تفسير من وحي القرآن - ج ٣

السيد محمد حسين فضل الله

بالتوجه إلى بيت المقدس ، ثم حوّلهم عنها ليبرز الأشخاص الذين يعيشون الإسلام فكرا وشعورا وممارسة وطاعة مطلقة ... وليتميزوا عن الأشخاص الذين يعيشون الاهتزاز في إيمانهم ، ويواجهون الرسالة كأيّة فكرة بشرية قابلة للأخذ والرد ، ويفهمون الإيمان ارتباطا شكليا بالله وبالرسول ، حتى إذا وقفوا في مواقع البلاء ، تحوّلوا عن مواقفهم ومواقعهم الإيمانية إلى مواقع الكفر والنفاق. ولا نريد أن نخوض طويلا في ما خاض فيه المفسرون من إثارة التساؤل حول كلمة (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) في الآية ، حيث إن الله لا يحتاج إلى أية وسيلة عملية لمعرفة طبيعة الأشخاص ، لأن هذا التعبير جار على الأسلوب القرآني الذي يتحدث عن الوسائل التي توضح الأشياء الخفية وتظهرها باعتبارها أساسا للعلم الذي يريد الله أن يحصل عليه من خلال ذلك ، وذلك على سبيل الاستعارة لقيام الحجّة على الإنسان بذلك ، للتدليل على أن الله لا يعاقب الناس ولا يحاسبهم إلا على أساس ما يظهر له من أفعالهم وأقوالهم ، وهذا ما عبّر عنه قوله تعالى :

(الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [العنكبوت : ١ ـ ٣].

وهكذا كانت القبلة الجديدة اختبارا للإيمان المستقر في قلوب المؤمنين الذين يسلمون أمرهم لله فلا يعترضون على ما يأتيهم الرسول به من تشريعات ، لأنهم يؤمنون بأنه (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم : ٣ ـ ٤] ، ليتميز هؤلاء عن غيرهم ...

(مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) هذا كناية عن الذين يتراجعون عن خط الإيمان ويسقطون أمام التجربة وتثيرهم الشكوك وتنحرف بهم عن الخط ، لأنهم لا يعيشون الإسلام تسليما فكريا وروحيا وعمليا ، ولا ينفتحون على الرسول التزاما وطاعة.

٨١

(وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ). الظاهر أنها إشارة إلى هذه الحادثة التي تتمثل في تحويل القبلة إلى الكعبة ، باعتبار أنها هزّت المجتمع المسلم من ناحية فكرية وعملية ، فأثارت في داخله الشعور باهتزاز التشريع وعدم ارتكازه على أساس متين من المصلحة والحكمة الثابتة التي لا تغيّرها الظروف والأحوال في ما كان يوحيه اليهود للمسلمين من نظريتهم حول النسخ ، كما كانوا يوسوسون لهم بأن صلاتهم التي كانوا يتوجهون بها إلى بيت المقدس قد ضاعت عليهم ، لأنها كانت إلى غير القبلة الحقيقة ، فأشبهت حالهم حال الذين لا يتوجهون في صلاتهم إلى الكعبة الآن ، ولكن الذين هداهم الله وعرّفهم حقيقة شريعته وطبيعة ارتباط التشريع ، وهو الذي يعرف وجه الحكمة في ما يحرّم وفي ما يحلّل ، انطلاقا من اختلاف المصلحة في بعض الأشياء حسب اختلاف الظروف والأحوال ، انطلقوا في الموضوع انطلاق تسليم وانقياد وطاعة مطلقة ، ووعي منفتح على خلفيات التشريع الحكيمة.

أمّا قضية ضياع إيمان المؤمنين ، في ما تمثله الصلاة من روح الإيمان ، فليس واردا في حساب الله ، (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) ، لأنهم قاموا بالصلاة على أكمل وجه ، فإن العبرة بحصول الشروط في حال القيام بالصلاة ، فلا يتبدل الحال من هذه الجهة إذا تبدلت الشروط ، لأن الشرط الجديد لا يترك أثرا رجعيا على الأعمال السابقة ، بل يقتصر تأثيره على الصلوات المقبلة ، وهذا ما ينسجم مع رأفة الله ورحمته بعباده ، حيث يحفظ لهم أعمالهم ويثيبهم عليها إذا كانت واجدة لشروطها الكاملة (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

وقيل : إن المراد «بالقبلة التي كنت عليها» هي الكعبة ، «لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود ، ثم حوّل إلى الكعبة ، فيقول : وما جعلنا

٨٢

القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أوّلا بمكة ، يعني وما رددناك إليها إلّا امتحانا للناس وابتلاء ، لنعلم الثابت على الإسلام الصادق فيه ، ممن هو على حرف ينكص على عقبيه لقلقه فيرتد» (١).

وفي ضوء هذا ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مأمورا بالتوجه إلى الكعبة ، ثم حوّل إلى بيت المقدس ، ثم أعيد إلى الكعبة ، فكان الابتلاء موجها إلى العرب أو إلى قريش الذين كانوا متعلقين بالكعبة ، مما يجعل من تحويلهم إلى بيت المقدس اختبارا لهم ، باعتبار أن ذلك يصطدم بمشاعرهم الحميمة تجاه الكعبة.

