تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٤

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٤

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩١

في الميزان ، ولانّ أكثر المعاملات كانت بالمكيال مثل هذا الزّمان في بعض البلدان (وَإِذا كالُوهُمْ) اى كالوا لهم من أجناسهم ، وامّا جعل الضّمير تأكيدا للمرفوع فبعيد لفظا ومعنى لعدم إثبات الالف في الخطّ وعدم كون المقصود كالوا بأنفسهم ولكون المقصود كالوا أجناسهم للنّاس بقرينة المقابلة (أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) في الإتيان بالاكتيال والكيل في القرينتين اشعار بتعمّلهم في الكيل حين الاكتيال على النّاس والمسامحة في الكيل حين الكيل للنّاس ، قيل : لمّا قدم رسول الله (ص) المدينة كانوا من أخبث النّاس في الكيل والوزن فانزل الله عزوجل : ويل للمطفّفين ، فأحسنوا الكيل بعد ذلك ، وقيل : الصّلوة مكيال فمن وفي لله وفي الله له ، ومن طفّف فقد سمعتم ما قال الله في المطفّفين (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) استفهام للتّعجيب (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ كَلَّا) ردع عن عدم ظنّ البعث (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) قدّم بيان أحوال الفجّار لفي سجّين لانّ الكلام فيهم ولان يختم الآية بالابرار وأحوالهم ، والسّجين الدّائم والشّديد وهو مبالغة في السّجن فانّه عبارة عن الملكوت السّفلى الّتى هي دار الجنّة والشّياطين وفيها الجحيم ونيرانها وعقاربها وحيّاتها ، وهي والملكوت العليا مكتنفتان بالإنسان ، فان كان اعماله من حيث انقياده تحت حكم العالم وتقليده له كان كلّما عمل منها حصل له منها صورة في نفسه من حيث جهتها العليا وكان يكتب الكتبة اعماله في الكتب الّتى هي من العالم العلوىّ ويعبّر عنه بالعلّيّين مبالغة في العلوّ ، وان لم يكن بتقليد العالم كان كلّما عمل من الأعمال حصل له منها صورة في نفسه من حيث جهتها السّفلى وكان يكتب الكتبة اعماله في الكتب الّتى هي من العالم السّفلى ويعبّر عنه بالسّجّين مبالغة في السّجن فانّه أضيق سجن للنّفوس الانسانيّة ، ولمّا كان كلّ عالم كتابا من الحقّ تعالى مرقوما بصوره ونفوسه على صفحات موادّ ذلك العالم فسّر السّجّين بقوله كتاب (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) تفخيم وتهويل لشأن ذلك العالم (كِتابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) من ذلك السّجن السّجّين (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ) متجاوز عن الحقّ الّذى هو طريق القلب وهو طريق الولاية (أَثِيمٍ) بالغ في الإثم فانّ يوم الدّين ان كان الإنسان ناظرا الى وجوده وأطوار وجوده كان مشهودا له لم يكن له حاجة الى الآخرة وامّا المتجاوز عن طريق القلب التّابع لاهوية نفسه فهو أعمى من مشهوداته الّتى لا حاجة له الى تعمّل في النّظر إليها ، فكيف بما كان محتاجا الى التّعمّل في النّظر اليه! (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) التّدوينيّة في بيان الأحكام الشّرعيّة ، أو في المواعظ والنّصائح ، أو في بيان آياتنا التّكوينيّة الحاصلة في الآفاق أو الأنفس وخصوصا الآيات العظمى الّذين هم الأنبياء والأوصياء (ع) ، أو في بيان آيتنا العظمى الّذى هو علىّ (ع) وولايته (قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا) ردع له عن هذا القول (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) اى ليس آياتنا من الأساطير بل ران ، والرّين الطّبع والدّنس ، وران ذنبه على قلبه غلب (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) فانّ ما كانوا يكسبون لم يكن الّا فعليّة جهة النّفس السّفلى وهي ختم لجهتها العليا وكدرة لها وسدّ لروزنتها الى الملكوت العليا ، وروى عن الباقر (ع): ما من عبد مؤمن الّا وفي قلبه نكتة بيضاء فاذا أذنب ذنبا خرج في تلك النّكتة نكتة سوداء ، فان تاب ذهب ذلك السّواد وان تمارى في الذّنوب زاد ذلك السّواد حتّى يغطّى البياض ، فاذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه الى خير أبدا وهو قول الله عزوجل : بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون (كَلَّا) ردع لهم عن توقّع الخير وشهود جماله تعالى في الآخرة (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) عن الكاظم (ع) قال يعنى أمير المؤمنين (ع) قيل : تنزيل؟ ـ قال : نعم ، وعلى

٢٤١

هذا فالمعنى انّهم عن علىّ (ع) لمحجوبون ثمّ يقال : هذا علىّ (ع) الّذى كنتم به تكذّبون (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) قد مضى بيانه عند قوله كتاب الفجّار لفي سجّين (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) من الملائكة فانّ عالم المثال العلوىّ مشهود لجميع الملائكة المقرّبين ، أو من الأنبياء والمرسلين (ع) والأولياء المقرّبين فانّهم بانظارهم الملكوتيّة يشهدون اعمال الخلائق وصحائف أعمالهم (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) جواب لسؤال مقدّر (عَلَى الْأَرائِكِ) جمع الاريكة السّرير في حجلة وكلّ ما يتّكأ عليه من سرير ومنصّة وفراش أو سرير منجّد مزيّن في قبّة أو بيت (يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) الرّحيق الخمر أو أطيبها أو أفضلها أو الخالص أو الصّافى ، وضرب من الطيّب (مَخْتُومٍ) مطبوع بحيث لا يمسّه يد غير يد ساقيه (خِتامُهُ) اى الطّين الّذى يختم به (مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) اى فليرغب الرّاغبون أو فليتنازع المتنازعون لا في مثل مهويّات الأنفس الفانيات الزّائلات المستعقبات للحسرة والنّدامة (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) علم لعين في الجنّة من ارفع عيون الجنّة ، أو شرابها من أعلى أقسام شراب الجنّة ، أو تأتى أهل الجنّة من فوقهم ولذلك سمّيت بتسنيم (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا) اى منها (الْمُقَرَّبُونَ) خالصة يعنى انّ المقرّبين يشربون منها خالصة غير ممزوجة وامّا غير المقرّبين فيشربون منها ممزوجة ، أو هو كناية عن كون الأبرار كلّهم مقرّبين (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) جواب لسؤال مقدّر (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) اى يشير بعضهم الى بعض بالأعين والحواجب استهزاء ، ورد من طريق العامّة والخاصّة : انّ الآية نزلت في علىّ (ع) ومنافقي قريش (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) الفكه المتلذّذ باغتياب النّاس واعراضهم وبالسّخريّة منهم (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) حيث رأوهم غير متنعّمين في الدّنيا ثابتين على ما هم عليه من ولاية علىّ (ع) مع كمال الضّيق ورثاثة الحال (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) لاعمالهم أو حافظين لهم عن الضّلال حتّى ينكروا عليهم ما رأوه منهم مخالفا لما هم عليه (فَالْيَوْمَ) اى يوم القيامة سواء جعل اللّام للعهد الحضورىّ فانّ يوم القيامة مشهود لله وللرّسول المخاطب (ص) ، أو للعهد الذّهنىّ أو للعهد الذّكرىّ فانّه مذكور بالالتزام عند قوله : انّ الأبرار لفي نعيم (الَّذِينَ آمَنُوا) يعنى عليّا (ع) واتباعه على ما سبق من تفسير الآيات (مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) قيل انّه يفتح للكفّار باب الى الجنّة ويقال لهم : اخرجوا إليها فاذا وصلوا إليها أغلق دونهم ، يفعل ذلك بهم مرارا فيضحك منهم المؤمنون ، وقيل : يضحكون لمّا رأوا الكفّار في العذاب وأنفسهم في النّعيم ، ويجوز ان يقال : انّ المؤمنين في الجنّة مسرورون من قبل الكافرين ، لانّهم كانوا في الدّنيا يصبرون على أذاهم واستهزائهم فصار ذلك سببا لتنعّمهم في الجنّة وسرورهم فيها لا انّهم ينظرون إليهم ويتعجّبون من عذابهم ويضحكون منه لانّ ذلك يستلزم الحقد وتشفّى النّفس ، والمؤمنون مطهّرون منهما في الجنّة (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) تكرار لسابقه وهو ممدوح في مقام المدح (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) يعنى هل جوزي الكفّار عين ما كانوا يفعلون ، على تجسّم الأعمال ، أو جزاء ما كانوا يفعلون ، والجملة حاليّة أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول اى على الأرائك ينظرون حالكونهم يقال لهم : هل ثوّب الكفّار ما كانوا يفعلون ، أو مستأنفة منقطعة عن سابقها من دون كونها جوابا لسؤال

٢٤٢

مقدّر بل تكون ابتداء خطاب مع محمّد (ص) كأنّه قال بعد ما ذكر جزاءهم : هل يثوّب الكفّار ما كانوا يفعلون؟ والإتيان بالماضي لتحقّق وقوعه ، أو لانّ محمّدا (ص) كان مجازاة أهل النّار في النّار وأهل الجنّة في الجنّة مشهودة له واقعة بالنّسبة اليه ، ويجوز ان تكون متعلّقة بينظرون معلّقا عنها العامل ، يعنى على الأرائك ينظرون الى الكفّار هل جوّزوا ما كانوا يفعلون أم لا؟

سورة الانشقاق

مكّيّة كلّها ، ثلاث وعشرون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) اعلم انّ الإنسان حين الموت ينشقّ سماء روحه الحيوانيّة بخروج الرّوح الانسانيّة منها وتنتثر كواكب قواه وتنكدر وتتناثر وتندكّ جبال أعضائه وجبال انّيّاته ، وتنبسط ارض بدنه وأعضائه ، وتخرج جميع القوى الانسانيّة والحيوانيّة الّتى هي أثقالها وتتخلّى منها ، ولمّا كان العالم الصّغير أنموذجا من الكبير كان كلّما وقع فيه وقع في الكبير أيضا فيظهر انشقاق سماء العالم الكبير وانكدار كواكبها وانتثارها واندكاك الجبال وغير ذلك (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) اى سمعت وانقادت (وَحُقَّتْ) بالاستماع والانقياد لانّها مفطورة على ذلك حقّ لك ان تفعل كذا وحققت ان تفعل كذا ، مبنيّا للفاعل ومبنيّا للمفعول بمعنى فانّه لازم ومتعدّ اى حقّت بان تنقاد (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) اى بسطت بخروج ما به جمعها وقبضها من الرّوح الانسانيّة وباندكاك جبال العالم الكبير وتسطيح آكامها وتلالها ووهادها (وَأَلْقَتْ ما فِيها) من القوى الموجودة المشهودة والمكمونة في الكبير والصّغير (وَتَخَلَّتْ) من جميعها فانّ المتّصل بالملكوت يرى الملك خاليا من جميع ما يراه المحجوب في الأرض الصّغيرة والكبيرة (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) في ذلك (وَحُقَّتْ) وجواب إذا محذوف اى يلقى الإنسان ربّه أو عمله (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) أتى بالنّداء هاهنا تنبيها للإنسان عن غفلته فانّ الكدح محسوس له ومشهود ان لم يكن غافلا والجملة مع النّداء جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هل ينتهى بالإنسان الى ما ذكر؟ ـ فقال : أنت غافل عن نفسك وحركاتها فتنبّه حتّى تعلم (إِنَّكَ كادِحٌ) اى ساع بالجهد والجدّ (إِلى رَبِّكَ) أو انّك كادح بالجدّ الى انشقاق السّماء وتخلّى الأرض ذاهب الى ربّك مجاوزا عن ذلك (كَدْحاً فَمُلاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ) تفصيل لكيفيّة ملاقاته (كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) بان يكون فعليّته فعليّة الهيّة ويكون نفسه وقواها وبدنه وما فيه بتصرّف فعليّته الالهيّة فانّه يعبّر عن فعليّته الالهيّة الاخيرة باليمنى (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) لفظة سوف للتّأكيد أو للتّسويف فانّ مقام المحاسبة بعد مقام إيتاء الكتاب فانّ اوّل إيتاء الكتاب يكون في الدّنيا ثمّ عند الموت ثمّ في البرازخ ثمّ في الأعراف والقيامة (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ) اى الى من ينبغي ان يكون أهلا له (مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) بيده الّتى هي فعليّته الشّيطانيّة أو الحيوانيّة السّبعيّة أو البهيميّة فانّه قد يعبّر عن تلك الفعليّة بخلف الإنسان وورائه لانّها خلف الانسانيّة فانّ الانسانيّة هي اللّطيفة المقبلة على الله المدبرة عن الشّيطنة والحيوانيّة وقد يعبّر عنها بالشّمال كما يعبّر عن فعليّته الالهيّة باليمين

