تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٤

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٤

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩١

سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) من الأصنام والكواكب والاهوية (وَإِنْ يَرَوْا) والحال انّهم ليسوا في شيء على حالة اليقين فانّهم ان يروا (كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) مع انّه من المشهودات الّتى هي ثواني البديهيّات ينكروا و (يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) فاذا كان الأمر هكذا (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) يهلكون بالصّاعقة أو يغشون (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) من الإغناء أو شيئا من العذاب (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بإنكار المبدء أو المعاد أو الرّسالة أو الولاية أو ظلموا آل محمّد (ص) حقّهم (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) اليوم وهو عذاب يوم الاحتضار ، أو عذاب البرزخ ، أو عذاب الدّنيا بالقتل والأسر والنّهب ، أو دون هذا العذاب (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذلك فلذلك يجترءون على إنكارك (وَاصْبِرْ) عطف على قل تربّصوا أو على ذكّر (لِحُكْمِ رَبِّكَ) بإمهالهم أو لحكم ربّك بايذائك على أيديهم ، أو لحكم ربّك بانكارهم لك ، أو لله ، أو لحكم ربّك ببقائك فيهم ، أو واصبر منتظرا لحكم ربّك باهلاكهم ولا تبال بانكارهم وتهديدهم (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) نشاهدك ونشاهد جميع أمورك فلا ندعهم حتّى يضرّوك (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) الى الصّلوة أو حين تقوم عند الله فانّ القيام عند الله يقتضي التّنزيه المطلق من غير التفات الى جهة الكثرات وحمده تعالى بها ، لكنّ الكامل ينبغي ان يكون حافظا للطّرفين في كلّ حال وأنت أكمل النّاس فسبّح بحمد ربّك حين تقوم عنده ولا تغفل عن الكثرات (وَمِنَ اللَّيْلِ) الّذى يغشاك فيه ظلمات الكثرات وتستر وجهة ربّك (فَسَبِّحْهُ) وبالغ في تنزيهه عن الكثرات فانّ المنغمر في ظلمات الكثرات عليه ان يبالغ في تنزيه الحقّ ولا يلتفت الى تشبيهه ولذلك لم يضف الحمد هناك وان كان تسبيحه لا ينفكّ عن حمده (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) وحين ادبار النّجوم وقد فسّرت الآية بحسب التّنزيل بوجوه فقيل حين تقوم من النّوم ، أو الى الصّلوة المفروضة فقل : سبحانك اللهمّ وبحمدك ، وقيل : صلّ بأمر ربّك حين تقوم من مقامك ، وقيل : المراد الرّكعتان قبل صلوة الفجر ، وقيل : حين تقوم من نومة القائلة وهي صلوة الظّهر ، وقيل : اذكر الله بلسانك حين تقوم الى الصّلوة ، وقيل : قوله من اللّيل فسبّحه يعنى به صلوة اللّيل ، وقيل : معناه صلّ المغرب والعشاء الآخرة ، وادبار النّجوم معناه الرّكعتان قبل الفجر ، وقيل : صلوة الفجر المفروضة ، وقيل : لا تغفل عن ذكر ربّك صباحا ومساء ونزّهه في جميع أحوالك ليلا ونهارا قائما وقاعدا.

سورة والنّجم

مكّيّة ، وقيل غير آية : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) ، الآية ، وقيل : هي مدنيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّجْمِ) اقسم بالنّجم المراد به القرآن فانّه نزّل نجوما اى متفرّقا في طول ثلاث وعشرين سنة ، أو اقسم بالثّريّا فانّ النّجم علم بالغلبة لها ، أو اقسم بمطلق النّجوم ، أو اقسم بالنّجم الّذى يرجم به الشّيطان عن استراق السّمع ، أو اقسم بالنّبات إذا سقط على الأرض أو ارتفع منها ونما ، وقيل : اقسم بمحمّد (ص) فانّه النّجم

١٢١

الّذى نزل من السّماء السّابعة ليلة المعراج ، وعن ابن عبّاس انّه قال : صلّينا العشاء الآخرة ذات ليلة مع رسول الله (ص) فلمّا سلّم اقبل علينا بوجهه ثمّ قال : انّه سينقضّ كوكب من السّماء مع طلوع الفجر فيسقط في دار أحدكم ، فمن سقط ذلك الكوكب في داره فهو وصيّي وخليفتي والامام بعدي ، فلمّا كان قرب الفجر جلس كلّ واحد منّا في داره ينتظر سقوط الكوكب في داره وكان أطمع القوم في ذلك ابى العبّاس ، فلمّا طلع الفجر انقضّ الكوكب من الهواء فسقط في دار علىّ بن ابى طالب (ع) فقال رسول الله (ص) لعلىّ (ع) : يا علىّ والّذى بعثني بالنّبوّة لقد وجب لك الوصيّة والخلافة والامامة بعدي ، فقال المنافقون عبد الله بن ابىّ وأصحابه : لقد ضلّ محمّد في محبّة ابن عمّه وغوى ، وما ينطق في ساعته الّا بالهوى ، فأنزل الله هذه الآية (الى آخر الحديث) (إِذا هَوى) سقط وغرب ، أو إذا صعد وارتفع ، فانّه يستعمل فيهما (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) يا قريش (وَما غَوى) يعنى ما ضلّ عن طريق الحقّ في الأعمال والأقوال الظّاهرة وما ضلّ في العلوم والعقائد الباطنة (وَما يَنْطِقُ) بالقرآن أو بالولاية أو بمطلق ما ينطق به أو بالاحكام الشّرعيّة (عَنِ الْهَوى) اى هوى نفسه من دون امر ربّه (إِنْ هُوَ) اى نطقه أو القرآن أو امر الولاية (إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) يعنى انّه خرج من انانيّته وصار انانيّته انانيّة الله فلم يكن منه فعل أو قول أو خلق الّا بوحي من الله وانانيّته (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) جمع القوّة مقابلة الضّعف ، ولمّا كان قوّة جبرئيل في جميع ماله من أنواع الإدراكات والتّصرّفات جمع القوى (ذُو مِرَّةٍ) ذو متانة في عقله وثبات من امره ، فانّ صاحب المرّة يكون صاحب ثبات في الأمر ولذلك ورد انّه : ما بعث نبىّ قطّ الّا كان ذا مرّة سوداء (فَاسْتَوى) اى فاستقام على صورته الحقيقيّة الّتى خلقه الله عليها ، قيل : ما رآه أحد من الأنبياء في صورته غير محمّد (ص) نبيّنا فانّه رآه على صورته مرّتين ، مرّة في السّماء ومرّة في الأرض ، وقيل : فاستوى على جميع ما في الأرض أو على ما امره الله به ، وقيل : فاستوى محمّد (ص) اى استقام في امره وتمكّن ، وعلى اىّ تفسير فالإتيان بالفاء كان في محلّه ، وقيل : كان جبرئيل يأتى النّبىّ (ص) في صورة الآدميّين فسأله رسول الله (ص) ان يريه نفسه على صورته الّتى خلق عليها ، فأراه نفسه مرّتين ، مرّة في الأرض ومرّة في السّماء ، امّا في الأرض فانّ محمّدا (ص) كان بحراء فطلع له جبرئيل من المشرق فسدّ الأفق الى المغرب فخرّ النّبىّ (ص) مغشيّا عليه ، فنزل جبرئيل في صورة الآدميّين فضمّه الى نفسه (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) اى جبرئيل بالأفق الأعلى وهو أفق عالم العقول الّذى هو عالم الجبروت من جهة اللّاهوت ، وكان جبرئيل حين النّزول ينزل من أفق المشرق وهو أعلى من أفق المغرب ، أو المراد انّ محمّدا (ص) كان حين نزول الوحي والتّعليم بالأفق الأعلى يعنى أفق عالم العقول الى اللّاهوت ، أو عالم النّفوس الى العقول ، أو عالم المثال الى النّفوس ، أو أفق عالم الطّبع الى عالم المثال ، فانّه (ص) كان يوحى اليه في جميع تلك الآفاق (ثُمَّ دَنا) جبرئيل من الأفق الأعلى من محمّد (ص) (فَتَدَلَّى) في الهواء ، أو ثمّ دنى محمّد (ص) من الأفق الأعلى من الله ، فتدلّى من أنانيّته وتدلّى تحت العرش ، فلم يبق له مقام ومكان ولا انانيّة يعتمد عليها بل صار تدليّا من غير ذات متدلّية ، وقرئ فتدانى ، وسئل الكاظم (ع) عن قوله دنى فتدلّى ، فقال : انّ هذه لغة في قريش إذا أراد الرّجل منهم ان يقول : قد سمعت يقول قد تدلّيت وانّما التّدلّى الفهم (فَكانَ) الامتداد والمسافة بينهما (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) اى بل ادنى وقاب القوس ما بين مقبضها الى رأسها ، ولكلّ قوس قابان ، ولذلك قيل : انّه على القلب والأصل قابى قوس لكن ليس هذا على القلب وليس المقصود انّه كان بينهما مقدار قابى القوس بل المقصود انّه كان بينهما مقدار قاب واحد من القوس إذا انعطفت لا إذا كانت مستقيمة ، فانّ القوس قطعة من الدّائرة ولكلّ