ولازم ذلك أن الله جعل الكعبة قبلة مرتين ، ونلاحظ على ذلك :

أولا : إنه لا دليل على تشريع الصلاة إلى الكعبة في البداية ، ولا ظهور في الآية على ذلك.

وثانيا : إن الظاهر من قوله تعالى في الآية التالية : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) أن الكعبة كانت تمثل رغبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن يوجهه الله إليها لتكون قبلة المسلمين في صلاتهم مما يوحي بأنه لم يسبق لها أن كانت قبلة سابقا.

وثالثا : إن عملية التشريع أولا ، ثم النسخ ، ثم التشريع ثانيا لا يتناسب مع طبيعة استقامة التشريع.

ورابعا : إن تشريع الكعبة كقبلة كان مقدّرا له أن يستقر في نهاية التشريع ، ولكن الله أخّر ذلك للحكمة المذكورة في هذه الآية ، وهي أن تكون المسألة مادة اختبار وامتحان للمسلمين ، من دون أن تكون هناك أيّة سلبية في طبيعة الصلوات التي صلوها إلى بيت المقدس ، لأنها كانت القبلة

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ١ ، ص : ٣١٨.

٨٣

الشرعية قبل النسخ مما يجعل الحكم مطابقا للواقع ، لأن النسخ لا يرفع الحكم من أصله ، بل يرفعه من وقته.

وخامسا : إن الظاهر من الآية أن التجربة كانت تتحرك نحو المنافقين الخاضعين لليهود ، في إثارتهم للمشاكل الفكرية ضد الإسلام وأهله ، وليست متحركة في الواقع العربي أو القرشي الذي كان لا يمثل مشكلة كبري في الواقع الإسلامي ، ولذلك لم نجد هناك أي حديث تاريخي عن مسألة العلاقة الحميمة بالكعبة التي كانت تمثل الخط الفاصل بين الثبات على الإيمان والانحراف عنه على أساس تشريع القبلة.

وسادسا : روى علي بن إبراهيم بإسناده عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : تحوّلت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس ، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدس سبعة أشهر ، قال : ثم وجّهه الله إلى الكعبة ، وذلك أن اليهود كانوا يعيّرون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون له : أنت تابع لنا تصلي إلى قبلتنا ، فاغتمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك غمّا شديدا ، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من الله تعالى في ذلك أمرا ، فلما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر ، كان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظهر ركعتين ، فنزل عليه جبرائيل عليه‌السلام ، فأخذ بعضديه وحوّله إلى الكعبة ، وأنزل عليه : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وكان صلّى ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة ، فقالت اليهود والسفهاء : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها (١)؟.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٤١٣.

٨٤

الامتحان وسلامة المسيرة

وقد نستوحي من هذه الآية أن اختبار القاعدة الإسلامية في حركتها في الواقع مع القيادة ، من حيث صدق انتمائها وجدّية إيمانها وصلابة التزامها ، قد يكون حاجة مهمة لسلامة المسيرة الإسلامية ونجاح الخطط المرسومة ، باعتبار أن ذلك يتكفل بمعرفة القوى المنحرفة التي قد تدخل في الحركة الإسلامية أو في جهاز المرجعية ، أو في المواقع الاجتماعية الحساسة ، ليرصد كل خطواتها ويعرّيها ويفضحها حتى لا تكيد للمسيرة ، ولا تربك الواقع ، ولا تعبث بالطيبين الساذجين من الناس المؤمنين لتوظفهم بطريقة سلبية ضد الأهداف الإسلامية ، ولا تعيث في الأرض فسادا ، وذلك بالطريقة التي جرى عليها التشريع في القبلة بأن تتحرك التعليمات الحركية بالأسلوب الذي يثير الارتباك والتعقيدات ، ولكن مع الحذر في اختيار المضمون والأسلوب والمرحلة ، بالمستوى الذي لا يؤدي إلى النتائج السلبية على الحركة في الوقت الذي تتحرك فيه للحصول على إيجابيات الواقع. وهذا ما عبّرت عنه الآية.

* * *

وحدة القبلة : وحدة الأمة والاتجاه

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما توحي به الآية الكريمة وفي ما تتحدث به الروايات ، يعاني أزمة نفسية في موضوع القبلة ، فقد كان يواجه التحدي اليهودي للمسلمين ، الذي يتمثل في تعييرهم لهم بتبعية قبلتهم وفي تفاخرهم بذلك عليهم ، مما كان يترك تأثيرا سلبيا على نفسية المسلمين. ولم تكن القضية قضية انفعال مضاد ضد التشريع بالتوجه إلى بيت المقدس ، بل كان

٨٥

تطلعا روحيا إلى قبلة جديدة تنسجم مع أجواء الرسالة الإسلامية التي انطلقت من البلد الحرام والمسجد الحرام ، واعتبرت امتدادا للخط الإسلامي الذي بدأه إبراهيم في منطلقة الروحي من الكعبة ... وكانت مشاعره تتصاعد في ابتهال داخلي كمثل الدعاء الصامت الذي يعبر عن نفسه بالنظرات الخاشعة التي توحي وكأنها تنتظر شيئا كمثل الهاجس الداخلي الذي يشبه الوحي.

