تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٤

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٤

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩١

بالواحد عشر الى مائة الف فما زاد فسنيسّره لليسرى لا يريد شيئا من الخير الّا يسّر له ، (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) قال : والله ما تردّى من جبل ولا من حائط ولا في بئر ولكن تردّى في نار جهنّم ، وعنه (ع) فامّا من أعطى واتّقى وآثر بقوته ، وصام حتّى وفي بنذره ، وتصدّق بخاتمه وهو راكع ، وآثر المقداد بالدّينار على نفسه ، وصدّق بالحسنى وهي الجنّة والثّواب من الله فسنيسّره لذلك بان جعله إماما في الخير وقدوة وأبا للائمّة يسّره الله لليسرى (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : أليس لله صنع في الإعطاء والبخل حتّى نسب تلك الأفعال الى العباد بالاستقلال؟ ـ فقال : ليس علينا الّا الهدى وإراءة طريق الخير والشّرّ (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) مبدء وغاية وملكا فنعطى منهما ما نشاء لمن نشاء (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ) بالولاية (وَتَوَلَّى) عنها ، أو كذّب بالآخرة ، أو بالرّسالة (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) اى سيجعل منها على جانب أو بعد (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) استثناء منقطع أو استثناء متّصل من محذوف جواب لسؤال مقدّر اى لا يؤتى ماله الّا ابتغاء وجه ربّه الأعلى (وَلَسَوْفَ يَرْضى) ان كانت الآيات نزلت في رجل خاصّ فالمعنى عامّ والأصل في من أعطى واتّقى علىّ (ع) ، وفي من بخل واستغنى هو عدوّه ، وقيل : المراد بمن أعطى ابو بكر حيث اشترى بلالا في جماعة من المشركين كانوا يؤذونه فأعتقه ، والمراد بالأشقى ابو جهل وأميّة بن خلف.

سورة والضّحى

احدى عشرة آية ، مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالضُّحى) وقت ارتفاع الشّمس أو النّهار تماما بقرينة قوله تعالى (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) أو ضوء النّهار وقدّم الضّحى هاهنا لانّ الخطاب هاهنا لمحمّد (ص) والمقدّم في نظره ضحى عالم الأرواح بخلاف السّورة السّابقة فانّ المخاطب فيها من كان سعيهم شتّى والغالب عليهم التّقيّد بعالم الطّبع الظّلمانىّ وسجي سجوّا سكن اهله أو ركد ظلامه (ما وَدَّعَكَ) قرئ بالتّشديد وبالتّخفيف اى ما تركك (رَبُّكَ وَما قَلى) اى ما أبغضك ، عن الباقر (ع) انّ جبرئيل ابطأ على رسول الله (ص) وانّه كانت اوّل سورة نزلت : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ثمّ ابطأ عليه فقالت خديجة : لعلّ ربّك قد تركك فلا يرسل إليك؟! فأنزل الله تبارك وتعالى : ما ودّعك ربّك وما قلى ، وفي حديث : انّ الوحي قد احتبس عنه ايّاما فقال المشركون : انّ محمّدا (ص) ودّعه ربّه ، وقيل : انّ اليهود سألوا محمّدا (ص) عن ذي القرنين وأصحاب الكهف فقال (ص) : أخبركم غدا ولم يستثن فاحتبس الوحي واغتمّ لشماتة الأعداء ، فنزلت تسلية (وَلَلْآخِرَةُ) اى الدّار الآخرة (خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) اى الدّنيا أو الكرّة الآخرة من جبرئيل في الوحي عليك خير لك من المرّة الاولى (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) اى سوف يعطيك في الدّنيا أو في الآخرة ما يحصل لك به مقام الرّضا أو ما يحصل لك الرّضا به ، وقد فسّر المعطى بالشّفاعة الكبرى ولذلك ورد انّ هذه

٢٦١

الآية أرجى آية في كتاب الله ، وعن الصّادق (ع) رضا جدّى (ص) ان لا يبقى في النّار موحّد (أَلَمْ يَجِدْكَ) استفهام إنكارىّ واستشهاد على إعطاء ما يرضاه كأنّه قيل : ما الدّليل على صدق هذا الوعد؟ ـ فقال: الدّليل عليه انّه وجدك (يَتِيماً) عن الأب والامّ (فَآوى) اى آواك اليه أو وجدك يتيما بلا نظير فآوى النّاس إليك كما في الخبر (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) عطف على الم يجدك فانّه في معنى وجدك يتيما اى وجدك قاصرا عن مرتبة الكمال المطلق فهداك اليه ، أو وجدك متحيّرا في امر معاشك فهداك الى تدبير معيشتك فانّه يقال للمتحيّر في مكسبه : انّه ضالّ ، أو وجدك لا تعرف ما الكتاب ولا الايمان فهداك إليهما ، وقيل : المعنى وجدك ضالّا في شعاب مكّة فهداك الى جدّك عبد المطّلب لانّه روى انّه ضلّ في شعاب مكّة وهو صغير فرآه ابو جهل وردّه الى جدّه ، وقيل : انّ حليمة الّتى كانت ترضعه أرادت ان تردّه الى جدّه بعد إتمام رضاعه وجاءت به الى جدّه فضلّ في الطّريق فطلبته جزعة فرأت شيخا متّكأ على عصاه فسألها عن حالها فأخبرته بذلك فقال : لا تجزعي انا ادّلك عليه فجاء الى هبل فقال : هذه السّعديّة ضلّ عنها رضيعها وجئت إليك لتردّ محمّدا (ص) عليها فلمّا تفوّه باسم محمّد (ص) تساقطت الأصنام وسمع صوتا انّ هلاكنا على يدي محمّد (ص) فخرج وأسنانه تصطكّ فأخبرت عبد المطّلب (ع) فطاف بالبيت فدعا فأشعر بمكانه فأقبل عبد المطّلب في طلبه فاذا هو تحت شجرة يلعب بأوراقها ، وقيل : انّه خرج مع عمّه ابى طالب (ع) في قافلة ميسرة غلام خديجة فبينما هو راكب ذات ليلة جاء إبليس فأخذ بزمام ناقته فعدل به عن الطّريق فجاء جبرئيل وردّه الى القافلة ، أو المعنى وجدك ضالّا عن قومك بمعنى انّ قومك كانوا لا يعرفون مرتبتك فهدى قومك الى معرفتك (وَوَجَدَكَ عائِلاً) اى فقيرا (فَأَغْنى) يعنى وجدك محتاجا في المال فأغناك بمال خديجة ، أو بالقناعة أو في العلم فأغناك بالوحي ، أو وجدك ذا عيال فأغناك ، أو وجدك تمون قومك بأرزاقهم المعنويّة فأغناك بالوحي ، روى عن الرّضا (ع) انّه قال : فردا لا مثل لك في المخلوقين فآوى النّاس إليك ، ووجدك ضالّا اى ضالّة في قوم لا يعرفون فضلك فهداهم إليك ، ووجدك عائلا تعول أقواما بالعلم فأغناهم بك (فَأَمَّا الْيَتِيمَ) عن الأب الصّورىّ أو عن الامام بان لا يكون له امام أو بان انقطع عن امامه بغيبته أو بموته أو بعدم الحضور الملكوتىّ عنده وان كان حاضرا عنده بالحضور الملكىّ ، أو اليتيم عن العلم (فَلا تَقْهَرْ) اى لا تقهره على ماله فتذهب بحقّه أو لا تحتقره ، روى انّ رسول الله (ص) قال : من مسح على رأس يتيم كان له بكلّ شعرة تمرّ على يده نور يوم القيامة ، وفي خبر : لا يلي أحدكم يتيما فيحسن ولايته ووضع يده على رأسه الّا كتب الله له بكلّ شعرة حسنة ، ومحا عنه بكلّ شعرة سيّئة ، ورفع له بكلّ شعرة درجة ، وفي خبر : انا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة إذا اتّقى الله عزوجل ، وأشار بالسّبّابة والوسطى (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) اى لا تزجر ، والمراد بالسّائل من يسأل من اعراض الدّنيا ، أو من يلتمس امرا من أمور الآخرة ، روى عن رسول الله (ص): إذا أتاك سائل على فرس باسط كفّيه فقد وجب الحقّ ولو بشقّ تمرة (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) النّعمة كما مرّ مرارا ليست الّا الولاية ، أو ما كان لأهل الولاية من حيث انّهم أهل الولاية سواء كان من لوازم الحياة الدّنيا وطواريها ، أو من لوازم الحياة الآخرة وغاياتها ، وسواء كان بصورة النّعمة أو بصورة البلاء ، والتّحديث اعمّ من ان يكون بالفعل أو بالقول أو بالكتابة أو بالاشارة بل التّحديث بالفعال احبّ الى الله من التّحديث بالمقال ، فاذا أنعم الله على عبد بنعمة من النّعم الصّوريّة الدّنيويّة أو الاخرويّة المعنويّة احبّ ان يرى من المنعم عليه ان يظهرها بلسانه أو بفعاله ، فلو كتمها من غير مرجّح الهىّ كان كافرا لأنعم الله ، ولمّا كان الخطاب يعمّ الرّسول (ص) واتباعه كان الأمر بالتّحديث مختلفا بحسب اختلاف الأشخاص والأحوال ، فانّه إذا كان الخطاب لمحمّد (ص) كان الأمر بتحديث الولاية والنّبوّة والرّسالة والقرآن واحكام الولاية

٢٦٢

والنّبوّة والرّسالة ونزول الوحي والملك عليه والنّعم الصّوريّة جميعا ، وان كان الخطاب لخلفائه كان الأمر بتحديث جميع ذلك لكن في النّبوّة والرّسالة القرآن بنحو الخلافة لا الاصالة ، وان كان الخطاب للمؤمنين كان الأمر بتحديث الولاية الّتى قبلوها بالبيعة الخاصّة والرّسالة الّتى قبلوها بالبيعة العامّة وبتحديث أحكامهما وبتحديث النّعم الصّوريّة ، وان كان الخطاب للمسلمين كان الأمر بتحديث الرّسالة الّتى قبلوها بالبيعة العامّة وبتحديث أحكامها وبتحديث سائر النّعم ، وعن الصّادق (ع) انّه قال : إذا أنعم الله على عبده بنعمة فظهرت عليه سمّى حبيب الله محدّثا بنعمة الله ، وإذا أنعم الله على عبده بنعمة فلم تظهر عليه سمّى بغيض الله مكذّبا بنعمة الله ، وعن أمير المؤمنين (ع) في حديث منعه لعاصم بن زياد عن لبس العباء وترك الملأ : لابتذال نعم الله بالفعال احبّ اليه من ابتذاله لها بالمقال وقد قال الله تعالى : وامّا بنعمة ربّك فحدّث والاخبار في إظهار العلم والدّين وسائر النّعم إذا لم يكن مانع من ذلك كثيرة.

