تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٤

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٤

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩١

عن عذاب الله فلو لا نصر السّابقين الّذين حلّ بهم العذاب آلهتهم (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) ولم يثبتوا معهم (وَذلِكَ) الاتّخاذ (إِفْكُهُمْ) وصرفهم عن طريق الحقّ (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) ما موصولة وعطف على إفكهم أو استفهاميّة أو نافية بتقدير الاستفهام (وَإِذْ صَرَفْنا) واذكر أو ذكّر قومك إذ صرفنا (إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) والمعنى صرّفناهم إليك من محالّهم بالتّوفيق ، وقيل : صرّفناهم إليك عن استراق السّمع من السّماء برجوم الشّهب ولم يكونوا بعد عيسى قد صرفوا منه فقالوا : ما هذا الّذى حدث في السّماء الّا من أجل شيء قد حدث في الأرض فضربوا في الأرض حتّى وقفوا على النّبىّ (ص) وهو يصلّى الفجر فاستمعوا القرآن (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ) اى النّبىّ (ص) أو القرآن (قالُوا) بعضهم لبعض (أَنْصِتُوا) نستمع قراءته بلا مانع (فَلَمَّا قُضِيَ) فرغ منه (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا) بدل من منذرين أو حال أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر (يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) المراد بالحقّ احكام الملّة وبالطّريق المستقيم الولاية أو بالعكس ، أو المراد بهما هي الولاية من قبيل عطف أو صاف متعدّدة لشيء واحد.

نقل انّه لمّا توفّى ابو طالب اشتدّ البلاء على رسول الله (ص) فعمد ليقف بالطّائف رجاء ان يؤووه فوجد ثلاثة نفر منهم هم سادة وهم اخوة فعرض عليهم نفسه ، فقال أحدهم : انا أسرق ثياب الكعبة ان كان الله بعثك بشيء قطّ ، وقال الآخر : أعجز على الله ان يرسل غيرك؟ ـ وقال الآخر : والله لا اكلّمك بعد مجلسك هذا أبدا ، فلئن كنت رسولا كما تقول فأنت أعظم خطرا من ان يردّ عليك الكلام وان تكذب على الله فما ينبغي لي ان اكلّمك ، وتهزؤا به وأفشوا في قومه ما راجعوه به ، فقعدوا له صفّين على طريقه ، فلمّا مرّ رسول الله (ص) بين صفّيهم جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما الّا رضخوهما بالحجارة حتّى أدموا رجليه ، فخلص منهم وهما يسيلان دما الى حائط من حوائطهم واستظلّ في ظلّ منه وهو مكروب موجع تسيل رجلاه دما ، فاذا في الحائط عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة فلمّا رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله ، فلمّا رأياه أرسلا اليه غلاما لهما يدعى عداس معه عنب وهو نصرانىّ من أهل نينوى فلمّا جاءه قال له رسول الله (ص): من اىّ ارض أنت؟ ـ قال : من أهل نينوى ، قال : من مدينة العبد الصّالح يونس بن متّى؟ ـ فقال له عداس : وما يدريك من يونس بن متّى؟ ـ فقال : انا رسول الله (ص) ، والله تعالى أخبرني خبر يونس بن متّى ، فلمّا أخبره بما أوحى الله اليه من شأن يونس خرّ عداس ساجدا لرسول الله (ص) وجعل يقبّل قدميه وهما يسيلان الدّماء ، فلمّا بصر عتبة وشيبة ما يصنع غلامهما سكتا فلمّا أتاهما قالا : ما شأنك سجدت لمحمّد (ص) وقبّلت قدميه؟ ـ ولم ترك فعلت ذلك بأحد منّا؟ ـ قال : هذا رجل صالح أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متّى فضحكا وقالا : لا يفتننّك عن نصرانيّتك فانّه رجل خدّاع ، فرجع رسول الله (ص) الى مكّة حتّى إذا كان بنحلة قام في جوف اللّيل يصلّى فمرّ به نفر من جنّ أهل نصيبين من اليمن ، فوجدوه يصلّى صلوة الغداء ويتلو القرآن فاستمعوا له ، وروى غير ذلك في قصّة صرف الجنّ اليه ، من أراد فليرجع الى المفصّلات (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ) الله أو الدّاعى (لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ) ابتداء كلام من الله تعالى أو جزء كلام النّفر من الجنّ (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَوَلَمْ يَرَوْا) هذا أيضا امّا ابتداء كلام من الله أو جزء كلام الجنّ (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ

٨١

السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) عطف على إذ صرفنا عطف المفرد ، أو مقدّر با ذكر ، أو متعلّق بيقال المقدّر ، أو بقالوا ، وعطف نحو عطف الجملة (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) مقدّر بالقول (قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بالله أو بالرّسول أو بالآخرة أو بالولاية فاذا كان أمر هؤلاء على ما ذكر (فَاصْبِرْ) ولا تجزع على أذاهم ولا تستعجل عذابهم (كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) المشهور من أخبارنا انّ اولى العزم من الرّسل خمسة ، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى (ع) ومحمّد (ص) وسمّوا اولى العزم لانّ شريعتهم كانت ناسخة لما سبق من الشّرائع وكانت حتما على كلّ الخلائق بخلاف سائر الأنبياء (ع) فانّ شريعتهم كانت شريعة من سبقهم ، وكانت في قوم دون قوم ، وعلى هذا يكون من في قوله تعالى من الرّسل للتّبعيض ، وقيل : جميع الرّسل كانوا اولى العزم فانّهم لم يكونوا على تردّد من أمرهم فيكون من للتّبيين ، وقيل : اولو العزم كانوا ستّة ، نوح صبر على أذى قومه ، وإبراهيم صبر على النّار ، وإسحاق صبر على الذّبح ، ويعقوب صبر على فقد الولد وذهاب البصر ، ويوسف صبر في البئر والسّجن ، وايّوب صبر على الضّرّ والبلوى ، وقيل : هم الّذين أمروا بالجهاد والقتال وأظهروا المكاشفة وجاهدوا في الدّين ، وقيل : هم إبراهيم وهود ونوح (ع) ورابعهم محمّد (ص) (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) العذاب فانّه كائن لا محالة عن قريب (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) من العذاب (لَمْ يَلْبَثُوا) في التّنعّم والدّنيا (إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) يعنى انّ المكث في الدّنيا وان كان أطول زمان ليس الّا كساعة فمالك تستعجل العذاب الوارد عليهم عن قريب (بَلاغٌ) خبر مبتدء محذوف والجملة صفة ساعة ، أو جواب لسؤال مقدّر اى هذه السّاعة ليست لتمتّعهم بل هي بلاغ لهم الى يوم يرونه فهو تسلية اخرى له (ص) وعلّة اخرى لنهيه عن الاستعجال ، أو هذا اللّبث بلاغ لهم الى هذا اليوم ، أو مبتدء خبر محذوف اى لهم بلاغ سيبلغون الى هذا اليوم فلا تستعجل ، أو لهم بلاغ الى هذا اليوم الآن فانظر حتّى ترى فانّ الكلّ بوجه في نظر البصير في القيامة والحساب ، أو المعنى هذا القرآن ، أو هذه المواعظ والتّهديدات ، أو ولاية علىّ (ع) تبليغ منك لرسالتك فلا تكترث بهم قبلوا أو ردّوا (فَهَلْ يُهْلَكُ) عن الحيوة الانسانيّة (إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن طاعة ولاة الأمر فلا تحزن على الهالكين ، قيل : ما جاء في الرّجاء شيء أقوى من هذه الآية.

سورة محمّد

وتسمّى أيضا سورة القتال ، مدنيّة ، وقيل : غير آية منها نزلت على النّبىّ (ص) وهو يريد

المدينة وجعل ينظر الى البيت وهو يبكى حزنا فنزلت وهي قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ

قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً) (الاية) وهي أربعون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) اعلم ، انّ هذه السّورة ذكر فيها حال المؤمنين بعلىّ (ع)

٨٢

والجاحدين لولايته وان كانت الآيات بظواهرها عامّة لكنّ المنظور منها ذلك كما نشير اليه في مواقعه ، فقوله الّذين كفروا ظاهره اعمّ من الكفر بالله أو بالرّسول (ص) أو بالآخرة أو بعلىّ (ع) وولايته ، لكنّ المقصود الكفر بالولاية بقرينة قوله صدّوا عن سبيل الله فانّ سبيل الله ليس الّا الولاية سواء جعل صدّوا بمعنى اعرضوا أو منعوا (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) الّتى عملوها في الإسلام ، القمّىّ قال : نزلت في أصحاب رسول الله (ص) الّذين ارتدّوا بعد رسول الله (ص) وغصبوا أهل بيته حقّهم ، وصدّوا عن أمير المؤمنين (ع) وعن ولاية الائمّة (ع) (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة اى أسلموا (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) اللّازمة لبيعتهم العامّة (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) في علىّ (ع) بقبول ولايته والبيعة معه (وَهُوَ الْحَقُ) اى الولاية الّتى نزلت على محمّد (ص) هي الحقّ (مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ) أزال عنهم (سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) حالهم أو قلبهم ، قال القمّىّ : نزلت في ابى ذرّ وسلمان وعمّار ومقداد لم ينقضوا العهد وآمنوا بما نزل على محمّد (ص) اى ثبتوا على الولاية الّتى أنزلها الله وهو الحقّ يعنى أمير المؤمنين (ع) (ذلِكَ) الإضلال وتكفير السّيّئات وإصلاح الحال (بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالولاية (اتَّبَعُوا الْباطِلَ) اى أهواءهم وأعداء أمير المؤمنين (ع) (وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَ) الولاية وأمير المؤمنين (مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ) الضّرب لمثل علىّ (ع) وعدوّه بنحو العموم الّذى لا يلتفت اليه أعداء آل محمّد (ص) حتّى يسقطوه (يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) اى اوصافهم أو حكاياتهم أو الأمثال الّتى تشبه أحوالهم (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) فاضربوهم ضرب الرّقاب (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ) يعنى فاسروهم واحفظوهم بالوثاق ، والوثاق بالكسر والفتح ما يوثق به (فَإِمَّا مَنًّا) اى تمنّون منّا (بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) تخيير بين المنّ والفداء ، أو بيان لفائدة الحكم السّابق من دون تعرّض لحكم المنّ والفداء (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) بيان لغاية ضرب الرّقاب وشدّ الوثاق يعنى انّ ضرب الرّقاب وأسر الرّجال ليس الّا ما دام الحرب قائمة فاذا انقضت الحرب فلا تتعرّضوا لهم ، أو المعنى حتّى لا يبقى محارب وحرب في بلادكم فيكون رفع المحاربة من البين علّة غائيّة للمحاربة ، عن الصّادق (ع) انّه قال : كان ابى يقول : انّ للحرب حكمين ؛ إذا كانت الحرب قائمة لم تضع أو زارها ولم يثخن أهلها فكلّ أسير أخذ في تلك الحال فانّ الامام فيه بالخيار ، ان شاء ضرب عنقه وان شاء قطع يده ورجله من خلاف بغير حسم (١) وتركه يتشحّط في دمه حتّى يموت وهو قول الله عزوجل : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ) (الآية) قال والحكم الآخر إذا وضعت الحرب أوزارها وأثخن أهلها فكلّ أسير أخذ على تلك الحال فكان في أيديهم فالإمام فيه بالخيار ان شاء منّ عليهم فأرسلهم ، وان شاء فاداهم أنفسهم ، وان شاء استعبدهم فصاروا عبيدا (ذلِكَ) اى الأمر والسّنّة بحسب الأسباب ذلك ، أو ذلك حكم الله بحسب الأسباب ، أو خذوا ذلك والزموه بحسب الأسباب (وَ) لكن (لَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) من دون أمركم بقتالهم (وَلكِنْ) يأمركم بقتالهم (لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) فانّ في الجهاد تحصيل خصال عظيمة لا يمكن تحصيلها الّا به ، وتهديدا عظيما للكفّار حتّى يرغبوا في التّوبة قبل الاستيصال (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) قرئ قتلوا مجرّدا مبنيّا للمفعول ، وقرئ قاتلوا (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ) اى ما ينبغي ان يهدوا اليه من

__________________

(١) اى بغير قطع الدّم ففي الصّحاح حسمته ، قطعته فانحسم ، ومنه حسم العرق.