١٢٢

قوس إذا انعطفت قوسان ما بين مقبضها ورأس كلّ طرف منها ، وعن الصّادق (ع): انّه سئل كم عرج برسول الله (ص)؟ ـ فقال : مرّتين فأوقفه جبرئيل موقفا فقال : مكانك يا محمّد (ص) فقد وقفت موقفا ما وقفه ملك ولا نبىّ قطّ ، انّ ربّك يصلّى ، فقال : يا جبرئيل ، وكيف يصلّى؟ ـ قال : يقول سبّوح قدّوس انا ربّ الملائكة والرّوح ، سبقت رحمتي غضبى ، فقال : اللهمّ عفوك عفوك ، قال : وكان كما قال الله : قاب قوسين أو ادنى ، قيل : ما قاب قوسين أو ادنى؟ ـ قال : ما بين سيتها (١) الى رأسها ، قال : فكان بينهما حجاب يتلألأ يخفق ولا أعلمه الّا وقد قال : زبرجد ، فنظر في مثل سمّ الإبرة الى ما شاء الله من نور العظمة ، فقال الله تبارك وتعالى : يا محمّد (ص) ، قال : لبّيك ربّى ، قال : من لامّتك من بعدك؟ ـ قال : الله اعلم ، قال : علىّ بن ابى طالب (ع) أمير المؤمنين وسيّد المسلمين وقائد الغرّ المحجّلين ، ثمّ قال الصّادق (ع): والله ما جاءت ولاية علىّ (ع) من الأرض ولكن جاءت من السّماء مشافهة ، وقال في الصّافى ، وفي التّعبير عن هذا المعنى بمثل هذه العبارة اشارة لطيفة الى انّ السّائر بهذا السّير منه سبحانه نزل واليه صعد ، وانّ الحركة الصّعوديّة كانت انعطافيّة وانّها لم تقع على نفس المسافة النّزوليّة بل على مسافة اخرى كما حقّق في محلّه فسيره كان من الله والى الله وفي الله وبالله ومع الله تبارك وتعالى (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) أبهم الموحى للتّفخيم وقد مضى في آخر البقرة انّه كان فيما اوحى اليه قوله تعالى (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) (الآية) وكانت الآية قد عرضت على الأنبياء من لدن آدم (ع) الى ان بعث الله محمّدا (ص) وعرضت على الأمم فأبوا ان يقبلوها من ثقلها ، وقبلها رسول الله (ص) ، وعرضها على أمّته فقبلوها ، وقد مضى في آخر البقرة بيان هذه الآية وعدم منافاتها لما ورد انّه تعالى : لا يؤاخذ العباد على الخطرات والوساوس وعزم المعاصي (ما كَذَبَ) قرئ بتخفيف الذّال وتشديدها (الْفُؤادُ) اى فؤاد محمّد (ص) ولم يضفه اليه لإيهام ان ليس فؤاد غير فؤاده ، وانّ المطلق ينصرف اليه (ما رَأى) في بعض الاخبار انّ محمّدا (ص) رأى ربّه بفؤاده لا بالبصر ، وفي بعض : لقد رأى من آيات ربّه الكبرى وآيات الله غير الله ، أو رأى خلافة علىّ (ع) وعلىّ أكبر الآيات ، أو رأى جبرئيل على صورته الّتى خلق عليها ، ولم يره أحد كذلك (أَفَتُمارُونَهُ) أفتجادلونه ، وقرئ أفتمرونه من مرى بمعنى أتغلبونه في المحاجّة وتنكرونه؟! فانّهم كانوا يجادلونه في خلافة علىّ (ع) (عَلى ما يَرى) كان الأوفق ان يقول على ما رأى لكنّه ادّاه بالمضارع للاشعار باستمرار الرّؤية منه فانّه كان كلّما نظر بفؤاده رأى خلافة علىّ (ع) وولايته بعده ، وسئل رسول الله (ص) عن ذلك الوحي ، فقال: اوحى الىّ انّ عليّا (ع) سيّد المؤمنين ، وامام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، واوّل خليفة يستخلفه خاتم النّبيّين (ص) ، فدخل القوم في الكلام فقالوا : امن الله أو من رسوله؟ ـ فقال الله جلّ ذكره لرسوله قل لهم : ما كذّب الفؤاد ما رأى ثمّ ردّ عليهم فقال : أفتمارونه على ما يرى فقال لهم رسول الله (ص): قد أمرت فيه بغير هذا ، أمرت ان أنصبه للنّاس ، فأقول : هذا وليّكم من بعدي ، وانّه بمنزلة السّفينة يوم الغرق ، من دخل فيها نجا ، ومن خرج عنها غرق (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) في نزول أخر من عرش الرّبّ أو مرّة اخرى من غير اعتبار النّزول فيها فانّها تستعمل في معنى المرّة من غير اعتبار معنى مادّته (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) اى عند سدرة الواقعة في منتهى مقامات الإمكان ، وتسمية الشّجرة النّوريّة الواقعة في منتهى المقامات بالسّدرة لانّها ليس عندها الّا الحيرة والدّهشة ، والسّادر هو المتحيّر وهي شجرة عن يمين العرش فوق السّماء السّابعة ينتهى إليها علم كلّ ملك ، وينتهى إليها اعمال الخلائق من الاوّلين والآخرين ، وإليها ينتهى الأرواح الصّاعدة ، ولا يتجاوز عنها من كان مقيّدا بقيود الحدود ، ولذلك قال جبرئيل في هذا المقام : لو دنوت أنملة لاحترقت ، وهي شجرة طوبى ، وهي شجرة النّبوّة

__________________

(١) السّية كالعدة من الوعد القوس ما عطف من طرفيها.

١٢٣

كما انّ فوقها شجرة الولاية (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) الّتى لا يتجاوز عنها الممكن بخلاف سائر الجنّات فانّها معبر غير مأوى لبعض النّفوس وان كانت مأوى لبعض آخر (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) لفظ ما في أمثال هذه الكلمة يفيد التّفخيم ، قيل : يغشاها الملائكة أمثال الغربان ، وقيل : يغشاها من النّور والبهاء ، وقيل : فراش من الذّهب ، وقيل : لمّا رفع الحجاب بينه وبين رسول الله (ص) غشي نوره السّدرة (ما زاغَ الْبَصَرُ) حتّى لم يكن يبصر ما هو الواقع ويكون مخطئا في ابصاره يعنى ما زاغ بصر محمّد (ص) حين رأى عند السّدرة (وَما طَغى) وما جاوز عن حدّ القصد في الأبصار حتّى يكون مخطئا في الأبصار (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) مثل سدرة المنتهى وجبرئيل على صورته الّتى خلق عليها ، وقيل : سمع كلاما لو لا انّه قوّى ما قوى ، وقيل : رأى رفرفا أخضر من رفارف الجنّة قد سدّ الأفق ، وقيل : رأى ربّه بقلبه ، وقيل : رأى عليّا (ع) فانّه الآية الكبرى الّتى لا أكبر منها ، وروى عن النّبىّ (ص) انّه قال لعلىّ (ع): يا علىّ انّ الله أشهدك معى في سبع مواطن وعدّ من ذلك ليلة الإسراء (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) اى أخبرونا عن هذه الآلهة الّتى تعبدونها يضرّونكم أو ينفعون؟! أو هي بنات الله؟! وقيل : انّهم زعموا انّ الملائكة بنات الله وصوّروا أصنامهم على صورهم وعبدوها من دون الله واشتقّوا لها أسماء من أسماء الله فقالوا : اللّات من الله ، والعزّى من العزيز ، وقيل : انّ التّاء في اللّات اصليّة ، وقرئ اللّاتّ بتشديد التّاء ، قيل : كان صنما نحتوه على صورة رجل يلتّ السّويق ويطعم الحاجّ ، وقيل : انّ اللّات كان صنما لثقيف ، والعزّى صنم ، وقيل : انّها كانت شجرة يعبدها الغطفان فبعث إليها رسول الله خالد بن الوليد فقطعها ، ومناة كانت صنما بقديد بين مكّة والمدينة ، وقيل : ثلاثتها كانت أصناما في الكعبة يعيدونها ، والثّالثة نعت لمناة وكذلك الاخرى وكانتا نعتين بيانيّين (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) ذات جور ، وضيزى قيل : انّه فعلا مضموم الفاء سواء جعل واويّا أو يائيّا لعدم وجود الوصف على فعلى مكسور الفاء ، وقرئ بالهمزة من ضازه إذا ظلمه (إِنْ هِيَ) اى الأصنام (إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) قد سبق الآية في سورة الأعراف مع تفاوت يسير في اللّفظ وقد سبق تحقيق لها هناك وفي سورة البقرة أيضا عند قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) (إِنْ يَتَّبِعُونَ) في جعل هذه الأسماء الّتى ليست لها حكم فضلا عن ان تكون معبودات مسمّيات وفي النّظر إليها والسّجدة لها ، وقرئ تتّبعون بالخطاب وبالغيبة (إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) عطف على الظّنّ ويجوز ان يكون ما نافية أو استفهاميّة (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) ما به الهدى واليقين فأعرضوا عنه واتّبعوا الظّنّ وما به الضّلالة والمراد بالهدى الرّسول وكتابه وشريعته (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) فيكون لهم ما يتمنّونه من حسن الحال في الدّنيا وحسن المآل في الآخرة ، أو من شفاعة الأصنام في الآخرة فانّه لا دليل لهم على ذلك سوى تمنّيهم وليس كذلك (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) الفاء للسّببيّة يعنى إذا كان الآخرة والاولى لله فلم يكن للإنسان ما تمنّى بل كان له ما أراد الله (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) من الإغناء ، أو شيئا من عذاب الله (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ) لهم في الشّفاعة (لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) ومن يشاء ويرضى ليس الّا من تولّى عليّا (ع) فانّ ما به الرّضا هو انفحّة الولاية فما لهم يعبدون الملائكة من دون الله ويسمّون الملائكة بما لا يرضاه الله

١٢٤

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) فيقولون : انّ الملائكة بنات الله (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) ذمّهم اوّلا على تسمية الأشرف باسم الاخسّ ثمّ على القول بعدم العلم ثمّ على اتّباع الظّنّ (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) قد فسّر الحقّ هاهنا بالعلم ، أو المراد به نفس الأمر ، أو المشيّة ، أو الحقّ الاوّل تعالى ، وشيئا مفعول مطلق ، أو هو مفعول به ومن الحقّ حال منه (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) لمّا ذكر حال المشركين وانّهم اعرضوا عن اليقين وتمسّكوا بالظّنّ والتّخمين قال : إذا كان حالهم على هذا ولم يتوجّهوا إليك والى ما به اليقين ، أو لم يتوجّهوا الى علىّ (ع) الّذى بالتّوجّه اليه يحصل اليقين ، فأعرض عن مجادلتهم وعن النّصح والتّذكير لهم ، أو اعرض عن مكافأتهم على سوء فعالهم ، والمراد بالذّكر هو ما به ذكر الله للعباد وهو العقل والقلب الّذى هو طريق العقل والقرآن والرّسول وصاحب الولاية وجملة الآيات الآفاقيّة والانفسيّة ، أو المراد ما به ذكر العباد لله وهو المذكورات مع الاذكار اللّسانيّة والقلبيّة لكنّ المنظور الاعراض عمّن أنكر الولاية فانّه المستحقّ للاعراض سواء كان قابلا للرّسالة أو لم يكن (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) فانّ من اعرض عن القلب وصاحبه لا يكون له ارادة من جملة أفعاله وأقواله وعلومه الّا الانتفاع في جهة الحيوة الدّنيا فانّه ان صلّى صلّى لئلّا يحدث له حادثة تضرّه في حيوته ، وان صام فكذلك ، وان حصل له علم لا يكون وجه علمه الّا الى الدّنيا فيكون علمه جهلا مشابها للعلم (ذلِكَ) المبلغ اى الحيوة الدّنيا ، أو طلب الحيوة الدّنيا (مَبْلَغُهُمْ) محلّ بلوغهم أو بلوغهم (مِنَ الْعِلْمِ) لا يتجاوز علمهم عنها الى الآخرة (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) جواب سؤال في مقام التّعليل لقوله اعرض (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) اى لله السّماوات والأرض وما فيهما كما مرّ مرارا (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا) علّة غائيّة لأعرض يعنى انّك ما دمت مقبلا عليهم لم يعذّب الله أحدا منهم فاعرض عنهم حتّى يجزى الّذين أساؤا (بِما عَمِلُوا) أو غاية لقوله : هو اعلم بمن ضلّ عن سبيله أو علّة لاثبات قوله هو اعلم بمن ضلّ عن سبيله يعنى قلنا انّه اعلم لما ترى انّه يجزى الّذين أساؤا أو غاية لقوله لله ما في السّماوات وما في الأرض ، أو علّة لإثباته (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) بالخصلة أو العاقبة أو النّعمة الحسنى (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) صفة أو بدل من الّذين أحسنوا أو خبر مبتدء محذوف أو مبتدء خبره جملة انّ ربّك واسع المغفرة بتقدير العائد ، أو الخبر محذوف بقرينة انّ ربّك واسع المغفرة اى مغفور لهم ، ويكون قوله : انّ ربّك واسع المغفرة تعليلا له وقد مضى بيان الكبيرة والصّغيرة في سورة النّساء عند قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) (وَالْفَواحِشَ) عطف على كبائر الإثم أو على الإثم ، والفاحشة أقبح الإثم أو هو الزّنا (إِلَّا اللَّمَمَ) اللّمم محرّكة صغار الذّنوب الّتى يتنزّل الإنسان عن مقامه عليها ولم يكن مقامه مقام تلك الصّغار من الذّنوب ، فانّه قد مضى في بيان الكبائر انّه إذا لم يكن الإنسان متمكّنا في طريق النّفس فكلّما صدر منه من الآثام كان صغيرة ، ولم يكن مقام ذلك الإنسان مقام تلك الصّغيرة (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) جواب سؤال مقدّر في مقام التّعليل لقوله تعالى ليجزي الّذين أساؤا (إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) تعليل لقوله اعلم بكم أو ظرف له يعنى ان كان اعلم بكم في وقت انشائكم من الأرض