سورة الم نشرح

ثمان آيات ، مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) لمّا كان اوّل هذه السّورة على سياق السّورة السّابقة وتعداد النّعمة تعالى على محمّد (ص) ورد في بعض الاخبار انّه لا يقرأ في الفريضة إحديهما بدون الاخرى ، وافتى بعض العلماء لذلك انّهما سورة واحدة ، وشرح كمنع كشف وقطع كشرّح من التّشريح وفتح وشرح الشّيء بمعنى جعله وسيعا ، وشرح الصّدر توسعته بحيث لا يضيق عن ملائم ولا عن غير ملائم ، وشرح صدر محمّد (ص) كان عبارة عن عدم ضيقه عن الجمع بين الكثرات والوحدة ، ودعوة الخلق وعبادة الحقّ ، روى انّه سئل النّبىّ (ص) فقيل : يا رسول الله (ص) أينشرح الصّدر؟ ـ قال : نعم ، قال : يا رسول الله (ص) وهل لذلك علامة يعرف بها؟ ـ قال : نعم ، التّجافى عن دار الغرور ، والانابة الى دار الخلود ، والاعداد للموت قبل نزول الموت (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) اى حملك الثّقيل الّذى صوّت ، أو أثقل ، أو كسر ظهرك ، والمراد ثقل دعوة الخلق أو معاشرتهم ، أو ثقل استماع الوحي ورؤية الملك فانّه (ص) في اوّل نزول الوحي صار محموما وقال : دثّروني كما سبق ، أو ثقل إظهار النّبوّة وإظهار الصّلوة وغيرها ، أو ثقل أذى الكفّار والغموم الّتى تلحقه منهم ، أو ثقل إصلاح المسلمين وإقامتهم على الدّين (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) بعد ما كنت خامدا مختفيا في شعب عمّك مدّة مديدة ، فانّه رفع ذكره حتّى سمع به في حياته العرب والعجم وسمع به بعد وفاته جميع البلاد ، ورفع ذكره بحيث قرنه بذكره تعالى في الأذان الاعلامىّ وفي أذان الصّلوة وإقامتها ، ورفع ذكره بحيث يذكره الخطّاب والوعّاظ في خطبهم ومواعظهم ومنابرهم ، ورفع ذكره بحيث كلّ من سمع به صلّى عليه ، ورفع ذكره بان شقّ اسمه من اسمه (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) الفاء للسّببيّة والمعنى سهّلنا لك أمورك بعد ما كان صعبا إليك بسبب انّا جعلنا ان يكون لكلّ عسر يسرين فهو تعليل لسابقه ووعد له (ص) بيسر آخر ، والمراد بالعسر الفقر أو تألّمه (ص) عن عدم ايمان قومه وعن إيذاء المشركين له (ص) وللمؤمنين ، أو ضيق صدره عن المعاشرة مع الخلق ودعوتهم واقامة عوجهم (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) تكرير للاوّل وتأكيد له ولذلك لم يأت بأداة الوصل ، والمكرّر إذا كان معرّفا باللّام كان عين الاوّل إذا لم يكن قرينة ، وإذا كان منكّرا كان غيره إذا لم يكن قرينة على خلافه ، ولذلك ورد في الاخبار انّه : لا يغلب

٢٦٣

عسر يسرين ، فعن النّبىّ (ص) انّه خرج مسرورا فرحا وهو يضحك ويقول : لن يغلب عسر يسرين فانّ مع العسر يسرا ، انّ مع العسر يسرا (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) نصب من باب علم بمعنى اعيى وأتعب ، وعيش ناصب ذو كدّ وجهد ، ونصب من باب ضرب بمعنى رفع ووضع من الاضداد ، ونصب له من باب ضرب بمعنى عاداه ، والنّاصبىّ من كان معاديا لعلىّ (ع) مبالغة في النّاصب ، أو منسوب الى من أبدع المعاداة له (ص) اوّلا ، والمعنى كلّما فرغت ممّا عليك من مرمّة معاشك ومن دعوة الخلق وجهادهم وممّا افترض الله عليك من أمور دينك فاجهد وأتعب في ابتغاء وجه الله ومرضاته ، وقيل : إذا فرغت من عبادة فعقّبها بأخرى ولا تخلّ وقتا من أوقاتك فارغا لم تشغله بعبادة ، وعن الصّادقين (ع) : فاذا فرغت من الصّلوة المكتوبة فانصب الى ربّك في الدّعاء وارغب اليه في المسئلة يعطك ، وعن الصّادق (ع) : هو دعاء في دبر الصّلوة وأنت جالس ، وقيل : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام اللّيل ، وقيل : إذا فرغت من دنياك فانصب في عبادة ربّك ، وقيل : إذا فرغت من الجهاد فانصب في العبادة ، أو فانصب في جهاد نفسك ، وقيل : إذا فرغت من العبادة فانصب لطلب الشّفاعة ، وقيل : إذا صححت وفرغت من المرض فانصب في العبادة ، وقيل : إذا فرغت ممّا يهمّك فانصب في الفرار من النّار ، وعن الصّادق (ع) : إذا فرغت من نبوّتك فانصب عليّا (ع) ، والى ربّك فارغب ، وعنه انّه قال : يقول : فاذا فرغت فانصب علمك وأعلن وصيّك فأعلمهم فضله علانية فقال : من كنت مولاه فعلىّ مولاه ، الحديث ، قال : وذلك حين اعلم بموته ونعيت اليه نفسه ، وظاهر هذين الخبرين انّه (ع) قرئ : انصب بكسر الصّاد ، ويمكن استفادة هذا المعنى من القراءة المشهورة لجواز ان يكون المعنى إذا فرغت من تبليغ الرّسالة وتبليغ جميع الأحكام ، أو من حجّة الوداع فجدّوا تعب في خلافة علىّ (ع) فيكون بمعنى اعى ، أو بمعنى ارفع خليفتك واعلنه ، أو بمعنى ارفع خليفتك عليهم ، قال الزّمخشرىّ : ومن البدع ما روى عن بعض الرّافضة انّه قرئ فانصب بكسر الصّاد اى فانصب عليّا (ع) للامامة ، ولو صحّ هذا للرّافضىّ لصحّ للنّاصبىّ ان يقرأه هكذا ويجعله آمرا بالنّصب الّذى هو بغض علىّ (ع) أقول : ليس في القراءات المشهورة ولا في الشّاذّة قراءة انصب بكسر الصّاد ، ولا دلالة فيما ذكرناه من الرّوايتين على القراءة المذكورة ، وقوله تعالى بعد ذلك : والى ربّك فارغب ، يدلّ على انّه امر بنصب الخليفة فانّ ظاهره يدلّ على نعى نفسه (ص) ، والمناسب لنعى نفسه تعيين الوصىّ لنفسه ونصب خليفة للنّاس لئلّا ينفصم نظامهم.

سورة والتّين

مكّيّة ، وقيل : مدنيّة ، ثمان آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) التّين فاكهة معروفة وهو غذاء وادام وفاكهة كثير الغذاء قليل الفضول لا نوى له ولا قشر نافع لكثير من الأمراض واسم جبل بالشّام ومسجد بها ، وجبل بقطفان ، واسم دمشق ، ومسجد ، وطور تيناء بفتح التّاء والمدّ أو القصر بمعنى طور سيناء ، والزّيتون شجرة الزّيت أو ثمرتها وهو أيضا كثير المنافع يعصر منه دهن يكون إداما وجزء لاكثر الإدام في بلادهم ، ومسجد دمشق ، أو جبال الشّام ، وبلد بالصّين ، وقرية بالصّعيد ، ويجوز لله تعالى القسم بكلّ منهما ، ولكن لمّا كان قوله : وطور سينين ، وهذا البلد الأمين معطوفا عليهما فالاوفق ان يكون المراد بهما أحد الأمكنة

٢٦٤

بحسب الظّاهر ، والأوفق بحسب التّأويل ان يكون المراد بالتّين جهة النّفس العمّالة الالهيّة ، وبالزّيتون جهتها العلّامة فانّهما مسجدان في العالم الصّغير (وَطُورِ سِينِينَ) سينين وسينا بالمدّ مكسورة السّين ومفتوحتها ، وسينى بفتح السّين والقصر يضاف إليها الطّور ، وقد مضى في سورة المؤمنون بيان لها (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) اى مكّة ، وكونها أمينا لجعلها مأمنا بالمواضعة ومأمنا بمحض مشيّة الله حيث ابتلى بعض من أراد التّعرّض لها كأصحاب الفيل ، وطور سينين بحسب التّأويل في العالم الصّغير اشارة الى الجهة العليا من النّفس الّتى يناجي الصّاعد عليها ربّه ويشاهد حضرته ، وهذا البلد الأمين الى مقام القلب ونواحيه ، وعن الكاظم (ع) انّه قال : قال رسول الله (ص) انّ الله تبارك وتعالى اختار من البلد ان اربعة فقال تعالى : والتّين والزّيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين فالتّين المدينة ، والزّيتون بيت المقدس ، وطور سينين الكوفة ، وهذا البلد الأمين مكّة ، وقال القمّىّ : التّين رسول الله (ص) ، والزّيتون أمير المؤمنين (ع) ، وطور سينين الحسن (ع) والحسين (ع) ، وهذا البلد الأمين الائمّة ، وعن الكاظم (ع) التّين والزّيتون الحسن (ع) والحسين (ع) ، وطور سيناء علىّ بن ابى طالب (ع) ، وهذا البلد الأمين محمّد (ص) ، وهذه الاخبار اشارة الى بعض وجوه التّأويل (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) قوّمه جعله معتدلا ، وقوّمه أزال عوجه ، وكون الإنسان في أحسن تقويم بحسب الصّورة والمعنى مشهود ومحسوس فانّه جعل جميع اجزائه وأعضائه مناسبا وموافقا له ، وجعل جميع مراتبه العالية أيضا مناسبا وموافقا ، وإذا لوحظ مع كلّ مولود من النّبات والحيوان كان أحسن تعديلا منه (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) نكّر السّافلين للاشارة الى انّهم من فظاعة حالهم ونكارة تسفّلهم لا يمكن تعريفهم فانّهم يجعلهم اخسّ وأسفل من النّسوان والأطفال والمجانين ، أو جعلناه من أهل أسفل دركات الجحيم ، وقد فسّر الإنسان بمنافقى الامّة في الاخبار فيكون الاستثناء منقطعا ، وان كان المراد مطلق الإنسان وهو الأوفق كان الاستثناء متّصلا وكان المعنى لقد خلقنا هذا الجنس في ضمن جميع الإفراد في أحسن تقويم بحسب صورته وباطنه ، ثمّ رددناه أسفل سافلين بحسب صورته وبحسب باطنه حيث أنزلناه الى أسفل دركات الجحيم (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة أو بالبيعة الخاصّة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قد مضى مكرّرا بيان هذه العبارة يعنى لا نردّهم أسفل سافلين (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) يعنى بسبب انّ لهم اجرا غير مقطوع أو غير ممنون به عليهم فانّ المؤمنين كما يكونون من اوّل الصّبا في النّمو بحسب الصّورة يكونون في النّموّ بحسب الباطن الى آخر العمر ليس ينقص زيادة العمر من ايمانهم شيئا ، وكما يكونون بحسب الباطن في النّموّ يكون أكثرهم بحسب الظّاهر في ازدياد البهاء والنّضرة الى آخر العمر (فَما يُكَذِّبُكَ) كذّب بالأمر من باب التّفعيل أنكره ، وكذّبه حمله على الكذب وجعله كاذبا وعدّه كاذبا والمعنى اىّ شيء يحملك أو يجعلك أو يعدّك كاذبا (بَعْدُ) اى بعد هذا الدّليل المشهود المحسوس على الحشر (بِالدِّينِ) بالحشر والجزاء ، أو بسبب هذا الدّين الّذى أنت عليه ، أو بولاية علىّ (ع) أو بعلىّ (ع) ، والخطاب خاصّ بمحمّد (ص) على التّعريض أو عامّ (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) اى أحسن الحاكمين في حكمه أو اشدّ المتقنين في إتقان صنعه يعنى انّك إذا نظرت الى صورة الإنسان وسيرته أيقنت بانّه أحسن حكما واتقن صنعا من كلّ صانع ، ومن كان كذلك لا يهمل صنعه الّذى عمل فيه دقائق الصّنع الّتى تحيّر فيها أولوا الألباب ولا يبطله بلا غاية ، فانّ ادنى صانع إذا كان عاقلا لا يبطل صنعه من غير فائدة.

