارة ، وقيل : معنى يعودون لما قالوا يعودون عمّا قالوا فانّه يستعمل يعود فيما قال والى ما قال ولما قال بمعنى يعود عمّا قال ، وقيل : يعودون الى نسائهم ، وقوله تعالى ، لما قالوا ، ابتداء كلام والمعنى فتحرير رقبة لما قالوا (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) يعنى ذلك التّحرير توعظون به لكي ترتدعوا من مثله (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) يكفى في صدق تتابع الشّهرين اتّصال شيء من الشّهر الثّانى بالشّهر الاوّل (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) بالمجامعة أو مطلقا (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) بقدر شبعهم أو إعطاء كلّ مسكين مدّا من الطّعام (ذلِكَ) المذكور من عدم الحرمة أبدا بالظّهار كما كانت في الجاهليّة وجواز الرّجوع الى النّساء بعد الظّهار والتّرتيب في خصال الكفّارة (لِتُؤْمِنُوا) اى لترغبوا في شريعة محمّد (ص) ولا تنفروا عنها لما ترون فيها من التّخفيف وتؤمنوا (بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) حدود حماه لا يجوز التّجاوز عنها (وَلِلْكافِرِينَ) بالله ورسوله (ص) أو للكافرين بتلك الحدود (عَذابٌ أَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) حادّه غاضبه وعادّه وخالفه (كُبِتُوا) كبته صرعة وأخزاه وصرفه وكسره وردّه بغيظه واذلّه والمكتبت الممتلئ غمّا (كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الّذين حادّوا الله ورسوله من قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم (ع) (وَقَدْ أَنْزَلْنا) عليهم أو عليكم (آياتٍ) دالّات على قدرتنا وحكمتنا ، أو دالّات على صدقنا في وعدنا ووعيدنا ، أو دالّات على صدق رسولنا (بَيِّناتٍ) واضحات أو موضحات وهي الآيات التّدوينيّة أو الآيات الآفاقيّة والانفسيّة (وَلِلْكافِرِينَ) بتلك الآيات أو بالله ورسوله (ص) (عَذابٌ مُهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ) ظرف لمهين ، أو لقوله للكافرين ، أو لقوله أحصاه الله (جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ) رفع لتوهّم متوهّم انّ العاملين لا يحصون اعمال أنفسهم فكيف يحصى الله اعمال الجميع (وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) تعميم