١٢٥

فكيف لا يعلم حالكم حين حيوتكم الدّنيويّة أو حين بعثكم (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) يعنى لا تظهروا طهارة أنفسكم ولا تمدحوها عند الله وعند رسوله فانّه اعلم بحالكم منكم بل اتّقوا سخط الله ، أو اتّقوا الشّرك ، أو اتّقوا الشّرك بالولاية عند أنفسكم فلا تظهروا تقويكم فانّه اعلم بتقويكم (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى قَلِيلاً) قال في المجمع ، نزلت الآيات السّبع من قوله : أفرأيت الّذى (الى سبع آيات) في عثمان بن عفّان كان يتصدّق وينفق ماله فقال اخوه من الرّضاعة عبد الله بن سعد بن ابى سرح : ما هذا الّذى تصنع؟ يوشك ان لا يبقى لك شيء : فقال عثمان : انّ لي ذنوبا وانّى اطلب بما اصنع رضا الله وأرجو عفوه ، فقال له عبد الله : أعطني ناقتك برحلها وانا أتحمّل عنك ذنوبك كلّها ، فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن الصّدقة ، فنزلت : أفرأيت الّذى تولّى اى يوم أحد حين ترك المركز ، وأعطى قليلا ثمّ قطع نفقته الى قوله : وانّ سعيه سوف يرى فعاد عثمان الى ما كان عليه ، وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، ونقل نظير ما نقل لعثمان ، وقيل : نزلت في العاص بن وائل السّهمىّ ، وقيل : في رجل قال لأهله : جهّزونى حتّى انطلق الى هذا الرّجل ، يريد النّبىّ (ص) ، فتجهّز وخرج فلقيه رجل من الكفّار فقال له مثل ما قيل لعثمان ، وقيل : نزلت في ابى جهل وذلك انّه قال والله ما يأمرنا محمّد (ص) الّا بمكارم الأخلاق فذلك قوله اعطى قليلا (وَأَكْدى) اكدى بمعنى بخل ، أو قلّ خيره ، أو قلّل عطاءه (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) ببصيرته انّ غيره يتحمّل عنه ذنوبه ، أو يرى انّه صار مطهّرا من الذّنوب ، أو يرى انّه لا عقوبة عليه (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) مبالغة في الوفاء والإيفاء والمعنى بالغ في الوفاء بعهد الله الّذى أخذ منه ، وتقديم موسى (ع) لكونه أقرب الى المخاطبين المعاتبين ولكون صحفه أشهر وأظهر (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) وجدّ ، لفظة ما مصدريّة ، أو موصولة ، أو موصوفة ، وما ورد من انتفاع الأموات بالتّصدّقات والخيرات من الأحياء ليس من قبيل الانتفاع بسعى الغير بل الانتفاع بالمحبّة الّتى دخل منهم في قلوب الأحياء من سعيهم في الدّنيا (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ) اى يجزى السّاعى بسعيه (الْجَزاءَ الْأَوْفى وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) انتهاء الكلّ وانتهاء أعمالهم فيجزيهم بنفسه الجزاء الأوفى فما لهم يعبدون غيره (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) اسرّوا حزن أو انّه أضحك السّماء برفع الغيم وابكى السّماء بالمطر (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) إذا تتحوّل من الدّم منيّا ، أو إذا تنزّل الى الرّحم (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) اى اغنى بالأموال وجعلهم مدّخرين بأصول الأموال وبضاعاتهم ، وقيل : اقنى بمعنى اخدم ، وقيل : اقنى بمعنى ارضى ، وقيل : اغنى بالكفاية واقنى بالزّيادة ، وقيل : اقنى بمعنى حرم (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) كوكب في السّماء كانت قريش وقوم من العرب يعبدونه (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى) منهم أحدا (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) اى من قبل عاد وثمود (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) اى أسقطها ، والمراد بالمؤتفكة قرى قوم لوط ائتفكت بأهلها اى انقلبت (فَغَشَّاها ما غَشَّى) بالعذاب فما لهم ينظرون الى غيره ويستمدّون من غيره ويعبدون أو يتّبعون غيره (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) الخطاب عامّ أو خاصّ بمحمّد (ص) على : ايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، يعنى كلّ هذه المذكورات من النّعم والنّقم من آلاء ربّك ، لانّ هذه النّقم أيضا نعم لمن كان بعد الماضين

١٢٦

من الأمم لاتّعاظهم بالماضين ونقمهم ، ففي اىّ نعم ربّك تشكّ؟! أو بسبب اىّ من الآلاء تجادل؟! والآلاء جمع الالى بفتح الهمزة وكسرها وسكون اللّام ، أو جمع الإلو بكسر الهمزة وسكون اللّام (هذا) اى محمّد (ص) (نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) سئل الصّادق (ع) عنها فقال : انّ الله تبارك وتعالى لمّا ذرأ الخلق في الذّرّ الاوّل أقامهم صفوفا قدّامه وبعث الله محمّدا (ص) حيث دعاهم فآمن به قوم وأنكره قوم فقال الله عزوجل : هذا نذير من النّذر الاولى يعنى محمّدا (ص) حيث دعاهم الى الله عزوجل في الذّرّ الاوّل (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) الآزفة من أسماء القيامة غلبت عليها ، والتّاء لتأنيث القيامة ، أو للنّقل ، أو الآزفة مصدر كالكاشفة والعافية ، وقرب القيامة لانّها ليست في عرض الزّمان حتّى يكون قربها قربا زمانيّا بل هي في الطّول وبمنزلة الرّوح للازمان ، وكما انّ روح كلّ شيء أقرب اليه من نفسه فروح الزّمان أقرب كلّ شيء من الزّمانيّات (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) نفس مظهرة ، أو الكاشفة مصدر (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) حديث الآزفة أو أزف الآزفة ، أو القرآن ، أو ما تقدّم من الاخبار كما ورد عن الصّادق (ع) (تَعْجَبُونَ) إنكارا (وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) سمد سمودا رفع رأسه تكبّرا ، وسمد الإبل جدّ في السّير ، وسمد دأب في العمل وقام متحيّرا.

سجدة واجبة

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ) يعنى إذا أزفت الآزفة ، فاسجدوا لله (وَاعْبُدُوا) حتّى تكونوا حين الورود عليه مستأنسين لا مستوحشين.

سورة القمر

مكّيّة ؛ وهي خمس وخمسون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) قد فسّرت السّاعة بساعة ظهور القائم (ع) وبساعة القيامة وبحالة الاحتضار والكلّ يرجع الى امر واحد هو وقت القيام عند الله ، ولمّا كان رسول الله (ص) خاتم الرّسل فلا يكون بعده رسول ورسالة لانتهاء مراتب الرّسالة اليه فلا يكون مرتبة من الرّسالة الّا وهي مجتمعة في وجوده ، كان أمّته أيضا آخر الأمم فلا يكون بعد أمّته أمّة ، وقد علمت انّ القيامة ليست في عرض الزّمان وانّما هي في طوله فاذا كان أمّة محمّد (ص) آخر الأمم لم يكن مرتبة زمانيّة بعد مرتبتهم ويكون بعد مرتبتهم الخروج من الزّمان ، والخروج من الزّمان هو القيام عند الله فيكون القيامة قريبة من أمّة محمّد (ص) ولذلك ورد عن النّبىّ (ص): بعثت انا والسّاعة كهاتين ، وكان (ص) آخر الزّمان وصار بوجوده قيامة ومحشرا كما قال المولوىّ قدس‌سره :

پس محمد صد قيامت بود نقد

زانكه حلّ شد در فنايش حلّ وعقد

زاده ثانيست احمد در جهان

صد قيامت بود أو اندر عيان

زو قيامت را همى پرسيده اند

كاى قيامت تا قيامت راه چند

با زبان حال مى گفتى بسى

كه ز محشر حشر را پرسد كسي!

پس قيامت شو قيامت را ببين

ديدن هر چيز را شرط است اين

(وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) القمر اسم للكوكب الّذى يأخذ النّور من غيره ولا يكون منيرا بنفسه ، وهل في السّماء أقمار

