تفسير من وحي القرآن - ج ٣

السيد محمد حسين فضل الله

الإيماني أن الله يريد منه أن يسلم أمره إليه ، فلا تكون له كلمة أمام كلمته ، ولا خط غير خطه ، ولا قضاء إلا قضاؤه ، ولا منهج إلا منهجه ، فإن ذلك من وحي الإيمان الصافي النقي ، والعقل المنفتح على الحقيقة ، الذي يسمع ـ من خلاله ـ أوامر الله ونهيه ووحيه إليه ، وقد عبّر في بعض الكلمات عن العقل بأنه «الرسول الباطني» ، (قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ). فعاش الإسلام لله بكل عمق الإيمان ، وبكل استقامة الطريق ، ووضوح المنهج وصفاء الشعور ، وانفتاح الروح ... ولم يكن إسلامه إسلام الكلمة المنطلقة من اللسان البعيدة عن القلب ، أو إسلام الرغبة والرهبة من دون قناعة ، أو إسلام الشكل من غير مضمون ، فذلك هو الإسلام الذي لا يعيش حركة الوجود في الذات ... إنه الصورة في الظاهر لا الحقيقة في الباطن ، إنه الإسلام الكلي ، لأنّ الله يريد من الإنسان أن يخلص له بكله ، ويستغرق في عبوديته له حتى لا يبقى لأحد منه شيء ، حتى لنفسه ، ليكون محياه لله ومماته له.

* * *

استنطاق الآية لغويّا

وهناك سؤال : هل كان الاصطفاء قد تمّ بعد أن أمره الله بأن يسلم ، باعتبار أن كلمة «إذ» هي في موضع نصب باصطفينا؟

قد يكون الأمر كذلك على أساس الجانب التعبيري ، ولكن ذلك ليس ضروريا ، فربما كانت المسألة منطلقة من الإشارة إلى السبب في هذا الاصطفاء من خلال إخلاصه لله في إسلامه المطلق له ، لأن الله يختار لرسالته الإنسان الذي يعيش عمق الصفاء الروحي الذي يؤهله لاحتضان روح الرسالة بفكره ، وكل كيانه. وربما كان ذلك بداية للحديث عن حركته

٤١

الرسالية التي ابتدأت من إحساسه الذاتي لتمتد في بنيه ، مما يوحي بأنه استطاع أن يجذّرها في الجيل الذي جاء بعده من خلال تجذرها في مهمته الرسالية.

* * *

وصية إبراهيم ويعقوب لأبنائهما

ولم يقتصر على نفسه في إسلامه هذا ، بل وصّى بها بنيه ، لأن الإسلام هو الذي اصطفاه الله للناس ، فلا بد لهم من أن يحيوا بالإسلام ويموتوا وهم يحملون كلمته ... وحملها يعقوب ـ حفيد إبراهيم ـ وصيّة يختم بها حياته ، فلم يقف في اللحظات الأخيرة منها ليتحدث عن شؤونه الحياتية في ما يخلّفه لهم من إرث مالي ، كما يتحدث الناس إلى ورثتهم في ذلك عند ما يفكرون بالوصية إليهم ، بل وقف ليطمئنّ على انسجامهم مع الخط العبادي المتمثل في هذا الإسلام لله.

(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) فقد انطلقت هذه التجربة في حياة الجد في حديثه مع بنيه وفي حياة الحفيد في وصيته لأولاده ، في دلالة رسالته على أن الرسالة كانت كل اهتماماتهما الروحية ، فلم يكتفيا بالجهاد في سبيلها في حياتهما ، بل انطلقا ليدفعا بها للاستمرار في الجيل الجديد بعد وفاتهما ، لأن الوصية تعبر في مضمونها عن القلق النفسي الذي يشعر به الإنسان تجاه ما أوصى به ومن أوصى له.

(يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) واختاره منهجا للنجاة في الحياة ووسيلة للسعادة في الآخرة من خلال برامجه التي تكفل لكم العيش الرغيد والسلامة المريحة ، وانفتاحه على معرفة الله وطاعته للوصول إلى رضوانه ، وذلك من قاعدة واحدة ، وهي إسلام القلب والوجه والحياة كلها لله ، ليلتقي

٤٢

الإسلام بمعنى العبودية الحقة الخاضعة للألوهية المطلقة ، فليكن هذا الدين ـ الإسلام ـ هو الخط المستقيم الذي تتحركون فيه في كل حياتكم فلا تنحرفوا عنه ، أو تتركوه إلى غيره ، مهما اشتدت الضغوط واهتزت الأرض من تحت أقدامكم وتنوعت الإغراءات حتى نهاية حياتكم ، (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) لتلتقوا بالله على خط الإسلام عند ما يقوم الناس لرب العالمين.

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) أيها الناس ، قال في مجمع البيان إن «أم» ها هنا منقطعة ، وهي لا تجيء إلا وقد تقدمها كلام لأنها التي تكون بمعنى «بل» وهمزة الاستفهام. كأنه قيل: بل أكنتم شهداء ، ومعنى «أم» ها هنا الجحد ، أي ما كنتم شهداء ، وإنما كان اللفظ على الاستفهام والمعنى على خلافه ، لأن إخراجه مخرج الاستفهام أبلغ في الكلام وأشدّ مظاهرة في الحجاج ، إذ يخرج الكلام مخرج التقرير بالحق فيلزم الحجة أو الإنكار له فتظهر الفضيحة» (١) ، (إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) واجتمع إليه بنوه الاثنا عشر وهم الأسباط (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ) سائلا سؤال الإنسان الذي يبدي لهم رغبته الأخيرة في سلوكهم مستقبلا في الخط الذي بدأه أبوه النبي إبراهيم في إسلام الروح لله وحمله كمسؤولية رسالية يبلغه للناس كافة (ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) هل تتراجعون عن الخط المستقيم لتتبعوا مجتمعاتكم الوثنية ، أم تستمرون في السير عليه لتنسجموا مع آبائكم وأجدادكم من الرسل؟ فكان الجواب الذي يبعث الاطمئنان في نفسه ليموت وهو قرير العين ، باستمرار الخط الرسالي في التوحيد الخالص من بعده.

(قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً) فلن نشرك بعبادة غيره ، ولن نؤمن بإله سواه. فهي العبادة الخالصة لله الواحد

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٤٠٠.

٤٣

الأحد التي تجعل الحياة في نطاق الإسلام ، ليكون الإسلام هو الطابع الذي يطبع شخصيتهم في كل مجالاتهم العملية ... (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) في أقوالنا وأفعالنا وعلاقاتنا ومواقعنا وفي جميع مجالات حياتنا العامة والخاصة.

* * *

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ)

وتنتهي قصة التاريخ في هذه الآيات ، بالآية التي تتوجه إلى الناس بالنداء التالي : إن هذا التاريخ هو تاريخ الأمم السابقة في ما عملت وفي ما كسبت ، ولستم مسئولين عن كل أعمالهم في قليل أو في كثير ، بل هم المسؤولون عن ذلك كله في ما استقاموا به وفي ما انحرفوا عنه ، أمّا أنتم فلكم تاريخكم المستقل المتمثل في أعمالكم التي تكسبون بها الجنة أو النار ، فعليكم أن تواجهوا مصيركم من خلال ذلك وتحددوا خطواتكم العملية من خلال دراستكم للنتائج المصيرية لخطوات الآخرين ، لتأخذوا منها العبرة في طبيعة الأشياء ونتائجها في كل المجالات.

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) وذهبت مع التاريخ بعد أن عاشت تجاربها وقامت بمسؤولياتها ، وأدّت رسالاتها ، وتحركت في الدروب التي فتحتها أو كانت مفتوحة لها ، (لَها ما كَسَبَتْ) من نتائج أعمالها ، (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) مما تحملون من مسئوليتكم في كل التكاليف الموجهة إليكم ، والمهمات الموكولة إليكم في ساحات الخير والشر ، والحق والباطل ، وفي كل مجالات حركية الصراع مع الآخرين ، (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) لأن الجيل الجديد لا يتحمل أوزار الجيل القديم ولا علاقة له بحسناته ، لأن التجربة السلبية أو الإيجابية

٤٤

مختصة به من خلال حركة إرادته الذاتية. وفي ضوء هذا لا معنى للقول بأن الأبناء يتحملون المسؤولية السلبية تجاه ما قام به الآباء من السيئات. وربما يطرح سؤال : لماذا لم يتحدث الله عن مسئولية الآباء عن عمل الأبناء؟

والجواب : إن الخطاب هو للأبناء الذين يراد لهم أن ينفتحوا على التاريخ كعبرة يعتبرون بها ، لا كمسؤولية يتحملونها ، مع ملاحظة أخرى ، وهي أن الآباء قد يتحملون مسئولية الأبناء عند ما يتحركون ببعض الأوضاع التربوية أو البرامج التعليمية التي قد تؤدي إلى ضلال الأبناء بنحو التسبيب العملي.

