تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٤

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٤

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩١

(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) اى الى ربّها المضاف لظهور الولاية وصاحبها في ذلك اليوم ، أو الى ربّها المطلق لظهور آثاره اى الى آثاره ناظرة ، أو منتظرة الى ثواب ربّها ، روى عن أمير المؤمنين (ع) في حديث : ينتهى أولياء الله بعد ما يفرغ من الحساب الى نهر يسمّى الحيوان فيغتسلون فيه ويشربون منه فتبيضّ وجوههم إشراقا فيذهب كلّ قذى ووعث (١) ثمّ يؤمرون بدخول الجنّة ، فمن هذا المقام ينظرون الى ربّهم كيف يثيبهم؟ ـ قال : فذلك قوله تعالى : الى ربّها ناظرة وانّما يعنى بالنّظر اليه النّظر الى ثوابه تبارك وتعالى ، وفي الخبر والنّاظرة في بعض اللّغة هي المنتظرة الم تسمع الى قوله : فناظرة بم يرجع المرسلون اى منتظرة و (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) عابسة أو شديدة العبوس (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) الفاقرة الدّاهية ولعلّها كانت في الأصل بمعنى الكاسرة لفقرات الظّهر ثمّ غلب على الدّاهية لكسرها فقرات الظّهر المعنوىّ (كَلَّا) ردع عن اختيار الدّنيا أو ردع عن ظنّ النّجاة بصاحبي تلك الوجوه (إِذا بَلَغَتِ) النّفس (التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ) رافع لك عن هذه المهالك؟ قيل : ذلك على سبيل التّحسّر ، أو يقول الملائكة : من يرفعه بروحه ، ملائكة الرّحمة أو ملائكة العذاب؟ أو من يشفيه بأسماء الله تعالى من الرّقية وهو طلب الشّفاء بأسماء الله تعالى (وَظَنَ) اى علم لكن لمّا كان علوم النّفس في حكم الظّنون لمغايرتها لمعلوماتها وجواز انفكاك المعلومات عنها عبّر عنها بالظّنون كما ذكرنا سابقا مكرّرا (أَنَّهُ الْفِراقُ) من الدّنيا (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) كناية عن انتزاع الرّوح فانّه يلتفّ في كثير السّاقان حينئذ ، ولمّا كان آخر الدّنيا بمنزلة السّاق لها واوّل الآخرة أيضا بمنزلة السّاق لها جاز ان يقال : التفّت الدّنيا بالآخرة ، ولمّا كانوا يكنّون عن شدّة الأمر بالسّاق جاز ان يقال : التفّت شدّة هول الدّنيا بشدّة هول الآخرة (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) هذه الجملة جواب إذا بتقدير الفاء ، أو الجواب محذوف بقرينة المقام (فَلا صَدَّقَ) يجوز ان يكون هذه الجملة جوابا ويكون المعنى إذا بلغت التّراقى لا يكون له راحة لانّه لا صدّق (وَلا صَلَّى) اى لا صدّق الأنبياء والأولياء (ع) ولا صلّى (وَلكِنْ كَذَّبَ) الأنبياء والأولياء (ع) (وَتَوَلَّى) عن طاعة الله وطاعة خلفائه (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) يتبختر سواء كان أصله التّمطّى بالياء أو التّمطّط بالطّاء (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) اولى فعل ماض أصله أولاك الله ما تكرهه ، أو أولاك الله البعد من الخير أو الهلاك ، بمعنى ولّاك الله فحذف الفاعل والمفعول الثّانى وادخل اللّام الزّائدة على المفعول الاوّل للتّأكيد ، أو بمعنى قرّب الله منك الهلاك أو قرب منك الهلاك ، أو بمعنى أرجعك الله الى الهلاك من ، آل يئول مقلوبا ، أو بمعنى أهلك الله من الويل أو هو افعل التّفضيل بمعنى أحرى اى أحرى لك النّار أو الهلاك أو اللّعن أو بمعنى أقرب فحذف المبتدء أو هو افعل من الويل بعد القلب بمعنى ويل لك أو شدّة الويل لك ، أو هو فعلى من آل يئول بمعنى مرجعك النّار وعلى اىّ تقدير هو كلمة تهديد صار كالامثال لا يغيّر ولا يذكر المحذوف المقدّر ، قيل : أخذ رسول الله (ص) بيد ابى جهل ثمّ قال له ذلك فقال : باىّ شيء تهدّدنى؟ لا تستطيع أنت ولا ربّك ان تفعلا بى شيئا وانّى لا عزّ أهل هذا الوادي فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول الله (ص) ، وقال القمّىّ : انّ رسول الله (ص) دعا الى بيعة علىّ (ع) يوم غدير خمّ فلمّا بلّغ وأخبرهم في علىّ (ع) ما أراد ان يخبرهم رجعوا النّاس فاتّكى معاوية على مغيرة بن شعبة وابى موسى الأشعري ثمّ اقبل يتمطّى نحو اهله ويقول : ما نقرّ لعلىّ (ع) بالولاية أبدا ولا نصدّق محمّدا (ص) مقالته فأنزل الله عزوجل : فلا صدّق ولا صلّى (الآيات)

__________________

(١) الوعث المشقّة ، ووعثاء السفر مشقّته ، والوعث ، المكان السّهل الذي تعيث فيه الاقدام ويشقّ على من يمشى فيه ، واوعث القوم اى وقفوا في الوعث.

٢٢١

(ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) التّكرير لمحض التّأكيد أو الاوّل وتأكيده للدّنيا ، والثّانى وتأكيده للآخرة (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) مهملا (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) استفهام تقريرىّ في مقام التّعليل لانكار هذا الحسبان (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) اى فسوّاه ذكرا بالغا وأنثى بالغة ، أو فسوّاه بحسب أعضائه بمعنى فكسونا العظام لحما (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) يعنى انّ الله جعل لهذا البنيان ولمادّة الإنسان تبدّلات من اخسّ الأحوال الى أشرفها ، فاذا صار إنسانا بالغا ذكرا أو أنثى لا يهمله بل إذا استكمل في جهة روحانيّته بالموت الاختيارىّ أو الاضطرارىّ صار اشدّ اهتماما به من حاله الخسيسة الّتى كان فيها نطفة قذرة أو علقة أو مضغة أو جنينا (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) والحال انّ الموت هو سبب حياته الحقيقيّة ، عن الرّضا (ع): انّه إذا قرأ هذه السّورة قال عند فراغها : سبحانك اللهمّ بلى.

سورة الدّهر

وتسمّى سورة الإنسان وسورة الأبرار وسورة هل أتى ، مكّيّة كلّها ، وقيل : مدنيّة كلّها ، وقيل :

مدنيّة الّا قوله : ولا تطع منهم آثما أو كفورا ، وقيل : انّ قوله : انّا نحن نزّلنا القرآن تنزيلا

(الى آخر السّورة) مكّىّ والباقي مدنىّ احدى وثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) استفهام تقريرىّ والمعنى قد أتى ولذا فسّر به (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) في الخلق يعنى كان مقدّرا مقدورا ولم يكن مكوّنا مخلوقا (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : فكيف خلق الإنسان؟ ـ فقال : انّا خلقناه (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) مشج من باب نصر خلط وشيء مشيج كقتيل وسبب وكتف مخلوط ، والجمع أمشاج ، كون النّطفة أمشاجا امّا لاختلاط الاخلاط أو العناصر أو استعدادات الأعضاء والقوى فيها ، أو لاختلاط المائين ماء الرّجل وماء المرأة (نَبْتَلِيهِ) نستخلصه من الفضول وممّا لا يليق به ونعطيه ونتفضّل عليه بما يليق بشأنه (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) يعنى على أشرف أحوال الحيوان (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : ما فعلت به بعد ذلك؟ وما تفعل به؟ ـ فقال : انّا هديناه السّبيل بحسب فطرته فانّ الكلّ بحسب الفطرة يعرف الخير والشّرّ الانسانيّين وبحسب التّكليف بتوسّط الأنبياء والأولياء (ع) (إِمَّا شاكِراً) اى عاملا بما عرفناه (وَإِمَّا كَفُوراً) تاركا لما عرفناه (إِنَّا أَعْتَدْنا) جواب لسؤال مقدّر عن حال الكفور (لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ) بها يقادون عنفا (وَأَغْلالاً) بها يقيّدون (وَسَعِيراً) بها يحترقون (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ) جواب لسؤال مقدّر عن حال الشّاكرين (مِنْ كَأْسٍ) من خمر أو من كأس فيها خمر (كانَ مِزاجُها كافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِها) اى منها (عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها) يجرونها باىّ نحو والى اىّ مكان شاؤا ، أو يخرجون

٢٢٢

ماؤها من اىّ مكان شاؤا (تَفْجِيراً) لا يعرف لعظمته.

