تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٤

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٤

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩١

فانّ لقلب المؤمن أذنين اذن ينفث فيها الوسواس الخنّاس واذن ينفث فيها الملك الموكّل عليه من قبل ربّ النّوع ، وعن الكاظم (ع) انّ الله تبارك وتعالى ايّد المؤمن بروح منه فتحضره في كلّ وقت يحسن فيه وتبقى وتغيب عنه في كلّ وقت يذنب فيه ويعتدى فهي معه تهتزّ سرورا عند إحسانه وتسيخ (١) في الثّرى عند إساءته فتعاهدوا عباد الله نعمه بإصلاح أنفسكم تزدادوا يقينا وتربحوا نفيسا ثمينا ، رحم الله امرء همّ بخير فعمله وهمّ بشرّ فارتدع عنه ، ثمّ قال : نحن نؤيّد بالرّوح بالطّاعة لله والعمل له هذا في الدّنيا (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قد مضى بيان جريان الأنهار من تحت الجنّات في آخر سورة آل عمران (خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ).

اعلم ، انّ انفحّة الولاية الّتى تدخل قلوب المؤمنين كما انّها سبب انعقاد القلب على الايمان تكون مادّة رضوان الله عن عباده كما قال (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) ، ولمّا كان قبول الولاية بالبيعة الخاصّة مادّة لرضوان الله لم يقدّم رضا العباد على رضاه كما قدّم ما للعباد في سائر الأوصاف على صفته مثل (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) ، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) و (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). اعلم ، انّ الإنسان ان دخل الايمان الّذى هو صورة ولىّ امره في قلبه بالبيعة مع ولىّ امره والتّوبة على يده صار فعليّته الاخيرة فعليّة ولىّ امره وولىّ امره من جند الله فيصير البائع بتلك البيعة بواسطة تلك الفعليّة من جند الله ، وينصر بوجوده وجنود مملكته ولسان قاله وحاله دين الله ، ويقاتل بفطرته وباختياره مع جنود الشّيطان ويدعو عباد الله بوجوده ولسان حاله وقاله الى الله ، ومن تمكّن في الجهل واتّباع الشّيطان صار من حزب الشّيطان وكان للشّيطان مثل من كان من حزب الله لله ، ومن لم يدخل الايمان في قلبه ولم يتمكّن في اتّباع الشّيطان لا يحكم عليه بشيء من كونه من جنود الرّحمن أو الشّيطان كما لا يحكم عليه بالنّقمة أو النّعمة بل كان مرجى لأمر الله الى الأعراف امّا يعذّبه وامّا يتوب عليه.

سورة الحشر

مدنيّة ، اربع وعشرون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) الحشر إخراج جمع من مكان الى آخر والمعنى أخرجهم في اوّل حشر المؤمنين إليهم للقتال ، أو في اوّل حشرهم من حصونهم للقتال ، أو لأجل حشرهم الاوّل الى الشّام أو الى خيبر وثانى حشرهم الى القيامة أو الى الشّام ، أو وقت ظهور القائم (ع) من الشّام ، أو في القيامة من الشّام ، أو المعنى في اوّل حشر وجلاء وقع في زمان الرّسول (ص) وبعده وقع جلاء وحشر لغيرهم على يد الرّسول (ص) (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) اى من بأس الله (فَأَتاهُمُ اللهُ) اى أتاهم عذابه أو بأسه أو خليفته (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) لقوّة وثوقهم واعتمادهم على حصونهم فأتاهم بأس الله في حصونهم ، عن القمّىّ سبب ذلك انّه كان بالمدينة ثلاثة ابطن من اليهود ، بنى النّضير وقريظة وقينقاع وكان بينهم وبين رسول الله (ص) عهد ومدّة فنقضوا

__________________

(١) ساخ يسيخ ويسوخ دخل وغاب ورسخ وخسف.

١٦١

عهدهم وكان سبب ذلك بنى النّضير وذلك انّه أتاهم رسول الله (ص) يستسلفهم دية رجلين قتلهما رجل من أصحابه غيلة يعنى يستقرض ، وكان (ص) قصد كعب بن الأشرف فلمّا دخل على كعب قال : مرحبا يا أبا القاسم وأهلا وقام كأنّه يصنع له الطّعام وحدّث نفسه ان يقتل رسول الله (ص) ويتبع أصحابه ، فنزل جبرئيل فأخبره بذلك فرجع رسول الله (ص) الى المدينة وقال لمحمّد بن مسلمة الانصارىّ : اذهب الى بنى النّضير فأخبرهم انّ الله تعالى قد أخبرنى بما هممتم به من الغدر فامّا ان تخرجوا من بلدنا وامّا ان تأذنوا بحرب ، فقالوا : نخرج من بلادك فبعث إليهم عبد الله بن ابىّ : الّا تخرجوا وتقيموا وتنابذوا محمّدا الحرب فانّى أنصركم انا وقومي وحلفائى ، فان خرجتم خرجت معكم وان قاتلتم قاتلت معكم ، فأقاموا وأصلحوا حصونهم وتهيّؤا للقتال وبعثوا الى رسول الله (ص) انّا لا نخرج فاصنع ما أنت صانع ، فقام رسول الله (ص) وكبّر وكبّر أصحابه وقال لأمير المؤمنين (ع) : تقدّم الى بنى النّضير فأخذ أمير المؤمنين (ع) الرّاية وتقدّم وجاء رسول الله (ص) وأحاط بحصنهم وغدر بهم عبد الله بن ابىّ وكان رسول الله (ص) إذا ظهر بمقدّم بيوتهم حصّنوا ما يليهم وخرّبوا ما يليه ، وكان الرّجل منهم ممّن كان له بيت حسن خرّبه وقد كان رسول الله (ص) امر بقطع نخلهم فجزعوا من ذلك وقالوا : يا محمّد (ص) انّ الله يأمرك بالفساد؟! ان كان لك هذا فخذه ، وان كان لنا فلا تقطعه ، فلمّا كان بعد ذلك قالوا : يا محمّد (ص) نخرج من بلادك فأعطنا مالنا ، فقال : لا ، ولكن تخرجون ولكم ما حملت الإبل ، فلم يقبلوا ذلك ، فبقوا ايّاما ثمّ قالوا : نخرج ولنا ما حملت الإبل ، فقال : لا ، ولكن تخرجون ولا يحمل أحد منكم شيئا فمن وجدنا معه شيئا من ذلك قتلناه ، فخرجوا على ذلك ووقع قوم منهم الى فدك ووادي القرى ، وخرج قوم منهم الى الشّام ، وقيل : لمّا غزا رسول الله (ص) غزاة بدر قال بنو النّضير : هذا هو النّبىّ الموعود انّه لا تردّ له راية ، فلمّا غزا غزاة أحد وهزم المسلمون ارتابوا ، وكان بينهم وبين محمّد (ص) عهد فنقضوا العهد وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبا منهم الى مكّة ، فأتوا قريشا وأبا سفيان وحالفوا على ان يكون كلمتهم واحدة على محمّد (ص) ، فأخبر الله تعالى رسوله (ص) بذلك ، فلمّا ورد كعب بن الأشرف امر الله رسوله (ص) بقتل كعب بن الأشرف فأمر محمّد بن مسلمة وكان أخا كعب من الرّضاعة بقتله فخرج محمّد ومعه اربعة رجال وذهب الى قرب قصره واجلس قومه عند جدار وناداه : يا كعب ، فانتبه ، وقال : من أنت؟ ـ قال : انا محمّد بن مسلمة أخوك ، جئتك استقرض منك دراهم فانّ محمّدا (ص) يسألنا الصّدقة وليس معنا الدّراهم فقال : لا أقرضك الّا بالرّهن ، قال : معى رهن انزل فخذه ، وكانت له امرأة بنى بها تلك اللّيلة ، فقالت : لا أدعك تنزل لانّى ارى حمرة الدّم في ذلك الصّوت فلم يلتفت إليها فخرج ، وعانقه محمّد بن مسلمة وهما يتحادثان حتّى تباعدا من القصر الى الصّحراء ، ثمّ أخذ رأسه ودعا بقومه وصاح كعب فسمعت امرأته وصاحت وسمع بنو النّضير صوتها فخرجوا نحوه فوجدوه قتيلا. ورجع القوم سالمين الى رسول الله (ص) ، فأمر رسول الله (ص) بحربهم. قيل : كان اجلاء بنى النّضير مرجع النّبىّ (ص) من أحد وكان فتح قريظة مرجعه من الأحزاب ، وبينهما سنتان. وقيل : كان اجلاء بنى النّضير قبل أحد على رأس ستّة أشهر من وقعة بدر ، وقيل : كان ذلك بعد الحديبيّة ، واليه أشار المولوىّ قدس‌سره بقوله :

وقت وا گشت حديبيه رسول

در تفكّر بود وغمگين وملول

ناگهان اندر حق شمع رسل

دولت انّا فتحنا زد دهل

آمدش پيغام از دولت كه رو

تو ز منع اين ظفر غمگين مشو

كاندر اين خوارى بنقدت فتحهاست

نك فلان قلعه فلان قلعه تراست

بنگر آخر چونكه وا گرديد تفت

بر قريظه وبر نضير از وى چه رفت

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) كانت بنو النّضير يخربون بيوتهم

١٦٢

بأيديهم ضنّة بها على المسلمين وإخراجا لآلاته النّفسية وتوسعة للقتال ومجالة مع المسلمين وتحصّنا بأطرافها الّتى تليهم بجمع آلات الأطراف الّتى تلى المسلمين في الأطراف الّتى تليهم (وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) فانّ المؤمنين أيضا كانوا يخربون الأطراف الّتى تليهم من بيوتهم لتوسعة القتال وإمكان الوصول إليهم ، ولمّا كانوا سببا لقتال المسلمين بنقض العهد نسب الاخراب بأيدي المؤمنين إليهم ، وقرئ يخرّبون بتشديد الرّاء (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) فاتّعظوا بحالهم فانّ الاعتبار عبارة عن ان ينظر الرّجل الى امر حسن أو الى امر قبيح وان ينظر الى عاقبته وما يترتّب عليه ثمّ عطف النّظر الى نفسه فارتدع عن القبيح ورغب في الحسن ، وتمسّك بعض من اعتبر القياس بمثل هذه الآية ولا يخفى عدم دلالتها على اعتبار القياس (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) مثل بنى قريظة (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) يعنى انّ عذاب النّار ثابت لهم في الآخرة وان لم يعذّبوا في الدّنيا (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) عاندوا الله ورسوله (ص) ونبذوا عهده (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) في الدّنيا والآخرة يعنى يعاقبه بشدّة العقوبة لانّ الله شديد العقاب (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) اللّينة اردء التّمر ، أو ما كان أجناسا غير معروفة ، ونسب الى الصّادق (ع) انّه قال : يعنى العجوة وهي امّ التّمر وهي الّتى أنزلها الله من الجنّة لآدم (ع) (أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ) جواب عمّا قالوا : يا محمّد انّ الله يأمرك بالفساد؟! حين قطع النّخل (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) بغيظهم وحسرتهم على قطع نخيلهم في حضورهم (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) اى ردّه اليه.