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) في تطلع ابتهالي ينفتح في روحية دعائية على ربه ، في تعبير عن الرغبة العقلية التي تنطلق من حسابات دقيقة في مصلحة الرسالة ومن إيحاءات شعورية في وعي التحدي اليهودي ضد الإسلام ، وذلك في دعاء هادئ يرتفع إلى الله ، من دون اعتراض على تشريعه للقبلة الأولى ، وتوسل إليه أن يبدلها إلى القبلة الجديدة ـ وهي الكعبة ـ التي تنسجم مع موقع الرسالة الذي يتجذر في حركة الأمة ، من خلال الإحساس بأن الدين الجديد بحاجة إلى قبلة جديدة تمثل رمز الوحدة الحركية للأمة.

فإن الله الذي أراد لإبراهيم أن يؤذّن في الناس بالحج إلى الكعبة ، أعطاها معنى الطهارة والقداسة والخصوصية المميزة في اعتبارها بيته المحرّم الذي طهّره ـ من خلال إبراهيم ـ للطائفين والعاكفين والركّع السجود ، كما جعله مثابة للناس وأمنا ، وغير ذلك من الخصوصيات الداخلية والخارجية التي تميزه عن بيت المقدس. فقد صنعت الكعبة على عين الله ولم يكن ذلك لبيت المقدس .. وهكذا تقبّل الله ابتهالاته ودعواته ، وجاء الوحي ليقرّر التشريع للقبلة الجديدة التي يرضاها الله كما رضيها رسوله : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ) يا محمد (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، أي حوّل نفسك في توجهاتك العبادية نحو المسجد الحرام الذي يحتوي الكعبة ـ القبلة باعتبارها جزءا منه ، (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) أيها المسلمون ، (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) وتوجهوا إليه ، ليكون

٨٦

رمز وحدتكم في اتجاهكم نحو بيت الله الذي هو المسجد العالمي ، سواء كنتم في البحر أو في البر ، أو في السهل أو في الجبل ، أو في الجوّ أو في الشرق أو في الغرب ، ولا تنحرفوا عنه إلى غيره يمينا أو شمالا ولا تستدبروه. وقد انطلق التدقيق بالقبلة من خلال التحديد الصريح في ضرورة التوجه إلى المسجد الحرام حتى أصبح هناك ما يقارب تأسيس علم القبلة.

وهكذا كانت القبلة الجديدة في حركة التشريع استجابة للتطلعات الروحية النبوية بالإضافة إلى ما تشتمل عليه من المصالح الإلهية التي يريد الله للناس أن يحصلوا عليها من خلال ذلك ... وهكذا وجه الله نبيه إلى جهة المسجد الحرام لاشتماله على الكعبة ، وهو قائم يصلي في مسجد بني سالم في ما تنقله روايات أسباب النزول ، ودعا المسلمين إلى التوجه إليه في أي مكان كانوا ... وأثار أمامه قضية أهل الكتاب الذين لا ينطلقون من الواقع في ما ينطلقون فيه من حديث وإثارة ، بل ينطلقون من العناد والمكابرة والكذب ...

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ولا سيما اليهود الذي بادروا بالاعتراض وأوحوا للمنافقين أن يرفعوا الصوت عاليا بذلك ، بعد أن كانوا يتحدون النبي ويستعلون عليه لتوجهه إلى قبلتهم نحو بيت المقدس ، (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ). قال في مجمع البيان : «أي يعلمون أن تحويل القبلة إلى الكعبة حق مأمور به من ربهم ، وإنما علموا ذلك لأنه كان في بشارة الأنبياء لهم أن يكون نبي من صفاته كذا وكذا ، وكان في صفاته أنه يصلّي إلى القبلتين. وروي أنهم قالوا ـ عند التحويل ـ : ما أمرت بهذا يا محمد وإنما هو شيء تبتدعه من تلقاء نفسك مرة إلى هنا ، ومرّة إلى هنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وبيّن أنهم يعلمون خلاف ما يقولون» (١). وربما كان وصفهم بأهل الكتاب في الآية إيحاء

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٤٢٠.

٨٧

بأن تحويل القبلة موجود في الكتاب ، لأنهم يعلمون أن الخط الذي تسير عليه في العقيدة وفي التشريع هو الحق من ربهم ، وذلك في ما تحدثت به التوراة التي يعرفونها جيّدا ويخفونها عن الناس ، وهم يظنون أن الله يغفل عنهم في ما يدبّرون من مكائد ، ولكن الله لا يغفل عنهم وعن أعمالهم في أيّ حال ، (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) من الخطط التخريبية العدوانية التي يخططونها في حركتهم المضادة للنبي ، من أجل أن يصدوا عن سبيل الله ويفتنوا الناس عن دينهم الحق.

فهو المطّلع على كل شيء من أمور عباده.

