تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٤

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٤

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩١

أو بولاية علىّ (ع) وهو المراد (فَتَكْفُرُونَ) فانّه بظاهره متعلّق بالمقت الثّانى ومقتهم في الدّنيا ليس الّا مقت من كانوا يدعون اليه يعنى مقت الله في الدّنيا لكم أكبر من مقتكم في الدّنيا إمامكم ، أو مقت الله في القيامة لكم أكبر من مقتكم في الدّنيا إمامكم ، ويجوز ان يكون المراد انّ مقت الله في القيامة أكبر من مقتكم أنفسكم الامّارة أو ذواتكم في القيامة ، ويكون إذ تدعون متعلّقا بمحذوف أو تعليلا لمقت الله ، وعن القمىّ الّذين كفروا بنو أميّة والى الايمان يعنى الى ولاية علىّ (ع) (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) قد سبق في سورة البقرة عند قوله تعالى كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثمّ يميتكم بيان الإماتتين والاحيائين ، والغرض من مثل هذا النّداء والتّضرّع والمناجاة استرحامه تعالى ولذلك قالوا بعده (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) سؤال للخروج بصورة الاستفهام ويأتون بالخروج منكّرا اشعارا بفرط قنوطهم كأنّهم يسألون شيئا يسيرا من الخروج (ذلِكُمْ) العذاب وعدم الاجابة الى الخروج (بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) ضمير بانّه للشّأن وكان مع اسمه مقدّر بعده حتّى يصحّ الإتيان بإذا يعنى ذلك بانّه كنتم إذا دعا الله وحده والمقصود من دعوة الله وحده دعوة ولىّ ـ الأمر لانّه بدعوته يدعى الله وحده يعنى يحصل التّوحيد للسّالك الى الله بسبب الولاية والسّلوك على طريقها ، وبالإقبال على ولىّ الأمر يقبل على الله ، وبمعرفته يعرف الله بل معرفته بالنّورانيّة هي معرفة الله فالمعنى إذا دعا مظهر الله الّذى هو خليفته كفرتم به (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) تذعنوا وتسلّموا ، عن الصّادق أنّه قال : إذا ذكر الله وحده بولاية من امر الله بولايته كفرتم ، وان يشرك به من ليست له ولاية تؤمنوا بانّ له ولاية ، وعنه (ع) أيضا : إذا دعا الله وحده وأهل ـ الولاية كفرتم (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ) تعليل للمعنى المستفاد من المقام كأنّه قال : فذوقوا فانّ الحكم لله (الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) لا حكم لغيره (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) ابتداء كلام منقطع عن سابقه ، أو جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ان كان الحكم له وحده فما له لا يحكم على العباد بالايمان؟! واراءة الآيات امّا بإراءة معجزات الأنبياء (ع) أو بإراءة آيات صدقهم ، أو بإراءة آيات قدرته وحكمته وعلمه ، أو بإراءة آيات تدبيره على وفق حكمته ، أو بإراءة الآيات الانفسيّة الّتى لا يخلو أحد منها (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) اى رزقا عظيما هو الرّزق الانسانىّ من العلم والحكمة (هُوَ) لكن (ما يَتَذَكَّرُ) بالآيات ولا بنزول رزق الإنسان من السّماء (إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) الى الله بالتّوبة على يد وليّ ـ أمره (فَادْعُوا اللهَ) يعنى إذا كان الأمر كذلك فادعوا الله (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) دعاءكم لله أو إخلاصكم له الدّين (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) خبر بعد خبر لقوله هو في هو الّذى يريكم ، أو صفة لله مقطوعة عن الوصفيّة بناء على اكتسابه التّعريف من المضاف اليه على قراءة الرّفع ، أو باقية على الوصفيّة على قراءة النّصب ، أو حال عنه بناء على عدم اكتسابه التّعريف عن المضاف اليه ، والرّفع بمعنى المرفوع بمعنى انّ درجات وجوده مرفوعة بحيث لا يناله ادراك مدرك سواه ، أو بمعنى الرّافع بمعنى انّه رافع درجات عباده ، أو درجات خلقه ، أو درجات فعله وصفاته (ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ) قد فسّر الرّوح هاهنا بالقرآن وبالوحي وبالنّبوّة وبجبرئيل وورد في اخبار عديدة انّ الرّوح ملك أعظم من جبرائيل ولم يكن مع أحد من الأنبياء (ع) وكان مع محمّد (ص) وهو كان مع الائمّة (ع) ، وفسّر الرّوح في الاخبار بمعان أخر مثل روح الايمان وروح القوّة وروح الشّهوة وغير ذلك ، ويجوز ان يفسّر بالولاية الّتى هي مصدر النّبوّة والرّسالة وروحهما فانّها حقيقة المشيّة الّتى هي متّحدة مع ربّ النّوع الانسانىّ الّذى هو ربّ جميع الأرباب وعنه يعبّر بروح القدس الّذى لم يكن مع أحد من الأنبياء (ع) وكان مع محمّد (ص) (مِنْ أَمْرِهِ)

٢١

اى من عالم امره ، أو من امره الّذى هو كلمة كن الوجوديّة ، وهي المشيّة الّتى هي فعله وكلمته وأمره (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) اى يوم تلاقى أهل الأرض وأهل السّماء ، أو تلاقى المحسن والمسيء ، أو تلاقى ـ الاحبّاء ، أو تلاقى المظلوم والظّالم ، أو تلاقى المسرع والبطيء وتلاحق الكلّ ، أو تلاقى الاتباع والمتبوعين وهو يوم القيامة (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) عند الله من قبورهم أو من استارهم الّتى هي عبارة عن حدودهم وتعيّناتهم لانّهم يخرجون يومئذ من جميع التّعيّنات والحدود ولذلك قال : (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) من أعمالهم وأقوالهم وأحوالهم ومراتب وجودهم ودقائقها يعنى يظهر على الخلق انّهم كانوا على الدّوام بارزين عند الله وكانوا لا يخفى على الله منهم شيء (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) بتقدير القول وحكاية لما يقوله تعالى في ذلك اليوم لهم ، أو ابتداء كلام منه واخبار بانّه لم يكن في ذلك اليوم أحد مالكا لشيء (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) جواب منه لسؤاله (الْيَوْمَ تُجْزى) تكرار اليوم لتمكين ذلك اليوم في القلوب تهديدا منه وترغيبا اليه (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) بنقص ثواب أو زيادة عقاب (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : النّفوس البشريّة غير متناهية فكيف يمكن محاسبة الكلّ في يوم واحد؟ ـ فقال : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يحاسب الكلّ في وقت واحد لانّه لا يشغله شأن عن شأن ولا ـ حساب عن حساب ، عن أمير المؤمنين (ع): الميم ملك الله يوم لا مالك غيره ويقول الله لمن الملك اليوم؟ ـ ثمّ تنطق أرواح أنبيائه ورسله وحججه فيقولون : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، فيقول الله جلّ جلاله : اليوم تجزى (الآية) وعنه (ع): انّه سبحانه يعود بعد فناء الدّنيا وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان عدمت عند ذلك الآجال والأوقات ، وزالت السّنون والسّاعات ، فلا شيء الّا الواحد القهّار الّذى اليه مصير جميع الأمور بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها ، وبغير امتناع كان فناؤها ، ولو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) الآزفة اسم يوم القيامة لقربها فيكون اضافة اليوم اليه مثل اضافة العامّ الى الخاصّ (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) من شدّة الخوف والوحشة فانّه وقت الخوف والاضطراب يتحرّك القلوب من مواضعها كأنّها تبلغ الحناجر (كاظِمِينَ) حال من القلوب أو المستتر في الظّرف ، ونسبة الكظم الى القلوب امّا مجاز عقلىّ أو لتشبيه ـ القلوب بالعقلاء (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) قريب ينفعهم ويدفع عنهم (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) توصيف الشّفيع للاشعار بانّ الشّفيع إذا لم يكن مطاعا لا ينفع شفاعته فكأنّه لم يكن شفيعا ، وليس المقصود انّه قد يكون لهم شفيع غير ـ مطاع (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) الخائنة مصدر مثل الكاذبة أو وصف والمعنى يعلم العين الخائنة من الأعين ، وخيانة العين عبارة عن النّظر الى ما لا يحلّ لها النّظر اليه ، أو كناية عن نظرها الى شيء بحيث لا يظهر نظرها على أحد أو كناية عن الاشارة بالعين ، وقيل : كناية عن قول الرّجل : ما رأيت وقد رأى ، أو رأيت وما رأى ، أو عبارة عن النّظرة الثّانية الّتى هي عليك كما في الخبر : النّظرة الاولى لك والثّانية عليك (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) من العزمات والنّيّات والخطرات الّتى لم تظهرها لأحد ، أو من القوى والاستعدادات الّتى لم يطّلع صاحبوا القلوب عليها فكيف بغيرهم (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) عطف بمنزلة النّتيجة كأنّه قال : إذا كان الله ذا العرش يعنى كان مالك جملة الخلق وكان واحدا قهّارا ليس يعجز عن شيء ولا يخفى منهم عليه شيء ولم يكن منه ظلم على أحد وكان عالما بجميع الخلائق بتمام اوصافهم وأحوالهم وقواهم واستعداداتهم فهو يقضى بالحقّ بينهم لا غيره وعلى التّفاسير السّابقة للآيات السّابقة فالمعنى انّ عليّا (ع) الّذى هو مظهر الهة الله يقضى بالحقّ (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) اى يدعونهم (مِنْ دُونِهِ) وهم