٨٣

الكمالات الانسانيّة ودرجات الجنان (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) حتّى لا يكون حين تلذّ ذاتهم الانسانيّة ما يغيّر حالهم (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) جواب لسؤال مقدّر أو حال والمعنى انّ الجنّة عرّفها الله لهم بانّ فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين وفيه الّذى ما خطر على قلب بشر (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) قد مضى في سورة الحجّ بيان لهذه الآية (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) في دينكم الّذى هو ولاية علىّ (ع) (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالولاية (فَتَعْساً لَهُمْ) تعسوا تعسا لهم والتّعس الهلاك والعثار والسّقوط والشّرّ والبعد والانحطاط ، والفعل كمنع وسمع ، ويستعمل متعدّيا فيقال : تعسه الله مثل أتعسه الله (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) في علىّ (ع) ، كذا روى عن الباقر (ع) الّا انّه كشط الاسم (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) اى ارض الطّبع أو ارض القرآن أو الاخبار أو السّير أو ارض العالم الصّغير (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ممّن كذّب بآيات الله ولم يصدّق خلفاء الله حتّى يتنبّهوا لقبح فعلهم وتكذيبهم وعقوبته (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) دمر كنصر ودمّر من التّفعيل أهلك ، ودمر دمورا هجم هجوم الشّرّ ودخل بغير اذن (وَلِلْكافِرِينَ) بالولاية (أَمْثالُها ذلِكَ) التّدمير (بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) بالولاية لا الّذين كفروا بها (وَأَنَّ الْكافِرِينَ) بالولاية (لا مَوْلى لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) مستأنفة جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما يفعل الله بهم في كونه مولى لهم؟ ـ وما يفعل بالكافرين في كونهم لا مولى لهم؟ ـ والمراد بالايمان البيعة الخاصّة الولويّة أو الحالة الحاصلة بها ، أو البيعة العامّة النّبويّة ، والمراد بالعمل الصّالح البيعة الخاصّة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بولاية ولىّ أمرهم (يَتَمَتَّعُونَ) يتلذّذون (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) يعنى يتمتّعون كالأنعام من غير نظر الى عاقبتهم وعاقبة تمتّعهم (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) وهي مكّة (أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ أَفَمَنْ كانَ) يعنى الم يكن عندنا تميز فمن كان (عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) وهو علىّ (ع) كما مضى في سورة هود (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) عن الباقر (ع) هم المنافقون (مَثَلُ الْجَنَّةِ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : ما وصف الجنّة الموعودة للمؤمنين وحكايتها؟ ـ فقال : وصف الجنّة (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) غير متغيّر بحسب الطّعم والرّيح واللّون والجملة خبر المثل ، واكتفى عن الرّابط بكونها عين المبتدأ (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) مصدر بمعنى الوصف أو وصف ، وخمر الجنّة لا حرمة فيها ولا نجاسة ولا غائلة خمار ولأنتن ريح ولا مرارة طعم ولذلك وصفها باللّذّة (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) ممّا يخالط العسل الدّنيوىّ (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) الدّنيويّة والاخرويّة من ثمرات العلوم والمشاهدات والتّسبيح والتّحميد (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) فوق الكلّ (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) خبر مبتدء محذوف اى امن كان في الجنّة في تلك النّعم كمن هو خالد في النّار (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) مسخّنا وقد يكون الحميم بمعنى الماء البارد ولكنّ المراد هاهنا الاوّل (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) من فرط حرارته ، وهذا مقابل الأنهار الّتى وعد المتّقون (وَمِنْهُمْ) من المنافقين

٨٤

(مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ) يعنى انّ مقصودهم من الاستماع الاستهزاء بك أو المعنى منهم من هو مطبوع على قلبه فيستمعون إليك ولا يفهمون كلامك حتّى إذا خرجوا من عندك (قالُوا) لعدم تفطّنهم بكلامك (لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) الى ولاية علىّ (ع) (زادَهُمْ) الله ، أو محمّد (ص) ، أو ما قال محمّد (ص) ، أو استهزاء المنافقين (هُدىً وَآتاهُمْ) الضّمير الفاعل لواحد من المذكورات (تَقْواهُمْ) يعنى صار سببا لاتّصافهم بالتّقوى اللّائقة بهم أو آتاهم ثواب تقويهم من العلم والذّكاوة (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ) بدل من السّاعة بدل الاشتمال ، أو بتقدير اللّام وتعليل لانتظارهم (بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) جمع الشّرط بالتّحريك بمعنى العلامة فانّ من علاماتها في العالم الكبير بعثة محمّد (ص) وانشقاق القمر ونزول آخر الكتب ، وفي العالم الصّغير اوّل الأشراط نزول العقل من عالمه العلوىّ فيه ثمّ التّغييرات الّتى تكون فيه ثمّ الأمراض الّتى ترد عليه وغير ذلك ممّا يدلّ على زواله ودثوره ، وقرئ ان تأتهم بكسران وجزم تأتهم وجوابه فقد جاء أشراطها يعنى ان تأتهم بغتة فلا غرو فيه فقد جاء أشراطها ، أو جوابه قوله تعالى (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ) السّاعة (ذِكْراهُمْ) يعنى لا ينفع ذكريهم إذا جاءتهم السّاعة ، ويجوز ان يكون فاعل جاءتهم ذكريهم ، عن النّبىّ (ص) انّ من أشراط السّاعة ان يرفع العلم ، ويظهر الجهل ، ويشرب الخمر ، ويفشو الزّنا ، ويقلّ الرّجال ، وتكثر النّساء ، حتّى انّ الخمسين امرأة فيهنّ واحد من الرّجال،

حديث في أحوال النّاس في آخر الزّمان

وقال القمّىّ : انّ ابن عبّاس قال : حججنا مع رسول الله (ص) حجّة الوداع فأخذ بحلقة باب الكعبة ثمّ اقبل علينا بوجهه فقال : الا أخبركم بأشراط السّاعة؟ ـ فكان ادنى النّاس منه يومئذ سلمان رحمه‌الله فقال : بلى يا رسول الله (ص) ، فقال : انّ من أشراط القيامة اضاعة الصّلوات ، واتّباع الشّهوات ، والميل مع الأهواء ، وتعظيم أصحاب المال ، وبيع الدّين بالدّنيا ، فعندها يذاب قلب المؤمن في جوفه كما يذاب الملح في الماء ممّا يرى من المنكر فلا يستطيع ان يغيّره ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال ، اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان انّ عندها يليهم أمراء جورة ، ووزراء فسقة ، وعرفاء ظلمة ، وأمناء خونة ، فقال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان انّ عندها يكون المنكر معروفا والمعروف منكرا ، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين ، ويصدّق الكاذب ويكذّب الصّادق ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان فعندها تكون إمارة النّساء ومشاورة الإماء وقعود الصّبيان على المنابر ويكون الكذب ظرفا (١) والزّكاة مغرما والفيء مغنما ، ويجفو الرّجل والديه ويبرّ صديقه ويطلع الكوكب المذنب ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان وعندها تشارك المرأة زوجها في التّجارة ، ويكون المطر قيظا ويغيظ الكرام غيظا ، ويحتقر الرّجل المعسر فعندها تقارب الأسواق إذ قال هذا : لم أبع شيئا ، وقال هذا ، لم اربح شيئا فلا ترى الّا ذامّا لله ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان فعندها يليهم أقوام ان تكلّموا قتلوهم وان سكتوا استباحوهم ، ليستأثرون بفيئهم ، وليطؤنّ حرمتهم ، وليسفكنّ دماءهم ، وليملأنّ قلوبهم دغلا ورعبا فلا تراهم الّا وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان انّ عندها يؤتى بشيء من المشرق وبشيء من المغرب يلون أمّتي ، فالويل لضعفاء أمّتي منهم والويل لهم من الله لا يرحمون صغيرا ولا يوقّرون كبيرا ولا يتخافون عن مسيء جثّتهم جثّة الآدميّين وقلوبهم قلوب الشّياطين ، قال

__________________

(١) الظّرف كالضّرب والظّرافة وهو حسن القول أو حسن الوجه والهيئة أو حسن اللّسان والبراعة وذكاء القلب أو من لا يوصف الّا الفتيان.

٨٥

سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان وعندها يكتفى الرّجال بالرّجال والنّساء بالنّساء ويغار (١) على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها ، وتشبّه الرّجال بالنّساء والنّساء بالرّجال وتركبن ذوات الفروج السّروج فعليهنّ من أمّتي لعنة الله ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان انّ عندها تزخرف المساجد كما تزخرف البيع والكنائس وتحلّى المصاحف وتطوّل المنارات وتكثر الصّفوف بقلوب متباغضة والسن مختلفة ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان وعندها تحلّى ذكور أمّتي بالذّهب ويلبسون الحرير والدّيباج ويتّخذون جلود النّمور صفافا (٢) ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان وعندها يظهر الرّبا ويتعاملون بالعينة (٣) والرّشى ، ويوضع الدّين وترفع الدّنيا ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان وعندها يكثر الطّلاق فلا يقام لله حدّ ولن يضرّوا الله شيئا ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان وعندها تظهر المغنيّات والمعازف (٤) وتليهم أشرار أمّتي ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان وعندها يحجّ أغنياء أمّتي للنّزهة ، ويحجّ أوساطهم للتّجارة ، ويحجّ فقراؤهم للرّيا والسّمعة فعندها تكون أقوام يتعلّمون القرآن لغير الله ويتّخذونه مزامير ، ويكون أقوام يتفقّهون لغير الله ، ويكثر أولاد الزّنا ويتغنّون بالقرآن ويتهافتون (٥) بالدّنيا ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان ذلك إذا انتهكت المحارم واكتسبت المآثم ، وسلّط الأشرار على الأخيار ، ويفشوا لكذب ، وتظهر اللّجاجة ، وتفشو الفاقة ، ويتباهون في اللّباس ، ويمطّرون في غير أوان المطر ، ويستحسنون الكوبة (٦) والمعازف ، وينكرون الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر حتّى يكون المؤمن في ذلك الزّمان اذلّ من الأمة ويظهر قرّاءهم وعبّادهم فيما بينهم التّلاوم فأولئك يدعون في ملكوت السّماوات الارجاس الأنجاس ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان فعندها لا يخشى الغنىّ الّا الفقر حتّى انّ السّائل يسئل فيما بين الجمعتين لا يصيب أحدا يضع في كفّه شيئا ، قال سلمان : وانّ هذا الكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان عندها يتكلّم الرّويبضة ، فقال سلمان : وما الرّويبضة يا رسول الله (ص)؟! فداك ابى وأمّي ، قال : يتكلّم في امر العامّة من لم يكن يتكلّم ، فلم يلبثوا الّا قليلا حتّى تخور الأرض خورة فلا يظنّ كلّ قوم الّا انّها خارت في ناحيتهم فيمكثون ما شاء الله ثمّ ينكثون في مكثهم فتلقى لهم الأرض أفلاذ (٧) كبدها ذهبا وفضّة ، ثمّ أومى بيده الى الأساطين فقال : مثل هذا ، فيومئذ لا ينفع ذهب ولا فضّة فهذا معنى قوله : فقد جاء أشراطها (فَاعْلَمْ) يعنى إذا علمت ذلك فاعلم (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) تقلّبكم وانتقالاتكم فانّ لكم انتقالات من اوّل استقرار نطفكم وموادّكم في الأرحام الى آخر الدّنيا وهكذا في البرازخ الى الأعراف ، أو محالّ تقلّبكم من مراتب الدّنيا والبرازخ (وَمَثْواكُمْ) في مراتب الآخرة الّتى هي كثيرة بحسب مراتب النّاس (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) في امر الجهاد أو مطلقة والمراد بالمؤمنين مطلق المسلمين أو المنافقون منهم أو المؤمنون بالبيعة الخاصّة الولويّة (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ)

__________________

(١) أغار اهله تزوّج عليها.