* * *

موقف العناد والجهود الضائعة

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) لأنهم لا يريدون الانفتاح على رسالتك ، فقد أغلقوا كل النوافذ الروحية والفكرية التي تطل على الحق ، ولذلك فإن الجهد الذي تصرفه معهم من أجل أن تقنعهم بالحق الذي معك ، هو جهد ضائع لا يؤدي إلى النتيجة المطلوبة ، فالقضية ليست قضية الدلائل والبينات التي تقدمها إليهم كثرة أو قلّة ، بل هي الباب المغلق الذي يقفون خلفه ولا يريدون الخروج منه ، فلو أنك قدمت لهم كل الآيات ما اتبعوا قبلتك.

كما أنك ـ من خلال الحق الذي تؤمن به ـ لا تتبع قبلتهم. ثم إن القضية ليست قضية العناد الذي لا يلين للحق معك ، بل إن الموقف الذي يحكم علاقة بعضهم ببعض يتخذ الأسلوب نفسه ، فإن اليهود يستقبلون صخرة بيت المقدس

٨٨

أينما كانوا ، أمّا النصارى فيستقبلون المشرق أينما كانوا دون أن يتنازل أحدهم للآخر ، (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ).

وتنطلق الآية أخيرا في مواجهة الموقف بأسلوب التهديد لأية حالة من حالات الاستسلام للضغوط المتنوعة التي يمكن أن يخضع لها المسلمون في مثل هذه المجالات ... وتزداد المواجهة حدّة وتأكيدا بتوجيه الخطاب إلى النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأسلوب من أساليب القرآن في الإيحاء للأمة بخطورة القضية ، فإن القوم لا ينطلقون من موقف فكري للحق بل يتحركون من خلال أهوائهم.

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) الذين يظلمون أنفسهم فيبتعدون بها عن الحقيقة الأصيلة التي انفتحوا عليها من خلال المعرفة العميقة الواسعة ، ويظلمون العقل الذي يمثل القاعدة لوجودهم الإنساني ، الذي يركز لهم كل خطواتهم في الحياة ويضعها على الدرب المستقيم ، ويظلمون مصيرهم الذي يتحركون به إلى النار بدلا من الجنة.

فكيف يمكن لمن يملك وضوح الرؤية للموقف أن يستسلم لأهواء الآخرين؟! إن النتيجة ستكون استسلاما لنوازع الظلم للذات وللقضية وللأمة ، مما يجعل المصير في اتجاه مصير الظالمين.

* * *

أهل الكتاب يعرفون النبيّ ورسالته حقّ المعرفة

ويؤكد القرآن من جديد أن أهل الكتاب لا يعيشون حالة جهل للنبي

٨٩

ولرسالته ، فقد عرّفتهم التوراة صفاته جيدا ، فعرفوه في وضوح من الرؤية كما عرفوا أبناءهم ، ولكنهم يكتمون الحق وهم يعلمونه نتيجة عنادهم وتمردهم وضلالهم. ويختم الموقف من مواقف التحدي الذي يمارسه الباطل ضد الحق ، ثم يحدد القضية بشكل حاسم ، فلكل إنسان وجهة في حياته يصرف وجهه إليها ويتجه نحوها ، فأهل الباطل يتجهون إلى رموز الباطل وعلاماته ، وأهل الحق يتجهون إلى رموز الحق وعلاماته. ولكل واحد منهم عمل ، فأهل الخير يتحركون في اتجاه الخير ويتسابقون نحوه ، وأهل الشر يتحركون في اتجاه الشر ويستبقون إليه.

ثم يطرح النداء الحاسم للمؤمنين أن يستبقوا الخيرات في كل موقف وفي كل منعطف ، ليعرفوها ويعيشوها فكرا وشعورا وعملا ، وستكون نهاية الجميع عند الله ، فإن الله لا يفوته أحد ولا يعجزه مطلوب ، مهما ابتعد ومهما نأى ، فسيأتي به الله لأنه على كل شيء قدير.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) وهم العلماء منهم ، (يَعْرِفُونَهُ) أي رسول الله في صدقه في نبوّته ، (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) في وضوح الرؤية وإشراقة اليقين من خلال بشارة التوراة والإنجيل به ، وحديثهما عنه بأوصافه ودلائله التي تشيز إليه ، وقد جاء الحديث في القرآن الكريم عن ذلك في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف : ١٥٧] ، وقوله: (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الصف : ٦].

٩٠

واحتمل بعضهم أن يكون الضمير في (يَعْرِفُونَهُ) عائدا إلى الكتاب ، ولكنه غير ظاهر لأنه لا مناسبة له في السياق العام في موضوع الجدال الذي يدور حول النبي والنبوّة أمام مفردات التشكيك التي توجّه إليه ، كما أن تشبيه هذه المعرفة بمعرفة الأبناء قد يوحي بذلك ، فإنه يقال في الإنسان إن فلانا يعرفه كما يعرف ولده ولا يقال ذلك في الكتاب.

(وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَ) الذي قامت الحجة عليهم به بمعرفته اليقينية (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) لأنهم لا يملكون أساسا لأية شبهة في ذلك.

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) الذي أنزله إليك وبيّنه لك في وضوح الوحي وإشراقته ، (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الشاكّين في أيّ شأن من شؤونه.

والظاهر أن الخطاب ـ كما ذكرنا ـ موجه لرسول الله الذي جاء بالصدق وصدّق به ، وهو جار على أسلوب خطاب الأمّة من خلال خطاب الرسول ، مما يوحي بأن على الأمّة أن لا تقع تحت تأثير عناصر الشك التي يحاول الكافرون من أعداء الإسلام إثارتها في وجدانهم الفكري.