١٢٧

عديدة؟ أو القمر منحصر في هذا الكوكب الّذى يدرك انّه مستنير من الشّمس؟ قيل : وجدوا غير هذا القمر اقمارا أخر ، وفي العالم الصّغير القلب مظهر للقمر ، أو القمر مظهر للقلب فانّ القلب أيضا يأخذ النّور من الرّوح ويستنير بنوره ، ولمّا كان النّاس قلوبهم ذوات وجهين ، وجه الى الرّوح وعالم الوحدة ، ووجه الى النّفس وعالم الكثرة ، وكان المراعى منهم للطّرفين قليلا والجامع لكمال الطّرفين اقلّ حتّى انّ الأنبياء لم يكونوا كاملين في الطّرفين بل كانوا ناقصين في طرف الكثرة أو طرف الوحدة ، وكان نبيّنا (ص) كاملا في الطّرفين حافظا للجانبين ولذلك نسب اليه انّه قال : كان أخي موسى (ع) عينه اليمنى عمياء ، وأخي عيسى (ع) عينه اليسرى عمياء ، وانا ذو العينين ، كان قلب نبيّنا (ص) من بينهم ذا شقّين كاملين ، ولمّا كان القمر الصّورىّ مظهرا لقلبه كان لا غرو في انشقاق القمر الصّورىّ كما نسب الى معجزاته ، ولمّا كان انشقاق القمر المعنوىّ الّذى هو قلب النّبىّ (ص) بشقّين متساويين دليلا على انتهاء مراتب التّجدّد في وجوده وابتداء الدّهر في وجوده كان دليلا على شدّة قرب السّاعة الواقعة في الدّهر ، ولمّا كان انشقاق القمر الصّورىّ دليلا على انشقاق قلب فاعله بشقّين متساويين كان ذلك أيضا من أشراط السّاعة ، روى انّه اجتمع المشركون الى رسول الله (ص) فقالوا : ان كنت صادقا فشقّ لنا القمر فرقتين ، فقال لهم : ان فعلت تؤمنوا؟ ـ قالوا : نعم ، وكانت ليلة بدر فسأل ربّه ان يعطيه ما قالوا ، فانشقّ القمر فرقتين ورسول الله (ص) ينادى : يا فلان يا فلان اشهدوا (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً) الجملة حاليّة والمعنى اقتربت السّاعة وظهر أمارتها وينبغي ان يتذكّروا ويتوبوا وينيبوا ويتنبّهوا بكلّ شيء والحال انّهم مع ذلك ان يروا آية من آيات السّاعة مثل بياض شعر الرّأس واللّحية وسقوط الأسنان وضعف نور البصر وقلّة شهوة الطّعام والسّفاد ورخاوة الاعصاب والأمراض الواردة وفوت الجيران والإقران ، أو آية من آيات قدرة الله وعلمه وحكمته ، أو آية من آياته العظمى ، أو آية معجزة لهم عن الإتيان بمثلها (يُعْرِضُوا) عنها (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) قوىّ يعلو كلّ سحر ، وقيل : سحر ذاهب باطل ، أو سحر مستمرّ من الأزمان السّابقة (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) قال القمّىّ : كانوا يعملون برأيهم ويكذّبون أنبياءهم (وَكُلُّ أَمْرٍ) من التّكذيب والتّصديق والخير والشّرّ والطّاعة والمعصية (مُسْتَقِرٌّ) في الألواح العالية ، وفي الصّحف الّتى بأيدي الكرام البررة ، وفي ألواح النّفوس العاملة فلا يفوت شيء منّا ، فيكون هذا تهديدا لهم (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) اى أنباء الأنبياء (ع) وأممهم الماضية والوقائع الواقعة بهم ، أو من أنباء الآخرة والثّواب والعقاب فانّه وصل انموذجها إليهم في وجودهم وخبرها إليهم باخبار أنبيائهم (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) انزجار من المعاصي والتّكذيب (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) الى الغاية اى كاملة وهو بدل من مزدجر أو خبر مبتدء محذوف اى هذه المواعظ ، أو هذا القرآن أو ما جاءهم من الأنباء حكمة بالغة (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) يعنى إذا كان لا يغني من عذاب الله تلك الحكمة البالغة الّتى فيها مزدجر فاىّ شيء تغن النّذر ، أو فلا ـ تغني جميع النّذر عن عذاب الله ، أو ما تغني جميع النّذر عنهم ، أو إذا لم تغن النّذر في الدّنيا فما تغن النّذر يوم الاحتضار أو يوم القيامة ، والنّذر جمع النّذير ، أو مصدر بمعنى الإنذار (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) يعنى إذا كانوا لا ينفعهم النّذر فلا تجشّم في الدّعوة وتولّ عنهم يوم الاحتضار حتّى لا تساء بمشاهدة سوء أحوالهم ، أو تولّ عنهم إذا تعرّضوا لشفاعتك يوم القيامة أو تولّ عنهم يوم القيامة لانّهم يرون العذاب في ذلك اليوم (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) قرئ بإسقاط الياء اجراء للوصل مجرى الوقف ، وقرئ بإثبات الياء ، والدّاعى هو ملك الموت في النّفخة الاولى أو في النّفخة الثّانية ، وقيل : هو إسرافيل يدعوهم الى المحشر ، أو الملك الّذى يدعوهم الى النّار (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) منكر غير مأنوس فانّ جميع

١٢٨

أمور الآخرة منكر لغير أهلها غير معروف ، ويوم يدع الدّاعى ظرف لقوله : تولّ عنهم أو ما تغن النّذر أو مستقرّ ، أو يخرجون (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) حال مقدّم (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) الطّبيعيّة الدّنيويّة ، أو المثاليّة الاخرويّة (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) في وجه الأرض والمقصود انّهم من غاية الفزع كالجراد المنتشر لا انضباط لحركاتهم ولا جهة بل يدخل بعضهم في بعض من غير انضباط ، وقيل : التّشبيه بالجراد في الكثرة (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) اى مقبلين أو مسرعين أو ناظرين (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) نوحا فلا تكن في ضيق من تكذيبهم فانّه ديدن لأمثالهم (وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) انزجر شديدا من شيمتهم ورميهم ، أو انزجر بوعيدهم بالقتل (فَدَعا رَبَّهُ) بعد ما انزجر شديدا (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) منهم بالإهلاك (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ) وقرئ فتّحنا بالتّشديد (بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) منصبّ مستمرّ غير منقطع (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) تميز محوّل عن المفعول (فَالْتَقَى الْماءُ) ماء السّماء وماء الأرض مشتملا (عَلى أَمْرٍ) هي إهلاك القوم (قَدْ قُدِرَ) في عالم القدر أو على ميزان قدّره الله من التّساوى أو التّفاضل في المائين أو على ميزان قدّره الله من مقدار ارتفاع الماء على وجه الأرض (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) وهي المسامير من الحديد أو كلّ ما يشدّ به الشّيء أو خيوط من ليف يشدّ بها السّفن ، وقيل : هي صدر السّفينة تدفع بها الماء ، وقيل : هي أضلاع السّفينة وأصلها (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) بحافظيّتنا (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) وهو نوح فانّ نعمة السّفينة وجريها بحفظه تعالى ، ونقمة القوم وإهلاكهم كان جزاء لنوح وكفر قومه به (وَلَقَدْ تَرَكْناها) اى هذه الغفلة بقوم نوح أو السّفينة بعينها أو بخبرها في النّاس (آيَةً) يعتبر بها ، أو آية على قدرتنا وانتقامنا أو على صدق انبيائنا (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) معتبر بتلك الآية (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) وإنذاري أو هو جمع النّذير (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) اى للتّذكّر والاتّعاظ بان ذكرنا فيه الحكايات المبشّره والمنذرة والأمثال العديدة بألفاظ واضحة الدّلالة ، أو يسّرنا القرآن بان نزّلناه من مقامه العالي وأدخلناه في قوالب الألفاظ والحروف ليسهل إدراكه لكم (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ عادٌ) قوم عاد بعد قوم نوح (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا) جواب لسؤال مقدّر عن العذاب (عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) باردة (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) نحو ستّة الى مثله ، عن الصّادق (ع) : يوم الأربعاء يوم نحس لانّه اوّل يوم وآخر يوم من الايّام الّتى قال الله عزوجل (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً تَنْزِعُ النَّاسَ) روى انّهم كانوا يدخلون في الشّعاب ويتمسّك بعضهم ببعض فكانت الرّيح تنزعهم وتصرعهم موتى (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) منقطع من أصولها ، شبّههم باعجاز النّخل لانّهم بعد خروج أرواحهم تصير أبدانهم كأعجاز النّخل لانّ أرواحهم مثل أصول النّخل وغصونها (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) كرّر هذه الكلمة وسابقتها لانّ السّورة لتهديد الكفّار وترغيب المؤمنين ، والتّكرار في مقام التّهديد والتّرغيب مطلوب (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) من بعد عاد (بِالنُّذُرِ فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) على سبيل الإنكار والاستغراب (إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) جمع السّعير ، أو بمعنى الجنون ، أو جمع

١٢٩

السّعر ككتف بمعنى المجنون ، وعطف على في ضلال (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ) أو الكتاب أو الوحي أو المواعظ أو احكام الرّسالة (عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) وفينا من هو احقّ منه بذلك (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) يعنى ليس ينزل عليه الوحي من بيننا بل هو كذّاب اشر حمله بطره على طلب الرّياسة والتّرفع (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) وقرئ ستعلمون بالخطاب التفاتا منه تعالى من الغيبة الى الخطاب أو حكاية لقول صالح لهم (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) جواب سؤال مقدّر (فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ) ناظرا لحالهم الى م ترجع (وَاصْطَبِرْ) وبالغ في الصّبر (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ) اى كلّ نوبة (مُحْتَضَرٌ) لصاحبه لا يزاحمهم النّاقة في نوبتهم ولا يزاحمونها في نوبتها (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى) السّيف لقتلها ، أو تعاطى النّاقة لقتلها ، أو تعاطى القوس ، أو قام على أطراف أصابع الرّجلين ومدّ يديه لقتلها (فَعَقَرَ) قيل : كمن لها فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقيها ، ثمّ شدّ عليها بالسّيف وكان يقال له : أحمر ثمود وأحيمر ثمود على التّصغير ويضرب به المثل في الشّؤم (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) هي صيحة جبرئيل ، أو صيحة الصّاعقة وقد سبق في سورة الأعراف وغيرها قصّتهم ورفع الاختلاف بين ما ورد في إهلاكهم من الصّيحة والزّلزلة (فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) المحتظر الّذى يعمل الحظيرة لإبله وغنمه ، وهشيمه ما يجعله المحتظر حول حظيرته من خشب وحطب وغيره (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) بالرّسل أو بالإنذار (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) راميا للحصباء عليهم وكان الحاصب جبرئيل بعد ما رفع قراهم ، وقيل : المراد بالحاصب الرّيح الّتى كانت تحصبهم بالحجارة ، أو المراد الحاصب الّذى حصبهم بحجارة من سجّيل مسوّمة عند ربّك للمسرفين وهم الملائكة (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) في وقت سحر متعلّق بنجّيناهم أو بحاصبا (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) نجاة نعمة أو لنعمة ، أو أنعمنا عليهم نعمة من عندنا (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) نعمنا بصرفها فيما خلقت لأجلها ، أو بتعظيمنا في أنعامنا (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ) لوط (بَطْشَتَنا) سطوتنا بالعذاب (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) تجادلوا في النّذر ، أو شكّوا فيه ، أو تجادلوا ، أو شكّوا بسبب النّذر (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) مسخناها وسوّيناها بسائر الوجه ، أو طمسنا نورها ، ورد انّه أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم ، وورد أيضا انّه أخذ كفّا من تراب فضرب بها وجوههم فعمي أهل المدينة كلّهم ، وقد سبق قصّتهم في سورة الأعراف وهود والحجر (فَذُوقُوا) اى فقلنا لهم ذوقوا (عَذابِي وَنُذُرِ) اى ما أنذرتم به (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) فيهم غير زائل عنهم (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) اى فرعون وآله لكن اكتفى بذكرهم لانّ استحقاق قوم لعذاب أو ثواب بإضافتهم الى شخص يدلّ على استحقاق ذلك الشّخص بالطّريق الاولى (كَذَّبُوا بِآياتِنا) التّسع (كُلِّها) أو بآياتنا الآفاقيّة والانفسيّة كلّها ، أو بآياتنا العظمى كلّها وهم الرّسل (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ أَكُفَّارُكُمْ) يا قريش أو يا أهل مكّه أو يا ايّها العرب أو يا ايّها النّاس (خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) الهالكين الماضين حتّى لا نعذّبهم ولا نهلكهم مثلهم وليس كذلك (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) بل اثبت لهم في الزّبر الاوّلين أو في الألواح العالية والكتب الّتى بأيدي الملائكة براءة من العذاب أو من الهلكة أو من النّار

