تفسير من وحي القرآن - ج ٣

السيد محمد حسين فضل الله

على أساس متين من الله ، بل كانت خاضعة للأوضاع الطارئة التي تزول لدى أوّل تحدّ من تحديات المصير التي تواجه المسؤولين بطريقة حاسمة ليس فيها أيّ انحراف أو لفّ أو دوران ، أو وساطة في ما تعارف عليه الناس من أساليب الوساطة في الدنيا.

وهنا وقف التابعون ليطلقوا التنهدات والحسرات على كل المواقف الخاضعة الخانعة التي كانوا يقفونها لمصلحة هؤلاء في الدنيا ، فيجعلون مصيرهم تبعا لإرادة الآخرين وشهواتهم وأطماعهم. وانطلقت التمنيات التي تعبر عن التمزق النفسي الداخلي ، والحيرة القاتلة ، والشعور بالخيبة الكبيرة للآمال التي تعيش في نفوسهم من خلال العلاقة بهم ، والحقد العميق الذي يحرق الروح بحثا عن الثأر. (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) إنهم يبحثون عن ردّ الفعل الذي يقابل البراءة ببراءة مماثلة تمسّ الظالمين في مصالحهم في مواقعهم في الدنيا ، فيتمنون أن يرجعوا إلى الدنيا كرّة أخرى ، ولكنها تمنيات تضيع في الهواء.

(كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) عند ما ترجع بهم الذكرى إلى حياتهم التي كانوا يسيرون فيها في ركاب هؤلاء الظالمين ، ليبنوا حياة الظلم والطغيان بسواعدهم وجهودهم في كفاح متواصل طويل. إنهم يواجهون الموقف ليروا كل تلك الأعمال والجهود تتحول في مصيرهم إلى حسرات لا تنفعهم ، فقد وقعوا في النار (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) مهما احتجوا ومهما برّروا أو تنهدوا ، فقد كان لهم مجال كبير في دراسة الواقع ومعرفته من خلال وعي الرسالة والمبدأ ، وقامت عليهم الحجة من الله في ذلك كله.

* * *

١٦١

وبناء على ما تقدم ، نستطيع أن نستوحي من هذه الآيات عدة نقاط ، أهمها التالي:

* * *

الالتزام الفكري يقود إلى الالتزام العاطفي

١ ـ إن الالتزام بالعقيدة لا يتمثل في الالتزام الفكري الذي يمثل الموقف الفكري للإنسان ، بل يمتد إلى الالتزام العاطفي والروحي مع خط الفكر في حركة الحياة إزاء العلاقات الإنسانية الموافقة أو المضادة ، فإن التقاء الجانب العاطفي بالجانب الفكري في شخصية الإنسان المسلم يمثل وحدة الشخصية ، بينما يكون اختلافهما مظهرا من مظاهر ازدواجيتها وتمزقها الذاتي ، مما يترك آثارا سلبية على استقامتها على الخط الإسلامي المستقيم.

وإذا كانت العواطف غير الإسلامية تنطلق من مفاهيم غير إسلامية ، باعتبار أن العاطفة هي نتيجة المفهوم الكامن في الذات ، فإن ذلك يؤدي إلى التناقض بين الالتزام الفكري الذي يوحي بعاطفة إيجابية ، والعاطفة السلبية الناتجة عن مفهوم مضادّ ، فكيف يمكن اجتماعهما في الذات في الوقت الذي ينفي فيه أحدهما الآخر؟!

* * *

الحبّ موقف لا عاطفة مجرّدة

٢ ـ إن الحب في المفهوم القرآني لا يتمثل في العاطفة المجرّدة ومظاهرها الساذجة ، بل يتمثل في العاطفة التي تتحول إلى مواقف عملية في

١٦٢

اتجاه خط الحبّ ، وقد يتطور المفهوم في اعتبار المواقف العملية المضادة دليلا على ضعف الحب أو عدم جديّة العاطفة وصدقها.

* * *

الدعوة إلى اكتشاف ضعف الأقوياء

٣ ـ إن القرآن يوجه الإنسان إلى اكتشاف ضعف الأقوياء من الطغاة بالبحث عن نقاط الضعف الكامنة في داخلهم ، وبالانطلاق في التصور الديني بعيدا إلى يوم القيامة ، حيث يقف الأقوياء في موقف الضعف والانسحاق أمام عذاب الله وعقابه.