٢٢

بنو أميّة ومن وافقهم ، ويجوز ان يكون عائد الموصول ضمير الفاعل (لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) فضلا عن القضاء بالحقّ (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) في موضع تعليل لحصر القضاء بالحقّ فيه (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) فيشاهدوا آثار الماضين وآثار قضائه تعالى بالحقّ (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) كما أتيتهم بها (فَكَفَرُوا) كما كفر هؤلاء (فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) فليحذر هؤلاء ممّا نزل بهم (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) اشارة الى حال بعض الّذين من قبلهم (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) اى استبقوا بناتهم ، أو امنعوا نساءهم من مضاجعة ـ أزواجهم ، أو تجسّسوا حياء نساءهم لتجسّس العيب أو الحمل (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) وضياع (وَقالَ فِرْعَوْنُ) مثل من يخاف من خصمه ومعذلك يهدّده (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) فانّه لم يكن له مانع من قتله لكنّه كان يخاف منه ومن ثعبانه ويخوفّه بالقتل ، وقيل : كانوا يكفّونه عن قتله ويقولون : انّه ليس الّذى تخافه بل هو ساحر ولو قتلته ظنّ انّك عجزت عن معارضته بالحجّة (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) بان يفرّق النّاس عن الاجتماع أو خرج عن الطّاعة وادّعى السّلطنة (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) من أقاربه ، في خبر : انّه كان ابن خاله ، وخبر آخر : كان ابن عمّه (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) قال القمىّ كان يكتم ايمانه ستّمائة سنة (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً) عظيما أو ذكرا من الاناسىّ أو رجلا حاله (أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) صفة لرجلا كما ذكر أو بتقدير اللّام علّة لتقتلون (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ) على صدق دعواه (مِنْ رَبِّكُمْ) فاحذروا من مخالفته ومؤاخذة ربّكم (وَإِنْ يَكُ كاذِباً) لا يضرّكم كذبه شيئا (فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ان لم يصبكم كلّه (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) متجاوز عن حدّه في امره (كَذَّابٌ) ظاهره انّه تعليل لقوله ان يك كاذبا يعنى انّه ان يك كاذبا لم ينل ما أراد منكم من كذبه لانّ الله لا يهدى الى مراده من هو مسرف كذّاب ولكنّه في الحقيقة تعريض بفرعون وقومه بحيث لا يصير سببا لشغبهم لانّه اثبت صدق موسى (ع) بقوله : وقد جاءكم بالبيّنات (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ) غالبين (فِي الْأَرْضِ) ارض مصر وشكر هذه النّعمة ان تجيبوا رسول الله الّذى آتاكم هذا الملك لا انكار رسوله (فَمَنْ يَنْصُرُنا) ادخل نفسه فيهم ليظنّوا انّه منهم (مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) فلا تتعرّضوا لبأس الله بإنكار رسوله وإيذائه وقد أجاد في الجدال حيث أنكر قتله عليهم وأسند إنكاره بما لا يمكن ردّه والشّغب معه فانّه قال اوّلا : انّه يقول : ربّى الله فان لم تعترفوا ولم تذعنوا بالله فليكن ذلك محتملا لكم ودفع الضّرر المحتمل واجب عقلا فترك التّعرّض واجب عقلا ، وقال ثانيا : انّه جاء بالبيّنات على صدق دعواه فكيف تجترؤن عليه وتقتلونه؟! وثالثا انّه غير خارج من الكذب أو الصّدق وكذبه لا يضرّكم وصدقه يضرّكم لا محالة ، والضّرر

٢٣

المحتمل واجب التّحرّز ، وقال رابعا : انّه ان كان كاذبا لا يهتدى الى مراده وان كنتم أنتم كاذبين لم تهتدوا الى قتله فلا تتعرّضوا لقتله لكنّه لمّا اثبت صدقه كان كأنّه قال : أنتم كاذبون ولا تهتدون الى قتله (قالَ فِرْعَوْنُ) تليينا لقومه (ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) وأعتقد (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) الّذين تحزّبوا على رسلهم ولم يقل مثل ايّام الأحزاب لارادة الجنس من اليوم وتفسيره بايّام نوح (ع) وعاد وثمود (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) مثل سنّة الله وعادته فيهم (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) كقوم إبراهيم (ع) ولوط وشعيب (ع) (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) فلا يعاقبكم ان كنتم صالحين (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) اى شدائده ، ويوم التّناد يوم القيامة لتنادى النّاس فيه واستغاثة كلّ بالآخر لغاية وحشتهم مثل الغرقى يتشبّثون بكلّ حشيش ، أو لتنادى أهل الجنّة وأهل النّار بقولهم : أفيضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله وقولهم : انّ الله حرّمهما على الكافرين ، فعن الصّادق (ع) : يوم التّناد يوم ينادى أهل النّار أهل الجنّة : أفيضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله ، وقيل : لانّ بعض الظّالمين ينادى بعضا بالويل والثّبور ، وقيل : لانّه ينادى فيه كلّ أناس بإمامهم (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) حال مؤكّدة اى تدبرون عن الموقف أو عن الله ليأسكم من رحمته ، أو عن النّار فارّين منها (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ) من بأس الله أو من قبل الله (مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) عطف فيه معنى التّعليل لسابقه ، أو معنى الاستدراك كأنّه قال : لكن لا ينفعكم نصحى لانّ الله اضلّكم ومن يضلل الله فما له من هاد (وَلَقَدْ جاءَكُمْ) عطف أو حال فيه معنى التّعليل (يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ) أقررتم به لارتضائكم بالغائب عن انظاركم دون الحاضر عندكم وجعلتموه خاتم الرّسالة و (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) أو المعنى حتّى إذا هلك بقيتم على كفركم وقلتم : لن يبعث الله من بعده رسولا (كَذلِكَ) الضّلال الّذى كنتم أنتم واسلافكم عليه (يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) متجاوز عن حدّه (مُرْتابٌ) اى شأنه الارتياب وليس له حالة يقين بما ينبغي ان يتيقّن (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) بالابطال والإخفاء والازدراء والتّنقيص (بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) بغير حجّة بل محض التّقليد والشّكّ وهوى النّفس أو بغير ذي سلطنة أتاهم واجبرهم على ذلك (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) اعراب الآية انّ من من قوله من هو مسرف موصولة مفعول ليضلّ والّذين يجادلون بدل منه أو صفة له ، أو خبر لمحذوف أو مفعول لفعل محذوف ، أو مبتدء خبره قوله تعالى : بغير سلطان ، أو كبر مقتا بتقدير جدال الّذين يجادلون كبر مقتا ، أو قوله تعالى (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ) بتقدير العائد أو من هو مسرف موصولة مبتدء والّذين يجادلون خبره ، أو بغير سلطان أو كبر مقتا ، أو كذلك يطبع الله ، أو من استفهاميّة ، والّذين يجادلون بتقدير مبتدء ، أو بتقدير خبر جواب للاستفهام من الله ، أو الّذين يجادلون مبتدء ، وبغير سلطان خبره ، أو كبر مقتا ، أو كذلك يطبع الله وكذلك يطبع الله استيناف كلام أو خبر كما ذكر ، أو كذلك فاعل كبر بجعل الكاف اسما ويطبع الله استيناف كلام ، أو خبر للّذين يجادلون أو لمن (عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) قرئ بإضافة القلب وحينئذ يكون اشارة الى تفرّق قلب

٢٤

المتكبّر وتوزيعه على مهامّ عديدة كرجل فيه شركاء متشاكسون ، وقرئ بتنوين القلب ، وحينئذ يكون نسبة التّكبّر الى القلب مجازا ، وقد مضى في اوّل البقرة بيان ختم القلوب وطبعها (وَقالَ فِرْعَوْنُ) تمويها على العوامّ (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) قصرا مرتفعا ظاهرا على الانظار من صرح الشّيء إذا ظهر (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ) كلّما يتوصّل به الى شيء آخر يسمّى سببا ، والاضافة الى السّماوات بيانيّة ، لانّ السّماوات أسباب إيجاد المواليد وابقائها ، أو بتقدير اللّام والمراد بها الطّرق الّتى بها يوصل الى السّماوات (فَأَطَّلِعَ) قرئ بالرّفع عطفا على أبلغ ، وبالنّصب جوابا للتّرجّى (إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) كان تأمّله في قتل موسى (ع) وتصريحه بظنّه كذب موسى لرشدته (اى ولد الحلال) كما في الخبر (وَكَذلِكَ) التّزيين الّذى زيّن له في بناء الصّرح والصّعود الى السّماء (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) في سائر اعماله (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) قرئ مبنيّا للفاعل ومبنيّا للمفعول (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) في نقصان أو خسار (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) تمتّع يسير بحسب المدارك النّازلة الحيوانيّة فانّه إذا نسب الى المدارك الانسانيّة لم يكن يعدّ تمتّعا على انّ تمتّعها مشوب بالآلام والأسقام والبلايا والمخاوف ومع ذلك لم يكن مدّة بقائه الّا قليلا من الايّام وإذا لوحظ مع الايّام الآخرة الغير المتناهية لم يكن يعدّ في شيء (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) فلا أمد لمداه ولا نقص ولا شوب لتمتّعه (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) وهذا جواب لسؤال مقدّر من حز قيل أو من الله (وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) بسط في جانب الثّواب واقتصر في جانب العقاب على ذكر الجزاء المقيّد بكونه مثل السّيّئة ترجيحا لجانب الوعد (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) لم يقل ما لكم نصفا من نفسه في مقام النّصح (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي) بدل من الاوّل (لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ) اى بربوبيّته واستحقاق آلهته (عِلْمٌ) تعريض بهم وانّ عبادة ما ليس على جواز عبادته برهان ليست الّا سفاهة وأنتم تعبدون ما ليس لكم بالهته علم (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ) المنيع الّذى لا يمنعه عن مراده مانع وعزّته دليل آلهته (الْغَفَّارِ) الّذى ينبغي ان يطلب بعبادته غفرانه (لا جَرَمَ) يقال : لا جرم ، ولا ذا جرم ، ولا ان ذا جرم ، بزيادة ذا ، أو ان المفتوحة مع ذا ، ولا عن ذا جرم ، كلّ ذلك مثل ضرب ولا جرم ككرم ولا جر بإسقاط الميم ولا جرم بضمّ الجيم وسكون الرّاء كأنّه كان فعلا ماضيا ثمّ كثر استعماله فدخل عليه ذا ، أو ان وذا ، أو عن وذا ، ولم يغيّر عن صورته وهو من مادّة الجرم بمعنى الذّنب بقرينة استعماله لا جرم بضمّ الجيم وسكون الرّاء في مقام الباقي ، أو من الجرم بمعنى القطع بقرينة ـ استعماله في مقام لا بدّ ولا محالة ، وفي مقام حقّا ، وهذا كان أصله ثمّ كثر استعماله في مقام تأكيد الكلام حتّى تحوّل الى معنى القسم فانّه يقال : لا جرم لآتينّك بإتيان الجواب له مثل جواب القسم وقد سبق في سورة النّحل بيان اجمالىّ للاجرم (أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) من الأصنام أو فرعون (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ) اى دعوة مقبولة حقّة (فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا) اى مردّى ومردّكم جميعا (إِلَى اللهِ) فينبغي الاعراض عن الهتكم والإقبال الى الله الّذى ينتهى أمرنا اليه والى محاكمته (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) المتجاوزين عن حدّهم الانسانىّ بالادبار عن الله والإقبال على ما ليس له