٢٦٥

سورة العلق

مكّيّة ، عشرون آية ، وقيل : تسع عشر آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) في أكثر الاخبار من طرق العامّة والخاصّة انّ هذه السّورة اوّل سورة نزلت عليه (ص) وكانت هذه السّورة في اوّل يوم نزل جبرئيل على رسول الله (ص) واوّل ما نزل كان خمس آيات من اوّلها ، وقيل : اوّل ما نزل سورة المدّثّر ، وقيل : فاتحة الكتاب ، ولفظة الباء في باسم ربّك للسّببيّة أو للاستعانة ، والمعنى انّك كنت قبل ذلك تقرأ بنفسك ، وبعد ما فنيت من نفسك وأبقيت بعد الفناء وارجعت الى الخلق صرت مشاهدا للحقّ في الخلق وفاعلا وقائلا وقاريا بالحقّ لا بنفسك ، فاقرء مكتوبات الله في ألواح الطّبائع والمثال ومقروّات ملائكته عليك ومسموعاتك من وسائط الحقّ تعالى بعد ما رجعت الى الخلق باسم ربّك لا بنفسك ، وقيل : لفظة الباء زائدة ، والمعنى اقرء اسم ربّك والمعنى انّك كنت تقرأ قبل الفناء أسماء الأشياء ، وبعد البقاء ينبغي ان تقرأ اسم ربّك لانّك لا ترى بعد ذلك الّا أسماء الله لا أسماء الأشياء (الَّذِي خَلَقَ) يعنى بعد الرّجوع لا ترى الأشياء الّا مخلوقين من حيث انّهم مخلوقون ، ولمّا كان قوام المخلوق من حيث انّه مخلوق بالخالق بل ليس للمخلوق من تلك الحيثيّة شيئيّة وانانيّة الّا شيئيّة الخالق وانانيّته فلم يكن في نظرك الّا اسم الله الخالق ، ولمّا كان ظهور خالقيّته وإتقان صنعه ودقائق حكمته وحسن صانعيّته بخلق الإنسان والسّير من مقام كماله في خلقه أو في امره وخلقه الى اخسّ موادّه بطريق السّير المعكوس قال تعالى (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) العلق محرّكة الدّم عامّة ، أو الشّديد الحمرة ، أو الغليظ ، أو الجامد منه ، والطّين الّذى يعلق باليد ، والكلّ مناسب (اقْرَأْ) خلق الإنسان بدل من خلق نحو بدل البعض من الكلّ ، أو نحو بدل الكلّ من الكلّ ، أو تأكيد له أو مستأنف وتفسير له ، جواب لسؤال مقدّر أو مفعول لاقرء الثّانى وهو جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما اقرء؟ ـ فقال : اقرء خلق الإنسان من علق (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) الكريم السّخىّ الحيّى الّذى يعطى بلا عوض ولا غرض ، ويتحمّل من غير عجز ، ولا يظهر إساءة المسيء في وجهه ، والأكرم البالغ في ذلك ، وهو خبر ربّك أو وصفه (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) اى علّم الإنسان الخطّ بالقلم ، أو علّم جميع ما دون الأقلام العالية جميع ما يحتاجون اليه تعليما وجوديّا أو تعليما شعوريّا بتوسّط الأقلام العالية ، أو أشعر الإنسان بالقلم الطّبيعىّ حتّى حصّل أنواع الخطوط بتوسّطه ، أو أشعر الإنسان بالأقلام العالية وانّها أوائل علله حتّى يطلب التّشبّه بها والوصول إليها (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) بدل أو تأكيد أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر والمراد من التّعليم بالقلم التّعليم الوجودىّ وبتعليم ما لم يعلم التّعليم الشّعورىّ يعنى علّم الإنسان بالتّعليم الشّعورىّ ما لم يعلم بالتّعليم الوجودىّ أو كلاهما عامّ (كَلَّا) ردع وجواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ان كان الرّبّ الأكرم الّذى علّم الإنسان ما لم يعلم فما له لم يعلم جميع الاناسىّ من اوّل أعمارهم جميع ما لم يعلموا حتّى يستغنوا من اوّل الأمر بحسب العلم؟ ـ فقال : كفّ عن هذا السّؤال وهذا التّمنّى (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) خطاب لمحمّد (ص) أو للإنسان ، وجواب لسؤال مقدّر كأنّه (ص) قال : فما له بعد هذا الطّغيان؟ ـ أو كأنّ الإنسان قال : فما لنا بعد الطّغيان؟ ـ قال :

٢٦٦

(إنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) نزلت في ابى جهل فانّه قال : لو رأيت محمّدا (ص) يعفّر لوطئت عنقه ، فقيل : هو يسجد ، فجاءه ثمّ رجع على عقبه وكان يتّقى بيديه ، فقيل له في ذلك ، فقال : انّ بيني وبينه خندقا من النّار وهولا وأجنحة (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ) المصلّى (عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) اى وامر بالتّقوى لكنّه أتى بلفظة أو للاشعار بانّ كلّا من الوصفين يكفى في سوء حال النّاهى عن الصّلوة ، وجواب الشّرط محذوف (أَرَأَيْتَ) هذه وسابقتها تكرير وتأكيد للأولى فانّ المقام مقام الذّمّ والسّخط ، والتّكرير مطلوب (إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) متعلّق كذّب وتولّى يجوز ان يكون الله أو الرّسول أو الصّلوة (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) يعنى ان كان يعلم فهو ملوم مستحقّ للعذاب مرّتين ، وان كان لا يعلم فهو ملوم ومستحقّ للعذاب مرّة واحدة (كَلَّا) ردع للإنسان عن فعلته (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) سفعه لطمه وضربه ، وسفع الشّيء وسمه ، وسفع السّموم وجهه لفحه لفحا يسيرا ، وسفع بناصيته قبض عليها فاجتذبها ، ويجوز ان يكون السّفع هاهنا من كلّ من هذه اى لنقبضنّ على ناصيته ونجرّنّه الى النّار ، أو لنسوّدنّ وجهه ، والاختصاص بالنّاصية لانّه أشرف أجزاء الوجه وما به ظهوره اوّلا ، أو لنعلمنّه (١) أو لنذلّنّه ، أو لنضربنّه ، وقد مضى في سورة هود تحقيق الأخذ بناصية كلّ دابّة عند قوله تعالى : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) نسبة الكذب والخطيئة الى النّاصية مجاز (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) اى أهل ناديه ، قيل : انّ أبا جهل قال : أتهدّدني وانا أكثر أهل الوادي ناديا؟! فنزلت (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) جمع الزّبنية كشر ذمة متمرّد الجنّ والانس والشّديد منهما ، والشّرطىّ ، أو الزّبانية جمع الزبنىّ بكسر الزّاء والنّون وتشديد الياء بمعنى الشّرطىّ ، يعنى سندعوا الزّبانية لأخذه فليدع ناديه لدفع العذاب ومدافعتنا (كَلَّا) ردع لمحمّد (ص) عن انثلام عزيمته في طاعة ربّه ، أو الخطاب عامّ وكلّا ردع لمن أراد اتّباع ابى جهل في غوايته (لا تُطِعْهُ) في النّهى عن الصّلوة أو في تكذيبه لمحمّد (ص) (وَاسْجُدْ) (٢) ولا تكترث بنهيه اى صلّ واسجد في صلوتك أو تذلّل لربّك (وَاقْتَرِبْ) بسجدتك الى ربّك فانّ أقرب ما يكون العبد الى ربّه وهو ساجد ، والسّجود هاهنا فرض ، فعن ابى عبد الله (ع): العزائم الم تنزيل ، وحم السّجدة ، والنّجم إذا هوى ، واقرء باسم ربّك ، وما عداها في جميع القرآن مسنون وليس بمفروض ، وفرض السّجدة على الامّة ان كان الخطاب خاصّا بمحمّد (ص) كان بتبعيّته وفرض السّجدة لقراءة أمثال هذه الآية أو استحبابه لما ذكرنا مكرّرا انّ القارى ينبغي ان يكون حين القراءة فانيا عن نسبة الأفعال الى نفسه ويكون لسانه لسان الله لا لسان نفسه حتّى لا يكون في زمرة من قال الله تعالى : (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) فاذا صار لسان القارى لسان الله ينبغي ان يستمع الأمر بالسّجدة من الله فيسجد لسماع الأمر بالسّجدة امتثالا لأمر الله المسموع من لسانه الّذى صار لسان الله.

سورة القدر

مكّيّة ، وقيل : مدنيّة ، ستّ ايات

__________________

(١) من العلامة.

(٢) سجدة واجبة.

٢٦٧

سورة القدر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ) اى القرآن ، أبهمه من دون ذكر له تفخيما له بادّعاء انّه معيّن من غير تعيين كما انّ نسبة الانزال الى ضمير المتكلّم وتعيين الظّرف تفخيم له وقد انزل القرآن بصورته (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) الّتى هي صدر محمّد (ص) ، وفي ليلة القدر الّتى هي النّقوش المداديّة والألفاظ الّذى يختفى المعاني تحتها.