* * *

من وحي الآية

وفي هذه الآية إيحاء بأن على الأمّة ـ في أجيالها الجديدة ـ أن لا تستغرق في تاريخها القديم ليغيب وعيها في داخله ، وليشغلها ذلك عن عملية صنع التاريخ في الحاضر ، كالكثيرين الذين يتحدثون عن أمجاد الآباء القديمة من دون أن يشغلوا أنفسهم بصنع الأمجاد الجديدة ، لتعرف أن الماضي لا يمثل مسئوليتها بل مسئولية الذين صنعوه ، وعليها أن تأخذ منه الدروس والعبر ، ثم تتابع سيرها وتتحرك تجربتها في صنع التاريخ الجديد الذي تتحمل مسئولية إيجاده ومسئولية كل تفاصيله أمام الله.

وفي ضوء ذلك ، لا تكون الأمّة مشدودة إلى الماضي لتتابع خلافاته وأحقاده ومشاكله ، لتكون أحقادا وخلافات ومشاكل لها في الحاضر ، فتتجدد الحروب والنزاعات ، على أساس حروب الماضي ونزاعاته ، بل تكون المسألة مسألة قضايا الواقع الجديد في ما يتحرك به الإنسان في أفكاره

٤٥

وهمومه وغاياته ، سواء كانت متأثرة ببعض ما في الماضي من خطوط ومبادئ عامة ، أو كانت منطلقة من خلال مبادئ الحاضر وخطوطه.

* * *

٤٦

الآيات

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤١)

* * *

٤٧

الإسلام يجادل اليهود والنصارى

في هذا الفصل من السورة ، يلتفت القرآن إلى تحديد الخط المستقيم الذي أراد الله للحياة أن تسير فيه في العقيدة والعمل ، ويشجب الخطوط المتعرّجة المنحرفة في صعيد الواقع الذي يسير عليه الناس ، فقد واجه هؤلاء الذين ينغلقون على أنفسهم ليجعلوا من الدين انتماء فئويّا لا ينفتح إلّا على جماعة معيّنة وأفق ضيّق ، فكانوا يقولون للناس إنّ طريق الهدى لا يتّسع لغير اليهود ، في ما يقوله اليهود ، أو لا يتسع لغير النصارى في ما يقوله النصارى ، وكان الجواب أن طريق الحق أوسع من ذلك ، فإذا كان اليهود والنصارى يؤمنون بإبراهيم وملّته ، فإنّ ملّة إبراهيم هي الملة التي تلتقي عليها كل الخطوط ، باعتبارها تمثل خط التوحيد الخالص الذي يستوعب كل الرسالات ويحتضن كل الأنبياء ، فلا يضيق عن أحد ولا ينغلق على فئة ، فهو الدين الحق الذي يهتدي المؤمنون به ، أمّا الذين يعرضون عنه ، فهم الذين لا يريدون للحياة أن تهدأ وتطمئن وتسير في الطريق المستقيم ، بل يثيرون فيها الشقاق والخصام الذي لا ينتهي إلى أية نتيجة مما يحاولونه من الأهداف الشريرة ، مهما عملوا ومهما امتدوا في أساليبهم ، لأن الله سيتكفل بهم في الدنيا والآخرة ، فقد وعد نبيّه بأنه سيكفيه عدوانهم وشرّهم ، وهو السميع لكل ما يفيضون فيه من قول وما يثيرونه من مشاكل وهو العليم بسرّهم وعلانيتهم.