وهكذا ينطلق المنهج التربوي القرآني في عملية إيحائية ترتبط بالسلب من حيث فقدان الطغاة والمستكبرين للقوة التي تبرر للناس الارتباط بهم في أمورهم الخاصة والعامة وفي قضايا المصير ، وترتبط بالإيجاب من خلال الحقيقة التوحيدية التي تؤكد «أن القوة لله جميعا» «وأن العزة لله جميعا» في خطاب الذين يريدون الاعتزاز بغير الله ، فقد جاء في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [النساء : ١٣٩] وقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) [فاطر : ١٠] على أساس ملكية الله للقوة كلها ، والعزة كلها ، فالله هو مصدر القوة والعزة ، ما يفرض على الناس أن يطلبوها منه ، ويرتبطوا بقوته وعزته. هذا هو الخط الأصيل في التوحيد الحركي للإنسان المسلم في العمل والوجدان.

* * *

١٦٣

المسؤولية الفردية في الإسلام

٤ ـ إن الآيات توحي للمؤمنين الضعفاء بأن المسؤولية في الإسلام فردية ، يتحملها الإنسان من خلال عمله ، وأن الضغوط الخارجية التي تنطلق من الشعور بسيطرة الأقوياء على الموقف ، وحاجة الضعفاء إليهم في ما يملكونه من مال وجاه وسلطة ، لا تمثل أيّ مبرر شرعي للانحراف عن الخط ، ثم تبيّن لهم أن الأساليب التي يتبعها هؤلاء الأقوياء في الإيحاء لهم بالحماية في مواقف الشدّة ، ليشعروا بالأمن من خلال هذه العلاقة ، هي أساليب تضليلية لا تثبت أمام الواقع الذي يفرض نفسه ، وهو أنّ هؤلاء ليسوا قادرين على حماية أنفسهم ، فكيف يقدرون على حماية غيرهم من عذاب الله؟! وسينكشف الواقع المرير عن إعلان براءتهم من كل تبعة أو مسئولية من كل هؤلاء عند ما يرون العذاب ويواجهون الموقف في الدنيا قبل الآخرة ، ليبدأوا ـ هنا ـ بالبراءة من هؤلاء المتبوعين ، فلا ينفذون مخططاتهم الشريرة التي لا ترضي الله ، ولا يطيعونهم في معصية الله ، ليتفادوا الموقف الخاسر هناك ، وليحصلوا على ما يتمنونه من العودة إلى الدنيا ليعلنوا البراءة كرد فعل لبراءة هؤلاء منهم. إن الآيات التي تتحدث عن خيبة الضعفاء في الآخرة لا تتحدث عن القضية كقصة للإثارة ، بل كأسلوب من الأساليب الوقائية التي توجه الإنسان كي يتفادى الوقوع في هذه المواقف الحرجة هناك ، فيكون أكثر وعيا للواقع وللمصير ، وبهذا يتحول القرآن إلى كتاب يرصد لنا المستقبل من خلال الحديث عن نماذج الماضي التي لا تعيش في إطاره المحدود ، بل تعيش في نطاق الحياة كلها ، والله العالم بأسرار آياته.

* * *

١٦٤

الآيتان

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (١٦٩)

* * *

معاني المفردات

(حَلالاً) : جائزا ، وأصله : الحلّ : نقيض العقد ، وإنما سمي المباح حلالا لانحلال عقد الحظر عنه ، والحلال إطلاق في الفعل لمن يجوز عليه المنع ، ولهذا لا يسمّى كل حسن حلالا ، لأن أفعاله تعالى حسنة ، ولا يقال : إنها حلال.

(طَيِّباً) : خالصا من شائب ينغّص ، قال الطبرسي : «وهو على ثلاثة أقسام : الطيّب المستلذ ، والطيب الجائز ، والطيب الطاهر» (١). وقال

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٤٥٩.

١٦٥

الراغب : «أصل الطيب ما تستلذه الحواس وما تستلذه النفس. والطعام الطيب في الشرع ما كان متناولا من حيث ما يجوز ، وبقدر ما يجوز ، ومن المكان الذي يجوز» (١).

(بِالسُّوءِ) : كل فعل قبيح يزجر عنه العقل أو الشرع ، وساء : قبح ، وأفعل التفضيل منه أسوأ ، ومؤنثه السّوأى.

(وَالْفَحْشاءِ) : ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال ، وأصل الفحش الزيادة والكثرة ، وكل ما تجاوز قدره فهو فاحش. وقيل : الفحشاء ما يجب الحدّ فيه ، والسوء : ما لا حدّ فيه.