اعلم ، انّه يعبّر عن مراتب العالم باعتبار أمد بقائها ، وعن مراتب الإنسان باعتبار النّزول باللّيالى وباعتبار الصّعود بالايّام لانّ الصّاعد يخرج من ظلمات المراتب الدّانية الى أنوار المراتب العالية ، والنّازل يدخل من أنوار المراتب العالية في ظلمات المراتب النّازلة كما انّه يعبّر عنها باعتبار سرعة مرور الواصلين إليها وبطوء مرورهم بالسّاعات والايّام والشّهور والأعوام ، وأيضا يعبّر عنها باعتبار الإجمال فيها بالسّاعات والايّام وباعتبار التّفصيل بالشّهور والأعوام ، وانّ المراتب العالية كلّها ليال ذوو الأقدار وانّ عالم المثال يقدّر قدر الأشياء تماما فيه ويقدّر أرزاقها وآجالها وما لها وما عليها فيه ، وهو ذو قدر وخطر ، وهكذا الإنسان الصّغير وليالي عالم الطّبع كلّها مظاهر لتلك اللّيالى العالية ، فانّها بمنزلة الأرواح لليالى عالم الطّبع وبها تحصّلها وبقاؤها لكن لبعض منها خصوصيّة ، بتلك الخصوصيّة تكون تلك اللّيالى العالية اشدّ ظهورا في ذلك البعض ولذلك ورد بالاختلاف وبطريق الإبهام والشّكّ : انّ ليلة القدر ليلة النّصف من شعبان ، أو التّاسع عشر أو الحادي والعشرون ، أو الثّالث والعشرون ، أو السّابع والعشرون ، أو اللّيلة الاخيرة من شهر رمضان وغير ذلك من اللّيالى ، وعالم الطّبع وكذلك عالم الشّياطين والجنّ بمراتبها ليس بليلة القدر ، وهذان العالمان عالما بنى أميّة وليس فيهما ليلة القدر ، والأشهر المنسوبة الى بنى أميّة الّتى ليس فيها ليلة القدر كناية عن مراتب ذينك العالمين (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) الإتيان بالاستفهامين لتفخيم تلك اللّيلة ، ولمّا لم يمكن بيان حقيقة تلك اللّيلة قال تعالى (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ليس فيها ليلة القدر ، في اخبار كثيرة عن طريق الخاصّة : انّ رسول الله (ص) رأى في منامه انّ بنى أميّة يصعدون على منبره من بعده ويضلّون النّاس عن الصّراط القهقهرى فأصبح كئيبا حزينا فهبط عليه جبرئيل فقال : يا رسول الله (ص) ما لى أراك كئيبا حزينا؟ ـ قال : يا جبرئيل انّى رأيت بنى أميّة في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي يضلّون النّاس عن الصّراط القهقرى ، فقال : والّذى بعثك بالحقّ نبيّا انّى ما اطّلعت عليه فعرج الى السّماء فلم يلبث ان نزل عليه بآي من القرآن يونسه بها ، قال : أفرأيت ان متّعناهم سنين ثمّ جاءهم ما كانوا يوعدون ما اغنى عنهم ما كانوا يمتّعون وانزل عليه : انّا أنزلناه في ليلة القدر وما أدريك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من الف شهر ، جعل الله ليلة القدر لنبيّه (ص) خيرا من الف شهر ملك بنى أميّة ، روى انّه ذكر لرسول الله (ص) رجل من بنى إسرائيل انّه حمل السّلاح على عاتقه في سبيل الله الف شهر فعجب من ذلك عجبا شديدا وتمنّى ان يكون ذلك في أمّته فقال : يا ربّ جعلت أمّتي اقصر الأمم أعمارا واقلّها أعمالا فأعطاه الله ليلة القدر وقال : ليلة القدر خير من الف شهر الّذى حمل الاسرائيلىّ السّلاح في سبيل الله لك ولامّتك من بعدك الى يوم القيامة في كلّ رمضان (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) تنزّل نزل في مهلة ومضى في سورة بنى إسرائيل بيان الرّوح وانّه أعظم من جميع الملائكة وانّه ربّ النّوع الانسانىّ (فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بعلمه أو إباحته (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) لأجل كلّ امر قدّر في تلك اللّيلة وقرئ من كلّ امرء بهمزة في آخره يعنى من أجل كلّ إنسان من حيث خيره أو شرّه ، وقيل : من كلّ امر متعلّق بقوله تعالى (سَلامٌ هِيَ) والظّاهر انّه متعلّق بتنزّل ومعنى سلام هي (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) انّ تلك اللّيلة

٢٦٨

سلامة من كلّ شرّ وآفة ، أو هي تحيّة على طريق المجاز كما ورد عن السّجّاد (ع) يقول : يسلّم عليك يا محمّد (ص) ملائكتى وروحي سلامي من اوّل ما يهبطون الى مطلع الفجر ، وقال القمّىّ : تحيّة يحيّى بها الامام الى ان يطلع الفجر ، وفي خبر انّ علامة ليلة القدر ان يطيب ريحها ان كانت في برد دفئت ، وان كانت في حرّ بردت ، وفي رواية : لا حارّة ولا باردة تطلع الشّمس في صبيحتها ليس لها شعاع.

سورة البيّنة

مدنيّة ، وقيل : مكّيّة ، ثمان ايات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) اى اليهود والنّصارى فانّهم كانوا معروفين بهذا الاسم (وَالْمُشْرِكِينَ) عبدة الأصنام أو عبدة الأصنام وغيرهم من أصناف المشركين ، وسمّى أهل الكتاب كافرين لانّهم ستروا الدّين والطّريق الى الله ، وستروا الحقّ بحسب صفاته وان كانوا اقرّوا بالتّوحيد (مُنْفَكِّينَ) اى لم يكونوا متفرّقين بان يكون بعضهم على الحقّ وبعضهم على الباطل بل كان جميعهم على الباطل مجتمعين فيه أو منفكّين عن دينهم أو عن الوعد باتّباع الحقّ إذا جاءهم محمّد (ص) أو عن الإقرار بمحمّد (ص) ورسالته أو عن الحجج والبراهين (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) المراد بالبيّنة الرّسول (ص) أو رسالته أو معجزاته ، واستقبال تأتيهم بالنّسبة الى قوله لم يكن والّا فهو على المضىّ (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) بدل من البيّنة بدل الكلّ أو بدل الاشتمال أو رسوله خبر مبتدء محذوف أو مبتدء خبر محذوف أو مبتدء خبره قوله تعالى (يَتْلُوا) عليهم (صُحُفاً مُطَهَّرَةً) والمراد بالصّحف الألواح العالية والأقلام الرّفيعة ، أو الصّدور المستنيرة والقلوب المضيئة ، أو الكتب الماضية السّماويّة من كتب الأنبياء الماضين والكلّ مطهّر من التّغيير والتّبديل والمادّة ونقائصها وانقلاباتها ومن مسّ أيدي الأشرار ومن إتيان البطلان إليها (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) اى مكتوبات مستقيمة لاعوج فيها أصلا ، أو مقيمة تقيم كلّ من اتّصل بها ، أو معتدلة لا انحراف فيها ، أو كافية يكفى جميع أمور من توسّل بها ، أو المراد بالصّحف المطهّرة القرآن وفيها جميع العلوم القلبيّة والقالبيّة الكافية لمن تدبّرها وتوسّل بها (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) فيما ذكر سابقا (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) يعنى لم يكونوا منفكّين عن دينهم أو اجتماعهم أو تصديق محمّد (ص) وما تفرّقوا الّا بعد الرّسول (ص) بان صدّق بعضهم وكذّب بعضهم وبقي بعضهم على دينه وترك بعضهم دينه (وَما أُمِرُوا) اى والحال انّهم ما أمروا بشيء (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ) الحنيف الصّحيح الميل الى الإسلام الثّابت عليه وكلّ من حجّ أو كان على دين إبراهيم (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) قد مضى في اوّل البقرة بيان لاقامة الصّلوة وإيتاء الزّكاة يعنى انّ أهل الكتاب ما أمروا على لسان أنبيائهم (ع) وفي كتبهم الّا بتوحيد العبادة المستلزم لتوحيد الواجب والمبدء ، وبإقامة الصّلوة الّتى هي عماد الدّين وجالب الخصائل ، وإيتاء الزّكاة الّذى هو تطهير من كلّ رذيلة ، وما تأمرهم أنت أيضا الّا بذلك ، فما لهم اختلفوا في تصديقك وتكذيبك؟! (وَذلِكَ) اى توحيد العبادة وتوحيد المبدء واقامة الصّلوة

٢٦٩

وإيتاء الزّكاة (دِينُ الْقَيِّمَةِ) اى دين الكتب القيّمة ، وقيل : القيّمة جمع القائم اى دين القوم القائمين بأمر الله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالرّسول (ص) أو بكتابه أو بأمر الله تعالى في رسوله (ص) أو بالولاية والجملة جواب لسؤال مقدّر عن حال المختلفين (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) عطف على الّذين كفروا أو على أهل الكتاب (فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) من أهل الكتاب والمشركين أو من اىّ فرقة كانوا (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) ومقام الرّضا آخر مقامات النّفس الانسانيّة كما انّ جنّة الرّضوان آخر الجنان (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) قد مضى مكرّرا انّ الخشية حالة حاصلة من امتزاج الخوف والحبّ ولا تكون الّا بعد العلم بالمخشىّ منه الّذى كان له محبوبيّة ولذلك قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) يعنى من لم يعلم بالله لم يخشه لعدم حصول المحبّة له.