اعلم ، انّ للإنسان حالات ومراتب ودرجات فانّه في اولى مراتبه جماد في تطوّراته ، وفي ثانية مراتبه نبات في تفنّناته ، وفي ثالثة مراتبه حيوان في تبدّلاته وتقلّباته ، وفي رابعة مراتبه إنسان في كثرة نشآته ، ولتلك المراتب ميول واقتضاءات وشهوات وغضبات ومحبّات واشتياقات وعزمات وإرادات وحركات وسكنات ، فاذا بلغ الإنسان مبلغ الرّجال والنّساء فامّا ان تكون حركاته وسكناته بحكم ميوله الجماديّة أو اقتضاءاته النّباتيّة أو شهواته وغضباته الحيوانيّة ، أو إدراكاته وحيله الشّيطانيّة ، وامّا ان تكون بحكم عقله الانسانىّ فان كانت من القسم الاوّل كانت جملة حركاته وسكناته وعزماته وإراداته من حيث انجرارها الى العمل السّيّئ والاسوء سلاسل تجرّه في الدّنيا الى أسفل النّفس الّتى هي صورة جحيم الآخرة والى العمل القبيح الّذى هو من آثار لهبات الجحيم ، وتلك السّلاسل في الدّنيا مستورة عن الانظار الحسّيّة وان كانت مشهودة بالانظار الملكوتيّة لأهلها ، لكن في الآخرة تصير مشهودة ظاهرة بناء على تجسّم الأعمال وموجبة لسلاسل اخرى اخرويّة بناء على جزاء الأعمال في الآخرة بالجزاء المناسب لها ، وكانت كلّها من حيث اكتساب النّفس منها سوأة وثقلا أغلالا لها مستورة عن الانظار الدّنيويّة مشهودة للانظار الاخرويّة ، وان كانت من القسم الأخير صارت سببا لإطلاقه من الأغلال وخلاصه من السّلاسل وسببا لخروجه من هاوية النّفس وعروجه على مراقى الانسانيّة الى أعلى عليّين وقرب ربّه ربّ العالمين وبعبارة اخرى كلّما يفعله الإنسان بعد بلوغه امّا ان يكون بأمر آمر الهىّ من غير شراكة لنفسه وأمرها فيه أو يكون بشراكة لنفسه فيه وامّا ان يكون بأمر نفسه من غير شراكة لربّه وامر ربّه فيه ، فان كان من القسم الاوّل صار سببا لإطلاقه ونجاته ويكون ممّا يتقرّب به قرب الفرائض ، وان كان من القسم الثّانى فامّا ان يكون شراكة النّفس في الفعل لأمر الله من حيث توجّهها الى الله واعانتها لامتثال امر الله وقربها من الله ، أو من حيث انصرافها من الله وتوجّهها الى حظوظها ومآربها ، والاوّل كالاوّل في صيرورته سببا لإطلاق النّفس ونجاتها ويكون ممّا يتقرّب به قرب النّوافل ، والثّانى يكون ممّا يكون العامل فيه مشركا في العبادة ويكون مردودا اليه وممّا يتركه الله تعالى لشريكه لكونه اغنى الشّركاء ويترك لشريكه كلّ عمل يعمل بشراكة غيره ، ويكون سلسلة وغلّا لنفسه ، وان كان من القسم الثّالث لا يكون الّا غلّا وسلسلة وإليها أشار تعالى شأنه بقوله : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) فانّ أصحاب اليمين اى الّذين قبلوا ولاية علىّ (ع) بالبيعة الخاصّة الولويّة هم الّذين توجّهوا الى الله وابتغوا مرضاته ولقائه ، فان كانوا في حال الحضور وكان ولىّ أمرهم ظاهرا عليهم وفاعلا فعلهم بآلات أعضائهم من دون مدخليّة لأنفسهم في فعلهم كان فعلهم من القسم الاوّل ، وان لم يكن لهم حالة الحضور لكن كان حبّهم لربّهم ولولىّ أمرهم بحيث لم يبق لهم التفات الى أنفسهم وحظوظها كان فعلهم أيضا من القسم الاوّل ، وان لم يبلغ حبّهم الى مرتبة لم يبق لهم التفات الى أنفسهم وحظوظها بل كانت أنفسهم أيضا باعثة على أعمالهم ولكن كانت حظوظ أنفسهم في امتثال امر الله وابتغاء مرضاته كان من القسم الثّانى الملحق بالاوّل ، وان كانوا في أفعالهم غافلين من ربّهم وامره مبتغين لحظوظ أنفسهم حظوظها السّفليّة لم يكونوا حينئذ من أصحاب اليمين في تلك الأفعال فانّ قيد الحيثيّة معتبرة في أمثال المقام ، وكانوا مرهونين بأعمالهم مثل سائر النّاس ولم يكونوا ينتفعون ببيعتهم في تلك الأعمال لكن إذا لم يقطعوا حبل الولاية ولم يفسدوا بذر الايمان انتفعوا ببيعتهم عند الموت وبعده ، وقد أشار المولوىّ قدس‌سره الى السّلاسل والأغلال المستورة بقوله :

خلق ديوانند شهوت سلسلة

مى كشد شأن سوى دكّان وغله

هست اين زنجير از خوف ووله

تو مبين اين خلق را بى سلسلة

ميكشاندشان بسوى نيك وبد

گفت حق في جيدها حبل المسد

قد جعلنا الحبل في أعناقهم

واتخذنا الحبل من أخلاقهم

٢٢٣

سورة الدهر

واعلم ، أيضا انّ الشّاربين للخمر الخبيثة المحرّمة لهم حالات وبحسب اختلافهم في الحالات يختلف شربهم للخمر الصّوريّة فانّه قد يغلب الحرارة على مزاجهم ، وقد يغلب البرودة ، وقد يعتدل أمزجتهم ، وبحسب اختلاف تلك الأحوال قد يمزجون بشرابهم الكافور وقد يمزجون الزّنجبيل وقد يشربونها خالصا وقد يشربون شرابا خالصا ليذهب بأذى الخمر وكسالة سكره ، ويسمّى بالطّهور والغسّال ، وللسّالكين الى الله أيضا أنواع من الشّراب المعنوىّ الرّوحانىّ فانّه قد يغلب عليهم برد السّلوك فيسقيهم ربّهم شرابا زنجبيليّا يسخّنهم ويزيد في حرارة شوقهم وطلبهم ، وقد يغلب عليهم حرارة الشّوق فيسقيهم ربّهم شرابا كافوريّا ليعتدل سخونة اشتياقهم ببرد كافور السّلوك ، وقد يسقيهم شرابا خالصا غير ممزوج إذا كانوا في السّلوك والجذب معتدلين ، وقد يسقيهم شرابا طهورا يغسّلهم من نسبة الأموال والأفعال والصّفات الى أنفسهم بل من انانيّاتهم وهذه الأحوال تطرو عليهم في الآخرة وفي الجنّات (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) النّذر ما أوجبه الإنسان على نفسه بشرط أو بغير شرط ، والمراد به العهد الّذى كان في ضمن البيعة العامّة أو الخاصّة والوفاء بهذا النّذر يستلزم الوفاء بجميع العهود والشّروط (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) اى متفرّقا غاية التّفرّق وفي الخبر كلوحا عابسا ، وقيل : عظيما (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) بل أطعمناكم ابتغاء لمرضاة الله (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً) كريها يعبس فيه الوجوه (قَمْطَرِيراً) شديد العبوس قد روى كثيرا من العامّة والخاصّة انّ الآيات الى قوله : وكان سعيكم مشكورا نزلت في علىّ (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) وجارية لهم تسمّى فضّة ، والاخبار الواردة مختلفة بحسب الألفاظ مجمل مضمون أكثرها واشهرها انّه مرض الحسن (ع) والحسين (ع) فنذر هو وفاطمة (ع) وفضّة صوم ثلاثة ايّام ان شفاهما الله فبرئا واستقرض علىّ (ع) ثلاثة أصوع من الشّعير من يهودىّ أو آجر نفسه يهوديّا ليغزل له صوفا وأخذ ثلاثة أصوع من الشّعير فصاموا وطحنت فاطمة (ع) صاعا منها واختبزته وصلّى علىّ (ع) المغرب وقرّبته إليهم فأتاهم مسكين يدعو لهم وسألهم ، فأعطوه ولم يذوقوا الّا الماء ، فلمّا كان اليوم الثّانى اختبزت صاعا آخر منها وقرّبته وقت الإفطار إليهم ، فاذا يتيم بالباب يستطعم ، فأعطوه ولم يذوقوا الّا الماء ، فلمّا كان اليوم الثّالث جاء أسير يستطعم ، فأعطوه ولم يذوقوا الّا الماء ، فلمّا كان اليوم الرّابع وقد قضوا نذورهم أتى علىّ (ع) ومعه الحسن (ع) والحسين (ع) الى النّبىّ (ص) وبهما ضعف فبكى رسول الله (ص) ونزل جبرئيل بسورة هل أتى ، وفي بعض الاخبار فرآهم النّبىّ (ص) جياعا فنزل جبرئيل ومعه صحفة من الذّهب مرصّعة بالدّرّ والياقوت مملوّة من الثّريد وعراق (١) يفوح منها رائحة المسك والكافور فجلسوا وأكلوا حتّى شبعوا ولم ينقص منها لقمة واحدة ، وخرج الحسن (ع) والحسين (ع) ومع الحسين قطعة عراق فنادته يهوديّة : يا أهل البيت الجوع من أين لكم هذه؟ أطعمنيها ، فمدّ يده الحسين (ع) ليطعمها فهبط جبرئيل وأخذها من يده ورفع الصحفة الى السّماء ، فقال (ص) : لو لا ما أراد الحسين (ع) من إطعام الجارية تلك القطعة لتركت تلك الصحفة في أهل بيتي يأكلون منها الى يوم القيامة (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً) في الوجوه (وَسُرُوراً) في القلوب (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) الاريكة السّرير في حجلة وكلّ ما يتّكأ عليه من سرير وغيره ، أو سرير منجّد في قبّة أو بيت (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) يعنى لا يرون حرّا ولا بردا بل يكونون في هواء معتدل (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) اى قريبة منهم افياؤها أو دائمة عليهم افياؤها ، ومعنى دنوّ الظّلال دنوّ المظلّة منهم ، أو الظّلال هاهنا جمع الظّلة بالضّمّ

__________________

(١) العرق العظم الّذى أخذ عنه اللحم ، والجمع عراق بالضّمّ.

٢٢٤

بمعنى المظلّة (وَذُلِّلَتْ) اى سهلت (قُطُوفُها) للجنىّ (تَذْلِيلاً) فانّ ثمارها كأنّها باختيار الجاني يجنيها متى شاء وكيف شاء وعلى اىّ حال شاء (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ) جمع الكوب وهو كوز لا عروة له ولا خرطوم (كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا) قرئ فيهما بالتّنوين للمناسبة ، وقرئ في الاوّل فقط بالتّنوين (مِنْ فِضَّةٍ) يعنى كانت الأكواب مثل القوارير في الصّفاء والشّفيف ، أو كانت القوارير مأخوذة من الفضّة لا من سائر الأحجار مثل قوارير الدّنيا (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) صفة للاكواب أو للآنية والأكواب والمعنى أكواب كان المؤمنون يقدّرون قدرها في أنفسهم ، أو كانوا يتمنّونها ، أو كان الغلمان المديرون يقدّرونها بقدر ميل المؤمنين ، وقرئ قدّروها على البناء للمفعول (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) الكأس تطلق على الخمر ولذلك تؤنّث ، ولمّا كان السّالك الباقي عليه من نفسه بقايا لا بدّ له من حرارة الطّلب واشتياق السّير في عالم الصّفات الّتى لا نهاية لها كان قد يسقى من الشّراب الزّنجبيلىّ الّذى به يشتدّ حرارة طلبه والتذاذ سيره ووجده (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) بدل من كأسا بدل الاشتمال ، والسّلسّبيل الشّراب السّهل الدّخول في الحلق ، اللّذيذ في المذاق يقال : شراب سلسل وسلسال وسلسبيل كذا في المجمع (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ) جمع الوليد بمعنى الغلام (مُخَلَّدُونَ) دائمون في الجنّة ، أو مخلّدون على حال الغلمان (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً) في الصّفاء والحسن والتّلألؤ (مَنْثُوراً) متفرّقا غير منظوم في الكثرة أو في الخدمة (وَإِذا رَأَيْتَ) شيئا (ثَمَ) في الجنّة حذف المفعول للاشارة الى انّ كلّما كان مرئيّا هناك كان مشتملا على جميع ما يكون في المملكة الكبيرة (رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) واسعا جدّا فانّ أدناهم منزلة ينظر في ملكه من مسيرة الف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه ، وقيل : هو القدرة على ما يتمنّى ونفاذ الأمر ، وقيل : هو استيذان الملائكة ورسل الله (ع) على المؤمنين (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) اى مارقّ من الحرير وما غلظ (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) يطهّرهم من كلّ ما كان منسوبا إليهم من الأموال والأفعال والأوصاف والذّوات حتّى لا يبقى فيهم سوى محبوبهم فيصير لذّتهم خالصة غير مشوبة وغير محجوبة ، في خبر : يطهّرهم من الحسد ويسقط عن أبشارهم الشّعر ، وفي خبر : يطهّرهم من كلّ شيء سوى الله (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) خطاب من الله لعباده في الدّنيا أو منه أو من الملائكة لعباده في الآخرة (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) يعنى انّ قرآن ولاية علىّ (ع) ليس الّا من عندنا فما لك تخشى عن النّاس وتخفيه عنهم وتخاف عن ردّهم أو ارتدادهم أو صرف علىّ (ع) عن حقّه (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) ولا تحزن على ما يقولون في حقّ علىّ (ع) ولا تغيّر ما نزّلناه عليك (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً) عاصيا لك في علىّ (ع) (أَوْ كَفُوراً) ساترا لولايته أو ساترا لنبوّتك فبينهما عموم من وجه (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) اسم الرّبّ هو اللّطيفة الانسانيّة الّتى هي الولاية التّكوينيّة وتتقوّى بالولاية التّكليفيّة ثمّ صاحب الولاية والرّسالة ثمّ كلّ من قبل الولاية ثمّ كلّ وجود عينىّ امكانىّ ثمّ الألفاظ والحروف الموضوعة ثمّ النّقوش المكتوبة ، وذكر الكلّ من حيث كونها أسماء الرّبّ مأمور به ونافع للإنسان ومورث لنجاته من المهاوى والنّيران (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) دائما أو في هذين الوقتين مخصوصا لشرافتهما (وَمِنَ اللَّيْلِ) الّذى هو مظهر عالم الطّبع ومظهر ظلمة النّفس وانانيّاتها (فَاسْجُدْ لَهُ) بكسر