(٢) الصّفف ما يلبس تحت الدرع.

(٣) بيع العينة بيع الشّيء الى أجل بزيادة على ثمنه.

(٤) المعازف آلات الطّرب كالطّنبور والعود.

(٥) اى يتفاخرون ويتسابقون ، تهافت على الشّيء بمعنى تساقط وتتابع وأكثر استعماله في الشّر.

(٦) الكوبة النّرد والشّطرنج والطّبل الصّغير والبربط.

(٧) الفلذ كبد البعير وأ فلا ذا الأرض كنوزها.

٨٦

مبيّنة المعنى والمقصود ، أو غير ما يتطرّق فيه النّسخ ، أو عزيمة أحكامها لارخص (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) يعنى ذكر فيها الحكم بالقتال على سبيل العزيمة (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) الّذين هم بعض السّائلين أو رأيت السّائلين لكنّه وضع الظّاهر موضع المضمر لذمّهم وبيان علّة الحكم ، أو رأيت الّذين في قلوبهم مرض وهم غير السّائلين (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) لشدّة خوفهم ودهشتهم (فَأَوْلى لَهُمْ) كلمة تهديد وزجر كأنّه نقل من أصله وصار من قبيل أسماء الأصوات ، أو من قبيل الأمثال لا يغيّر وكان في الأصل فعلا من الولي بمعنى القرب ، أو من آل بمعنى رجع مقلوبا أو وصفا منهما ، أو من الويل ، أو بمعنى أحرى ، وسيجيء تفصيله في سورة القيامة وعلى هذا فهو خبر وقوله تعالى (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) مبتدءه ، أو طاعة مبتدء خبره محذوف اى خير ، وقرئ يقولون طاعة ، وحينئذ يكون المعنى يقولون لنا طاعة وقول معروف (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) عزموا على الأمر جدّوا فيه وقطعوا على فعله وعزم الأمر بمعنى عزم عليه (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) فيما قالوا لو لا انزل سورة اى فيما يستفاد منه من الحرص على الجهاد أو في مطلق ما قالوا وأقرّوا بلسانهم من الايمان والتّصديق بالله والرّسول (ص) وقبول الأحكام ، أو فيما اقرّوا به من إمارة علىّ (ع) والتّسليم عليه بإمرة المؤمنين (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) ممّا يزعمونه خيرا من ايّام الدّنيا وتمتّعاتها (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن علىّ (ع) أو ان تولّيتم أمور النّاس ، وقرئ ان تولّيتم بالبناء للمفعول اى ان تولّاكم النّاس (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) يعنى ان تولّيتم لم يكن لكم شأن سوى الإفساد فينبغي لكم ان لا ترجوا غيره حين التّولّى (وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) الصّوريّة والمعنويّة (أُولئِكَ) التفات من الخطاب الى الغيبة (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) يعنى اصمّم عن ادراك الجهة الاخرويّة من المسموعات وأعمى أبصارهم كذلك (أَ) يقدرون على التّأمّل في الآيات والقرآن (فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) فلا يقدرون على التّدبّر ، ونكّر القلوب مع انّ المناسب ان يقول أم على قلوبهم للاشعار بانّ القلوب الّتى عليها أقفالها كأنّها ليست قلوب الإنسان فلا يضاف إليهم ، أو انّها لغاية حقارتها كأنّها لا يمكن ان تعرّف ، واضافة الأقفال الى القلوب للاشارة الى انّ أقفال القلوب من سنخ القلوب لا من جنس الأقفال الصّوريّة وقد مضى في اوّل البقرة انّ لكلّ من القلوب روزنة الى الملكوت العليا وروزنة الى الملكوت السّفلى ، وباعتبار لكلّ باب الى الملكوت العليا ، وباب الى الملكوت السّفلى ، وإذا انفتح كلّ من البابين أغلق الآخر (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) شبّه السّالك على طريق الدّين بمن سلك طريقا ، والرّاجع عن الدّين بمن ارتدّ عن الطّريق على دبره وهذا حال المسلمين الّذين أسلموا بمحمّد (ص) ثمّ خالفوه في أوامره (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) بقول الله وقول رسوله والمراد بالهدى الولاية وطريقها وقد بيّنها الله تعالى في عدّة آيات وبيّنها رسول الله (ص) في عدّة مواضع ، وقد ورد في خبر انّه (ص) أخذ البيعة منهم في عشرة مواطن وفي خبر آخر : أخذ البيعة عنهم يوم الغدير ثلاث مرّات (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) أمليت له في غيّه أطلت ، والبعير وسعت له في قيده ، واملى الله له أمهله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) في علىّ (ع) وخلافته (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) قرئ مصدرا وجمعا ، قال الصّادق (ع): فلان وفلان ارتدّوا عن الايمان في ترك ولاية أمير المؤمنين (ع) قال : نزلت والله فيهما وفي اتباعهما وهو قول الله عزوجل الّذى نزّل به جبرئيل على محمّد (ص) ذلك بأنّهم قالوا للّذين كرهوا ما نزّل الله في علىّ (ع) سنطيعكم في بعض الأمر قال : دعوا بنى أميّة الى ميثاقهم الّا يصيروا الأمر فينا بعد النّبىّ (ص) ولا يعطونا من الخمس شيئا

٨٧

وقالوا : ان أعطيناهم ايّاه لم يحتاجوا الى شيء ولم يبالوا ان لا يكون الأمر فيهم فقالوا : سنطيعكم في بعض الأمر الّذى دعوتمونا اليه وهو الخمس ان لا نعطيهم منه شيئا والّذى نزّل الله ما افترض على خلقه من ولاية أمير المؤمنين (ع) وكان معهم ابو عبيدة وكان كاتبهم فانزل الله (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) (الآية) وعنهما (ع) انّهم بنو أميّة كرهوا ما نزّل الله في ولاية علىّ (ع) (فَكَيْفَ) يكون حالهم أو كيف يحتاجون (إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ذلِكَ) الضّرب (بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) من ولاية علىّ (ع) فانّ الرّحمة والرّضا والرّضوان والنّعمة كلّها ولاية علىّ (ع) (فَأَحْبَطَ) الله أو ذلك الاتّباع والكراهة (أَعْمالَهُمْ) عن الباقر (ع) قال : كرهوا عليّا (ع) امر الله بولايته يوم بدر ويوم حنين وببطن نخلة ويوم التّروية ويوم عرفة نزلت فيه خمس عشرة آية في الحجّة الّتى صدّ فيها رسول الله (ص) عن المسجد الحرام وبالجحفة وبخمّ والمراد بحبط الأعمال حبط ما عملوها في الإسلام (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ) ان لن يظهر الله (أَضْغانَهُمْ) لرسوله وللمؤمنين يعنى انّ هذا ظنّ فاسد ونحن نخرج أضغانهم (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) يعنى لو نشاء تعريفهم لك لأريناكهم حتّى تعرفهم بسيماهم ونفاقهم الباطنىّ (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ان لم تكن تعرفهم بسيماهم ، ويجوز ان يكون الخطاب لمحمّد (ص) وان يكون لغير معيّن والمراد بلحن القول فحواه ومقصوده من الكناية والتّورية والتّعريض ، أو إمالته الى جهة التّعريض والتّورية ، وعن ابى سعيد الخدرىّ قال : لحن القول بغضهم علىّ بن ابى طالب (ع) قال : وكنّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله (ص) ببغضهم علىّ بن ابى طالب (ع) ، وعن انس : انّه ما خفي منافق على عهد رسول الله (ص) بعد هذه الآية (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) اسررتموها أو اعلنتموها (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) بالأمر بالجهاد أو بمطلق التّكليف أو بالبلايا وحوادث الدّهر ، أو بالخطرات ووسوسة الشّيطان والقائه الشّبه في قلوبكم (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) يعنى حتّى يظهر علمنا أو نعلم في مظاهرنا (وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) الّتى تخبرونها عن أنفسكم من انّكم آمنتم بالله ورسوله وصدّقتم رسوله فيما جاء به ، أو نبلو أخباركم الّتى يخبرون عنكم من انّكم دبّرتم خلاف ما قاله الرّسول (ص) في علىّ (ع) ، أو نبلو أخباركم الّتى تخبرونها عن غيركم ، وقرئ الأفعال الثّلاثة بالغيبة أيضا (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالولاية (وَصَدُّوا) اعرضوا أو منعوا غيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الّذى هو علىّ (ع) وولايته (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) خالفوه أو اتعبوه في أهل بيته بعد اخذه الميثاق عليهم بولايته (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) أو لن يضرّوك أو لن يضرّوا عليّا (ع) (وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) الّتى عملوها في الإسلام (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بعد ما أظهر انّ الّذين لم يطيعوا رسوله في خلافة علىّ (ع) سيحبط أعمالهم نادى المؤمنين تلطّفا بهم فقال : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما امراكم به من ولاية علىّ (ع) حتّى لا يبطل أعمالكم (وَلا تُبْطِلُوا) بترك طاعتهما (أَعْمالَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالولاية (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الّذى هو الولاية كرّره لكونه المقصود من السّورة المباركة (ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أبدا (فَلا تَهِنُوا) لا تضعفوا ايّها المؤمنون عن المجاهدة والقتال مع الكفّار ، أو عن المجاهدة والمحاجّة مع المنافقين المخاصمين لعلىّ (ع) (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) اى ولا تدعوا الى الصّلح لضعفكم عن مخاصمتهم ، أو لفظ الواو بمعنى مع وبعده