٢٥

دعوة في الدّارين (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ) عند معاينة الموت وتهيّؤ أسباب العذاب لكم (ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) لانّه العزيز العليم القدير ذو العناية بأمر العباد ولا أخاف ما تخوّفوننى به لعدم قدرته على شيء (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) فيحفظ من توسّل به (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) قد ورد في الاخبار انّهم قطعوه اربا اربا ولكن وقاه الله ان يفتنوه في دينه ، وعن الصّادق (ع) في حديث : كان حزقيل يدعوهم الى توحيد الله ونبوّة موسى (ع) وتفضيل محمّد (ص) على جميع رسل الله وخلقه وتفضيل علىّ بن ـ ابى طالب (ع) والخيار من الائمّة على سائر أوصياء النّبيّين والى البراءة من ربوبيّة فرعون ، فوشى به الواشون الى فرعون وقالوا : انّ حزقيل يدعوهم الى مخالفتك ويعين أعداءك الى مضادّتك فقال لهم فرعون : ابن عمّى وخليفتي على ملكي وولىّ عهدي ان فعل ما قلتم فقد استحقّ العذاب على كفره بنعمتي ، وان كنتم عليه كاذبين فقد استحققتم اشدّ العذاب ، لإيثاركم الدّخول في مساءته فجاء بحزقيل وجاء بهم فكاشفوه ، وقالوا : أأنت تجحد ربوبيّة فرعون الملك وتكفر بنعمائه؟ ـ فقال حزقيل : ايّها الملك هل جرّبت علىّ كذبا قطّ؟ ـ قال : لا ، قال فسلهم من ربّهم؟ ـ قالوا : فرعون هذا ، قال : ومن خالقكم؟ ـ قالوا : فرعون هذا ، قال : ومن رازقكم الكافل لمعايشكم والدّافع عنكم مكارهكم؟ ـ قالوا : فرعون هذا ، قال حزقيل : ايّها الملك فأشهدك وكلّ من حضرك انّ ربّهم هو ربّى ، وخالقهم هو خالقي ، ورازقهم هو رازقي ، ومصلح معايشهم هو مصلح معايشي ، لا ربّ لي ولا خالق ولا رازق غير ربّهم وخالقهم ورازقهم ، وأشهدك ومن حضرك انّ كلّ ربّ ورازق وخالق سوى ربّهم وخالقهم ورازقهم فانا بريء منه ومن ربوبيّته وكافر بالهيّته ، يقول حزقيل : هذا وهو يعنى انّ ربّهم وهو الله ربّى ، ولم يقل : انّ الّذى قالوا : انّه ربّهم هو ربّى ، وخفي هذا المعنى على فرعون ومن حضره وتوهّم انّه يقول : فرعون ربّى وخالقي ورازقي ، فقال لهم فرعون : يا رجال السّوء ويا طلّاب الفساد في ملكي ومريدي الفتنة بيني وبين ابن عمّى وهو عضدي أنتم المستحقّون لعذابي لارادتكم فساد أمري وإهلاك ابن عمّى والفتّ في عضدي ، ثمّ أمر بأوتاد فجعل في ساق كلّ واحد منهم وتدا وفي صدره وتدا ، وامر أصحاب أمشاط ـ الحديد فشقّوا بها لحومهم من أبدانهم فذلك ما قال الله تعالى : فوقيه الله سيّئات ما مكروا به لمّا وشوا به الى فرعون ليهلكوه ، وحاق بآل فرعون سوء العذاب وهم الّذين وشوا بحزقيل اليه لما أوتد فيهم الأوتاد ومشط عن أبدانهم لحومها بالامشاط (النَّارُ) ان كان المراد بسوء العذاب عذاب البرزخ والآخرة جاز ان يكون النّار بدلا منه بدل ـ الاشتمال ، وجاز ان يكون مبتدء وقوله تعالى (يُعْرَضُونَ) خبره والجملة تفسيرا لسوء العذاب ، وان كان المراد به عذاب فرعون في الدّنيا فالنّار مبتدء ويعرضون خبره والجملة مستأنفة منقطعة أو حاليّة حالا مقدّرة اى حالكونهم بعد سوء العذاب النّار يعرضون (عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) في اخبار كثيرة انّ هذا في نار الدّنيا يعنى نار البرزخ لانّ في نار القيامة لا يكون غدوّ وعشىّ وامّا نار الخلد فهو قوله تعالى (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) بتقدير القول ، وقرئ ادخلوا من الثّلاثىّ المجرّد (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ) الاتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) المتبوعين (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) قد مضى الآية في سورة إبراهيم (ع) وقد مضى مكرّرا انّ أمثال هذه تعريض بمنافقى الامّة (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا

٢٦

يَوْماً مِنَ الْعَذابِ قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) المعجزات أو براهين صدقهم أو احكام الرّسالة (قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا) تهكّموا بهم وسخروا منهم ولذلك قالوا (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) اى في ضياع ، ويحتمل ان يكون هذا من الله (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) المراد بالحيوة الدّنيا ان كان الحيوة المصاحبة للحيوة الحيوانيّة الطّبيعيّة فالمراد بالنّصرة نصرتهم في دينهم لا في دنياهم لانّ أكثر الأنبياء لم ينصروا بحسب دنياهم ، وان كان المراد الحيوة البرزخيّة فلا إشكال ، والمراد بالاشهاد الأنبياء (ع) وأوصيائهم (ع) (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) يعنى جهنّم (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) اى أعطيناه وصف الهداية للخلق بان جعلناه رسولا إليهم ، أو كونه مهديّا بان هديناه الى ما ينبغي ان يهتدى اليه ، أو آتيناه ما يهتدى به من الآيات أو من الأحكام أو من التّوراة (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) كتاب النّبوّة وأحكامها ، أو كتاب التّوراة (هُدىً وَذِكْرى) اى ذا هدى ، أو هاديا ، أو ما يهتدى به (لِأُولِي الْأَلْبابِ) قد تكرّر انّ الإنسان بدون الاتّصال بالولاية كالجوز الخالي من اللّبّ ويكون اعماله خالية من اللّبّ وان كانت مطابقة لما ورد في الشّريعة كما أفتى به الفقهاء موافقا لما ورد في الاخبار وكان هو واعماله لائقة للنّار ، وإذا اتّصل بالولاية صار ذا لبّ وصار اعماله ذوات الباب (فَاصْبِرْ) لمّا كان ذكر الأمم الماضية ورسلهم (ع) وهلاكهم بسبب تكذيب الرّسل (ع) وذكر موسى (ع) وفرعون كلّها لتسلية الرّسول (ص) في تكذيب قومه وتركهم للولاية قال بعد ما ذكر حكايتهم بطريق التّفريع فاصبر (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بنصرتك (حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) كرّر الآية لتعليل امره بالصّبر (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) اى الانصراف عن الحقّ والاستكبار على أهل الحقّ (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) اى بالغي ذلك الكبر ومقتضاه (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) منه أو منهم (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لاستعاذتك فيعيذك ولما يقولون فيك ويدبّرونه فلا يدعهم ينفذ مكرهم فيك (الْبَصِيرُ) بك وبهم ، وبما تفعل ويفعلون ، وبكبرك ان استكبرت وبكبرهم (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) فلا ينبغي للنّاس الضّعيف الخلق الكبر في مقابل ما هو أكبر منه وانّما قال لخلق السّماوات ولم يقل السّماوات والأرض للاشعار بانّ الصّورة الخلقيّة منهما أكبر من الصّورة الخلقيّة الانسانيّة ، وامّا النّشأة الرّوحيّة الانسانيّة فهو أكبر بمراتب من صورة السّماوات والأرض ومن نشأتهما الرّوحيّة الامريّة ، والمجادل تنزّل من مقام روحيّته الامريّة الى الصّورة الخلقيّة كأنّه ليس له نشأة روحيّة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ليس لهم مقام علم حتّى يعلموا ضعفهم ، أو لا يعلمون ضعفهم وحقارتهم بالنّسبة الى السّماوات (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) رفع لتوهّم انّ عدم العلم يكون عذرا لهم في كبرهم وجدالهم ولذلك قدّم الأعمى والمراد بالعمى عمى القلب الّذى يكون من أوصاف القوّة العلّامة بمعنى الجهل كما انّ المراد بالبصر بصيرة القلب الّتى هي عبارة عن العلم (وَالَّذِينَ آمَنُوا) لم يقدّم المسيء هاهنا لحصول الغرض من تقديم الأعمى (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) والمراد بالايمان الانقياد والتّسليم الحاصل بالبيعة العامّة ، أو الخاصّة ، أو نفس البيعة العامّة أو الخاصّة ، والمراد بالعمل الصّالح البيعة الخاصّة ، أو العمل بالشّروط الّتى تؤخذ في البيعتين ، وايّا ما كان فالمقصود بيان عدم التّسوية بين من كمّل قوّته العمّالة ومن لم يكمّلها ، وزيادة

٢٧

لا في المسيء لاشارة خفيّة الى انّ المسيء منفىّ معدوم بخلاف المحسن كأنّه لا يجوز ان يدخل عليه النّفى والّا فسوق العبارة ان يدخل لا الّتى هي لتأكيد النّفى على الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فلم لا يظهر الفرق بين المحسن والمسيء؟ ـ فقال : يظهر الفرق عند قيام السّاعة (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) قد مضى في اوّل البقرة وجه عدم الرّيب في الكتاب مع كثرة المرتابين فيه فقس عليه وجه عدم الرّيب في القيامة والسّاعة وظهور القائم (ع) والرّجعة مع كثرة المرتابين فيها (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) لا يذعنون بها أو لا يؤمنون بالله حتّى يعلموا مجيء السّاعة ، أو لا يؤمنون بك حتّى يصدّقوك في مجيء السّاعة (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) قد مضى في سورة البقرة وفي سورة النّمل بيان تعليق الاستجابة على الدّعاء وكيفيّة الدّعاء وكيفيّة اجابة الله للدّاعين ، من أراد فليرجع اليه ، وهل الظّفر بالمراد بعد الدّعوات والتّصدّقات والبركة في الأموال والأولاد عقيب الصلات من الاتّفاقيّات؟ أو هي من الأسباب للوصول الى المراد؟ ـ قال بعض الفلاسفة : انّ ذلك من الاتّفاقيّات ، وبرهان إنكارهم لسببيّة ذلك انّ العالي لا التفات له الى الدّانى وانّه لا تأثير للدّانى في العالي فلا يكون الظّفر بالمقصود عقيب ذلك الّا محض الاتّفاق ، وصريح الآيات والاخبار يثبت التّسبيب بين الدّعوات والإجابات وبين الصّدقات ودفع البلايا وجذب البركات ، وبين الصّلات وزيادة الأموال والاعمار والأولاد.