٢٢٥

انانيّة النّفس (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) اى بعضا طويلا من اللّيل ، أو ليل الطّبع الّذى طوله بقدر العمر ، عن الرّضا (ع): انّ هذا التّسبيح هو صلوة اللّيل وقد فسّر قوله : بكرة وأصيلا ، بصلوة الغداة والظّهرين وقوله ومن اللّيل فاسجد له ، بالعشائين ، وقوله : وسبّحه ليلا طويلا ، بالتّهجّد في طائفة طويلة من اللّيل (إِنَّ هؤُلاءِ) المشركين أو المنافقين الممتنعين من ولاية علىّ (ع) (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) ولذلك لا يأتمرون بأمر الله ولا بأمر نبيّه (ص) ولا ينقادون لنبيّه (ص) ولا وصيّه (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) يعنى امامهم لكنّه تعالى عبّر بورائهم للاشعار بانّهم منكوسون مقبلون على الدّنيا الّتى هي مدبرة عنهم ومدبرون عن الآخرة الّتى هي مقبلة عليهم ، والمراد بثقله ثقل حسابه وثقل شدائده وثقل حسّابه (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) اى خلقهم أو مفاصلهم بالاعصاب والأوتار أو الياف المعدة والمثانة حتّى صارتا باختيار صاحبهما (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ) باذهابهم وجعل أولادهم أخلافهم ، أتى بإذا لتحقّق وقوعه (تَبْدِيلاً إِنَّ هذِهِ) اى ولاية علىّ (ع) ، أو قرآن ولايته ، أو هذه السّورة الّتى فيها ذكر الولاية (تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً وَما تَشاؤُنَ) لمّا أوهم قوله تعالى فمن شاء استقلالهم بالمشيّة رفع ذلك فقال وما تشاؤن (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

اعلم ، انّه لا يكون شيء من المكوّنات ومن افعال العباد وأخلاقهم وإراداتهم ومشيّاتهم الّا بمباد سبعة ، بمشيّة من الله ، وارادة منه ، وقدر منه سبحانه وقضاء واذن وأجل وكتاب وانّ المشيّة هي إضافته الاشراقيّة الّتى هي فعله وكلمته ، وانّ كلّ شيء من المبدعات والمنشئات والمخترعات والمكوّنات قوام وجوده مشيّة الله ، وانّ مشيّة الله غير محبّته ورضاه ، وانّ الرّضا والسّخط بمنزلة صورة للمشيّة ، والمشيّة كالمادّة وانّ مشيّة العباد هي مشيّة الله بضميمة خصوصيّة الاضافة الى العباد فمعنى ما تشاؤن الّا ان يشاء الله الّا في حال ان يشاء الله ، أو بسبب ان يشاء الله ، أو لان يشاء الله ، وامّا جعل ان يشاء الله مفعولا لتشاءون فبعيد بحسب الظّاهر وان كان له معنى صحيح بحسب دقيق النّظر ، لانّ كلّ ما يشاؤه العباد فهو متقوّم بمشيّة الله بل هو عين مشيّة الله الّتى صارت بحسب الاضافة محدودة بحدود الممكنات ، وقد مضى بيان وأف لكون مشيّة الله وإرادته عين مشيّة العباد وإراداتهم من غير لزوم جبر وتسخير عند قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ، من سورة البقرة (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) فبعلمه بدقائق الصّنع ومصالح المصنوع جعل مشيّته عين مشيّة العباد (حَكِيماً) بحيث لطف في هذا الصّنع لطفا لا يدركه أحد بل يتوهّمون ضدّه ويقولون : انّ الله فوّض أمور العباد وأفعالهم إليهم (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) اى من يحبّ ويرضاه (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

سورة المرسلات

مكّيّة ، خمسون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) قد فسّرت بالملائكة المرسلة المتتابعة لتعذيب أهل الدّنيا وجحيم النّفس أو الملائكة

٢٢٦

المرسلة للمعروف والإحسان الى العباد بتعذيب أهل الشّرّ والفساد (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) من قبيل عطف الصّفات المتعدّدة لذات واحدة ، وتخلّل الفاء للاشعار بانّ هذه الصّفة اى شدّة الهبوب والمرور في مقام التّعذيب أبلغ من الإرسال ، وفسّرتا بالرّياح المرسلة لتعذيب أهل الدّنيا بإفساد زراعاتهم وإهلاك مواشيهم (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) فسّرت بملائكة الرّحمة الّذين ينشرون العلوم في قلوب الأنبياء وسائر العباد ، والّذين يأتون بالسّحاب ، وفسّرت برياح الرّحمة الّتى تنشر السّحاب ، وفسّرت بالامطار الّتى تنشر النّبات من الأرض وفسّرت بنفوس الأنبياء (ع) الّذين ينشرون العلوم والأحكام في العباد (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) فسّر هذه بموافقة سابقتها (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) اى الملائكة والرّياح أو السّحب أو الأمطار أو الأنبياء (ع) فانّ كلّا منها يذكّر الإنسان قدرة الله وحكمته في صنعه ، ويستفاد من بيان الفقرات وجه اختلاف العطف بالفاء والواو (عُذْراً أَوْ نُذْراً) اى يلقين الذّكر عذرا اى سببا لنجاتهم ، أو نذرا اى تخويفا فيكونان بمعنى أرجاء وتخويفا وهما بدلان من ذكرا ، أو مفعولان له ، أو حالان وقد فسّرت الفقرات بالواردات الإلهيّة في العالم الصّغير الانسانىّ من الإلهامات والقبضات والبسطات والمنامات المنذرات والمبشّرات والبلايا الواردات ، وجبرانها بالالطاف الالهيّات والخطرات والخيالات والسّطوات والرّأفات والملائكة المرسلات بالنّبوّات والرّسالات (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) جواب للقسم والمراد بما يوعدون البعث والحساب ، أو الثّواب والعقاب (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) اى محقت أو محى نورها ، وجواب إذا محذوف بقرينة السّابق اى كان ما توعدون ، أو بقرينة اللّاحق اى أهلكناهم ، أو الجواب قوله لاىّ يوم أجلت بتقدير القول (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) صدعت (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) نسف البناء قلعها ونسف الجبال دكّها (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) وقرئ وقتت على الأصل اى عيّنت يعنى وقت حضورها للشّهادة أو للبشارة والتّخويف أو بلغ وقت ظهورها حين ظهور القائم أو القيامة (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) استفهام للتّعجيب والتّفخيم وجواب لاذا بتقدير القول ، أو حال عن الرّسل (ع) بتقدير القول ، أو استيناف بتقدير استفهام كأنّه تعالى : قال أتدري لاىّ يوم اجّلت؟ (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) اجّلت جواب من الله تعالى (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) جواب للاستفهام بتقدير القول أو جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول اى يقال فيه : ويل يومئذ للمكذّبين ، أو جواب لسؤال مقدّر بدون تقدير القول كأنّه قيل : ما حال النّاس فيه؟ ـ فقال : ويل يومئذ للمكذّبين (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : ما تفعل بهم في الدّنيا؟ ـ فقال : نفعل بهم ما فعلنا بالاوّلين الم نهلك الاوّلين كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) من المجرمين قرئ برفع نتبعهم عطفا على الم نهلك ، وقرئ بالجزم عطفا على نهلك والمعنى الم نهلك الاوّلين من قوم نوح وعاد وثمود ، ثمّ لم نتبعهم الآخرين من قوم لوط وشعيب وفرعون (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) من قومك يا محمّد (ص) (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) لمّا كان التّكرير والتّأكيد والتّهديد والتّغليظ مطلوبا في مقام السّخط كرّر هذه الكلمة (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ) تعداد للنّعم الّتى تدلّ على كمال الاهتمام بهم وعدم إهمالهم من غير ثواب وعقاب (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) قذر (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنا) فسوّيناكم (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) كفته يكفته صرفه عن وجهه ، وكفت الشّيء

٢٢٧

ضمّه وقبضه ، والكفات الموضع الّذى يكفت فيه الشّيء اى يضمّ أو هو مصدر ، أو جمع لكافت ، أو جمع كفت بمعنى الوعاء وهو مفعول ثان لنجعل ، أو حال ، أو المفعول الثّانى قوله تعالى (أَحْياءً وَأَمْواتاً) وعلى الاوّل فأحياء وأمواتا حالان من ذي حال محذوف اى للنّاس ، أو حالان من الأرض وكون الأرض احياء وأمواتا باعتبار صلاحها للنّبات والزّراعات وعدم صلاحها لها ، أو باعتبار وقت إنباتها للنّبات ووقت عدم إنباتها كالخريف والشّتاء ، أو مفعولان لكفاتا ، وتنكيرهما حينئذ للتّفخيم ، أو لانّ احياء الانس وأمواتهم بعض الأحياء والأموات (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) جبالا ثوابت طوالا (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) هذان الفعلان معطوفان على مجموع الم نجعل الأرض فانّه في معنى جعلنا الأرض البتّة كفاتا (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ انْطَلِقُوا) حال أو جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول اى يقال لهم : انطلقوا (إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) من العذاب (انْطَلِقُوا) قرئ هذا امرا ، وقرئ على الاخبار جوابا لسؤال مقدّر (إِلى ظِلٍ) اى ظلّ دخان جهنّم بقرينة ما يأتى (ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ).