٨٨

ان مقدّره (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) يعنى لا تهنوا ولا تدعوا الى الصّلح في حال علوّكم عليهم أو ليس المقصود تقييد النّهى بحال العلوّ بل هو حال في معنى التّعليل لا التّقييد (وَاللهُ مَعَكُمْ) هذه الجملة يؤيّد المعنى الثّانى (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) لن يضرّوكم من أعمالكم يعنى لن يضيع أعمالكم (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) قد تكرّر في ما سلف بيان اللّعب واللهو فاذا كان الدّنيا لعب الأطفال فما لكم تتعلّقون بها وتضعفون لذلك عن مقاتلتهم أو محاجّتهم (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) بعلىّ (ع) (وَتَتَّقُوا) عن مخالفته (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) يعنى ان لم تؤمنوا بعلىّ (ع) ولم تتّقوا عن مخالفته يسألكم أموالكم اعتبارا لمفهوم المخالفة ، أو المعنى ان تؤمنوا يؤتكم اعواض أعمالكم ولا يسألكم جميع أموالكم حتّى تثقل عليكم الايمان به ، والضّمير في يؤتكم ويسئلكم لله أو لمحمّد (ص) أو لعلىّ (ع) (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ) اى يجهدكم بمسئلته (تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) اى يظهر احقادكم الّتى هي مكمونة في قلوبكم (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) قد مضى الكلمتان في سورة آل عمران مع بيان لهما (تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) لا ان تعطوا رسولنا ، وتدعون لتنفقوا شيئا يسيرا من أموالكم في سبيل الله لا ان تعطوا كثيرا من أموالكم (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) بالإنفاق بما فرض الله وبغيره (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) اى يبخل متجاوزا عن خير نفسه فانّ الإنفاق كما مضى في اوّل البقرة مورث لاخذ الأشرف والاولى وقد مضى هناك أيضا انّ الإنفاق اعمّ من إنفاق المال والقوى والجاه والقوّة والانانيّة (وَاللهُ الْغَنِيُ) فلا يأمركم بالإنفاق لحاجة له اليه (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) فيأمركم بالإنفاق لحاجتكم في استكمالكم الى الإنفاق (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) عن الايمان بعلىّ (ع) أو عن طاعة الرّسول (ص) فيما أمركم به من الإنفاق وغيره (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) القمّىّ قال : يدخلهم في هذا الأمر (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) في ان يقولوا بأفواههم ما ليس في قلوبهم وقد فسّر القوم الآخر بأبناء الموالي في عدّة اخبار ، وفي المجمع روى ابو هريرة انّ ناسا من أصحاب رسول الله (ص) قالوا : يا رسول الله (ص) من هؤلاء الّذين ذكر الله في كتابه؟ (وكان سلمان الى جنب رسول الله (ص)) فضرب يده على فخذ سلمان فقال : هذا وقومه ، والّذى نفسي بيده لو كان الايمان منوطا بالثّريّا تتناوله رجال من فارس ، وعن الصّادق (ع): من أراد ان يعرف حالنا وحال أعدائنا فليقرأ سورة محمّد (ص) فانّه يراها آية فينا وآية فيهم.

سورة الفتح

مدنيّة كلّها ، تسع وعشرون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) فتح كمنع ضدّ أغلق كفتّح من التّفعيل وافتح ، والفتح النّصر كالفتاحة بفتح الحاء ، ومنه الاستفتاح وافتتاح دار الحرب والحكم بين الخصمين كالفتاحة بالكسر والضّمّ وكالفتح بالضّمّتين ، ويستعمل في معنى العلم وفي انبساط القلب واتّصاله بعالم الملكوت ومشاهداته ، وفيما يصل الى الإنسان من جهة الباطن

٨٩

أو من جهة الظّاهر من أنواع فضل الله والكلّ مناسب هاهنا ، وقد قيل بكلّ منها ببعضها صريحا وببعضها تلويحا ، فقيل : معناه قضينا لك ، وقيل : يسّرنا لك ، وقيل : أعلمناك ، وقيل : أرشدناك ، وقيل : فتحنا البلاد لك ، وقيل : اظفرناك على الأعداء بالحجّة والمعجزة حتّى لم يبق معاند للإسلام ، وقيل : المراد به فتح مكّة له (ص) ، وقيل : المراد به صلح

شرح في صلح الحديبيّة

الحديبيّة ، وقيل : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبيّة ، وذلك انّ المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكّن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وقيل : بويع محمّد (ص) بالحديبيّة بيعة الرّضوان واطعم نخيل خيبر ، وظهرت الرّوم على فارس ، وفرح المسلمون بظهور أهل الكتاب وهم الرّوم على المجوس إذ صدق به قوله تعالى (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) ، وعن الصّادق (ع) قال : سبب نزول هذه السّورة وهذا الفتح العظيم انّ الله عزوجل امر رسوله في النّوم ان يدخل المسجد الحرام ويطوف ويحلّق مع المحلّقين فأخبر أصحابه وأمرهم بالخروج فخرجوا ، فلمّا نزل ذا الحليفة (١) أحرموا بالعمرة وساقوا البدن وساق رسول الله (ص) ستّة وستّين بدنة وأشعرها عند إحرامه وأحرموا من ذي الحليفة ملبّين بالعمرة وقد ساق من ساق منهم الهدى معرّات مجلّلات ، فلمّا بلغ قريشا ذلك بعثوا خالد بن الوليد في مأتى فارس كمينا ليستقبل رسول الله (ص) وكان يعارضه على الجبال فلمّا كان في بعض الطّريق حضرت صلوة الظّهر فأذنّ بلال فصلّى رسول الله (ص) بالنّاس فقال خالد بن الوليد : لو كنّا حملنا عليهم وهم في الصّلوة لأصبناهم فانّهم لا يقطعون صلوتهم ولكن تجيء الآن لهم صلوة اخرى احبّ إليهم من ضياء أبصارهم فاذا دخلوا في الصّلوة أغرنا إليهم ، فنزل جبرئيل على رسول الله (ص) بصلوة الخوف فلمّا كان في اليوم الثّانى نزل رسول الله (ص) الحديبيّة وهي على طرف الحرم وكان رسول الله (ص) يستنفر الاعراب في طريقه معه فلم يتّبعه أحد ويقولون : أيطمع محمّد (ص) وأصحابه ان يدخلوا الحرم وقد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوهم ، انّه لا يرجع محمّد (ص) وأصحابه الى المدينة أبدا ، فلمّا نزل رسول الله (ص) الحديبيّة خرجت قريش يحلفون باللّات والعزّى لا يدعون رسول الله (ص) يدخل مكّة وفيهم عين تطرف فبعث إليهم رسول الله (ص) انّى لم آت لحرب وانّما جئت لأقضي نسكي وانحر بدني وأخلّي بينكم وبين لحمانها ، فبعثوا عروة بن مسعود الثّقفىّ وكان عاقلا لبيبا وهو الّذى انزل الله فيه : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) فلمّا أقبل الى رسول الله (ص) عظّم ذلك وقال : يا محمّد (ص) تركت قومك وقد ضرب الابنية واخرجوا العوذ (٢) المطافيل (٣) يحلفون باللّات والعزّى لا يدعوك تدخل مكّة حرمهم وفيهم عين تطرف ، أفتريد ان تبير أهلك وقومك يا محمّد (ص)؟ ـ فقال رسول الله (ص) : ما جئت لحرب وانّما جئت لأقضي مناسكي وانحر بدني وأخلّي بينكم وبين لحمانها ، فقال عروة : والله ما رأيت كاليوم أحدا صدّ كما صددت ، فرجع الى قريش فأخبرهم ، فقالت قريش : والله لئن دخل محمّد (ص) مكّة وتسامعت به العرب لتذلّلنّ ولتجرئنّ علينا العرب فبعثوا حفص بن الأحنف وسهيل بن عمر وفلمّا نظر إليهما رسول الله (ص) قال : ويح قريش قد نهكتكم الحرب الّا خلّوا بيني وبين العرب فان أك صادقا فانّى اجّر الملك إليهم مع النّبوّة ، وان أك كاذبا كفتهم ذؤبان العرب لا يسألنّي اليوم امرء من قريش خطّة ليس لله فيها سخط الّا أجبتهم اليه فلمّا وافوا رسول الله (ص) ، قالوا يا محمّد (ص) الا ترجع عنّا عامك هذا الى ان ننظر الى ما يصير أمرك وامر العرب؟ ـ فانّ العرب قد تسامعت بمسيرك فاذا دخلت بلادنا وحرمنا استذلّتنا العرب واجترأت علينا ونخلّى لك البيت في العام القابل في هذا الشّهر ثلاثة ايّام حتّى تقضى نسكك وتنصرف عنّا ، فأجابهم رسول الله (ص) الى ذلك ، وقالوا له تردّ إلينا كلّ من جاءك من رجالنا ، ونردّ إليك كلّ من جاءنا من رجالك ، فقال رسول الله (ص) : من جاءكم من رجالنا فلا حاجة لنا فيه ولكن على انّ المسلمين بمكّة لا يؤذون في اظهارهم الإسلام

__________________

(١) ذو الحليفة هو بالتّصغير موضع على ستة أميال من المدينة وميقات المدينة.

(٢) العوذ جمع العائذه الحديثات النتاج من كلّ أنثى.

(٣) المطافل والمطافيل جمع المطفل ذات الطّفل من الانس والوحش.