٢٤٣

(فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) بقوله : يا ثبوراه ، يا هلاكاه ائت فانّه قد حضر وقتك (وَيَصْلى) اى يدخل (سَعِيراً) يتقاسى حرّها (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) في الدّنيا من غير غمّ لآخرته ومن غير حزن على العمل لأجلها (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) هذه وسابقتها جواب لسؤال مقدّر في مقام التّعليل يعنى كان مسرورا لانّه كان يظنّ ان لا يرجع الى الله أو الى الآخرة (بَلى) ردّ له عن اعتقاد عدم الرّجوع اى بلى يرجع (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) جواب لسؤال مقدّر في مقام التّعليل أو في مقام بيان حالهم ، أو بيان وتفصيل للاجمال المستفاد من بلى (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) قد مضى بيان للا اقسم ، والشّفق الحمرة في الأفق من الغروب الى العشاء الآخرة ، أو المراد به النّوريّة الباقية من النّفس لانسانيّة بعد غروبها في البدن ، أو في المرتبة الحيوانيّة (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) اى ما جمع فانّ النّهار كان سببا للنّشور واللّيل للجمع والسّكون ، وكذلك ليل بدن الإنسان يجمع المتضادّات ويؤلّف المتخالفات (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) انتظم وتكامل في نوره ، وهكذا قمر القلب إذا تكامل (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) اى مرتبة مجاوزة عن مرتبة اى بعد مرتبة من مراتب الآخرة يعنى أنتم في ركوب المراتب الاخرويّة في الدّنيا ولكنّكم غافلون منه ، أو حالا بعد حال لورود الأحوال المختلفة عليكم ، أو لتركبنّ سنن من كان قبلكم مطابقين لهم بعد جمع آخر مطابقين لهم ، أو بعد حال اخرى مطابقة لحالهم كما في كثير من الاخبار ، وفي بعضها : لتسلكنّ سبيل من كان قبلكم من الأمم في الغدر في الأوصياء بعد الأنبياء (ع) وفي بعضها ، أو لم تركب هذه الامّة بعد نبيّها (ص) طبقا عن طبق في امر المنافقين ، والطّبق محرّكة غطاء كلّ شيء ومن كلّ شيء ما ساواه ، ومن النّاس والجراد الكثير أو الجماعة منهم ، وبمعنى الحال ، (فَما لَهُمْ) اى اىّ نفع لهم؟ أو اىّ مانع لهم؟ أو اىّ حال لهم؟ ألهم الجنون؟ أو العقل؟ (لا يُؤْمِنُونَ) جملة حاليّة أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر في مقام التّعليل ، أو في مقام بيان حالهم ، أو لفظة ما نافية والمعنى فليس لهم شيء من المنافع ، أو ليس لهم مانع ، وجملة لا يؤمنون مثل السّابق والمراد بعدم الايمان عدم الايمان بالله أو بالرّسالة أو بالولاية (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) لا يخضعون لله ، روى انّ النّبىّ (ص) قرأ ذات يوم واسجد واقترب ، فسجد هو ومن معه من المؤمنين ، وقريش تصفق فوق رؤسهم وتصفر فنزلت (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) اى بما يضمرون في قلوبهم أو بما يجمعون في نفوسهم من نتائج أعمالهم (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) استثناء منقطع أو متّصل والمعنى الّا الّذين آمنوا بعد منهم فيكون الماضي بعد الموصول بمعنى المضارع (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) اى غير مقطوع أو غير ممنون به عليهم.

سورة البروج

مكّيّة ، اثنتان وعشرون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) الاثنى عشر ، أو المراد سماء روح الإنسان الّتى هي ذات مراتب ودرجات

٢٤٤

(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) الّذى هو القيامة الكبرى للرّوح الانسانيّة الّتى لا تكون الّا بالفناء التّامّ (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) نكّرهما للاشعار بانّ الشّاهد لمقام الاحديّة لا يمكن معرفته ، والمشهود الّذى هو مقام الاحديّة أيضا لا يعرف وقد فسّر الشّاهد بيوم الجمعة والمشهود بيوم عرفة ، أو بيوم القيامة ، وفسّر الشّاهد بمحمّد (ص) والمشهود بيوم القيامة وفسّرا بالنّبىّ (ص) وأمير المؤمنين (ع) ، وبالملك ويوم القيامة ، وبنبىّ كلّ زمان وأمّته ، وبمحمّد (ص) وجميع الخلق ، وبهذه الامّة وسائر الأمم ، وبأعضاء بنى آدم وأنفسهم ، وبالحجر الأسود والحجّاج ، وبالايّام وبنى آدم ، وبالأنبياء ومحمّد (ص) ، وبالله ولا اله الّا الله ، وبالخلق والحقّ (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) جواب للقسم أو جملة دعائيّة معترضة بين القسم وجوابه أو خبريّة معترضة واخبار عن حال الكفّار الّذين احرقوا المؤمنين أو اخبار عن حال المؤمنين الّذين احرقوا في الأخدود.

ذكر حكاية أصحاب الأخدود

وذكر حكاية أصحاب الأخدود في روايات الخاصّة والعامّة باختلاف ، فانّه روى عن رسول الله (ص) انّه كان ملك وكان له ساحر فلمّا مرض السّاحر قال : ادفع الىّ غلاما اعلّمه السّحر ، فدفع اليه غلاما وكان بينه وبين السّاحر راهب فمرّ الغلام بالرّاهب فافتتن به فبينما هو كذلك قد حبس النّاس حيّة ، فقال : اليوم اعلم امر السّاحر والرّاهب فأخذ حجرا فقال : اللهمّ ان كان امر الرّاهب احبّ إليك فاقتل هذه الحيّة فقتلها ومضى النّاس فأخبر بذلك الرّاهب ، فقال : يا بنىّ انّك ستبتلى فلا تدلّ علىّ ، وجعل يداوي النّاس ويبرئ الأكمه والأبرص فعمي جليس الملك فأتاه وحمل اليه مالا كثيرا فقال : اشفني ولك ما هاهنا ، فقال : انّ الله يشفى فان امنت بالله دعوت الله فآمن فدعا الله فشفاه ، فجلس الى الملك فقال : من شفاك؟ ـ قال : ربّى ، قال : انا؟ ـ قال : لا ، ربّى وربّك الله ، فأخذه ولم يزل به حتّى دلّه على الغلام ، فأخذه فلم يزل به حتّى دلّه على الرّاهب ، فوضع المنشار عليه فنشره شقّين وقال للغلام : ارجع عن دينك ، فأبى ، فأمر ان يصعدوا به الى جبل كذا فان رجع والّا يدهدهوه ، ففعل به ، فلمّا صعدوا به الجبل قال : اللهمّ اكفنيهم ، فكفاه الله واهلكهم ، فرجع الى الملك وقال : كفانيهم الله ، فقال : اذهبوا به فأغرقوه في البحر ، فكفاه الله تعالى وأغرقهم ، فجاء الى الملك وقال : كفانيهم الله ، وقال : انّك لست بقاتلي حتّى تفعل بى ما آمرك ، اجمع النّاس ثمّ اصلبني على جذع ثمّ خذ سهما من كنانتي ثمّ ضعه على كبد القوس ، ثمّ قل : باسم ربّ الغلام فانّك ستقتلني ، ففعل به ما قال فوقع السّهم في صدغه ومات ، فقال النّاس : آمنّا بربّ الغلام ، فقيل له : أرأيت ما كنت تخاف قد نزل بك : آمن النّاس بربّ الغلام فأمر بالأخدود فخدّت على أفواه السّكك ثمّ أضرمها نارا فقال : من رجع عن دينه فدعوه ، ومن ابى فأقمحموه فيها ، وجاءت امرأة بابن لها فقال لها يا أمّه اصبري فانّك على الحقّ ، فلمّا رأى النّاس ذلك اشتدّ ثبات المؤمنين وشوق سائر النّاس الى دين الغلام. ونسب الى أمير المؤمنين (ع) انّ ملكا سكر فوقع على ابنته أو قال على أخته ، فلمّا أفاق قال لها : كيف المخرج ممّا وقعت فيه؟ ـ قالت : تجمع أهل مملكتك وتخبرهم انّك ترى نكاح البنات وتأمرهم ان يحلّوه ، فجمعهم فأخبرهم ، فأبوا ان يتابعوه فخدّ لهم أخدودا في الأرض وأوقد فيه النّيران وعرضهم عليها ، فمن أبى قذفه في النّار ومن أجاب خلّى سبيله ، ونسب الى أمير المؤمنين (ع) انّ الله بعث رجلا حبشيّا نبيّا فكذّبوه قومه فقاتلهم فقتلوا أصحابه وأسروه ثمّ بنوا له حيّزا ثمّ ملئوه نارا ثمّ جمعوا النّاس وقالوا : من كان على ديننا وأمرنا فليعتزل ، ومن كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في النّار معه ، فجعل أصحابه يتهافتون في النّار فجاءت امرأة ومعها صبىّ ابن شهر فتكلّم الصّبىّ كما سبق ، وروى عن علىّ (ع) أيضا : انّ أصحاب الأخدود كانوا عشرة وعلى مثالهم عشرة يقتلون في هذا السّوق يعنى سوق الكوفة ، وقيل انّ يوسف بن ذي نواس الحميرىّ سمع انّ بنجران اليمن جمعا على دين عيسى (ع) فسار إليهم وحملهم على التّهوّد فأبوا فخدّ لهم في الأرض وأوقد وعرضهم عليها ، فمن رجع عن دين عيسى سلم ومن لم يرجع كان يلقى في النّار ، وإذا امرأة جاءت مع ابن لها فتكلّم الصّبىّ