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) أي أن لكل قوم وجهة يتجهون إليها من خلال القاعدة الفكرية الإيمانية التي يرتكزون عليها في ما يأخذون به أو يتركونه ، أو ينطلقون به من مواقع ومواقف وعلاقات بالحياة وبالإنسان ، سواء في ذلك الأنبياء الذين ينطلق كل واحد منهم بملّته ووجهته التي تختلف في خصوصياتها فتتعدد جهاتها ، ولكنها تلتقي في الإسلام الذي يجمع الرسالات كلها عند الانقياد لله في كل شيء ، وهذا هو ما ينبغي للمسلمين أن يتحركوا فيه في انفتاحهم على الكعبة التي أراد الله لهم أن يتوجهوا إليها ، بعيدا عن كل عناصر الشك التي يثيرها اليهود والمنافقون في عملية تحويل القبلة التي شرّعها الأنبياء من قبلهم ، لأنه من الممكن أن يختلف اتجاه القبلة بين رسالة وأخرى ، وبين

٩١

نبي وآخر ، (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) فهذا هو الوجه الذي أراد الله لكم أن تستقبلوه في كل مواقع حياتكم في رسالتكم التي حمّلكم الله إياها من خلال رسوله بالمسارعة إلى الخيرات التي تمثل حركة الحياة في إيجابياتها الروحية والأخلاقية في الإنسان بعلاقته بالإنسان الآخر ، وبالكون من حوله ، عند ما يقدم من عقله وقلبه وروحه وجهده الكثير من الأفكار والمشاعر والعواطف والأعمال التي تفتح آفاته على عوالم جديدة كما توجّه خطواته إلى دروب جديدة ، وترتفع بحياته إلى الدرجات العليا على مستوى تطوير طاقاته وتنميتها وتحويلها إلى عناصر حيّة في كل اتجاه من اتجاهات الحركة في الحياة.

إنها الخيرات ، العنوان الكبير لاستقامة الحياة على الخط الصالح الذي يربط بين الله والإنسان والحياة في دائرة المسؤوليات العامة التي يريدها الله للحياة من خلال الإنسان ، لتكون على الصورة التي أراد لها أن تتمثل فيها على أساس الحق الذي أقام عليه الكون كله. وهذا ما ينبغي للمسلمين أن يتنافسوا فيه ويلتقوا عليه ليواجهوا مسئوليتهم أمام الله غدا ، فيحاسبهم على ما قدموه من الخيرات التي أمرهم الله بالسعي إليها والعمل بها ، عند ما يقوم الناس لرب العالمين.

(أَيْنَ ما) في أيّ مكان وموقع (تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ) حيث يبعثكم كما خلقكم ، وأماتكم (جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا شيء ، خارج قدرة الله تعالى ، وليس البعث بأصعب من الخلق ، وليس الجمع بأصعب من التفريق.

* * *

لا مجال للتراجع

وتعود الآيات مع التشريع الجديد في خطاب حاسم للنبي ، لتؤكد له

٩٢

أنه الحق من ربه ، فلا مجال للتراجع عنه مهما حشد اليهود من ضغوط ومهما اتبعوا من أساليب التضليل ، فإن الله لا يغفل عما يعمله عباده إزاء تكاليفه من طاعة أو معصية ... ويعود الخطاب من جديد ، للنبي أولا وللمسلمين ثانيا بالقوّة الآمرة نفسها ، وبتعليل جديد ، فإن بعض الأحاديث الواردة في تفسير الآية تتحدث عن تعاليم واردة في الكتب الدينية السابقة التي تذكر أن النبي سيصلي إلى الكعبة ، مما يجعل من الانحراف عن ذلك حجة للآخرين على المسلمين لأنه يكشف أنهم ليسوا الأمّة الموعودة في الكتب السماوية ...

ثم استثنى من هؤلاء الناس الظالمين الذين لا يريدون أن يستسلموا للحق الذي يعرفونه في كتبهم بل يسيرون في طريق العناد والظلم للحقيقة وللمؤمنين ، فلا تخشوهم أيها المؤمنون ، لأنهم لا يستطيعون أن يوقفوا المسيرة ولا يملكون أن يضرّوكم شيئا ، بل اجعلوا خشيتكم من الله الذي يملك لكم كل شيء ...

وتلتقي الآية بالنعمة التي يريد الله أن يتمّها على المسلمين من جهة إكمال التشريع الذي يبني لهم حياتهم على أساس من الاستقرار والطمأنينة والسعادة الروحية والمادية. وفي هذا دلالة على أنّ تدرّج التشريع وتطوّره يعتبر تدرّجا بالنعمة ، فكأن الله لا يريد أن يعطي النعمة دفعة واحدة ، بل يريد أن يجعل من كل نعمة ينزلها على الإنسان في تشريعه إعدادا لنعمة جديدة في الطريق الأرحب نحو التكامل.