٩٠

ولا يكرهون ولا ينكر عليهم شيء يفعلونه من شرائع الإسلام ، فقبلوا ذلك ، فلمّا أجابهم رسول الله (ص) الى الصّلح أنكر عامّة أصحابه واشدّ ما كان إنكارا عمر ، فقال : يا رسول الله (ص) السنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ ـ فقال : نعم ، فقال : فنعطى الذّلّة في ديننا ، فقال : انّ الله عزوجل قد وعدني ولن يخلفني ، قال : ولو انّ معى أربعين رجلا لخالفته ، ورجع سهيل بن عمرو وحفص بن الأحنف الى قريش فأخبراهم بالصّلح ، فقال عمر : يا رسول الله (ص) ، الم تقل لنا ان ندخل المسجد الحرام ونحلّق مع المحلّقين؟! فقال : أمن عامنا هذا وعدتك؟! قلت لك : انّ الله عزوجل قد وعدني ان افتح مكّة وأطوف وأسعى واحلّق مع المحلّقين ، فلمّا أكثروا عليه قال لهم : ان لم تقبلوا الصّلح فحاربوهم ، فمرّوا نحو قريش وهم مستعدّون للحرب وحملوا عليهم فانهزم أصحاب رسول الله (ص) هزيمة قبيحة ومرّوا برسول الله (ص) ، فتبسّم رسول الله (ص) ثمّ قال : يا علىّ (ع) ، خذ السّيف واستقبل قريشا فأخذ أمير المؤمنين (ع) سيفه وحمل على قريش فلمّا نظروا الى أمير المؤمنين (ع) تراجعوا ثمّ قالوا : يا علىّ (ع) بدا لمحمّد (ص) فيما أعطانا؟ ـ فقال : لا ، وتراجع أصحاب رسول الله (ص) مستحيين وأقبلوا يعتذرون الى رسول الله (ص) ، فقال لهم رسول الله (ص) : ألستم أصحابي يوم بدر إذ انزل الله عزوجل فيكم ، (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ)؟ ـ ألستم أصحابي يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون عنى أحد والرّسول يدعوكم في أخريكم ، ألستم أصحابي يوم كذا؟ ـ ألستم أصحابي يوم كذا؟ ـ فاعتذروا الى رسول الله (ص) وندموا على ما كان منهم وقالوا : الله اعلم ورسوله ، فاصنع ما بدا لك ورجع حفص بن الأحنف وسهيل بن عمرو الى رسول الله (ص) ، فقالا : يا محمّد (ص) قد أجابت قريش الى ما اشترطت من إظهار الإسلام وان لا يكره أحد على دينه ، فدعا رسول الله (ص) بالمكتب ودعا أمير المؤمنين (ع) وقال له : اكتب ، فكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم ، فقال : سهيل بن عمرو : لا نعرف الرّحمن ، اكتب كما كان يكتب آباؤك باسمك اللهمّ ، فقال رسول الله (ص) : اكتب باسمك اللهمّ فانّه اسم من أسماء الله ، ثمّ كتب : هذا ما تقاضى عليه محمّد رسول الله (ص) والملأ من قريش ، فقال سهيل بن عمرو : لو علمنا انّك رسول الله (ص) ما حار بناك ، اكتب هذا ما تقاضى عليه محمّد بن عبد الله ، أتأنف من نسبك يا محمّد (ص)؟ ـ فقال رسول الله (ص) : انا رسول الله (ص) وان لم تقرّوا ، ثمّ قال : امح يا علىّ (ع) واكتب محمّد بن عبد الله ، فقال أمير المؤمنين (ع) : ما أمحو اسمك من النّبوّة أبدا ، فمحاه رسول الله (ص) بيده ، ثمّ كتب : هذا ما اصطلح محمّد بن عبد الله والملأ من قريش وسهيل اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين على ان يكفّ بعضنا عن بعض ، وعلى انّه لا اسلال ولا أغلال وانّ بيننا وبينهم غيبة مكفوفة ، وانّ من احبّ ان يدخل في عهد محمّد (ص) وعقده فعل ، ومن احبّ ان يدخل في عهد قريش وعقدها فعل ، وانّه من أتى محمّدا (ص) بغير اذن وليّه ردّه اليه ، وانّه من أتى قريشا من أصحاب محمّد (ص) لم تردّه اليه ، وان يكون الإسلام ظاهرا بمكّة ولا يكره أحد على دينه ولا يؤذى ولا يعيّر ، وانّ محمّدا (ص) يرجع منهم عامه هذا وأصحابه ثمّ يدخل علينا في العام المقبل مكّة فيقيم فيها ثلاثة ايّام ولا يدخل عليها بسلاح الّا سلاح المسافر ، السّيوف في القراب ، وكتب علىّ بن ابى طالب (ع) وشهد الكتاب المهاجرون والأنصار ، ثمّ قال رسول الله (ص) : يا علىّ (ع) انّك أبيت ان تمحو اسمى من النّبوّة فو الّذى بعثني بالحقّ نبيّا لتجيبنّ أبناءهم الى مثلها وأنت مضيض (١) مضطهد (٢) ؛ فلمّا كان يوم صفّين ورضوا بالحكمين كتب : هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين علىّ بن ابى طالب (ع) ومعاوية بن ابى سفيان ، فقال عمرو بن العاص : لو علمنا انّك أمير المؤمنين (ع) ما حاربناك ولكن اكتب هذا ما اصطلح عليه علىّ بن ابى طالب (ع) معاوية بن ابى سفيان ، فقال أمير المؤمنين (ع) : صدق الله وصدق رسوله أخبرني رسول الله (ص) بذلك ، فلمّا كتبوا الكتاب قامت خزاعة

__________________

(١) مض مضيضا آلمه وأوجعه ـ أحرقه وشقّ عليه.

(٢) اضطهده قهره ، أذاه بسبب المذهب.

٩١

فقالت : نحن في عهد محمّد (ص) وعقده ، وقامت بنو بكر فقالت : نحن في عهد قريش وعقدها ، وكتبوا نسختين نسخة عند رسول الله (ص) ونسخة عند سهيل بن عمرو ، ورجع سهيل بن عمرو وحفص بن الأحنف الى قريش فأخبراهم وقال رسول الله (ص) لأصحابه : انحروا بدنكم واحلقوا رؤسكم فامتنعوا وقالوا : كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت؟ ـ ولم نسع بين الصّفا والمروة؟! فاغتمّ لذلك رسول الله (ص) وشكا ذلك الى امّ سلمة ، فقالت : يا رسول الله (ص) انحر أنت واحلق فنحر رسول الله (ص) وحلق فنحر القوم على حيث يقين وشكّ وارتياب ، فقال رسول الله (ص) تعظيما للبدن : رحم الله المحلّقين ، وقال قوم لم يسوقوا البدن : يا رسول الله والمقصّرين لانّ من لم يسق هديا لم يجب عليه الحلق ، فقال رسول الله (ص) ثانيا : رحم الله المحلّقين الّذين لم يسوقوا الهدى ، فقالوا : يا رسول الله (ص) والمقصّرين ، فقال : رحم الله المقصّرين ، ثمّ رحل رسول الله (ص) نحو المدينة فرجع الى التّنعيم ونزل تحت الشّجرة فجاء أصحابه الّذين أنكروا عليه الصّلح واعتذروا وأظهروا النّدامة على ما كان منهم وسألوا رسول الله (ص) ان يستغفر لهم ، فنزلت آية الرّضوان.

اعلم ، انّ اختلاف الأقوال والاخبار في بيان هذا الفتح وتعليله بمغفرة الله ذنوبه المتقدّمة وذنوبه المتأخّرة وقول النّبىّ (ص) بعد نزول هذه الآية وهذه السّورة : لقد نزلت علىّ آية هي احبّ الىّ من الدّنيا وما فيها ، وتعقيب غفرانه بإتمام النّعمة والهداية والنّصر وإنزال السّكينة كلّها يدلّ على انّ المراد بهذا الفتح ليس فتح مكّة ولا فتح خيبر ولا فتح سائر البلاد فقط بل المراد فتح هو أصل سائر الفتوح وهو فتح باب الأرواح الى الجبروت بل الى اللّاهوت ، وفي هذا الفتح يكون جميع الفتوحات من فتح البلاد ومن إيصال النّعم الصّوريّة والمعنويّة والنّصر على الأعداء والحكم بينه وبين أعداءه وكيفيّة الحكومة بين الخلق والعلم بالأشياء ، وبالجملة هذا الفتح هو الّذى يصير سببا لغفران ذنوب من اتّصل به ودخل تحت لوائه كائنا من كان وان كان ذنوبه بعدد قطرات البحار وأجزاء الرّمال ولذلك قال علىّ (ع): دينكم دينكم فانّ السّيّئة فيه مغفورة والحسنة في غيره غير مقبولة ، وهذا الفتح هو الّذى لا يبقى معه نقص وقصور لصاحبه ، وبهذا الفتح يصير صاحبه خاتما للكلّ في الكلّ ، وهذا الفتح هو الّذى يكون احبّ الأشياء الى صاحبه (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ).

اعلم ، انّ ذنب كلّ إنسان بحسب مقامه ومنزلته ، فانّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين وتوبة الأنبياء من الالتفات الى غير الله كما انّ توبة الأولياء من خطرات القلوب وقد قال فيما نسب اليه : انّه ليران على قلبي وانّى لاستغفر الله كلّ يوم سبعين مرّة ، وانّ الرّسول لمّا كان أبا لجميع أمّته والابوّة الرّوحانيّة كما مرّ في سورة البقرة عبارة عن تنزّل الأب الى مقام الابن والبنت وصيرورته فعليّة اخيرة لهما من غير تجاف عن مقامه العالي وكان شيئيّة الشّيء بفعليّته الاخيرة كان الرّسول شيئيّة كلّ أمّته وفعليّتهم الاخيرة ، فما ينسب الى أمّته من الذّنوب صحّ ان ينسب اليه بوجه ، وما غفر الله لامّته من ذنوبهم صحّ ان يقال : غفر الله تعالى له ذنوبه بمغفرة ذنوب أمّته ، ولمّا كان رسالته خاتم الرّسالات وكلّ الأنبياء كانوا تحت لوائه وتحت رسالته وكلّ الشّرائع تحت شريعته صحّ ان يقال : انّ من كان على دين من آدم (ع) وأمّته الى انقراض العالم كلّهم كانوا أمّته فصحّ ان يقول الله تعالى : انّا فتحنا لك هذا الفتح العظيم ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنوبك اللّائق بشأنك على هذا الفتح وما تأخّر وصحّ ان يقول : ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنوب أمّتك المتقدّمين من لدن آدم (ع) وما تأخّر من ذنوب أمّتك المتأخّرين الى انقراض العالم ، وصحّ ان يقول : انّا فتحنا لك مكّة ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك بزعم مشركي مكّة على زمان الفتح وما تأخّر فانّه كان أعظم ذنبا عندهم من كلّ مذنب أو ما تقدّم على الهجرة وما تأخّر عنها كما ورد عن الرّضا (ع) ، وصحّ ان يقال المعنى : انّا اظفرناك على

٩٢

الأمم أو أعلمناك أو تفضّلنا عليك بالنّعم الصّوريّة والمعنويّة ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ، ومن هاهنا يظهر وجه الالتفات من التّكلّم الى الغيبة فانّ ذنوب الامّة ليست الّا في غيبته تعالى وكذلك مغفرتهم وذنبه الّذى هو الالتفات الى غير الله ليس الّا بالغفلة من الله غفلة لائقة بشأنه وفي غيبته ، ومغفرته الّتى لا تكون الّا للمذنب في اىّ حال كان كانت في غيبته فان اللّطيفة الحاضرة عند الله ليس لها ذنب ، واللّطيفة المذنبة لا تصير حاضرة عند الله ، وأيضا غفران الذّنوب وإتمام النّعم وسائر ما ذكر في الآية ليست الّا باسمه الجامع الّذى يعبّر عنه بالله (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) إتمام النّعمة ليس الّا لمن فتح له باب اللّاهوت وعرج عن الملكوت والجبروت اللّتين هما من عالم الإمكان الى اللّاهوت الّتى هي فوق الإمكان ، ولا يمكن ذلك الّا بهذا الفتح المذكور (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) وهو الخروج من الإفراط والتّفريط الّذى هو احدّ من السّيف وادقّ من الشّعر ، وتنكير الصّراط للتّفخيم (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) لا يوجد مثله ، أو نصرا يصير سببا للغلبة والمناعة (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) قد مضى بيان السّكينة في أواخر سورة البقرة عند قوله تعالى : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) (الآية) وفي سورة التّوبة وسورة يوسف (ع) ، وانّ المراد بالسّكينة ظهور ملكوت ولىّ الأمر على صدر المؤمن وبهذا الظّهور يحصل له جميع ما ورد في الاخبار من معاني السّكينة ، وهذا هو الّذى ينبغي ان يظهره الله في مقام الامتنان (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً) شهوديّا (مَعَ إِيمانِهِمْ) العلمىّ والحالىّ فانّه إذا ظهر ملكوت ولىّ الأمر على المؤمن يصير ايمانه العلمىّ قرينا لإيمانه الشّهودىّ (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كأنّه بعد ما سبق في سورة التّوبة من قوله تعالى بعد ذكر إنزال السّكينة وانزل جنودا لم تروها وايّده بجنود لم تروها كان التّأييد بالجنود الغيبيّة مسلّما بعد إنزال السّكينة فقال : وانّ الجنود الغيبيّة الّتى لا تنفكّ عن تلك السّكينة لله فهو الّذى انزل الجنود الغيبيّة للمؤمنين كما انزل السّكينة عليهم فقوله : ولله جنود السّموات مفيد معنى ايّدهم بجنود لم تروها مع شيء زائد ، أو المقصود من قوله ولله جنود السّموات والأرض تعميم الامتنان بسائر القوى والمدارك بعد الامتنان بانزال السّكينة عليهم كأنّه قال : لا اختصاص لامتناننا على المؤمنين بانزال السّكينة بل جميع المدارك والقوى الّتى هي من جنود السّماوات وجميع الأعضاء الآليّة والاعصاب والأوتار المحرّكة الّتى هي من جملة جنود الأرض من عطيّته ، أو المقصود ترغيب المؤمنين وتطميعهم بعد ذكر الامتنان بانزال السّكينة في إنزال الجنود الّتى لم يروها كأنّه قال : فاطلبوا جنود السّماوات والأرض منه (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بمصالحكم فيعلم وقت استعدادكم لانزال السّكينة ووقت إصلاحكم بها وافسادكم بها ، ويعلم وقت صلاحكم بتأييدكم بالجنود وعدم تأييدكم (حَكِيماً) لا يفعل ما يفعل الّا بعد المراقبة لجميع دقائق أحوالكم واستحقاقكم ولا يفعل ما يفعل الّا بالإتقان في فعله بحيث لا يتطرّق الخلل فيه (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) تعليل لقوله تعالى ليغفر لك الله وهذا هو المناسب لتفسير المغفرة بمغفرة ذنوب أمّته ، أو لقوله يتمّ نعمته ، أو ليهديك ، أو لينصرك الله ، أو لأنزل السّكينة ، أو ليزدادوا ايمانا ، أو لمفهوم قوله لله جنود السّماوات والأرض ، أو للجميع على سبيل التّنازع ، أو تعليل لمحذوف ، أو فعل ما فعل ليدخل المؤمنين والمؤمنات (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قد مضى في آخر سورة آل عمران بيان لكيفيّة جريان الأنهار من تحت الجنّات عند قوله فالّذين هاجروا واخرجوا من ديارهم (خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) يزيلها