اعلم ، انّ تمام ما سوى الله مملوك للحقّ تعالى شأنه نحو مملوكيّة القوى العلّامة والعمّالة للنّفس الانسانيّة بل نحو مملوكيّة الصّور الذّهنيّة للنّفس الانسانيّة وانّ الإنسان كلّما رقى مرتبة من المراتب الانسانيّة كان المرتبة الدّانية في عين مملوكيّته خليفة للمرتبة العالية مثلا إذا عرج الإنسان عن مقام النّفس الى مقام القلب صار مقام النّفس مملوكا للقلب وخليفة له في التّصرّف في القوى ، وصارت القوى كما انّها مملوكة للقلب مملوكة للنّفس بعد القلب وهكذا ، وانّ الله تعالى مالك لجميع ما سواه وبعده تعالى العقول مالكة لما دونها ، وبعدها النّفوس الكلّيّة مالكة ، وبعدها النّفوس الجزئيّة مالكة ، هذا في النّزول ، وامّا في الصّعود وهو مختصّ بالإنسان ، فاذا استكمل الإنسان واتّصل بعالم الملأ الا على صار مالكا لما دونه وخليفة لله فيما دونه فكلّما في عالم الطّبع فهو لله ، وما كان لله فهو لرسوله (ص) ، وما كان لرسوله (ص) فهو للائمّة (ع) ، وما كان للائمّة (ع) فهو مباح لشيعتهم كما قال تعالى : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، وما كان في أيدي الأغيار فهو مغصوب في أيديهم ، وما اخذه الرّسول (ص) والائمّة (ع) والمؤمنون منهم فهو حقّهم الّذى كان مأخوذا منهم غصبا وصار عائدا الى اهله الّذين كانوا مالكين له ولذلك سمّى فيئا (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ) وجف يجف اضطرب ، والوجيف ضرب من سير الخيل والإبل (مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) الخيل جماعة الافراس لا واحد له ، أو واحده الخائل ، ويطلق على جماعة الفرسان ، والرّكاب ككتاب الإبل واحدتها الرّاحلة ، قيل : نزلت هذه الآية في غنائم بنى النّضير والآية الآتية في سائر اموال الكفّار الّتى يفيئها الله على رسوله (ص) ، وقيل : كلتاهما نزلتا في غنائم بنى قريظة وبنى النّضير كانوا بقرب المدينة فمشوا الى قراهم سوى الرّسول (ص) فانّه ركب حمارا أو جملا ولم يجر مزيد قتال ولذلك لم يعط الأنصار منها شيئا الّا رجلين أو ثلاثة وفي غنائم خيبر وفدك ، وقرى عرينه وينبع ، والآية الاولى لبيان عدم استحقاق

١٦٣

المقاتلين بحقّ المقاتلة ، والآية الثّانية لبيان المصرف (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) اى ذي قربى الرّسول (ص) (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) من قرابات الرّسول (ص) وقد خصّص في الاخبار كلّ ذلك بأقرباء الرّسول (ص) (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) الدّولة بالفتح والضّمّ المال الّذى يتداولونه بينهم ، أو بالضّمّ في المال ، وبالفتح في الحرب ، أو بالضّمّ في الآخرة ، وبالفتح في الدّنيا ، كذا في القاموس (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ) اى ما أعطاكم من غنائم بنى النّضير ، أو من مطلق الغنائم ، أو من مطلق الأموال والأوامر (فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة الرّسول (ص) (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) عن الصّادق (ع) انّ الله عزوجل ادّب رسوله (ص) حتّى قومه على ما أراد ثمّ فوّض اليه فقال عزّ ذكره : ما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، فما فوّض الله الى رسوله (ص) فقد فوّضه إلينا ، والاخبار في تفويض امر ـ العباد الى رسول الله (ص) كثيرة وانّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أحلّ وحرّم أشياء فأجازه الله تعالى ذلك له (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) بدل من قوله لذي القربى ، أو بدل من مجموع قوله لله وللرّسول ويكون إبداله بالنّسبة الى الله ورسوله نحو بدل الاشتمال ، وبالنّسبة الى ذي القربى وما بعده نحو بدل الكلّ من الكلّ والمراد بالمهاجرين من هاجر من مكّة أو من سائر بلاد الكفر الى المدينة أو من هاجر السّيّئات الى الحسنات ، أو من هاجر من دار النّفس الامّارة الى دار النّفس اللّوامة ، ومنها الى النّفس المطمئنّة اللّتين هما دار الإسلام ، ومنها الى القلب الّذى هو دار الايمان (الَّذِينَ أُخْرِجُوا) صفة للفقراء أو ابتداء كلام ومبتدأ ويبتغون خبره ، أو أولئك هم الصّادقون خبره والجملة في مقام التّعليل ، ووضع الظّاهر موضع المضمر ليكون بعقد الوضع دالّا على علّة الحكم أيضا والمقصود انّهم أخرجهم الكفّار من مكّة أو من سائر بلادهم ، أو أخرجهم الملائكة من بلاد الكفر ، أو من مراتب نفوسهم وقال : اخرجوا دون خرجوا للاشعار بانّ الخارج من وطنه أو من مقام الى مقام ان لم يكن بحسب الظّاهر له مخرج فهو خارج بمخرج باطنيّ وليس خارجا بنفسه فيكون خروجه نعمة من ربّه (مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ) في ذلك الخروج (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) الفضل كما تكرّر ذكره النّعم الصّوريّة والرّسالة وأحكامها وقبولها ، والرّضوان الولاية وآثارها وقبولها (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) عطف على الفقراء المهاجرين أو على المهاجرين أو على الّذين اخرجوا أو مبتدء وخبره يحبّون من هاجر إليهم والجملة معطوفة على سابقتها والمعنى الّذين أقاموا في دورهم وهم الأنصار الّذين لم يكن لهم ان يخرجوا لهجرة الرّسول (ص) إليهم (وَالْإِيمانَ) يعنى أقاموا في الايمان فانّ الأوصاف كثيرا يحكم عليها بحكم الظّروف (مِنْ قَبْلِهِمْ) اى من قبل المهاجرين فيكون المراد الّذين آمنوا بمكّة ثمّ رجعوا الى المدينة وانتظروا قدوم محمّد (ص) ، أو المعنى تبوّأوا الدّار والايمان من قبل هجرة المهاجرين (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) من المؤمنين المهاجرين لانّهم أحسنوا الى المهاجرين واسكنوهم دورهم واشركوهم في أموالهم (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) اى المهاجرين اى لا يجد الّذين تبوّأوا الدّار في أنفسهم حسدا أو غيظا لازما للحاجة والفقر ناشئا ممّا اوتى المهاجرون ، أو من أجل ما اوتى المهاجرون

١٦٤

من غنائم أهل القرى أو غنائم بنى النّضير ، أو ممّا أوتوا من الفضل الصّورىّ والمعنوىّ لتسليمهم لقسم الله وتوكّلهم على الله ورضاهم بما آتى الله العباد من الفضل الصّورىّ والمعنوىّ ، أو لا يجدون في صدورهم حاجة في شيء من الأشياء لأجل ما أوتوا من قوّة اليقين وقوّة التّوكّل واستغناء القلب فيكون حينئذ مرفوع أوتوا راجعا الى الّذين تبوّؤا الدّار (وَيُؤْثِرُونَ) المؤمنين المهاجرين (عَلى أَنْفُسِهِمْ) بان يقدّموا المؤمنين في حظوظهم النّفسانيّة وفي إفضال الله بحسب الظّاهر والباطن (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) فقر وحاجة (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) يعنى من حفظه الله من شحّ نفسه والشّحيح أبلغ من البخيل فانّ البخيل من يبخل بما في يده ولا يعطيه لمستحقّه ، والشّحيح من يبخل بمال الغير بمعنى انّه يريد ان يكون ما في يد الغير له ويحتال في أخذ ما في يد الغير بالحلال أو الحرام ، وقيل : شحّ النّفس هو أخذ الحرام ومنع الزّكاة (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) روى انّه جاء رجل الى رسول الله (ص) فشكا اليه الجوع فبعث رسول الله (ص) الى بيوت أزواجه فقلن : ما عندنا الّا الماء ، فقال رسول الله (ص) : من لهذا الرّجل اللّيلة؟ ـ فقال علىّ بن ابى طالب (ع): انا له يا رسول الله (ص) ، وأتى فاطمة (ع) فقال لها : ما عندك يا ابنة رسول الله؟ ، فقالت : ما عندنا الّا قوت العشيّة لكنّا نؤثر ضيفنا ، فقال يا ابنة محمّد (ص) نوّمى الصّبية وأطفئي المصباح ، فلمّا أصبح علىّ (ع) غدا على رسول الله (ص) فأخبره الخبر فلم يبرح حتّى انزل عزوجل : ويؤثرون على أنفسهم (الآية) ، وقيل : انّه أهدي لبعض الصّحابة رأس مشويّ وكان مجهودا فوجّه به الى جار له فتداولته تسعة ثمّ عاد الى الاوّل فنزل : ويؤثرون على أنفسهم. وقيل: قال رسول الله (ص) يوم بنى النّضير للأنصار : ان شئتم قسّمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة ، وان شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسّم لكم شيء من الغنيمة فقال الأنصار : بل نقسّم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها ، فنزلت الآية. وقيل : نزلت في سبعة عطشوا في يوم أحد فجيء بماء يكفى لأحدهم فقال واحد منهم : ناول فلانا حتّى طيف على سبعتهم وماتوا ولم يشرب أحد منهم ، فأثنى الله سبحانه عليهم بهذه الآية. (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) عطف على المهاجرين ، أو على الفقراء ، أو على من هاجر إليهم عطف المفرد ، أو مبتدأ وخبره يقولون والمعنى الّذين يجيئون من بعد المهاجرين من مكّة أو من سائر البلاد ، أو الّذين يجيئون من بعد المهاجرين والأنصار من سائر المؤمنين من العدم الى الوجود (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) اى سبقونا في رتبة الايمان أو سبقونا في أصل الايمان والتّوصيف به لبيان وجه الأخوّة وانّها اخوة في الدّين (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) اى حقدا (لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) تجيب عبادك برأفتك (أَلَمْ تَرَ) يا محمّد (ص) أو من يمكنه الرّؤية (إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) وهو عبد الله بن ابىّ (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعنى بنى النّضير (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من دياركم (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) يعنى لا نطيع محمّدا (ص) وأصحابه في القتال معكم (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) وكان كذلك حيث وعدهم ابن ابىّ ثمّ تخلّف كما مضى (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) قضيّة فرضيّة فانّه لم يقع منهم نصر لهم (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) لانّهم لا يخافون من الله ويخالفونه ويخافون منكم ويوافقونكم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) لا يعلمون علما دينيّا اخرويّا وكان ادراكاتهم محصورة على ظاهر