سورة الزّلزال

تسع آيات مدنيّة ، وقيل : مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) المعهود وهو زلزال القيامة الصّغرى أو الكبرى أو الزّلزال اللّائق بحالها وهو الزّلزال المحيط بها وهو الزّلزال العامّ الّذى ليس الّا في القيامة ، فانّ ارض البدن عند الاحتضار يتزلزل تزلزلا عظيما (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) أثقال الأرض عبارة عن القوى والأرواح وعن القوى والاستعدادات المكمونة في ارض العالم الكبير أو في الأبدان فانّ ارض البدن عند الموت تخرج بالموت جميع ما فيها من الفعليّات الموجودة والاستعدادات المكمونة وتظهر حينئذ جميع المكمونات في العالم الكبير (وَقالَ الْإِنْسانُ) الواقع في الزّلزال أو النّاظر الى الزّلزال تعجّبا من ذلك الزّلزال (ما لَها يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) روى عن الباقر (ع) انّ أمير المؤمنين (ع) قال : انا الإنسان وايّاى تحدّث اخبارها ، وروى عن النّبىّ (ص) انّه قال : أتدرون ما اخبارها؟ ـ قالوا : الله ورسوله اعلم ، قال : اخبارها ان تشهد على كلّ عبد وامة بما عمله على ظهرها ، تقول : عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا ، فهذه اخبارها (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) ان تحدّث وحي الهام أو وحيا بتوسّط الملك (يَوْمَئِذٍ) اى يوم القيامة الصّغرى (يَصْدُرُ النَّاسُ) اى القوى والمدارك الانسانيّة في العالم الصّغير من مراقدها ومحالّها أو يوم القيامة الكبرى يصدر افراد النّاس من مراقدهم ومواقفهم (أَشْتاتاً) متفرّقين في صفوف عديدة بحسب مراتبهم ودرجاتهم في السّعادة والشّقاوة (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) قرئ بفتح الياء وضمّها ، وقد مضى مكرّرا انّ العامل يحصل من عمله فعليّة في نفسه ويراه العامل بعد الموت بصورة مناسبة لذلك العمل وهذا العامل ، ويرى صورة اخرى موافقة لتلك الصّورة في الآخرة فيرى أعماله بأنفسها وبصورها اللّائقة بها المعبّر عن تلك الصّور بجزاء الأعمال (فَمَنْ يَعْمَلْ) من المؤمنين (مِثْقالَ ذَرَّةٍ)

٢٧٠

اى مقدار ذرّة (خَيْراً يَرَهُ) يعنى لا يعزب عن نظر المؤمنين شيء يسير من اعماله ويرى اعماله بصورها وبجزائها ، وامّا شرور المؤمن فامّا ممحوّة أو مغفورة أو مبدلة ، فلا يراها ، أو المعنى فمن يعمل من المؤمن والكافر مثقال ذرّة خيرا يره لكنّ المؤمن يراه في ميزان نفسه والكافر يراه في ميزان المؤمن ، فيزداد تحسّره (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) يعنى من يعمل من الكافر فانّ خيرات الكافر تحبط ، وشرور المؤمن قد ذكر انّه لا يراها ، أو من الكافر والمؤمن فانّ المؤمن يرى شروره في ميزان الكافر.

سورة والعاديات

احدى عشرة آية ، مدنيّة ، وقيل : مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) اقسم بالخيل العاديات في الجهاد ، والضّبح صوت أنفاس الخيل وهو مفعول مطلق للعاديات فانّها مستلزمة للضّبح ، أو لفعله المحذوف ، أو حال بمعنى ضابحات (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) ورى الزّند خرجت ناره ، واوريت الزّند أخرجت ناره ، وقدح بالزّند رام إخراج ناره ، عبّر عن خروج النّار من ملاقاة حوافر الخيل والأحجار بالايراء والقدح (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) اى وقت صبح ، وأغار بمعنى عجّل في المشي وأغار على القوم غارة واغارة ، وأغار الفرس اشتدّ عدوه في الغارة (فَأَثَرْنَ بِهِ) اى بالصّبح أو بالعدو (نَقْعاً) اى غبارا (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) الكنود كافر النّعم ، والكافر واللّوّام لربّه تعالى ، والبخيل ، والعاصي ، ومن يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده ، والمراد بالإنسان مطلق الإنسان ، فانّها كما روى نزلت في غزاة علىّ (ع) لأهل الوادي اليابس كانوا اثنى عشر ألفا قد استعدّوا وتعاهدوا وتعاقدوا على ان يقتلوا محمّدا (ص) وعلىّ بن ابى طالب (ع) فأرسل النّبىّ (ص) إليهم أبا بكر فلمّا وصل إليهم ورأى عدّتهم وكثرتهم جبّن وجبن أصحابه ورجع الى رسول الله (ص) فقال الرّسول (ص) : خالفت قولي وعصيت الله وعصيتني ، ثمّ أرسل إليهم عمر ، ففعل مثل ما فعل صاحبه ، ثمّ أرسل إليهم عليّا (ع) وأخبر انّه سيفتح الله على يديه ، فسار علىّ (ع) إليهم في اربعة آلاف من المهاجرين والأنصار وسار بهم غير مسير صاحبيه فانّهما كانا يسيران برفق وسار علىّ (ع) وأتعب القوم حتّى وصل الى مكان يرونهم فلمّا سمع أهل الوادي اليابس بمقدم علىّ (ع) اخرجوا اليه منهم فأتى رجل شاكي السّلاح وخرج علىّ (ع) مع نفر من أصحابه فقالوا لهم : من أنتم؟ ـ ومن اين أقبلتم؟ ـ قال : انا علىّ بن ابى طالب جئنا إليكم لنعرض عليكم الإسلام فان تقبّلوا والّا قتلناكم ، فقالوا : انّا قاتلوك وقاتلوا أصحابك ، والموعود بيننا وبينك وقت الضّحوة من غد ، فانصرفوا وانصرف علىّ (ع) ، فلمّا جنّه اللّيل امر أصحابه ان يحسنوا الى دوابّهم فلمّا انشقّ عمود الصّبح صلّى بالنّاس بغلس ثمّ غار عليهم بأصحابه ، فلم يعلموا حتّى وطئتهم الخيل فما أدرك آخر أصحابه حتّى قتل مقاتليهم ، وسبى ذراريهم ، واستباح أموالهم ، وخرّب ديارهم ، واقبل بالأسارى والأموال معه ، فصعد الرّسول (ص) المنبر قبل وصول علىّ (ع) وأخبر النّاس بما فتح الله على المسلمين وأعلمهم انّه لم يفلت منهم الّا رجلان ، ونزل ، فخرج يستقبل عليّا (ع) في جميع أهل المدينة حتّى لقيه على ثلاثة أميال من المدينة ، فلمّا رآه علىّ (ع) مقبلا نزل عن دابّته ونزل النّبىّ (ص) حتّى التزمه وقبّل ما بين

٢٧١

عينيه ، وعن جعفر بن محمّد (ع): ما غنم المسلمون مثلها قطّ الّا ان يكون من خيبر فانّها مثل خيبر فانزل الله تبارك في ذلك اليوم هذه السّورة (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) يعنى انّ الإنسان يشهد ويعلم انّه كنود ، أو الله يشهد على انّه كنود (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) اى بخيل أو قوىّ ، والمراد بالخير المال أو الحياة أو كلّ ما كان ملائما للإنسان (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ) اى بعث (ما فِي الْقُبُورِ) اى قبور التّراب من الأموات ، وقبور الأبدان من القوى والفعليّات ، والقوى والاستعدادات المكمونات (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) من النّيّات والإرادات والخيالات والاعتقادات (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) الجملة مفعول يعلم معلّق عنها العامل يعنى انّه ينبغي ان يعلم ذلك فيرتدع من خلاف قول رسوله (ص) وضمير بهم راجع الى الإنسان لانّه امّا في معنى الجنس ، أو راجع الى ما في القبور ، والتّعبير بما لانّ ما في القبور ما دام في القبور في حكم غير ذي الشّعور ، وإذا بعث من القبور صار في حكم ذي الشّعور.

سورة القارعة

مكّيّة ، احدى عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) وضع الظّاهر موضع المضمر وتكرير الاستفهام ونفى دراية محمّد (ص) أو دراية من له شأن الدّراية تعظيم وتهويل للقارعة والمراد بالقارعة امّا القيامة فانّها تقرع كلّ من كان له في الدّنيا انانيّة بما فيها من الأهوال ، أو المراد بها الدّاهية الّتى تكون في القيامة (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) الّذى يتهافت على السّراج ولا يكون لحركته وطيرانه نظام ، شبّه النّاس في القيامة به لشدّة تحيّرهم وعدم انتظام حركاتهم مثل قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) ويوم منصوب بالقارعة ، أو بأعني محذوفا ، أو بيكون محذوفا (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) العهن الصّوف أو المصبوغ منه ألوانا ، والمنفوش المنتشر والمعنى تكون الجبال كالصّوف المصبوغ المندوف (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) اى ذات رضا ، أو الوصف بحال المتعلّق اى في عيشة راض صاحبها بها (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) الامّ هاهنا بمعنى المسكن أو الخادم ، أو المعنى امّ رأسه ساقطة في النّار ، لكنّ الاوّل اولى ليوافق ظاهره التّفسير الّذى في قوله تعالى (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ) شديد الحرارة.

سورة التّكاثر

مدنيّة ، وقيل : مكّيّة ثمان آيات

٢٧٢

بيان السعادة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) اى التّفاخر والتّغالب بكثرة المال والأولاد ، أو بكثرة العشائر والقبائل ، أو الاهتمام في تكثير الأموال والأولاد ، والى كلّ أشير في الاخبار (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) يعنى ما قنعتم بالتّكاثر بالاحياء حتّى عددتم الأموات والحال انّ الاعتبار بالأموات كان اولى من الافتخار بهم ، أو ألهاكم التّفاخر أو طلب الكثرة حتّى متّم ودخلتم المقابر ، والى كلّ أشير في الاخبار (كَلَّا) ردع عنه اى انتهوا عن ذلك (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) انّ الاشتغال عن الآخرة بالتّكاثر سبب دخول الجحيم بل هو دخول في الجحيم لكن لمّا كان مدارككم خدرة وأبصاركم في غشاوة في الدّنيا لم تحسّوا بألمها ولم تبصروا نارها وأنواع عذابها ، أو المعنى سوف تصيرون من أهل العلم وإذا صرتم عالمين رأيتم الجحيم ولم يك ينفعكم علمكم حينئذ (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) تأكيد للاوّل وتخلّل ثمّ للمبالغة في التّأكيد ، أو الاوّل في القيامة الصّغرى والثّانى في القيامة الكبرى (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَ) في الدّنيا (الْجَحِيمَ) كما انّكم في الآخرة تصيرون عالمين فترونّ الجحيم وقد مضى مكرّرا انّ علوم النّفوس لكونها غير المعلومات وجواز انفكاك المعلومات عنها إذا كانت النّفوس مدبرة عن دار العلم سمّيت ظنونا في الكتاب والاخبار بخلاف ما إذا كانت مقبلة على دار العلم ، فانّ ظنونها تصير علوما بل أشرف من العلوم حينئذ ، ومراتب اليقين ثلاث ؛ علم اليقين وهو ادراك الشّيء بصورته الحاصلة عند النّفس بشهود آثار ذلك الشّيء أو وجدانها في وجوده ، وعين اليقين وهو مشاهدة عين ذلك الشّيء ، وحقّ اليقين وهو التّحقّق بذلك الشّيء ، والمعنى لو تعلمون في الدّنيا علم اليقين لادّى بكم الى رؤية الجحيم في الدّنيا فانّ الظنّ يؤدّى الى العلم ، والعلم الى الرّؤية ، والرّؤية الى المعاينة ، والمعاينة الى التّحقّق ، ولقد مرّ تفصيل تامّ لمراتب الظّنّ والعلم واليقين ، والفرق بين العلم الاخروىّ والعلم الدّنيوىّ في سورة البقرة عند قوله تعالى : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ).