* * *

الرزق الحلال والتحذير من اتّباع خطوات الشيطان

في هاتين الآيتين نداء ربّاني للناس ، يستشعر فيه الإنسان الرحمة في وحيه له بأن الله لا يريد أن يضيّق عليه سبل الحياة ، بل يريد أن يوسّع له آفاقها الرحبة ومواردها الخصبة ، فقد خلق له الأرض في كل ما تنتجه من رزق ، وفي ما تحتوي عليه من نعم ، وأباح له التمتع بالرزق الطيب الحلال ، والنعم الكثيرة الخالصة ، فلم يحرّم عليه شيئا من طيباتها مما يحتاجه في استمرار حياته ونموّ جسمه ، بل دعاه إلى أن يأكل منها ما يشاء ، وذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً).

ولكنه حذّره من خطوات الشيطان التي تتجه به إلى ما فيه فساد حياته ، وضرر جسمه وعقله ، بالاستمتاع بالشهوات المحرّمة ، والأكل من الخبائث المضرّة ، مما يزين له فعله ويغريه بالإقبال عليه ، بما يثيره أمامه من

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٣٢١.

١٦٦

الأجواء الحميمة ، والإغراءات اللذيذة التي يدعوه إليها بلهفة شديدة ، وشوق حميم ، بطريقة تحجب عنه ما في الداخل من خسارة وضرر وفساد ، ويبرر القرآن للإنسان كل هذا الحذر بالحقيقة الدينية الحاسمة التي توضح عداوة الشيطان الواضحة البيّنة للإنسان ، ليشعر بأنّ هذه الخطوات التي يثيرها أمامه ليست في مصلحته مهما أظهر له من إخلاص أو مودّة.

(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) في إيحاءاته ووساوسه وخططه الإغوائية الإغرائية مما يزين به للإنسان من أقوال وأفعال وأفكار بعيدة عن خط الاستقامة ، وعن مواقع رضى الله ، وقريبة من موارد سخطه التي تؤدي إلى عذابه وإبعاده عن رحمته. (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) فقد أخرج أبويكم من الجنة ، وأعلن عزمه على أن لا يدخل أحد من بني آدم الجنة من خلال أساليبه الضالة ووسائله المنحرفة ، (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) [فاطر : ٦].

ثم يفصّل القرآن للإنسان في الآية الثانية بعضا مما أجمله في الآية الأولى من خطوات الشيطان : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فيعدد لنا نماذج ثلاثة من أوامره : فهو يأمر الإنسان بالسوء الذي يمثل كل فكر سيّئ أو عمل شرير ، وبالفحشاء التي تتمثل فيها الأعمال المنكرة التي تجاوزت الحد الطبيعي للأشياء ، سواء كانت من المنكرات المتعلقة بالعلاقة بين العبد وربه في معاصي الله ، أو كانت من المنكرات المتعلقة بين الناس وبين الشخص ، في الجوانب المالية أو الاجتماعية أو السياسية والاقتصادية والأخلاقية ، ولا سيّما في ما يتعلق بالعرض وبالخيانة والكذب.

أما الأمر الثالث ، فهو نسبة الأحكام أو العقائد أو الأعمال إلى الله باعتبارها شيئا موحى به من قبله ، وثابتا في وحيه ، مع أنهم لا يعلمون شيئا من ذلك ، لأنهم لا يملكون طريقا إلى المعرفة في هذا الاتجاه. ولعل من

١٦٧

الطبيعي ، في مثل هذه الحالة ، أن يؤكد القرآن خطورة مثل هذا الواقع على مسيرة الإنسان المسلم في الحياة ، لأنه يغريه بالزيف والنفاق والكذب والخيانة في ما يوحي إليه به من أساليبه الذكية الشيطانية ، ويدفعه إلى الارتباك في مواجهة خط الانحراف لاختلاط الحق والباطل أمامه ، مما يعطل عليه طريق الوصول إلى الهدى الحقّ ، ويجعله يتقلب في أجواء غامضة من الضباب الكثيف. وقد ينطلق التعبير القرآني بهذا الأسلوب ليريد به الشرك وأمثاله من العقائد المضادة للحق مما ثبت بطلانه بالدليل والحجة ليدلل بكلمة : (السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٣] ، أو (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) «ما ليس له به علم» ، أو بكلمة : (قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١١٣] ، التي يصف بها المشركين للإيحاء بأن هؤلاء لا ينطلقون من موقع الحجة والبرهان في ما يعتقدونه من عقيدة ، وفي ما يحملونه من صفات وأخلاق ، كأسلوب من أساليب إثارتهم نحو البحث عن الحقيقة والخروج من أجواء الغفلة ، بالطريقة التي هي أحسن ، حيث لم يعبر عنهم بتعابير توحي بالجحود والإنكار والعناد الذي يربطهم بجو التعصب ويخرجهم عن أجواء التفاهم ويبعدهم عن روحية الحوار.