اعلم ، انّ النّفس الانسانيّة الامّارة مظهر لجهنّم ، وكلّما لها من الأوصاف الرّذيلة شعبة وشعلة من لهبها ، وهي سبب لدخولها ، وانّ أصل جميع الرّذائل هي القوى الثّلاث البهيميّة والسّبعيّة والشّيطانيّة ، وانّها لهبات من الجحيم وادخنة منها تحترق الانسانيّة بها ، وما دام الإنسان في الدّنيا وكان أسيرا للنّفس الامّارة لا يستشعر بحرقته فاذا مات تمثّل له ما كان مخفيّا عنه في الدّنيا فيظهر عليه اللهبات الثّلاث وادخنتها وظلال ادخنتها فيقال له : انطلق الى هذا الظّلّ ، استهزاء ، فينطلق الى ظلّها لانّه كان في الدّنيا مسخّرا لها ويكون ذلك الظّلّ غير ذي برودة ولذلك قال (لا ظَلِيلٍ) لانّه ظلّ الدّخان فيكون حارّا لا باردا وهذا ردّ لما أوهم لفظ الظّنّ (وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) اى من حرّ اللهب كسائر الظّلال المغنية من حرّ الشّمس (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) قرئ بسكون الصّاد بمعنى المنزل الرّفيع ، وقرئ بالتّحريك بمعنى أصول النّخل والشّجر وبقاياه وأعناق النّاس والإبل ، والكلّ مناسب ، فانّ القوى الثّلاث في الدّنيا ترمى بخطرات وآمال وانانيّات ، وفي الآخرة تتمثّل تلك بشرر عظام (كَأَنَّهُ) اى كأنّ القصر أو الشّرر فانّه جنس للشّررة (جِمالَتٌ صُفْرٌ) جمع الجمل ، وقرئ جمالات بكسر الجيم وضمّها جمع الجمالة بكسر الجيم وضمّها جمع الجمل فانّ الجمالة والجمالات مثلّثتي الجيم جمع للجمل (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) اعلم انّ ايّام الآخرة كثيرة ففي بعضها ينطق النّاس ويسألون ويتضرّعون ، وفي بعضها لا ينطقون فلا ينافي ذلك سائر الآيات والاخبار الدّالّة على تنطّقهم واستنطاقهم (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ) في النّطق أو في الاعتذار (فَيَعْتَذِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) بين المحقّ والمبطل ، أو المؤمن والكافر ، أو أهل الجنّة وأهل النّار ، أو يوم القضاء والحكم (جَمَعْناكُمْ) فيه (وَالْأَوَّلِينَ) حال أو استيناف (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) كما كنتم تكيدوننى في الدّنيا بالكيد مع خلفائي وهذا على التّعجيز والتّهكّم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : هذا حال المكذّبين فما حال المتّقين عن تكذيب الرّسل أو الحشر؟ (وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُوا وَاشْرَبُوا) استيناف بتقدير القول (هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) لمّا كان السّورة لتهديد المكذّبين كرّر هاهنا هذه الكلمة وثنّى ذكر المكذّبين واضرب عن المتّقين مع انّه كان المناسب ان يقول : طوبى يومئذ للمتّقين (كُلُوا) استيناف أو حال

٢٢٨

بتقدير القول (وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً) يعنى في الدّنيا (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) تعليل للتّهديد المستفاد من قوله تعالى : كلوا وتمتّعوا (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) عطف على مجرمون ، أو حال والتفات من الخطاب (ارْكَعُوا) اى صلّوا كما قيل : انّها نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله (ص) بالصّلوة فقالوا : لا ننحنى فانّ ذلك سبّة (١) علينا ، أو تواضعوا وانقادوا (لا يَرْكَعُونَ) أو المعنى إذا قيل لهم اسجدوا في القيامة لا يقدرون على السّجود كما قال تعالى : ويدعون الى السّجود فلا يستطيعون (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) اى بأىّ حديث بعد القرآن أو بعد ما حدّثتك به من امر الآخرة والحشر والحساب والثّواب والعقاب ، أو بعد حديث الولاية ، أو بعد هذا اليوم يؤمنون؟!

الجزء الثّلاثون

سورة النّبا

ويسمّى سورة عمّ وسورة المعصرات وسو التّساؤل مكّيّة كلّها ، احدى وأربعون آية.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ) استفهام لتفخيم المسؤل عنه كانوا يتساءلون بينهم عن المبدء وصفاته وعن القيامة وعلاماته ، وعن البعث وثوابه وعقابه ، أو كانوا يتساءلون عن الولاية بعد ما أشار الرّسول (ص) إليها فانّها النّبأ العظيم الّذى يقع الاختلاف فيه ، وانّها النّبأ الّذى ينبغي ان يهدّد النّاس في تركها لانّها الفارقة بين أهل الجنّة والنّار فانّ القابل لها إذا وصل بها الى الآخرة يدخل الجنّة من غير ريب ، والخارج منها إذا خرج بالخروج منها الى الآخرة يدخل النّار ، فانّه لو عبد الله عبد سبعين خريفا يدخل الجنّة من غير ريب ، والخارج منها إذا خرج بالخروج منها الى الآخرة يدخل النّار ، فانّه لو عبد الله عبد سبعين خريفا تحت الميزاب قائما ليله صائما نهاره ولم يكن له ولاية علىّ بن ابى طالب (ع) لأكبّه الله على منخريه في النّار وانّ الله لا يستحيي ان يعذّب أمّة دانت بامامة امام جائر ، وان كانت الامّة في أعمالها بررة ، وانّ الله ليستحيي ان يعذّب أمّة دانت بامامة امام عادل وان كانت الامّة في أعمالها فجرة ، وسئل الباقر (ع) عن تفسير عمّ يتساءلون فقال : هي في أمير المؤمنين (ع) ، وبهذا المضمون اخبار كثيرة منهم (ع) (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) بدل عن عمّ بتقدير حرف الاستفهام ، أو متعلّق بمحذوف وجواب من الله أو متعلّق بيتساءلون وعمّ متعلّق بمحذوف يفسّره المذكور (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ كَلَّا) عن الاختلاف ، فانّه امر لا ينبغي ان يختلف فيه ، أو عن الإنكار المستفاد من الاختلاف ، فانّ الاختلاف لا يكون الّا بالإقرار والإنكار (سَيَعْلَمُونَ) حين رفع الحجب عن الأبصار عند الموت أو القيامة الكبرى (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) تأكيد للاوّل ، وتخلّل ثمّ للمبالغة في التّأكيد (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : الم يجعل الله دليلا لعباده على الولاية؟ أو على الحشر والحساب والثّواب والعقاب؟ ـ أو قال : الم يجعل لهم وليّا؟ أو الم يكن لهم حشر وحساب؟ ـ فقال : كيف لم نجعل لهم دليلا على

__________________

(١) اى عار

٢٢٩

ذلك ، أو كيف اهملناهم ولم نجعل لهم رئيسا وإماما بعد الرّسول (ص)؟! أو كيف نهملهم ولا نبعثهم والحال انّا ما اهملناهم حين لم يكونوا شيئا مذكور أو جعلنا لهم جميع أسباب وجودهم وأسباب بقائهم (وَالْجِبالَ أَوْتاداً وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) ذكرا وأنثى حتّى يستأنس بعضكم ببعض وليسكن ويمكن التّناسل ، أو جعلناكم أصنافا لتعارفوا ، وليرفع بعضكم حاجة بعض (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) اى راحة أو قطعا عن الأعمال والمتاعب (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) اى ساترا يستر كلّ عورة (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) وقت تمتّعكم أو سبب ابتغاء معاشكم (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) لا يقبل الانثلام وببنائها وجعل الكواكب فيها يكون بقاؤكم وتعيّشكم (وَجَعَلْنا) اى خلقنا (سِراجاً وَهَّاجاً) لا يمكن وجودكم ولا بقاؤكم بدونه (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) اى السّحائب الّتى صارت معصورة اى متراكمة بالبرد والرّيح أو الرّيح الّتى تكون معصرة للسّحاب ، أو الرّياح الّتى تكون ذوات الأعاصير الى الاغبرة فانّ الرّياح تكون أسباب نزول المطر ، وقد قرئ أنزلنا بالمعصرات وهو يؤيّد المعنى الأخير (ماءً ثَجَّاجاً) سيّالا الى مواضع زراعاتكم وروضاتكم وبه يكون حياتكم (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا) لارزاقكم وأرزاق دوابّكم (وَنَباتاً) كذلك (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) الالفاف الأشجار الملتفّة واحدها لفّ بالكسر والفتح أو بالضّمّ وهو جمع لفّاء فيكون الالفاف حينئذ جمع جمع (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : إذا لم تهملهم بلا حساب وثواب وعقاب فهل لهم موعد لذلك؟ ـ أو إذا لم تهملهم بلا ولىّ ورئيس فهل لظهور ذلك الولىّ موعد؟ ـ فقال : انّ يوم الفصل كان موعدا لهم ، والمراد بيوم الفصل يوم خروج الرّوح عن البدن ، أو يوم فصل المحقّ عن المبطل والنّاجى من الهالك (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) النّفخة الاولى أو النّفخة الثّانية (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) أتى بالماضي امّا لتحقّق وقوعه أو للاشعار بانّ السّماء كانت من اوّل خلقته منفتحة منشقّة يتراءى بحسب الانظار الظّاهرة انّها غير منفرجة فانّ كلّ ممكن زوج تركيبىّ منشقّ الى مهيّة ووجود ووجوب وإمكان ، ومعنى كونها أبوابا انّها أبواب للملكوت كما انّ سماوات عالم الأرواح أبواب للغيب وفعله الّذى هو عالم المشيّة (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) يعنى انّ الجبال تحسبها ثابتة وهي تمرّ مرّ السّحاب باقتضاء التّجدّد الجوهرىّ ، وكونها سرابا من جهة انّها تتراءى جبالا عظيمة ثابتة جامدة وليست كذلك ، وهكذا حال جبال الانّيّات للأشياء فانّها ترى أشياء مستقلّة في الوجود لها نفسيّات وليست كذلك ، وقد فسّر الأفواج في خبر عن النّبىّ (ص) بأصناف من المعاقبين من أصناف المسيئين (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) رصده رقبه والمرصاد الطّريق أو المكان يرصد فيه العدوّ كأنّ الخزنة يرصدون في جهنّم أعداء أولياء الله والجملة جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما يفعل بهم بعد إتيانهم أفواجا؟ ـ (لِلطَّاغِينَ مَآباً) طغى كرضى طغيا وطغيانا بالضّمّ والكسر فيهما جاوز القدر وارتفع وغلا في الكفر وأسرف في المعاصي والظّلم ، وطغا يطغو طغوا وطغوانا بضمّهما (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) جمع الحقب بالضّمّ والضّمّتين وهي ثمانون سنة أو أكثر ، والدّهر والسّنة أو السّنون ، وقيل : المراد باللّبث أحقابا انّه كلّما مضى حقب جاء بعده حقب آخر ، وقد فسّر الحقب بثمانين سنة من سنى الآخرة ، وقيل : انّ الاحقاب ثلاثة وأربعون حقبا كلّ حقب سبعون خريفا ، كلّ خريف سبعمائة سنة ، كلّ سنة ثلثمائة وستّون يوما ، كلّ يوم الف سنة ، وقيل المعنى لابثين فيها أحقابا موصوفة بانّهم لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ، ثمّ يلبثون فيها يذوقون غير الحميم والغسّاق من أنواع العذاب فهذا توقيت لانواع