تحقيق البداء ونسبة التّردّد والمحو والإثبات الى الله تعالى

وتحقيق ذلك ، انّ العوالم بعد مقام الغيب المعبّر عنه بالعمى الّذى لا خبر عنه ولا اسم له ولا رسم ، وبعد مقام الواحديّة المعبّر عنه بمقام الأسماء والصّفات ، وبعد مقام الفعل المعبّر عنه بالمشيّة بوجه ستّة وبوجه سبعة ، وبوجه سبعون ، وبوجه سبع مائة ، وبوجه سبعة آلاف ، وبوجه سبعون ألفا ، وبوجه غير متناهية ، وانّ كلّ عالم عال بالنّسبة الى الدّانى حاله حال النّفس بالنّسبة الى قواها ومداركها ، وانّ عالم المثال مرتبته من عالم الطّبع مرتبة الخيال الانسانىّ من بدنه وقواه فكما انّ قوى النّفس الخياليّة تتأثّر من بدنها ومن غير بدنها وبذلك التّأثّر يتأثّر الخيال وتأثر الخيال هو بعينه تأثّر النّفس كذلك عالم المثال يتأثّر من عالم الطّبع ، وتأثّره بعينه تأثّر النّفوس الكلّيّة ، وتأثّرها تأثّر العقول الكلّيّة ، وتأثّرها تأثّر المشيّة ، وهو تأثّر الا له ، وكما انّ النّفوس البشريّة بعد التّأثّر من الأبدان وقواها تحرّك قوّتها الشّوقيّة والاراديّة لدفع الموذي أو جذب النّافع كذلك النّفوس الكلّيّة بعد تأثّر قواها المثاليّة الخياليّة تهيّج أسباب دفع الموذي وجذب النّافع لما تأثّرت منه ، وانّ الحوادث كما تكون بأسباب طبيعيّة ارضيّة تكون بأسباب إلهيّة سماويّة وانّ الأسباب السّماويّة قد تؤثّر بتسبيب الأسباب الطّبيعيّة وقد تؤثّر بمحض التّصوّر والارادة لانّها مظاهر ارادة الله ، وافعالها مظاهر افعال الله ، إذا أرادت شيئا تقول له : كن ، فيكون ، من غير تسبيب أسباب طبيعيّة ، وعالم المثال كعالم الخيال يضيق عن الاحاطة بجملة المدركات دفعة بل يرد عليه الصّور بالتّعاقب ويتجدّد عليه الإدراكات متبادلة ولذلك قد يثبت ضرّ شخص أو خيره فيه ثمّ يقع من ذلك الشّخص أو من غيره دعاء لدفع ذلك الضّرّ أو عمل يدفع ذلك الخير فيقع صورة ذلك الدّعاء أو العمل فيه ويقع صورة لازمه من دفع الضّرّ أو دفع الخير فيه ، وكلّما تصوّره النّفوس العالية الجزئيّة أو الكلّيّة يقع صورته في هذا العالم امّا على مجرى العادة وبالأسباب الطّبيعيّة أو خارجا عن مجرى العادة ومن هذه الألواح المثاليّة ينسب البداء الى الله تعالى ، وينسب التّردّد الّذى هو عبارة عن ترجيح أحد المتصوّرين تارة والآخر اخرى ، فانّه إذا تعارض دعاء مؤمن لشخص بالخير ودعاء آخر عليه بالشّرّ فيثبت صورة دعاء هذا تارة مع لازمها وصورة دعاء ذاك اخرى مع لازمها ، فيظهر في نظر النّاظر صورة التّردّد

٢٨

في الصّورتين المتقابلتين وينسب هذا التّردّد الى الله تعالى كما ينسب افعال القوى الانسانيّة الى النّفوس ، وهكذا حال نسبة البداء الى الله تعالى وقد يتّصل المكاشف من النّبىّ (ص) أو الولىّ (ع) بتلك الألواح فيشاهد فيها بعض الأسباب والمسبّبات ولا يشاهد منافيات تلك الأسباب والمسبّبات ان كان منافياتها ثابتة فيها الضيق النّفوس البشريّة الخياليّة عن الاحاطة بجميع ما ثبت فيها فيخبر بذلك ولا يقع ما يخبر به فينسب البداء الى تلك الألواح لقصور نظره لا لعدم ثبت ما وقع ، وما كذب في ذلك لانّه أخبر عن عيانه (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) لمّا كان اقتضاء العبوديّة الخروج من الانانيّة والتّعلّق بالحقّ الاوّل تعالى شأنه وكان اقتضاء ذلك التّعلّق استدعاء استقلال الحقّ بالانانيّة في وجود العبد قال تعالى في مقام يستكبرون عن دعائي يستكبرون عن عبادتي اشارة الى هذا التّلازم (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) صاغرين (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) الجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدّر وتعداد لنعمه تعالى على العباد في مقام التّعليل (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) قد سبق الآية مع بيانها في سورة يونس (ع) (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) بحسب مقاماتهم النّباتيّة والحيوانيّة والانسانيّة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) نعمه وفضله عليهم لانكار بعضهم مبدء عليما قديرا ذا عناية بالخلق ، وعدم تفطّن بعضهم بكون النّعم منه ، وعدم تفطن بعضهم بنفس النّعمة ، وغفلة بعضهم عن المنعم والنّعمة (ذلِكُمُ اللهُ) الموصوف بأنعام تلك النّعم (رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) اثبت اوّلا ربوبيّته لهم حتّى يتنبّهوا بانّه المستحقّ للعبادة دون غيره الّذى لم يكن له سمة الرّبوبيّة ثمّ ذكر خالقيّته لكلّ الأشياء ، ومنها معبوداتهم ، ثمّ حصر الآلهة فيه نفيا لالهة معبوداتهم بعد ما أشار الى عنايته بخلقه وافضاله عليهم ليظهر بطلان انصرافهم الى غيره قبل انكار الانصراف (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَذلِكَ) الصّرف مع وضوح بطلانه (يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ) في مقام أبدانكم ومقام أرواحكم (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) في كلا المقامين (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من الأرزاق الطّيّبة النّباتيّة الارضيّة فانّ رزق مقام نبات الإنسان أطيب أرزاق سائر الحيوان بحسب الشّرف واللّطف واللّذّة والنّصح ، ومن الأرزاق الطّيّبة الحيوانيّة الارضيّة والسّماويّة فانّ رزق الحيوان هو الالتذاذ بغذاء النّبات والالتذاذ بإدراك مدارك الحيوان ومن الأرزاق الطّيّبة الانسانيّة السّماويّة من العلوم والمكاشفات والمعاينات والتّحقّق بالحقائق (ذلِكُمُ) الموصوف بتلك الأوصاف (اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) مدح نفسه على خلق الإنسان وتهيّة رزقه بحسب جملة مقاماته من ألطف المأكول والمشروب والمدرك والمتخيّل والمعلوم والمكشوف لانّ في خلقه دقائق عظيمة عديدة وصنائع متقنة وحكما بالغة يعجز عن إدراكها العقول ، وكذا في تهيّة أسباب رزقه بحسب مقاماته الثّلاثة (هُوَ الْحَيُ) بعد ما أشار الى بعض إضافاته بالنّسبة الى خلقه أشار الى بعض صفاته الحقيقيّة تعريضا بمعبوداتهم وفنائها وتعريضا بهم وبموتهم وانتهائهم اليه ليكون حجّة على عبوديّتهم لله وبطلان معبوديّة غيره (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) كرّره للاهتمام بتوحيده في مقام ردّ آلهتهم (فَادْعُوهُ) يعنى إذا كان هو الباقي والباقون هم الفانين فادعوه ولا تتركوا دعاءه ولا تدعوا غيره لفنائكم وانتهائكم اليه لبقائه ولفناء غيره (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) اى الطّريق أو الأعمال الشّرعيّة الملّيّة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) إنشاء حمد منه تعالى على تفرّده بالآلهة كما ورد عن السّجّاد (ع): إذا قال أحدكم : لا اله الّا الله فليقل : الحمد لله ربّ العالمين فانّ الله يقول : هو الحىّ (الآية) فانّ ظاهره الأمر بإنشاء الحمد عند توحيده ، أو اخبار منه بحصر الحمد فيه تعالى بعد حصر

٢٩

الآلهة فيه فيكون بمنزلة النّتيجة لسابقه ، ولمّا كان الآيات في مقام تعداد النّعم لم يأت بأداة الوصل في رؤس الآي (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) يعنى بعد ما ذكّرتهم بنعم الله وحصر الآلهة فيه تعالى أظهر براءتك عن عبادة معبوداتهم (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) ذكر نعمة اخرى بطريق تعداد النّعم أو في مقام التّعليل لقوله نهيت (مِنْ تُرابٍ) فانّ تولّد مادّة النّطفة ليس الّا من حبوب النّبات وبقولها ولحوم الحيوان وألبانها والكلّ يحصل من التّراب (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) أتى بالثّلاثة منكّرة للاشارة الى انّ التّراب الحاصل منه مادّة النّطفة لا بدّ وان يكون ترابا مخصوصا متكيّفا بكيفيّة مخصوصة ممتزجا مع سائر العناصر ، وانّ النّطفة الّتى تصير مادّة الإنسان تكون نطفة مخصوصة ممتازة عن سائر النّطف وكذا العلقة (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا) عطف على لتكونوا أو على محذوف اى لتستكملوا في نفوسكم ولتبلغوا (أَجَلاً مُسَمًّى) ويكون قوله ومنكم من يتوفّى بين المعطوف والمعطوف عليه ، أو بين العلّة ومعلولها ، أو متعلّق بمحذوف اى ومنكم من يبقى لتبلغوا أجلا مسمّى (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تدركون بعقولكم ، أو تصيرون عقلاء ، أو تعقلون امر الآخرة من امر الدّنيا ، فانّ الانتقالات في الحالات إماتات وإحياءات ، وليدرك الإنسان من تلك الانتقالات النّقلة العظمى وانّها ليست افناء واستيصالا بل هي افناء لصورة واحياء بصورة أتمّ وأكمل ، وقد سبق في سورة الحجّ الآية بأكثر اجزائها مع بيان لها (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) من قبيل تعداد النّعم أو تعليل لسابقه واشارة الى نعمه تعالى (فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) قد مضى الآية مع بيانها في سورة البقرة عند قوله تعالى : بديع السّماوات والأرض وإذا قضى امرا (الآية) وفي غيرها (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) من الله (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) بدل أو صفة للّذين يجادلون ، أو خبر أو مفعول لمحذوف أو مبتدء خبره (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) إذ مفعول يعلمون أو ظرف له ، والفعل منسىّ المفعول ، أو مقدّر المفعول (وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) يحمون أو يوقدون (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ) ما زائدة أو موصولة أو موصوفة والعائد محذوف (مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) أخبروا اوّلا بانّهم أفلتوا من أيديهم ، ثمّ التفتوا الى انّهم كانوا مدعوّين بحسب حدودهم وتعيّناتهم ، والحدود كانت عدميّة ولكن كانت على القاصرين كالسّراب تظهر بصورة الموجود وفي القيامة يرتفع الحدود ويعلم كلّ أحد أنّها كانت سرابا لا حقيقة لها فأضربوا عن أخبارهم بضلال الشّركاء عنهم وقالوا (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) وقد ورد الاخبار بانّ الآية في المعرضين عن الولاية وعن علىّ (ع) ، والمراد بما يشركون رؤساء الضّلالة وعلى هذا فالمراد ب (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) الّذين يجادلون في خلافة علىّ (ع) ، والمراد ب (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) الّذين كذّبوا الآيات الواردة في الولاية ، وبما أرسلنا به رسلنا هو الولاية لانّها غاية الرّسالة بدليل ان لم تفعل فما بلّغت رسالتك ، والمراد بما يشركون ما جعلوه شريكا لعلىّ (ع) في الخلافة ، ومن دون الله من دون اذن الله ، أو حالكون الشّركاء غير علىّ (ع) الّذى هو مظهر الله (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) في الدّنيا أو في الآخرة ، عن الباقر (ع) فامّا النّصّاب من أهل