* * *

الحوار والهدف الرسالي

وهذا هو الأسلوب القرآني الذي يجب أن نتعلمه ، وهو أن نختار الكلمات الخفيفة بدلا من الكلمات الثقيلة في المجالات التي نشعر فيها بالحاجة إلى أن نقود الأفكار المضادة إلى ساحة الحقيقة والحوار ، لأن الهدف الرسالي من الحوار مع الناس هو الوصول إلى عقلهم بالطريقة التي يدخل فيها

١٦٨

إساءة حادة ، أو انفعال شديد ، أو قسوة عنيفة ، مما يهيئ الجو النفسي للاستماع إلى وجهة النظر المخالفة وإلى الدخول في حوار هادئ حول القضايا المختلف عليها ، وربما كانت المشكلة الصعبة التي يقع فيها بعض الدعاة ، في جدالهم مع الآخرين ، أنّهم ينطلقون من عقدة ذاتية ، لا من ذهنية رسالية ، الأمر الذي يدفعهم إلى المزيد من كلمات السباب والفحش ونحوهما من خلال الزعم بأن ذلك هو الطريقة الشرعية للتعبير عن رفض الباطل وتحقيره من دون دراسة للنتائج السلبية على أجواء الحوار وأساليبه ، حيث تزيد هذه العقدة في عداوة الطرف الآخر الذي يراد الدخول معه في الحوار ، فيبتعد عن الاستجابة لعملية الأخذ والرد ، أو يدخل معنا في أجواء التشنج والانفعال التي تسقط كل النتائج الإيجابية على مستوى المقدمات والنتائج.

* * *

١٦٩

الآية

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (١٧٠)

* * *

معاني المفردات

(أَلْفَيْنا) : وجدنا وصادفنا. قال الزمخشري : «وألفينا بمعنى وجدنا ، بدليل قوله : (بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) (١) [لقمان : ٢١].

* * *

التعصب الأعمى للماضي

وهذا نموذج من نماذج الناس الذين يتبعون خطوات الشيطان في منهج التفكير وفي طبيعة الفكرة ، فإنهم لا ينطلقون ، في ما يعتقدون وفي ما

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ١ ، ص : ٣٢٨.

١٧٠

يتبعون من نهج في الحياة ، من موقع القناعة الفكرية المرتكزة على أساس البحث والتأمل والتفكير ، بل يتحركون من عاطفة ساذجة وعصبية ذاتية تدفع الإنسان إلى تقديس الماضي الذي ينتسب إليه في عاداته وتقاليده وأفكاره ومقدّساته ، مما يجعل من ذلك أساسا للقناعة الفكرية والسلوك العملي في ما يتفق معه ، وللرفض الفكري والعملي في ما يختلف عنه ، بالمستوى الذي لا يقبل فيه الدخول في أيّ حوار أو نقاش حول تلك القضايا ، كما لو كانت من البديهيات والمسلّمات الفكرية.

وقد كان هذا المنهج في طبيعة سلوك الشخصية سببا من أسباب التعقيد الذي يواجه أصحاب الرسالات من الأنبياء ومن السائرين في خطهم في الدعوة إلى الله ، لأنه يغلق على الإنسان نوافذ التفكير ، ويحوّله إلى إنسان منغلق على ذاته ، بعيد عن التفاعل مع الآخرين في ما يثيرونه من قضايا ويدعون إليه من أفكار ومبادئ ، ويدفع المجتمع إلى أن يبقى مشدودا إلى عجلة الماضي من دون أن يفكر في الانطلاق إلى المستقبل بأجنحته الطائرة إلى العلاء ، مما يجعله يبتعد عن تطوير حياته ، وتغيير مسيرته نحو الأفضل في جميع شؤون الحياة ، ويتجمّد في عملية تقديس للأخطاء وللانحرافات الفكرية والعملية باسم الإرث المقدس للآباء والأجداد. وقد حارب القرآن بقوة هذا الاتجاه في مواجهة القضايا والأفكار ، فدعا إلى الانطلاق في الفكر ، وفي العمل ، من قاعدة فكرية ثابتة ترتكز على الحرية الفكرية البعيدة عن الضغوط العاطفية على أساس الدعوة إلى دراسة شخصية هؤلاء الآباء في مستواهم العقلي ، وفي مسيرهم العملي ، ليكتشف الإنسان أن كثيرا من هؤلاء لا يعقلون شيئا ، ولا يهتدون ، لأنهم عاشوا في ظل العقليات الخرافية المشبعة بالخرافات والأساطير ، وانطلقوا في ظل أمّية الحرف والثقافة ، ليخططوا لحياتهم في جميع ألوانها وقضاياها ، فكيف يمكن للإنسان الذي يحترم فكره