١٦٥

الدّنيا ولذلك لا يخافون من الله ويخافون منكم (لا يُقاتِلُونَكُمْ) ايّها المؤمنون (جَمِيعاً) اى المنافقون واليهود إذا اجتمعوا لا يقاتلونكم (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) لخوفهم منكم وهذه تجرئة للمؤمنين (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) ولكن لالقاء الرّعب في قلوبهم لا يجترءون على مقاتلتكم لا لضعف وجبن فيهم (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) كما انّ هذا شأن جميع أهل الدّنيا تكون أبدانهم مجتمعة وقلوبهم متفرّقة (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) لا عقل لهم ، أو لا يدركون بعقولهم ، أو لا يتعقّلون ما فيه صلاحهم (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) متعلّق بواحد من الأفعال السّابقة ، أو خبر مبتدء محذوف والتّقدير مثلهم في ذلك كمثل الّذين من قبلهم والمراد بمن قبلهم بنو قينقاع ، أو الّذين قتلوا ببدر أو كلّ أبناء الدّنيا ، فانّ من كان من أهل الدّنيا حاله ان لا يفي بوعده ان لم يكن في الوفاء نفعه الدّنيوىّ وكان من يشاهدونهم اشدّ رهبة في صدورهم ممّن لا يشاهدونه وتحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى. قيل : انّ بنى قينقاع نقضوا العهد وقت رجوع رسول الله (ص) من بدر فأمرهم رسول الله (ص) ان يخرجوا قال عبد الله بن ابىّ : لا تخرجوا فانّى أتى الى النّبىّ (ص) فاكلّمه فيكم أو ادخل معكم الحصن ، فكان هؤلاء أيضا مغترّين بإرسال عبد الله بن ابىّ ثمّ ترك نصرتهم (قَرِيباً) اى حالكونهم قريبا منكم أو زمانا قريبا (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) متعلّق بقوله تعالى: من قبلهم ، أو بذاقوا أو بقوله لهم في لهم عذاب اليم ، أو خبر مبتدء محذوف والتّقدير مثل عبد الله بن ابىّ في غزوه بنى النّضير وبنى قينقاع كمثل الشّيطان (إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) قولا فعليّا أو قولا نفسانيّا (فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) الإتيان بالماضي للاشعار بانّ المراد بذلك القول وهذا الإنسان قول شخصىّ وإنسان مشخّص لا القول النّوعىّ والإنسان الجنسىّ ، والّا كان المناسب ان يقول كمثل الشّيطان يقول للإنسان على الاستمرارا كفر ، ولعلّه اشارة الى تمثّله بصورة سراقة وإغراء المشركين على محمّد (ص) ببدر ، وقيل : انّه اشارة الى عابد بنى إسرائيل كان اسمه برصيصا ، عبد الله زمانا من الدّهر حتّى بلغ من عبادته الى ان يؤتى بالمجانين اليه وكان يداويهم ويعوّذهم ، فيبرءون ، وأتى بامرأة كانت في شرف في أهلها قد جنّت وكان لها اخوة فأتوه بها فكانت عنده فلم يزل به الشّيطان حتّى وقع عليها فحملت فلمّا استبان حملها قتلها ودفنها ، فذهب الشّيطان فقال لإخوتها واحدا واحدا ، فجعل الرّجل يلقى أخاه فيقول : والله لقد أتانى آت فذكر لي شيئا يكبر علىّ ذكره ، فذكر بعضهم لبعض حتّى بلغ ذلك ملكهم ، فسار الملك والنّاس فاستذلّوه فاقرّ لهم بما فعل ، فأمر به فصلب ، فلمّا رفع على خشبته تمثّل له الشّيطان فقال : انا الّذى القتيك في هذا فهل أنت مطيعي فيما أقول لك اخلّصك ممّا أنت فيه؟ ـ قال : نعم ، قال : اسجد لي سجدة واحدة فقال : كيف اسجد لك وانا على هذه الحالة؟ ـ فقال : اكتفى منك بالإيماء ، فأومى له بالسّجود فكفر بالله وقتل الرّجل (فَكانَ عاقِبَتَهُما) اى الشّيطان والإنسان الكافر بقوله أو عاقبة الفريقين من الممثّل له والممثّل به (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة الاسلاميّة (اتَّقُوا اللهَ) في ارتكاب المناهي وترك الأوامر القالبيّة ، أو اتّقوا الله في نقض البيعة ونقض العهد كعبد الله بن ابىّ وبنى النّضير وبنى قينقاع ، أو اتّقوا الله في شوب الأعمال القالبيّة بالأغراض النّفسانيّة المباحة أو الغير المباحة ، أو المعنى يا ايّها الّذين آمنوا بالبيعة الايمانيّة الولويّة اتّقوا الله في الانحراف عن طريق القلب أو اتّقوا الله في نسيان الذّكر المأخوذ ، أو في نسيان الله في جميع أعمالكم ، أو المعنى يا ايّها الّذين آمنوا بالايمان الشّهودىّ بشهود ملكوت ولىّ الأمر ونزول السّكينة والحضور عند ولىّ أمركم اتّقوا الله في الالتفات الى غير ولىّ أمركم والالتذاذ

١٦٦

بغير شهود جماله فانّه ضيف عزيز غيور إذا نظرتم الى غيره أو انصرفتم الى لذّة غير لذّة شهود جماله لم يقم في بيوت قلوبكم وبقي لكم حسرة فراقه وندامته ، أو اتّقوا الله في نسبة الأفعال والصّفات الى أنفسكم حين حضوركم عند ولىّ أمركم (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) نكّر النّفس مع انّ المراد ولتنظر كلّ نفس ما قدّمت لغد لإيهام انّه إذا نظر نفس واحدة من المؤمنين الى اعماله يكفى عن سائر المؤمنين لاتّحاد بينهم ، أو للاشارة الى انّهم نفس واحدة وان كان أبدانهم متعدّدة لانّ فعليّتهم الاخيرة هي صورة ولىّ أمرهم النّازلة إليهم بالبيعة وقبول الولاية فعلى هذا يكون المعنى : ولتنظر نفس عظيمة هي صورة ولىّ أمرهم وهي فعليّتهم الاخيرة ما قدّمت لغد ، ويكون فيه اشارة الى انّ من ينظر الى اعماله الاخرويّة فلينظر بالفعليّة الاخيرة الّتى هي فعليّة الولاية حتّى يمكنه ان يميّز بين صحيحها وفاسدها مشوبها وخالصها ، مدّخرها لغده وراجعها الى النّفس والعاجل ، فانّ هذا التّميز امر صعب لا يحصل الّا للنّاقد البصير المخلص ، أو للاشارة الى انّ نفس ولىّ أمرهم نفسيّة الكلّ والمعنى ولتنظر نفس عظيمة ما قدّمت لغد بنفسها فانّ نظرها الى ما قدّمت هي يكفى عن نظر المؤمنين ، أو لتنظر نفس ولىّ الأمر ما قدّمت لغد اى ما قدّمت اتباعها لغد فانّ فعل الاتباع فعلى ولىّ الأمر بوجه ، والمعنى انّ ولىّ الأمر مأمور بان ينظر الى اعمال اتباعه ويجبر نقصانها وقال لغد مع انّ المراد ما قدّمت للقيامة للاشارة الى قربها ، ولانّ المراتب الطّوليّة كالايّام العرضيّة كلّ يجيء بعقب الاخرى وكلّ يخلف الاخرى ولانّ المراتب الطّوليّة كلّ بالنّسبة الى الاخرى يوم وليل باعتبارين كما سبق مكرّرا ، ونكّر الغد لتفخيمه وللاشارة الى انّه لا يمكن تعريفه للمحجوبين بحجاب المادّة ، ولفظة ما نافية ، والجملة صفة لنفس ، أو معلّق عنها العامل ، أو استفهاميّة ومعلّق عنها العامل ، أو موصولة ومفعول لتنظر (وَاتَّقُوا اللهَ) تأكيد لقوله اتّقوا الله أو النّظر منه الى مرتبة اخرى من التّقوى فانّ للتّقوى كما مرّ في اوّل البقرة وأشرنا اليه هاهنا مراتب عديدة مترتّبة ، أو المقصود منه ان تتّقوا الله بعد ما نظرتم الى أعمالكم الاخرويّة وميّزتم سقيمها عن سليمها ومشوبها عن خالصها في ان تفسدوها بالأغراض النّفسانيّة ، أو تشوبوها بالانتفاعات النّفسيّة ولو كانت تلك الانتفاعات القرب من الله أو رضاه أو المقامات الاخرويّة (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فيميز المشوب عن الخالص فهو تأكيد للتّقوى وتعليل للأمر بها (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) مطلقا فلا يعملون لغد ، أو لا تكونوا كالّذين نسوا الله فيما يعملون للآخرة فيجعلونها للدّنيا من حيث لا يشعرون (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) الّتى هي جهاتهم الإلهيّة ولطيفتهم الانسانيّة فانّها ذواتهم وأنفسهم الانسانيّة ، وبنسيان أنفسهم ينسون ما ينفعها فلا يفعلون ما يفعلون الّا لأنفسهم الحيوانيّة لا لأنفسهم الانسانيّة فيكونون في الآخرة من الأخسرين أعمالا (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) ، أو فأنساهم امامهم الّذى هو نفسيّة أنفسهم وبنسيان الامام لا يكون للإنسان الّا الوبال والخسران (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) تعليل للسّابق (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) في مقام التّعليل كانّه قال : نهيناكم عن المماثلة معهم لانّه لا يستوي في القيامة النّاسون لأنفسهم والمتّقون لان النّاسين أصحاب النّار والمتّقين أصحاب الجنّة لكنّه عدل عن المضمر الى هذا الظّاهر لافادة انّهم أصحاب النّار وانّ المتّقين أصحاب الجنّة ، وللاشارة الى علّة عدم الاستواء (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) ويستفاد من حصر الفوز بأصحاب الجنّة بقرينة المقابلة انّ أصحاب النّار هم الخاسرون المعذّبون (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) مع صلابته وعظمته (لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) وقد أنزلناه عليكم وأنتم ضعفاء ليّنون وما خشعتم وما تصدّعتم من خشية الله ، وهذه قضيّة فرضيّة وتعريض ببني آدم (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) الفرضيّة (نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) في أحوالهم