١٣٠

(أَمْ يَقُولُونَ) التفات من الخطاب (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) بل أيعتمدون على جماعتهم وعصابتهم ويقولون : نحن متّفقون ومنتصرون ممّن أراد بنا سوء ولو كان المريد الله أو الملائكة ، ووحّد منتصرا لملاحظة لفظ جميع فانّه مفرد في اللّفظ كالكلّ وان كان معناه جمعا ، وللاشارة الى انّ الجماعة المتّفقة تكون كالرّجل الواحد ، أو الضّمير لكلّ واحد اى نحن جميع ومنتصر كلّ واحد منّا ممّن يخالفنا فكيف بجماعتنا (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) ان كانوا متّكلين على جماعتهم والمراد انّهم سيهزمون في القيامة أو في الدّنيا يوم بدر (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ) المناسب لهذا الاضراب ان يكون المراد بهزيمتهم هزيمتهم في الدّنيا يعنى انّهم يهزمون في الدّنيا بل السّاعة اى القيامة أو ساعة الموت (مَوْعِدُهُمْ) والّذى لهم في الدّنيا من العذاب أنموذج من عذاب السّاعة (وَالسَّاعَةُ أَدْهى) اشدّ (وَأَمَرُّ) بل شدّة السّاعة ومرارته لا تقاس بعذاب الدّنيا (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ) في الدّنيا (وَسُعُرٍ) في الآخرة أو كلاهما في الآخرة أو كلاهما في الدّنيا ، ويكون المراد بالسّعر الجنون (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) حال أو مستأنف بتقدير القول ، وسقر علم لجهنّم ، وعن الصّادق (ع) انّ في جهنّم لواديا للمتكبّرين يقال له سقر شكا الى الله شدّة حرّه وسأله ان يأذن له ان يتنفّس ، فتنفّس فأحرق جهنّم (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) بقدر مخصوص من أمد بقائه واجله وكيفيّة بقائه ، أو بسبب عالم القدر ، أو بتقديرنا له في عالم القدر ، عن الصّادق (ع) انّ القدريّة مجوس هذه الامّة وهم الّذين أرادوا ان يصفوا الله بعد له فأخرجوه من سلطانه ، وفيهم نزلت هذه الآيات يوم يسحبون (الى قوله) بقدر (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) رفع توهّم نشأ من قوله كلّ شيء خلقناه بقدر فانّه يتوهّم متوهّم انّه إذا كان كلّ شيء خلقه بقدر لم يتيسّر ذلك الّا بعمّال عديدة يكون تحت كلّ عامل عدّة عامل ، فقال : ما أمرنا في خلق العالم وجميع ما فيه الّا واحدة اى فعلة واحدة ، أو كلمة واحدة ، أو نشأ من قوله بل السّاعة موعدهم فانّه يتوهّم انّه إذا كان السّاعة موعدهم فليكن أمد السّاعة بقدر أمد الدّنيا بل أطول منه فقال : وما أمرنا في الإتيان بالسّاعة وجمع الخلائق فيها ومحاسبتهم الّا واحدة (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) في اليسر والسّرعة (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أمثالكم من منكري الرّسالة وتوحيد الله (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) متّعظ بتذكّر أحوالهم (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) اى الألواح العالية أو صحف الأعمال فلا يفوت شيء منها ومنّا (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) من الذّوات والأعمال والاعراض (مُسْتَطَرٌ) قبل خلقته في الأقلام العالية واللّوح المحفوظ والألواح القدريّة ، أو بعد خلقته في صحائف نفوسهم وفي صحف الكرام الكاتبين (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) النّهر بالسّكون والنّهر بالتّحريك مجرى الماء (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) الصّدق على الإطلاق هو استقامة الإنسان في جميع ما يقتضيه انسانيّته وتمكّنه فيه من الخروج عن جميع الحدود والدّخول في مقام الإطلاق والاتّصاف بجميع الصّفات الالهيّة ، والتّمكّن في كلّ ذلك ، واضافة المقعد الى الصّدق امّا من قبيل اضافة السّبب الى المسبّب ، أو المسبّب الى السّبب ، أو من قبيل لجين الماء ، أو بيانيّة ، فانّ الصّدق هو محلّ السّكون والاطمينان للإنسان ، وتنكير الصّدق للتّفخيم وفي مقعد صدق امّا خبر بعد خبر ، أو خبر ابتداء وفي جنّات حال أو متعلّق بقوله في جنّات (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).

١٣١

سورة الرّحمن

مكّيّة وقيل : غير آية يسأله من في السّموات والأرض ، وقيل : مدنيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الرَّحْمنُ) اقتضاء جعله آية برأسه ان يكون خبرا لمبتدء محذوف وقد مضى في اوّل الفاتحة انّ الرّحمن اسم خاصّ بصفة عامّة ، وانّ الرّحمة الرّحمانيّة تقتضي وجود الأشياء بكمالاته الاوّليّة وبقاءها ، وانّ الرّحمة الرّحيميّة تقتضي الكمالات الثّانية اللّاحقة للأشياء الصّاعدة ، ولمّا كان تعليم القرآن الّذى هو افاضة الوجود الّذى هو إضافته الاشراقيّة على جميع الموجودات ، وخلق الإنسان وتعليمه البيان الّذى هو تمام ذاته بالنّطق الّذى هو فصله الأخير من اقتضاء صفته الرّحمانيّة أتى في اوّل هذه السّورة بالرّحمن (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) خبر للرّحمن ، أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر (خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) تعداد لأصول النّعم الّتى هي إيجاد كلّ موجود وإيجاد كمالاته الاوّليّة وذكر خلق الإنسان بعد تعليم القرآن من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ للاهتمام به ، وذكر تعليم البيان الّذى هو الكمال الاوّل للإنسان المندرج في خلق الإنسان للامتنان والاهتمام بهذا البيان فانّ الإنسان غاية اخيرة لخلق العالم ، والبيان وان كان كمالا اوّليّا للإنسان لكنّه باعتبار إطلاقه غاية اخيرة للإنسان (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) اقتضاء جواز حمل السّابقة والآتية على الرّحمن ان يكون هذه الجملة أيضا جائزة الحمل عليه فليقدّر بحسبان عنده يعنى انّ خلقهما وجريانهما ليس الّا بمقدار خاصّ وميزان مخصوص لا يتجاوز انه لانّ نظام العالم وانتظام معاش بنى آدم منوط بانتظامهما فكونهما بحسبان من النّعم كما انّ وجودهما من نعم الإنسان ، وإذا أريد بالشّمس والقمر روح الإنسان ونفسه فكونهما من نعمه بل اجلّ نعمائه واضح (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) النّجم النّبات الّذى لا ساق له ، والشّجر ما له ساق ، أو المراد بالنّجم كواكب السّماء ، وسجودهما عبارة عن انقيادهما للنّفس المربيّة المنمية لهما ، أو عبارة عن سجود جهتهما الملكوتيّة لله وتسبيحهما بألسنتهما الملكوتيّة الفصيحة ، أو المراد بالنّجم والشّجر قوى النّفس الانسانيّة من الحسّاسة والمحرّكة فانّها ساجدة للنّفس ، وسجدتها للنّفس سجدتها لله تعالى ـ شأنه والتّقدير هاهنا يسجدان لله (وَالسَّماءَ) اى سماء عالم الطّبع وسماء الأرواح وسماء روح الإنسان وسماء الولاية (رَفَعَها) بحيث لا يبلغ أبصاركم الى ما هي عليه (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) قد سبق انّه لا اختصاص للميزان بذي الكفّتين بل كلّما يوزن ويقاس به شيء آخر هو ميزان لذلك الشّيء فالميزان ذو الكفّتين والقبان والكيل والزّرع وخيوط البنّائين وغيرها من المحسوسات الّتى يقاس بها أشياء أخر موازين ، وشريعة كلّ نبىّ ميزان لامّته كما انّ ولاية كلّ ولىّ وخلافته لنبيّه ميزان لاتباعه في أعمالهم ، والنّفوس الانسانيّة والعقول المعاشيّة والعقول المعاديّة موازين للأعضاء والقوى والأعمال وتمييز الأشياء بأوصافها ، وميزان الكلّ هو الولاية بوجهها الى عالم الكثرات (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) ان تفسيريّة ولا ناهية أو مصدريّة ، ولا ناهية أو نافية وان كانت نافية فالخبر يكون في معنى النّهى ليصحّ عطف الإنشاء عليه ، والمراد بالطّغيان في الميزان التّجاوز عن حدّ الاعتدال الى الإفراط كما انّ قوله تعالى (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ)