١٧١

يجعل حياته تحت رحمة أفكار هؤلاء ومسيرتهم في الحياة؟

* * *

دعوة القرآن إلى عقلية الموقف من الماضي

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) للكافرين الذين انطلقت الدعوة الإسلامية الرسالية لتفتح عقولهم على الإسلام فكرا وعقيدة ومنهجا للحياة ، (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) من الآيات التي تخطط لكم منهج المعرفة ، ومنهج الحركة في الحياة ، وشريعة السلوك العملي في أوضاع الإنسان في قضاياه العامة والخاصة ، وحاجاته الأساسية ، ونظرته إلى الواقع ، وتطلعه إلى الأفق الأعلى في الإيمان بالله والالتزام بشرائعه وأحكامه ، واتباع رسله والانفتاح على الإيمان باليوم الآخر ، والقيام بمسؤولية الإنسان في الخلافة عن الله في إدارة الواقع الكوني المتحرك ، وتفجير طاقات الحياة في نفسه ، وفي الأرض التي يسير عليها ، والأجواء التي يعيش في داخلها ، ليكون الإنسان سيد الكون في دوره القيادي من أجل تحقيق إرادة الله في حركته في كل عمره ، (قالُوا) في موقف احتجاج واستنكار للدعوة التي تفصلهم عن الماضي الجاهل المتخلف لتدفعهم إلى الحاضر الواعي المنفتح على تطلعات المستقبل للتقدم والنموّ والازدهار ، ومن موقع إصرار على الواقع الجامد الذي يعيشون في داخله : (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) من أفكار وعادات وتقاليد ومنهج للعلاقات وللمشاعر والمواقف ، مهما كانت طبيعته وقيمته وصلاحه وفساده ، لأن المسألة هي مسألة الإرث المقدس الذي يأخذ قداسته من قداسة الآباء في وجدان الأبناء ، ويثير القرآن التساؤل أمام هذا الموقف الجامد الذي يفتقد المنطق العقلاني الذي يحترم الإنسان فيه عقله ووجوده ، (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) فليدرسوا المستوى العقلي لهؤلاء الآباء ، وليدرسوا طبيعة

١٧٢

المرتكزات الفكرية التي استندوا إليها في ما اختاروه وساروا عليه ، فقد يكتشفون أنهم لا يملكون عقلا ، ولا ينفتحون على هدى ، بل ربما كانت عقول الأبناء أكثر انفتاحا وقوة من عقول الآباء ، فكيف يتبع العاقل من لا عقل له ، وكيف يسير الضال وراء من لا هدى له؟!

إنه سؤال للتحدي وللمعرفة وللوصول بالقضية إلى الموقف الإنساني الذي ينطلق من البعد المعرفي للإنسان في حياته وفي حركة الانتماء عنده.

* * *

بين الحق والصلات العاطفية

وهكذا نرى أنّ القرآن يريد أن يقرر للإنسان المنهج في الوصول إلى القناعات الفكرية ، ويريد أن يثير قضية الارتباط بالآباء كنموذج من نماذج الضغوط العاطفية التي تضغط على الإنسان لتقوده إلى الخضوع للخط الذي يسير عليه الأشخاص الذين يرتبط بهم عاطفيا ، سواء كانوا آباء أو أبناء أو أصدقاء أو غيرهم ممن تشدهم إليهم الصلات العاطفية الحميمة. تلك هي القضية. إن الصلات العاطفية لا تعني الحق ، ولا تمثل التبرير للارتباط الفكري ، مهما كانت الظروف والأوضاع والأشخاص. لأن هذه «الظاهرة الآبائية» التي تضغط على الوجدان العام في الجانب الفكري مما اختزنه الآباء من أفكار ، أو في الجانب الشعوري مما عاشوه من مشاعر العداوة والصداقة والحب والبغض ، لا تمثل أي بعد عقلاني في الاختيار الإنساني ، باعتبار أن المسألة العاطفية في الرابطة الإنسانية قد تتدخل في بعض العلاقات الذاتية في نطاق العلاقات الاجتماعية أو الذكريات التاريخية من خلال الأجواء الحميمة التي تترك آثارها في النفس. أمّا المسائل الفكرية فإنها تتحرك من موقع الأسس