٢٣٠

العذاب لا لمكثهم في النّار (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً) يعنى بردا ينفعهم من حرّ النّار ولا شرابا ينفعهم من عطشهم ، أو المراد بالبرد النّوم كما قيل (إِلَّا حَمِيماً) اى الماء الحارّ الشّديد الحرارة (وَغَسَّاقاً) الغسّاق صديد أهل النّار ، أو ماء يخرج من صديد أهل النّار (جَزاءً وِفاقاً) مفعول له أو وصف لحميما وغسّاقا ، أو مفعول مطلق لمحذوف اى يجازون جزاء ، أو يجزيهم الله جزاء موافقا لاعمالهم (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) اى لا يعتقدون حشرا وحسابا ، أو لا يخافون حسابا كما قيل (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) من حيث انّها آيات وأعظمها علىّ (ع) (كِذَّاباً وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ) ومن الأشياء الّتى أحصيناه أعمالهم الّتى عملوها (كِتاباً) اى في كتاب أو حالكونه مكتوبا عندنا (فَذُوقُوا) بتقدير القول (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هذا حال المكذّبين بالنّبإ العظيم فما حال المصدّقين بالولاية؟ ـ والمفاز الفوز والنّجاة ، أو محلّ الفوز ، ويستعمل في الهلاك والمهلك (حَدائِقَ وَأَعْناباً) بساتين وأثمارها لكن خصّص الأعناب بالذّكر لامتيازها من بين الاثمار (وَكَواعِبَ) اى جواري ثديّهنّ كاعبات (أَتْراباً) مستويات في السّنّ يعنى كلّهن في اوّل البلوغ (وَكَأْساً دِهاقاً) ممتلئة أو متتابعة (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) قرئ بتشديد الذّال بمعنى التّكذيب وبتخفيف الذّال بمعنى المكاذبة (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ) لتشريفهم أصناف الجزاء هاهنا الى الرّبّ (عَطاءً حِساباً) كافيا أو على قدر أعمالهم (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ) قرئ ربّ السّماوات ، والرّحمن بالجرّ والرّفع (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) منه حال من خطابا أو ظرف لغو متعلّق بلا يملكون اى لا يملكون مخاطبته أو لا يملكون من اذنه مخاطبة ولا يقدرون ولا يؤذنون فيها (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) ظرف لواحد من الأفعال السّابقة أو لقوله : لا يتكلّمون ، والرّوح هاهنا عبارة عن ربّ النّوع الانسانىّ الّذى هو أعظم من جميع الملائكة ومقامه فوق مقام جميع الملائكة بل فوق عالم الإمكان لم يكن مع أحد من الأنبياء (ع) ، وكان مع محمّد (ص) وبعده مع أوصيائه (ع) ويعبّر عنه بروح القدس (وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) في صفّ أو حالكونهم مصطفّين (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ) في الدّنيا (صَواباً) أو قال عند الله صوابا (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) اى من شاء اتّخذ الى ربّه المضاف الى علىّ (ع) مآبا ، أو من شاء اتّخذ الى ربّه المطلق مآبا ، والمآب حينئذ هو الولاية واتّباع علىّ (ع) (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ان كان ذلك اليوم الحقّ فما فعلت بهم لأجل ذلك اليوم؟ ـ فقال : انّا أنذرناكم (عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ) بدل من عذابا نحو بدل الاشتمال أو حال من عذابا (ما قَدَّمَتْ يَداهُ) من خير أو شرّ وهو يوم الموت أو يوم القيامة الكبرى (وَيَقُولُ الْكافِرُ) بالولاية (يا لَيْتَنِي) اى يا قوم ليتني (كُنْتُ تُراباً) في الدّنيا فلم يكن لي حشر ونشر وحساب وعقاب ، أو ليتني كنت ترابا في هذا اليوم فلم يكن لي حساب ، أو ليتني كنت ترابا قابلا لخلق الأشياء الاخر منّى فانّ الكافر بسبب الفعليّات السّيّئة الحاصلة فيه لا يكون قابلا لفعليّات أخر منه فيتمنّى ان يكون ترابا مستعدّا لان يخلق فيه صور اخرى ، وقيل بعد ما يحشر الخلائق في صعيد واحد ويقتصّ من الظّالم للمظلوم حتّى للجمّاء من القرناء يقول الرّبّ لغير الثّقلين : انّا خلقناكم وسخّرناكم لبني آدم وكنتم مطيعين لهم ايّام حياتكم فارجعوا الى الّذى كنتم كونوا ترابا ، فاذا التفّت الكافر الى ما صار

٢٣١

ترابا يقول : يا ليتني كنت على صورة شيء منها وكنت اليوم ترابا ، وقيل : المراد بالكافر إبليس إذا رأى كرامة آدم وولده وقد عابه على كونه من طين يتمنّى ان يكون أصله ترابا ، أو المراد بالكافر الكافر بالولاية فانّه يتمنّى ان يكون من شيعة علىّ (ع) فانّه روى عن ابن عبّاس انّه سئل : لم كنّى رسول الله (ص) عليّا (ع) أبا تراب؟ ـ قال : لانّه صاحب الأرض وحجّة الله على أهلها بعده وله بقاؤها واليه سكونها قال : ولقد سمعت رسول الله (ص) يقول : انّه إذا كان يوم القيامة ورأى الكافر ما اعدّ الله تبارك وتعالى لشيعة علىّ (ع) من الثّواب والزّلفى والكرامة قال : يا ليتني كنت ترابا اى من شيعة علىّ (ع) وذلك قول الله عزوجل : ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا.

سورة النّازعات

ستّ وأربعون آية ، مكّىّ كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) اقسم تعالى شأنه بالنّفوس المشتاقة الى أوطانها الحقيقيّة من نزع نزوعا اشتاق ، أو بالنّفوس المرتدعة عن النّفس وعلائقها من قولهم : نزع من الأمر انتهى ، الّتى تغرق في الاهتمام بالسّير الى الله ، أو في بحار حبّه ، أو في بحار صفاته ، أو في بحر الاحديّة (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) اى النّفوس النّاشطات الطّيّبات في السّير الى الله ، أو النّاشطات في الخروج من دار النّفس ، أو الخارجات من دار النّفس الى دار القلب ، أو المراد بالنّازعات ملائكة العذاب تنزع أرواح الكفّار ، وبالنّشطات ملائكة الرّحمة تخرج أرواح المؤمنين برفق ، أو المراد بالنّازعات النّجوم تنزع من مطالعها وتغرق في مغاربها ، والنّاشطات النّجوم الّتى تخرج من برج الى برج ، أو المراد بالنّازعات القسىّ تنزع بالسّهم ، والمراد بالنّاشطات الخيل السمينة في الجهاد ، أو المراد بالنّازعات النّفوس المشتاقة الى الله ، وبالنّاشطات النّفوس المسرعة في الخروج عند الموت (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) النّفوس السّابحة في بحار أوصافه تعالى ، أو الجارية المسرعة الى الله ، أو الملائكة الّذين يسرعون في امر الله من غير تأمّل وتوان كالسّابح بالشّيء في الماء ، أو الملائكة الّذين يسبحون أرواح المؤمنين يسلّونها سلّا رقيقا ثمّ يدعونها حتّى تستريح كالسّابح بالشّيء في الماء ، أو الملائكة الّذين ينزلون من السّماء الى الأرض باسراع كما يقال للفرس الجواد سابح ، أو النّجوم الّتى تسبح في فلكها ، أو خيل الغزاة تسبح في عدوها (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) الملائكة الّذين سبقوا ابن آدم بالخير ، أو سبقوا الشّيطان في حفظ ابن آدم منه ، أو سبقوا الشّيطان بالوحي الى الأنبياء (ع) ، أو الّذين سبقوا بأرواح المؤمنين الى الجنّة ، أو النّفوس البشريّة الّتى تسبق سائر النّفوس في الذّهاب الى الله أو القرب منه ، أو الّتى تسبق الملائكة في المرتبة ، أو الّتى تسبق ملك الموت في الخروج الى الله شوقا اليه ، أو النّجوم الّتى يسبق بعضها بعضا في السّير ، أو خيل الغزاة يسبق بعضها بعضا (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) اى الملائكة المدبّرة امر أهل الأرض ، أو الرّؤساء من الغزاة يدبّرون امر الجنود والجهاد ، أو النّفوس الكاملة الرّاجعة من السّير الى الله في السّير الى العباد لتكميلهم ، أو النّفوس السّالكة المدبّرة امر السّير الى الله دون المجذوبة اليه من غير سلوك ، أو النّجوم المدبّرة امر العالم ، وعطف الأخيرين بالفاء للاشعار بشرافة الصّفتين أو الصّنفين ، وجواب القسم محذوف بقرينة الآتي كأنّه قال : لتبعثنّ (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) ظرف للمدبّرات