٢٤٥

كما سبق ، وأصحاب الأخدود على التّأويل من دخل في أخاديد الطّبع وابتلى بنار شهوات النّفس وغضباتها وأهلك عن الفطرة الانسانيّة (النَّارِ) بدل من الأخدود بدل الاشتمال (ذاتِ الْوَقُودِ) التّوصيف بذات الوقود اشارة الى كثرة الحطب وادامة إيقادها (إِذْ هُمْ) اى الملك وأصحابه (عَلَيْها قُعُودٌ) قيل : كانوا على كراسىّ حول النّار ويعذّبون المؤمنين (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) حاضرون على تعذيبهم (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) اى ما كافئوا منهم أو ما أنكروا أو ما كرهوا (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) وقد مضى نظير الآية في سورة المائدة والتّوبة (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اى مملكة السّماوات والأرض أو ملكهما الّذى يكون في الانظار مستقلّا بالوجود ومتأبيا عن المملوكيّة فكيف بملكوتهما (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فضلا عن مالكيّته وشهوده على كلّ شيء نحو شهود النّفس على صورها الادراكيّة فيكون مالكيّته أيضا نحو مالكيّة النّفس لصورها الذّهنيّة (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) بالإيذاء من غير استحقاق أو بالإيذاء مطلقا (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) أعاذنا الله منه (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) الحريق اسم للاحتراق بمعنى انّ لهم عذابا مسبّبا عن الاحتراق ، أو عذابا هو الاحتراق والمقصود انّ لهم في جهنّم عذاب الحيّات والعقارب والحميم والزّقّوم ، ولهم عذاب الاحتراق ، أو المراد بالّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات أصحاب الأخدود والمراد بعذاب الحريق احتراقهم بنار الأخدود ، فانّه كما نقل بعد ما القوا المؤمنين في النّار كان المؤمنون يدخلون الجنّة من غير احساس الم النّار وانقلبت النّار على الكفّار فأحرقتهم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) جواب لسؤال مقدّر عن حال المؤمنين (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قد مضى بيان جريان الأنهار من تحت الجنّات في آخر سورة آل عمران عند قوله فالّذين هاجروا واخرجوا (ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) يا محمّد (ص) أو من يتأتّى منه الخطاب (لَشَدِيدٌ) الجملة في مقام التّعليل لعذاب الكافرين ونعيم المؤمنين ، والإتيان بالبطش والحكم عليه بالشّدّة اشعار بشدّة العذاب فانّ البطش هو الأخذ بالعنف والسّطوة (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) تعليل لشدّة بطشه فانّ البطش ممّن بيده اعادة الشّيء وابداؤه يكون شديدا بالنّسبة اليه (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) لا غفور الّا هو ، ولا ودود الّا هو ، فيكون مغفرته ووداده بالنّسبة الى مستحقّهما فوق ما يتصوّر ، جمع بين القهر واللّطف والوعيد والوعد كما هو ديدنه وديدن خلفائه (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) قرئ بالرّفع وبالجرّ ، والعرش جميع ما سواه فله العظمة والمالكيّة لجميع ما سواه فله إعطاء ما يريد (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) من غير مانع وعجز وقد مضى في سورة البقرة عند قوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) بيان تامّ لقوله : فعّال لما يريد (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) استفهام للتّقرير وجواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هل على وعده ووعيده دليل ممّا مضى؟ ـ فقال : الدّليل على ذلك حكايات الجنود الّذين تجنّدوا على أنبيائهم فيما سلف وقد سمعت حكاياتهم وما فعل بالكفّار منهم وما أكرم به المؤمنين منهم (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) أطلق اسم الرّئيس على الجماعة مجازا أو قدّر جنود فرعون وثمود يعنى قد سمعت ذلك فانظر ماذا فعل بالكفّار منهم وماذا فعل بالمؤمنين حتّى تكون على يقين بوعيده ووعده (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) يعنى ليسوا لم يسمعوا حكايات الجنود بل لا شأن لهم سوى شأن التّكذيب ، ومن كان كذلك لو رأوا جميع ما فعل بالكفّار الماضين والمؤمنين ما اقرّوا ولا صدّقوا لعدم شأن لهم سوى التّكذيب ، لانّهم محجوبون عن دار العلم والتّصديق ولذلك يكذّبونك ويكذّبون كتابك

٢٤٦

(وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) اى من خلفهم فانّهم ناكسون رؤسهم ومدبرون عن الله ولمّا كان احاطة الله من ورائهم لم يكونوا يشاهدونه ويشاهدون احاطته ، ولمّا استفيد من قوله بل الّذين كفروا في تكذيب تكذيبهم لمحمّد (ص) ورسالته وكتابه قال : ليس تكذيبهم لك ولكتابك عن برهان وفي محلّه لانّ كتابك ليس بكاذب (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ) مجموع في بساطته ووحدته (مَجِيدٌ) ذو مجد وشأن (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) عن أيدي المحجوبين ، أو عن التّغيّر والتّبدّل ، أو عن مسيس الشّياطين ، أو عن اختلاق المختلقين ، وقرئ محفوظ بالرّفع والجرّ والمعنى واحد والمراد باللّوح المحفوظ النّفوس الكلّيّة أو العقول الكلّيّة فانّها بوجه كتب وألواح أو صدور الرّاسخين في العلم من صدر محمّد (ص) وأوصيائه (ع) ، وهذا اللّوح هو امّ الكتاب ومنه نسخ جميع الكتب.

سورة الطّارق

سبع عشرة آية ، مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) اقسم بالسّماء وبالكواكب أو بكوكب الصّبح وعظّم شأن الكوكب فقال : (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) وأجاب بعد تفخيمه بالاستفهام التّعجيبىّ فقال (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) اى المضيء أو الثّاقب للأفلاك بضوئه ، روى عن الصّادق (ع) انّه قال لرجل من أهل اليمن : ما زحل عندكم في النّجوم؟ ـ فقال : اليمانىّ نجم نحس ، فقال (ع) : لا تقولنّ هذا فانّه نجم أمير المؤمنين (ع) وهو نجم الأوصياء (ع) وهو النّجم الثّاقب الّذى في كتابه فقال له اليمانىّ : فما يعنى بالثّاقب؟ ـ قال : لانّ مطلعه في السّماء السّابعة وانّه ثقب بضوئه حتّى أضاء في السّماء الدّنيا ، فمن ثمّ سمّاه الله النّجم الثّاقب (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) قرئ لما بالتّخفيف فان مخفّفة من الثّقيلة واللّام فارقة وما مزيدة ، وقرئ لمّا بالتّشديد فان نافية ولمّا استثنائيّة ويحتمل وجوه أخر ضعيفة ممّا مضى في سورة هود في بيان قوله تعالى : وان كلّا لمّا ليوفيّنّهم ربّك أعمالهم فلينظر اى إذا كان على كلّ نفس حافظ من الله يحفظ عليه اعماله (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) اى فلينظر الى مادّته وانّها كانت أضعف موجود واخسّه حتّى يعلم انّ له خالقا قادرا عليما حكيما ، ويعلم انّ خالقه يقدر على إعادته فيعمل لحال إعادته (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) دفق الماء صبّه بقوّة فالدّافق بمعنى المدفوق ، أو المعنى ماء دافق بقوّة الرّطوبات البلّيّة البدنيّة بالتّبخير والتّعريق ، وقيل : استعمل دفق الماء لازما فيكون الدّافق بمعنى المنصبّ بقوّة (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) الصّلب بالضّمّ والصّلب بالتّحريك العظم الّذى من لدن الكاهل الى العجب ، والتّرائب عظام الصّدر أو ما ولى التّرقوتين منه ، أو ما بين الثّديين والتّرقوتين ، أو اربع أضلاع من يمنة الصّدر واربع من يسرته ، أو اليدان والرّجلان والعينان ، أو موضع القلادة.

اعلم ، انّ التّحقيق كما عليه معظم الحكماء انّ النّطفة فضلة الهضم الرّابع وهي تفضل في جميع البدن وتنزل الى البيضتين فهي تخرج من جميع أجزاء البدن لا اختصاص لها بالصّلب والتّرائب ، لكنّ لمّا كان الكليتان ادخل في

٢٤٧

إصلاح النّطفة في الرّجل والثّديان في المرأة قال يخرج من بين صلب الرّجل وبين ترائب المرأة ، أو المقصود انّ النّطفة تخرج من أجواف الرّجل والمرأة وهي محلّ كثافات البدن ، أو المنظور انّ الصّلب والتّرائب في الرّجل والمرأة ادخل في إصلاح النّطفة فكأنّه تخرج النّطفة من بين صلب الرّجل ومن بين ترائبه ، ومن بين صلب المرأة ومن بين ترائبها (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : إذا كان خلقه من ماء ضعيف قذر فهل يقدر على رجوعه؟ ـ فقال : انّه على رجعه لقادر (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) اى تختبر كلّ سريرة هل هي خالصة أو مغشوشة؟ والمراد بالسّرائر امّا الأعمال القالبيّة فانّها سرائر من حيث الخلوص والشّوب ، ومن حيث المبادى والغايات ، أو الفعليّات الحاصلة للنّفس منها ، أو النّيّات ، أو مكمونات النّفوس الّتى لا يعلمها صاحبوا النّفوس ، والظّرف متعلّق بقادر دون رجعه للفصل بينه وبينه بالأجنبيّ ، أو متعلّق بمحذوف بقرينة قوله (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) يعنى لم يكن له في ذلك اليوم قوّة يدفع بها عن نفسه العذاب ، ولا ناصر ينصره من بأس الله (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) اى ذات الرّجوع الى وصفه الاوّل فانّها ليست في وضع الّا وترجع اليه في ثانى الحال ، أو ذات المطر ، أو ذات الشّمس والقمر والنّجوم فانّها في الرّجع دائما أو ذات الخير الدّائم فانّها ترجع به على الاتّصال على أهل العالم (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) بالنّبات والأشجار (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) اى القرآن أو امر الرّسالة أو امر الولاية أو الرّسول (ص) أو علىّ (ع) قول فاصل بين الحقّ والباطل ، أو المحقّ والمبطل ، أو القول بالبعث والجزاء قول مقطوع به (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) اى هو جدّ وليس مزاحا (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) عظيما والجملة جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فما يفعل هؤلاء بالنّسبة الى هذا القول؟ ـ (وَأَكِيدُ كَيْداً) عظيما فاذا كنت اكيد كيدا عظيما بهم (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر لتفضيحهم (أَمْهِلْهُمْ) تأكيد لمهّل ، والإتيان بمهّل وتأكيده بأمهل للاشعار بتعمّله (ص) في إمهالهم (رُوَيْداً) مفعول مطلق نوعىّ من غير لفظ الفعل والمعنى امهلهم امهالا يسيرا.