١٧٣

العلمية والمفردات الموضوعية التي قد تختلف نتائجها وأبعادها باختلاف المراحل الزمنية أو الخصوصيات المكانية أو المؤثرات الذاتية ، أو الضغوط الاجتماعية المحيطة بالإنسان والواقع ، مما يفرض التبدل في طبيعتها بين وقت وآخر ، أو بين بيئة وأخرى ، هذا إلى جانب المستوى الثقافي الذي قد يجعل النتيجة متخلّفة من خلال ذهنية التخلف ، أو متقدمة من خلال عناصر التقدم ، الأمر الذي يفرض إعادة النظر دائما في كل الأمور الخاضعة لتلك المؤثرات ، بل قد تفرض على الإنسان ـ في بعض الحالات ـ إعادة النظر في قناعاته الفكرية أو الشعورية بين وقت وآخر عند ما تكون الأمور خاضعة للحالات الطارئة في حياته ، ليجدد نظرته فيها لاكتشاف ما يمكن أن يجد فيها من ضعف أو خطأ أو انحراف ، فكيف إذا كان الموضوع متصلا بقناعات الآخرين.

وإذا كان القرآن يركّز على المسألة في نطاق الآباء ، فليس ذلك من أجل اختصاص الظاهرة بهم ، ولكن الواقع الذي يعيشه الناس ـ غالبا ـ في الاتباع الأعمى في تقليد الماضي هو واقع اتباع الآباء والأجداد الذين يمثلون في الوجدان العائلي أو العشائري العمق الذاتي للإنسان في جذوره التاريخية ، بالدرجة التي يشعر معها بأن امتداداتهم الفكرية في حركته تمثل العنوان الكبير لوجوده ، فتكون القضية الحالة الشعورية في طبيعة الانتماء الفكري ، وقد تكون القضية في بعض نماذجها متمثلة في الآباء الحزبيين أو القوميين أو المذهبيين أو الطائفيين الذين يرتبط بهم الإنسان من خلال الحزب أو القومية أو المذهب أو الطائفة ، بحيث تكون أفكارهم عنوانا مقدّسا للدائرة التي تحركوا فيها ، حتى أن أي ضعف في مفردات هذه الأفكار قد ينعكس على ضعف عنوان الانتماء.

إنها مسألة العصبية التي لا ترى الأشياء إلا من خلال ذاتية النسب أو العنوان الذي يطبع الناس بطابعه ، لتكون القداسة للعنوان بعيدا عن المضمون في قيمته الفكرية والحضارية. وهذا ما يعطّل عملية التجديد والتغيير ويحبس

١٧٤

الفكر في دائرة ضيقة تتصل بالماضي ولا تنفتح على الحاضر والمستقبل ، الأمر الذي يجعل منها سجنا للعقل وللحركة وللحوار ، وخنقا للحرية في كل الموارد التي يختلف فيها قادة الحاضر عن قادة الماضي.

وقد رأى القرآن في هذه «الظاهرة الآبائية» الممتدة إلى كل العناوين المتصلة بالرموز التي يخضع الإنسان لها عاطفيا ويرى أن فكرها يمثل فكره ، وعنوانها يمثل عنفوانه ، وأن الانتقاص من قيمتها الفكرية يمثل انتقاصا من مجده ، رأى فيها خطرا كبيرا على حركة الرسالات التي تصطدم دائما بذهنية التخلف في تقديس الماضي بما يؤدي إلى التعصب له ولكل مفاهيمه وعاداته وتقاليده ، وإلى تجميد الفكر الذي يمنعه من التحرك بعيدا عن المفردات الكامنة في وجدانه التاريخي الموروث ، فيمتنع عن الاستماع إلى أي فكر جديد فضلا عن التفكير فيه بأسلوب المناقشة والحوار ، ويتحول الموقف في رموز هذا الاتجاه إلى حالة طاغوتية تعمل على قهر كل حركة جديدة في أفكارها ورموزها ، لأنها تخاف منها على الامتيازات الشعبية التي اكتسبتها من خلال التخلف الشعبي ، وعلى المقدسات السخيفة التي لا تملك أية قيمة مقدّسة.