اعلم ، انّ للرّؤية مراتب ؛ فاولى مراتبها المشاهدة بدرجاتها مثل ان يشاهد الشّيء عن بعد من غير تميز جميع معيّناته وجميع دقائق شخصه وصورته ، وثانية مراتبها المعاينة بدرجاتها مثل ان يشاهد الشّيء بجميع مشخّصاته ودقائق وجوده ، وثالثة مراتبها التّحقّق بالمرئىّ بدرجاتها (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَ) الإتيان بثمّ للاشارة الى انّ هذا السّؤال بعد ما علموا انّهم اشتغلوا بما لا فائدة لهم فيه ، أو للتّرتيب في الاخبار (يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قد ذكر في اخبار كثيرة من جملة النّعيم المسؤل عنه ملائمات القوى الحيوانيّة والملاذّ الدّنيويّة كالطّعام واللّباس والرّطب والماء البارد ، وفي اخبار أخر انكار ان يكون النّعيم المسؤل ذلك وانّ السّؤال والامتنان بالنّعمة وصف الجاهل اللّئيم ، وانّ الله نهى عن ذلك وانّ الله لا يوصف بما لا يرضاه لعباده ، وانّ النّعيم المسؤل عنه محمّد (ص) وعلىّ (ع) ، أو حبّنا أهل البيت ، أو ولايتنا أهل البيت ، والتّحقيق في هذا المقام والتّوفيق بين الاخبار انّ النّعمة كما مرّ مرارا ليست الّا الولاية وكلّ ما اتّصل بالولاية سواء كان من ملائمات الحيوانيّة أو من موذيات القوى الحيوانيّة ، وبعبارة اخرى سواء عدّ من النّعم الدّنيويّة أو من النّقم الدّنيويّة كان نعمة ، وكلّ ما انقطع عن الولاية كان نقمة وان كان بصورة النّعمة ، وكلّ من اتّصل بالولاية كان ضيفا لله وكان جميع نعمه الصّوريّة والمعنويّة مباحة له وكان مأمورا بالتّصرّف فيها بمنطوق قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ولا يسأل الله تعالى عن شيء منها ولو سأل كان سؤاله مثل السّؤال

٢٧٣

عن الضّيف وانّه كيف أكل؟ ولم أكل؟ وعلى اىّ مقدار أكل؟ ولم لم يعمل لي على قدر ما أكل؟ وكان قبيحا عن البشر فكيف بخالق البشر ، ومن انقطع عن الولاية كان جميع نعمه الصّوريّة مغصوبة في يده وللحاكم والمالك ان يسألا الغاصب عن تصرّفاته في العين المغصوبة ، ولا قبح في ذلك السّؤال ، ولمّا كان الخطاب للمحجوبين المنقطعين عن الولاية كان المراد بالنّعيم الولاية ثمّ جميع الملائمات الحيوانيّة والانسانيّة وكان السّؤال عن أداء شكرها وصرفها في مصرفها أو غير مصرفها ، أو المعنى إذا رفع حجاب الخيال والوهم عن بصائركم ووصلتم الى دار العلم وشاهدتم الجحيم وآلامها والجنّات ولذّاتها وعاينتم انّ النّعيم الصّورىّ صار سببا لدخول الجحيم ، وأيقنتم انّ النّعيم الصّورىّ كان نقمة في الحقيقة ، وانّ النّعيم كان الولاية ولوازمها الّتى هي الجنّة ونعيمها تسألون أكان ما كنتم فيه من الملاذّ الحيوانيّة نعيما أم ما عليه المؤمنون توبيخا لكم؟ أو المعنى انّكم إذا وصلتم الى مقام المعاينة تسألون عن مقام حقّ اليقين ما هو؟ لانّكم بالمعاينة تجدون ذوق الحقيقة وجاز لكم السّؤال والجواب عنها ، وما روى عن الرّسول (ص) يؤيّد ما وفّقنا به بين الاخبار فانّه قال : كلّ نعيم مسئول عنه صاحبه الّا ما كان في غزو أو حجّ ، فانّ السّالك القابل للولاية في غزو وحجّ شعر به أم لا ، وكذلك ما روى عن الصّادق (ع) انّه قال : من ذكر اسم الله على الطّعام لم يسأل عن نعيم ذلك فانّ الذّاكر لاسم الله ليس الّا من قبل الولاية بالبيعة الخاصّة الولويّة فانّ غيره بمضمون : من لم يكن له شيخ تمكّن الشّيطان من عنقه ، قد تمكّن الشّيطان منه ، ويكون كلّ أفعاله وأقواله وأحواله بتصرّف الشّيطان فاذا قال ، بسم الله : يتصرّف الشّيطان فيه ويخلّى اللّفظ من معناه ويجعل نفسه في الله فيصير بسم الله في الحقيقة بسم الشّيطان كما مرّ تحقيقه في اوّل فاتحة الكتاب ، ويؤيّد ذلك التّوفيق السّورة الآتية فانّ السّؤال عن النّعمة الّتى أنعم الله بها على عباده خسران بوجه.

سورة والعصر

مكّيّة ، ثلاث آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعَصْرِ) المراد بالعصر وقت صلوه العصر ، اقسم به كما اقسم بالضّحى ، أو المراد به الدّهر مطلقا ، أو عصر النّبىّ (ص) على ان يكون اللّام لتعريف العهد ، أو صلوة العصر ، أو الملكوت فانّها بعدها يختفى شمس الحقيقة في عالم الطّبع وانّها بمثالها الصّاعد معصورة عالم الطّبع كما انّها بمثالها الهابط معصورة الجبروت ، أو المراد بالعصر مطلق عالم الطّبع لكونه عصير الملكوت (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) خسر كفرح وضرب ضلّ ، والخسر بالضّمّ وبالضّمّتين مصدره ، وخسر وضع في تجارته عن رأس ماله ، والإنسان ما لم يؤمن بالبيعة الخاصّة الولويّة لم يكن على الطّريق فانّ الطّريق علىّ (ع) وولايته ، ولم ينفتح باب قلبه وما لم ينفتح باب قلبه بالولاية التّكليفيّة الّتى هي حبل من النّاس كان كلّما فعل حصل له فعليّة في جهة نفسه الجهة السّفليّة وكلّما حصل للنّفس من جهتها السّفليّة فعليّة اختفى تحت تلك الفعليّة انسانيّته الّتى هي الولاية التّكوينيّة الّتى هي الحبل من الله وبضاعته انسانيّته واختفاؤها خسران بضاعته ولا يخلوا الإنسان آنا ما من فعل وفعليّة ، فجميع افراد الإنسان في خسر على الاستمرار (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بالبيعة الخاصّة أو الّا الّذين آمنوا بالبيعة الخاصّة وعملوا الصّالحات بالوفاء بشروط البيعة (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) التّواصى اعمّ من ان يكون بالقال أو بالحال أو بالفعال أو بالدّعاء والالتماس

٢٧٤

من الله في الحضور أو بظهر الغيب ، فانّه قد مرّ في سورة البقرة عند قوله تعالى : (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ) بيان انّ المؤمن بوجوده يدعو الى الجنّة وان لم يكن له دعوة قالا ، والمراد بالحقّ الولاية فانّها حقة بحقيقة الحقّيّة ، وان كان المراد به الحقّ المطلق كان المراد منه أيضا الولاية لانّ ظهور الحقّ المطلق لا يكون الّا بالحقّ المضاف الّذى هو الولاية ويراد كلّ امر ثابت وكلّ امر غير باطل بإرادة الولاية فانّ الكلّ من شعب الولاية (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) على الحقّ أو بالصّبر مطلقا فانّ جميع أنواع الصّبر الّتى أمّهاتها ثلاث ؛ الصّبر على المصائب ، والصّبر عن المعاصي ، والصّبر على الطّاعات ، راجعة الى الصّبر على الحقّ فانّ المنظور من الصّبر على المصائب ان لا يجزع عند المصيبة لانّ الجزع لا يكون الّا بالغفلة عن الولاية ، والمنظور من الصّبر عن المعاصي عدم خروج النّفس عن انقياد العقل في ادامة الحقّ ، والخروج عن الانقياد لا يكون الّا بالغفلة عن الولاية ، والصّبر على الطّاعة ليس الّا الصّبر على الولاية الّتى هي روح كلّ طاعة ، ولا شكّ انّ المؤمنين إذا التقيا حصل لكلّ بملاقاة الآخر صبر وزيادة توجّه واشتداد ترقّب لوجهته الولويّة ، وليجد المؤمن ذلك من وجوده.

سورة الهمزة

مكّيّة ، تسع آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) الهمز الغمز ، والضّغط والنّخس والدّفع والضّرب والعضّ والكسر ، والكلّ من باب نصر وضرب ، واللّمز العيب والاشارة بالعين ونحوها ، والضّرب والدّفع والفعل من البابين ، قيل : المراد بالهمزة الطّعّان ، وباللّمزة المغتاب ، وقيل : العكس ، وقيل : الهمزة الّذى يطعن في وجهك واللّمزة الّذى يطعن في غيابك ، والصّيغتان تستعملان فيما صار عادة وسجيّة ، والرّذيلتان حاصلتان في تركيب الشّيطنة والسّبعيّة والبهيميّة فانّ صاحبهما بشيطنته يتكبّر على النّاس ويحقّرهم وبغضبه يدفع فضل من يتفضّل عليه ، وبشهوته يريد ان يكون ممدوحا في النّاس ، ذا فضيلة عندهم محبوبا لهم ، وإذا اجتمع هذه الخصال يغتاب ويغمز ويطعن في النّاس لرؤية نفسه واستكباره على الخلق وتحقيرهم ، وارادة كونه محبوبا فيهم بظهور النّقص فيهم وعدم ظهوره فيه ، فهما اخسّ الرّذائل (الَّذِي جَمَعَ مالاً) بحرصه الّذى هو نتيجة قوّته الشّهويّة (وَعَدَّدَهُ) اى عدّه مرّة بعد اخرى لحبّه ايّاه أو اعدّه لنوائبه ، والاعداد للنّوائب نتيجة القوى الثّلاث ؛ فانّه بشيطنته يريد الاستكبار على الخلق ويدبّر لذلك ويهيّئ أسبابه ، وبشهوته يحبّ المال ويدّخره ، وبغضبه يريد دفع ما يرد عليه بما ليس ملائما له ويدفع من أراد ان يدفعه عمّا هو عليه فيهيّئ لذلك أسبابه (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) هو على الاخبار ، أو على الاستخبار بتقدير الاستفهام (كَلَّا) ردع له عن هذا الحسبان ، ليموتّن و (لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) الحطم الكسر أو خاصّ باليابس ، والحطمة كالهمزة النّار الشّديدة واسم لجهنّم أو باب لها (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) يعنى انّها ليست مثل نيران الدّنيا لا تتجاوز عن الأجسام بل هي تتجاوز عن الأجسام وتصل الى القلب بل الى عليا مرتبة القلب الّتى تلى الرّوح وهي الفؤاد ، وأنموذج ذلك في الدّنيا انّ الموصوف بالرّذيلتين المقهور تحت حكم القوى الثّلاث تحترق نفسه الانسانيّة

٢٧٥

وقلبه وتنحطم بحيث كأنّه لم يكن له انسانيّة وقلب وإذا نظرت حقّ النّظر رأيته لم يكن فيه شيء من صفات الإنسان (إِنَّها) اى الحطمة أو النّار (عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) اى مطبقة اى يطبق أبوابها عليهم ، أو ينطبق النّار عليهم بحيث لا تدع منهم شيئا (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) العمد بالتّحريك والعمد بالضّمّتين ، وقرئ بهما جمع العود ، والظّرف حال عن الضّمير المجرور بعلى يعنى انّهم موثّقون على الاعمدة الطّويلة ، أو حال عن الضّمير المنصوب اى انّ النّار بأبوابها مطبقة عليهم حالكونها في مسامير من الحديد المحمى يعنى انّ الأبواب تطبق عليهم ثمّ تشدّ بمسامير من الحديد ، وقيل : المراد عمد السّرادق الّتى في قوله تعالى : أحاط بهم سرادقها ، وقيل : المراد بالعمد الأغلال الّتى يقيّدون بها.