٩٣

عنهم (وَكانَ ذلِكَ) الإدخال والتّكفير (عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) الّذين نافقوا مع محمّد (ص) أو في حقّ علىّ (ع) (وَالْمُشْرِكِينَ) بالله أو بالرّسول أو بالولاية وهو المنظور اليه (وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) وهو ظنّ انّه لا ينصر رسوله في سفره الى مكّة (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) الّتى تظنّونها للمؤمنين من هلاكهم بأيدى قريش ، قال القمّىّ : وهم الّذين أنكروا الصّلح واتّهموا رسول الله (ص) (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كرّره تقوية لقلوب المؤمنين وتخييبا لظنّ المنافقين (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) لا يغلب على ما يريد (حَكِيماً) لا يفعل الّا ما فيه صلاح المؤمنين ولا ينظر الى اهوية المؤمنين أو المنافقين (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) جواب سؤال عن علّة إدخال المؤمنين الجنّات ، وتعذيب المنافقين غاية لمغفرة ذنوب المؤمنين الّتى هي غاية للفتح المبين كانّه قيل : لم يدخل الله المؤمنين الجنّات ويعذّب المنافقين بسبب الفتح المبين للنّبىّ (ص)؟ ـ فقال : لانّا أرسلناك ايّها النّبىّ (ص) (شاهِداً) عليهم بحالك وقالك ، فمن اتّصل بك تشهد له فيدخل الجنّة ، ومن لم يتّصل بك تشهد عليه فيعذّب (وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) للمؤمنين والكافرين (لِتُؤْمِنُوا) صرف الخطاب عنه (ع) الى أمّته للاشارة الى انّ غاية الإرسال ايمان المؤمنين (بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ) قرئ من باب الأفعال والتّفعيل والثّلاثىّ المجرّد من باب ضرب ونصر ، وقرئ تعزّزوه بالزّائين المعجمتين (وَتُوَقِّرُوهُ) قرئ من باب التّفعيل والأفعال (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) جواب سؤال مقدّر في مقام التّعليل ، أو في مقام بيان الحال ، كأنّه قيل : ما حال البائعين مع الرّسول (ص)؟ ـ فقال تعالى : انّ الّذين يبايعونك (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) لانّك مظهر لله ولا حكم للمظهر حين ظهور الظّاهر فيه وانّما الحكم للظّاهر فقط (يَدُ اللهِ) لا يدك (فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وقد مضى تفصيل لاخذ البيعة عند قوله الم يعلموا انّ الله هو يقبل التّوبة عن عباده ، وعند قوله انّ الله اشترى من المؤمنين (الآية) من سورة التّوبة وقد ذكر بيان للبيعة في غير هذه السّورة أيضا (فَمَنْ نَكَثَ) نقض البيعة بنقض شروطها وعدم الإتيان بها ، أو بالاعراض عنها وفسخها (فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) لانّ ضرره عائد إليها (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) قرئ بضمّ الهاء في عليه حفظا لتفخيم لفظ الله (فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) لا يمكن ان يوصف ، قال القمّىّ : نزلت الآية في بيعة الرّضوان لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشّجرة واشترط عليهم ان لا ينكروا بعد ذلك على رسول الله (ص) شيئا يفعله ولا يخالفوه في شيء يأمرهم به فقال عزوجل بعد نزول آية الرّضوان : انّ الّذين يبايعونك انّما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم (الآية) وانّما رضى الله عنهم بهذا الشّرط ان يفوا بعد ذلك بعهد الله وميثاقه ولا ينقضوا عهده وعقده فبهذا العقد رضى الله عنهم فقدّموا في التّأليف آية الشّرط على آية الرّضوان : وانّما نزلت اوّلا بيعة الرّضوان ثمّ آية الشّرط فيها (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) الّذين استنفرهم رسول الله (ص) عام الحديبيّة فاعتلّوا واعتذروا بالشّغل بأموالهم وأهاليهم وانّما خلّفهم خوفهم من قريش فانّهم قالوا انّ قريشا غزت محمّدا (ص) في عقر داره وهو يريد ان يدخل عليهم ديارهم لا يفلت منهم أحد أبدا (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا) لتخلّفنا وهذا من الاخبار بالمغيبات (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ

٩٤

قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) على التّخلّف أو مطلقا (أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فاحذروا ممّا تعملون (بَلْ ظَنَنْتُمْ) يعنى ليس شغلتكم أموالكم واهلوكم بل خفتم عن قريش لانّكم ظننتم انّهم يغلبون ويقتلون محمّدا (ص) وأصحابه و (أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ) اى استحكم ذلك (فِي قُلُوبِكُمْ) بحيث لا تحتملون غيره (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) بالله ورسوله (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) هالكين عن الحيوة الانسانيّة (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) وظنّ لهما ظنّ السّوء (فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر لذمّ آخر لهم وللاشعار بعلّة الحكم (سَعِيراً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) بحسب استعداد كلّ فانّ مشيّته ليست جزافيّة (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ترجيح لجانب الرّجاء واشعار بانّ المغفرة والرّحمة ذاتيّة له ، والتّعذيب داخل في قضائه بالقصد الثّانى (سَيَقُولُ) لكم (الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ) كمغانم خيبر (لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) يعنى قوله انّ الخارجين الى مكّة المصدودين عن طواف البيت مخصوصون بمغانم خيبر بدلا من دخول مكّة أو قوله انّ المتخلّفين لا يتّبعوكم في مغانم خيبر (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) أتى بنفي التّأبيد مكان النّهى اشارة الى تحقّقه وتأكيدا له (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) انّكم لا تكونون معنا في مغانم خيبر (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) يعنى لا يدركون من امر الآخرة في المخاطبات الّا قليلا فلذلك يحملون قولكم ومنعكم على الحسد الّذى هي من أوصاف الدّنيا (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر تصريحا بذمّهم (مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قيل : هم هوازن وثقيف (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) الغنيمة والجنّة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) يعنى عن الحديبيّة (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) لمّا أوعد المتخلّفين وذمّهم استثنى منهم في الذّمّ والإيعاد هؤلاء لئلّا يتوهّم انّهم موعدون (وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) من غير المعذّرين أو من مطلق المسلمين (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قد مضى بيان جريان الأنهار من تحت الجنّات في آخر سورة النّساء (وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) تأكيد لمفهوم قوله (إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) وتعليل له (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ).

اعلم ، انّ رضا الله عن العبد ليس الّا حين رضا العبد عن الله ، وهل رضا العبد مقدّم أو رضا الله؟ ـ الاخبار وكلمات الأبرار في ذلك مختلفة ، ولعلّ أهل الشّهود منهم ما حقّقوا ذلك ولذلك أظهر بعضهم التّحيّر فيه وفي أمثاله. والتّحقيق انّ هذه المسألة دوريّة بمعنى انّ ذكر الله أو توبته أو رضاه مقدّم بحسب مرتبة منه على ما للعبد بحسب مرتبة منه وما للعبد مقدّم على ما لله بحسب مرتبة اخرى بل التّحقيق انّ ما للعبد عين ما لله لكن نسبته الى الله مقدّمة في نفس الأمر على نسبته الى العبد لكن اعتبار تلك النّسبة يختلف بحسب حال النّاظر ، فمن كان نظره الى الله مقدّما على نظره الى نفسه