ويلاحظ في هذه الآيات أن القرآن يعتبر القياس في صحة سلوكهم هو انسجامهم مع ملّة إبراهيم ، باعتبار أن رسالة موسى وعيسى كانت سائرة في هذا الاتجاه ، فإذا كان هناك انحراف عنها ، فمعنى ذلك أنهم يسيرون على غير هدى هاتين الرسالتين.

٤٨

ثم يعود الحديث عن الإسلام باعتباره الصفة التي لا تعادلها صفة والميزة التي لا تقاربها ميزة في ما تشتمل عليه من المعاني الكبيرة التي ترفع مستوى الإنسان في الدنيا والآخرة ، لأنها تمثل خط العبادة لله سبحانه في أصدق معانيها وأوضح خطوطها في استقامة وإيمان ، ثم يواجههم بالحقيقة التي أرادوا أن يتهربوا منها ، وهي أن الله لا يكون لجماعة دون جماعة ، ولا لشعب دون شعب ، بل الخلق كلهم متساوون أمامه في عبوديتهم له وربوبيته لهم ، فلا معنى لمحاجّتهم في الله على أساس ما يزعمونه من العلاقة الخاصة التي تربطهم به وتشدهم إليه في ما يعبّرون عنه بأنهم «شعب الله المختار» ، وفي ما يتخيلونه من أن الطريق إليه لا بد من أن تمر بهم ، فهو (رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) ...

وفي هذا الاتجاه تتحرك الحقيقة الثانية من خلال الحقيقة الأولى ، وهي أن الأعمال هي القاعدة التي ترتكز عليها العلاقة القوية بين العبد وربه ليواجه فيها الإنسان مسئوليته أمام الله من خلالها من دون أن يتحمل أحد مسئولية أحد في عمله ، فلكلّ عمله ، ولكلّ مسئوليته في هذا الاتجاه ، (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) ثم يحدّد الموقف الحق الذي يلتزم به المسلمون كطابع بارز للشخصية التي تتميز بالإخلاص لله في النية والعمل.

ويعود الحديث من جديد إلى شخصية إبراهيم ، فاليهود يعتبرون ـ أو هكذا يوحي أسلوبهم العملي ـ بأن إبراهيم كان يهوديا ، والنصارى يعتبرون ـ أو هكذا يوحي أسلوبهم العملي ـ أن إبراهيم كان نصرانيا ... ويحسم القرآن الموقف بإثارة التساؤل في معرضالإنكار ، فينفذ إلى مواجهة معلوماتهم عن إبراهيم ليتساءل في إنكار : هل أنتم أعلم أم الله؟ ... ومن البديهي أنهم لا يستطيعون إلا الإقرار بأن الله أعلم من خلال إيمانهم الذي يزعمون ... وفي هذا الجو يتحرك الموقف من حركة الرسالة في الحوار ، ليوحي بأن الله قد عرّفنا ، بما لا يقترب منه الشك ، أن إبراهيم لم يكن

٤٩

يهوديا ولا نصرانيا ، بل كان حنيفا مسلما ، وما كان من المشركين.

ثم يواجههم بالحقيقة الصارخة ، وهي أنهم يعرفون ذلك تمام المعرفة ، ولكنهم يكتمون هذه المعرفة ويمتنعون عن أداء الشهادة وهذا يعتبر من أشد أنواع الظلم ، لأنه تمرّد على الله ، وظلم للحقيقة واعتداء على الناس وعلى الحياة. ثم يختم الآية بما يشبه التهديد ، فإن الله ليس بغافل عما يعملون ، فهو الرقيب عليهم في الدنيا والحاكم عليهم في يوم القيامة ..

وتصل القصة إلى نهايتها لتواجه المسلمين بالفكرة الأساسية التي يتحرك في نطاقها التاريخ في حياة الناس ، فإن التاريخ لا يحمّل الفئات اللاحقة مسئولية الفئات التي عاشت فيه ، كما أن الفئات السابقة لا تتحمل وزر الفئات اللاحقة ، لأن المسؤولية لا تتحرك إلا في المجال الذي يتحرك فيه العمل وتنطلق معه الحياة ... أمّا التاريخ ، فهو كتاب الحياة الذي يحمل الدروس والعبر من جيل لآخر ، لتعيش الأجيال الفكرة الحقة من خلال تجاربها وتجارب الآخرين في السير الواعي لحركة الحضارات ...