١٥٥

وتعليل (أَلَمْ تَرَ) خطاب لمحمّد (ص) أو لكلّ من يتأتّى منه الخطاب ، وان كان خطابا لمحمّد (ص) فالمعنى لا ينبغي لك الاستغراب عن كونه على كلّ شيء شهيدا لانّك ترى وتنظر الى آثار احاطة علمه تعالى بما في السّماوات وما في الأرض ، وان كان الخطاب عامّا فالمعنى لا ينبغي الاستغراب لظهور آثار احاطة علمه تعالى وينبغي ان يراها كلّ راء لظهورها (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) نجوى جمع نجّى أو مصدر نجاه بمعنى سارّه ، أو اسم مصدر بمعنى السّرّ ، وعلى الاوّل جاز ان يكون مضافا الى ثلثة وان يكون ثلثة بدلا منه ومعنى النّجوى المصدرىّ المسارّة بين اثنين أو أكثر لكنّه يطلق على حديث النّفس وخطرات القلوب والرّؤيا الصّادقة والأحلام الكاذبة لانّها مسارة الشّيطان أو الملك مع الإنسان ، وقد يطلق على مطلق المحاورة (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) اختيار المتناجين اى المتسارّين لانّ المتناجين يكونون بحال لا يطّلع على نجواهم غيرهم فيكون الاطّلاع عليهم أبلغ في الدّلالة على الاطّلاع على خفيّات الأمور ، واختيار الثّلاثة والخمسة من بين مراتب العدد لانّ العدد الوتر أشرف مراتب العدد ، الا ترى انّه تعالى قال (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ، وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ ، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) ولانّ الله وتر يحبّ الوتر ، واقلّ مراتب العدد الوتر الثّلاثة ، وأضاف إليها الخمسة ليعلم انّ خصوص مرتبة الثّلاثة ليس مقصودا ، وقيل : كان من أنزلت الآية فيهم ثلاثة وخمسة والفرق بين ثالث الثّلاثة ورابع الثّلاثة انّ ثالث الثّلاثة يكون واحدا من الثّلاثة مقابلا للآخرين متمّما عددهم ولذا قال تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) وامّا رابع الثّلاثة فهو الّذى يجعل الثّلاثة اربعة سواء كان من جنسهم وفي عدادهم أو لم يكن ، وسواء جعل الثّلاثة اربعة بنفسه أو بغيره فهذه العبارة لا تستلزم التّحدّد وكونه تعالى ثانيا لغيره وغير ذلك ممّا ينافي الوجوب كالعبارة الاولى فانّه تعالى يجعل كلّ ثلاثة اربعة بان يوكّل عليهم واحدا من وكلائه أو أكثر ، وأيضا يجعل الثّلاثة اربعة بان يكون هو بنفسه مقوّما للثّلاثة ومعهم لا معيّة الاثنين من الإنسان بل معيّة قيّوميّة لا ينفك شيء من الأشياء عنها منفردا كان أو منضّما الى واحد أو أكثر وهذا المعنى لا يلزم شيئا من لوازم الإمكان ولذلك لم يكتف بهذا وقال (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ) العدد (وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تعليل وتأكيد ونتيجة للسّابق ونزول الآية كما روى عن الصّادق (ع) في ابى عبيدة الجرّاح وعبد الرّحمن بن عوف وسالم مولى ابى حذيفة والمغيرة بن شعبة وعدّة أخر حيث كتبوا الكتاب بينهم وتعاهدوا وتواثقوا لئن مضى محمّد (ص) لا يكون الخلافة في بنى هاشم ولا النّبوّة أبدا (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) اى المسارّة أو المحاورة (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) يعنى يتناجون بغصب حقّ آل محمّد (ص) ومعاداتهم ومخالفة قول الرّسول (ص) فيهم ، وبعبارة اخرى يتناجون بما فيه قوّة القوّة البهيميّة الشّهويّة ، وقوّة القوّة الغضبيّة السّبعيّة ، وقوّة القوّة الجهليّة الشّيطانيّة (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) إظهارا لحبّهم لك بالتّحيّات العالية سرّا لنفاقهم عنك وعن المؤمنين (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) من غير تلفّظ أو فيما بينهم من غير اطّلاع الغير عليهم (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) لانّهم قبلوا الإسلام وصدّقوا محمّدا (ص) في أكثر ما قاله من امر الآخرة ولم يصدّقوه في خلافة على (ع) (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) قيل : نزلت قوله : الم تر الى الّذين نهوا عن النّجوى