سورة الأعلى

مكّيّة ، وقيل : مدنيّة ، تسع عشرة آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) الأعلى صفة للاسم أو لربّك ، والرّبّ تطلق على النّفس الانسانيّة الّتى تربّى البدن ، وعلى العقل الّذى يربّى النّفس والبدن ، وعلى ولىّ الأمر الّذى يربّى النّاس بحسب الظّاهر أو الباطن ، وهو الرّبّ في الولاية ، وعلى ربّ الأرباب وليس المراد باسم الرّبّ اسمه اللّفظىّ بل اسمه العينىّ وأسماؤه العينيّة ذات مراتب من مراتب اللّطيفة الانسانيّة ومراتب الأنبياء والأوصياء (ع) ، ومن مراتب العقول والنّفوس وسائر الموجودات وأعلى أسمائه الاسم الجامع الّذى يعبّر عنه بالمشيّة ، وأعلى أربابه المطلق هو ربّ الأرباب ، وأعلى أربابه المضاف سائر مراتب أربابه ، وقد سبق مكرّرا انّ المراد بالتّسبيح سواء كان متعلّقا بالله أو بالرّبّ أو باسم الرّبّ تنزيه اللّطيفة الانسانيّة عن التّدنّس بالادناس الحيوانيّة والشّيطانيّة فانّها ربّ بوجه ومظهر لله فكانت هي الله بوجه واسما لله وللرّبّ بوجه (الَّذِي خَلَقَ) صفة للرّبّ أو لاسم الرّبّ فانّ أسماءه العينيّة وسائط خلقه وخالقون باذنه (فَسَوَّى) فجعل

٢٤٨

جميع أعضائه واجزائه على ما ينبغي (وَالَّذِي قَدَّرَ) لكلّ شيء كمالا خاصّا وغاية مخصوصة (فَهَدى) اى هداه الى ذلك الكمال وتلك الغاية هداية تكوينيّة في جميع الأشياء وهداية اختياريّة تكليفيّة في الإنسان وبنى الجانّ (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) في العالم الكبير والصّغير يعنى بعد ما هدى الأشياء الى كمالاتها وغاياتها هيّأ لها أسباب بلوغها الى ذلك بإخراج المرعى اى الأشجار والنّباتات الّتى بها يتعيّش الإنسان وسائر الحيوان وإخراج جميع القوى والاهوية المكمونة في الإنسان (فَجَعَلَهُ غُثاءً) اى هشيما كالغثاء الّذى تراه فوق السّيل ، والغثاء كغراب القمش والزّبد والبالي من ورق الشّجر المخالط زبد السّيل (أَحْوى) اسود لانّ الكلأ يسودّ إذا يبس في الأغلب ، وهذا تمثيل للحيوة الدّنيا وإخراج القوى والمدارك والاهوية ويبسها بالموت الاختيارىّ أو الاضطرارىّ ولذلك قال تعالى خطابا لمحمّد (ص) ولمن يتأتّى منه الخطاب بعد ذكر جفاف المرعى (سَنُقْرِئُكَ) يعنى بعد جفاف مرعى القوى والمدارك بالموت الاختياري البتّة نقرئك أو عن قريب نقرئك آيات الأحكام القالبيّة والحكم القلبيّة (فَلا تَنْسى) بعده لانّ الباعث للنّسيان الخروج من دار الذّكر ، وسبب الخروج من دار الذّكر ليس الّا القوى والمدارك ومشتهياتها ، وإذا جعلناها يابسة حواء لم يكن باعث للخروج من دار الذّكر فلم يكن نسيان (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) استثناء مفرّغ من قوله سنقرئك ، أو من قوله فلا تنسى اى سنقرئك جميع ما يمكن ان نقرئك الّا ما شاء الله أو فلا تنسى شيئا منها الّا ما شاء الله فانّك بحسب بشريّتك ومرتبة منك واقع في دار النّسيان فيقع منك نسيان ما بمشيّة الله (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) جواب لسؤال مقدّر وتعليل لقوله : سبّح يعنى سبّح اسم ربّك بقولك المجهور والمخفىّ أو بأعمالك الظّاهرة والباطنة لانّ الله يعلم الجهر والمخفىّ ، أو جواب لسؤال مقدّر ناش عن قوله فلا تنسى الّا ما شاء الله كأنّه قيل : هل يعلم الله تذكّر العباد ونسيانهم؟ ـ فقال : انّه يعلم المذكور الّذى كان ظاهرا على الخيال والمنسىّ الّذى كان مخفيّا عنه ، أو يعلم مطلق الظّاهر والمخفىّ ومنهما المذكور والمنسىّ ، أو جواب سؤال ناش من قوله : والّذى اخرج المرعى بناء على تعميم المرعى للقوى والمدارك والاهوية الانسانيّة كأنّه قيل : هل يعلم الله مخفيّات الإنسان ومكموناته حتّى يخرجها؟ ـ فقال : انّه يعلم الظّاهر من أقواله وأفعاله وأحواله وأخلاقه والمخفىّ منها ، ولكون هذا جوابا لسؤال مقدّر عدل عن التّكلّم الى الغيبة (وَنُيَسِّرُكَ) اى نليّنك ونسهّل حالتك «ل» لجهة (لِلْيُسْرى) وهي جهة الكثرات فانّك كنت منزجرا عن الكثرات فارّا منها منقبضا عنها ، وبعد إخراج مرعى وجودك وجعله غثاء تأنس بالكثرات نحو أنسك بالله فانّك تراها مظاهر لله تعالى فيسهل عليك التّوجّه إليها والمحادثة معها ، وقيل فيه غير ذلك فاذا صرت ليّن الجانب بالنّسبة الى الكثرات (فَذَكِّرْ) الخلق بالله وبأحكامه وبالمعاد وجنّته وناره لتكميلهم (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) قيل : شرط للتّذكير يعنى ان لم تنفع فلا تذكّر ، وهذا مناف لتعميم دعوته ، وقيل : المعنى ان نفعت الذّكرى وان لم تنفع ، وقيل : ان بمعنى قد ، وقيل : قال تعالى ذلك بعد ما عمّهم بالتّذكير ولزمت الحجّة ، وقيل : استبعاد لنفعهم بالذّكرى (سَيَذَّكَّرُ) بالله وجنّته وناره (مَنْ يَخْشى) من كان فيه حالة العلم وحالة الخشية (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) اى أشقى الكفّار أو أشقى العصاة فانّ للكفر والعصيان درجات ، والأشقى منهم يبالغ في اجتناب الذّكرى بخلاف غيره فانّه يسمع قليلا ويجتنب ولذلك قال (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) فانّ غيره يصلى النّار الوسطى والصّغرى (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) فيستريح (وَلا يَحْيى) حياة ينتفع بها فيتعيّش فيها (قَدْ أَفْلَحَ) جواب لسؤال

٢٤٩

مقدّر (مَنْ تَزَكَّى) اى تطهّر أو نما ، أو أدّى زكوة ماله (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) اى اجرى على لسانه اسم ربّه المضاف وهو ربّه في الولاية وهو الرّسول أو خليفته (فَصَلَّى) عليه اى قال اللهمّ صلّ عليه ، أو قال صلوات الله عليه ، أو تذكّر اسم ربّه المطلق اسمه النّقشىّ القلبىّ ، أو اسمه المثالىّ الخيالىّ ، أو اسمه العينىّ ، فصلّى عليه أو صلّى الصّلوة الفريضة ، أو صلّى الصّلوة المطلقة ، أو توجّه الى جهة الغيب واستكمل بذلك ، أو ذكر اسم ربّه بالتّكبيرات الواردة قبل صلوة العيدين فصلّى صلوة العيدين ، أو ذكر اسم ربّه في التّكبيرة الافتتاحيّة فعقد صلوته بها ، أو ذكر اسم ربّه بان جعل امامه نصب عينه فصلّى كما ورد وقت تكبيرة الإحرام : تذكّر رسول الله (ص) واجعل واحدا من الائمّة نصب عينك (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) يعنى لكنّكم لا تفعلون ذلك بل تؤثرون الحيوة الدّنيا وتدعون الفلاح والصّلوة (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ) من الدّنيا يعنى على زعمكم انّ الدّنيا لها حسن أو بحسب الواقع فانّ الدّنيا باعتبار انّها مزرعة الآخرة كان لها محاسن عديدة (وَأَبْقى إِنَّ هذا) اى فلاح من تزكّى وذكر اسم ربّه فصلّى ، أو كون الآخرة خيرا وأبقى (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) عن ابى ذرّ رحمه‌الله انّه سأل رسول الله (ص) كم انزل الله من كتاب؟ ـ قال : مائة كتاب واربعة كتب ، فأنزل الله على شيث خمسين صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة ، فانزل التّوراة والإنجيل والزّبور والفرقان ، قال : قلت : يا رسول الله (ص) وما كان صحف إبراهيم (ع)؟ ـ قال : كانت أمثالا كلّها ، وكان فيها : ايّها الملك المبتلى المغرور انّى لم أبعثك لتجمع الدّنيا بعضها الى بعض ولكنّى بعثتك لتردّ عنّى دعوة المظلوم فانّى لا أردّها وان كانت من كافر ، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا ان يكون له ثلاث ساعات ، ساعة يناجي ربّه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يتفكّر فيما صنع الله عزوجل اليه ، وساعة يخلو فيها بحظّ نفسه من الحلال فانّ هذه السّاعة عون لتلك السّاعات ، واستجمام للقلوب وتوديع لها ، وعلى العاقل ان يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شانه ، حافظا للسانه ، فانّ من حسب كلامه من عمله قلّ كلامه الّا فيما يعنيه ، وعلى العاقل ان يكون طالبا لثلاث ، مرمّة لمعاش ، وتزوّد لمعاد ، وتلذّذ في غير محرّم (الى ان قال) قلت : فهل في أيدينا ممّا انزل الله عليك شيء ممّا كان في صحف إبراهيم (ع) وموسى (ع)؟ ـ قال : يا أبا ذرّ اقرء : قد أفلح من تزكّى الى آخر السّورة.

سورة الغاشية

ستّ وعشرون آية مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) الاستفهام للتّقرير والخطاب له (ص) والمقصود تذكير غيره والغاشية الدّاهيّة الّتى تعمّ افراد النّاس ، أو تعمّ جميع أعضاء الإنسان واجزائه ، والمراد بها شدائد القيامة أو نفس يوم القيامة أو شدائد جهنّم (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) ذليلة من العذاب (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) صفتان لوجوه ، أو هما خبران بعد خبر والمراد بالوجوه وجوه الأبدان أو أشراف النّاس ، والمعنى وجوه كانت في الدّنيا عاملة أعمالا يحسبون انّها حسنات لها وكانت ناصبة في أعمالها يومئذ خاشعة ذليلة لا ينفعها عملها ونصبها في عملها ، لانّهم كانوا أصحاب آراء وأهواء ،