١٦٧

وينظرون الى قساوتهم ويتدبّرون في تليين قلوبهم (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) كلام منقطع عن سابقه والمنظور إثبات التّوحيد الّذى هو المنظور من كلّ منظور ومبدء كلّ مبدء وغاية كلّ غاية والثّناء عليه وتعداد محامده (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) اى عالم بما غاب عن الخلق وبما كان مشهودا لهم ، أو عالم بعالم الغيب وعالم الشّهادة (هُوَ الرَّحْمنُ) المفيض للوجودات وللكمالات الاوّليّة على الموجودات (الرَّحِيمُ) المفيض للكمالات الثّانويّة عليها ، أو الرّحمن هو المفيض لاصل الوجود وجميع كمالاته على الأشياء والمفيض للوجود وكمالاته الاولويّة على الإنسان ، والرّحيم هو المفيض للكمالات الثّانية على الإنسان وقد سبق معناهما مفصّلا في سورة فاتحة الكتاب (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لمّا كان المنظور التّوحيد وتعداد المحامد أتى بهذه الجملة بدون العاطف بنحو التّعداد ، وفي هذه اشارة الى تعليل السّابق وهو باعث لترك العاطف أيضا وهي تأكيد للأولى وهو أيضا باعث لترك العاطف (الْمَلِكُ) الّذى يتصوّر كونه ملكا بتصوير كون النّفس ملكا لقواها بل لصورها الذّهنيّة وبذلك يثبت كونه رحمانا رحيما وكونه عالما بالغيب والشّهادة (الْقُدُّوسُ) الّذى كان منزّها عن الكثرات ، ونسبة الأفعال والصّفات ، ولحاظ تلك النّسب والحيثيّات ، وقد مضى في اوّل البقرة عند قوله تعالى : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) بيان وتفصيل للتّسبيح والتّقديس ، وقرئ قدّوس بفتح الفاء وهما لغتان فيه والصّيغة للمبالغة مثل سبّوحا مفتوحا ومضموما (السَّلامُ) السّالم من كلّ نقص وعيب ومن كلّ أنحاء الكثرات والحدود والنّسب والإضافات الّا في اعتبار المعتبرين ، والسّالم من تمسّك به من كلّ اثم وذنب وخطاء ، والسّالم من خاف منه من كلّ امر مخوف ، والسّالم عباده من ظلمه (الْمُؤْمِنُ) الّذى آمن خلقه عن ظلمه ، أو آمن خلقه من المخوفات ، أو جعل عباده أمناء ، أو امن بنفسه قبل ايمان خلقه ، أو دعا خلقه الى الايمان به (الْمُهَيْمِنُ) هيمن قال أمين مثل أمّن ، وهيمن الطّائر على فراخه رفّ ، وهيمن على كذا صار رقيبا عليه ، والمهيمن من أسمائه تعالى بمعنى المؤتمن ، أو من آمن غيره من الخوف ، أو الأمين ، أو الشّاهد ، أو الرّقيب ، وقيل : هو مؤامن بهمزتين قلبت الثّانية ياء ثمّ الاولى هاء (الْعَزِيزُ) الغالب الّذى لا يغلب أو ذو المناعة والتّأنّف (الْجَبَّارُ) الّذى يجبر كلّ كسر ونقص وقصور وتقصير من عباده ، أو من سائر خلقه ، أو العظيم الشّأن ، أو الّذى يذلّ من دونه ولا تناله يد غيره (الْمُتَكَبِّرُ) البالغ في كبره بحيث لا يبقى عنده جليل ولا حقير (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) من الأصنام والكواكب والعناصر وسائر المواليد لعدم بقاء شيء عند كبره (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) تعداد للمدائح وتعليل للسّابق ، والخالق هو الّذى أوجد مادّة الشّيء اوّلا ، والبارئ هو الّذى سوّاه وأوجده على ما ينبغي ، والمصوّر هو الّذى يعطى كلّه وكلّ اجزائه صورا لائقة بحالها (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الاسم كما سبق في اوّل الفاتحة وفي اوّل البقرة عند قوله : (عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) للاختصاص له بالاسم اللّفظىّ بل كلّما يدلّ على شيء آخر هو اسم لذلك الشّيء سواء كان دلالته وضعيّة أم طبعيّة أم عقليّة ، وسواء كان الدّالّ لفظا أو معنى أو ذاتا جوهريّا ، والاسم الحسن هو الّذى لا يكون في إطلاقه على الله وفي دلالته عليه شوب نقص وعدم وحدّ ، وهذه العبارة تفيد بتقديم له ومعناه حصر الأسماء الحسنى فيه وذلك لحصر الصّفات العليا فيه ، وبمفهوم مخالفة الصّفة تفيد عدم جواز اطلاق الأسماء السّوءى عليه ، والأسماء السّوءى ما كان دلالته أو إطلاقه عليه تعالى مستلزما للنّقص والحدّ ، والجملة في مقام التّعليل لاتّصافه تعالى بالأسماء السّابقة ، وقد مضى في سورة الأعراف عند قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) تفصيل لهذه العبارة (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لمّا كان السّورة لبيان توجّه الأشياء اليه تعالى ، وتوجّهه

١٦٨

تعالى بالتّربية إليهم ختم السّورة بما فتحها به وجعله تعليلا لقوله تعالى : له الأسماء الحسنى فانّ تمام الأسماء الاضافيّة والأسماء الحقيقيّة تستفاد من تسبيح جميع الأشياء له ، وقوله : هو العزيز الحكيم تعليل وتأكيد لما يستفاد من تسبيح الأشياء له فانّه لا يتصوّر ان تكون الأشياء مسبّحة له تعالى الّا إذا كان هو الفعليّة الاخيرة للأشياء وكان قوام جميع الأشياء به ، وهذا المعنى يستلزم جميع الصّفات السّلبيّة والاضافيّة والحقيقيّة ذات الاضافة والحقيقة المحضة.

سورة الممتحنة

مدنيّة ، وثلاث عشرة آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) قيل : نزلت في خاطب بن ابى بلتعة وذلك انّ مولاة ابى عمرو أتت رسول الله (ص) من مكّة الى المدينة بعد بدر بسنتين فقال لها رسول الله (ص) : أمسلمة جئت؟ ـ قالت : لا ، قال : فما جاء بك؟ ـ قالت : احتجت حاجة شديدة فأتيتكم لترفعوا حاجتي ، قال : فأين أنت من شبّان مكّة؟ ـ وكانت مغنيّة نائحة قالت : ما طلب منّى أحد بعد وقعة بدر فحثّ رسول الله (ص) عليها بنى عبد المطّلب فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة ، وكان رسول الله (ص) يتجهّز لفتح مكّة فأتاها خاطب بن ابى بلتعة وكتب معها كتابا الى أهل مكّة وأخبرهم انّ محمّدا (ص) يريدهم ، فخرجت سارّة ومعها الكتاب وكانت كتمته في ذؤابتها ، فنزل جبرئيل فأخبر النّبىّ (ع) فبعث رسول الله (ص) عليّا وعمّارّا وعمر والزّبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد وكانوا كلّهم فرسانا ، وقال لهم : انطلقوا حتّى تأتوا روضة خاخ وخذوا الكتاب منها ، فخرجوا الى ذلك المكان فوجدوها به فقالوا لها : اين الكتاب؟ ـ فحلفت بالله ما معها كتاب ففتّشوها فلم يجدوا معها كتابا فهمّوا بالرّجوع ، فقال علىّ (ع) : والله ما كذب رسول الله (ص) وسلّ سيفه وقال : اخرجى الكتاب والّا والله لاضربنّ عنقك فأخرجته من ذؤابتها فرجعوا بالكتاب الى رسول الله (ص) ، فقال لخاطب : ما حملك على ما صنعت؟ ـ قال : يا رسول الله (ص) والله ما كفرت منذ أسلمت ولاغششتك منذ نصحتك ولكن لم يكن أحد من المهاجرين الّا وله بمكّة من يمنع عشيرته وكنت غريبا وكان أهلي بين ظهرانيّهم فخشيت على أهلي فأردت ان اتّخذ عندهم يدا وقد علمت انّ كتابي لا يغني عنهم شيئا (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) من مكّة (أَنْ تُؤْمِنُوا) لان تؤمنوا (بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) شرط تهييجىّ (تُسِرُّونَ) تلقون (إِلَيْهِمْ) في السّرّ أو تظهرون إليهم في السّرّ (بِالْمَوَدَّةِ) أو تعلمونهم في السّرّ من أحوال الرّسول (ص) بسبب المودّة الّتى بينكم وبينهم (وَأَنَا أَعْلَمُ) فعل أو افعل التّفضيل (بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) فاطلع رسولي عليكم (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) وهو الصّراط الانسانىّ يعنى ضلّ سواء السّبيل الى الطّرق الشّيطانيّة (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) في موضع التّعليل (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) بالقتل والضّرب والشّتم (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) عطف على جملة الشّرط والجزاء (لَنْ تَنْفَعَكُمْ