* * *

ملّة إبراهيم من الإسلام

(وَقالُوا) أي اليهود والنصارى : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) ، فقد انطلق كل فريق من أتباع هذين الدينين ليؤكد صحة دينه في مقابل الإسلام الذي دخل فيه الناس هناك ، على أساس أن اليهودية من وجهة نظر اليهود ، أو النصرانية من وجهة نظر النصارى ، هي الوسيلة الوحيدة التي تقود إلى الهدى في قضايا الدنيا والآخرة انطلاقا من دعواهم بأنهم هم الذين يمثلون شريعة إبراهيم في خصوصياتهم العقيدية والشرعية والأخلاقية التي

٥٠

أصبحت جزءا من هذا الدين أو ذاك ، مما يختلف عن خصوصيات الدين الإسلامي الذي جاء به النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (قُلْ) يا محمد ، أو من يقف مثل هذا الموقف في ساحة المواجهة من المسلمين : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) التي تمثل الملّة المستقيمة على منهج الله في امتداد وحيه ، المائلة عن كل الاتجاهات الباطلة من الأديان المنحرفة بسبب الأهواء والأغراض والأطماع الإنسانية ... ومن المبادئ التي أبدعها الإنسان من فكره الذاتي وتجربته الشخصية مما لا علاقة له بالله ورسله.

وقد اختلف المفسرون في تفسير «الحنيفية» التي هي (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) بين تفسير يحصرها في دائرة تشريع معين ، وبين قائل : بأنها حجّ البيت كما عن ابن عباس والحسن ومجاهد (١) ، وبين قائل : إنها الطهارة وهي عشرة : خمسة في الرأس ، وخمسة في البدن ، فأما التي في الرأس فأخذ الشارب وإعفاء اللحى وطمّ الشعر «جزّه وتوفيره» والسواك والخلال ، وأما التي في البدن ، فأخذ الشهر من البدن والختان وقلم الأظفار والغسل من الجنابة والطهور بالماء ، وهي الحنيفية الطاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ ولن تنسخ إلى يوم القيامة ، كما عن تفسير القمي (٢) ، وبين تفسير يتسع بها إلى أي موقع يمثل «اتباع الحق» أو ينفتح بها على الإخلاص لله وحده في الإقرار بالربوبية والإذعان بالعبودية ، مما يختزن في داخل مفهومه كل المفردات التي تفرضها حركة العبودية في الإنسان أمام الربوبية الإلهية.

وهناك القول الذي يتسع لكل الشريعة التي جاء بها إبراهيم عليه‌السلام ، مما يتصل بالحياة الروحية العقيدية أو الحياة العملية السلوكية ، وكما جاء عن الإمام محمد الباقر عليه‌السلام : «ما أبقت الحنيفية شيئا ، حتى أن منها قص

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٤٠٣.

(٢) نقلا عن : تفسير الميزان ، ج : ١ ، ص : ٣١٠.

٥١

الشارب ، وقلم الأظفار ، والختان» (١).

والظاهر أن القول الأخير هو أقرب الأقوال إلى المنهج الرسالي الذي يتصل بالحياة الروحية والمادية للإنسان مما يعتقده أو يعمله أو ينفتح عليه ، والله العالم.

وهكذا يريد الله للنبي ولمن اتبعه أن يؤكد لهم أن ملّة إبراهيم الحنيفية هي الملة الجامعة التي تمثل الخط العريض المستقيم للهدى ، فمن اتبعها اهتدى ، وليس الهدى بالأهواء والخصوصيات الذاتية أو الفئوية التي تؤدي إلى التفسيرات والتأويلات والتخييلات التي تتحول إلى طوائف ومذاهب ، فقد أنزل الله على إبراهيم رسالته التوحيدية التي تعبّر عن توحيد الله في كل شيء ، في العقيدة والشريعة والعبادة والحياة مما فصله الأنبياء من بعده ، من خلال وحي الله الذي يعطي كل مرحلة حاجاتها ، التي مهما تنوّعت فإنها تلتقي على التوحيد الذي آمن به إبراهيم (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فلا مجال لكل هذه الزوائد التي استحدثوها مما قد يلتقي بالشرك من قريب أو من بعيد ، فإن كل ما عدا الله مما يلتزمه الناس هو عنوان من عناوين الشرك.