١٣٢

امر بالاعتدال ، وقوله تعالى (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) نهى عن التّفريط فيه ، نهى تعالى عن الزّيادة على الوزن سواء كان للوزّان أو عليه ، كما نهى عن البخس سواء كان له أو عليه ، وامر بإقامة الوزن ، وإقامته عبارة عن تسوية طرفي الميزان ، وبالقسط تأكيد لهذا المعنى ، أو المراد بإقامة الوزن تسوية طرفي الميزان باليد ، وتقييدها بالقسط للاشارة الى تسوية القلب في ذلك (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) بسطها أو هو مقابل رفع السّماء ذكر بسط الأرض لانّ إتمام نعمة رفع السّماء ببسط الأرض (فِيها فاكِهَةٌ) الجملة حاليّة أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) الأكمام هي غلف ثمر النّخل ، وقيل : المراد بها طلع النّخل ، وقيل : ليف النّخل (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ) اى الورق أو التّبن (وَالرَّيْحانُ) قرئ بالرّفع عطفا على الحبّ ، وبالجرّ عطفا على العصف ، والرّيحان نبت معروف طيّب ـ الرّائحة ، أو مطلق النّبت الطّيّب الرّائحة ، أو مطلق الرّزق ، إذا عرفتما ايّها الثّقلان هذه الآلاء الّتى لا يقدر على إيتاء مثلها أحد سوى الله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) روى عن الرّضا (ع) انّه قال : الرّحمن علّم القرآن ، الله علّم القرآن قبل خلق الإنسان وذلك أمير المؤمنين (ع) قيل علّمه البيان؟ ـ قال : علّمه بيان كلّ شيء يحتاج اليه النّاس ، قيل : الشّمس والقمر بحسبان؟ ـ قال : هما بعذاب ، قيل : الشّمس والقمر يعذّبان؟ ـ قال : سألت عن شيء فأتقنه ، انّ الشّمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعان له ضوؤهما من نور عرشه وحرّهما من جهنّم فاذا كانت القيامة عاد الى العرش نورهما وعاد الى النّار حرّهما فلا يكون شمس ولا قمر وانّما عناهما لعنهما الله ، أو ليس قد روى النّاس انّ رسول الله (ص) قال: انّ الشّمس والقمر نوران في النّار؟ ـ قال : بلى ، قال : اما سمعت قول النّاس : فلان وفلان شمس هذه الامّة ونورها؟ فهما في النّار ، والله ما عنى غيرهما ، قيل : النّجم والشّجر يسجدان؟ ـ قال : النّجم رسول الله (ص) وقد سمّاه الله في غير موضع فقال : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) ، وقال وعلامات وبالنّجم هم يهتدون فالعلامات الأوصياء (ع) ، والنّجم رسول الله (ص) ، قيل : يسجدان؟ ـ قال : يعبدان ، وقوله والسّماء رفعها ووضع الميزان؟ ـ قال : السّماء رسول الله (ص) رفعه الله اليه ، والميزان أمير المؤمنين (ع) نصبه لخلقه ، قيل : الّا تطغوا في الميزان؟ ـ قال : لا تعصوا الامام ، قيل : وأقيموا الوزن بالقسط؟ ـ قال : أقيموا الامام بالعدل ، قيل : ولا تخسروا الميزان؟ ـ قال : لا تبخسوا الامام حقّه ولا تظلموه ، وقوله : والأرض وضعها للأنام؟ ـ قال : للنّاس فيها فاكهة ، والنّخل ذات الأكمام؟ ـ قال : يكبر ثمر النّخل في القمع ثمّ يطلع منه ، قوله والحبّ ذو العصف والرّيحان؟ ـ قال : الحبّ الحنطة والشّعير والحبوب ، والعصف التّبن والرّيحان ما يؤكل منه. وعن الصّادق (ع) في تفسير قوله تعالى : فباىّ آلاء ربّكما تكذّبان؟ ـ فباىّ النّعمتين تكفران؟ ـ بمحمّد (ص) أم بعلىّ (ع)؟ وفي خبر ، أبا لنّبىّ (ص) أم بالوصىّ (ع)؟! ولمّا كان التّكرار في مقام الامتنان بتعدّد النّعم مطلوبا كرّر قوله : فباىّ آلاء ربّكما تكذّبان تقريرا لها عند المقرّين بها ، وتوبيخا للمكذّبين بها ، ولذلك ورد عن النّبىّ (ص): انّه لمّا قرئ هذه السّورة على النّاس وسكتوا ولم يقولوا شيئا ، قال : الجنّ أحسن جوابا منكم لمّا قرأت عليهم فباىّ آلاء ربّكما تكذّبان؟ ـ قالوا : لا بشيء من آلاء ربّنا نكذّب (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ) الصّلصال الطّين الطّيّب خلط بالرّمل ، أو الطّين ما لم يجعل خزفا (كَالْفَخَّارِ) الفخّارة الجرّة جمعها الفخّار ، أو هو الخزف (وَخَلَقَ الْجَانَ) اسم جمع للجنّ أو هو ابو الجنّ (مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) اى نار خالصة من الدّخان وقد سبق في سورة البقرة كيفيّة خلق الجنّ من النّار (فَبِأَيِّ آلاءِ

١٣٣

رَبِّكُما تُكَذِّبانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) المراد بالمشرقين مشرق الشّمس في الشّتاء ومشرقها في الصّيف ، وهكذا مغرباها ، سئل أمير المؤمنين (ع) عن هذه الآية ، فقال : انّ مشرق الشّتاء على حدّة ومشرق الصّيف على حدّة ، اما تعرف ذلك من قرب الشّمس وبعدها؟! قال : وامّا قوله ربّ المشارق والمغارب فانّ لها ثلاث مائة وستّين برجا تطلع كلّ يوم من برج وتغيب في آخر فلا تعود اليه الّا من قابل في ذلك اليوم ، وعن الصّادق (ع): انّ المشرقين رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) ، والمغربين الحسن والحسين (ع) قال : وفي أمثالهما يجرى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أرسل البحر العذب الفرات والبحر الملح الأجاج ، أو البحر الفاعلىّ والبحر القابلىّ ومظهرهما ، ومظهرهما علىّ (ع) وفاطمة (ع) (يَلْتَقِيانِ) يتلاقيان من غير امتزاج (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) من قدرة الله ، أو من عالم المثال ، أو من محمّد (ص) (لا يَبْغِيانِ) لا يغلب أحدهما الاخر ولا يبطل خاصيّته وقد مرّ في سورة الفرقان بيان اجمالىّ للبحرين (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) روى عن الصّادق (ع) انّه قال : علىّ (ع) وفاطمة (ع) بحران عميقان لا يبغى أحدهما على صاحبه ، يخرج منهما اللّؤلؤ والمرجان ، قال : الحسن والحسين (ع) وفي خبر والبرزخ محمّد (ص) ، وعن الصّادق (ع) عن علىّ (ع) يخرج منهما قال ، من ماء السّماء ومن ماء البحر فاذا أمطرت فتحت الاصداف أفواهها في البحر فيقع فيها من ماء المطر فتخلق اللّؤلؤة الصّغيرة من القطرة الصّغيرة ، واللّؤلؤة الكسيرة من القطرة الكبيرة (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ) قرئ بفتح الشّين بمعنى المرفوعات الشّرع ، وقرئ بكسر الشّين بمعنى الرّافعات الشّرع (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) كالجبال الطّوال (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْها) على الأرض (فانٍ) فانّ الكلّ بحسب الحدود والمهيّات فانيات الذّوات ، وبحسب الوجود الّذى هو وجه الله الباقي باقيات (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) فانّ الوجود لا يقبل الفناء والعدم أصلا ، والّا لزم اتّصاف الشّيء بضدّه وانّما يقبل الموجودات العدم والفناء بحسب حدودها لا بحسب وجوداتها ، ومن هاهنا يستنبط انّ الوجودات كلّها ظهور الحقّ الاوّل ، وبحسب حقيقتها غير قابلة للفناء ، ويستنبط انّ كلّها متقوّم بوجود الحقّ الواجب تعالى شأنه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فانّه الغنىّ على الإطلاق والكلّ محتاجون اليه سائلون عنه بألسنة فقرهم واستعدادهم وحالهم كما انّ الأكثر سائلون عنه بالسنة أقوالهم (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) مستأنف جواب لسؤال مقدّر في مقام التّعليل يعنى ليس الكامل في كماله مستغنيا عنه وعن سؤاله كما انّه ليس النّاقص مستغنيا عنه لانّه كلّ يوم في شأن فالكامل ان كان كماله بشأن أو شؤن منه لم يكن كاملا بجميع شؤنه فليكن سائلا منه شؤنه الاخر (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) لمّا دلّ قوله : كلّ يوم هو في شأن على انّ له بحسب مراتب العالم طولا وعرضا شؤنا ، وانّ له بحسب مراتب الإنسان طولا وعرضا شؤنا ، وله بحسب كلّ من القوى الدّرّاكة والمحرّكة شأنا بل شؤنا جاز ان يتوهّم متوهّم انّه إذا كان له شؤن لم يكن له فراغ بحساب الخلائق وجزائهم بالثّواب والعقاب فردّ ذلك التّوهّم بانّ تلك الشّؤن انّما هي بحسب مراتب الكثرات وسنفرغ اى سنظهر بشأن التّوحيد في القيامة فلم يكن لنا شأن سوى حساب الخلائق وانتهائهم الى جزائهم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) حال من فاعل سنفرغ أو من مفعوله بتقدير القول

١٣٤

اى قائلين أو مقولا فيكم أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول مثل الوجه السّابق كأنّه قيل : ما يقال لهم وقت الفراغ لهم؟ ـ أو نداء من الله للثّقلين من غير تقدير القول وخطاب لهم في الدّنيا (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعنى ان استطعتم ان تخرجوا بالنّفوذ في اقطارهما من اقطارهما وتحتهما فارّين من الله أو فارّين من ملائكته أو خارجين من ملكه (فَانْفُذُوا) امر للتّعجيز (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) من الله وهو وليّه الّذى كان واسطة بينه وبين خلقه ، أو الّا بسلطان وهو السّكينة الّتى ينزلها الله على من يشاء من عباده فانّه إذا نزل تلك السّكينة وتمكّن سهل على الإنسان النّفوذ والخروج من أقطار السّماوات والأرض الى عالم الملكوت والجبروت كما نفذ محمّد (ص) وخرج من الملكوت والجبروت ، أو المعنى ان استطعتم ان تنفذوا بقوّتكم العلّامة وعقولكم الفكريّة من أقطار السّماوات والأرض لتعلموا ما وراءهما فانفذوا لا تنفذون الّا بسلطان هو ولىّ أمركم وهو سكينتكم النّازلة عليكم أو برهانكم الّذى تستنبطون ما غاب عنكم منه ، وروى انّه يحاط يوم القيامة على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثمّ ينادون : يا معشر الجنّ والانس (الى قوله) شواظ من نار ، وعن الصّادق (ع): إذا كان يوم القيامة جمع الله العباد في صعيد واحد وذلك انّه يوحى الى السّماء الدّنيا ، ان اهبطى بمن فيك ، فيهبط أهل السّماء الدّنيا بمثلي من في الأرض من الجنّ والانس والملائكة ، فلا يزالون كذلك حتّى يهبط أهل سبع سماوات فتصير الجنّ والانس في سبع سرادقات من الملائكة ثمّ ينادى مناد : يا معشر الجنّ والانس ان استطعتم (الآية) فينظرون فاذا قد أحاط بهم سبع اطواق من الملائكة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ) الشّواظ كغراب وكتاب وقرئ بهما لهب لا دخان فيه ، أو دخان النّار وحرّها ، وحرّ الشّمس ، والصّياح وشدّة الغلّة (١) (وَنُحاسٌ) النّحاس مثلّثة ، الصّفر المذاب أو المطلق ، وما سقط من شرار الصّفر أو الحديد إذا طرق وقيل : المراد به الدّخان ، وقيل : المراد به المهل ، وقرئ بالرّفع وبالجرّ (فَلا تَنْتَصِرانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) في العالم الصّغير فانّه في حال الاحتضار تنشقّ سماء الرّوح الحيوانيّة فتنفلق الرّوح الانسانيّة منها ، وإذا انشقّت السّماء الدّنيا في العالم الصّغير انشقّت السّماء الدّنيا في العالم الكبير في نظر من انشقّت سماؤه في عالمه (فَكانَتْ وَرْدَةً) اى كنور النّبات في انشقاقه وانفلاق الثّمر منه وعدم الاحتياج اليه أو صارت أحمر واصفر وابيض يعنى بألوان مختلفة كلون النّور ، أو كلون الفرس بين الكميت والأشقر فانّ الوردة واحدة الورد وهو من كلّ شجرة نورها ، وغلّب على الحوجم (٢) وفرس بين الكميت والأشقر والزّعفران (كَالدِّهانِ) الدّهان جمع الدّهن أو هو الأديم الأحمر أو هو عكر الزّيت فانّ الدّهن إذا صبّ بعضها فوق بعض اختلف ألوانها ودردىّ الزّيت أيضا تختلف ألوانه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وجواب إذا امّا قوله : فكانت وردة ، أو قوله فباىّ آلاء ربّكما ، أو قوله تعالى (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ) أو قوله يعرف المجرمون (عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) لما دهمه من الدّهشة والغشية والحيرة الّتى لا يبقى معها موقع سؤال عنه وانّما السّؤال في القيامة الكبرى أو لا يسئل عن ذنب المذنب انس ولا جانّ غيره بإرجاع الضّمير الى المذنب المستفاد بالملازمة لا الى الانس والجانّ ، أو يوم القيامة لا يسئل عن ذنبه انس ولا جانّ إذا كان من شيعة علىّ (ع) كما في الخبر عن الرّضا (ع) وامّا غيرهم فيسئلون ، أو لا يسئل عن ذنبه سؤال استفهام لانّ المجرم يعرف بسيماه بقرينة قوله يعرف المجرمون (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ)

__________________

(١) الغلّة العطش.