١٦٩

أَرْحامُكُمْ) الّذين تخالفون رسول الله (ص) بسببهم (وَلا أَوْلادُكُمْ) والجملة جواب لسؤال مقدّر عن كيفيّة انتفاعهم بأرحامهم أو عن علّة هذا القول (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ظرف لقوله لن تنفعكم أو لما بعده (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) اى يفرّق بينكم يوم القيامة بشدّة الهول والخوف بحيث يفرّ كلّ من كلّ ، وقرئ يفصل مبنيّا للفاعل ومبنيّا للمفعول من الثّلاثىّ المجرّد ومن التّفعيل (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم على ما عملتم فلا نجاة لكم من قبل أرحامكم ولا من قبل الله تعالى (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) اقتداء حسن أو خصلة حسنة ينبغي ان يقتدى بها (فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا) بدل من إبراهيم أو تعليل أو ظرف لقوله معه (لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ) اى تبرّأنا منكم فانّ الكفر هاهنا كما في الخبر بمعنى البراءة (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً) يعنى بغضنا لكم بغض لله وبغضكم لنا بغض للشّيطان (حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) فحينئذ ينقلب العداوة محبّة والفة (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ) استثناء من إبراهيم استثناء متّصلا في كلام تامّ أو استثناء مفرّغ والتّقدير لكم أسوة حسنة في إبراهيم في كلّ شيء منه الّا في قول إبراهيم (ع) (لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) فانّ هذا القول كان لموعدة وعدها ايّاه والّا كان متبرّء منه (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) اى من قبل الله أو من رحمة الله أو من عذاب الله (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) اشارة الى الفناءات الثّلاثة ، فانّ التّوكّل ليس الّا بترك نسبة الفعل الى النّفس ، والانابة حينئذ تكون بترك نسبة الصّفات ، وإليك المصير اشارة الى فناء الذّات ، هذه الجمل من مقول القول الاوّل ومن جملة ما يتأسّى به (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) اى لا تجعلنا امتحانا أو ضلالا أو إثما أو كفرا أو فضيحة أو عذابا أو اضلالا يعنى لا تجعلنا سبب ذلك لهم ، أو لا تجعلنا ممتحنين لأجل عذاب الّذين كفروا ، أو لأجل هداية الّذين كفروا ومعنى كونهم سببا لفتنة الّذين كفروا ان يجعلهم بحال من الفقر والحاجة أو من الابتلاء والمصيبة أو من ارتكاب ما لا ينبغي ان يرتكبوا من المعاصي أو من اختلاف الكلمة والنّزاع بينهم ، أو من موالاة الكفّار أو اتّباعهم في بعض ما لهم ، أو من المعارضة معهم ، أو من المجادلة معهم والضّعف عن جوابهم يستهزئ بهم أو يغتابون أو يعارضون أو يشتمون أو ينفر منهم ومن دينهم أو يقاتلون ، وقيل : معناه ولا تسلّطهم علينا فيفتنونا عن دينك ، وقيل : الطف بنا حتّى نصبر على أذاهم ولا نتّبعهم فنصير فتنة لهم ، وروى عن الصّادق (ع) انّه قال : ما كان من ولد آدم (ع) مؤمن الّا فقيرا ولا كافرا الّا غنيّا حتّى جاء إبراهيم (ع) فقال : ربّنا لا تجعلنا فتنة للّذين كفروا ، فصيّر الله في هؤلاء أموالا وحاجة وفي هؤلاء أموالا وحاجة أقول على المؤمنين ان يشكروا إبراهيم (ع) ولا ينسوا منّته الّتى منّها عليهم (وَاغْفِرْ لَنا) ما فرّط منّا حتّى لا تؤاخذنا بذلك فتجعلنا فتنة لغيرنا (رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الغالب المنيع (الْحَكِيمُ) الّذى تعلم دقائق الأمور وتتقن الصّنع مشتملا على غايات دقيقة انيقة (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ) في إبراهيم (ع) وقومه (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) كرّره للتّأكيد والتّرغيب ولتخصيصه بمن كان يرجوا لله (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) يعنى هذه الاسوة مختصّة بمن كان يرجوا لله وامّا غيره فلا يتأسّى (وَمَنْ يَتَوَلَ) عن التّأسّى منكم فلا يضرّ الله شيئا وانّما أمركم بالتّأسّى ترحّما عليكم (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) حمد أم لم يحمد (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) جواب

١٧٠

لسؤال مقدّر (وَاللهُ قَدِيرٌ) على ان يبدّل المعاداة والتّبرّى محبّة وموالاة (وَاللهُ غَفُورٌ) يغفر ما صدر منهم من معاداتكم بجهالة وما صدر منكم من موالاتهم بجهالة (رَحِيمٌ) يرحمهم ويرحمكم فضلا عن مغفرته لكم ، في خبر عن الباقر (ع): قطع الله ولاية المؤمنين من قومهم من أهل مكّة وأظهروا لهم العداوة فقال : عسى الله ان يجعل بينكم وبين الّذين عاديتم منهم مودّة فلمّا أسلم أهل مكّة خالطهم أصحاب رسول الله (ص) وناكحوهم وتزوّج رسول الله (ص) حبيبة بنت ابى سفيان بن حرب (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ) بدل عن الّذين لم يقاتلوكم (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) بتضمين تقضوا (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) بدل عن الّذين قاتلوكم أو التّقدير كراهة ان تولّوهم (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) بوضع الولاية غير موضعها بل موضع العداوة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ابتداء كلام وأدب آخر للمؤمنين ولذلك صدّره بالنّداء جبرانا لكلفة التّأديب وتنشيطا في الاستماع (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) بان تختبروا موافقة قلوبهنّ لالسنتهنّ بان يحلفن ما خرجن من بغض زوج ولا رغبة من ارض الى ارض ولا التماس دينا وما خرجن الّا حبّا لله ، وعلى هذا كان معنى مؤمنات مذعنات ومصدّقات ، أو مشرفات على الإسلام ، قيل : صالح رسول الله (ص) بالحديبيّة على انّ من أتاه من أهل مكّة ردّه عليهم ، ومن أتى أهل مكّة من أصحاب رسول الله (ص) لم يردّوه ، فجاءت سبيعة بنت الحارث مسلمة بعد الفراغ من الكتاب والنّبىّ (ص) بالحديبيّة فأقبل زوجها مسافر من بنى مخزوم في طلبها وكان كافرا فقال : يا محمّد اردد علىّ امرأتى فانك قد شرطت اليوم ان تردّ علينا من أتاك منّا ، فنزلت الآية فأعطى رسول الله (ص) زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردّها عليه فزوّجها عمر بن الخطّاب وكان رسول الله (ص) يردّ من جاءه من الرّجال ويحبس من جاءه من النّساء ، إذا امتحنّ (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) وانّما يأمركم بالامتحان ليظهر عليكم أيضا ايمانهنّ (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ) في موضع التّعليل (وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) روى انّه قيل للصّادق (ع): انّ لأمر أتى أختا عارفة على رأينا بالبصرة وليس على رأينا بالبصرة الّا قليل فازوّجها ممّن لا يرى رأيها؟ ـ قال: لا ، ولا نعمة ؛ انّ الله يقول : فلا ترجعوهنّ الى الكفّار (الآية) (وَآتُوهُمْ) اى آتوا الكفّار (ما أَنْفَقُوا) على تلك النّساء من المهر وغيره (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) ترخيص لهم في نكاحهنّ بعد اسلامهنّ (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) مهورهنّ سمّاها اجورا لانّ المهر أجر لبذل البضع ، وهذا يدلّ على عدم الاكتفاء في مهورهنّ بمهورهنّ الاولى المردودة الى أزواجهنّ (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) يعنى كما انّ المؤمنات لا يحللن للكفّار فكذلك المؤمنون لا يحلّون للكافرات ، والعصم جمع العصمة بكسر العين وقد يضمّ القلادة ، وهذه الآية كما تدلّ على حرمة المشركات تدلّ على حرمة الكتّابيّات (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) ان لحقت منكم امرأة بالكفّار (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) يعنى إذا كان بينكم معاهدة فاسئلوا أنتم ما أنفقتم وليسألوا أيضا ما أنفقوا ولا ترجعوا النّساء الملحقات بكم منهم إليهم ولا تستردّوا الملحقات بهم منكم (ذلِكُمْ) المذكور من حكم الملحقات بهم وبكم (حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) به

١٧١

(وَاللهُ عَلِيمٌ) بالمصالح والغايات المترتّبة على الأفعال والأحكام (حَكِيمٌ) لا يفعل فعلا الّا بغايات محكمة نافعة ولا يحكم حكما الّا لمصالح عديدة وغايات شريفة (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ) اى واحدة (مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ) اى راجعة الى الكفّار (فَعاقَبْتُمْ) اى فأصبتم من الكفّار عقبى اى غنيمة (فَآتُوا) ايّها المؤمنون (الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) من الغنيمة الّتى أصبتم أو المعنى فعاقبتم على نساء أخر فأتوا ايّها المؤمنون من بيت مال المسلمين الّذين ذهبت أزواجهم ما أنفقوا ، وقيل : عاقبتم الكفّار لسبى النّساء منهم أو بأخذ الغنيمة أو بإتيان النّساء منهم إليكم مؤمنات (وَاتَّقُوا) ايّها المؤمنون من عدم إعطاء ما أنفقوا (اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) قيل : كانت لحق المشركين من نساء المؤمنين ستّ نسوة فأعطى النّبىّ (ص) أزواجهنّ مهورهنّ (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) خصّ الخطاب والنّداء به لاختصاص الحكم به فانّه كان يأخذ البيعة من الرّجال والنّساء دون غيره (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ) اى المذعنات أو المشرفات على الإسلام (يُبايِعْنَكَ) لمّا كان زمان بعثة الرّسول (ص) زمان فترة من الرّسل (ع) واندراس من أحكامهم وكان النّاس بالأخذ من الآباء والمعلّمين منتحلين لملّتهم وكان البيعة الّتى كانت أصل جملة الخيرات ولم يكن شريعة ولم يصدق ملّة الّا بها مندرسة ممحّوا أثرها من الأذهان ، بل كانت غريبة في انظارهم مستهجنة في عقولهم الجزئيّة وكان الرّجال بعد مشاهدة هذه الفعلة من الرّسول (ص) وأخذ البيعة من كلّ من أراد الإسلام أيقنوا انّهم إذا أرادوا الإسلام وجب عليهم هذه الفعلة ، وامّا النّساء فكأنّه خفىّ عليهنّ وجوبها وكأنّهنّ اعتقدن انّ الإسلام بان يقلن : لا اله الّا الله ، محمّد رسول الله (ص) ، ولم يعلمن انّ الإنسان بهذه الكلمة في أمان فامّا الإسلام فلا يتحقّق الّا بالبيعة أظهر الله تعالى كيفيّة بيعتهنّ تعريضا بوجوبها عليهنّ أيضا (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) من الأشياء أو لا يشركن شيئا من الإشراك (وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) بالوأد (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) قيل : كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها : هذا ولدي منك كنّى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الّذى تلصقه بزوجها كذبا لانّ بطنها الّذى تحمله فيه بين اليدين وفرجها الّذى تلده به بين الرّجلين ، وليس المعنى نهيهن عن الإتيان بولد من الزّنا لانّ الشّرط بنهي الزّنا قد تقدّم ، وقيل : البهتان الّذى نهين عنه قذف المحصنات والكذب على النّاس ، واضافة الأولاد الى الأزواج على البطلان ، يعنى إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ذلك في الحاضر والمستقبل من الزّمان (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) يعنى لا يعصينك فيما أمرت به فانّه ليس الّا معروفا (فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

اعلم ، انّ البيعة الّتى كانت معمولة في جميع الشّرائع كانت بمنزلة الانفحّة للبن الوجود وما لم تتّصل الانفحّة باللّبن لم ينعقد وبمنزلة التّأبير لثمر النّخل ما لم يؤبّر النّخل لم يحمل الثّمر وبها يحصل اللّبّ لجوز الوجود وفستقه ، وبمنزلة الوصلة من الشّجر الحلو على الشّجر المرّ ما لم يتّصل من الشّجر الحلو وصلة بالشّجر المرّ لم يصر ثمره حلوا ، ولذلك كانوا في كلّ شريعة من اوّل الأمر مهتمّين بالبيعة ، قيل : كان النّبىّ (ص) يبايع النّساء بالكلام بهذه الآية : وما مسّت يد رسول الله (ص) يد امرأة قطّ الّا امرأة يملكها ، وروى انّه كان إذا بايع النّساء دعا بقدح ماء فغمس فيه يده ويقول ما قاله الله تعالى ثمّ اخرج يده ثمّ غمسن ايديهنّ فيه ، وقيل : انّه كان يبايعهنّ من وراء الثّوب ، وقيل : الوجه في بيعة النّساء مع انّهنّ لسن من أهل النّصرة بالمحاربة هو أخذ العهد عليهنّ بما يصلح شأنهنّ في الدّين والأنفس والأزواج ، وكان ذلك في صدر الإسلام ، ولئلّا ينفتق لهنّ فتق لما صنع من الأحكام فبايعهنّ النّبىّ (ص) حسما لذلك

١٧٢

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لمّا لم يكن هذا الحكم خاصّا بالنّبىّ (ص) خاطب جميع المؤمنين (لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) قيل : كان فقراء المسلمين يخبرون اليهود اخبار المسلمين فيصيبون من ثمارهم فنهى الله عن ذلك (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) اى الكفّار الّذين هم جنس أهل القبور من الآخرة ، أو كما يئس الكفّار من وصول خير من أهل القبور إليهم ، أو كما يئس الكفّار من ان يحيى أهل القبور.