١٥٦

(الآيات) في اليهود والمنافقين انّهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون الى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم فاذا رأى المؤمنون نجويهم قالوا : ما نريهم الّا وقد بلغهم عن اقربائنا وإخواننا الّذين خرجوا في السّرايا قتل أو مصيبة أو هزيمة ، فيحزنهم ذلك فلمّا طال ذلك شكوا الى رسول الله (ص) فأمرهم ان لا يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا الى مناجاتهم ، لكن نقول : ان كان نزولها في اليهود فالمقصود منها منافقوا الامّة الّذين كانوا يتناجون في ردّ قول محمّد (ص) في علىّ (ع) ، وقيل : نزلت قوله : وإذا جاؤك حيّوك (الى آخر الآية) في اليهود فانّهم كانوا يأتون النّبىّ (ص) فيقولون : السّام عليك ، والسّام الموت وهم يوهّمون انّهم يقولون : السّلام عليك وكان النّبىّ (ص) يردّ عليهم بقوله : وعليكم فان كان النّزول فيهم فالمقصود منها المنافقون كما ذكرنا وأشار الصّادق (ع) في الحديث السّابق (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بعد ما ذمّ النّجوى مطلقا وذمّ المتناجين بالإثم والعدوان ومعصية الرّسول (ص) نادى المؤمنين ونهاهم عن النّجوى بما فيه قوّة القوى الثّلاث ، فانّ الإنسان إذا اجتمع مع غيره قوى فيه الشّأن الّذى هو عليه فنهاهم عن ذلك حتّى يتنبّهوا ، وإذا كانوا على تلك الشّؤن ارتدعوا عنها فقال (إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) يعنى راقبوا أحوالكم فان تروا قوّة الميل منكم الى ذلك فاعلموا انّكم بعد في شأن البهيمة أو السّبع أو الشّيطان فعالجوا أنفسكم بدفع تلك القوّة عنكم (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ) الّذى هو لازم قوّتكم العاقلة (وَالتَّقْوى) من القوى الثّلاث يعنى قوّوا بالاجتماع قوّتكم العاقلة وضعّفوا قواكم الثّلاث (وَاتَّقُوا اللهَ) اى سخط الله في تقوية القوى الثّلاث (الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) توصيف للتّعليل (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) اى مطلق التّناجى بان حكم على الجنس بحكم أكثر الإفراد واللّام للتّعريف يعنى النّجوى المذكورة وهي النّجوى بالإثم والعدوان ومعصية الرّسول (ص) ، أو هي نجوى فاطمة سلام الله عليها ورؤياها كما سنذكر في نزول الآية ان شاء الله (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ) اى الشّيطان أو التّناجى (بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ولا يحزنوا بنجوى المنافقين ، أو بنجوى اليهود ، أو بالأحلام والرّؤيا الّتى يرونها ويحزنون بها ، وقد مضى في سورة البقرة عند قوله تعالى (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ما يبيّن به عدم إضرار الشّيطان الّا بإذن الله ، وفسّر النّجوى هاهنا بالرّؤيا الكريهة روى عن النّبىّ (ص) انّه قال : إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فانّ ذلك يحزنه ، وعن الصّادق (ع) انّه كان سبب نزول هذه الآية انّ فاطمة (ع) رأت في منامها انّ رسول الله (ص) همّ ان يخرج هو وفاطمة (ع) وعلىّ (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) من المدينة فخرجوا حتّى جازوا من حيطان المدينة فعرض لهم طريقان ، فأخذ رسول الله (ص) ذات اليمين حتّى انتهى الى موضع فيه نخل وماء ، فاشترى رسول الله (ص) شاة درّاء وهي الّتى في احدى أذنيها نقط بيض فامر بذبحها ، فلمّا أكلوا ماتوا في مكانهم ، فانتبهت فاطمة (ع) باكية ذعرة فلم تخبر رسول الله (ص) بذلك فلمّا أصبحت جاء رسول الله (ص) بحمار فاركب عليه فاطمة (ع) وامر ان يخرج أمير المؤمنين (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) من المدينة كما رأت فاطمة (ع) في نومها ، فلمّا خرجوا من حيطان المدينة عرض لهم طريقان فأخذ رسول الله (ص) ذات اليمين كما رأت فاطمة (ع) حتّى انتهوا الى موضع فيه نخل وماء ، فاشترى رسول الله (ص) شاة درّاء كما رأت فاطمة (ع) فأمر بذبحها فذبحت وشويت ، فلمّا أرادوا أكلها قامت فاطمة (ع) وتنحّت ناحية منهم تبكي مخافة ان يموتوا ، فطلبها رسول الله (ص) حتّى وقع عليها وهي تبكي فقال : ما شأنك يا بنيّة؟ ـ قالت : يا رسول الله (ص) رأيت البارحة كذا وكذا في نومى وقد فعلت أنت كما رأيته فتنحيّت عنكم لئلّا أراكم تموتون فقام رسول الله (ص) فصلّى ركعتين ثمّ ناجى ربّه فنزل عليه جبرئيل فقال : يا محمّد (ص) هذا شيطان يقال له الزّها وهو الّذى ارى فاطمة (ع)