سورة الفيل

مكّيّة ، خمس آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) الخطاب عامّ أو خاصّ بمحمّد (ص) يعنى انّ قضيّتهم مشهورة بحيث تكاد ترى لكلّ راء وان كان قد مضى زمانها ، ومحمّد (ص) فتح الله بصيرته بحيث صار الماضي والآتي في نظره كالحاضر (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ) لخراب البيت (فِي تَضْلِيلٍ) في الافناء والإهلاك أو في عدم الاهتداء الى المقصد ، قد اجمع الرّواة انّ الّذى قصد بالفيل الكعبة هو ملك اليمن ، وقيل : كان من قبل النّجاشىّ ملك الحبشة على اليمن وكان حركته الى مكّة بأمره ، والنّجاشىّ هذا كان جدّ النّجاشىّ الّذى كان في زمن النّبىّ (ص) وأقرّبه ، وكان اسم ملك اليمن أبرهة بن الصّباح الاشرم وكنيته ابو يكسوم بنى كعبة باليمن وامر النّاس ان يحجّوا إليها ، وانّ رجلا من بنى كنانة خرج حتّى قدم اليمن ثمّ نظر إليها فقعد فيها لقضاء حاجته فغضب أبرهة لذلك واحلف ان يهدم البيت ، ثمّ خرج بجنوده ونزل على ستّة أميال من مكّة فبعث مقدّمته وأصاب مقدّمته مأتى بعير لعبد المطلّب فلمّا بلغه خرج حتّى أتى القوم فاستأذن على أبرهة فأذن له بعد ما عرفوه انّه رئيس القوم فدخل عليه وهو على سريره فعظّمه ونزل من سريره وجلس معه ثمّ قال : ما حاجتك؟ ـ قال : حاجتي مأتا بعير أصابتها مقدّمتك ، قال : أعجبتني رؤيتك وزهّدنى فيك كلامك ، قال : ولم ايّها الملك؟ ـ قال: لأنّى جئت لأهدم بيت عزّكم وشرفكم وجئت تسألنى حاجتك ولا تسأل عن انصرافي عن بيتكم؟! فقال : انا ربّ الإبل وللبيت ربّ يمنعك منه ، فأمر ابو يكسوم بردّ ابله فخرج فلمّا أصبحوا بعثوا فيلهم فلم ينبعث ، وقيل: كان معهم فيل واحد اسمه محمود ، وقيل : ثمانية افيال ، وقيل : اثنا عشر ، فظهر عليهم طير من قبل البحر مع كلّ ثلاثة أحجار حجر في منقاره وحجران في رجليه ، وكانت ترفرف على رؤسهم وترمى في دماغهم فيدخل الحجر في دماغهم ويخرج من ادبارهم وينتقض أبدانهم فصاروا كما قال تعالى كعصف مأكول ، ولم يبق منهم الّا رجل واحد هرب فجعل يحدّث النّاس بما رأى إذ طلع عليه طائر منها بعد ما وصل الى اليمن فرفع رأسه فقال : هذا منها وجاء الطّير حتّى حاذى رأسه ثمّ القى الحجر عليه فخرج من دبره فمات ، وكان ذلك في العام الّذى ولد فيه رسول الله (ص) ، وقيل : كان قبل مولده بثلاث وعشرين سنة ، وقيل : بأربعين سنة (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) أبابيل جمع بلا واحد يقال : ابّل أبابيل اى فرّق ، أو هو جمع الابّالة بكسر الهمزة وتشديد الباء ، أو جمع الابّيل كسكّيت بمعنى القطعة من الطّير ، والإبل والمتتابعة منها ، وكان الطّير هذه الطّير المعروفة بابابيل ، وفي خبر عن الباقر (ع): كان

٢٧٦

رؤسها كأمثال رؤس السّباع وأظفارها كأظفار السّباع ولا رأوا قبل ذلك مثلها ولا بعدها (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) معرّب «سنگ گل» (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) كورق زرع اكله الدّود ، أو كزرع أكل حبّه فبقي بلا حبّ أو كتبن أكلته الدّوابّ فدفعته.

سورة قريش

اربع آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) قرئ ليلاف قريش بدون الهمزة ، الا فهم من دون ياء ، وقرئ ليلاف قريش مثل القراءة الاولى إيلافهم بهمزة وياء بعدها وقرئ لإيلاف قريش إيلافهم في كليهما بهمزة وياء بعدها ، والجارّ والمجرور متعلّق بقوله تعالى : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) ، أو بقوله : (فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) لانّ السّورة الاولى كانت في مقام الامتنان على قريش بجعل بيتهم ومسكنهم مأمنا ، أو متعلّق بقوله تعالى (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) يعنى لان جعل الله قريشا ذات الفة بملوك النّواحى مثل ملك الفارس والشّام والحبشة واليمن بواسطة كونهم أهل مكّة وصاحبي بيت الله فليعبدوا ربّه قيل : كان هاشم يألف الى الشّام وعبد شمس الى الحبشة ، والمطلّب الى اليمن ، ونوفل الى فارس ، وكان تجّار قريش يختلفون الى هذه الأمصار بسبب هذه الأخوّة وألفتهم لملوك تلك النّواحى ، وقيل : انّما كانت قريش تعيش بالتّجارة وكانت لهم رحلتان في كلّ سنة ، رحلة في الشّتاء الى اليمن لانّها بلاد حامية ، ورحلة في الصّيف الى الشّام لانّها باردة ، فلمّا قصد أصحاب الفيل مكّة اهلكهم الله لتألّف قريش هاتين الرّحلتين وكانت لا يتعرّض لهم أحد بسوء وكانوا يقولون : قريش سكّان حرم الله وولاة بيته ، ويجوز ان يكون اللّام للتّعجّب والعامل محذوفا (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) أخرجهم بالاطعام من جوع (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).

سورة الماعون

مكّيّة ، وقيل : مدنيّة ، وقيل : بعضها مكّىّ ، وبعضها مدنىّ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) قرئ أرأيت على الأصل ، وأريت بلا همز وأ رايتك بكاف الخطاب أو الخطاب خاصّ بمحمّد (ص) أو عامّ ، وتكذيب الدّين للجهل المركّب الّذى هو داء عياء وهو أصل جميع الشّرور يعنى أرأيت يا محمّد (ص) الّذى جمع بين رذائل القوى الثّلاث العلّامة والسّبعيّة والبهيميّة ، ولمّا كان الجهل أصل جملة الشّرور عطف على تكذيب الدّين الرّذائل الاخر بالفاء فقال (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُ) اى يدفع (الْيَتِيمَ)

٢٧٧

بعنف ، قيل : نزلت في العاص بن وائل ، وقيل : في الوليد بن المغيرة ، وقيل : في ابى سفيان كان ينحر في كلّ أسبوع جزورين فأتاه يتيم فسأله شيئا فقرعه بعصاه ، وقيل : نزلت في رجل من المنافقين ، وقيل : نزلت في ابى جهل كان وصيّا ليتيم فأتاه عريانا وسأله اللّباس عن مال نفسه فضربه ودفع اليتيم وضربه رذيلة الغضبيّة بل اردأ رذائلها لانّ تحقير الحقير الضّعيف ومن شأنه ان يرحم عليه وضربه ودفعه والاستكبار عليه اردأ من الاستكبار على القوىّ المنيع (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) وهو رذيلة الشّهويّة لانّ عدم الحضّ على طعام المسكين من حبّ المال (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) اى لهم ولذلك عطف بالفاء لكنّه أتى بالظّاهر مقام المضمر للاشعار بانّهم ان صلّوا لم يكن صلوتهم صلوة بل كانت وبالا عليهم ومعصية (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) أضاف الصّلوة إليهم للاشعار بانّ لكلّ إنسان صلوة خاصّة به يكون تلك الصّلوة القالبيّة تذكرة لها ، والمصلّى بالصّلوة القالبيّة لا بدّ وان يكون متذكّرا لصلوته الخاصّة به والّا كان مستحقّا بصلوته للويل الّذى ليس الّا للكفّار والصّلوة المخصوصة بكلّ إنسان ، امّا ولايته التّكوينيّة أو التّكليفيّة أو ذكره المأخوذ من ولىّ امره أو صورة ولىّ امره الّتى دخلت في قلبه مختفية فيه أو ظاهرة ، أو التّوجّه الى الله ، ويجوز ان يكون المعنى ويل للمصلّين الّذين يتهاونون بصلوتهم القالبيّة بعدم حفظ حدودها أو بعدم حفظ مواقيتها ، أو بتأخيرها من اوّل أوقاتها ولكن قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) ، النّاس ، يؤيّد المعاني الاول ، فانّ المرائى يأتى بها ويتمّ حدودها ويحفظ أوقاتها والّا لم يتأتّ له المراياة ، وهذه من رذائل العلّامة والشّهويّة (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) الماعون المعروف والماء وكلّ ما انتفعت به أو كلّ ما يستعار ، والزّكاة ، وهذه من رذائل العلّامة والشّهويّة (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) الماعون المعروف والماء وكلّ ما انتفعت به أو كلّ ما يستعار ، والزّكاة ، وهذه من رذائل الشّهويّة ، عن الصّادق (ع): هو القرض تقرضه والمعروف تصنعه ، ومتاع البيت تعيره ، ومنه الزّكاة ، قيل : انّ لنا جيرانا إذا أعرناهم متاعا كسروه وأفسدوه فعلينا جناح ان نمنعهم؟ ـ فقال : ليس عليكم جناح ان تمنعوهم إذا كانوا كذلك.