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) من أيّ موقع من البلدان التي تبتعد بك عن المسجد الحرام أو عن مكة ، (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) في صلاتك وفي كل عمل مشروط باستقبال القبلة ، (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) فهو القبلة التي شرّعها الله وجعلها القاعدة التي تتوحدون فيها وتتوجهون إليها في موقع من مواقع الإلزام الشرعي الذي لا مجال للانحراف عنه تحت تأثير أية حالة ذاتية

٩٣

أو أي ضغط خارجي ، (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فلا تغفلوا عن الحقيقة الإيمانية في مراقبة الله لكم في كل الأمور.

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فهذا هو التشريع المؤكّد الذي يزداد تأكيدا على مستوى الفريضة اليومية التي يجب عليكم أن تنفتحوا عليها في وعي الفكرة ، وتلتزموا بها في وعي العمل ، لتتحول لديكم إلى عادة جديدة تنسخ العادة السابقة ، لتشعروا بأن التشريع الجديد قد تحوّل إلى واقع جديد ، وتلك هي مهمة التشريع في حياة المسلمين ، بأن يتحوّل إلى حالة تغييرية في حياة الأمّة لتكون في حجم العادة التاريخية المتجذرة في وجودها العملي ، لا مجرد حالة طارئة في الواقع ، ليلتقي الخط في فريضة النبي الذي لا بد من أن يكون أوّل مسلم في وعي التشريع وحركته ، وفي فريضة الأمّة (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) في صلاتكم وعباداتكم الأخرى المشروطة بالتوجه إلى القبلة ، وعليكم أن تتابعوا ذلك وتلتزموه دائما ، (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) من خلال التاريخ الذي كان يتحدث به اليهود ـ كما روي ـ أن النبي الموعود يصلّي إلى قبلتين ، أو ما كان يتحدث به المشركون ـ كما قيل ـ ويتساءلون كيف ترك محمّد الكعبة وهو المؤهل ـ كما يقول ـ لإحياء ملة إبراهيم التي سار عليها ، فإذا التزمتم بالكعبة قبلة أبطلتم حجة هؤلاء المضادة ممن ينفتح على الحوار ويقف أمام الحجة ، (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ممن يعيش في مواقفه المضادة على أساس العناد الذي لا ينطلق من حجة أو برهان ، بل من ذهنية العدوان الذاتي من خلال العقدة المستحكمة في نفسه ضد الحق وأهله. فليست المشكلة عندهم نوعية الاتجاه إلى بيت المقدس أو الكعبة ، بل المشكلة هي التزامكم بالدعوة الجديدة والدين الجديد الذي يلغي امتيازاتهم الناشئة من الفكر الباطل والخط المنحرف ، فهم الظالمون في مواقفهم وفي كل اتجاهاتهم الفكرية والعملية ، (فَلا تَخْشَوْهُمْ) لأنهم لا يملكون لكم ضرّا ولا نفعا ، (وَاخْشَوْنِي) لأني ربكم الذي يملك وجودكم ومصيركم

٩٤

كله ، مما يفرض عليكم الالتزام بالدين الذي أنزلته والرسول الذي أرسلته ، (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) في استقامة التشريع على الخط الذي تتكامل فيه قضاياكم ومواقفكم وخطواتكم في الحياة ، باعتبار أن الله يريد للناس أن يتابعوا نعمه في تشريعاته ، كما يتابعونها في أوضاعهم العامة والخاصة ، (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) بما يوفره الله لكم من وسائل الهداية في امتحانه لكم واختباره لثباتكم على الإيمان ، وذلك إذا أخذتم بأسباب الهدى في ما يشرعه الله لكم من أحكامه ويوضحه لكم من مفاهيمه.

* * *

الرسول الكريم نعمة عظيمة

ثم يعطي للمسلمين الصورة الكاملة المتجسدة للنعمة التامة الشاملة في هذا الرسول العظيم الذي جاء من أجل أن يرفع مستوى الإنسانية في ما يتلوه من آيات الله ، ويزكي ضمائر الناس وحياتهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وما لم يعلموه من حقائق الحياة في الدنيا والآخرة ... وينتهي الفصل بأمرهم لأن يذكروا الله في وجدانهم وفي ألسنتهم ، وفي وعيهم لمسؤوليتهم أمامه في الحياة ليذكرهم بنعمه وعفوه وغفرانه ، ودعاهم إلى أن يشكروا نعمته عليهم ولا يكفروا بها ويجحدوها لئلا يعاقبهم الله بإزالتها عنهم.

(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) فهذه هي النعمة الكبرى التي تتفرع عنها كل النعم الصغيرة في تفاصيل التشريع ، لأنه يفتح لكم الأفق الكبير الذي يطل بكم على كلّ جمالات الحقّ وروائع الإيمان ، (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا) التي توحي إليكم بكل الحقيقة الصافية ، وترتفع بكم إلى الدرجات العليا من المعرفة ، وتمهّد لكم سبل الحياة القويمة ، وتعرّفكم ما يصلح أمركم

٩٥

أو يفسده ، وتقربكم إلى الله وإلى الخط المستقيم للسعادة في الدنيا والآخرة.

(وَيُزَكِّيكُمْ) وينمّي أرواحكم بالخير ، ويربي نفوسكم على الطهر والنقاء ، ويبتعد بكم عن كل الرذائل والنقائص الأخلاقية.

(وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ) الذي أنزله الله على رسوله ليكون المنهج الذي تأخذون به في كل خطواتكم في الحياة ، (وَالْحِكْمَةَ) التي تعرّفكم كيف تركزون أقدامكم على الصراط المستقيم وتضعون كل شيء في موضعه ، فلا تخطئون في موقع ، ولا تنحرفون في طريق ، (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) من فنون المعرفة في عالم الغيب والشهادة ، مما لم يسبق لكم معرفته في تجاربكم الماضية.

(فَاذْكُرُونِي) في كل ما يفتح عقولكم وقلوبكم على معنى الألوهية والربوبية في ذات الله ، ليدفعكم ذلك إلى الوعي العميق للحضور الشامل لله في كل حياتكم العقلية في معنى الفكر ، وفي حياتكم العملية في خط الواقع ، لتذكروا كل صفاته العليا ، وأسمائه الحسنى ، ونعمه الوافرة ، وآياته الكثيرة ، ولتتحركوا في اتجاهه في كل موقع وموقف ، فهو الذكر الذي يخرجكم من الغفلة ويفتح لكم أبواب المعرفة ، لتعيشوا معه في عالم الشهود من خلال الوعي الروحي المنطلق من عالم الغيب ، وهو الذكر الذي يجعل الإنسان قريبا إلى الله بروحه وجسده ، ليكون الله معه في كل حال وليراه مع كل شيء وخلف كل شيء.

(أَذْكُرْكُمْ) بالرحمة والنعمة والمغفرة والرضوان ، مما يجعلكم تحت رعايتي بشكل مباشر أو غير مباشر ، (وَاشْكُرُوا لِي) نعمتي التي أنعمت عليكم بالكلمة والفعل والموقف ، ليكون الشكر باللسان في الكلمة المعبّرة ، وبالفعل في الطاعة لله وامتثال أوامره ونواهيه ، وبالموقف في موالاة أوليائه

٩٦

ومعاداة أعدائه وإعزاز الحق وإذلال الباطل ، وفي غير ذلك مما يكون موقعا لرضوان الله.

(وَلا تَكْفُرُونِ) ولا تجحدوا النعمة بأساليب التمرد والطغيان والمعصية ، فإن ذلك يعرّضكم للغضب الإلهي والعذاب الشديد ، بينما يؤهّلكم الشكر للزيادة في أعماركم وأرزاقكم وكل أوضاعكم المتصلة بكل شؤونكم في الحياة.

* * *

الذكر والشكر بين الكلمة والموقف

وقد جاء كثير من الأحاديث المأثورة ـ إلى جانب المدلول الحيّ للآية في الموقف القوي أمام الكافرين والمنافقين من خلال الموقف الخاضع لله ـ لتخرج الذكر لله والشكر له من مدلوله اللفظي إلى موقف عملي يتمثل فيه ذكره بالانضباط العملي في حالات الاهتزاز النفسي التي يتعرض فيها الإنسان لضغوط الانحراف الروحية والعملية ، فيكون الشعور العميق بحضور الله في نفسه ، من خلال الإحساس بحضوره المهيمن على الكون كله ، دافعا للإنسان إلى الالتزام بأوامره ونواهيه ، ومانعا له عن الانسياق وراء تيارات الضلال والانحراف ، وهذا ما عبّر عنه الحديث المروي ـ في عدة الداعي ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه خرج على أصحابه ، فقال : «ارتعوا في رياض الجنة ، قالوا : يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال : مجالس الذكر ، اغدوا وروحوا واذكروا ، ومن كان يحب أن يعلم منزلته عند الله ، فلينظر كيف منزلة الله عنده ، فإن الله تعالى ينزّل العبد حيث أنزل العبد الله من نفسه ، واعلموا أن خير أعمالكم عند مليككم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم ، وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله

٩٧

تعالى ، فإنه تعالى أخبر عن نفسه فقال : أنا جليس من ذكرني ، وقال سبحانه : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة : ١٥٢] ، يعني اذكروني بالطاعة والعبادة أذكركم بالنعم والإحسان والرحمة والرضوان» (١) ..

وعن الحسن البزّاز قال : «قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : ألا أخبرك بأشد ما فرض الله على خلقه (ثلاث)؟ قلت : بلى ، قال : إنصاف الناس من نفسك ، ومواساتك أخاك ، وذكر الله في كل موطن ، أما إني لا أقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، وإن كان هذا من ذاك ، ولكن ذكر الله في كل موطن إذا هجمت على طاعة أو على معصية» (٢) ... وليس معنى التأكيد للجانب العملي للذكر ، هو التهوين من الجانب الآخر الذي يتمثل في الذكر باللسان في كلمات التسبيح والتحميد والتهليل والاستغفار ، بل قد يكون هذا مقدّمة لذاك ، لأن الاستمرار في ذكر آلاء الله ونعمائه وعظمته يخلق لدى الإنسان حالة رائعة منفتحة على الله حتى ليحس به في كل شؤون حياته ، مما يؤدي به إلى الإحساس بضرورة طاعته في كل شيء ...