* * *

المسلم مؤمن بكل رسالات الله

(قُولُوا) أيها المسلمون لكل الذين يجادلونكم في الدين : (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) فنحن نؤمن بالله الواحد ونؤمن بكل ما أنزل إلينا وإلى هؤلاء (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) من التوراة والإنجيل (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) مما أنزله الله

__________________

(١) البحار ، م : ٢٦ ، ج : ٧٣ ، ص : ٦٠١ ، باب : ٢ ، رواية : ٤.

٥٢

عليهم وكلّفهم به (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) ، لأننا نؤمن بالرسل كلهم مهما اختلفت خصوصياتهم ومراحلهم ، كما نؤمن بالكتاب كلّه مهما تنوعت آياته ، (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ، فإننا نسلم إلى الله كل حياتنا وكل أمورنا ، لأن الإسلام هو دين الله في كل مواقعه في حركة الرسل في التاريخ.

* * *

الحوار المنفتح على القلب ومواطن اللقاء

ولنا في التعليق على هذه الآية كلمتان :

الأولى : أنها تمثل أنموذجا لأسلوب الحوار في الإسلام ، وخلاصته البحث عن مواطن اللقاء في بداية الحديث من أجل الإيحاء بوجود قاعدة مشتركة للفكر المتنوع ، وأرض مشتركة للموقف المتعدد ، مما يوحي للآخر بأنك إذا اختلفت معه في إيمانك بما أنزل إليك من القرآن ، فإنك لن تختلف معه في إيمانك بما يؤمن به ـ من ناحية المبدأ ـ من التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم ، وتعاليم النبوّات المشتركة بين الأديان من خلال الأنبياء الذين يلتقون على رسالات الله ، فيلتقي المؤمنون على الإيمان بهم.

وهذا الأسلوب من أوضح الأساليب وأكثرها حكمة وانفتاحا ، لأنه يخلق جوّا نفسيا ملائما يؤدي إلى حالة حوارية حميمة تفتح العقل من خلال النافذة المطلة على القلب ، باعتبار أن أقرب طريق إلى عقل الإنسان هو الطريق الذي يؤدي إلى قلبه ، لأنه إذا أحبّك أحبّ فكرك ، وإذا انفتح عليك ـ من الناحية الشعورية ـ انفتح عليك من الناحية العقلية.

ولعلّ مشكلة الكثيرين من الناس أنهم يركزون على مواقع الخلاف التي تغلق القلوب بدلا من مواقع الوفاق التي تفتحها ، لأنهم لا يعيشون المحبة للآخرين في الرسالة ، بل ينطلقون بها من موقع العقدة والحقد

٥٣

والانفعال ، حتى أعطوا الحقد ـ الذي لا قداسة له ـ معنى القداسة.

* * *

بيان إنزال الرسالات وإيتائها

الثانية : إنّ هناك اختلافا في التعبير في الآية ، فقد عبّر عما عندنا وعمّا عند إبراهيم وإسحاق ويعقوب بالإنزال وعند موسى وعيسى والنبيين بالإيتاء وهو الإعطاء ، كما أشار إلى ذلك في تفسير الميزان ، فهل هناك نكتة في ذلك؟

يذكر العلامة الطباطبائي أن النكتة هي أن اليهود والنصارى يعتبرون «إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط من أهل ملتهم ، فاليهود من اليهود ، والنصارى من النصارى ، واعتقادهم أن الملة الحقة من النصرانية أو اليهودية هي ما أوتيه موسى وعيسى ، فلو كان قيل : وما أوتي إبراهيم وإسماعيل ، لم يكن بصريح في كونهم بأشخاصهم صاحب ملّة بالوحي والإنزال ، واحتمل أن يكون ما أوتوه هو الذي أوتيه موسى وعيسى عليهما‌السلام نسب إليهم بحكم التبعية ، كما نسب إيتاؤه إلى بني إسرائيل ، فلذلك خص إبراهيم ومن عطف عليه باستعمال لفظ الإنزال ، وأما النبيون قبل إبراهيم فليس لهم فيهم كلام حتى يوهم قوله : وما أوتي النبيون شيئا يجب دفعه» (١).