سورة الصّف

مدنيّة ، وهي اربع عشرة آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) قيل : نزلت في قوم كانوا يقولون إذا لقينا العدوّ لم نفرّ ولم نرجع عنهم ثمّ لم يفوا يوم أحد ، وقيل : نزلت في قوم قالوا : جاهدنا وأبلينا وفعلنا ولم يفعلوا ، وقيل : نزلت في المؤمنين فانّهم بعد ما سمعوا ثواب شهداء بدر قالوا : لو لقينا قتالا جهدنا غاية جهدنا ولم نفرّ ، وقيل : انّ المسلمين قالوا : لو علمنا احبّ الأعمال لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا ، فأنزل الله انّ الله يحبّ الّذين يقاتلون في سبيله صفّا فلم يفوا يوم أحد وقال القمّىّ : نزلت في الّذين وعدوا محمّدا (ص) ان لا ينقضوا عهده في أمير المؤمنين (ع) فعلم الله انّهم لا يفون بما يقولون وقد سمّاهم الله المؤمنين بإقرارهم وان لم يصدّقوا.

اعلم ، انّ القول هاهنا اعمّ من القول اللّسانىّ والقول النّفسانىّ اى الاعتقاد الجنانىّ ، وامّا الخطرات والخيالات الّتى تقذف في قلوب النّاس من غير عزم منهم عليها فهي ليست أقوالا لهم بل هي واردة عليهم من الشّيطان أو الملك فهي أقوال الشّيطان أو الملك ، وهذا القول اعمّ من ان يكون في الأحكام الالهيّة بان يقول الإنسان بنحو الإفتاء أو التّقليد حكما من الأحكام ولا يفعل به ، وفي الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر بان يأمر غيره ولا يأتمر وينهى ولا ينتهى ، وفي المواعظ والنّصائح بان يعظ وينصح بما لم يفعله ، وقد ابتلى بالاوّل والثّانى المجتهدون الّذين نصبوا أنفسهم لبيان احكام العباد ، والمقلّدون الّذين نصبوا أنفسهم لذلك ، وبالثّالث القصّاص والوعّاظ وان كان لا يخلوا من الثّلاثة أكثر النّاس ولو بالنّسبة الى من تحت يده ، وفي المواعيد والعقود والبيعة الاسلاميّة والايمانيّة ، فانّه ورد عن الصّادق (ع): عدة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة له فمن اخلف فبخلف الله بدأ ولمقته تعرّض ، وذلك قوله : يا ايّها الّذين آمنوا (الآيتين) وعن علىّ : الخلف يوجب المقت عند الله وعند النّاس قال الله تعالى : كبر مقتا عند الله (الآية) وفي الصّنائع والحرف فانّ صاحب الحرفة إذا قال : ينبغي لصاحب الصّنعة ان يكون صنعته كذا وكذا ، أو قال : الصّنعة إذا كانت كذا وكذا كان المصنوع محكما وكان أبقى ولم يكن يفعل (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) مصطفّين تعليل لقوله : لم تقولون ما لا تفعلون على ما بيّن من نزوله في الّذين تمنّوا القتال والجهاد ثمّ لم يثبتوا في أحد أو مطلقا ، فانّ توفيق الفعل للقول يحتاج الى كثير جهاد مع النّفس والشّيطان (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) الرصّ اتّصال بعض البناء

١٧٣

ببعض واستحكامه ، وعن أمير المؤمنين (ع) انّه قال : انّ الله يحبّ الّذين يقاتلون في سبيله صفّا ، أتدرون ما سبيل الله؟ ومن سبيله؟! انا سبيل الله الّذى نصبني للاتّباع بعد نبيّه (ص) (وَإِذْ قالَ مُوسى) اى ذكّرهم إذ قال موسى (ع) (لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) حتّى يتذكّروا بقبح فعل قوم موسى (ع) وغايته المترتّبة عليه فارتدعوا من ايذائك أو إيذاء عترتك بعدك (فَلَمَّا زاغُوا) عن الحقّ (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن الاستقامة الانسانيّة وجعلهم منكوسا رؤسهم (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) تعريض بمن خرج عن قول الرّسول (ص) في حقّ علىّ (ع) أو مطلقا ، يعنى من لا يهديه الله لا يقبل الحقّ ولو أتى بألف آية والله لا يهدى القوم الفاسقين وانّكم يا قوم محمّد (ص) فسّاق بالخروج عن قوله وعدم طاعته (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) يعنى ذكّرهم حتّى يتذكّروا بحقّيّتك ولا يخرجوا من طاعتك (يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) والاخبار في تبشير الأنبياء (ع) وأخبارهم بظهور محمّد (ص) وبعثته أكثر من ان تحصى ، ونسب الى الباقر (ع) انّ اسم النّبىّ (ص) في صحف إبراهيم (ع) الماحي وفي توراة موسى (ع) الحادّ ، وفي إنجيل عيسى (ع) احمد (ص) ، وفي القرآن محمّد (ص) ، ونقل انّه سأل بعض اليهود رسول الله : لم سمّيت احمد؟ ـ قال : لانّى في السّماء احمد منّى في الأرض (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) ظاهره منزل في منكري محمّد (ص) ورسالته ومعجزاته وقولهم : انّ الأنبياء (ع) أوصوا ان لا نؤمن برسول حتّى يكون كذا وكذا ، أو قالوا لنا : لا نبىّ بعدنا لكنّ التّعريض بمن ادّعى الخلافة بعد الرّسول (ص) وادّعوا ذلك من الرّسول (ص) أو من الله (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بوضع الولاية غير موضعها وبادّعاء الخلافة من غير استحقاق ، ويدلّ على انّ المراد بها التّعريض بمدّعى الخلافة ومنكري علىّ (ع) قوله تعالى (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) لانّ نور الله هو الولاية وفسّر في آيات أخر بعلىّ (ع) (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) بالولاية ، عن الكاظم (ع) يريدون ليطفؤا ولاية أمير المؤمنين (ع) بأفواههم والله متمّ الامامة لقوله : الّذين (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) ، فالنّور هو الامام ، وقيل: والله متمّ نوره يعنى بالقائم من آل محمّد (ص) إذا خرج يظهره الله على الدّين كلّه حتّى لا يعبد غير الله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) اى الرّسالة والإسلام الّذى هو ما به الهداية الى الامام والايمان (وَدِينِ الْحَقِ) اى الطّريق الى الله الّذى هو سبب للوصول الى الحقّ ، أو مسبّب عن الحقّ الّذى هو الولاية المطلقة ، والطّريق الى الله بهذا الوصف علىّ (ع) وولايته (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ) يعنى على جنس الأديان والطّرق المختلفة ، ولمّا أراد الجنس المستغرق اكّده بقوله (كُلِّهِ) فانّ طرق النّفس الى الشّيطان كثيرة والطّريق الى الله واحد وهو طريق الولاية وإذا تمسّك الإنسان به على ما ينبغي ظهر وغلب طريق الولاية على جميع الطّرق بحيث لا يبقى للطّرق الشّيطانيّة اثر (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) بالولاية وقد سبق في سورة التّوبة هذه الآية مع بيان لها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) اى أسلموا بالبيعة العامّة ، ولمّا أراد ان يأمرهم بالايمان والبيعة الثّانية وكان ذلك شاقّا على بعض تلطّف بهم وناداهم جبرانا لكلفة هذا الأمر ولذلك أدّى الأمر بصورة الاستفهام والدّلالة على التّجارة المنجية من العذاب الأليم ليتهيّؤا لسماعه ويستعدّوا لقبوله (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ)

١٧٤

بالايمان الخاص والبيعة الايمانيّة الولويّة (وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ) ببذل الأموال الّتى هي كلّ ما ينسب الى الإنسان (وَأَنْفُسِكُمْ) ببذلها بحيث لا يبقى لكم أنفس ولا ما ينسب الى أنفسكم وتؤمنون جواب لسؤال مقدّر لبيان التّجارة (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يعنى ان كنتم من أهل العلم علمتم ذلك ، أو ان كنتم تعلمون ذلك اخترتم ذلك (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) مجزوم في جواب الشّرط يعنى ان كنتم تعلمون ذلك يغفر لكم لانّ العلم يجذب الى العمل واختيار المعلوم ، واختيار المعلوم مورث لمغفرتكم ، أو في جواب تؤمنون فانّه في معنى آمنوا ، أو في جواب الاستفهام والمعنى هل ادلّكم ان ادلّكم يغفر لكم فانّ دلالتي ليست الّا بتوجّهى والتفاتى إليكم ، وتوجّهي والتفاتى إليكم مورث لتغيير أحوالكم ورغبتكم الى العمل والآخرة وهي تورث مغفرتكم (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) اى جنّات الاقامة وهي اخرى الجنّات (ذلِكَ) المذكور من المغفرة وإدخال الجنّات أو إدخال جنّات عدن (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرى تُحِبُّونَها) اى لكم خصلة اخرى تحبّونها ، أو تعطون نعمة اخرى ، أو هل ادلّكم على تجارة اخرى ويكون المعنى هل ادلّكم على ربح آخر لتجارتكم ، أو اخرى مبتدء وخبره (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) في الدّنيا بظهور القائم (ع) كما عن القمّىّ ولمّا كان جلّ أصحاب الرّسول (ص) طالبين للظّفر والغنيمة وإعلاء الكلمة قال : اخرى تحبّونها (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالظّفر على جنود النّفس بظهور القائم (ع) ونصرة الله فانّ الايمان يقتضي النّصرة لا محالة بمنطوق : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (الآية) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة الخاصّة الولويّة (كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) لمّا كان اللّطيفة الانسانيّة الفطريّة واللّطيفة الولويّة الّتى هي انسانيّة اختياريّة مظهر الله تعالى ، ونصرته بالعلوم الاخرويّة والأعمال الصّالحة تكون نصرة لله وكان خليفة الله أيضا مظهرا لله ونصرته تكون نصرة لله أراد بنصرة الله نصرة تلك اللّطيفة وذلك الخليفة ، وأدّاه بنصرة الله للاشعار بانّ نصرتهما نصرة لله في الحقيقة (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) يعنى قلنا لكم كونوا أنصار الله كما قال عيسى (ع) ، أو المعنى قل يا محمّد (ص) : يا ايّها الّذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى (ع) ، أو كما قال عيسى متعلّق بكونوا أنصار الله ويكون المشبّه به كون الحواريّين أنصار الله (لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) قد مضت هذه الآية في سورة آل عمران مع بيان لها (فَآمَنَتْ) بعد قول عيسى بن مريم (ع) (طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) يعنى بالله بواسطة عيسى أو بعيسى (ع) بعد قوله هذا (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) يعنى غالبين وهذه تسلية للرّسول (ص) وتبشير وتسلية للمؤمنين وتهديد للكافرين من أمّة محمّد (ص).