٩٥

كما ورد عن علىّ (ع): ما رأيت شيئا الّا ورأيت الله قبله ، كان نسبته الى الله مقدّمة على نسبته الى العبد ، ومن كان نظره الى نفسه مقدّما على نظره الى الله كان نسبته الى العبد مقدّمة ، ومن كان نظره إليهما على السّواء كان متحيّرا في التّقديم والتّأخير والى هذين النّظرين أشير في الخبر بقوله (ص): ما رأيت شيئا الّا ورأيت الله بعده وبقوله (ص): ما رأيت شيئا الّا ورأيت الله فيه ، وامّا من لم ير مثل المعتزلىّ الّا نسبة الأفعال والصّفات الى العباد فليس الكلام معه ولعلّ قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) خطاب مع هؤلاء وهم أغلب العباد ، وقوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) خطاب مع الفرقة الاولى أو تنبيه للكلّ على انّ نسبة الأوصاف الى الله مقدّمة على نسبتها الى العباد (إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) أتى بإذ الّتى هي للماضي لانّ نزول الآية كان بعد وقوع الواقعة ، وأتى بالمضارع بعدها للاشارة الى تكرّر الفعل فانّ البائعين في ذلك اليوم كانوا كثيرين ، وسبب رضا الله تعالى عنهم في تلك البيعة انّهم لمّا خالفوا رسول الله (ص) وقاتلوا مع قريش وانهزموا هزيمة منكرة ندموا على مخالفتهم لرسول الله (ص) وتابوا الى الله واستغفروا رسوله وبايعوا معه عن صميم القلب ولم يكن لهم حين تلك البيعة انانيّة أصلا ولذلك صاروا مستحقّين لنزول السّكينة ، وشرط عليهم الرّسول في تلك البيعة ان لا يخالفوه ولا يخالفوا قوله وأمره ، ولا ينكروا بعد ذلك عليه شيئا فعله فانّهم بعد ما انهزموا ورحل رسول الله (ص) نحو المدينة ورجع الى التّنعيم فنزل تحت الشّجرة جاؤا اليه وأظهروا النّدامة فأخذ منهم العهد والميثاق بذلك وكان اوّل من بايع رسول الله (ص) حينئذ عليّا (ع) ولقد آخى رسول الله (ص) بين كلّ اثنين اثنين منهم وآخى بين نفسه وبين علىّ (ع) (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الصّدق والتّوبة والانابة فرضي بذلك عنهم (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) لانّهم خرجوا من انانيّاتهم والسّكينة الّتى هي صورة ملكوتيّة تدخل بيت قلب العبد إذا خرج من انانيّته كما قيل : «چو تو بيرون شوى أو اندر آيد» وقد مضى في آخر سورة البقرة وفي التّوبة بيان للسّكينة (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) هو فتح خيبر (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) هي مغانم خيبر (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) لا يغلب على مراده (حَكِيماً) لا يفعل ما يفعل ولا يعد ما يعد الّا لحكمة وغاية متقنة (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) هي ما يفيء الله على المؤمنين (ع) الى يوم القيامة أو هي مغانم مكّة وهوازن (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ) اى أيدي قريش أو أيدي الاعراب وغيرهم بقوّة الإسلام ، أو أيدي أهل خيبر وحلفائهم (عَنْكُمْ) ذكر في المجمع عن العامّة انّه لمّا قدم رسول الله (ص) المدينة من الحديبيّة مكث بها عشرين ليلة ثمّ خرج منها غازيا الى خيبر فحاصرهم حتّى أصابتهم مخمصة شديدة ثمّ انّ الله فتحها ؛ وذلك انّ النّبىّ (ص) اعطى اللّواء عمر بن الخطّاب ونهض من نهض معه من النّاس فلقوا أهل خيبر فانكشف عمر وأصحابه فرجعوا الى رسول الله (ص) يجبّنّه أصحابه ويجبّنّهم ، فقال رسول الله (ص) بعد ما اخبروه بما فعل عمر وأصحابه ، لاعطينّ الرّاية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، كرّارا غير فرّار لا يرجع حتّى يفتح الله على يديه ، فلمّا أصبح النّاس غدوا على رسول الله (ص) كلّهم يرجون ان يعطيها ، فقال (ص) : اين علىّ بن ابى طالب (ع)؟ ـ فقالوا : هو تشتكي عينه ، فأرسل اليه فأتى به فبصق في عينيه ودعا له فبرئ كأن لم يكن به وجع فأعطاه الرّاية ، فقال (ص) : أنفذ على رسلك (١) حتّى تنزل بساحتهم ثمّ أدعهم الى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله فو الله لان يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من ان يكون لك حمر النّعم ، فذهب الى خيبر فبرز اليه مرحب فضربه ففلق رأسه فقتله وكان الفتح على يده ، هكذا أورده مسلم في الصّحيح ، ونقل عن العامّة : انّ عليّا (ع) لمّا دنا من الحصن خرج اليه اهله فقاتلهم فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده فتناول علىّ (ع) باب الحصن فتترّس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتّى فتح الله عليه ثمّ ألقاه من يده ، فلقد رأيتنى في نفر معى

__________________

(١) اى ، امش مستقيما ولا تتوقّف في مكان ولا ترجع وراك.

٩٦

سبعة نجهد على ان نقلب ذلك الباب فما استطعنا ، ونقل عنهم انّ عليّا (ع) حمل الباب يوم خيبر حتّى صعد المسلمون عليه فافتتحوها وانّه حرّك بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا ، وروى من وجه آخر انّه اجتمع عليه سبعون رجلا فكان جهدهم ان أعادوا الباب ، ورووا عن ابى ليلى قال : كان علىّ (ع) يلبس في الحرّ والشّتاء القباء المحشوّ (١) الثّخين وما يبالي الحرّ فأتاني أصحابي فحكوا ذلك لي فقالوا : هل سمعت في ذلك شيئا؟ ـ فقلت : لا ، فقالوا : فسل لنا أباك عن ذلك ، فانّه يسمر معه فسألته فقال : ما سمعت في ذلك شيئا فدخل على علىّ (ع) فسمر معه ، ثمّ سأله عن ذلك ، فقال : أو ما ـ شهدت خيبر؟ ـ قلت : بلى ، قال: فما رأيت رسول الله (ص) حين دعا أبا بكر فعقد له ثمّ بعثه الى القوم فانطلق فلقي القوم ثمّ جاء بالنّاس وقد هزم؟ ـ فقال : بلى ، قال : ثمّ بعث الى عمر فعقد له ثمّ بعثه الى القوم فانطلق فلقي القوم فقاتلهم ثمّ رجع وقد هزم ، فقال رسول الله (ص) : لاعطينّ الرّاية اليوم رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله يفتح الله على يده كرّارا غير فرّار ، فدعاني فأعطانى الرّاية ثمّ قال : اللهمّ اكفه الحرّ والبرد ، فما وجدت بعد ذلك حرّا ولا بردا ، وقال صاحب المجمع : هذا كلّه من كتاب دلائل النّبوّة للإمام ابى بكر البيهقىّ ، ثمّ لم يزل رسول الله (ص) يفتح الحصون حصنا حصنا حتّى انتهوا الى حصن الوطيخ والسّلالم وكان آخر حصون خيبر وحاصرهم رسول الله (ص) بضع عشرة ليلة ، قال ابن إسحاق : ولمّا افتتح القموص حصن ابن ابى الحقيق أتى رسول الله (ص) بصفيّة بنت حىّ بن اخطب وبأخرى معها فمرّ بهما بلال وهو الّذى جاء بهما على قتلى من قتلى يهود ، فلمّا رأتهم الّتى معها صفيّة صاحت وصكّت وجهها وحثت التّراب على رأسها فلمّا رآها رسول الله (ص) قال اعزبوا عنّى هذه الشّيطانة وامر بصفيّة فحيّزت (٢) خلفه وألقى عليها رداءه فعرف المسلمون انّه قد اصطفاها لنفسه ، وقال لبلال : لمّا رأى من تلك اليهوديّة ما رأى انزعت منك الرّحمة يا بلال؟ ـ حيث تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما؟ ـ وكانت صفيّة قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الرّبيع بن ابى الحقيق انّ قمرا وقع في حجرها فعرضت رؤياها على زوجها ، فقال : ما هذا الّا انّك تتمنّين ملك الحجاز محمّدا (ص) ولطم وجهها لطمة اخضرّت عينها منها ، فأتى بها رسول الله (ص) وبها اثر منها فسألها رسول الله (ص) منها فأخبرته وأرسل ابن ابى الحقيق الى رسول الله (ص) انزل فاكلّمك قال : نعم ، وصالح رسول الله (ص) على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة وترك الذّريّة لهم ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم ويخلّون بين رسول الله (ص) وبين ما كان لهم من مال وارض على الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة وعلى البزّ (٣) الّا ثوب على ظهر إنسان ، وقال رسول الله (ص) تبرّأت منكم ذمّة الله وذمّة رسوله ان كتمتموني شيئا فصالحوه على ذلك ، فلمّا سمع أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا الى رسول الله (ص) ان يسيرهم ويحقن دماؤهم ويخلّون بينه وبين الأموال ، ففعل وكان ممّن مشى بين رسول الله (ص) وبينهم في ذلك محيصة بن مسعود فلمّا نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله (ص) ان يعاملهم الأموال على النّصف وقالوا : نحن اعلم بها منكم وأعمر لها ، فصالحهم رسول الله (ص) على النّصف على انّا إذا شئنا ان نخرجكم أخرجناكم ، وصالحه أهل فدك على مثل ذلك فكان اموال خيبر فيئا بين المسلمين وكانت فدك خالصة لرسول الله (ص) لانّهم لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب ، ولمّا اطمأنّ رسول الله (ص) أهدت له زينب بنت الحارث بن سلام وهي ابنة أخي مرحب شاة مصليّة (٤) وقد سألت اىّ عضو من الشّاة احبّ الى رسول الله (ص) فقيل لها : الذّراع فأكثرت فيها السّمّ وسمّت سائر الشّاة ثمّ جاءت بها ، فلمّا وضعتها بين يديه تناول الذّراع فأخذها فلاك منها مضغة وانتهش (٥) منها ومعها بشر بن البراء بن معرور فتناول عظما فانتهش منه ، فقال رسول الله (ص) : ارفعوا أيديكم فانّ كتف هذه الشّاة تخبرني انّها مسمومة ثمّ دعاها فاعترفت ، فقال : ما حملك على ذلك؟ ـ فقالت : بلغت من

__________________

(١) ممتلئ بالقطن.

(٢) تحيّز انحصر في مكان.

(٣) البزّ ثياب الكتان أو القطن.

(٤) اللّحم المشوىّ.

(٥) اى ، صار مسموعا ، من نهشه الحيّة.

٩٧

قومي ما لم يخف عليك فقلت : ان كان نبيّا فسيخبر وان كان ملكا استرحت منه ، فتجاوز عنها رسول الله (ص) ومات بشر بن البراء من أكلته الّتى أكل ، ودخل امّ بشر على رسول الله (ص) تعوده في مرضه الّذى توفّى فيه ، فقال : يا امّ بشر ما زالت اكلة خيبر الّتى أكلت بخيبر مع ابنك تعازّنى (١) فهذا أو ان قطعت (٢) أبهري وكان المسلمون يرون انّ رسول الله (ص) مات شهيدا مع ما أكرمه الله به من النّبوّة (وَلِتَكُونَ) يا محمّد (ص) أو لتكون الغنيمة الّتى عجّلها لكم وهو عطف على محذوف اى لتقوّى وترفع ولتكون أو متعلّق بمحذوف معطوف على عجّل اى فعل ذلك لتكون (آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) يعنى الولاية أو صراطا مستقيما واقعا بين الإفراط والتّفريط في كلّ امر (وَأُخْرى) اى ووعدكم مغانم اخرى أو قرى اخرى ، أو اخرى مفعول فعل محذوف معطوف على عجّل اى واعدّ الله لكم قرى اخرى (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) وقيل : هي المغانم الّتى يزيدها الله للمسلمين الى يوم القيامة ، أو القرى الّتى يفتحها الله للمسلمين الى يوم القيامة ، وقيل : هي غنائم مكّة وهوازن ، أو قرية مكّة ، وقيل : المراد غنائم فارس والرّوم أو ملكهما (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) فلا يخرج من يده حتّى يكون مستعجلا مثلكم فكأنّه قال حفظها عليكم ومنعها من غيركم حتّى تفتحوها (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) لا اختصاص لقدرته بفيء الغنائم وفتح البلاد ونصرة الأنبياء وخذلان الكفّار (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يوم الحديبيّة (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) يعنى سنّ الله نصرة الأنبياء وهزيمة الكفّار لو قاتلوا الأنبياء من قبل هذا الزّمان (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) بالرّعب في قلوبهم والنّهى لكم عن مقاتلتهم والأمر بالصّلح (بِبَطْنِ مَكَّةَ) يعنى الحديبيّة (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) اى من بعد ان جعلكم مشرفين على الظّفر عليهم أو من بعد ان أظفركم عليهم ببدر ويوم الخندق وفي أحد (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) جواب سؤال في مقام التّعليل (وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً) محبوسا (أَنْ يَبْلُغَ) من ان يبلغ (مَحِلَّهُ) وهو محلّ النّحر يعنى مكّة فانّها محلّ نحر هدى العمرة (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) بيان لعلّة منعهم عن دخول مكّة (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ) بدل من رجال أو من مفعول لم تعلموهم أو بتقدير في ظرف لتعلموهم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) عيب يعيبكم به المشركون بان يقولوا : قتلوا أهل دينهم ، أو اثم وجناية أو دية وكفّارة (بِغَيْرِ عِلْمٍ) وجواب لو لا محذوف اى لاغريناكم بهم اولا دخلناكم مكّة (لِيُدْخِلَ اللهُ) متعلّق بمحذوف اى فمنعناكم عن الدّخول ليدخل الله (فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) من المؤمنين بسلامته من القتل والأذى ولحوق الكفّارة والدّية ومن الكافرين بدخوله في الإسلام (لَوْ تَزَيَّلُوا) اى لو تميّز المؤمنون والكافرون (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) من أهل مكّة (عَذاباً أَلِيماً) فلحرمة اختلاط المؤمنين بالكافرين ، ولحفظ نفوس المؤمنين الّذين كانوا بمكّة عن القتل والأذى ، ولحفظ نفوس الّذين كانوا مع محمّد (ص) عن لحوق المعرّة ، ولحفظ نفوس المؤمنين الّذين كانوا في أصلاب الكافرين لم يعذّبهم الله ، وقيل : انّ صلح الحديبيّة كان أعظم فتح للإسلام حيث اختلط المؤمنون بالكافرين وأظهروا دينهم من غير خوف وتقيّة فرغب في دينهم كثير من الكافرين

__________________

(١) اى غلبني.