٣٠

القبلة فانّهم يخدّ لهم خدّا الى النّار الّتى خلقها في المشرق فيدخل عليهم منها اللهب والشّرر والدّخان وفورة الحميم الى يوم القيامة ثمّ مصيرهم الى الحميم ، ثمّ في النّار يسجرون ، ثمّ قيل لهم : أينما كنتم تشركون من دون الله اى اين إمامكم الّذى اتّخذتموه دون الامام الّذى جعله الله للنّاس إماما (ذلِكُمْ) العذاب (بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) يعنى بالباطل فانّه يستعمل في هذا المعنى (وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) المرح شدّة الفرح وهو مذموم لانّه إسراف في الفرح سواء كان بالحقّ أو بغير الحقّ (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) قد سبق في سورة الزّمر وجه تقييد الدّخول بأبواب جهنّم (خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار بانّ المتكبّر من خرج من طاعة الامام ، وسرّه انّ الخروج من طاعة الامام ليس الّا من الانانيّة ، والانانيّة ورؤية النّفس هو التّكبّر (فَاصْبِرْ) يعنى إذا علمت حال المنافقين الّذين ينافقون بالنّسبة إليك والى علىّ (ع) فاصبر ولا تجزع ولا تحزن (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) لا خلف فيه (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) من العذاب (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) وقد سبق الآية في سورة يونس وسورة الرّعد (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) فانظر الى حالهم ومآلهم من الله وما ورد عليهم من أممهم ، ولينظر قومك الى ما كان منهم حتّى تتسلّى وتصبر على أذى قومك ، ويعلم قومك انّ الرّسول لا يكون الّا بشرا ، ولا يكون حاله سوى حال سائر النّاس (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فانّ الآيات تنزل من الله على وفق الحكم والمصالح فليس لأحد ان يقترح وليس لك ان تسأل ما اقترحوا (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) بالعذاب في الدّنيا أو الآخرة أو بانقضاء الأجل أو بالحساب في القيامة أو بظهور القائم عجّل الله فرجه (قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ) الزّمان والمكان (الْمُبْطِلُونَ اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ) في مقام التّعليل أو مقام تعداد النّعم (لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) أخر كالالبان والجلود والأوبار وغير ذلك (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) بحمل الأحمال على ظهورها ونقلها الى ما تريدون (وَعَلَيْها) في البرّ (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) قد سبق الآية ببعض اجزائها في سورة المؤمنون (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ) الدّالة على علمه وقدرته وحكمته وعنايته ورأفته بخلقه (تُنْكِرُونَ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) اى ارض العالم الكبير حتّى يشاهدوا آثار الأمم الهالكة الماضية ويسمعوا أخبارهم ، أو ارض العالم الصّغير فيعلموا ويجدوا آثار الأمم التّابعة لشهوتهم وغضبهم وشيطنتهم ، أو ارض الاخبار وسير الأمم الماضية ، أو ارض القرآن (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ) اى عن عذابهم (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ما الاولى نافية أو استفهاميّة ، والثّانية موصولة أو موصوفة أو مصدريّة أو استفهاميّة (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ) عطف من قبيل عطف التّفصيل على الإجمال (رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) من دقائق ـ العلوم الحكميّة من الطّبيعيّة والرّياضيّة والإلهيّة ولم يعلموا انّ هذه العلوم ان لم تكن بإذن من الله وخلفائه ولم يكن صاحبها في الطّريق تكون حجابا عظيما وسدّا سديدا عن السّلوك الى الله بل السّلوك الى الله لا يكون الّا بطرح جملة علوم النّفس والخروج من العلوم النّفسانيّة الى الجهل كما قيل : الخروج من الجهل جهل ، والخروج الى الجهل علم ، لانّ النّفس إذا كانت متصوّرة بصور تلك العلوم ظهرت بالانانيّة ، والانانيّة كبرياء النّفس الّتى من اتّصف بها بادر الله

٣١

بالمحاربة ونازع الله ، أعاذنا الله منها ، ولذلك ترى انّ أكثر المعاندين لأهل الحقّ هم المتشبّهون بالعلماء المتصوّر نفوسهم بصور العلوم الحكميّة أو غيرها (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) اى العذاب أو الفعل والقول الّذى كانوا به يستهزؤن (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) عذابنا عند معاينة الموت (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) والمراد بما أشركوا به الأصنام والكواكب ورؤساء الضّلالة الّذين اشركوهم بالأنبياء والأولياء (ع) خصوصا من اشركوه بعلىّ (ع) في الولاية فانّهم حينئذ يرون بطلان الشّركاء (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) لانّ الايمان حين رؤية البأس ليس الّا لخوف الخيال لا لشوق العقل ولذلك كانوا لو زال الخوف لعادوا كما قال تعالى : ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه فلم يك ينفعهم ايمانهم لمّا رأوا بأسنا يعنى انّهم تمكّنوا في الكفر والنّفاق بحيث لا يعقلون منه وكلّما أرادوا ان يخرجوا منه من غمّ أعيدوا فيه لتمكّنهم فيه بحيث لا يزال عنهم (سُنَّتَ اللهِ) سنّ الله عدم قبول التّوبة حين رؤية البأس يعنى عدم قبول التّوبة إذا كان من غمّ وخوف السّنة (الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ) المقام أو الزّمان (الْكافِرُونَ) لانّ المقام مقام ظهور الحقّ وبطلان الباطل.

سورة حم السّجدة

اربع وخمسون آية ، مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) بعد ان كان في المقام العالي مجملا ومجموعا (قُرْآناً) حالكونه قرآنا ومجموعا في المقامات العالية ومجموعا ومضموما فيه الأحكام مع المواعظ والعبر والقصص والعقائد والعلوم (عَرَبِيًّا) يعنى بلغة العرب أو منسوبا الى العرب دون الاعراب من حيث اشتماله على الآداب والأحكام والعلوم (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يعنى هذه الأوصاف للكتاب لقوم يعلمون لا لغيرهم ، أو كونه منسوبا الى العرب لقوم يعلمون اى لقوم خرجوا من جهالاتهم السّاذجة وجهالاتهم المركّبة الّتى هي صور العلوم العاديّة ونقوش الفنون الاصطلاحيّة الى دار العلم الّتى اوّل حريم حرمها مقام الإنصات للإنسان والتّحيّر في طريقه ، وآخر مقاماته نشر العلم في العباد ، أو لقوم يعلمون انّ ذلك الكتاب منزل من الله (بَشِيراً) لمن بقي فيه الفطرة الانسانيّة وتوجّه الى تلك الفطرة (وَنَذِيراً) لمن أدبر عن تلك الفطرة سواء كان بايع كلّ منهما البيعة التّكليفيّة العامّة أو الخاصّة أو لم يبايع (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) عن هذا الكتاب (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) لا يقبلون فانّ السّماع كناية عن القبول والانقياد كما انّه كناية عن ثانى مقامات العلم (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) اى ثقل وهو كناية عن الصّمم (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) بيننا وبينك من حيث ادّعائك للرّسالة حجاب يمنعنا عن ابصار

٣٢

ما تدّعيه يعنى انّ ما تدّعيه ان كان من المعقولات فلا تكن منتظرا لتعقّلنا ، وان كان من المسموعات فلا تنتظر لسماعنا ، وان كان من المبصرات بالبصر أو بالبصيرة فلا تنتظر لأبصارنا للحجاب المانع من الأبصار بيننا وبينك (فَاعْمَلْ) ما شئت في دينك المبتدع (إِنَّنا عامِلُونَ) في ديننا القديم ، أو كان مقصودهم من ذلك تهديده يعنى فاعمل ما شئت بنا فانّنا نعمل ما قدرنا عليه بك (قُلْ) في جواب تهديدهم (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ) لا اقدر (مِثْلُكُمْ) على ما لا يقدر عليه البشر حتّى افعل بكم ما أريد لكن بيني وبينكم فرق وهو انّه (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أو المعنى قل لهم : انّما انا بشر من جنسكم ولست خارجا من جنسكم حتّى لا تكونوا مناسبين لي فيستوحش قلوبكم أو لا تفهموا لساني فينصرف قلوبكم عنّى ، وأدعوكم الى التّوحيد الّذى لا يضرّكم شيئا ان كان لا ينفعكم (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) واخرجوا من اعوجاجكم (وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) اقتصر على نفى إتيان الزّكاة اشعارا بانّ المشرك ليس اشراكه الّا من انانيّته الّتى ينبغي ان تطرح فانّ أصل إتيان الزّكاة هو طرح الانانيّة والإعطاء منه في طاعة الله ، ومن بخل بطرح الانانيّة بخل بإعطاء المال والقوى والجاه ، ولو اعطى لم يكن إعطاؤه إعطاء للزّكوة بل كان ممّن قال الله : كالّذي ينفق ماله رئاء النّاس ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وإبل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء ممّا كسبوا (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) وقد فسّر الإشراك بالاشراك بالولاية ، عن الصّادق (ع) أترى انّ الله عزوجل طلب من المشركين زكوة أموالهم وهم يشركون به حيث يقول : وويل للمشركين الّذين لا يؤتون الزّكاة وهم بالآخرة هم كافرون؟ قيل : جعلت فداك فسّره لي ، فقال : ويل للمشركين الّذين أشركوا بالإمام الاوّل وهم بالأئمّة الآخرين كافرون ، انّما دعا الله العباد الى الايمان به فاذا آمنوا بالله وبرسوله (ص) افترض عليهم الفرائض (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) غير مقطوع أو غير ما يمنّ به عليهم (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ) الّتى هي مقرّ قراركم ومحلّ معاشكم (فِي يَوْمَيْنِ) قد يعبّر عن مراتب العالم باعتبار بالإمام ، وباعتبار بالأشهر ، وباعتبار بالاعوام ، والأرض اسم لكلّ ما كان فيه جهة القبول أظهر وجهة الفاعليّة أخفى ، وجملة عالم الطّبع وعالم المثال هكذا كان حالهما ، والتّعبير عن هذين العالمين بالأرض كثير ، فالمراد بالأرض الأجسام الظّلمانيّة والأجسام النّورانيّة وخلقهما ليس الّا في المرتبة الاخيرة النّازلة الّتى هي عالم الطّبع وفي المرتبة السّابقة عليها اعنى عالم المثال وقد عبّر عنهما باعتبار أمد بقائهما باليومين ، وقد مضى في سورة الأعراف بيان لخلق السّماوات والأرض في ستّة ايّام وقد كان الأرض باعتبار وجودها العينىّ مخلوقة في ذينك اليومين ولكنّها باعتبار وجودها المطلق مخلوقة في ستّة ايّام كالسّماوات ، والسّماوات يعنى سماوات الأرواح باعتبار وجودها العينىّ مخلوقة في اربعة ايّام ، يوم النّفوس الجزئيّة ، ويوم النّفوس الكلّيّة ، ويوم ـ العقول ويوم الأرواح المعبّر عنها بيومين ، يوم المدبّرات ويوم المجرّدات الصّرفة اى النّفوس والعقول بالمعنى الاعمّ وتقدير أقوات الأرض والأرضين ليس الّا في تلك الايّام الّتى هي ايّام السّماوات فانّه ينزّل من السّماء رزقا لكم (وَتَجْعَلُونَ) مع ذلك (لَهُ أَنْداداً) لا يقدرون على شيء ولا يخلقون ولا يرزقون (ذلِكَ) الموصوف (رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) لئلّا تميد بكم ولتوليد الماء من تحتها ولسهولة جريان الماء من تحتها في سفحها (وَبارَكَ فِيها) في الرّواسى أو في الأرض فانّ الرّواسى بحسب التّنزيل منبع بركات الأرض ومحلّ المعادن النّافعة والنّباتات النّافعة الغذائيّة والدّوائيّة ، وبحسب التّأويل لا بركة الّا منها ، والأرض محلّ البركات