٢٣٢

امرا ، أو لمحذوف هو جواب القسم اى لتبعثنّ يوم ترجف الرّاجفة ، أو لقوله تعالى : تتبعها الرّادفة ، أو لقوله تعالى : واجفة ، ويكون يومئذ تأكيدا له أو لا ذكر أو ذكّر مقدّرا ورجف بمعنى حرّك وتحرّك واضطرب شديدا ، ورجفت الأرض زلزلت ، والمراد بالرّاجفة النّفخة الاولى (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) اى النّفخة الثّانية والجملة استيناف جواب لسؤال مقدّر سواء جعل يوم ترجف الرّاجفة متعلّقا به ، أو لم يجعل أو حال (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) مضطربة (أَبْصارُها) اى ابصار القلوب (خاشِعَةٌ) وفي اضافة الأبصار الى القلوب اشعار بانّ ابصار الأبدان تصير في ذلك اليوم متعطّلة (يَقُولُونَ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما يقولون في حقّ هذا اليوم؟ ـ فقال : ينكرونها ويقولون (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) اى في اوّل حالنا يعنى في الحياة الثّانية المشابهة للحياة الاولى ، والحافرة الخلقة الاولى ، والعود في الشّيء حتّى يردّ آخره على اوّله (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) بالية متفتّتة (قالُوا تِلْكَ) الكرّة (إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) يعنى خاسر أهلها يعنى قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء ، أو على سبيل الفرض والشّكّ (فَإِنَّما هِيَ) اى الكرّة أو الرّجعة (زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) اى صيحة واحدة لانّ الزّاجر للشّيء في الأغلب يكون زجرة بصياحة وللاشارة الى سهولتها عليه تعالى وسرعة خروجهم من القبور بالصّيحة أطلق الصّيحة الى الرّجعة ووصفها بالواحدة (فَإِذا هُمْ) من القبور (بِالسَّاهِرَةِ) اى على وجه الأرض ، وقيل : السّاهرة موضع بالشّام (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قال : ما افعل بهؤلاء المنكرين المكذّبين؟ ـ وما تفعل أنت بهم؟ ـ فقال : افعل بهم ما فعل موسى (ع) بفرعون وقومه ، ونفعل بهم ما فعلنا بفرعون وقومه ، فلا تكن في ضيق ممّا يمكرون فانّ لك عليهم سلطانا كما لموسى (ع) على قوم فرعون (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً اذْهَبْ) حال بتقدير القول أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول (إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ) ميل (إِلى أَنْ تَزَكَّى) اى تتطّهر ممّا أنت فيه من الشّرك والذّنوب أو تتنعّم ، أو تنمو فيما أنت فيه من العزّ والسّلطنة ، وهذا تعليم لموسى (ع) كيف يتكلّم له بالقول اللّيّن (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) فحصل لك مقام الخشية الّتى هي للعالم بالله (فَأَراهُ) اى فأتاه ودعاه بالملاينة معه فأريه (الْآيَةَ الْكُبْرى) الّتى هي الثّعبان أو اليد البيضاء (فَكَذَّبَ وَعَصى) في حضوره (ثُمَّ أَدْبَرَ) عنه طلبا لما يكسر به آيته ظنّا منه انّ آيته سحر (يَسْعى) يجهد في طلب ما يكسر به حجّته ، أو يسعى في الإفساد في الأرض (فَحَشَرَ) قومه وجنوده وأهل مملكته (فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) عطف على نادى عطف التّفصيل على الإجمال وكان مقصوده من هذا التّمويه على العوامّ وانكار ان يكون فوقه ربّ سواه ، وقيل : كان مقصوده انّ الأصنام أرباب لكم وانا ربّكم وربّ الأصنام (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) نكال مفعول مطلق من غير لفظ الفعل ، أو منصوب بنزع الخافض اى اخذه الله بنقمة لائقة لكلمته الآخرة الّتى هي قوله : انّا ربّكم الأعلى ، والاولى الّتى هي قوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) فانّ الكبرياء والانانيّة كانت رداءه تعالى فمن نازعه في ردائه اخذه أخذا شديدا ، وكان بين الكلمتين كما عن ابى جعفر (ع) أربعون سنة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً) واتّعاظا (لِمَنْ يَخْشى) الله تعالى بالغيب وكان في مقام العلم وقد خرج من مقام الظّنّ الّذى كان لأصحاب النّفوس ولم يصل الى مقام الشّهود (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) عظما وإتقانا وادامة (أَمِ السَّماءُ) يعنى انّ

٢٣٣

خلقكم ابتداء أضعف من خلق السّماء وقد خلقكم وخلق السّماء فكيف يكون عاجزا عن خلقكم ثانيا (بَناها) جواب لسؤال مقدّر أو حال (رَفَعَ سَمْكَها) اى جهتها المرتفعة (فَسَوَّاها) اى اتمّها بجميع ما فيها وجميع ما فيه مصالح العباد (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) اى جعل ليلها مظلما (وَأَخْرَجَ) من اللّيل أو أظهر (ضُحاها) ونسبة اللّيل والضّحى الى السّماء لكونها مبدأهما وهذه الجمل تفصيل لسوّيها فانّ تتميمها يكون بما ذكر بعدها (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) اى بعد بناء السّماء ورفع سمكها واظلام ليلها وإخراج ضحيها ، ودحو الأرض عبارة عن بسطها.

اعلم ، انّه لا تقدّم لسماء العالم الكبير على أرضها ، وما ورد في الآيات والاخبار مشعرا بتقدّم خلق الأرض على السّماء أو تقدّم السّماء على الأرض فمؤوّل لانّه ليس بين الأرض والسّماء علّيّة لعدم جواز العلّيّة بين الأجسام كما قرّر في محلّه ولذلك قيل : المراد بقوله تعالى بعد ذلك مع ذلك اى الأرض مع بناء السّماء دحاها فليكن المراد بدحو الأرض بسطها بتوليد مواليدها ، فانّ مرتبة المواليد في الخلقة بعد مرتبة العناصر والسّماوات ، أو ليكن بعد بمعنى مع كما قيل ، أو ليكن المقصود من الأرض والسّماء ما في العالم الصّغير فانّ سماءه بوجه مقدّمة على أرضه وبوجه مؤخّرة (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها) اى اثبتها في أوساط الأرض لتوليد المعادن فيها وإنبات النّبات والأشجار الّتى لا تنبت الّا فيها وسهولة اجراء المياه من تحتها والعيون على سفحها (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) اى حالكونها أشياء تتمتّعون بها في معاشكم أو لتمتّعكم وتمتّع انعامكم فقوله متاعا حال أو منصوب بنزع الخافض وليس مفعولا له لعدم اتّحاد مرفوعه مع مرفوع عامله ، أو هو مفعول مطلق لفعل محذوف (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) يعنى إذا كان خلق السّماء اشدّ من خلقكم ابتداء ، وخلقكم ثانيا أسهل من خلقكم ابتداء فلا مانع من خلقكم ثانيا وقد أخبركم به فهو محقّق لا محاله فاذا جاءت القيامة ، سمّيت بالطّامّة لانّ الطّامة الدّاهية الّتى تغلب ما سواها والقيامة داهية تغلب جميع الدّواهى (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) اى ما عمله فانّ يوم القيامة يوم الذّكر ودار الآخرة دار الذّكر فيتذكّر الإنسان فيها جميع ما عمله بمعنى انّه يرى آثاره على نفسه ويشاهدها ويشاهدها ويشاهد جزاءها (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) اى لمن يراها اى لمن كان من شأنه رؤيتها فانّ منهم من لا يراها أصلا وليس من شأنه رؤيتها (فَأَمَّا مَنْ طَغى) طغى يطغو من باب نصر وطغى يطغى من باب منع خرج من الطّاعة (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) على الحياة الآخرة (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) اى مأواه (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) عن مقامه عند ربّه أو قيام ربّه للحساب ، أو محلّ قيام ربّه للحساب ، أو تمكّن ربّه وقدرته عند الحساب (وَنَهَى النَّفْسَ) اى نفسه (عَنِ الْهَوى) اى هواها (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل بعد ما سجّل عليهم قيام السّاعة : ما يقولون فيها؟ ـ فقال : يسألونك عن وقتها ، أو استفهام بتقدير حرف الاستفهام (أَيَّانَ مُرْساها) اى متى يكون ثباتها (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) تفخيم لأمرها ونفى لعلمه (ص) بها تأكيدا في اخفائها (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) يعنى انّ السّاعة منتهاها الرّبّ فان كنت تقدر على معرفة الرّبّ تقدر على معرفتها ، أو المعنى الى ربّك المضاف وظهوره منتهى وقت السّاعة يعنى انّ السّاعة اى وقت القيام عند الله من اوّل الموت الى ظهور ربّك عليك ، وحين ظهور الرّبّ يكون تمام القيام عند الله سواء كان الموت اختياريّا أو اضطراريّا ولذلك فسّرت

٢٣٤

السّاعة تارة بظهور القائم (ع) وتارة بالقيامة وتارة بالرّجعة وتارة بالموت ، فانّ الكلّ بعد طىّ البرازخ اختيارا أو اضطرارا ينتهى الى علىّ (ع) فانّ آيات الخلق اليه وحسابهم عليه ورجوعهم اليه (ع) وهو قيامتهم وهو رجعتهم سواء جعل المراد بالرّجعة الرّجعة الى الصّحو بعد المحو ، أو الى القوى والجنود بعد الفناء عنها ، أو الرّجعة الى الآخرة وهو ظاهر ، أو الرّجعة الى الدّنيا فانّه بعد رجوعهم الى امامهم كان اوّل رجعتهم الى الدّنيا والى المراتب الدّانية الّتى كانوا مدبرين معرضين عنها ، وبعد ما نفى علمه بالسّاعة حصر شأنه في الإنذار تأكيدا لنفى علمه بالسّاعة فقال (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) يعنى محصور شأنك في إنذار من كان عالما بها وبأهوالها لا ينفع إنذارك لغيرهم ولا شأن لك سوى ذلك الإنذار (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) وهذا جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فما كان حالهم في السّاعة؟ ـ فقال : كانوا حين يرونها كأنّهم لم يلبثوا في السّاعة الّا آخر النّهار أو اوّله حتّى اخرجوا الى النّار ، أو كأنّهم لم يلبثوا في الدّنيا لصغر الدّنيا في أعينهم أو لشدّة اهوالهم الّا ساعة من النّهار.

سورة عبس

مكّيّة كلّها ، ثنتان وأربعون أو احدى وأربعون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَبَسَ وَتَوَلَّى) قيل : نزلت الآية في عبد الله بن امّ مكتوم كان أعمى وذلك انّه جاء الى رسول الله (ص) وعنده جمع من صناديد قريش يدعوهم الى الإسلام وفي رواية كان عنده عتبة بن ربيعة وابو جهل والعبّاس وأبىّ وأميّة ابنا خلف يدعوهم الى الله ويرجوا سلامهم فقال : يا رسول الله (ص) اقرأنى وعلّمنى ممّا علّمك الله فجعل يناديه ويكرّر النّداء ولا يدرى انّه مشتغل بغيره ، فظهرت الكراهة في وجه رسول الله (ص) ويقول في نفسه : يقول هؤلاء الصّناديد انّما اتباعه العميان والعبيد فأعرض عنه وأقبل على القوم وكان رسول الله (ص) بعد ذلك يكرمه ويقول : مرحبا بمن عاتبني فيه ربّى ، وروى عن الصّادق (ع): انّ المراد كان رجلا من بنى أميّة كان عند النّبىّ (ص) فجاء ابن امّ مكتوم فلمّا رآه تقذّر (١) منه وجمع نفسه واعرض عنه فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه ، وعن القمّىّ انّها في عثمان وابن امّ مكتوم وكان مؤذّنا لرسول الله (ص) وجاء الى رسول الله (ص) فقدّمه رسول الله (ص) على عثمان فعبس عثمان وجهه وتولّى عنه (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) يتطهّر أو يصلح في اعماله كمال الصّلاح أو ينمو في دينه وايمانه (أَوْ يَذَّكَّرُ) اى يتذكّر ان لم يكن يزّكّى (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) حتّى يسلم بعد أو ينتفع بها حين موته (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) في ماله أو استغنى عن الإسلام (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) تتعرّض (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) ولا بأس عليك في ان لا يتطهّر ذلك الغنىّ أو اىّ شيء يرد عليك في ان لا يزّكّى ، أو ليس عدم تزكيته وبالا عليك ، وقال القمّىّ : المعنى لا تبالي أزكيّا كان أو غير زكىّ إذا كان غنيّا (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) في طلب الدّين وازدياد ايمانه (وَهُوَ يَخْشى) ربّه بالغيب (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) وقد استبعد بعض العلماء كون الآيات في رسول الله (ص) لبعد مقامه عن العبوس والتّولّى عن الأعمى ، وعلوّ رتبته عن ان يصير معاتبا بمثل هذا العتاب ، أقول : لو كانت الآيات فيه (ص) والعتاب له لم يكن فيه نقص لشأنه ولم يكن منافيا لما قاله تعالى في حقّه من قوله : (إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فانّ إقباله (ص)

__________________

(١) اى تنفّر.