* * *

القرآن ومعالجة «الظاهرة الآبائية»

وقد نستوحي من الآيات القرآنية الواردة في هذا الموضوع بعض خصائص هذه الظاهرة في جمودها الفكري ، وفي ذهنيتها العدوانية ، وذلك كما في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] وقوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا

١٧٥

الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) [سبأ : ٢٢] (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) [لقمان : ٢١]. وقوله تعالى : (قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) [الشعراء : ٧٤] وقوله تعالى : (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) [يونس : ٧٨] وقوله تعالى : (قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) [هود : ٦٢] ، وقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [المائدة : ١٠٤].

إنّ المنطق الذي يحكم تفكير هؤلاء هو اعتبار الطريقة التي جرى عليها الآباء من العبادة والعادات والتقاليد أساسا للاقتداء ، وللاهتداء ، من دون أن يقدموا أي أساس فكري على شرعية ذلك من الناحية الفكرية ، بل كل ما هناك أنهم يتعقّدون من دعوة التغيير لأنها تخرجهم من دائرتهم التي عاشوا فيها واستغرقوا في خصوصياتها ، ولذلك فإنهم لم يدخلوا مع الطرح القرآني في جدل فكري حول الموضوع في مضمون عقيدة الآباء مقارنا بمضمون الدعوة القرآنية ، بل أطلقوا كلمة الإصرار الجامد ، والاستغراب القاسي للمحاولة الرسالية في إبعادهم عما وجدوا عليه آباءهم وعما يعبد آباؤهم ، وأطلقوا كلمة الجمود التي تريد أن تختصر حركة الحياة في الماضي فلا مجال لأية حركة جديدة في الحاضر والمستقبل ، لأن مسئوليتهما أن يعيشا في إرث التاريخ الذي تركه الآباء ، فالزمن وقف عندهم ، والتطور انتهى إليهم ، وهذا ما تعبر عنه كلمتهم التي نقلها الله عنهم : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) [المائدة : ١٠٤] فلن نفكر في أي شيء خارج تلك الدائرة من أية جهة كانت ، ومن أي شخص كان. إنه منطق التعصب الأعمى الذي يواجه الأشياء بالنظرة العمياء.

١٧٦

أمّا القرآن الكريم فقد أطلق الحوار معهم من موقع عقلاني متحرك فقال في آية موحية في قوله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [المائدة : ١٠٤] وفي الآية التي نحن بصدد تفسيرها : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [البقرة : ١٧٠] فإن مسألة الاقتداء والاهتداء لا بد لها من أن تنطلق من الموقع الذي يملك أساس القدوة من خلال أنه يملك مسئولية الفكر وقوّته ، ويلتزم أساس الهدى من خلال العلم الواسع العميق ، والعقل المنفتح الدقيق ، والرؤية الواضحة الواسعة ، والهدى المشرق ، تماما كما هو الرجوع إلى أهل الخبرة والمعرفة الذين تطمئن النفس إليهم ، ويستريح العقل والعلم والهدى عندهم ، بل ربما كان آباؤهم أكثر علما وأوسع عقلا وأكثر تجربة منهم ، ما يجعل من تقليدهم واتباعهم لهم أمرا لا يرتكز على أساس ما يرتبط بالشكل لا بالمضمون ، وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة في قوله تعالى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف : ٤٠] فهي مجرد أسماء ترنّ في أسماعكم بعيدا عن مضمونها الحقيقي الذي تناقشه عقولكم.

وهكذا نجد أن القرآن لا يطرح عليهم الرفض المطلق لعقائد آبائهم في البداية ، بل يقول لهم ـ في عملية دعوة للدخول في مقارنة بين ما يعبد آباؤهم ، وما يفكرون به ويسيرون عليه ، ودعوة النبي للإسلام في عقيدته وفكرته وعبادته ومنهجه وذلك قوله تعالى : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) [الزخرف : ٢٤].

إنه يدعوهم لمناقشة هذا المنهج المتعالي في الهداية والوعي ليرفضوا الفكر الأدنى وليختاروا الفكر الأهدى. وهكذا أراد القرآن لهم أن يفكروا ويحاوروا ويختاروا من موقع ذلك ، لكن التعصب الأعمى أغلق عقولهم

١٧٧

وجمّد حركتهم وجعلهم يغرقون في الظلام والجهل والتخلّف.

إن المنهج القرآني يرتكز على حرية الإنسان في تفكيره من خلال مسئوليته عن قناعاته التي يريد الله له أن ينطلق بها من قاعدة فكرية صلبة ، فلا ضغط من موقع العاطفة والقوة ، ولا خضوع للعاطفة وللمصالح ، بل هي الحقيقة التي تدعو الإنسان إلى ملاحقتها بالتأمل والتفكير والبحث ، بعيدا عن تراث الماضي وعن هيمنة الحاضر.