وخلاصة الفكرة هي أن المطلوب هو بيان استقلالية إبراهيم ومن بعده عن موسى وعيسى ، مما يفرض اختلاف التعبير الذي يوحي بتعدد المواقع.

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١ ، ص : ٣٠٧.

٥٤

ولكننا نلاحظ أنّ ذلك لا يدلّ على اختلاف فريق الإيتاء وفريق الإنزال في طبيعة الرسالة ، فلا مانع من أن يكون ما أوتيه إبراهيم وفريقه هو نفسه الذي أوتيه موسى وعيسى مع إنزال الوحي على هذا أو ذاك مع وحدة المضمون الرسالي في تنوّع الخصائص ، وهذا ما يريد الله تأكيده في القرآن من الإيمان بالكتاب كله وبالرسل كلهم الذين يلتقون على الخطوط العامة ، حيث يكون الإيمان بأحدهم إيمانا بالآخر.

هذا مع ملاحظة أخرى ، وهي أن فريق إبراهيم لم يعلم أنه أوحي إليه غير ما أنزل على إبراهيم ، ولا سيما الأسباط الذين ذكر أن المراد بهم يوسف وإخوته الذين لم يكونوا أنبياء ، لأن الذين تآمروا على يوسف لا يمكن أن يكونوا في مستوى النبوة ، فيكون الإيتاء لهم باعتبار أنهم من الأمّة التي يؤتى نبيّها الرسالة التي تؤمن بها. إننا لا نرى في اختلاف التعبير إلا التنوّع فيه الذي يمنح الكلام حيويّة وحركة مع اتّحاد الفكرة.

* * *

الله يكفي نبيّه والمؤمنين معه شرّ الكافرين المعاندين

(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) من الشمولية في الإيمان للأنبياء كلهم وللكتاب كله ، (فَقَدِ اهْتَدَوْا) إلى الطريق الحق الذي يؤدي بهم إلى الجنة. وربما كان التعبير بكلمة «مثل» ـ مع أن المقصود المضمون الإيماني نفسه بالمحافظة على شخصية المحاور الآخر الذي لا يريد أن يلغي ذاته بالسقوط تحت تأثير الآخر ـ للإيحاء بأن المسألة مسألة توافق في الرأي الواحد بحيث يصدر من كل واحد منهما بشكل مستقلّ ، على نهج توارد الأفكار أو الخواطر ، (وَإِنْ تَوَلَّوْا) وأعرضوا عن الإيمان وأنكروا مضمونه الحق وجحدوه ، (فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) ونزاع لإثارة الجدال المعقّد الذي لا يريد أن

٥٥

يصل بالحديث إلى نتيجة حاسمة ، بل يريد أن يربك الأجواء بالمزيد من عناصر الفرقة والاختلاف ، للإبقاء على خط الكفر من دون أن يتحوّل السائرون عليه إلى خط الإيمان. (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) ويحميك من شرّهم وينصرك عليهم لتكون كلمتك التي هي كلمة الله هي العليا ، وكلمتهم التي هي كلمة الشيطان السفلى. (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الذي يسمع أقوالهم ويعلم أعمالهم ، فلن يصلوا إليك بسوء ما دمت في حماية الله ورعايته.

(صِبْغَةَ اللهِ) إنه الإيمان الذي يمنح صاحبه اللون المميز ، الذي يطبع الذات بطابعه في جميع خصائصها ، تماما كما هو الصبغ عند ما يطبع الثوب أو الجسد فيلوّن كلّ جزئياته.

(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) لأنه الخالق الذي يعطي الإنسان وجوده ويمنحه أفضل الامتيازات المعنوية والروحية التي تمنحه حسنا وإشراقا. (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) وسائرون على النهج الذي أرادنا أن ننهجه في الحياة في تأكيد معنى عبوديتنا له التي هي سر التوحيد والفطرة التي تنطلق في الذات بالإسلام في جميع إيحاءاتها وألوانها ، وذلك خلافا لمن يرون الصباغ أمرا ماديا ، كما هي المعمودية لدى النصارى ، في دخول الإنسان في دين الله.

* * *

(أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ؟!)