سورة الكوثر

مكّيّة ، وقيل : مدنيّة ، ثلاث آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) قد فسّر الكوثر بنهر في الجنّة وهو حوض النّبىّ (ص) عليه آنية عدد نجوم السّماء يذود (١) محمّد (ص) وعلىّ (ع) عنه أعداءهما ويسقيان شيعة علىّ (ع) عنه ، والكوثر في اللّغة الكثير من كلّ شيء والكثير الملتفّ من الغبار ، والإسلام ، والنّبوّة ، والرّجل الخيّر المعطاء كالكثير مثل الصّقيل ، والسّيّد ، ومطلق النّهر ونهر في الجنّة يتفجّر منه جميع أنهارها.

اعلم ، انّ الولاية هي الكوثر بأكثر معانيه وهي الّتى أعطاها بتمام حقيقتها محمّدا (ص) وبسببها أعطاه النّبوّة والرّسالة والعلم والحكم والاتباع الكثير والأولاد الكثيرين والقرآن ودين الإسلام والصّيت والسّلطنة والخير الكثير في الدّنيا والآخرة ، وهي الّتى تكون بصورة النّهر والحوض في الآخرة وهي الّتى تصوّرت بصورة علىّ (ع) في الدّنيا ، وقد أعطاه الله محمّدا (ص) ومنّ به عليه (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) اى إذا كان الله أعطاك الكوثر فتوجّه وتضرّع عليه وادعه شكرا لهذه النّعمة ، أو صلّ الغداة من العيد بجمع (وَانْحَرْ) بمنى ، أو صلّ صلوة العيد وانحر اضحيّتك ، قيل : كان

__________________

(١) ذاده ، ذودا دفعه وطرده.

٢٧٨

ينحر النّبىّ (ص) قبل ان يصلّى فامر ان يصلّى ثمّ ينحر ، وقيل : كان أقوام يصلّون لغير الله وينحرون لغير الله فأمره ان يصلّى لله وينحر لله ، وقيل : صلّ الصّلوة المكتوبة واستقبل القبلة بنحرك فانّه يقول العرب : منازلنا تتناحر يعنى بعضها يستقبل بعضا ، وفي خبر قال ابو عبد الله (ع) في قوله : فصلّ لربّك وانحر هو رفع يديك حذاء وجهك ، وفي خبر قال النّبىّ (ص) لجبرئيل : ما هذه النّحيرة الّتى أمرني بها ربّى؟ ـ قال : ليست بنحيرة ولكنّه يأمرك إذا تحرّمت للصّلوة ان ترفع يديك إذا كبّرت ، وإذا ركعت ، وإذا رفعت رأسك من الرّكوع ، وإذا سجدت ؛ فانّه صلوتنا وصلوة الملائكة في السّماوات السّبع (إِنَّ شانِئَكَ) اى مبغضك (هُوَ الْأَبْتَرُ) اى المنقطع عن الخير أو عن الولد أو عن الصّيت في النّاس أو عن الدّين ، قيل : انّ العاص بن وائل التقى رسول الله (ص) عند باب المسجد وتحدّثا وأناس من قريش جلوس في المسجد فلمّا دخل العاص قالوا : من الّذى كنت تتحدّث معه؟ ـ قال : ذلك الأبتر فسمّاه أبتر لانّه كان له ولد اسمه عبد الله وكان من خديجة فمات ولم يكن له ابن غيره ، وكانوا يسمّون من لم يكن له ولد أبتر.

سورة الكافرون

مكّيّة ، وقيل : مدنيّة ستّ ايات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) روى انّ نفرا من قريش اعترضوا لرسول الله (ص) فقالوا : يا محمّد (ص) هلمّ نعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد فنشرك نحن وأنت في الأمر؟ فقال : معاذ الله ان أشرك به غيره ، قالوا : فاستلم بعض الهتنا نصدّقك ونعبد إلهك ، فقال : حتّى انظر ، فنزلت السّورة فأيس قريش من محمّد (ص) وتصديقه ، وقد مضى في الفصل السّادس من فصول اوّل الكتاب انّ القارى ينبغي ان يجاهد حتّى يشاهد أو يتّحد مع خلفاء الله أو مع فعل الله فيصير لسانه لسان الله أو لسان خلفائه ، فيصير حين قراءة أمثال هذه السّورة عن مخاطبات الله آمرا من الله بل يصير امره امر الله ؛ فاعلم انّ الإنسان لكونه مختصرا من جميع العوالم وفيه لطائف جميع العوالم ولطائف جميع مقامات الأنبياء والأولياء (ع) ينبغي ان يجاهد وقت قراءته حتّى يصير لسانه لسان الله أو لسان وسائط الوحي ويصير سمعه سمع اللّطيفة النّبويّة فاذا قال : قل ، يصير ذلك القول امرا من الله باللّسان المنسوب الى الله أو الى الملك المبلّغ من الله ويصير المستمع لطيفته النّبويّة فيتمثّل الأمر ويخاطب كفّار وجوده من القوى البهيميّة والسّبعيّة والشّيطانيّة بعد إبائهم عن اتّباعه وإصرارهم على كفرهم وعبادتهم أصنامهم الّتى هي اهويتهم وبعد دعوتهم نبيّهم الّذى هو لطيفته النّبويّة الى موافقتهم فيقول : يا ايّها الكافرون (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) اى لا اعبد في المستقبل لانّ لا لا تستعمل في الحال (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ) في المستقبل فانّ الصّيغة وان كانت مشتركة بين الازمنة الثّلاثة لكنّها مخصّصة بالاستقبال بقرينة ما قبلها (ما أَعْبُدُ) في الحال أو في الحال والاستقبال (وَلا أَنا عابِدٌ) في الماضي بقرينة ما بعده ، أو في الماضي والحال أو مطلقا (ما عَبَدْتُّمْ) في الماضي (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) وأشار بتغيير الصّيغة في جانب الكفّار الى انّهم كانوا عابدين لاهويتهم بعبادة الأصنام واهويتهم غير ثابتة بل هي متغيّرة متبدّلة فكان معبودهم في الأمس غير معبودهم في الحال والمستقبل ، وبتوافق الصّيغة في جانب محمّد (ص) الى انّ معبوده كان في الماضي والحال والآتي واحدا غير متعدّد ولا مختلف ولا يحصل تلك

٢٧٩

اللّطيفة الّا بالتّكرار ، والوجه الاخر للتّكرار انّ السّورة في مقام التّبرّى وإظهار السّخط والمغايرة ، والتّكرار مناسب لهذا المقام ، ويجوز ان يكون لفظة ما مصدريّة في المواضع الاربعة أو في الموضعين الأخيرين ، والإتيان بما في قوله تعالى : ما اعبد ، على تقدير كون ما موصولة دون من للمشاكلة لقوله : ما تعبدون ولانّ المناسب لمقام التّبرّى والسّخط والمحاجّة الإتيان باللّفظ العامّ دون الخاصّ وليطابق اعتقادهم لتصوّرهم انّ ربّ السّماوات والأرض يكون مثل أربابهم ، نقل انّه سأل ابو شاكر الدّيصانىّ أبا جعفر الأحول عن وجه التّكرار وقال : هل يتكلّم الحكيم بمثل هذا القول ويكرّر مرّة بعد مرّة؟! فلم يكن عند الأحول في ذلك جواب فدخل المدينة فسأل الصّادق (ع) عن ذلك فقال : كان سبب نزولها وتكرارها انّ قريشا قالت لرسول الله (ص) تعبد إلهنا سنة ونعبد إلهك سنة ؛ فأجابهم الله بمثل ما قالوا (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ليس هذه متاركة وإباحة حتّى يقال : انّها منسوخة بآية القتال بل هي أيضا تهديد بليغ لهم مثل قوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ).

سورة النّصر

مدنيّة : ثلاث ايات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) قيل هذه آخرة سورة نزلت عليه (ص) كما ان (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) كانت اولى سورة نزلت عليه ، وقيل : نزلت في حجّة الوداع بمنى ، وقيل : عاش (ص) بعدها سنتين ، وقيل : مات من سنته ، وقال (ص) بعد نزول السّورة : نعيت الىّ نفسي ، وروى انّه بكى العبّاس بعد نزولها فقال : ما يبكيك يا عمّ؟ ـ قال : نعيت إليك نفسك ، قال : انّه لكما تقول ، واستفادة نعى نفسه (ص) من السّورة تكون من القرائن المنضمة والحاليّة الّتى تكون بين المتخاطبين وان لم يكن في اللّفظ ما يدلّ صريحا عليه ، واعلم انّ النّصر والفتح يطلقان بمعناهما المصدرىّ ويراد بهما النّصرة على الأعداء وفتح البلاد ، واستعمال المجيء فيهما من باب الاستعارة وتشبيه النّصرة والفتح بالجائى ، ويطلقان على نصرة الإنسان على أعدائه الباطنة وعلى فتح باب القلب ، ويطلقان على معنى حقيقىّ هو الملك النّازل على صدر النّبىّ (ص) ، وصورة ولىّ الأمر النّازلة على صدر السّالك ، وكما تكون نصرا من الله على الأعداء الظّاهرة والباطنة تكون فتحا من الله ، وبها تكون الفتح الظّاهر والباطن ويطلقان على النّصر المطلق الّذى لا نصر بعده وهو النّصر في الخروج من جميع قيود الإمكان ، والفتح المطلق الّذى هو فتح الغيب المطلق وهو الخروج من مقام الإمكان والعروج من مقام الواحديّة الى الاحديّة وهو مقام القدس والتّقديس ، ولمّا كان النّصر مضافا الى الله والفتح مطلقا كان المراد هذا النّصر وذلك الفتح وقد يستنبط نعى نفسه (ص) من هذا فانّ النّصر المطلق والفتح بهذا المعنى قلمّا يكون بدون وقت الارتحال (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) لمّا فتح الله تعالى مكّة صار جميع الاعراب في الأطراف ذليلا منقادا لمحمّد (ص) وكانوا يدخلون في الإسلام من دون مقاتلة ودعوة ، والدّين كما يطلق على الملّة وعلى الولاية الّتى هي الطّريق الى الله بحسب التّكليف والاختيار يطلق على مطلق الطّريق الى الله تكوينا أو تكليفا لذوي الشّعور أو غير ذوي الشّعور ، وإذا ارتفع القيود والحدود عن نظر الكامل يرى الكلّ داخلين في دين الله يعنى في طريق السّلوك الى الله بل يرى الكلّ عقلاء علماء عرفاء ساعين الى الله والى مظاهره اللّطفيّة والقهريّة ولا يرى شيئا من الموجودات

٢٨٠