* * *

موقف الإسلام من المسلمين الذين يقلّدون الآباء في إسلامهم

وقد يثير البعض في هذا المجال سؤالا حول الاتجاه الديني في حياة الناس ، فإن من الملحوظ أن التديّن عند أغلب الناس لا ينطلق من فكر يبحث ويتأمّل ويدقق ، بل يعيش في وجدان أتباعه كعقيدة مقدسة من تراث الآباء والأجداد ، ولهذا نرى الكثيرين من المتدينين يرثون الدين يعتنقه آباؤهم ويخلصون له ، من دون أيّة دراسة للمضمون ، أو وعي للتفاصيل في ما هو الحق والباطل ، تماما كما هو الانتماء النسبي أو وعي للتفاصيل في ما هو الحق والباطل ، تماما كما هو الانتماء النسبي أو القومي ، عند ما يمنح الإنسان شخصية لا يملك معها إرادة واختيارا ، بل هي مفروضة عليه من خلال الظروف الموضوعية أو الطبيعية المحيطة به. وقد يجد هذا تشجيعا لدى المؤسسات الدينية المتنوعة التي تحوّلت إلى كيانات رسمية لا تسمح للفكر أن يتحرك ، وللحوار أن يطرح علامات الاستفهام أمام مواطن الشك.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : ما هو الفرق بين واقع الناس الديني الآن ، وبين واقع الناس الذين يتحدث عنهم القرآن في هذه الآية؟

١٧٨

والجواب : إن المنهج القرآني يوجه الناس إلى اعتبار الفكر أساسا للعقيدة بعيدا عن الطرق غير العلمية مما يعتمد على الحدس والتخمين والاحتمال. وعلى ضوء ذلك ، فهو يعتبر الاتجاهات المعتمدة على التقليد في العقيدة انحرافا عن الخط الإسلامي في طريق الوصول إلى الحق ، ولهذا فإن الإسلام لا يعتبر الإنسان معذورا أمام الله إذا قاده هذا الطريق إلى الخطأ في العقيدة ، بينما يرى الإنسان الذي يستفرغ وسعه وجهده في سبيل الوصول إلى الحقيقة معذورا إذا لم يصل إلى الحق كنتيجة للظروف الخارجة عن إرادته ، ولكنه في الوقت نفسه يرحب بالإنسان الذي يلتقي بالحق كنتيجة للطرق التقليدية المشار إليها في السؤال ، كأيّ دين يريد أن يمتد في حياة الناس لتمتد قيمه ومفاهيمه من خلال قناعاتهم الفكرية ، بل ربما نجد أنه يشجّع الكثيرين الذين دخلوا فيه رغبة أو رهبة في عهد الدعوة الإسلامية الأوّل ، لأنه يشعر بأنّ دخولهم في مساره وأجوائه يمنحهم الفرصة للتفكير من جديد ، وللعيش في الواقع الإسلامي الذي يفتح لهم مجالات اكتشافات الإسلام من الداخل بدون أيّ تعقيد أو حواجز نفسية سلبية ، ليتعرفوا من خلال ذلك على خط الحوار في الإسلام في آيات القرآن وحركة الشريعة في الحياة.

وفي ضوء ذلك ، نعرف أن الإسلام لا يشجع التقليد في العقيدة عند ما يشجّع الآخرين على الدخول فيه بدون استدلال برهاني ، بل يعمل على أن يحقق هدفين :

أحدهما : تحطيم الحواجز النفسية التي تفصل النفس عن الانفتاح على الإسلام ، وذلك بإيجاد روح الألفة بين الإنسان وبين الأجواء الدينية في الإسلام ، ليستطيع ـ من خلال ذلك ـ أن يلتقي بالمفاهيم الإسلامية ببساطة خالية من التعقيد.

ثانيهما : التخطيط للتربية الفكرية من الداخل لتعميق العقيدة من موقع الشعور بالحاجة إلى العمق كنتيجة لتعميق الانتماء إليها على أساس من جدية

١٧٩

الإحساس ومسئولية التفكير في نطاق الشخصية الإسلامية التي تعيش في داخله ، وتمتد في حياته. ومن خلال ذلك ، نعرف الفرق بين الموقف الذي ترفضه الآية لأنه يسجن الإنسان في نطاق العصبية العمياء ، وبين الموقف الذي يشجع عليه الإسلام لأنه يفتح الطريق للالتزام الفكري في نطاق خطة مدروسة ثابتة.

* * *

١٨٠