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ) لأنكم الأقرب إليه دوننا ، باعتبار أنكم شعب الله المختار ، أو أبناء الله وأحباؤه ، أو لأن لكم إلها يختلف عن إلهنا ، وكل ذلك باطل ، (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) فهو ربّ العالمين جميعا لا فرق في موقع ربوبيته بين إنسان وآخر ، ولا ميزة لأحد على أحد إلا بالأعمال. وهو الذي

٥٦

يحدد للناس وظائفهم ومهماتهم ومسئولياتهم في تدبير أمورهم وأمور من حولهم وما حولهم ... (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) فهي التي تحدد لكلّ منا موقعه منه وقربه إليه ، (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) في إيماننا به وتوحيدنا له وعبادتنا إياه ، وهذا ما يجعلنا في الخطّ المستقيم الذي أرشدنا إليه وهدانا له.

(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى) لتؤكدوا بذلك شرعية أوضاعكم بانتساب خطكم إلى خطّ إبراهيم ، الذي كان الرمز العظيم للقاعدة الرسالية الممتدة في حركة الرسل والرسالات ، لتحصلوا على غطاء رسالي لانحرافاتكم الفكرية والعملية. (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) ، وقد أخبركم بأن التوراة والإنجيل اللتين تنتمي إليهما اليهودية والنصرانية قد أنزلنا من بعدها ، فكيف يكون انتماؤه إليهما من خلال الصفتين اللتين تلصقونهما به ، وذلك هو قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [آل عمران : ٦٥]. وهذا الاستفهام للتوبيخ لا للحقيقة ، إذ لا معنى لها في الموضوع ، فوزانه وزان قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) [النازعات : ٢٧].

ومعناه كما يقول صاحب مجمع البيان : قل يا محمد لهم : أأنتم أعلم أم الله ، وقد أخبر سبحانه أنهم كانوا على الحنيفية وزعمتم أنهم كانوا هودا أو نصارى فيلزمكم أن تدّعوا أنكم أعلم من الله وهذا غاية الخزي (١).

* * *

كتمان الشهادة ظلم وبهتان

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) مما يعلمه من شؤون الرسل

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٤١٠

٥٧

والرسالات ، لأن ذلك يؤدي إلى تشوية الحقيقة وتزييف الواقع وإيقاع الناس في الضلال ، وهو من أبشع أنواع الظلم ، لأنه يسلب الإنسان حقّه في وعي الحقيقة الرسالية التي تتوقف عليها استقامة الإنسان في حياته ، (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من كل هذه الانحرافات الفكرية والعملية ، فيحاسبكم عليها تبعا للنتائج السلبية التي تترتب عليها في حياتهم وحياة الناس من حولهم ، (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ) من أعمالها التي تتحمل مسئولياتها ، (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) من أعمالكم التي تواجهون حساباتها يوم القيامة ، (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ). إن القاعدة الإسلامية ، تفرض المسؤولية الفردية في حركة الإنسان كما جاء في قوله تعالى : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٨ ـ ٣٩].

وقد كرر الآية ليؤكد ـ بعد كل قصة من قصص التاريخ ـ هذه الحقيقة الحضارية القائمة على خطّ التوازن العملي في مضمون العدل الإلهي في حياة الإنسان ، ليمنع الإنسان من الاستغراق في كهوف الماضي وفي خلافاته ، لتكون حياته انفتاحا على مسئولية الحاضر والمستقبل اللذين يصنعهما بفكره وعمله في دوره في بناء الحياة على أساس متين.

* * *

٥٨

الآيات

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ

٥٩

مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (١٥٢)

* * *

معاني المفردات

(السُّفَهاءُ) : الناقصو العقول ، الحمقى الذين يفتقدون الميزان الصحيح في النظرة إلى الأمور والأحداث ، وقال ابن عربي في تفسيره : «إن كل من لم يدرك حقيقة دين الإسلام فهو سفيه ، لأنه خفيف العقل» (١).

(وَلَّاهُمْ) : ولّاه عنه : صرفه وفتله. وولى عنه خلاف ولي إليه ، مثل قولك : عدل عنه وعدل إليه وانصرف عنه وانصرف إليه. فإذا كان الذي يليه

__________________

(١) التفسير الكاشف ، م : ١ ، ص : ٢٢١

٦٠