سورة الجمعة

مدنيّة ، احدى عشرة آية.

١٧٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) قد مضى وجه الأداء بالماضي في السّور السّابقة ، والإتيان بالمضارع في هذه السّورة وفي التّغابن (الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) قد مضى بيان قدسه تعالى والفرق بينه وبين تسبيحه في البقرة عند قوله تعالى : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) التّوصيف بهذه الأوصاف لبيان علّة تسبيح الأشياء تماما له ، وقرئ الكلّ بالرّفع على المدح (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) كلام منقطع عن سابقه وبيان للامتنان على أمّة محمّد (ص) وتمهيد للتّعريض الآتي (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) قد مضى بيان لهذه الآية ووجه تقديم التّزكية على التّعليم فيها ، ووجه تقديم التّعليم على التّزكية في دعاء إبراهيم (ع) بقوله : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) من الامّيّين أو من جنسهم من سائر النّاس من الأعاجم وهو عطف على الامّيّين أو على مفعول يعلّمهم والمراد بالآخرين التّابعون وتابعوا التّابعين الى يوم القيامة ، أو غير أهل مكّة من أهل العالم من الفارس والتّرك والرّوم ، أو المراد بالآخرين آخرون في الرّتبة ، وروى انّ النّبىّ (ع) قرأ هذه الآية فقيل له : من هؤلاء؟ ـ فوضع يده على كتف سلمان رحمه‌الله وقال : لو كان الايمان في الثّريا لنالته رجال من هؤلاء (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) وسيلحقون بهم الى يوم القيامة (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذلِكَ) اى بعث رسول من جنس البشر أو بعث مثل محمّد (ص) الّذى يزكّيهم ثمّ يعلّمهم الكتاب والحكمة (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) من الأمم فيكون منّة منه تعالى على أمّة محمّد (ص) ، أو ذلك الرّسالة وتذكير اسم الاشارة باعتبار الخبر كأنّه قال : ذلك الفضل الّذى هو الرّسالة والنّبوّة فضل الله يؤتيه من يشاء من افراد البشر (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فيعطى أزيد من ذلك أو لا ينقص من فضله شيء بإيتاء الرّسالة للمستحقّين أو ذو الفضل العظيم على النّاس ببعثة محمّد (ص) فيهم (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) حملهم التّوراة انبياؤهم وعلماؤهم بان علّموهم التّوراة وكلّفوهم العمل بها ، وهذا بيان لحال اليهود وذمّ لهم لكنّه تعريض بمنافقى أمّة محمّد (ص) الّذين لم يقرّوا بعلىّ (ع) والّذين لم يعملوا بالقرآن (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) بان لم يعملوا بها (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) في كلفة الحمل والتّعب فيها وعدم الانتفاع بها بل التّضرّر بثقلها وتعب حملها ، فمن تعلّم القرآن ولم يعمل بما فيه كائنا من كان كان من أهل هذا المثل مثل الصّحابة الّذين اهتمّوا بحفظ القرآن عن التّغيير وبتلاوته وقراءته ولم يعملوا بما فيه من مراعاة العترة ومودّتهم واتّباعهم ، وكذلك من تعلّم القرآن وعلم احكامه وعمل بما فيه ، ومن تعلّم احكام الشّريعة وعمل بها لكن كان منظوره من علم ذلك الحيوة الدّنيا لا الحيوة الآخرة كان من أهل هذا المثل ، ونعم ما قال المولوىّ :

علمهاى أهل دل حمّالشان

علمهاى أهل تن احمالشان

علم چون بر دل زند بارى شود

علم چون بر تن زند بارى شود

گفت ايزد يحمل أسفاره

بار باشد علم كان نبود ز هو

١٧٦

بيان السعادة

علم كان نبود ز هو بيواسطه

آن نپايد همچو رنگ ماشطه

ليك چون اين بار را نيكو كشى

بار برگيرند وبخشندت خوشى

هين بكش بهر خدا اين بار علم

تا ببينى در درون أنبار علم

تا كه بر رهوار علم آئى سوار

آنگهان افتد ترا از دوش بار

(بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) يعنى كلّ من كذّب بآيات الله وكلّ من كان أهل ملّة ولم يرد وجه الله كان من أهل هذا المثل (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يعنى المكذّبين بآيات الله والمحمّلين للكتب السّماويّة والغير الحاملين لها ، لكنّه وضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بظلمهم وتعليلا للحكم يعنى انّ الله لا يهديهم الى الصّراط الانسانىّ أو الى الجنّة أو الى مقاصدهم (قُلْ) لليهود تعريضا بمن ادّعى منك الخلافة أو بجميع أمّتك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في هذا الادّعاء يعنى ان كنتم أولياء لله فالحيوة الدّنيويّة تحجبكم عنه وكلّ محبّ يتمنّى لقاء المحبوب والموت يخرجكم من الحجاب ويوصلكم الى لقاء الله (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً) لانّهم ناسون لله وراضون بالحيوة الدّنيا (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من المعاصي الّتى يخافون ان يدخلوا بها النّار ، أو من المعاصي الّتى تنسيهم الآخرة وتصرفهم الى جهة الدّنيا بحيث صاروا محبّين للدّنيا غير محبّين للآخرة (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) اى بهم ووضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بظلمهم ومبالغة في تهديدهم (قُلْ) لليهود أو لجميع الخلق (إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) فلا ينفعكم الفرار منه وليكن فراركم ممّا يضرّ فيما بعده (ثُمَّ تُرَدُّونَ) بعد الموت (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) اى الى الّذى يعلم جميع الغائبات عن المدارك أو جميع الغائبات عن الخلق وجميع المشهودات ، أو جميع ما من شأنه ان يشاهد أو عالم عالم الغيب وعالم عالم الشّهادة وعلى اىّ تقدير فهو تحذير عن مخالفة الله في السّرّ والعلانية (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ويجازيكم بحسبه وبعد ما هدّد المسلمين بالتّعريض ناديهم تلطّفا فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ).

اعلم ، انّ ايّام الأسبوع مظاهر للايّام الرّبوبيّة ودوران الايّام على الأسبوع ليس بمواضعة بنى آدم والّا لكان الاختلاف في دورانها وكان فرقة يديرها على السّتة أو الخمسة أو الاربعة ، وفرقة يديرها على الثّمانية أو التّسعة ، أو غير ذلك ومن يديرها على السّبعة لم يكن يديرها بتلك الادارة بان يجعل المبدء الأحد والمنتهى السّبت ، أو المبدء السّبت والمنتهى الجمعة ، وفي الجملة لم يكونوا يسمّى كلّهم أحدا أحدا ومنسوبا الى الشّمس والسّبت سبتا ومنسوبا الى كوكب خاصّ وبالجملة لم يكن عند جميع المنجّمين كلّ يوم مخصوص منسوبا الى كوكب خاصّ ، وقد اتّفق المنجّمون من كلّ ملّة وفي كلّ لسان على ادارة الايّام على السّبعة بهذا التّرتيب المخصوص وانتساب كلّ يوم مخصوص الى كوكب خاصّ سمّيت بهذه الأسماء أم لم تسمّ ، والايّام الرّبوبيّة الّتى هذه الايّام بإزائها يوم المجرّدات الّتى هم قيام لا ينظرون ، ويوم الصّافّات صفّا ، ويوم المدبّرات امرا ، ويوم ذوي الاجنحة مثنى وثلث ورباع ، ويوم الكيان ، ويوم الملكوت السّفلى ، أو يوم المدبّرات امرا ، ويوم الرّكّع والسّجّد ، ويوم المتقدّرات المجرّدة علويّين كانوا أم سفليّين ، وهذه الايّام كما أشير إليها في سورة الأعراف هي الايّام الّتى خلق السّماوات والأرض فيها وبها احتجب عن الخلق ، واليوم السّابع هو يوم جمع الجمع الّذى يعبّر عنه بالمشيّة ومقام الظّهور ، ولمّا كان الجمعة بإزاء