(٢) الحوجمة الوردة الحمراء والجمع الحوجم.

١٣٥

تعليل لقوله تعالى لا يسئل عن ذنبه على الوجه الأخير واستيناف كلام على سائر الوجوه ، والمراد بالسّيما العلامة الّتى عليهم من سواد الوجه وزرقة العيون ، أو ما يغشيهم من القتر والذّلّة (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) يعنى فتأخذهم الزّبانية فتجمع بين نواصيهم واقدامهم بالغلّ ثمّ يسحبون في النّار ، أو يأخذهم الزّبانية بنواصيهم واقدامهم فتسوقهم الى النّار ، عن الصّادق (ع) انّه سأل بعض أصحابه ما يقولون في هذا؟ ـ قال : يزعمون انّ الله تعالى يعرف المجرمين بسيماهم في القيامة فيأمر بهم فيؤخذون بنواصيهم واقدامهم فيلقون في النّار ، فقال : وكيف يحتاج تبارك وتعالى الى معرفة خلق انشأهم وهو خلقهم؟ ـ قال : وما ذاك؟ ـ قال : ذاك لو قام قائمنا أعطاه الله السّيما فيأمر بالكافرين فيؤخذ بنواصيهم واقدامهم ثمّ يخبط بالسّيف خبطا (١) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هذِهِ جَهَنَّمُ) حاليّة أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر اى يقال لهم : هذه جهنّم (الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) يعنى يطوفون بين ماء حارّ واقع بين جهنّم ، أو قد يطوفون بين جهنّم في النّار ، وقد يطوفون بين ماء حارّ غاية الحرارة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) اى مقام ربّه بالنّسبة الى نفسه وانّه في مقام يراه ويسمع قوله ، أو مقامه عند ربّه للحساب ، وعن الصّادق (ع) قال : من علم انّ الله يراه ويسمع ما يقول ويعلم ما يعمله من خير وشرّ فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الّذى خاف مقام ربّه ونهى النّفس عن الهوى (جَنَّتانِ) بحسب صفحتي النّفس العمّالة والعلّامة إحديهما وهي الّتى تكون بحسب صفحتها العمّالة جنّة النّعيم والاخرى جنّة الرّضوان وذلك انّه منع قوّته العمّالة عن القبيح وقوّته العلّامة عن الشّيطنة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ذَواتا أَفْنانٍ) جمع الفنّ بمعنى الأنواع من الأشجار والاثمار والنّعم ، أو جمع الفنن بمعنى الاغصان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) في كلّ من الجنّتين عينان أو في كلّ منهما عين (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ) من فواكه الجنّات (زَوْجانِ) اى الرّطب واليابس ، أو المعروف من الثّمار والغريب منها ، أو المراد ما فيه حظّ للعلّامة وما فيه حظّ للعمّالة ، فانّ ثمار الدّنيا يلتذّ بها الباصرة كما يلتذّ بها الذّائقة ، وفي الجنان يتميّز الكيفيّتان بمحالّها أو صنف مستقدر لمقام تقدّر الإنسان وصنف مجرّد لمقام تجرّده (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ) حال ممّن خاف مقام ربّه (عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها) جمع البطانة بمعنى الباطن (مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) شخين الحرير (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) اى الثّمار الّتى من شأنها ان تجنى دانية من الآكلين حتّى ينالها القائم والقاعد والمضطجع (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَ) اى في الجنان (قاصِراتُ الطَّرْفِ) على أزواجهنّ ، أو تقصر الأطراف عن النّظر اليهنّ لتلألئهنّ (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) الطّمث الافتضاض والمسّ والانس (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) في الصّفاء والشّفيف فانّه روى انّ المرأة من أهل الجنّة يرى مخّ ساقها من وراء سبعين حلّة من حرير (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) اى ما جزاء من أنعم عليه بالمعرفة اى معرفة الامام الّا الجنّة؟ ـ فانّ الإحسان اى صيرورة الإنسان ذا حسن لا يحصل للإنسان الّا بقبول ولاية علىّ (ع) ، وفي رواية : هل جزاء من قال : لا اله الّا الله الّا الجنّة؟! يعنى بشرطها وعلىّ (ع) من شروطها ، وفي خبر : هل جزاء من أنعمنا عليه بالتّوحيد الّا الجنّة؟ ـ يعنى

__________________

(١) الخبط كالضرب وزنا ومعنا.

١٣٦

بالولاية ، فانّ التّوحيد لا يحصل الّا بالولاية ، وفي خبر انّ هذه الآية جرت في الكافر والمؤمن والبرّ والفاجر من صنع اليه معروف فعليه ان يكافي به وليس المكافاة ان تصنع كما صنع حتّى تربّى ، فان صنعت كما صنع كان له الفضل بالابتداء (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) عطف على جنّتان اى لمن خاف مقام ربّه من دون الجنّتين الأوليين اللّتين له بحسب قوّته العمّالة الانسانيّة وقوّته العلّامة الانسانيّة جنّتان بحسب قوتيه العمّالة الجزئيّة والعلّامة الجزئيّة ، وبعبارة اخرى بحسب مرتبته الاخرى الّتى شارك بها سائر الحيوان وبعبارة اخرى هاتان لمقامه المقدارىّ وتانك لمقامه المجرّد ، أو حال أو عطف على مجموع لمن خاف مقام ربّه جنّتان يعنى انّ لله من غير تينك الجنّتين جنّتين لمن دون من خاف مقام ربّه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُدْهامَّتانِ) اى تضربان الى السّواد من خضرتهما فانّ حسن الخضرة ان تضرب الى السّواد أو من كثرة أغصان أشجارهما والتفافهما وكثرة أوراقها (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) نضخه رشّه ونضخ الماء اشتدّ فورانه ، والنّضاخ ككتّان الغزير من المطر ، قيل : تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور ، وقيل : تنضخان بأنواع الخيرات (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) لعدم جمعهما بين الصّنفين لم يقل : زوجان ، ولعدم اشتمالهما على فواكه المقام العالي لم يقل من كلّ فاكهة ، ولكثرة فوائد النّخل والرّمّان افرادهما بعد ذكر الفاكهة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ خَيْراتٌ) نساء خيرات الأخلاق من نساء الدّنيا أو من الحور (حِسانٌ) اى حسان الوجوه ، عن الصّادق (ع): هنّ صوالح المؤمنات العارفات ، وسئل عنه من قول الرّجل للرّجل : جزاك الله خيرا ، ما يعنى به؟ ـ قال : انّ خيرا نهر في الجنّة مخرجه من الكوثر ، والكوثر مخرجه من ساق العرش ، عليه منازل الأوصياء وشيعتهم ، على حافّتى ذلك النّهر جوار نابتات كلّما قلعت واحدة نبتت اخرى يسمّين باسم ذلك النّهر ، وذلك قوله تعالى فيهنّ خيرات حسان ، فاذا قال الرّجل لصاحبه : جزاك الله خيرا فانّما ، يعنى بذلك تلك المنازل الّتى اعدّها الله لصفوته وخيرته من خلقه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حُورٌ) بدل من خيرات بدل الكلّ على ان يكون المراد بالخيرات الحور ، أو بالحور معناه اللّغوىّ حتّى يشمل النّساء من الانس ، أو عطف على خيرات بحذف حرف العاطف من قبيل التّعداد (مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) اى مخدّرات في الخيام ، وقيل : مقصورات الأطراف على أزواجهنّ ، أو الانظار مقصورة عنهنّ ، وقيل : كلّ خيمة درّة مجوّفة فرسخ في فرسخ فيها اربعة آلاف مصراع من ذهب (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ) جمع الرّفرفة وقرئ رفارف (خُضْرٍ) قيل الرّفرف الفرش المرتفعة ، وقيل : رياض الجنّة ، وقيل : المجالس ، وقيل : الوسائد (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) قيل : هي الزّرابىّ ، وقيل : الدّيباج ، وقيل : البسط ، وقيل : كلّ ثوب موشّى هو عبقرىّ ، وقيل : العبقرىّ منسوب الى العبقر وهو اسم بلد الجنّ بزعم العرب ، وفي القاموس : عبقر موضع كثير الجنّ ، وقرية ثيابها في غاية الحسن ، وامرأة ، والعبقرىّ الكامل من كلّ شيء والسّيّد والّذى ليس فوقه شيء والشّديد وضرب من البسط (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) اسم الرّبّ مطلقا هو اسمه الأعظم الّذى هو علىّ بعلويّته (ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) وقرئ ذو الجلال بالرّفع وصفا للاسم فانّ اسمه مثله ذو الجلال الاجلّ من ان يوصف وذو الإكرام الاتمّ.

١٣٧

سورة الواقعة

مكّيّة كلّها ، وقيل : الّا آية : وتجعلون رزقكم انّكم تكذّبون ، وقيل : الّا قوله : ثلّة من الاوّلين

وقوله : أفبهذا الحديث أنتم مدهنون ، نزلت في سفره الى المدينة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) اى القيامة سمّيت واقعة لتحقّق وقوعها ، أو المراد بالواقعة الموت فانّه أيضا متحقّق الوقوع (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) كذب ، ليس ليس جوابا لاذا للزوم الفاء ان كان جوابا فالجملة حاليّة أو معترضة جواب لسؤال مقدّر ، أو هو جواب إذا بتقدير الفاء (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) خبر مبتدء محذوف بتقدير الفاء وجواب لاذا ، أو بدون تقدير الفاء ومستأنفة جواب لسؤال مقدّر ، وإذا لم تكن هذه الجملة وسابقتها جوابا لاذا فالجواب محذوف اى تخفض جماعة من الانس والجنّ وترفع جماعة أو تخفض فرقة من قوى النّفس وترفع اخرى ، أو جواب إذا قوله تعالى فأصحاب الميمنة (الى آخره) أو جواب إذا قوله تعالى (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) بتقدير الفاء ، أو إذا رجّت الأرض بدل من إذا وقعت الواقعة أو ظرف لوقعت ، أو لكاذبة أو لخافضة أو لرافعة ، والرّجّ التّحريك والتّحرّك والاهتزاز والحبس (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) البسّ السّوق اللّيّن وان يلّت السّويق أو الدّقيق أو الأقط المطحون بالسّمن أو الزّيت ، والفتّ ومنه البسيس للسّويق (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) الهباء الغبار الّذى ينبثّ في الجوّ ويرى في شعاع الشّمس (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً) اى أصنافا (ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) ما استفهاميّة للتّعجّب والجملة خبر أصحاب الميمنة بتقدير القول (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) والاستفهام والتّعجّب في الاولى للتّفخيم وفي الثّانية للتّحقير (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) هذه جملة مبتدء وخبر والمعنى السّابقون على أصحاب اليمين هم المعروفون بالسّبق ، أو السّابقون على أصحاب اليمين هم السّابقون على الإطلاق في جملة الكمالات ، أو السّابقون هم الأنبياء (ع) المعروفون بالسّبق ، أو السّابقون في الفضل هم السّابقون أصحاب اليمين ، أو السّابقون في الايمان هم السّابقون على الكلّ كقول الشّاعر : انا ابو النّجم وشعري شعري ، أو السّابقون الثّانى تأكيد للاوّل وقوله تعالى (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) خبره ، أو بدل منه وأولئك المقرّبون مبتدء وخبر ، أو موصوف وصفة فالوقف عليه ، أو الوقف على قوله تعالى (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) فانّه خبر أو خبر بعد خبر ، أو حال ، أو خبر مبتدء محذوف.