٣٣

الكثيرة الّتى منها الإنسان والنّفوس الكاملة الّتى لا بركة الّا منها (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) حالكون الأقوات مساوية لجملة السّائلين بسؤال الحال والاستعداد لا تفاضل فيهم في الأقوات المسؤلة بسؤال الحال وان كان سؤال القال قد يتخلّف المسؤل عنه ويتخلّف السّائلون فيه بحسب الاجابة وعدمها ، أو حالكون الاربعة الايّام سواء للسّائلين فانّ ايّام الآخرة نسبتها الى ما دونها نسبة الحقّ الى الخلق بالنّسبة الرّحمانيّة الّتى لا تفاوت فيها بالنّسبة الى شيء من الأشياء ، وقرئ سواء بالجرّ وبالنّصب وبالرّفع (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) اى قصد الى خلقها وثمّ للتّرتيب في الاخبار لا في الوجود أو في الوجود لكن في العالم الصّغير ، فانّ حدوث سماء الأرواح في العالم الصّغير بعد وجود ارض البدن وقواها وتقدير رزقها (وَهِيَ دُخانٌ) اى حالكون السّماء قبل تماميّة خلقتها كانت بخارا فانّ النّفوس المعبّر عنها بالأرواح مركبها ومادّتها البخار المتولّد من القلب المختلط مع الدّخان المتصاعد الى الدّماغ لتعديله وبعد تعديله ببرودة الدّماغ يتعلّق بل يتّحد معه النّفس الحيوانيّة ثمّ الانسانيّة (فَقالَ) بعد خلق الأرض وتسوية السّماء (لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) الإتيان الى الله وطاعته طوعا حقّ السّماوات ، والإتيان كرها حقّ الأرض ، واعتبر ذلك بأرض وجودك وسماواته فانّ القوى والمدارك الّتى هي سماويّة مطيعة للنّفس بالطّوع والفطرة بحيث لا يتخلّف طاعتها عن امر النّفس والبدن الّذى هو ارض وجودك وأعضائه طاعتها للنّفس ليست الّا بخلاف فطرتها ، لكن إذا تبدّل الأرض غير الأرض وصار ارض البدن الطّبيعىّ مغلوبة لارض البدن المثالىّ بحيث لا يبقى حكم الطّبيعىّ وكان الحكم للمثالىّ كان إتيانه الى الله وطاعته للنّفس طوعا كالمثالىّ (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) بعد ما صارت الأرض مغلوبة للسّماوات ، وانّما أتى بجمع العقلاء الذّكور لانّ هذا الخطاب ليس الّا للعقلاء فلمّا خوطبن بخطاب العقلاء أتى لهنّ بجمع العقلاء الذّكور (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) كناية عن المراتب السّبع السّماويّة الانسانيّة أو عن اللّطائف السّبع القلبيّة (فِي يَوْمَيْنِ) يوم الإنشاء ويوم الإبداع أو يوم المدبّرات ويوم المجرّدات وقد ذكر في الاخبار ، وذكر الكبار من العلماء بعض وجوه أخر للايّام السّتة والايّام الاربعة واليومين المخلوق فيهما الأرض والمخلوق فيهما السّماء من أراد فليرجع الى المفصّلات (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) الوحي غلب على إلقاء العلوم بواسطة الملك أو بلا واسطة ، ولمّا كانت العلوم في المجرّدات عين ذواتها غير منفكّة ولا متأخّرة عن ذواتها كان وحيها عبارة عن خلقتها على ذلك والمراد بالأمر الحال والشّغل يعنى اوحى الله في كلّ سماء امر تلك السّماء الى أهلها ولم يقل الى كلّ سماء للاشارة الى انّ المراد بالسّماوات المراتب واوحى في كلّ مرتبة امر تلك المرتبة وما تحتاج اليه من تدبير أهلها وتدبير ـ ما دونها الى أهل تلك المرتبة من الملائكة (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) اى السّماء الطّبيعيّة الّتى هي عبارة عن الفلك المكوكب والأفلاك السّبعة الاخر والسّماء الدّنيا الّتى هي الصّدر المنشرح بالإسلام (بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً) من الشّياطين المسترقين للسّمع وقد سبق في سورة الحجر وكذا في سورة الصّافّات بيان للآية (ذلِكَ) القدر (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) الّذى لا يمنع من مراده (الْعَلِيمِ) الّذى لا يقع قصور في فعله لجهله بعاقبته (فَإِنْ أَعْرَضُوا) عنك أو عن الايمان بالله بعد ما بيّنت لهم حجّة صدقك وحجّة آلهة الله وتدبيره لكلّ الأمور (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ) بالكنايات السّابقة أو أنذرتكم بالتّهديدات الّتى هدّدتكم بها أو أنذركم بهذا الكلام (صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) يعنى في زمانهم (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) يعنى قبل زمانهم أو جاءتهم الرّسل بالمواعظ من جهة دنياهم وآخرتهم ، أو حفّوا بهم من جميع جوانبهم ، أو من بين أيديهم يعنى الرّسل الظّاهرة ومن خلفهم

٣٤

اى الرّسل الباطنة ، أو بالعكس (أَلَّا تَعْبُدُوا) ان تفسيريّة ولا ناهية أو مصدريّة ولا ناهية أو نافية (إِلَّا اللهَ قالُوا) في جواب الرّسل (لَوْ شاءَ رَبُّنا) إرسال رسول إلينا (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) مناسبة له تعالى خارجة من جنسنا (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) على زعمكم (كافِرُونَ) لانّكم بشر مثلنا لا مزيّة لكم علينا حتّى نطيعكم بذلك ونقبل منكم (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) اغترّوا بقوّتهم لانّ الرّجل منهم يقلع الصّخرة بيده (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) اى يعرفونها ثمّ ينكرونها (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) باردا (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) ميشومات (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) حين ابتلائهم بالعذاب وخروج أرواحهم بتلك الرّيح (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) لانّ عذاب الدّنيا وان كان اشدّ ما يكون لا يكون الّا عشرا من أعشار عذاب الآخرة (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) اى أريناهم طريق النّجاة والهلاك بإرسال الرّسل وإنزال الكتب وخلقهم على فطرة الاهتداء وصورة ـ الإنسان الّتى هي طريق الى الرّحمن (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) بان تنزّلوا عن مقام الانسانيّة وتركوا الفطرة وأخذوا البهيميّة والسّبعيّة والشّيطانيّة وتركوا ما في الكتب ونبذوها وراء ظهورهم واستهزؤا بالرّسل وأخذوهم أعداء (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ) عطف على صاعقة في أنذرتكم صاعقة أو على إذ جاءتهم الرّسل على ان يكون إذ بدلا من صاعقة عاد أو عطف على قل أنذرتكم بتقدير اذكر ، أو عطف على محذوف والتّقدير نجّينا الّذين آمنوا في الدّنيا ويوم يحشر أعداء الله (إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) وزعه كفّه والمعنى يحبسون ليتلاحقوا (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) عن القمّىّ ، انّ الآية نزلت في قوم تعرض عليهم أعمالهم فينكرونها فيقولون : ما عملنا شيئا منها ، فيشهد عليهم الملائكة الّذين كتبوا أعمالهم ، قال الصّادق (ع) فيقولون لله : يا ربّ هؤلاء ملائكتك يشهدون لك ثمّ يحلفون بالله ما فعلوا من ذلك شيئا وهو قول الله عزوجل (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) وهم الّذين غصبوا أمير المؤمنين فعند ذلك يختم الله تعالى على ألسنتهم وينطق جوارحهم فيشهد السّمع بما سمع ممّا حرّم الله ، ويشهد البصر بما نظر الى ما حرّم الله عزوجل ، وتشهد اليدان بما أخذتا ، وتشهد الرّجلان بما سعتا فيما حرّم الله عزوجل ، ويشهد الفرج بما ارتكب ممّا حرّم الله ، ثمّ ينطلق الله عزوجل ألسنتهم فيقولون هم لجلودهم : لم شهدتم علينا (الآية) (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ) من ان يشهد (عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) والمراد بالجلود كما في اخبار كثيرة الفروج (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ) يعنى انّكم كنتم لا تخفون عن حضور جوارحكم ولكن تجرّأتم على المعاصي لظنّكم (أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ) من غير حقيقة (أَرْداكُمْ) ظنّكم خبر ذلكم أو بدله وأرديكم خبره أو خبره أو خبر بعد خبر أو مستأنف أو حال بتقدير قد (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) لضياع بضاعتكم الّتى هي أمد أعماركم وشهادة ما كان لكم عليكم ، عن الصّادق (ع) انّه قال ، قال رسول الله (ص): انّ آخر عبد يؤمر به الى النّار فاذا امر به التفت فيقول الجبّار جلّ جلاله : ردّوه ، فيردّونه فيقول له : لم التفتّ الىّ؟ فيقول : يا ربّ لم يكن ظنّى بك هذا! فيقول : ما كان ظنّك بى؟ فيقول :