٢٥٠

أو المعنى وجوه يومئذ خاشعة عاملة في جهنّم فانّهم يكلّفون ارتقاء جبل من حديد ، أو المعنى عاملة في الدّنيا ناصبة في الآخرة (تَصْلى ناراً حامِيَةً) في غاية الحرارة بالنّسبة الى نار الدّنيا (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) بالغة في الحرارة غايتها (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) والضّريع شيء في جهنّم امرّ من الصّبر وأنتن من الجيفة واحرّ من النّار ، والضّريع في اللّغة نوع من الشّوك يقال له الشّبرق وهو أخبث طعام وأبشعه لا ترعاه دابّة ، ونقل انّ الضّريع عرق أهل النّار وما يخرج من فروج الزّوانى ، وعن النّبىّ (ص) عن جبرئيل : لو انّ قطرة من الضّريع قطرت في شراب أهل الدّنيا لمات أهلها من نتنها ، وقال القمّىّ : هم الّذين خالفوا دين الله وصلّوا وصاموا ونصبوا لأمير المؤمنين (ع) عملوا ونصبوا فلا يقبل شيء منهم من أفعالهم وتصلى وجوههم نارا حامية ، وفي رواية : كلّ من خالفكم وان تعبّد واجتهد فمنسوب الى هذه الآية : عاملة ناصبة (الآية) وفي حديث في بيان قوله تعالى : هل أتاك حديث الغاشية يغشاهم القائم (ع) بالسّيف خاصّة قال : لا تطيق الامتناع ، عاملة قال : عملت بغير ما انزل الله ، ناصبة قال : نصبت غير ولاة امر الله ، تصلى نارا حامية قال : تصلى نار الحرب في الدّنيا على عهد القائم (ع) ، وفي الآخرة نار جهنّم ، وفي رواية اخرى : الغاشية الّذين يغشون الامام لا يسمن ولا يغني من جوع قال : لا ينفعهم الدّخول ولا يغنيهم القعود (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) وهم اتباع أمير المؤمنين (ع) (لِسَعْيِها راضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) اللّغو واللّاغية السّقط وما لا يعتدّ به من كلام وغيره ، وكلمة لاغية فاحشة (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) العين الجارية أحسن وأبهى ، وماؤها أشهى من العين الواقفة ، وليس جريان عيون الجنّة في الأخاديد بل هي بإرادة مالكها كلّما أراد أجراها على اىّ مكان شاء (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) قيل : انّها مرتفعة ما لم يجيء أهلها ، فاذا جاؤا تواضعت لهم حتّى يجلسوا عليها ، فاذا جلسوا ارتفعت كما كانت (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) على حافّات العيون الجارية ، والكوب قد مرّ انّه كوز لا عروة له ولا خرطوم (وَنَمارِقُ) جمع النّمرق والنّمرقة مثلّثة النّون الوسادة الصّغيرة (مَصْفُوفَةٌ) متّصلة بعضها ببعض على هيئة مجالس الملوك (وَزَرابِيُ) جمع الزّربىّ بالكسر وقد يضمّ النّمارق والبسط أو كلّ ما بسط واتّكأ عليه (مَبْثُوثَةٌ) مبسوطة (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) لمّا وصف الله تعالى الجنّة وما فيها كان ينبغي ان يشتاق النّفوس إليها ويسأل عمّا دلّ عليها وعلى بقاء النّفوس فيها ، فقال تعالى جوابا عن هذا السّؤال : ينبغي ان ينظروا الى الإبل وعجائب خلقتها ، فانّ الله تعالى خلقها عظيمة الجثّة بحيث تحمل أحمالا ثقيلة ، تبرك للحمل ، وتنهض بالحمل ، تتحمّل الجوع والعطش حتّى تقوى على قطع المفاوز البعيدة ، منقادة للأطفال مع عظم جثّتها ، طويلة العنق حتّى يتأتّى لها ان ترعى النّبات قائمة من غير حاجة الى البروك ترعى كلّما تنبت من الأرض حتّى يتأتّى لها البقاء في كلّ صقع من الأرض (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) وفي رفعتها توليد المواليد وتعيّشها وبقاؤها فانّ الكلّ منوط بتأثير الكواكب وتأثير اشعتّها ، ولو لا تلك الرّفعة لما اثّرت تلك التّأثيرات (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) وفي نصبها تهيّة أسباب معاشكم من توليد المعادن فيها ، وتسفيح سفحها ، وتكوّن المياه تحتها وسهولة جريان العيون والقنوات منها (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) وفي تسطيحها سهولة توليد المواليد وسهولة تعيّشكم (فَذَكِّرْ) يعنى إذا كان حال الكفّار كذا وحال المؤمنين كذا والادلّة على ذلك كثيرة فذكّر المؤمنين ترغيبا فيما اعدّ الله لهم والكافرين تحذيرا ممّا يبتلون به بسوء أعمالهم (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) يعنى شأنك بحسب رسالتك التّذكير سمعوا أم لم يسمعوا (لَسْتَ عَلَيْهِمْ

٢٥١

بِمُصَيْطِرٍ) المسيطر بالسّين والصّاد الرّقيب والحافظ المتسلّط ، وقرئ بهما (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) استثناء مفرّغ من قوله ذكّر أو من قوله انّما أنت مذكّر ، أو استثناء متّصل في كلام تامّ من قوله : لست عليهم بمصيطر اى لست متسلّطا عليهم الّا على من تولّى وكفر يعنى لست مسلّطا عليهم لا بحسب أبدانهم فتقتلهم وتجبرهم على القبول ولا بحسب أرواحهم فتتصرّف فيهم بحسب مرتبة رسالتك وتغيّرهم عمّاهم عليه الّا من تولّى فانّك بحسب رسالتك مسلّط عليه بحسب بدنه ، فتقتله وتجبره على قبول التّذكير ، أو استثناء منقطع كأنّه قال : لكن من تولّى وكفر (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) اى عذاب القتل والأسر والنّهب على يدك في الدّنيا ولا عذاب أكبر منه ، أو يعذّبه الله في الآخرة العذاب الأكبر وهو العذاب في النّار (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) جواب لسؤال مقدّر عن حالهم في الآخرة على المعنى الاوّل وفي مقام التّعليل على المعنى الثّانى (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) عن الباقر (ع): إذا كان يوم القيامة وجمع الله الاوّلين والآخرين لفصل الخطاب دعا رسول الله (ص) ودعا أمير المؤمنين (ع) فيكسى رسول الله (ص) حلّة خضراء تضيء ما بين المشرق والمغرب ، ويكسى علىّ (ع) مثلها ، ويكسى رسول الله (ص) حلّة ورديّة ويكسى علىّ (ع) مثلها ، ثمّ يصعد ان عندها ثمّ يدعى بنا فيدفع إلينا حساب النّاس ، فنحن والله ندخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النّار النّار ، وعن الكاظم (ع): إلينا إياب هذا الخلق وعلينا حسابهم ، فما كان لهم من ذنب بينهم وبين الله عزوجل حتمنا على الله في تركه لنا فأجابنا الى ذلك ، وما كان بينهم وبين النّاس استوهبناه منهم وأجابوا الى ذلك وعوّضهم الله عزوجل ، وعن الصّادق (ع): إذا كان يوم القيامة وكلّنا الله بحساب شيعتنا ، فما كان لله سألنا الله ان يهبه لنا فهو لهم ، وما كان لنا فهو لهم ، ورزقنا الله ذلك.

سورة والفجر

مكّيّة كلّها ، اثنتان وثلاثون أو ثلاثون أو تسع وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْفَجْرِ) اقسم الله بالفجر وهو بياض الصّبح ، أو صلوة الصّبح مطلقا ، أو فجر ذي الحجّة أو صلوته ، أو فجر يوم النّحر أو صلوته ، أو أراد بالفجر النّهار كلّه مطلقا ، أو نهار الايّام المذكورة (وَلَيالٍ عَشْرٍ) اى عشر ذي الحجّة ، وقيل : هي العشر من آخر رمضان ، وقيل : هي العشر الّتى أتمّ موسى (ع) بها ثلاثين (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) يعنى الزّوج والفرد من العدد والمعدود كلّها ، وقيل : الزّوج الخلق لانّ كلّا من الخلق زوج تركيبىّ ، والوتر الله ، وقيل : الشّفع والوتر الرّكعتان من صلوة اللّيل ، والرّكعة الواحدة منها ، وقيل : الشّفع يوم النّحر لانّه يشفع بيوم النّفر الاوّل ، والوتر يوم عرفة لانّه ينفرد بالموقف ، وقيل : الشّفع يوم التّروية ، والوتر يوم عرفة ، وقيل : الشّفع يوم النّفر الاوّل ، والوتر يوم النّفر الثّانى ، وقيل : الشّفع علىّ (ع) وفاطمة (ع) ، والوتر محمّد (ص) ، وقيل : الشّفع الرّوح الانسانيّة المنضمّة الى البدن ، والوتر الرّوح المجرّدة عن البدن (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) قرئ بحذف الياء وصلا ووقفا اجراء للوصل مجرى الوقف وتوفيقا للّفظ والمعنى ، فانّ السّير في الأغلب لا يتمّ في اللّيل بل يمتدّ الى النّهار ، وقرئ بإثبات الياء على الأصل ، وقرئ بالتّنوين المبدل من حرف المدّ ، ونسبة السّير الى اللّيل مجاز عقلىّ والمعنى إذا يسرى فيه ، أو المراد القسم باللّيل إذا أدبر مثل واللّيل إذا أدبر ، أو المراد القسم باللّيل إذا اقبل علينا ، ولذلك عدل عن إذ الى إذا ، وعن الماضي

٢٥٢

الى المستقبل ، والمراد باللّيل مطلق اللّيل أو ليل المزدلفة فانّه يسير الحاجّ في اوّله من عرفات الى المزدلفة وفي آخره واوّل نهاره من المزدلفة الى منى (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) استفهام تقريرىّ يعنى في تلك الأقسام قسم كاف لذي عقل حقير أو لذي عقل عظيم يعنى انّ صاحب العقل يعلم انّ هذه الأشياء الّتى اقسم بها الله أشياء عظيمة شريفة فيها دلالات بوجوه عديدة على علمه وحكمته وقدرته وعنايته تعالى بخلقه وان كان غير ذي الحجر لا يرى هذه الأقسام شيئا (أَلَمْ تَرَ) هذا الخطاب لمحمّد (ص) أو عامّ وهذا قرينة جواب القسم والتّقدير لنهلكنّ الّذين أفسدوا في الأرض الم تر (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) عاد اسم لقوم هود سمّوا باسم أبيهم فانّ عادا كان عادين ، عادا الاولى ، وعادا الاخرى وقوله تعالى (إِرَمَ) كعنب اسم آخر لعاد ، أو هو اسم جدّ عاد ، أو هو اسم سام بن نوح ، فانّ عادا كان ابن عوص بن آدم بن سام بن نوح (ع) ، وقوم هود كانوا أولاد عاد سمّوا باسم جدّهم وأبيهم ، أو هو اسم لقبيلة هود ، وقيل : هو اسم لقبيلة من قوم هود كان الملك فيهم ، وقيل : هو اسم بلد ، وقيل : هو دمشق ، وقيل : هو مدينة الاسكندريّة ، وقيل : هو اسم لجنّة شدّاد ، وعلى اىّ تقدير فهو بدل من عاد امّا بدل الكلّ من الكلّ ، أو بدل الاشتمال ، فانّه إذا كان اسما للبلد فان أريد به اهله كان بدل الكلّ من الكلّ ، وان أريد به نفس البلد كان بدل الاشتمال (ذاتِ الْعِمادِ) العماد بالكسر الشّجعان من العسكر والابنية الرّفيعة والعمود والاخبية ، وأهل العماد أهل الاخبية ، وقيل : سمّاهم الله ذات العماد لانّهم كانوا أهل الاخبية وكانوا سيّارين لرعى مواشيهم ، وقيل : معناه ذات الطّول والشّدّة ، أو كانوا أهل القصور الرّفيعة ، أو كان فيه شجعان قويّة.