٢٣٥

وإدباره وعبوسه واستبشاره كان لله فانّ عبوسه ان كان لمنع الأعمى عن نشر دين الله واستماع كلماته لأعداء الله وأعداء دينه وتقريبهم الى دينه لم يكن فيه نقص فيه وفي خلقه ، وامّا أمثال العتاب له (ص) فانّها تدل على تفخيمه والاعتداد به فانّ كلّها كانت بايّاك اعنى واسمعي يا جارة فالخطاب والعتاب يكون لغيره لا له ، وكذا زريه (١) تعالى له (ص) بالعبوس والتّولّى يكون متوجّها الى غيره في الحقيقة (كَلَّا) ردع له عن مثله (إِنَّها تَذْكِرَةٌ) اى القرآن ، وتأنيث الضّمير لمطابقة المسند أو الرّسالة تذكرة فليس لك ان تكون حريصا على قبولهم أو ولاية علىّ (ع) تذكرة (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) اى القرآن أو شأن الرّسالة أو الولاية (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) حال أو خبر بعد خبره ، ويجوز ان يكون ظرفا لغوا متعلّقا بقوله تعالى ذكره ، والمراد بالصّحف المكرّمة الألواح العالية ، أو الأقلام العالية ، الّتى هي العقول الطّوليّة أو العرضيّة أو صحف قلوب الأنبياء (ع) ونفوسهم (مَرْفُوعَةٍ) عن نيل الأيدي النّاقصة (مُطَهَّرَةٍ) عن نقائص المادّة وسواتها (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) جمع السّافر بمعنى الكاتب ، أو المراد الملائكة الّذين كانوا سفراء بينه وبين أنبيائه (ع) (كِرامٍ بَرَرَةٍ) بارّين الى الأنبياء (ع) ، أو الى الخلائق ، أو محسنين في أنفسهم مطيعين لأمر ربّهم (قُتِلَ الْإِنْسانُ) دعاء على الإنسان المطلق بسبب شأنه الّذى أودعه الله فيه من كفران النّعمة ، أو الكفر بالله ، أو الرّسول (ص) أو الولاية ، وجواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما حال الإنسان مع ما جعلته تذكرة من القرآن أو شأن الرّسالة أو الولاية؟ ـ فقال : قتل الإنسان (ما أَكْفَرَه) يعنى حاله شدّة الكفران أو الكفر ، والصّيغة للتّعجّب أو مركّبة من لفظة ما الاستفهاميّة والفعل الماضي من باب الأفعال ، ويجوز ان يكون المقصود من قوله ما أكفره ما أكفره بعلىّ (ع) (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هل له ما يدلّه على الآلهة أو الرّسالة أو الولاية أو البعث؟ ـ فقال : من اىّ شيء خلقه حتّى يعلم انّ ذلك حقّ فالاستفهام للتّقرير (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) يعنى خلقه من نطفة ضعيفة الوجود لا تحفظ صورته بنفسه آنين قذرة منتنة ادلّ دليل على المبدء والرّسالة والولاية والبعث (فَقَدَّرَهُ) بحسب أعضائه واجزائه ومقدار طوله وعرضه قدرا يليق بشأنه ويتمشّى منه الأفعال المترقّبة منه بسهولة (ثُمَّ السَّبِيلَ) اى سبيل الخروج من بطن أمّه ، أو سبيل السّلوك لطلب معيشة ، أو سبيل السّلوك الى الله وطلب معاده ، أو سبيل السّلوك من الدّنيا الى الآخرة بالموت الاضطرارىّ (يَسَّرَهُ ثُمَّ أَماتَهُ) عن صورة وفعليّة ينبغي ان تطرح (فَأَقْبَرَهُ) في صورة اخرى الى ان أماته عن جميع الصّور بالموت الاختيارىّ أو الاضطرارىّ فأقبره في القبر التّرابىّ وفي الصّور البرزخيّة والمثاليّة (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) من قبره (كَلَّا) ردع للإنسان عن ترقّب رؤية ما ذكره من النّشر (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) اى لمّا يقض ذلك الإنسان ما امره الله من إخلاص العبادة وإتمام العبوديّة حتّى يشاهد ما يتمنّى شهوده من النّشر والحساب والعقاب ، أو لمّا يقض الإنسان ما امره الله تعالى به من الأوامر الشّرعيّة القالبيّة حتّى يشاهد آثار الآلهة أو الرّسالة أو الولاية ، أو يشاهد نشر العباد وحسابهم من طريق باطنه ، أو لمّا يقض الله ما امره وقدّره من حشر الخلائق ونشرهم وحسابهم وثوابهم وعقابهم حتّى يشاهدوا ما نقول من نشر الخلائق (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) الى الأسباب والمسبّبات ويشاهد كيفيّة ترقّيها وترتّبها ووصولها الى غاياتها ومسبّباتها حتّى يعلم بعلم اليقين انّ لها إلها وانّ له رسولا وإماما ، وانّ الإنسان ينتهى في تقلّباته الى ان خرج من قشره وقالبه ، ووصل الى لبّه وقلبه ، والى حسابه وربّه فلينظر من جملة الأسباب والمسبّبات (إِلى طَعامِهِ) الصّورىّ والمعنوىّ (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ) من السّحب (صَبًّا) عجيبا يكون بقدر الحاجة وليس كثيرا بحيث يستضرّون به ولا في غير وقت الحاجة (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) بانبات النّبات والأشجار (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا)

__________________

(١) نسبة الله تعالى عيب العبوس والتّولى اليه (ص).

٢٣٦

نباتا ذا حبّ (وَعِنَباً) خصّه من بين الفواكه لكثرة منافعه (وَقَضْباً) القضب جمع القضبة وهي ما أكل من النّبات المقتضب غضّا (وَزَيْتُوناً) شجر الزّيتون (وَنَخْلاً) تخصيصهما من بين الأشجار بالذّكر لكثرة منافعهما كالعنب (وَحَدائِقَ غُلْباً) جمع الغلباء الحديقة المتكائفة (وَفاكِهَةً) وسائر أنواع الفواكه (وَأَبًّا) الكلأ والمرعى وما أنبتت الأرض (مَتاعاً) هو بمعنى التّمتيع أو بمعنى التّمتّع مفعول له أو منصوب بنزع الخافض أو مفعول مطلق لمحذوف هو حال ، أو بمعنى ما يتمتّع به فيكون حينئذ حالا (لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) فكيف نهملكم بعد ما بلّغناكم من ادنى مراتب وجودكم وهو مقام كونكم نطفة قذرة الى أعلى مقاماتكم وهو مقام روحانيّتكم ومشاركتكم للملائكة بل نبعثكم الى عالم أعلى من عالمكم (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) الصّخّ الضّرب بشيء صلب على مصمت ، والصّاخّة صيحة تصمّ الأسماع لشدّتها والقيامة والدّاهية ، والكلّ مناسب هاهنا (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) يوم الموت أو يوم القيامة الكبرى (وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ) تأكيد ليوم يفرّ المرء من أخيه وهو متعلّق بيغنيه أو يوم يفرّ المرء من أخيه ظرف لجاءت أو لمحذوف اى اذكر ويومئذ متعلّق بيغنيه (شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) مشرقة (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) لما رأته ممّا اعدّ الله لها (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) الغبرة محرّكة الغبار (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) تغشيها كدرة وسواد من هول القيامة والقتر والقترة محرّكتين والقترة بالفتح والسّكون الغبار أو التّلطخ بالغبار ، وقيل : الغبرة ما انحطّ من السّماء الى الأرض ، والقترة ما ارتفعت من الأرض الى السّماء ، وهذا مناسب لتأدية اللّفظين بقوله : عليها غبرة ترهقها قترة (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ) في علومهم (الْفَجَرَةُ) في أعمالهم فهم النّاقصون في قوّتيهم العلّامة والعمّالة.

سورة التّكوير

مكّيّة كلّها ، تسع وعشرون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) التّكوير التّلفيف على التّدوير والصّرع ، كوّره صرعة ، وكوّر المتاع جمعه وشدّه ، والتّكوّر التّقطّر والتّشمّر والسّقوط ، والكلّ مناسب هاهنا ، والمراد بوقت تكوير الشّمس وقت الموت وظهور آثار الآخرة ، أو وقت القيامة الكبرى (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) بذهاب ضوئها (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) باندكاكها وانتثارها أو بسيرها في الأصقاع فانّك ترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السّحاب بتجدّدها في جوهرها ، وهكذا حال جبال الانّيّات (وَإِذَا الْعِشارُ) جمع العشراء وهي النّاقة الّتى أتت عليها من حملها عشرة أشهر ، وتسمّى بهذا الاسم بعد وضعها وهي أنفس مال عند العرب (عُطِّلَتْ) وأهملت بلا راع (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) اى وحوش العالم الصّغير عند الموت ووحوش العالم الكبير في القيامة (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) سجّر التّنوّر أحماه ، والنّهر ملأه والماء في حلقه صبّه ، والمسجور البحر ، وتسجير الماء تفجيره ، فقيل: المعنى إذا البحار أرسل مالحها