(٢) الأبهر عرق إذا انقطع مات صاحبه.

٩٨

ودخلوا فيه من غير سيف ، وعن الصّادق (ع) انّه سئل : الم يكن علىّ (ع) قويّا في بدنه قويّا في امر الله؟ ـ فقال : بلى ، قيل : فما منعه ان يدفع أو يمتنع لها؟ ـ قال : فافهم الجواب ، منع عليّا (ع) من ذلك آية من كتاب الله تعالى ، فقيل : واىّ آية؟ ـ فقرأ : لو تزيّلوا (الآية) كان لله تعالى ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ومنافقين فلم يكن علىّ (ع) ليقتل الآباء حتّى تخرج الودائع ، فلمّا خرجت ظهر على من ظهر وقتله ، وكذلك قائمنا أهل البيت لن يظهر أبدا حتّى يخرج ودائع الله فاذا خرجت يظهر على من يظهر فيقتله ، وفي هذا المعنى اخبار عديدة ، وقال (ع): لو اخرج الله ما في أصلاب المؤمنين من الكافرين وما في أصلاب الكافرين من المؤمنين لعذّبنا الّذين كفروا (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إذ ظرف أو تعليل لقوله : عذّبنا أو لقوله : انزل الله ولفظة الفاء مثلها في قوله تعالى بل الله فاعبد (فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) الحميّة مصدر حماه بمعنى منع منه أو منعه عن شيء أو مصدر حمى من الشّيء كرضى أنف منه والمقصود من الحميّة السّجيّة الّتى تحمل الإنسان على حفظ عرضه وحسبه ونسبه وأقاربه وما ينسب اليه عن الوقع فيها والازدراء لها بحقّ أو بباطل وهي ناشئة من انانيّة النّفس والاعجاب بها ، وهي أصل جملة الشّرور والمعاصي ، أو السّجيّة الّتى تحمل الإنسان على الانفة وعدم الانقياد لشيء حقّا كان أو باطلا وهي أيضا ناشئة من انانيّة النّفس واستكبارها على الغير وتحقيره (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) بيان للحميّة أو تقييد لها بأكمل افرادها (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) قد مضى قبيل هذا ذكر السّكينة (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) المراد بكلمة التّقوى هي السّكينة أو الولاية الّتى هي مورثة السّكينة ، أو سجيّة التّقوى عن الانحراف الى الطّرق المنحرفة يعنى مكّن منهم السّكينة أو الولاية أو التّقوى (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) اى احقّ بتلك الكلمة أو بالسّكينة أو بمكّة (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) يعنى انّ الله يعلم قدر استحقاق كلّ واحقّيّة كلّ بكلّ (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) جواب لما قالوا بعد صدّهم عن مكّة انّ محمّدا (ص) وعدنا دخول مكّة وما دخلنا وما حلّقنا وما قصّرنا (بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) قيل : الاستثناء تعليم للعباد كيف يتكلّمون إذا أخبروا عن الآتي ، وقيل : الاستثناء باعتبار حال الدّاخلين فانّ منهم من مات قبل الدّخول ولم يدخل كأنّه قال : لتدخلنّ كلّكم ان شاء الله ، وقيل : الاستثناء باعتبار الأمن من العدوّ ، وقيل : ان هاهنا بمعنى إذ ، اى إذ شاء الله ، والحقّ انّه هاهنا للتّبريك ومحض التّعليم (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ) من الصّلاح في إجمال الوعد وعدم التّصريح بوقته (ما لَمْ تَعْلَمُوا) فانّه كان في صدّكم عن المسجد الحرام وصلحكم مع قريش بذلك الصّدّ منافع كثيرة للإسلام واهله وقوّة عظيمة ونشر للإسلام (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ) الدّخول (فَتْحاً قَرِيباً) هو فتح خيبر أو صلح الحديبية فانّه اختلط المسلمون بالمشركين بذلك الصّلح وتمكّنوا من إظهار الإسلام وسمع المشركون بأحكام الإسلام ورغبوا فيه وتقوّى الإسلام به ودخل محمّد (ص) وأصحابه في العام المقبل وهو سنة السّبع من الهجرة مكّة في كمال الشّوكة والعزّة (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) بأحكام الإسلام الّتى هي ما به الاهتداء الى الايمان (وَدِينِ الْحَقِ) اى الولاية فانّها الدّين والطّريق الحقّ الى الله تعالى (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ) اى جنس الدّين (كُلِّهِ) بان يجعل جميع الأديان تحته ويجعل دينه محيطا بالكلّ بحيث لم يبق دين من لدن آدم (ع) الى انقراض العالم الّا وهو شعبة من دينه وليظهره بحسب الظّاهر على كلّ الأديان بحيث لم يبق في بقعة من بقاع الأرض دين سوى دينه ، وإتمام هذا في ظهور القائم (ع) وقد مضى هذه الآية في سورة التّوبة (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) لرسوله أقررتم أم لم تقرّوا (مُحَمَّدٌ

٩٩

رَسُولُ اللهِ) هذه الجملة كسابقتها جواب لسؤال مقدّر ومحمّد مبتدء ورسول الله خبره أو رسول الله صفته وقوله (وَالَّذِينَ مَعَهُ) عطف على محمّد (ص) عطف المفرد والمعنى على الوجه الاوّل محمّد رسول الله (ص) والّذين معه في المرتبة رسل الله ، وعلى الوجه الثّانى محمّد رسول الله (ص) مع الّذين معه (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) أو عطف على رسول الله (ص) على الوجه الاوّل والمعنى محمّد رسول الله (ص) وهو الّذين معه في الدّرجة فانّه لا فرق بينه وبين من كان معه في الدّرجة ، أو هو الّذين معه بالبيعة والتّوبة فانّه وان كان غيرهم بوجه لكنّه فعليّتهم الاخيرة وقد مرّ مرارا انّ شيئيّة الشّيء بفعليّته الاخيرة فشيئيّتهم الّتى هي فعليّتهم الاخيرة محمّد (ص) باعتبار تنزّله بصورته الى مراتبهم فانّه قد مضى مكرّرا انّ البيعة تورث تكيّف البائع بحسب نفسه وفعليّته الاخيرة بصورة نازلة من الّذى بويع معه ، وقوله تعالى اشدّاء على الكفّار (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) قرئ بالرّفع خبرا لمحمّد (ص) والّذين معه على وجه أو خبرا للّذين معه على وجه ، أو خبرا لمبتدء محذوف على وجه ، وقرئ بالنّصب حالا ، ولم يأت بأداة الوصل للاشعار بانّهم جامعون بين الوصفين في جميع الأحوال لا انّ بعضهم اشدّاء وبعضهم رحماء ، ولا انّهم في حال اشدّاء وفي حال رحماء كأنّهم مرجوا الشّدّة بالرّحمة نظير حلو حامض ، لكنّ الاشدّاء بمادّته والرّحماء بهيئته يدلّان على انّهم جامعون بين الوصفين وكاملون فيهما (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) كأنّهم من كثرة صلوتهم مزجوا بين الوصفين (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) الفضل عبارة عمّا يفيض الله على العباد بحسب مقام كثرتهم ، والرّضوان عبارة عمّا يفيضه عليهم بحسب مقام وحدتهم وبعبارة اخرى الفضل جزاء الأعمال المأخوذة بحسب قبول الرّسالة وهي احكام القالب ، والرّضوان جزاء الأعمال المأخوذة بحسب قبول الولاية وهي احكام القلب والرّوح (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) المراد به الأثر الّذى يحدث في جباههم من كثرة السّجود في الصّلوة ، أو المراد الأثر الّذى يحدث في وجوههم من السّهر بسبب صلوة اللّيل ، أو الأثر الّذى يحدث في وجوههم من كثرة خشوعهم لله تعالى (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ).

اعلم ، انّ السّالك له شأنان ؛ شأن السّلوك وشأن الجذب وهو بشأن السّلوك يؤدّى الحقوق ويقيم كثرات وجوده من قواه وجنوده ويقيم من كان تحت يده من اهله وعياله وخدمه وحشمه ويصلحهم ويسدّ فاقتهم ، وبشأن الجذب ينصرف عن الكثرات الى الوحدة ويجذب قواه وجنوده وعياله الى جهة الوحدة ، ويجعل مرمّة معاشه ومعاش من تحت يده بحيث يؤدّى الى حسن معاده ، وبعبارة اخرى له توجّه الى الكثرات وتوجّه الى الوحدة ، وبتوجّهه الى الكثرة يصلح معاشه بحيث يؤدّى الى حسن معاده ، وبتوجّهه الى الوحدة يصرف قواه وجنوده عن الكثرة الى الوحدة ، وبعبارة اخرى له قربان ؛ قرب النّوافل وقرب الفرائض ، وبعبارة اخرى ما يصل اليه من الله امّا يصل اليه بكسبه واعماله وسبق استعداده واستحقاقه واختياره وانانيّته ، أو من دون ذلك ، والكامل أيضا له نظران ؛ نظر الى الكثرة ونظر الى الوحدة ، ووجه الى الكثرة ووجه الى الوحدة ، وبالوجه الى الوحدة يأخذ من الله وبالوجه الى الكثرة يفيض ما يأخذه على غيره ، وبتفاوت هذين النّظرين يختلف الكاملون في مراتب الكمال ، والكامل المطلق من كان نظره الى الطّرفين متساويا من غير ترجّح لأحد الطّرفين على الآخر وهو شأن محمّد (ص) والّذين معه ، وامّا سائر الأنبياء (ع) فلا يخلو أحد منهم من رجحان أحد الطّرفين وانّ موسى (ع) كان نظره الى الكثرات غالبا على نظره الى الوحدة ، وعيسى (ع) كان نظره الى الوحدة غالبا ولذا نقل فيما نقل انّ محمّدا (ص) قال : انّ أخي موسى (ع) كان عينه اليمنى عمياء ، وأخي عيسى (ع) كان عينه اليسرى عمياء ، وانا ذو العينين ، وللاشارة الى انّ محمّدا (ص) والمحمّديّين جامعون للطّرفين وكاملون في النّظرين وتامّون في القربين قال : ذلك الّذى ذكرنا من اتّصافهم بالأوصاف الاختياريّة والأحكام القالبيّة ، وإصلاح الكثرة مثلهم

١٠٠