وصف ارم ذات العماد

قيل : خرج رجل يقال له عبد الله بن قلابة في طلب إبل له شردت ، فبينا هو في صحارى عدن إذ هو قد وقع على مدينة عليها حصن فلمّا دنى منها ظنّ انّ فيها أحدا يسأله عن ابله فنزل عن دابّته وعقلها وسلّ سيفه ودخل الحصن ، فاذا هو ببابين عظمين لم ير أعظم منهما مرصّعين بالياقوت الأبيض والأحمر فدهش ، وفتح أحد البابين فاذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها ، فيها قصور فوقها غرف وفوق الغرف غرف مبنيّة بالذّهب والفضّة واللّؤلؤ والياقوت ، ومصاريع تلك الغرف مثل مصراع المدينة مفروشة كلّها باللّئالى وبنادق من مسك وزعفران ، فلمّا لم يرفيها أحدا هاله ذلك ونظر فرأى أشجارا في أزقّتها مثمرة وتحت الأشجار أنهار جارية من قنوات من فضّة ، فظنّ الرّجل انّها هي الجنّة الموصوفة في القرآن فحمل معه من لؤلؤها ومن بنادق المسك والزّعفران ، ولم يستطع ان يقلع من زبرجدها وياقوتها وخرج ورجع الى اليمن وأخبر النّاس فانتشر الخبر حتّى بلغ معاوية خبره ، فأرسل اليه فقصّ عليه القصّة فأرسل معاوية الى كعب الأحبار فلمّا أتاه سأله عن ذلك فقال : أخبرك بتلك المدينة وبمن بناها ، بناها شدّاد بن عاد والمدينة ارم ذات العماد الّتى وصفها الله تعالى انّ عادا الاولى أبا قوم هود كان له ابنان شدّاد وشديد فهلك عاد وبقيا وقهرا البلاد ، فهلك شديد وبقي شدّاد مالكا لجميع ملوك الأرض ، فدعته نفسه الى ان بنى مثل الجنّة الّتى وصفها الله لأنبيائه (ع) فأمر ببناء تلك المدينة وامّر على صنعتها مائة قهرمان مع كلّ قهرمان الف من الأعوان ، وكتب الى ملوك الدّنيا ان يجمعوا له ما في بلادهم من الجواهر وأقاموا في بنائها مدّة طويلة ثمّ سار الملك إليها في جنده ووزرائه فلمّا كان منها على مسيرة يوم بعث الله عليه وعلى من معه صيحة من السّماء فأهلكتهم جميعا ، وسيدخلها في زمانك رجل من المسلمين أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له وكان الرّجل عند معاوية فالتفت اليه وقال : هذا والله ذلك الرّجل (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ) اى حفروا الصّخر وقطعوها لبناء البيوت (بِالْوادِ) اى وادي القرى (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) قد مضى في سورة ص بيان كونه ذا الأوتاد (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) السّوط الخلط وهو ان تخلط

٢٥٣

شيئين في إنائك ثمّ تضربهما بيدك حتّى يختلطا ، والمقرعة والنّصيب والشّدّة والضّرب بالسّوط ، واستعمال الصّبّ للاشعار بكثرة العذاب وشدّته (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) المرصاد الطّريق والمكان الّذى يرصد ويترقّب فيه العدوّ والمعنى انّه تعالى في محلّ يرصد فيه جميع أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم فلا يفوته شيء منها فيجازيهم عليها ، وعن الصّادق (ع): المرصاد قنطرة على الصّراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) كأنّه قال : هذا حال الرّحمن فامّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربّه (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) بيان لاكرامه (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) هذا خبر الإنسان ولذلك ادخل الفاء الّتى تكون عقيب امّا عليه ، وقوله : إذا ما ابتلاه على تقدير التّأخير يعنى يفرح بالنّعمة ويحسب انّ النّعمة كرامة من الله له والحال انّها قد تكون استدراجا ونقمة (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) لانّه لا يحسب النّعمة في غير النّعم الصّوريّة ويحسب انّ الكرامة والنّعمة والعزّة انّما هي في النّعم الصّوريّة (كَلَّا) ردع له عن هذا الحسبان وتعليق للتّوسعة والتّقتير على فعل الإنسان يعنى ليس التّوسعة والتّقتير على ما تزعمون (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ) اى لا تحاثّون ، والحضّ والحثّ لا زمان ومتعدّيان (عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) التّراث من الإرث بمعنى ما يورث ، ولمّا كان جميع الدّنيا ممّا أورث من السّابقين أو يورث للّاحقين يصدق عليها التّراث ، فقيل : كانوا لا يورثّون الأيتام والنّساء وكانوا يأكلون انصبائهم ، وقيل : المعنى يأكلون الميراث ولا يخرجون حقوقه الواجبة والمندوبة لكنّ الحقّ عدم التّخصيص بل المراد انّهم يأكلون ما يؤكل ، ويجمعون ما يجمع ، ويدّخرون ما يدّخر ، وينكحون ما ينكح ، ويركبون ما يركب ، ويلبسون ما يلبس ، ويدركون ما يدرك ، ويتخيّلون ما يتخيّل ، اكلا جامعا بين صحيحها وفاسدها ، حلالها وحرامها ، مأمورها ومنهيّها ، وجامعا بين جهتي الهيّتها ونفسانيّتها ، ولمّا امّا أصله لمّا بالتّنوين ، اجرى الوصل على الوقف ، أو أصله لمّا بالألف المقصورة امّا وهو مصدر للّم بمعنى جمع ، وحينئذ تكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف ، أو صفة لاكلا ، أو هو بمعنى جميعا وتأكيد للتّراث (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) الجمّ الكثير من كلّ شيء أو هو مصدر جمّ بمعنى كثر وهو امّا صفة لجمّا أو مفعول مطلق لفعل محذوف هو حال (لَّا) ردع لهم عن ذلك (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) الدّك الدّقّ والهدم وتسوية صعود الأرض وهبوطها ، واندكّ المكان استوى ، وكنس التّراب وتسويته (وَجاءَ رَبُّكَ) المضاف الّذى هو القائم في وجودك وقد سمّاه الصّوفيّة بالفكر والحضور والسّكينة وهو ملكوت ولىّ الأمر ، ولا يظهر على السّالك الّا بعد موته الاختيارىّ ، وإذا ظهر ظهر جميع آثار القيامة في عالمه الصّغير وجميع ما ورد من علائم ظهور القائم (ع) وآثاره في الاخبار وكان مؤيّدا بالملائكة ويظهر الملك على السّالك حين ظهوره وبعده ولذلك قال تعالى (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) المراد بالملك الجنس ولذلك قال صفّا صفّا فانّ الواحد لا يكون صفّا صفّا والمراد انّ الملائكة يجيئون في صفوف عديدة بحسب مراتبهم في القرب والبعد (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) فانّ الظّاهر عليه ولىّ امره ينفتح بصيرته الاخرويّة فيرى ما لا يراه غيره فيرى جهنّم وأنواع عقباتها وعقوباتها ، ويرى الجنان أيضا وأنواع نعيمها ، عن الرّسول (ص) انّه قال : انّ روح الأمين أخبرني انّ الله لا اله الّا هو إذا برز الخلائق وجمع الاوّلين والآخرين أتى بجهنّم تقاد بألف زمام أخذ بكلّ زمام مائة الف يقودها من الغلاظ الشّداد ، لها حدّة وغضب وزفير وشهيق وانّها لتزفر الزّفرة ، فلو لا انّ الله اخّرهم للحساب لأهلكت الجميع ثمّ يخرج منها عنق فيحيط بالخلائق البرّ منهم والفاجر ما خلق الله عبدا من عباد الله ملكا ولا نبيّا الّا ينادى : ربّ نفسي!. نفسي!. وأنت يا نبىّ الله تنادي

٢٥٤

أمّتي أمّتي!. ثمّ يوضع عليها الصّراط ادقّ من الشّعر واحدّ من حدّ السّيف عليه ثلاث قناطر ، فامّا واحدة فعليها الامانة والرّحم ، والثّانية فعليها الصّلوة ، والثّالثة فعليها ربّ العالمين لا اله غيره فيكلّفون الممرّ عليها فيحبسهم الرّحم والامانة ، فان نجوا منها حبستهم الصّلوة ، فان نجوا منها كان المنتهى الى ربّ العالمين وهو قوله : انّ ربّك لبالمرصاد ، والنّاس على الصّراط ، متعلّق بيد ، وتزلّ قدم ، ويستمسك بقدم والملائكة حولها ينادون : يا حليم اعف واصفح وعد بفضلك وسلّم سلّم ، والنّاس يتهافتون في النّار كالفراش فاذا نجا ناج برحمة الله مرّ بها ، فقال : الحمد لله وبنعمته تتمّ الصّالحات وتزكو الحسنات والحمد لله الّذى نجّاني منك بعد أياس عنه وفضله ، انّ ربّنا لغفور شكور (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) هذه جواب إذا أو هذه مستأنفة وجواب إذا محذوف أو جوابها قوله تعالى : يقول يا ليتني قدّمت ، أو قوله : فيومئذ لا يعذّب عذابه أحد والمقصود انّ الإنسان في ذلك اليوم يتذكّر خيره وشرّه ، وانّ اىّ الأعمال كان نافعا وايّها كان ضارّا لكن لا ينفعه ذلك التّذكّر ولذلك قال (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) اى الذّكرى النّافعة (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) اى ليتني قدّمت لانتفاعى في حيوتى في الآخرة ، أو ليتني قدّمت في حيوتى الدّنيا (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ) قرئ يعذّب بالبناء للفاعل وبالبناء للمفعول وعلى القرائتين فضمير عذابه لله أو للإنسان وعذابه مفعول مطلق نوعىّ وهذه أوصاف الإنسان الغافل الكافر (أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) حال أو جواب لسؤال مقدّر عن حال الإنسان المؤمن ناش عن ذكر الإنسان الكافر واحكامه وكلا الوجهين بتقدير القول ، ونفس الإنسان ذات مراتب ودرجات عديدة وأمّهات مراتبها بحسب تمكّن الشّيطان منه وتمكّنه في دار الرّحمن وتوسّطه منهما ثلاث ، وتسمّى الاولى بالامّارة وهي الّتى تأمر بالسّوء اى بما تهواه سواء كان في صورة الخير أو الشّرّ ، ولا ترتدع ولا تندم عليه ، والثّانية باللّوّامة وهي الّتى تلوم نفسها في كلّ ما تأتى خيرا كان أو شرّا وتحزن على ما فعل من حيث شرّيّته ، أو من حيث نقصانه عن درجة الكمال ، أو من حيث نسبته الى نفسها ، والثّالثة بالمطمئنّة لاطمئنانها الى ربّها وخروجها عن انانيّتها الّتى هي سبب اضطرابها (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) المضاف الّذى هو ولىّ أمرك وهو على الإطلاق علىّ (ع) أو الى ربّ الأرباب بالرّجوع الى مظاهره ودار كرامته وضيافته (راضِيَةً) بما فعل ربّك بك (مَرْضِيَّةً) عند ربّك وخلفائه (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) لخروجك عن انانيّتك ودخولك في العبوديّة بالخروج من الانانيّة (وَادْخُلِي جَنَّتِي) المضاف الى نفسي المعدّة لأوليائي.

اعلم ، انّه لا يحصل الاطمينان للسّلّاك الى الله الّا بنزول السّكينة الّتى تسمّى في اصطلاح الصّوفيّة بالفكر والحضور ، وهو ان يتمثّل ملكوت ولىّ الأمر في صدر السّالك ، وحصول صورة ولىّ الأمر امّا يكون بنحو المباينة أو بنحو الاتّصال أو بنحو الاتّحاد أو بنحو الوحدة ، ولا يحصل الاطمينان التّامّ الّا في المرتبة الاخيرة وان كان يحصل اطمينان ما في المراتب الاخر أيضا ، وفيما روى عن الصّادق (ع) دلالة على ما ذكر وهو انّه سئل هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ ـ قال : لا والله انّه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند ذلك فيقول له ملك الموت : يا ولىّ الله لا تجزع فو الّذى بعث محمّدا (ص) لأنا أبرّ بك وأشفق من والد رحيم لو حضرك ، افتح عينيك فانظر ، قال : ويتمثّل له رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) والائمّة (ع) من ذرّيّتهم فيقال له : هذا رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) والائمّة (ع) رفقاؤك فيفتح فينظر فينادى روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول : يا ايّتها النّفس المطمئنّة اى الى آل محمّد (ص) وأهل بيته ارجع الى ربّك راضية بالولاية

٢٥٥

مرضيّة بالثّواب فادخلي في عبادي يعنى محمّدا (ص) وأهل بيته وادخلى جنّتى فما من شيء احبّ اليه من استلال (١) روحه واللّحوق بالمنادي وفسّر الآية بالحسين بن علىّ (ع) ولذلك سمّيت السّورة بسورة الحسين بن علىّ (ع).