٢٣٧

على عذبها ، وعذبها على مالحها حتّى امتلأت ، وقيل : فجّر بعض في بعض فصارت البحور بحرا واحدا ، وقيل : أوقدت فصارت المياه نيرانا ، وقيل : يبست وذهب ماؤها فلم يبق فيها قطرة ، وقيل : ملأت من القيح والصّديد الّذى يسيل من أبدان أهل النّار في النّار (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) كلّ مع سنخه من الاناسىّ والشّياطين ، أو مع الملك والحور العين والجنّة والشّياطين ، أو كلّ مع بدنه المناسب له ، أو كلّ مع جزاء عمله في الآخرة (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) الموؤدة الجارية المدفونة حيّا ، كانوا يدفنون البنات حيّا خوفا من لحوق العار ، كانوا يقولون : انّها يسبين فيتزوّجن في غير اهلهنّ ، أو خوفا من العيلة ، وقيل : كانت المرأة إذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة وقعدت على رأسها ، فان ولدت بنتا رمت بها في الحفرة (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) والمقصود انّه يسئل عن الموؤدة نفسها أو يسئل القاتلون عن حالها (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) اى صحف الأعمال نشرت للحساب والجزاء (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) أزيلت عن موضعها (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) أو قدت حتّى ازدادت شدّة على شدّة (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) قربت من أهلها للدّخول فيها أو قربت ليشاهدها المؤمنون فيزداد سرورهم (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) النّفس في معنى الجنس الحاصل في عموم الإفراد مثل قولهم تمرة خير من جرادة ، وما استفهاميّة معلّق عنها الفعل أو موصولة ، أو المراد بنفس فرد عظيم في النّكارة لا يمكن ان يعرّف وهو نفس الثّانى (فَلا أُقْسِمُ) لا زائدة أو جوابيّة أو نافية ، والمعنى لا اقسم لعدم الحاجة الى القسم لوضوح المقسم عليه (بِالْخُنَّسِ) الخنّس الكواكب كلّها أو السّيّارة ، أو النّجوم الخمسة السّيّارة غير النّيّرين ، وخنوسها عبارة عن غيبوبتها تحت الأفق أو تحت ضوء الشّمس (الْجَوارِ) السّيّارات كجريان السّفن في البحار (الْكُنَّسِ) اى المتواريات في البروج ، وقيل : خنوسها اختفاءها بالنّهار تحت ضوء الشّمس ، وكنوسها انّها تغيب في الأفق وقت غروبها (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) اى إذا أدبر أو اقبل ، فانّ العسعسة من الاضداد تستعمل في الأدبار والإقبال (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) شبّه امتداد الشّفق بتنفّس الإنسان (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) اى القرآن ليس من عند نفس محمّد (ص) بل هو قول جبرئيل أو قرآن ولاية علىّ (ع) ، أو نصبه بالخلافة والولاية قول جبرئيل الّذى هو رسول من الله الى الأنبياء (ع) وله الكرامة عند الله (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ) في الملائكة أو في جملة المخلوقات لانّه في العالم الكبير بمنزلة النّفس الانسانيّة في العالم الصّغير (ثَمَّ أَمِينٍ) على وحي الله ومدائن علمه ، وروى عن الصّادق (ع) في قوله ذي قوّة عند ذي العرش مكين انّه قال يعنى جبرئيل قيل : قوله مطاع ثمّ أمين قال يعنى رسول الله (ص) هو المطاع عند ربّه الأمين يوم القيامة (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) عن الصّادق (ع) يعنى النّبىّ (ص) في نصبه أمير المؤمنين (ع) علما للنّاس (وَلَقَدْ رَآهُ) اى رأى القرآن أو قرآن ولاية علىّ (ع) أو جبرئيل أو عليّا (ع) (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) وهو أفق عالم الغيب (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) اى بخيل حتّى يكتمه ولا يظهره عليكم ، وقرئ بالظّاء المؤلّف بمعنى المتّهم من الظّنّة بالكسر بمعنى التّهمة ، وروى عن الصّادق (ع) انّه قال : وما هو تبارك وتعالى على نبيّه (ص) بغيبه بضنين عليه (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) عن علىّ (ع) (إِنْ هُوَ) اى القرآن أو علىّ (ع) (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) وعن الصّادق (ع) انّه قال : أين تذهبون في علىّ ان هو الّا ذكر للعالمين لمن أخذ الله ميثاقه على ولايته (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ)

٢٣٨

بدل من قوله للعالمين بدل البعض من الكلّ (أَنْ يَسْتَقِيمَ) في طاعة علىّ (ع) والائمّة من بعده كما عن الصّادق (ع) ، أو يستقيم في أفعاله وأقواله وأحواله وأخلاقه اى يتمكّن على الصّدق فيها (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) روى عن الكاظم (ع) انّ الله جعل قلوب الائمّة موردا لإرادته فاذا أراد الله شيئا شاؤه وهو قوله تعالى : وما تشاؤن الّا ان يشاء الله ربّ العالمين وقد مضى بيان هذه العبارة في سورة الدّهر بطريق الإجمال.

سورة الانفطار

مكّيّة كلّها ، تسع عشر آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) انشقّت مثل قوله تعالى : (يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) تفرّقت بالتّساقط عن محلّها (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) انفجر الماء وتفجّر سال ، وفجره من الثّلاثىّ المجرّد وفجّره من التّفعيل اساله ، والمراد سيلان البحار بعضها في بعضها ، أو سيلان مائها بحيث لم يبق فيها ماء (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) بعثر نظر وفتّش ، وبعثر الشّيء فرّقه وقلّب بعضه على يعض واستخرجه وكشفه وأثار ما فيه ، وبعثر الحوض هدمه وجعل أسفله أعلاه ، والمراد وقت الموت أو وقت البعث (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) قد سبق هذه العبارة في اوّل سورة التّكوير وقد سبق معنى التّقديم والتّأخير في سورة القيامة عند قوله تعالى : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) التّوصيف بالكرم تهكّم به حيث يقول المغترّون به تعالى : انّ الله كريم فيقول تبارك وتعالى : انّ الله كريم لكنّك ما عملت ما استحققت به كرمه ، أو المنظور تلقينه حجّة غروره كأنّه قال : ما غرّك بربّك غير كرمه والمقصود انّك ما فعلت فعلا لائقا لكرمه حتّى يعمّك كرمه (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ) بخلق جميع ما تحتاج اليه في معاشك ومعادك (فَعَدَلَكَ) جعلك معتدلا في بدنك ونفسك لم يجعل قامتك طويلة بحيث لا يمكنك تحصيل مأكولها ومشروبها وملبوسها ومسكونها ، ولا قصيرة بحيث لا يتمشّى منها بعض الأفعال المترقّبة منها ، وجعل اعضاءك متوافقة كلّا مع الآخر والكلّ مع البدن والنّفس (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) اىّ شرطيّة وما زائدة لتأكيد الإبهام ، وشاء فعل الشّرط وركّبك جزاء الشّرط ، أو اىّ شرطيّة وما شرطيّة بدل منها أو في اىّ صورة استفهام تفخيمىّ وما شاء ركّبك جملة شرطيّة ، أو اىّ استفهاميّة للتّفخيم وما زائدة لتأكيد الإبهام والتّفخيم ، وشاء صفة صورة بتقدير العائد وركّبك مستأنفة متعلّقة للظّرف والمراد بالصّورة المركوبة الصّورة البدنيّة من الحسن والقبيح ، والطّويل والقصير ، والذّكر والأنثى ، والأبيض والأسود ، أو الصّورة النّفسيّة والأخلاق الباطنيّة ، أو الصّورة الّتى هي الفعليّة الاخيرة من الفعليّات العلويّة الملكوتيّة أو السّفليّة الملكوتيّة (كَلَّا) ردع عن الاغترار بالكرم (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) اضراب عن الاغترار بكرمه وبيان لاغترارهم بأمانيّهم وتكذيبهم بالدّين اى الجزاء أو ولاية علىّ (ع) أو شريعة محمّد (ص) (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) حال

٢٣٩

عن الدّين وقيد للدّين المكذّب به فيكون هو أيضا مكذّبا به أو حال عن الفاعل وقيد للتّكذيب (كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) توصيف للحافظين تفخيما لأمر الجزاء والحساب والعقاب فاذا كانوا يعلمون ما تفعلون فلا تجترؤا على معصية الله (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : إذا كان علينا حافظون فما حالنا في الآخرة؟ ـ فقال : انّ الأبرار لفي نعيم (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَها) يتقاسون حرّها (يَوْمَ الدِّينِ) اى يوم الجزاء (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) يعنى انّهم حاضرون فيها في هذه الدّنيا وان كانت هي غائبة عنهم فيها ، أو المعنى ما هم في الآخرة عن الجحيم بغائبين حتّى يفوتونها ، أو المعنى ما هم عنها في الآخرة غائبون زمانا ما بل يكونون أبدا فيها (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) تفخيم لشأن ذلك اليوم وانّه لا يمكنك معرفته (ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) تأكيد لذلك التّفخيم (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) قرئ برفع يوم لا تملك على انّه بدل من يوم الدّين أو خبر لمحذوف أو مبتدء لمحذوف (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) لا امر لأحد لا في نفس الأمر ولا بحسب الظّنّ والتّخمين كما في الدّنيا ، أو المعنى يظهر انّ الأمر يومئذ لله.

سورة التّطفيف

مكّيّة كلّها ، وقيل : مدنيّة كلّها ، وقيل : مدنيّة الّا ثماني آيات وهي :

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) (الى آخر السّورة) وهي ستّ وثلاثون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) الطّفيف القليل والنّاقص من الشّيء ، والمطفّف كما فسّرته الآية هو الّذى يعطى اقلّ من الوزن أو الكيل الّذى وقع البيع عليه ويأخذ بأكثر ممّا وقع البيع عليه ، فانّه أيضا تقليل في الثّمن فالتّطفيف لا يكون الّا في المعاملات ، والمعاملات تكون بين الشّخص وبين الله ، أو بينه وبين من فوقه في الدّين مثل امامه وإخوانه الّذين سبقوه بالايمان ، أو تكون بين الشّخص ومن تحت يده من اهله وأولاده وخادمه وخادمته ، أو بينه وبين من كان مساويا له في الدّين أو في الدّنيا كسائر المؤمنين من عشائره وغيرهم ، أو بينه وبين من كان أدون منه كسائر فرق المسلمين ، وجميع أنواع الكفّار ، وأيضا تكون المعاملات امّا في الأموال والاعراض الدّنيويّة أو في الأفعال والآداب البدنيّة ، أو في الأحوال والأغراض والأخلاق النّفسيّة ، أو في العلوم والعقائد القلبيّة ولكلّ من العباد وسائر افراد الحيوان حقّ عليك لا بدّ ان تؤدّيه وافيا ولك على كلّ حقّ لا بدّ ان يؤدّوه وافيا ، فان كنت لا توفّى الحقّ الّذى عليك كنت مطفّفا ، وان كنت تطلب منهم أكثر من حقّك الّذى عليهم كنت مطفّفا فانظر الى حالك مع ربّك ومع خلقه حتّى لا تكون مطفّفا ، هيهات هيهات!. كيف نخرج من التّطفيف ونطلب من الله ما لا نقدر على أداء شكر عشر من أعشار ما أعطاناه! ونطلب عن الخلق الثّناء على ما لا نفعل ونغضب ان ذمّونا على ما لنا من المعايب والنّقائص! فما لم نخرج من الانانيّات ولم نصر عبدا لله فانيا فيه لم نخرج من التّطفيف فلنطلب العفو من الله والمغفرة منه لتطفيفاتنا (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ) بان اكتالوا أجناس النّاس لأنفسهم (يَسْتَوْفُونَ) لم يقل أو وزنوا لانّ المطفّف في الكيل مطفّف

٢٤٠