اعلم ، انّ بنى آدم لمّا كانوا جامعين بالقوّة لجميع انموذجات الموجودات وهذا معنى (عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) ، كانوا إذا صاروا بالفعل في شيء من الأشياء صاروا من جنس ذلك الشّيء بحسب الباطن ، ولذلك قيل : انّ الإنسان بحسب الصّورة نوع واحد وبحسب الباطن أنواع مختلفة ، وانّ العوالم بحسب الامّهات ثلاثة : عالم الأرواح الخبيثة ، وعالم الأرواح الطّيّبة ، والعالم الواقع بين العالمين ، وهو عالم الطّبائع ، والكيان ، وانّ تلك العوالم بمنزلة

١٣٨

شخص انسانىّ يمينه عالم الأرواح الطّيّبة ، وشماله عالم الأرواح الخبيثة ، والإنسان الواقع بين هذين العالمين ما لم يتمكّن في شيء من العالمين بل كان حاله باقية على البرزخيّة بينهما لا يحكم عليه بشيء من العالمين والخارج من البرزخيّة المتمكّن في الأرواح الخبيثة يحكم عليه بانّه منهم ، وانّه من أصحاب الشّمال وأصحاب المشئمة ، والمتمكّن في الأرواح الطّيّبة يحكم عليه بانّه منهم وانّه من أصحاب اليمين وأصحاب الميمنة ، والباقي على البرزخيّة لا يحكم عليه بشيء بل هو المرجى لأمر الله وهم أغلب النّاس ، والحائز لكمالات الإنسان السّابق على أصحاب اليمين وهم الأنبياء والأولياء (ع) هو السّابق وبعبارة اخرى الإنسان امّا قابل للولاية أو معرض عنها ، أو غير قابل وغير معرض ، والمعرض يحكم عليه بحسب اعراضه انّه من أصحاب الشّمال بشرط البقاء على اعراضه ، والقابل يحكم عليه بانّه من أصحاب اليمين ، وغيرهما مرجى لأمر الله ، والقابل للولاية امّا صار بالفعل في بعض الكمالات وهو السّابق ، أو لم يصر وهو من أصحاب اليمين ، وهذه القسمة بحسب كونهم في الدّنيا وفي الانظار القاصرة ، والّا فهم بعد الموت وطىّ البرزاخ امّا سابقون ، أو أصحاب اليمين ، أو أصحاب الشّمال ، وهكذا حالهم في الانظار البالغة في الدّنيا ، فانّ النّاظرين في العواقب يحكمون على الإنسان بكونه من أصحاب الشّمال ، أو أصحاب اليمين ، أو السّابقين ، فالاقسام اربعة في الدّنيا عند القاصرين وثلاثة في الآخرة وفي الدّنيا عند الكاملين في الانظار ، وقد مضى في سورة المائدة عند قوله تعالى (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) بيان للشّمال واليمين وانّهما بالنّسبة الى أنفسهما والى العالم تسمّيان باليمين والشّمال ، وامّا بالنّسبة الى الله تعالى فكلتا يديه يمين ، وعن النّبىّ (ص) انّه سئل عن هذه الآية فقال (ص) : قال لي جبرئيل : ذلك علىّ وشيعته هم السّابقون الى الجنّة المقرّبون من الله بكرامته ، وعن علىّ (ع) قال : والسّابقون السّابقون أولئك المقرّبون فيّ نزلت ، وعن الباقر (ع): ونحن السّابقون السّابقون ونحن الآخرون ، وقال الصّادق (ع) قال ابى لا ناس من الشّيعة ، أنتم شيعة الله ، وأنتم أنصار الله ، وأنتم السّابقون الاوّلون ، والسّابقون الآخرون ، والسّابقون في الدّنيا الى ولايتنا ، والسّابقون في الآخرة الى الجنّة (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) اى جمع كثير منهم من الاوّلين في الزّمان وهم من لدن آدم (ع) الى زمان الخاتم (ص) ، أو من الاوّلين في البيعة وقبول الولاية ، أو من الاوّلين في الرّتبة وهذا هو المقصود ، فانّ المقصود انّ كثيرا من السّابقين كانوا من الاوّلين في الرّتبة وقليل منهم كانوا من الآخرين في الرّتبة عرجوا بعد الموت بتصادم البرازخ الى مقام الاوّلين ولذلك لم يقل في أصحاب الشّمال ، ثلّة من الاوّلين مع انّ أصحاب الشّمال جمع كثير منهم من الاوّلين ، وقيل : ثلّة من الاوّلين من أمّة محمّد (ص) (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) منهم (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) وضن الشّيء ثنّى بعضه على بعض وضاعفه ، أو نضده ، أو نسجه (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) فانّ الرّاحة في الاتّكاء ، وأشرف المجالس التّقابل (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ) غلمان لانّهم الطف وأصفى وأشهى من جملة الخدم (مُخَلَّدُونَ) اى غير خارجين من الجنّات فانّهم لا يخرجون منها أبدا ، أو مخلّدون من حيث كونهم غلمانا بمعنى انّهم لا يغيّرهم طول المدّة عن حالهم كأبناء الدّنيا يغيّرهم الأزمان عن صفائهم وطراوتهم ، أو المقرّطون فانّ الخلد القرط (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ) الكوب بالضّمّ كوز لا عروة له أو لا خرطوم له ، والإبريق معرّب «آبريز» كوز له عروة وخرطوم (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) اى الخمر الجارية ، ومن معين وصف للثّلاثة ، أو وصف للأخير ، والكأس الإناء يشرب فيه أو ما دام الشّراب فيه ، مؤنّثة مهموزة ، والشّراب ، ويجوزان يراد بها هاهنا الإناء والشّراب (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) لا يأخذهم من تلك الكأس الصّداع كخمر الدّنيا (وَلا يُنْزِفُونَ) نزف كعني ذهب عقله ، ونزف البئر نزح ماءه ، ونزف البئر فنى ماؤه

١٣٩

لازم ومتعدّ ، ونزفت عبرته فنيت ، وقرئ ينزفون مبنيّا للمفعول ومبنيّا للفاعل (وَفاكِهَةٍ) اى يطوفون عليهم بفاكهة (مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ) قرئ بالجرّ عطفا على أكواب ، وبالرّفع عطفا على ولدان ، وقرئ بالنّصب مفعولا لمحذوف ، وقيل : في وجه اعرابها على القراءات الثّلاث وجوه أخر (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) في دار الدّنيا (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) نسبة الى الإثم كما يسمعون في الدّنيا (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) سلاما الثّانى تأكيد للاوّل ، وسلاما الاوّل مفعول لقيلا (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) اى على اىّ وصف أصحاب اليمين؟ (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) خضد الشّجر قطع شوكة (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) الطّلح شجر عظام ، والطّلع ، وشجر الموز ، وقيل : شجر له ظلّ بارد رطب ، وقيل : هو شجر من أحسن الأشجار منظرا ، وانّما ذكر هاتين الشّجرتين لانّ العرب تعرفهما وفيهما نفعهم (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) اى غير مقطوع (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) مصبوب اى دائم الجريان (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) ولشرافة جنّات السّابقين قال هناك فاكهة ممّا يتخيّرون (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) عالية ، أو مرفوع بعضها فوق بعض ، أو المراد بالفرش النّساء اى النّساء العاليات ولذلك عقّبه بقوله (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) اى انشأنا نساءهم إنشاء عجيبا اى شابّة طريّة حسناء بعد ما صرن هرمات كريهات ، أو انشأنا الحور العين من غير طروّ حالات عليهنّ بل انشأناهنّ بالغات طريّات (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً) جمع العروب المرءة المتحبّبة الى زوجها ، أو العاشقة له ، أو المتحبّبة اليه المظهرة له ذلك ، أو الضّحّاكة (أَتْراباً) جمع التّرب بالكسر من ولد معك (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) وقد فسّر اليمين بأمير المؤمنين (ع) ، وأصحاب اليمين بشيعته وذلك لانّه أصل عالم الأرواح (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) اى جماعة كثيرة من الاوّلين في الرّتبة من أصحاب اليمين وجماعة كثيرة من المتأخّرين عن أصحاب اليمين فانّ أغلب من كان مبتلى في البرازخ يلتحق بأصحاب اليمين بعد تطهيره في البرازخ ، وكثير ممّن دخل في الجحيم يخرج منها ويدخل في الجنّات ويلتحق بأصحاب اليمين بخلاف السّابقين فانّ الملتحق بهم من المتأخّرين قليل ، وبخلاف أصحاب الشّمال فانّهم لا يكونون الّا من المتأخّرين فانّ الاوّلين لا يلتحقون بالآخرين ولذلك لم يقل هناك ثلّة ، أو قليل من الاوّلين ، وقي : هاهنا ما قيل في قوله تعالى ثلّة من الاوّلين وقليل من الآخرين (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ) حرّ نار يدخل في المسامّ (وَحَمِيمٍ) ماء متناه في الحرارة (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) من دخان اسود أو جبل اسود في جهنّم (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) يلتذّ به النّظر وقد فسّر الشّمال بأعداء آل محمّد وأصحابهم أصحاب الشّمال (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) متنعّمين أترفته النّعمة أطغته أو نعّمته ، وأترف فلان اصرّ على البغي ، وأترفه تركه يصنع ما يشاء ولا يمنع من تنعّمه ، والمترف الجبّار (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) الحنث بالكسر الإثم والخلف في اليمين والميل من باطل الى حق أو عكسه (وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ) لهم (إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) يعنى قل لهم ذلك ردّا عليهم وتهديدا لهم (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) قد مضى بيان الزّقّوم في سورة الصّافّات

١٤٠