سورة البلد

مكّيّة ، عشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) اى بلد مكّة وهو البلد الحرام وقد مضى بيان لا اقسم وانّ لا زائدة لتأكيد القسم أو نافية ، ونفى لمعتقدهم ، أو نافية ونفى للقسم (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) اى أنت حلال هتكك ومالك ودمك ، أو أنت حلال لك ما تفعله بهذا البلد وان كان في وقت وهو عام الفتح ، أو حالّ ومقيم بهذا البلد ، والتّقييد تعظيم له (ص) واشارة الى انّ فخامة المكان تكون بالمكين (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) اى آدم (ع) وما ولد ، أو إبراهيم (ع) وما ولد ، أو علىّ (ع) وما ولد من الائمّة (ع) كما روى ، والتّنكير للتّفخيم والإتيان بما في مقام من للتّعجيب ، أو المراد كلّ والد وما ولد بحسب الولادة الجسمانيّة فانّ التّوالد بالكيفيّة المخصوصة في النّزو ، وقرار النّطفة في مقرّ مخصوص وخروج الجنين منه ونموّه وبلوغه مبلغ والده امر عجيب يقسم به ، أو المراد كلّ والد وما ولد بحسب الولادة الرّوحانيّة فانّ الولادة الرّوحانيّة أعجب من الولادة الجسمانيّة ، أو المراد والد الكلّ بالولادة الرّوحانيّة وهو محمّد (ص) وبعده علىّ (ع) (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) اى في شدّة ومشقّة في الدّنيا أو في الرّحم أو من اوّل خلقته أو مستقيما منتصبا بخلاف سائر الدّوابّ ، وعن الصّادق (ع) انّه قيل له : انّا نرى الدّوابّ في بطون أيديها الرّقعتين مثل الكىّ فمن اىّ شيء ذلك؟ ـ قال : موضع منخريه في بطن أمّه وابن آدم منتصب في بطن أمّه ، وذلك قول الله عزوجل : لقد خلقنا الإنسان في كبد ، وما سوى ابن آدم فرأسه في دبره ويداه بين يديه (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) ضمير يحسب راجع الى الإنسان والمراد به مطلق الإنسان ، أو المراد به الإنسان المخصوص يعنى يحسب ان لن يقدر عليه أحد في قتله ابنة النّبىّ (ص) ، وقيل : هو ابو الأسد بن كلدة كان قويّا شديد الخلق (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) اللّبد كصرد وسكر واللّابد المال الكثير يعنى يقول أنفقت مالا كثيرا في عداوة محمّد (ص) مفتخرا به ، أو أهلكت مالا كثيرا في نصرته مغتمّا به ، أو أهلكت مالا كثيرا بامره في الكفّارات وغيرها إظهارا للغرامة والنّدامة ، وقيل : هو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف وذلك انّه أذنب ذنبا فاستفتى رسول الله (ص) فأمره ان يكفّر فقال : لقد ذهب مالي في الكفّارات والنّفقات منذ دخلت في دين محمّد (ص) ، وفي خبر يعنى الّذى جهّز به النّبىّ (ص) في جيش (٢) العسرة ، وفي خبر هو عمرو بن عبد ودّ حين عرض عليه علىّ بن ابى طالب (ع) الإسلام يوم الخندق قال : فأين ما أنفقت فيكم مالا لبدا وكان أنفق مالا في الصّدّ عن سبيل الله (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) اى انّه لم يره أحد في اعماله وأفعاله وأقواله فيطالبه بذلك ويسأله عنه والمقصود انّه يظنّ ان لم يره الله تعالى في ذلك وبئس الظّنّ ذلك لا ينبغي ان يظنّ ذلك كيف لم يره أحد ولم نره وقد خلقناه وجعلنا فيه دقائق القوى والمدارك والأعضاء ومن جعل له هذه الأمور الدّقيقة كيف لا يراه؟! (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) مشتملتين على عشرة أجزاء بحيث جعلنا فيها نورا يبصر به الأشياء (وَلِساناً) مركّبا

__________________

(١) خروج السّيف من الغلاف.

(٢) والمراد بها غزوة تبوك.

٢٥٦

من اللّحم والعصب والشّرائين والاوردة والأوتار والعظم مفهّما به ما في ضميره مدركا به طعم الطّعوم (وَشَفَتَيْنِ) تكونان حافظتين للّسان وسائر ما في الفمّ محسنتين للصّورة معينتين على التّكلّم (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) عطف على مجموع الم نجعل فانّه بمعنى جعلنا له عينين أو على مدخول النّفى ، والمراد بالنّجدين سبيل الخير والشّرّ كما في الاخبار ، وقيل : المراد بهما الثّديان ، قيل لأمير المؤمنين (ع) : انّ أناسا يقولون في قوله : وهديناه النّجدين : انّهما الثّديان ، فقال : لا ، هما الخير والشّرّ (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) قحّمته في الأمر تقحيما رميته فيه فجأة بلا رويّة فانقحم واقتحم ، وقحم في الأمر قحوما رمى بنفسه فيه فجأة بلا رويّة ، واقتحم بالغ فيه والعقبة المرقى الصّعب من الجبال ، والمراد بها عقبات النّفس الّتى هي الرّذائل الّتى لا مرقى أصعب منها فانّ العبور عنها وتخلية النّفس منها والتّرقّى منها الى الخصائل أصعب كلّ شيء ولذلك أتى بالاستفهام التّعجيبىّ لتفخيمها وفسّرها بالعبور عن الرّذائل والدّخول في الخصائل بالاشارة الى أمّهاتها فقال : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ).

شرح في القوى الأربع للإنسان

اعلم ، انّ الإنسان له قوى اربع وكلّ من الأربع لها اعتدال وتوسّط بين الإفراط والتّفريط في الآثار ، والتّوسّط والاعتدال منها ممدوح ومطلوب ، والإفراط والتّفريط مذموم وقبيح ، والقوى الأربع هي العلّامة والعمّالة والشّهويّة والغضبيّة ، فالعلّامة كسلطان البلد يأمر وينهى ويدبّر ، والعمّالة كالوزير الّذى يمضى في امر الملك ، والشّهوية كالنّاظر الوكيل لخرج الجنود ، والغضبيّة كأمير الجنود ، واعتدال العلّامة بتمييزها بين الحقّ والباطل والمحقّ والمبطل والخير والشّرّ كما هي ، ويسمّى ذلك التّميز بالحكمة العلميّة ، ولمّا كان الحكمة العلميّة هي التّميز بين الذّوات والأقوال والأفعال والأحوال والأخلاق والعلوم والوجدانات والخطرات والخيالات والمشاهدات والتفاتات القلب من حيث ارتباطها ورجوعها الى الآخرة ، وكان في ازديادها ازدياد كمال النّفس وفي نقصانها نقصانه لم يكن لها طرفا افراط وتفريط ، بل كانت الجربزة الّتى عدوّها افراط القوّة العلّامة النّفسانيّة تفريطا وقصورا للنّفس عن البلوغ الى درجة الحكمة ، لانّ الجربزة هي التّصرّف بحسب العلم الوهمىّ في الأمور الدّنيويّة زائدا على ما ينبغي وليس ذلك الّا من نقصان ادراك الأمور الاخرويّة ، فالجربزة والبلادة اللّتان عدوّهما طرفي افراط العلّامة وتفريطها معدود ان من قسم البلادة ولذلك فسّروا الأحمق والسّفيه بمن لا يعرف الحقّ سواء كان بحسب الدّنيا سفيها أو لم يكن ، مثل معاوية فانّه كان بحيث سمّاه أهل زمانه بأعقل زمانه ، ولأجل عدم طرف الإفراط المذموم للحكمة قالوا : الرّذائل بحسب الامّهات سبع ، والخصائل بحسب الامّهات اربع ، واعتدال العمّالة بان تكون تحت حكم العاقلة العلّامة وان تقدر على الإتيان بما يأمرها العاقلة ويسمّى بالعدل الّذى هو وضع كلّ شيء في محلّه ولا يمكن ذلك الّا باستخدام الشّهويّة والغضبيّة ، وطرفا افراطه وتفريطه يسمّيان بالظّلم والانظلام ، واعتدال القوّة الشّهويّة ان تكون مطيعة للعمّالة المنقادة للعاقلة العلّامة ويسمّى اعتدالها بالعفّة ، وطرفا افراطها وتفريطها يسمّيان بالشّره والخمود ، واعتدال الغضبيّة يسمّى بالشّجاعة وطرفا افراطها وتفريطها يسمّيان بالتّهوّر والجبن ، وقد يقال : انّ القوى الأربع في الإنسان هي البهيميّة والسّبعيّة والشّيطنة الّتى هي العلّامة النّفسانيّة الوهميّة ، والعاقلة الّتى هي العلّامة العقلانيّة ويجعل العمّالة خادمة للقوى الأربع ويجعل العدل المتوسّط بين الظّلم والانظلام من شعب الشّجاعة ، ويجعل الحكمة الّتى هي التّوسّط بين البلادة والجربزة من مقتضيات العلّامة النّفسانيّة ، ويجعل مقتضى العلّامة العقلانيّة تعديل القوى الثّلاث وتعديل العمّالة بحيث لا يخرج شيء منها من حكم العاقلة ويسمّى بالعدالة وتلك العدالة ليس لها طرفا افراط وتفريط بل لها التّفريط فقط وتفريطها هو قصور العاقلة عن تسخير القوى الثّلاث وهو ظلم من القوى وانظلام للعاقلة وكأنّه أراد العلّامة النّفسانيّة من العمّالة من جعل العمّالة منشأ لبعض الخصال للتّلازم الواقع بينهما فقوله تعالى : فكّ رقبة ان كان المراد به فكّ

٢٥٧

رقبة نفسه عن التّقيّد بقيود النّفس كان المراد به أصل الخصال وروحها الّذى يعبّر عنه بالفناء عن نسبة الأفعال والصّفات الى نفسه بل عن نسبة الذّات الى نفسه ولذلك قدّمه على الجميع ، وان كان المراد به فكّ رقاب النّاس عن رقّيّة أنفسهم وعن النّار كان اشارة الى أشرف أقسام العدل ، وان كان المراد به فكّ رقاب العبيد الصّوريّة عن الرّقبة كان اشارة الى أعلى أقسام السّخاوة الّتى هي أشرف أنواع العفّة (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) اى ذي مجاعة اشارة الى السّخاوة على المعاني الثّلاثة الاوّل لقوله فكّ رقبة والى صنف آخر من السّخاوة على الأخير (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) ذا فقر من ترب تربا ومتربا ومتربة بمعنى افتقر (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) عطف على إطعام من قبيل عطف الفعل على الاسم الخالص بتأويل المصدر بتقدير ان ، وحينئذ يكون فكّ رقبة اشارة الى الفناء الّذى هو أصل جملة الخصال ، ويكون لفظة أو للتّرديد بينه وبين الخصال الّتى تحصل بالبقاء بالله بعد الفناء في الله ، ويكون الإطعام اشارة الى العفّة ، والكون من الّذين آمنوا ، اشارة الى أفضل أنواع الحكمة ، ويكون قوله تعالى (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) اشارة الى الشّجاعة فانّ حبس النّفس عن الجزع عند المصيبة ، وعن المعصية عند اقتضاء القوى النّفسانيّة ، وعلى الطّاعة من قوّة القلب الّتى هي الشّجاعة ، وقوله تعالى (تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) اشارة الى العدالة فانّ العدل الّذى هو وضع كلّ شيء في محلّه لا يتأتّى الّا بالمرحمة ، والتّواصى بها شعبة من العدالة ، أو قوله كان من الّذين آمنوا عطف على قوله تعالى اقتحم العقبة والعطف بثمّ للتّفاوت بين المرتبتين (أُولئِكَ) هم (أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) جواب لسؤال مقدّر وقد مضى انّ أصحاب اليمين شيعة أمير المؤمنين (ع) (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) أوصد اتّخذ حظيرة لإبله ، وأوصد الكلب اغراه ، والباب اطبقه وأغلقه.