٣٥

يا ربّ كان ظنّى بك ان تغفر لي خطيئتي وتسكنني جنّتك ، قال : فيقول الجبّار : يا ملائكتى لا وعزّتى وجلالي وآلائي وعلوّى وارتفاع مكاني ما ظنّ بى عبدي هذا ساعة من خير قطّ ولو ظنّ بى ساعة من خير ما روّعته بالنّار ، أجيزوا له كذبه وأدخلوه الجنّة ، ثمّ قال رسول الله (ص) : ليس من عبد يظنّ بالله عزوجل خيرا الّا كان عند ظنّه به وذلك قوله عزوجل (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) يعنى سواء عليهم صبروا أو جزعوا أو سألوا الرّاحة والرّضا (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) يسترضوا (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) من المعطون للرّضا (وَقَيَّضْنا) عطف على نجّينا والمعنى انّا قدّرنا وسبّبنا (لَهُمْ) في الدّنيا (قُرَناءَ) يعنى شياطين الانس والجنّ (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) قد مضى مكرّرا انّ ما بين أيديهم فسّر بالدّنيا وبالآخرة وكذا قوله تعالى (وَما خَلْفَهُمْ) يعنى انّ القرناء زيّنوا لهم الشّهوات ومقتضى السّبعيّة والشّيطانيّة وزيّنوا لهم ما ظنّوه وقالوا في امر الآخرة من الرّدّ والإنكار ، أو بان قالوا ان رددنا الى ربّنا لكان لنا خيرا منها منقلبا (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) بسوء أعمالهم وأقوالهم وأحوالهم (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) من الأمم الفاجرة (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) اى مطلق القرآن أو قرآن ولاية علىّ (ع) (وَالْغَوْا فِيهِ) لغي في قوله كسعى ودعا ورضى اخطأ والمقصود اقرأوه مغلوطا مخلوطا بغيره أو ادخلوا على قرّائه ما ليس منه أو عارضوه بالباطل واللّغو (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) قرّاءه أو تغلبون محمّدا (ص) (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) بإزاء جميع أعمالهم حسناتها وسيّئاتها كبائرها وصغائرها (أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) نفس أسوء أعمالهم أو جزاء أسوء أعمالهم على تجسّم الأعمال وجزائها بالجزاء الاخروىّ ، وقد مرّ بيان جزاء الأعمال للمؤمن بأحسن اعماله وبيان معاني هذه العبارة في سورة التّوبة (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) كثرة وجوه اعراب الآية لا تخفى على العارف بقوانين الاعراب (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أتى بالماضي لتحقّق وقوعه ، أو لكونه ماضيا بالنّسبة الى من خوطب به (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) قد فسّر المضلّان من الجنّ والانس بإبليس الّذى عصى الله اوّل ما عصى وبقابيل من آدم (ع) وبإبليس الّذى دخل في شوريهم في دار النّدوة وفي غيرها فأضلّهم عن الحقّ (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) انتقاما منهما (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) من حيث المذلّة والمكان (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هذا حال ـ الكافرين والمنافقين ، فما حال المؤمنين بالولاية والمقرّين بالخلافة؟ فقال : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) انّما قال : قالوا ربّنا ، دون علموا وأيقنوا وشاهدوا لانّه اشارة الى الإسلام والبيعة العامّة النّبويّة وبالإسلام ، وبتلك البيعة لا يحصل الّا الإقرار بانّ الله ربّ ولو حصل اعتقاد بذلك كان ذلك الاعتقاد من علوم النّفس المنفكّة عن معلوماتها المعبّر عنها بالظّنون كما أشرنا اليه في مطاوى ما سلف ، وقد ورد في الاخبار انّ الإسلام إقرار باللّسان دون الايمان (ثُمَّ اسْتَقامُوا) اى اعتدلوا ، والاعتدال الاضافىّ لا يحصل الّا بالبيعة الايمانيّة الولويّة الخاصّة كما انّ الاعتدال الحقيقىّ الّذى هو عبارة عن الخروج من الاعوجاج في جميع المراتب لا يحصل الّا بتلك البيعة والعمل بشروطها فان أريد بالاعتدال الاعتدال الاضافىّ كان المراد بالمعتدلين مطلق من بايع البيعتين ودخل في امر الائمّة ، ودخل الايمان في قلبه كما ورد في الاخبار تفسيرهم بشيعتهم ان أريد الاعتدال الحقيقىّ كان المراد الأنبياء والأولياء (ع) كما فسّروا بالأئمّة وإذا أريد الشّيعة من المستقيمين كان نزول الملائكة على بعضهم في مطلق الحيوة الدّنيا وعلى بعضهم خاصّا بوقت الاحتضار وكان معنى قوله : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ

٣٦

الدُّنْيا) بالنّسبة الى من كان نزول الملائكة عليه خاصّا بوقت الاحتضار انّا كنّا في الحيوة الدّنيا اولياؤكم كنّا نحرسكم ونحفظكم ونثبّتكم على الخير ، وبالنّسبة الى من تنزّل الملائكة عليه مطلقا فالمعنى ظاهر ، وعن الصّادق (ع) انّه قال : استقاموا على الائمّة (ع) واحدا بعد واحد ، وعن الرّضا (ع) انّه سئل : ما الاستقامة؟ ـ قال : هي والله ما أنتم عليه (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) في الدّنيا بالنّسبة الى الأنبياء والأولياء (ع) وبعض الاتباع ، وفي آخر الحيوة الدّنيا بالنّسبة الى بعض الاتباع (أَلَّا تَخافُوا) ان تفسيريّة ولا ناهية أو مصدريّة ولا ناهية أو نافية اى مخاطبين بان لا تخافوا (وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بواسطة الأنبياء (ع) (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) قد مضى بيانه آنفا (وَفِي الْآخِرَةِ) يعنى من اوّل مقامات البرزخ الى الأعراف ومن الأعراف الى الجنّة وبعد الدّخول في الجنّة الى الأبد (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) اى ذواتكم أو ما تشتهي أنفسكم الّتى هي مقابل عقولكم لانّ العقول تشتاق الى الرّبّ ، والاشتهاء خاصّ بالنّفوس يعنى انّكم منعتم نفوسكم عن مشتهياتها في الدّنيا فتفضّل الله عليكم في الآخرة بتهيّؤ ما تشتهي أنفسكم لها (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) تطلبون سواء كان باقتضاء نفوسكم أو باشتياق عقولكم (نُزُلاً) حالكون ما تشتهي نفوسكم وما تدّعون مهيّأ لكم لتشريف نزولكم (مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) عن الصّادق (ع) قال : ما يموت موال لنا مبغض لأعدائنا الّا ويحضره رسول الله (ص) وأمير المؤمنين والحسن (ع) والحسين (ع) فيرونه ويبشّرونه ، وان كان غير موال يراهم بحيث يسوءه ، والدّليل على ذلك قول أمير المؤمنين (ع) لحارث الهمدانىّ :

يا حار همدان من يمت يرنى

من مؤمن أو منافق قبلا

وفي تفسير الامام (ع) عند قوله تعالى : (يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) من سورة البقرة ، قال رسول الله (ص) : لا يزال المؤمن خائفا من سوء العاقبة ولا يتيقّن الوصول الى رضوان الله حتّى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له ، وذلك انّ ملك الموت يرد على المؤمن وهو في شدّة علّته وعظيم ضيق صدره بما يخلّفه من أمواله وبما هو عليه من اضطراب أحواله من معامليه وعياله قد بقيت في نفسه حسراتها واقتطع دون امانيّه فلم ينلها ، فيقول له ملك الموت : مالك تجرّع غصصك؟ (١) قال لاضطراب أحوالي واقتطاعك لي دون آمالى! ـ فيقول له ملك الموت : وهل يحزن عاقل من فقد درهم زائف واعتياض الف الف ضعف الدّنيا؟ فيقول : لا ، فيقول ملك الموت ، فانظر فوقك ، فينظر فيرى درجات الجنان وقصورها الّتى يقصر دونها الامانىّ ، فيقول ملك الموت : تلك منازلك ونعمك وأموالك وأهلك وعيالك ومن كان من أهلك هاهنا وذرّيّتك صالحا فهم هنالك معك ، أفترضى بهم بدلا ممّا هاهنا؟ فيقول : بلى والله ، ثمّ يقول : انظر ، فينظر فيرى محمّدا (ص) وعليّا (ع) والطّيّبين من آلهما في أعلى عليّين ، فيقول : أو تريهم؟! هؤلاء ساداتك وائمّتك هم هناك جلّاسك وانّاسك ، أفما ترضى بهم بدلا ممّا تفارق هنا؟ ـ فيقول : بلى وربّى ، فذلك ما قال الله عزوجل : انّ الّذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة الّا تخافوا ولا تحزنوا فما أمامكم من الأحوال فقد كفيتموها ولا تحزنوا على ما تخلّفونه من الذّرارى والعيال فهذا الّذى شاهدتموه في الجنان بدل منهم وأبشروا بالجنّة الّتى كنتم توعدون وهذه منازلكم وهؤلاء ساداتكم أنّاسكم وجلّاسكم (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) يعنى ممّن دعا الى الله في مملكة وجوده أعوانه وجنوده إذا لم يكن من أهل دعوة غيره الى الله أو ممّن دعا أهل العالم الكبير إذا كان نبيّا أو خليفته (ع) والجملة معطوفة على جملة انّ الّذين قالوا باعتبار المعنى فانّه في معنى لا أحسن قولا أو حاليّة بهذا الاعتبار أو بتقدير القول وعلى اىّ تقدير فهي في معنى التّعليل (وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ

__________________

(١) ـ غصص بالطعام والماء اعترض في حلقه فمنعه التنفس.

٣٧

إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)يعنى لا أحسن قولا ممّن دعا بأفعاله وأقواله وأحواله وأخلاقه الى الله وعمل صالحا بأركانه اى صالحا عظيما هو الولاية الحاصلة بالبيعة الخاصّة أو نفس البيعة الخاصّة فانّه لا يراد به فرد من الصّالح لدلالته حينئذ على انّ من دعا الى الله وعمل صالحا ما ، وان كان ترك جملة الصّالحات يكون أحسن قولا من جميع الخلق ، فانّ هذه العبارة قد مرّ مرارا انّها تستعمل في هذا المعنى وان كان مفهومها اعمّ ، أو المراد فرد ما من الصّالح والمقصود انّ من بايع البيعة الخاصّة ودخل الايمان في قلبه وأظهر اثر تلك البيعة على أعضائه من دعائه الى الله بحاله وقاله ومن عمله بأركانه صالحا ما من الصّالحات وأظهر اثر تسليمه على لسانه بان يقول : انّنى من المسلمين فانّه قد يؤتى بهذه العبارة عند المبالغة في امر الولاية كما ورد انّ الله فرض على خلقه خمسا ، فرخّص في اربع ولم يرخّص في واحدة أشار الى الولاية ، وهذا من باب المبالغة في امر الولاية ، وأمثال هذا الخبر للمبالغة في الولاية عنهم كثيرة ، وللاشارة الى انّه يلزم ظهور اثر التّسليم على اللّسان قال تعالى : وقال انّنى من المسلمين ولم يقل وكان من المسلمين وكما انّ الآية السّابقة كانت في علىّ (ع) وشيعته من غير اختصاص لها بعلىّ (ع) أو بالأئمّة (ع) كذلك هذه الآية لا اختصاص لها بعلىّ (ع) والائمّة (ع) بل تجري في شيعتهم كما ذكرنا (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) تمهيد لما يأتى وتعليل لما مضى والاعتقاد بعدم استواء الحسنة والسّيّئة من الفطريّات فمن اختار عليه غيره ممّن اطّلع عليهما كان خارجا من الفطرة (ادْفَعْ) سيّئة من أساء إليك «ب» الفعلة (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وقد مضى بيان هذه الآية في سورة المؤمنون (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) اى محبّ قريبّ في النّسب وقد فسّر في الخبر الحسنة بالتّقيّة والسّيّئة بالإذاعة وهو وجه من وجوه الآية ، ويجوز ان يفسّر الّتى هي أحسن بالولاية اى ادفع سيّئات نفسك وسيّئات غيرك بتذكّر جهة الولاية أو قبول الولاية أو بتذكيرهم بالولاية ولعلّ التّعبير عن الاساءة بالسّيّئة كان لهذا الوجه (وَما يُلَقَّاها) اى هذه السّجيّة والخصلة الّتى هي دفع الاساءة بالحسنة (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) لانّ النّفس في جبلّتها هيجان الغضب عند ورود ما لا يلائم ، والغضب اقتضاؤه الدّفع بأشدّ ما يمكن فمن لا يمكن له حبس النّفس عن هيجان غضبها لا يدرك من هذه الخصلة شيئا (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) من كمالات الإنسان وقد قيل بالفارسيّة : «نيكى را نيكى خر خارى ، بدى را بدى سگ سارى ، بدى را نيكى كار عبد الله أنصاري» والخطاب عامّ أو خاصّ بمحمّد (ص) مع التّعريض بامّته (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ) نزغه كمنعه طعن فيه واغتابه ووسوس وبينهم أفسدوا غرى (مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) مصدر بمعنى الفاعل أو من قبيل جدّ جدّه يعنى ان يوسوسك من قبل الشّيطان موسوس أو يطعن فيك طاعن أو يدفعك دافع حال أرادتك الإحسان الى المسيء (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) من نزغه فانّه يعيذك (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لاستعاذتك (الْعَلِيمُ) باستجارتك ، أو فاستعذ بالله من طاعته فانّه السّميع لاقتصاصك القولىّ ، العليم لاقتصاصك الفعلىّ فيؤاخذ عليه.