١٧٧

يوم الجمع طولا امر الله العباد بانعقاد الجمعة ، وامر ان لا ينعقد الجمعة باقلّ من سبعة أو خمسة ، ولمّا كان يوم الجمع خاصّا بمحمّد (ص) لا حظّ لأحد سواه (ص) فيه جعل الجمعة الّتى بإزائه عيدا خاصّا بمحمّد (ص) وحرّم السّفر فيها على من كان المسافة بينه وبين مجمع النّاس للجمعة اقلّ من فرسخين أو بقدر فرسخين ، ولذلك قال : إذا نودي للصّلوة من يوم الجمعة يعنى إذا اذّن لصلوة الجمعة (فَاسْعَوْا) اى فأسرعوا (إِلى ذِكْرِ اللهِ) يعنى الصّلوة (وَذَرُوا الْبَيْعَ) فانّ البيع في هذا اليوم خلاف مقتضى هذا اليوم خصوصا وقت وصول الشّمس الى نصف النّهار (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) فانّه إذا اعطى كلّ يوم حقّه كان خيرا لكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) كان خيرا لكم يعنى ان اتّبعتم عليّا (ع) وقبلتم ولايته بالبيعة معه فانّ العلم والتّعلّم منحصران في شيعة علىّ (ع) ، أو ان كنتم تعلمون انّه خير لكم اخترتموه (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) لمّا كان الاجتماع في الجمعة لذكر الله بمنزلة الفناء الذّاتىّ والبقاء في ذلك الفناء يورث نقصان الوجود والمطلوب من الإنسان استكماله بجميع جنوده ولا يمكن الّا بالبقاء بعد الفناء أمرهم بالانتشار في الأرض وابتغاء فضله كما قال (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) الصّورىّ بطلب ما تحتاجون اليه من جهة الحلال ، وفضل الله المعنوىّ بزيارة الاخوان وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم كما في الخبر عن النّبىّ (ص) وعن الصّادق (ع): الصّلوة يوم الجمعة ، والانتشار يوم السّبت ، وعنه (ع) انّى لأركب في الحاجة الّتى كفاها الله ما اركب فيها الّا التماس ان يراني الله اضحى في طلب الحلال ، اما تسمع قول الله عزّ اسمه؟ فاذا قضيت الصّلوة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) في حال ابتغاء الفضل أو في جميع الأحوال فانّ ذكر الله مرغوب فيه ولو كنت تبول فانّه كما في الخبر لا بأس بذكر الله وأنت تبول وقد مضى في سورة البقرة عند قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) بيان للذّكر ومراتبه وكيفيّته (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فانّ الفلاح بالذّكر لانّ مناط الطّاعة والمعصية كما يستفاد ممّا ورد عن الصّادق (ع) الذّكر والغفلة ، روى عن النّبىّ (ص) من ذكر الله مخلصا في السّوق عند غفلة النّاس وشغلهم بما هم فيه كتب الله له الف حسنة ويغفر الله له يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا) إليها استدراك كأنّه قال : لكنّهم لا يقبلون وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضّوا (إِلَيْها) اى الى التّجارة خصّ الضّمير بها لانّ اللهو كان تبعا للتّجارة (وَتَرَكُوكَ قائِماً) تخطب على المنبر كما في خبر ، أو في الصّلوة كما في خبر آخر (قُلْ) لهم (ما عِنْدَ اللهِ) من النّعيم المقيم (خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) فانّ التّجارة ان كان فيه نفع دنيوىّ واللهو ان كان فيه نفع خيالىّ والتذاذ وهمىّ فما عند الله خير لانّ نفعه عقلىّ روحىّ وهو غير منقطع وغير مشوب بالآلام (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) روى عن جابر انّه قال : أقبلت عير ونحن نصلّى مع رسول الله (ص) فانفضّ النّاس إليها فما بقي غير اثنى عشر رجلا انا فيهم فنزلت الآية ، وفي رواية : أقبلت عير وبين يديها قوم يضربون بالدّفوف والملاهي فقال النّبىّ (ص): والّذى نفسي بيده لو تتابعتم حتّى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي نارا ، وعن الصّادق (ع): انّ الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة ان يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة وسبّح اسم ربّك الأعلى ، وفي صلوة الظّهر بالجمعة والمنافقين فاذا فعل ذلك فكأنّما يعمل بعمل رسول الله (ص) وكان ثوابه وجزاؤه على الله الجنّة ،

١٧٨

سورة المنافقون

مدنيّة ، وهي احدى عشرة آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) لبيان انّ المشهود به صدق ورفع توهّم رجوع التّكذيب الى المشهود قدّم هذا ثمّ قال (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) لعدم مطابقة المشهود به لما في قلوبهم (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) عن القتل والأسر وحفظوا بها دماءهم وأموالهم أو اتّخذوها جنّة عن شتم المسلمين ولومهم ، أو جنّة عن سوء ظنّ المسلمين بهم وفرارهم عنهم ، وقرئ ايمانهم بكسر الهمزة (فَصَدُّوا) منعوا أو اعرضوا (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الّذى هو علىّ (ع) وولايته (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

اعلم ، انّ النّفاق عبارة عن إظهار ما لم تكن تعتقده مثل الّذين أظهروا الإسلام وباعوا البيعة النّبويّة من غير اعتقاد برسالة الرّسول (ص) أو مع الشّكّ في رسالته ، أو كانوا معتقدين ثمّ طرأ الشّكّ والإنكار ، هذا بحسب الظّاهر والاعتقاد وقد يعتبر النّفاق بحسب الأعمال الظّاهرة من غير موافقة الأحوال الباطنة وهذا نفاق قلّ من يخلو عنه من المسلمين ، فانّ الاذكار والأفعال الواقعة في الصّلوة كلّها عناوين وإظهار لاحوال النّفوس فانّ قول القائل بسم الله الرّحمن الرّحيم تعبير عن نفسه وانّه يسم نفسه بالعبادة فاذا لم يكن حاله موافقا لهذا التّعبير كان منافقا حالا ، وهكذا الحمد لله ربّ العالمين وهكذا ايّاك نعبد حصر للعبادة فيه وايّاك نستعين حصر للاستعانة فيه فلو كان حال القائل ذلك ان يرى موصوفا آخر أو يعتقد موصوفا آخر بالصّفات الحميدة أو كان له معبود آخر من الاهوية أو الاناسىّ ، أو كان نظره الى معين آخر والاستعانة بغير الله كان منافقا حالا ، وفعل الرّكوع تعبير عن نفسه بانّه خاشع لله بحيث دعا خشوعه له الى الانثناء ، وسجوده تعبير عن كمال خضوعه له تعالى فاذا لم يكن حاله على هذا المنوال كان منافقا ، وهكذا قنوته وسائر دعواته في أحوال الصّلوة ، وصيامه تعبير عن نفسه بانّه صام عن غير التذاذ بجمال الله والسّلوك اليه ، وزكوته كناية عن انّه في نقصان الانانيّة ، فلو لم ينقص من انانيّته بل كان في زكوته معجبا بنفسه رائيا عمله كان منافقا ، وقد ورد : ما زاد خشوع الجسد على خشوع القلب فهو من النّفاق (ذلِكَ) الكذب واتّخاذ الايمان جنّة والصّدّ أو الصّدود عن سبيل الله (بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) والكفر بعد الايمان أبلغ واشدّ من الكفر الاوّل ، وكفر النّفاق افضح (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) بحيث لم يبق فيها مدخل ومخرج للملك والنّور (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) لا يدركون إدراكا اخرويّا مؤدّيا الى ادراك آخر (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) بحسنها وتجمّلها بما يتجمّل بها وطراوتها ونضارتها (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لطلاقة لسانهم وحلاوة كلامهم وتسمع قام مقام القول اى يقل اسمع لقولهم (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) على الحائط في كونهم خالين عن الرّوح والعقل ، وفي عدم الانتفاع بهم بوجه آخر مثل الخشب المسنّدة الّتى ليست عمدا لسقف أو غيره (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) لعدم توكّلهم على ربّهم وجبنهم واتّهامهم في المسلمين (هُمُ الْعَدُوُّ) استيناف جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : فما شأنهم؟ وما نفعل بهم؟ ـ فقال : هم الكاملون في العداوة

١٧٩

(فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ) اخبار عن حالهم بانّهم قاتلهم الله عن الحيوة الانسانيّة ، أو اخبار عمّا يفعل بهم بعد لكنّه ادّاه بالماضي لتحقّق وقوعه ، أو دعاء عليهم بمقاتلة الله لهم (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن الحقّ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) كناية عن الإنكار والاستكبار (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) يعرضون أو يمنعون (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) عن الإتيان والاعتذار والاستغفار (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) تعليل لاستواء الاستغفار وعدمه ومبالغة في بأسهم عن مغفرة الله فانّ عدم مغفرته مع استغفار الرّسول (ص) دليل ان ليس فيهم ما يمكن المغفرة لهم (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) تعليل آخر والمقصود عدم الهداية الى الجنّة أو الى الحقّ (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) يتفرّقوا (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) جملة حاليّة (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ) الّذين يقولون لا تنفقوا حتّى ينفضّوا (لا يَفْقَهُونَ) اى لا يدركون ذلك إدراكا اخرويّا (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) كنّوا عن أنفسهم بالاعزّ وعن المؤمنين بالأذلّ (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) انّ العزّة الدّنيويّة والاخرويّة لله وعند الله ولمن كان من حزب الله وان كانوا بحسب الانظار الظّاهرة مغلوبين ، نزلت الآيات كما عن القمّىّ ، في غزوة بنى المصطلق في سنة خمس من الهجرة وكان رسول الله (ص) خرج إليها فلمّا رجع منها نزل على بئر وكان الماء قليلا فيها وكان سيّار حليف الأنصار وكان جهجاه بن سعيد الغفارىّ أجيرا لعمر بن الخطّاب فاجتمعوا على البئر فتعلّق دلو سيّار بدلو جهجاه فقال سيّار : دلوي وقال جهجاه : دلوي ، فضرب جهجاه يده على وجه سيّار فسال منه الدّم فنادى سيّار بالخزرج ونادى جهجاه بقريش فأخذ النّاس السّلاح وكاد ان تقع الفتنة فسمع عبد الله بن ابىّ النّداء فقال : ما هذا؟ ـ فأخبروه بالخبر فغضب غضبا شديدا ثمّ قال : قد كنت كارها لهذا المسير انّى لا ذلّ العرب؟! ما ظننت انّى أبقى الى ان اسمع مثل هذا فلا يكون عندي تغيير ، ثمّ اقبل على أصحابه فقال : هذا عملكم ، أنزلتموهم منازلكم وواسيتموهم بأموالكم ، ووقيتموهم بأنفسكم وأبرزتم نحوركم للقتل ، فأرمل نساءكم وأيتم صبيانكم ، ولو أخرجتموهم لكانوا عيالا على غيركم ، ثمّ قال : لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الاذلّ ، وكان في القوم زيد بن أرقم وكان غلاما قد راهق وكان رسول الله (ص) في ظلّ شجرة في وقت الهاجرة وعنده قوم من أصحابه من المهاجرين والأنصار ، فجاء زيد فأخبره بما قال عبد الله بن ابىّ ، فقال رسول الله (ص): لعلّك وهمت يا غلام؟ ـ قال : لا والله ما وهمت ، فقال : لعلّك غضبت عليه؟ قال : لا والله ما غضبت عليه ، قال : فلعلّه سفّه عليك؟ ـ قال : لا والله ، فقال رسول الله (ص) لشقران مولاه فأحدج (١) فاحدج راحلته وركب وتسامع النّاس بذلك ، فقالوا : ما كان رسول الله (ص) ليرحل في مثل هذا الوقت فرحل النّاس الى ان قال : فسار رسول الله (ص) يومه كلّه لا يكلّمه أحد فأقبلت الخزرج على عبد الله بن ابىّ يعذلونه فحلف عبد الله انّه لم يقل شيئا من ذلك ، فقالوا : فقم بنا الى رسول الله (ص) حتّى نعتذر اليه فلوّى عنقه ، فلمّا جنّ اللّيل سار رسول الله (ص) ليله كلّه والنّهار فلم ينزلوا الّا للصّلوة ، فلمّا كان من الغد نزل رسول الله (ص) ونزل أصحابه وقد أمهدهم الأرض من السّهر الّذى أصابهم ، فجاء عبد الله بن ابىّ الى رسول الله (ص) فحلف انّه لم يقل ذلك وانّه ليشهد ان لا اله الّا الله وانّك لرسول الله وانّ زيدا قد كذب علىّ ، فقبل رسول الله (ص) منه وأقبلت الخزرج على زيد بن أرقم يشتمونه (الى ان قال) فنزل الوحي عليه فلمّا نزل جمع أصحابه وقرأ عليهم سورة المنافقين ففضّح الله

__________________

(١) الحدج كالضرب والاحداج شدّ الحمل على البعير ، والحدج بالكسر الحمل.

١٨٠