١٥٧

هذه الرّؤيا ويؤذى المؤمنين في نومهم ما يغتمّون به ، فأمر جبرئيل فجاء به الى رسول الله (ص) فقال له : أنت الّذى أريت فاطمة (ع) هذه الرّؤيا؟ ـ فقال : نعم يا محمّد (ص) ، فبزق عليه ثلاث بزقات قبيحة في ثلاث مواضع ثمّ قال جبرئيل لمحمّد (ص) : يا محمّد إذا رأيت شيئا في منامك تكرهه أو رأى أحد من المؤمنين فليقل : أعوذ بما عاذت به ملائكة الله المقرّبون وأنبياء الله المرسلون وعباده الصّالحون من شرّ ما رأيت من رؤياى ، ويقرء الحمد والمعوّذتين وقل هو الله أحد ويتفل عن يساره ثلاث تفلات فانّه لا يضرّه ما رأى ، فأنزل الله عزوجل على رسوله (ص) : انّما النّجوى من الشّيطان (الآية) ، وعنه (ص): إذ أرى الرّجل منكم ما يكره في منامه فليتحوّل عن شقّه الّذى كان عليه نائما وليقل : انّما النّجوى من الشّيطان ليحزن الّذين آمنوا وليس بضارّهم شيئا الّا بإذن الله ثمّ ليقل : عذت بما عاذت به ملائكة الله المقرّبون وأنبياؤه المرسلون وعباده الصّالحون من شرّ ما رأيت ومن شرّ الشّيطان الرّجيم ، والمقصود من جميع تلك الآيات منافقوا الامّة وان كان النّزول في غيرهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لمّا أراد ان يأمرهم بأدب من الآداب الّتى يكرهونها ناداهم تلطّفا بهم وجبرانا لكلفة التّأدّب بما يكرهون (إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) الفسحة بالضّمّ السّعة ، فسح المكان ككرم وافسح وتفسّح وانفسح فهو فسيح وفسح له كمنع وتفسّح وسّع له (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) نشز من باب نصر وضرب ارتفع في مكان وقرئ بهما ، قيل : كانوا يتنافسون في مجلس النّبىّ (ص) حتّى جاء جمع من البدريّين وكان النّبىّ (ص) مكرما لهم فقاموا بين يدي النّبىّ (ص) ولم يكن لهم مجلس يجلسون فيه فقال النّبىّ (ص) : يا فلان ، يا فلان ، يا فلان ، قوموا فقاموا ، وكان ذلك شاقّا على بعض فنزلت يعنى إذا قيل لكم تفسّحوا في المجالس يعنى لا يضمّ بعضكم ببعض حتّى تتأذوا من حرارة الهواء وحرارة الانضمام ، وإذا قيل : وسّعوا في المجالس بان تخلّوا لمن يأتى بعدكم مجلسا بان يضمّ بعضكم ببعض حتّى يخلّى مجلس للآتى ، أو يقوم بعض عن مجلسه بعد زيارته للرّسول (ص) وقضاء ووطره حتّى يجلس في مجلسه من يأتى بعده فافسحوا ، وذكر الغاية المترتّبة على الامتثال تطييبا لنفوسهم فقال : يفسح الله لكم ولم يقيّده بالمجالس إيهاما للتّعميم يعنى يفسح الله لكم في المجالس والأرزاق والصّدور في الدّنيا والآخرة ، وإذا قيل : ارتفعوا وقوموا عن مجالسكم فقوموا ولا تغتمّوا بذلك (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) في الدّنيا بحسن الصّيت والإعزاز من الخلق والتّبسّط عليهم وفي الآخرة في درجات الجنان (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) خصّص المؤمنين برفع الدّرجات لانّ غير المؤمنين لا درجة ولا رفع درجة لهم لانّ أجر العمل مشروط بالايمان ، وخصّص العلماء من بينهم بالذّكر لشرفهم وعلوّ درجاتهم بالنّسبة الى المؤمنين ، فانّ فضل العالم على سائر النّاس كفضل النّبىّ (ص) على سائر الخلق أو كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، والشّفعاء يوم القيامة ثلاثة ؛ الأنبياء (ع) ثمّ العلماء ثمّ الشّهداء ، ويوزن دماء الشّهداء مع مداد العلماء فيرجّح مداد العلماء على دماء الشّهداء (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من امتثال أوامره ونواهيه ومخالفتهما (خَبِيرٌ) ترغيب وتهديد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) لمّا كان هذا الأدب مكروها لاكثر النّفوس صدّره بالنّداء.

اعلم ، انّ المناجاة هاهنا اعمّ من المسارّة والمحاورة والمسائلة الجهريّة وانّ المتحاورين إذا لم يكونا متناسبين لم تكن المحاورة بينهما مؤثّرة في جانب الآخرة ولا مورثة للتّوافق ولا لنجح المسؤل فانّ المحاورة مع الرّسول (ص) من حيث انّه رسول لا تكون الّا في أمور الآخرة وينبغي ان تكون مقرّبة إليها ، وإذا لم تكن بين المناجى والرّسول (ص)