سجدة واجبة

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ) عطف باعتبار المعنى كأنّه توهّم متوهّم انّه قال : من آياته من دعا الى الله ومن آياته عدم استواء الحسنة والسّيّئة فقال تعالى : ومن آياته اللّيل والنّهار (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) قد مضى مكرّرا انّ في انتضاد اللّيل والنّهار الطّبيعيّين واتّساق حركة الشّمس والقمر وتخالف اللّيل والنّهار بالظّلمة والنّور والبرودة والرّطوبة والحرارة واليبوسة والاتّساق في الزّيادة والنّقيصة وغير ذلك من لوازم ذلك الّذى نيط بها توليد المواليد وبقاؤها وتعيّشها آيات عديدة دالّة على علمه وقدرته وربوبيّته ورأفته بخلقه وغير ذلك من إضافاته (لا تَسْجُدُوا) تفريع على سابقه لكنّه ادّاه بطريق الجواب لسؤال مقدّر ليتمكّن حال الشّمس والقمر في ذهن السّامع (لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) لكونهما من آياته تعالى ولا يخفى

٣٨

على المستبصر تعميم اللّيل والنّهار والشّمس والقمر (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) أتى بالجمع امّا لكون المراد بالشّمس والقمر الجنس وتعدّد افرادهما وعمومهما كما عليه حكماء الافرنج ، ويستفاد من تلويحات الاخبار ، أو للاشارة الى التّأويل وكثرة الشّمس والقمر بحسب التّأويل فانّ النّبىّ (ص) وخليفته يعبّر عنهما بالشّمس والقمر وكذلك خلفاؤهما ومشايخهما والعقل والنّفس يطلق عليهما الشّمس والقمر ، والعقل الكلّىّ والنّفس الكلّيّة شمس وقمر ، وكلّ معلّم ومتعلّم شمس وقمر ، وفي عالم البرزخ وعالم المثال شموس وأقمار (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) يعنى ان كنتم تحصرون العبادة فيه ، فانّ النّظر على الواسطة وجعله مسمّى مع انّه كان اسما امّا كفر أو شرك ، والنّظر على ذي الواسطة من مرآة الواسطة عبادة للمسمّى بإيقاع الأسماء عليه وتوحيد لذاته ولعبادته ، وهاهنا أحد مواضع السّجود الفرض الاربعة (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) صرف الخطاب عنهم الى نبيّه (ص) لانّ النّهى والأمر كانا للمشركين بالاشراك الصّورىّ الّذين كانوا يعبدون الشّمس والقمر ، أو للمشركين بالاشراك المعنوىّ الّذين كانوا يعبدون النّفس واهويتها ، أو الّذين كانوا يرون النّبىّ (ص) أو خليفته (ع) منفكّا عن الله تعالى ، أو الّذين كانوا يعبدون الملائكة وكانوا يرونهم غير الله ، وكان المناسب ان يكون الخطاب لهم حتّى يكون سببا لنشاطهم في الاستماع ، وهذا تسلية له (ص) عن حزنه على استكبارهم (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) من الملائكة المقرّبين الّذين لهم مقام العنديّة بالنّسبة اليه تعالى ومن الاناسىّ الكاملين الّذين حصل لهم مقام العنديّة (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) الإتيان باللّيل والنّهار قيدا لتسبيحهم دليل على ارادة الكمّلين من الاناسىّ (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) كناية عن يبسه وقراره (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) اهتزاز الأرض بهيجان حبوبها وعروقها لنبت النّبات وورق الأشجار (وَرَبَتْ) بالنّبات (إِنَّ الَّذِي أَحْياها) بالنّبات بعد موتها عن النّبات (لَمُحْيِ الْمَوْتى) بالحيوة الشّريفة الانسانيّة بعد موتهم عن الحيوة الحيوانيّة بل عن الحيوة البشريّة عند النّفخة الاولى (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من الاماتة والأحياء وغير ذلك (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما لمن يرى تلك الآيات وينصرف عنها بل يصرفها عن وجهها بالتّحريف والتّأويل واللّغو فيها والطّعن والرّدّ والاستهزاء بها؟ ـ فقال : انّ الّذين يميلون عن الاستقامة في الآيات (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ) في مقام فيلقون في النّار لكنّه أتى بتلك العبارة اشارة الى هذا المعنى مع شيء آخر (خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وعيد شديد (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) جملة لا يخفون خبر أو حال أو مستأنفة وجملة أفمن يلقى خبر أو خبر بعد خبر أو حال أو مستأنفة والكلّ بتقدير القول وجملة اعملوا خبر أو خبر بعد خبر أو حال أو مستأنفة والكلّ بتقدير القول وانّ الّذين كفروا تأكيد لقوله انّ الّذين يلحدون وخبر انّ محذوف بقرينة خبر انّ الاولى أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر والخبر محذوف بقرينة السّابق اى لا يخفون أو هم الّذين يلحدون أو الخبر قوله تعالى أولئك ينادون من مكان بعيد (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) مكرّم (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) اى من بعده بإتيان رسول وكتاب ينسخه أو من قبله بان يبطله الكتب الماضية مثل التّوراة والإنجيل (وَلا مِنْ خَلْفِهِ) بالوجهين (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) في مقام التّعليل لعدم البطلان سواء كان خبر مبتدء محذوف والجملة مستأنفة أو حالا أو كان خبرا بعد خبر (ما يُقالُ لَكَ) جواب سؤال مقدّر كأنّ محمّدا (ص) قال : ما افعل بهم وبما يقولون

٣٩

في حقّى أو في حقّ علىّ (ع)؟ ـ فقال تعالى تسلية له : ما يقال لك (إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) فيغفر لهم كثير أقوالهم ولا يؤاخذهم بما يقولون فتأسّ بهم واغفر لهم (وَذُو عِقابٍ) فيؤاخذهم بمعاصيهم فلا تعجل لمؤاخذتهم (أَلِيمٍ وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) كأنّهم قالوا بينهم أو لمحمّد (ص) : لو كان من عند الله لكان بلسان مغاير للسان البشر ، وقد قيل : انّه جواب لقولهم هلّا نزل هذا القرآن بلغة العجم؟ (لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) يعنى لو لا نزلت بلغتنا حتّى نفهمه؟ (ءَ أَعْجَمِيٌ) يعنى لقالواءاعجمىّ؟ (وَ) المخاطب ، أو المنزل عليه (عَرَبِيٌ) والاعجمىّ هو الّذى لا يفهم كلامه ، ويقال لكلامه أيضا أعجميّ وقرئ أعجميّ بفتح العين وهمزة واحدة (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ) من حيث سماع المعنى والاعراض منه (وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) غير مفهوم لهم يقول للكلام الّذى لا يفهم معناه عمى ومعمّى (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) يعنى هذه الفرقة ينادون بهذا الكتاب من مكان بعيد لا يصل النّداء إليهم لانّ الكتاب نزل من مقام عال الى صدر منشرح بالإسلام وهؤلاء في غاية البعد من مقام الصدر المنشرح بالإسلام لو غولهم في البهيميّة والسّبعيّة والشّيطنة (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) بالرّدّ والقبول والعمل فيه وترك العمل والعمل ببعضه وترك بعضه كما اختلف قومك في كتابك (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بالامهال الى مدّة معيّنة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) اى بين المختلفين من قوم موسى (ع) أو بين قومك (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من القرآن أو من كتاب موسى (ع) (مُرِيبٍ مَنْ عَمِلَ صالِحاً) اىّ صالح كان ، أو صالحا عظيما هو الولاية والبيعة الخاصّة (فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ) اى عمل سيّئة (فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) اى بذي ظلم يعنى لا يفعل بهم ما لا يستحقّونه.

الجزء الخامس والعشرون

بقية السورة حم السجدة (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) قد فسّر السّاعة بحين الموت وبالقيامة وبظهور القائم (ع) والكلّ واحد على التّحقيق وعلم ذلك مختصّ به تعالى وامّا قولهم (ع): عندنا علم البلايا والمنايا ، فهم في ذلك إلهيّون لا بشريّون (وَما تَخْرُجُ) ما موصولة معطوفة على علم السّاعة أو نافية والجملة معطوفة على جملة اليه يردّ علم السّاعة (مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها) جمع الكمّ بالكسر وهو أو الكمامة وعاء الطّلع وغطاء النّور (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) وعلم من يعلم ذلك من افراد البشر من علمه تعالى (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) متعلّق بمحذوف اى اذكر أو ذكّرهم أو متعلّق بقالوا (أَيْنَ شُرَكائِي) الّذين جعلتموهم شركائى في الوجوب أو في العبادة أو في الطّاعة أو أين شركائى بحسب مظاهري وخلفائي من مقابلي علىّ (ع) (قالُوا آذَنَّاكَ) أعلمناك بضلالهم عنّا أو ببراءتنا منهم أو قوله تعالى (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) مفعولاه معلّق عنهما العامل والمعنى ما منّا شاهد يشهد لهم بالشّراكة ، أو ما منّا أحد يشاهدهم لضلالهم عنّا ، أو أنكروا اشراكهم وقالوا : ما كان أحد منّا يشهد بشركهم في الدّنيا (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) من الأصنام والكواكب وائمّة الضّلال ومطلق الرّؤساء (وَظَنُّوا) اى أيقنوا (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) مهرب (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ) الجملة منقطعة عن سابقها لفظا ومعنى ، أو جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : لم ظنّوا ذلك؟

٤٠