سورة والشّمس

مكّيّة ، كلّها ستّ عشرة آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها) اقسم بالشّمس الصّوريّة ، أو بالشّمس الحقيقيّة ، أو بالرّوح الانسانيّة (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) اى خلّفها في الاضاءة ، أو تبعها في الطّلوع أو تلاها عند غروبها بان طلع حين غروبها وهو في أواسط الشّهر ، أو اقسم بقمر النّفس الانسانيّة إذا تلى وتبع الرّوح في العروج الى الله (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) اى جلّى الشّمس وأبرزها بكمال الظّهور وهو أوقات أواسط النّهار ، أو المراد بالشّمس الامام وبالنّهار الصّدر المنشرح بالإسلام إذا ابرز الامام واستشرق بنور الامام ، وهو وقت نزول السّكينة على السّالك بظهور الامام بملكوته عليه (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) اقسم باللّيل ووقت احاطة ظلمته نور الشّمس فانّ بقاء المواليد وتوليدها لا يكون الّا بظهور الشّمس وغشيان اللّيل (وَالسَّماءِ وَما بَناها) اى والّذى بناها ، أتى بما ليكون موافقا لاعتقاد جميع الفرق ، أو لفظة ما مصدريّة

٢٥٨

(وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) طحا كسعى بسط وانبسط واضطجع ، وطحا يطحو بعد وهلك ، والقى إنسانا على وجهه (وَنَفْسٍ) كان اللّائق بسياق الكلام ان يقول والنّفس بلام الجنس لكنّه عدل عنه امّا لتفخيم النّفس بالنّسبة الى السّابق ، أو لارادة نفس مخصوصة مفخّمة بحيث لا يمكن تعريفه وهي النّفس الكلّيّة أو نفس النّبىّ (ص) أو الولىّ (ع) أو نفس محمّد (ص) أو علىّ (ع) ، أو لارادة نوع مخصوص منها عظيم وهو نوع نفس الإنسان (وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) يعنى القى في خاطرها فعل فجورها أو ألهمها معرفة فجورها حتّى تجتنب ومعرفة تقويها حتّى ترتكب (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) أنماها وأصلحها أو طهّرها (وَقَدْ خابَ) خسر ، أو كفر ، أو افتقر ، أوجاع (مَنْ دَسَّاها) دسا يدسو نقيض زكى وبمعنى استخفى ، ودسى مثل سعى من اليائىّ ضدّ زكا أيضا ، ودسّاه من التّفعيل أغواه وأفسده ، وقيل : قد خاب من دسّى نفسه في أهل الخير اى أخفيها فيهم وليس منهم (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) جواب سؤال مقدّر واستشهاد على خيبة من دسّى نفسه (بِطَغْواها) الباء للسّببيّة ، والطّغوى بمعنى الطّغيان والعصيان ، وقيل : الباء صلة كذّبت والطّغوى اسم للعذاب الّذى نزل بهم (إِذِ انْبَعَثَ) اى نهض لعقر النّاقة (أَشْقاها) اى أشقى ثمود واسمه قدار كهمام وكان اسم أبيه سالفا قال رسول الله (ص) لعلىّ بن ابى طالب (ع): من أشقى الاوّلين؟ ـ قال : عاقر النّاقة ، قال : صدقت ، فمن أشقى الآخرين؟ ـ قال : قلت : لا اعلم يا رسول الله (ص) ، قال : الّذى يضربك على هذه ، وأشار الى يافوخه (١) (فَقالَ لَهُمْ) الاولى ان يكون الفاء للسّببيّة الخالصة (رَسُولُ اللهِ) اى صالح (ع) (ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) منصوب من باب التّحذير أو الإغراء ، أو منصوب بفعل محذوف من غير باب التّحذير والإغراء اى اتركوا ، والمراد بسقيها نوبة شربها أو الماء الّذى كانت تشربها بالنّوبة (فَكَذَّبُوهُ) في رسالته ، أو في التّحذير والإغراء ، أو في نزول العذاب (فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ) دمّه طلاه ، والبيت جصّصه ، والسّفينة قيّرها ، والأرض سوّاها ، وفلانا عذّبه عذابا تامّا وشدخ رأسه وشجّه وضربه ، والقوم طحنهم فأهلكهم كدمدمهم ودمدم عليهم (فَسَوَّاها) اى سوّى الدمدمة عليهم وعمّهم بها ، أو سوّى ثمود في الدّمدمة بان عمّهم بها ، أو بان سوّى بعضهم ببعضهم بان جعل كبيرهم على مقدار صغيرهم (وَلا يَخافُ عُقْباها) اى لا يخاف الله عقبى الدّمدمة ، أو عقبى التّسوية لانّه لا يردّ عليه شيء من فعله لانّه لا يعارضه أحد ولا ينتقم منه أحد أو لا يخاف العاقر عقبى فعلته ، أو لا يخاف صالح عقبى العقوبات الّتى خوّفهم بها لكونه على ثقة من ربّه في نجاته ، أو لا يخاف عقبى دعوته على القوم وتبعتها ، لانّ دعوته على القوم كانت بإذن من الله واستحقاق منهم.

سورة واللّيل

مكّيّة ، احدى وعشرون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) بظلمته نور الشّمس والأبصار ، وببرودته المدارك والرّوح الحيوانيّة والنّفسانيّة حتّى تجتمعا في الباطن ، أو يغشى النّاس بالنّوم ، أو اقسم بليل الطّبع أو النّفس أو البلايا ، أو ليل القدر إذا يغشى اهله

__________________

(١) اليافوخ الموضع الّذى يتحرّك من رأس الطّفل.

٢٥٩

(وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) وقت الضّحى الى الآصال أو نهار الرّوح أو السّرور أو نهار عالم المثال إذا تجلّى لأهله (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) لفظة ما مصدريّة أو موصولة بمعنى من ، والتّأدية بما لتوافق اعتقاد الجميع والمراد بالذّكر والأنثى جنسهما ، أو آدم وحوّاء أو علىّ (ع) وفاطمة (ع) ، وقرئ وخلق الذّكر والأنثى بدون ما (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) اى متفرّق ، اعلم انّ السّعى عبارة عن حركات الأعضاء ، ولمّا كان الحركات الاراديّة لا بدّ لها من مبدء إراديّ والمبدأ الارادىّ لا يكون الّا العلّة الغائيّة الّتى هي مبدأ فاعليّة الفاعل بحسب التّصوّر وغاية الفعل بحسب الوجود ، وكان الإنسان ذا قوى كثيرة بحسب شعب القوى الشّهويّة والغضبيّة والشّيطنة والعاقلة منفردة أو مركّبة ، ولكلّ قوّة مباد وغايات عديدة مثل شهوة النّساء مثلا فانّ المشتهى لهنّ قد يكون الدّاعى في سعيه النّظر فقط ، وقد يكون مع ذلك اللّمس ، وقد يكون التّقبيل والتّعانق والتّحادث ، وقد يكون الالتحاف معهنّ ، وقد يكون السّفاد كان سعيه مع اختلافه بحسب الصّورة مختلفا في المبدء والغاية (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) من ماله لله ، ومن جاهه وعرضه ، ومن قوّة قواه وحركات أعضائه ، ومن قوّته المتخيّلة والعاقلة (وَاتَّقى) من البخل ومن الإعطاء في غير طلب رضا الله ، وهذا اشارة الى الكمال العملىّ (وَصَدَّقَ) تقليدا بان استمع من صادق وصدّق ، أو تحقيقا بان وجد أنموذج ما استمع في نفسه (بِالْحُسْنى) اى العاقبة أو المثوبة أو الخصلة أو الفضيلة أو الكلمة الحسنى ، وروى عن الصّادق (ع) انّ المراد بها الولاية فانّه لا حسنى أحسن منها ، وقيل : المراد بها السّير في الله وهو أيضا آخر مقامات الولاية وهذا اشارة الى الكمال العلمىّ (فَسَنُيَسِّرُهُ) بحسب العمل (لِلْيُسْرى) اى الخصلة اليسرى الّتى هي أيسر شيء على انسانيّة الإنسان وهي الجدّ في طلب مرضاة الله فانّه بعد ما كان الإنسان مصدّقا خصوصا إذا كان تصديقه تحقيقيّا كان الطّاعة أيسر شيء والذّ شيء عنده فقوله تعالى : من أعطى ، اشارة الى العمل التّقليدىّ ، وصدّق اشارة الى انتهاء العمل الى التّحقيق ، وقوله تعالى : فسنيسّره لليسرى اشارة الى العمل التّحقيقىّ ، أو المراد باليسرى السّير في الله فانّه الخصلة اليسرى على الإطلاق فانّ السّير في الله لا يكون الّا بعد الخروج عن انانيّات النّفس والفناء الذّاتىّ ، وكلّ عمل يكون مع بقاء انانيّة للنّفس يكون له عسرة ما على النّفس ، أو المراد باليسرى ضد اليمنى ، ويسرى النّفس الانسانية هي الكثرات يعنى سنيسّره للاشتغال بالكثرات بحيث يكون في نهاية اليسر عليه بعد ما كان عسيرا عليه (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) بحسب العمل التّقليدىّ (وَاسْتَغْنى) عن موائد الآخرة بترك العمل لها وهذا اشارة الى النّقصان العملىّ والعلمىّ (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) اشارة الى النّقصان العلمىّ (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) اى الطّريقة العسرى وهي طريق النّفس الى الملكوت السّفلى ، ولا أعسر على الانسانيّة منها (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) اى سقط في الهاوية من: تردّى في البئر إذا سقط فيها ، قال القمّىّ : نزلت في رجل من الأنصار كانت له نخلة في دار رجل وكان يدخل عليه بغير اذن فشكا ذلك الى رسول الله (ص) وفي المجمع كان لرجل نخلة في دار رجل فقير ذي عيال وكان الرّجل إذا جاء فدخل الدّار وصعد النّخل ليأخذ منها التّمر فربّما سقطت التّمرة فيأخذها صبيان الفقير فينزل الرّجل من النّخلة حتّى يأخذ التّمر من أيديهم ، وان وجدها في فيّ أحدهم ادخل إصبعه حتّى يأخذ التّمرة من فيه ، فشكا ذلك الى النّبىّ (ص) وأخبره بما يلقى من صاحب النّخلة فقال النّبىّ (ص) لصاحب النّخلة ، تعطيني نخلتك المائلة الّتى فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنّة؟ ـ فأبى ، فقال (ص) بعنيها بحديقة في الجنّة؟ فأبى ، وانصرف ، فمضى اليه ابو الدّحداح واشتراها منه بأربعين نخلة ، وأتى الى النّبىّ (ص) فقال : يا رسول الله (ص) خذها واجعل لي في الجنّة الحديقة الّتى قلت لهذا ، فلم يقبله ، فقال رسول الله (ص) لك في الجنّة حدائق وحدائق وحدائق ، فأنزل الله الآيات ، وعن الباقر (ع) فأمّا من أعطى ممّا آتاه الله واتّقى وصدّق بالحسنى اى بانّ الله يعطى

٢٦٠