١٥٨

مناسبة لم تكن مناجاته مؤثّرة ولا مقرّبة الى الآخرة بل كانت مؤثّرة في عكس المراد ومبعّدة من الآخرة والرّسول (ص) لانّه كما في الخبر لا يجلس اثنان الّا ويقومان بزيادة أو نقيصة ، الم يكن ابو جهل يحاور كثيرا الرّسول (ص) ولم تكن محاورته مؤثّرة بل كانت مبعّدة ، فالرّبّ تعالى بكمال رأفته امر العباد بتقديم الصّدقة الّتى هي كناية عن كسر الانانيّة الّتى هي ضدّ للرّسول (ص) ومشّاقة له حتّى يوافق المناجى له بعض الموافقة فيتأثّر من محاورته على انّ في التّصدّق بأمر الله تعالى نفعا للفقراء ومسّا ليد الرّسول (ص) وتعظيما له وامتثالا لأمر الله تعالى وكسر الانانيّة الّتى هي شبكة الشّيطان وأعظم معصية للإنسان وتمييزا للمخلص عن غيره ، روى عن علىّ (ع) انّه قال في كتاب الله لاية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي ، آية النّجوى انّه كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم فجعلت اقدّم بين يدي كلّ نجوى أناجيها النّبىّ (ص) درهما قال : فنسخها قوله أشفقتم (الى قوله) خبير بما تعملون (ذلِكَ) التّصدّق أو التّناجى (خَيْرٌ لَكُمْ) لانّه ادخل في النّجح وفي التّأثّر بمحاورة الرّسول (ص) (وَأَطْهَرُ) لأنفسكم من رجس الانانيّة وحبّ المال والرّغبة في الدّنيا (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) صدقة تقدّموها امام نجويكم فلا يضرّكم عدم التّقديم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر بفضله رجس انانيّاتكم وان لم تتصدّقوا صدقة فيها كسرها (رَحِيمٌ) يرحمكم بنجح مسئولكم وتأثّركم بمحاورة الرّسول (ص) بدون التّصدّق (أَأَشْفَقْتُمْ) على ما في أيديكم ومن الفقر والحاجة (أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) جمع الصّدقات هاهنا لملاحظة جمع المناجين ، أو للاشارة الى انّ في الصّدقة الصّوريّة كسرا للانانيّة وهو صدقة من الانانيّة ، وخشوعا للقلب وهو تصدّق من القلب ، وخضوعا من الجسد وهو تصدّق منه ، وتوجّها من القوى الدّرّاكة الى الرّسول (ص) والى جهة الآخرة ، وامتثالا لأمر الله وحركات من القوى العمّالة في جهة الآخرة وهي تصدّقات منها (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) تقديم الصّدقات (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) بان رخّص لكم في تركه ، عن أمير المؤمنين (ع) في هذه الآية فهل تكون التّوبة الّا عن ذنب (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) جبرانا لتقصير ترك الصّدقة امام المناجاة فانّ الحسنات يذهبن السّيّئات فانّ في الصّلوة توجّها الى الآخرة نحو التّوجّه في التّصدّق ، وفي الزّكاة كسرا للانانيّة مثل ما في التّصدّق امام المناجاة (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في سائر ما أمراكم به ونهياكم عنه (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) ترغيب في الامتثال وتهديد من تركه (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) قيل المراد منهم قوم من المنافقين كانوا يوالون اليهود ويفشون إليهم اسرار المؤمنين ويجتمعون معهم على ذكر مساءة النّبىّ (ص) والمؤمنين (ما هُمْ مِنْكُمْ) لعدم ايمانهم باطنا (وَلا مِنْهُمْ) لإقرارهم اللّسانىّ بالإسلام (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) اى على عدم مجالستهم لهؤلاء القوم ، أو عدم استماعهم الى ازدراء المؤمنين ، أو على قصد تقوية الدّين والكلّ كذب منهم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) انّهم يحلفون على الكذب (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) معنويّة لدفع لوم المسلمين وحفظ عرضهم وما لهم من المسلمين بصورة الإسلام ومن الكفّار بالمسلمين (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بصدّ قويهم عن طريق القلب وبتشكيك الضّعفاء من المسلمين ومنع الرّاغبين في الإسلام من الكافرين ، أو يتّخذ الغاصبون بحقّ آل محمّد (ص) ايمانهم عند المسلمين جنّة يدفعون بها ظنّ المسلمين بهم النّفاق ويدفعون بها لوم اللّائمين لهم على الانحراف ، فيصدّون خلقا كثيرا عن سبيل الله الّذى هو الولاية وهو أمير المؤمنين (ع) ، وقرئ ايمانهم بكسر الهمزة يعنى اتّخذوا صورة إسلامهم جنّة يدفعون بها لوم المسلمين ومعارضتهم ومقاتلتهم معهم ويدفعون بها معارضة الكفّار ومقاتلتهم معهم (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ

١٥٩

لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) من الإغناء أو من عذاب الله (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) ظرف لقوله تعالى لن تغني أو ليحلفون ، على ان يكون الفاء زائدة أو بتقدير امّا أو توهّمها (فَيَحْلِفُونَ لَهُ) اى لله في القيامة (كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) في الدّنيا (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) حيث يقولون انّما أردنا بذلك تقوية الدّين ونشر سنّة سيّد المرسلين (ص) ويحلفون لله ظنّا منهم انّ هذا منهم كان حقّا وانّ الله يقبل منهم بحلفهم (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) البالغون في الكذب لانّ كذبهم مثل جهلهم مركّب لا علاج له لانّهم اعتقدوا انّهم صادقون فلا يمكن ارتداعهم من كذبهم.