وفي ضوء ذلك كله ، نفهم أن المقابلة بين ذكر الله لعبده وبين ذكر العبد لله تعطينا الفكرة الإسلامية التي توحي للعبد بأن استحقاقه لرعاية الله له بنعمه وألطافه ، مشروط بانضباطه العملي أمام أوامره ونواهيه كما هي الحال في ميثاق الله لعباده ، وعهد العباد أمام ربهم في قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة : ٤٠].

وإننا نشعر في هذا التأكيد على ذكر الله في الكلمة والموقف ، بأن حركة

__________________

(١) البحار ، م : ٣٢ ، ج : ٩٠ ، ص : ٣٣٤ ، باب : ١ ، رواية : ٤٢.

(٢) م. ن ، م : ٢٦ ، ج : ٧٢ ، ص : ٢٨٦ ، باب : ٥٣ ، رواية : ٢٩.

٩٨

الإيمان في داخل نفس المؤمن وحياته ، تحتاج إلى الارتباط العميق بالله ، ليكون للإيمان أصالته في نفسه ، فتتركز القاعدة على أساسه ، وتنطلق الأعماق من خلاله بعفوية وبساطة ووعي.

* * *

ذكر الله وشكره في أساليب التربية الإسلامية

وقد نحتاج ، في سبيل الوصول إلى هذا الهدف ، إلى إفساح المجال للأساليب التربوية التي تريد صنع الشخصية الإسلامية لدى الأطفال والشباب والشيوخ ، لنؤكد ذكر الله من خلال الكلمة في إطار من الوعي لمعانيها ، وذكره من خلال الموقف في تدريب الإنسان المسلم على أن يمارس التجارب اليومية لأوضاع حياته في هذا الجو المنفتح على ذكر الله ، وذلك بإعطاء الدروس الفكرية والعملية من خلال موجهين واعين يعرفون كيف يحركون الكلمة في اتجاه الموقف ، ويدفعون الموقف نحو الإحساس بالله ...

أمّا الشكر ، فهو الدعوة الثانية التي يختم بها الله هذه الآيات ، ليوجه الناس إلى أن يشكروه ولا يكفروا به ، وليست الدعوة لكلمة الشكر ، بل هي دعوة إلى موقف الشكر ، وذلك بأن يقوم بالطاعة ويجتنب المعصية ، ويعبد الله كما ينبغي له ، وهذا هو ما نستوحيه من الحديث المأثور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما رواه أبو بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند عائشة ليلتها ، فقالت : يا رسول الله لم تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال : يا عائشة ألا أكون عبدا شكورا؟ قال : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوم على أطراف أصابع رجليه ، فأنزل الله سبحانه : (طه* ما أَنْزَلْنا

٩٩

عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى)» (١) [طه : ١ ـ ٢].

وقد روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «شكر النعمة اجتناب المحارم ، وتمام الشكر قول الرجل : الحمد لله رب العالمين» (٢) ، وروي عنه ، في ما رواه أبو بصير ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : «هل للشكر حدّ إذا فعله العبد كان شاكرا؟ قال : نعم ، قلت : ما هو؟ قال : يحمد الله على كل نعمة عليه في أهل ومال ، وإن كان في ما أنعم الله عليه في ماله حقّ أدّاه» (٣) ... وهكذا يلتقي الشكر في الكلمة بالشكر في الممارسة ، لتأكيد الأسلوب الإسلامي التربوي الذي لا يحوّل العلاقة بالله إلى كلمات تقليدية ربما ينتهي الأمر فيها إلى الجمود ، بل يبعث فيها الروح الذي يجعل منها تجسيدا حيّا للمبادئ الروحية في خطوات الإنسان العملية في كلماته وأفعاله.

وقد يكون من المفيد أن نشير إلى أن شكر الله يمتد حتى يتمثل في شكر الإنسان للناس على ما قدّموه له من خدمات في حياته الخاصة والعامة ، حتى أنّ الإنسان الذي لا يشكر الناس لا يشكر الله ، فقد جاء في الحديث عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام أنه قال : «إن الله يحب كل قلب حزين ، ويحب كل عبد شكور ، يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده يوم القيامة : أشكرت فلانا؟ فيقول : بل شكرتك يا رب ، فيقول : لم تشكرني إذ لم تشكره ، ثم قال : أشكركم لله أشكركم للناس» (٤).

ولعلّ من المعروف لدينا أن هذا الاتجاه التربوي في اعتبار شكر الإنسان على عمله شكرا لله ، يتحرك في الخط الإسلامي الذي يدعو الناس إلى تشجيع

__________________

(١) البحار ، م : ٦ ، ج : ١٦ ، ص : ٤٤٣ ، باب : ٩ ، رواية : ٥٩.

(٢) (م. ن) ، م : ٢٤ ، ج : ٦٨ ، ص : ٢٦٤ ، باب : ٦١ ، رواية : ٢٩.

(٣) (م. ن) ، م : ٢٤ ، ج : ٦٨ ، ص : ٢٥٧ ، باب : ٦١ ، رواية ٧.

(٤) (م. ن) ، م : ٢٤ ، ج : ٦٨ ، ص : ٢٦٢ ، باب : ٦١ ، رواية : ٢٥.

١٠٠