اعلم ، انّ كلّ من اتّصف بصفة وطلب امرا يعتقد انّ اتّصافه بتلك الصّفة محمود مرضىّ لله وطلبه لذلك الأمر المطلوب مرضىّ الّا من شذّ كما انّ علماء العامّة الّذين أرادوا إصلاح الدّين وحفظه بالقياس والرّأى والظّنّ والاستحسان الّتى ابتدعوها وليس هذا الّا هدم الدّين وصدّ العباد عن الائمّة (ع) والعلماء يحسبون انّهم مهتدون وانّهم مصلحون للدّين وللعباد ، وانّ للمصيب منهم أجرين وللمخطى اجرا واحدا بل قال المصوّبة منهم ان لا خطاء في آرائهم وانّ حكم الله تابع لآرائهم وهكذا كان الحال فيهم الى يومنا هذا (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) استولى وغلب عليهم بحيث تمكّن منهم (فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) الفطرىّ أو الاختيارىّ (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) لاتلافهم بضاعتهم الّتى هي فطرتهم الانسانيّة ومدّة أعمارهم الشّريفة وأخذ العذاب المؤبّد عوضها وعوض النّعيم الأبديّ الّذى كان مقرّرا لفطرتهم وعوضا لأعمارهم ، وقيل في قوله يوم يبعثهم الله إذا كان يوم القيامة جمع الله الّذين عصبوا آل محمّد (ص) حقّهم فيعرض عليهم أعمالهم فيحلفون له انّهم لم يعملوا منها شيئا كما حلفوا لرسول الله (ص) في الدّنيا حين حلفوا ان لا يردّوا الولاية في بنى هاشم* وحين همّوا بقتل رسول الله (ص) في العقبة فلمّا اطلع الله نبيّه (ص) وأخبره حلفوا له انّهم لم يقولوا ذلك ولم يهمّوا به حين انزل الله على رسوله (ص) (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) ، ونقموا الّا ان أغناهم الله ورسوله (ص) من فضله فاذا عرض الله عزوجل ذلك عليهم في القيامة ينكرونه ويحلفون له كما حلفوا لرسول الله (ص) (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) يغاضبونه أو يناهضونه في الحرب أو يخالفونه (أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) في جملة من هو اذلّ الخلق (كَتَبَ اللهُ) تعليل للسّابق (لَأَغْلِبَنَ) لمّا اجرى كتب مجرى القسم في الإتيان به للتّأكيد أتى له بجواب مثل جواب القسم (أَنَا وَرُسُلِي) في الدّنيا بالحجّة والدّين وعلى جنود الشّياطين الّذين كانوا في مملكتهم وان صاروا مغلوبين بحسب أجسامهم بعض الأحيان (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) تعليل للسّابق (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) وذلك لانّ نسبة الايمان الى صاحب الايمان إذا ظهرت وقويت غلبت على النّسب الجسمانيّة لانّ الإنسان بالبيعة الخاصّة الولويّة ودخول الايمان والصّورة الولويّة في قلبه بالبيعة يصير فعليّته الاخيرة هي فعليّة الايمان ويكون الحكم لتلك الفعليّة لا للفعليّات السّابقة الّتى هي كالمادّة ويكون محبّته ناشئة عن تلك الفعليّة ، وتلك الفعليّة مضادّة لمن حادّ الله ورسوله فلا يصير محبّته النّاشئة عن صورة ولىّ الأمر متعلّقة بمن ضادّ تلك الفعليّة (أُولئِكَ كَتَبَ) اى كتب الله ، وقرئ كتب مبنيّا للمفعول اى ثبت ورسخ (فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) وهو الصّورة الدّاخلة في قلوبهم من ولىّ أمرهم (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) المقصود من الرّوح هو ربّ النّوع الانسانىّ وتأييده بالرّوح بان يوكّل عليه ملكا من جنود هذه الرّوح يؤيّده ويسدّده به

١٦٠