تفسير من وحي القرآن - ج ٣

السيد محمد حسين فضل الله

متوجها إليه فهو متولّ إليه ، وإذا كان متوجها إلى خلاف جهته فهو متولّ عنه.

(وَسَطاً) : الوسط : السواء والعدل والنّصفة ، لأن الوسط عدل بين الأطراف ، ليس إلى بعضها أقرب من بعض ، وقيل الخير. قال صاحب العين : الوسط من كل شيء أعدله وأفضله (١). فكون الأمة وسطا ـ بناء على هذا ـ لما تملكه من موقع أصيل يجعلها مرجعا وميزانا يؤهلها لممارسة دور الشهادة والقيادة ، وقيل في صفة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كان من وسط قومهم أي من خيارهم.

(شُهَداءَ) : من الشهادة التي هي الحضور مع المشاهدة ، إمّا بالبصر أو بالبصيرة ، والشهداء إما من شهادة الأعمال أو من الحجّة والبيّنة. قال العلامة الطباطبائي في الميزان : «معنى الشهادة غاية متفرعة في الآية على جعل الأمة وسطا ، فلا محالة تكون الوسطية معنى يستتبع الشهادة والشهداء» (٢).

(الْقِبْلَةَ) : مأخوذة من الاستقبال ، وهي كل جهة يستقبلها الإنسان فيقابل غيره عليها ، ثم صارت علما على الجهة التي تستقبل في الصلاة.

(عَقِبَيْهِ) : العقب : مؤخر القدم. والانقلاب على العقبين كناية عن الإعراض ، فإن الإنسان ـ وهو منتصب على عقبيه ـ إذا انقلب من جهة إلى جهة انقلب على عقبيه ، وقد أستعير هنا لمن يكفر بالله ورسوله ، لأن المنقلب على عقبيه يترك ما بين يديه ويدبر عنه ، وحيث إنّ تارك الإيمان هو بمنزلة المدبر عمّا بين يديه ، وصف بذلك.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٤١٤.

(٢) تفسير الميزان ، ج : ١ ، ص : ٣١٨.

٦١

(لَكَبِيرَةً) : ثقيلة وشاقة. قال الراغب : تستعمل الكبيرة في ما يشق ويصعب (١).

(لَرَؤُفٌ) : الرأفة أشد الرحمة. رأف به : أشفق عليه من مكروه يحل به.

(تَقَلُّبَ) : التحرك في الجهات. قال الزمخشري : «(تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء» (٢) ، (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً) أي : صيرناك تستقبلها بوجهك.

(شَطْرَ) : جهة ، ونحو ، وشطر المسجد الحرام نحوه وتلقاءه ، قال صاحب العين: شطر كل شيء نصفه ، وشطره نحوه وقصده (٣).

(الْمُمْتَرِينَ) : الشاكّين المترددين. قال الراغب : «المرية : التردد في الأمر وهو أخص من الشك ... والامتراء والمماراة المحاجّة في ما فيه مرية ... وأصله من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب» (٤). قال صاحب العين : المري مسحك ضرع الناقة تمريها بيدك لتسكن للحلب (٥).

(حُجَّةٌ) : الحجة : الدلالة المبيّنة للمحجّة أي المقصد المستقيم ، (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ). [الأنعام : ١٤٩]. قال الراغب في الآية : «يجوز أنه سمّي ما يحتجون به حجة» (٦). ولهذا فقد يراد من الحجة البينة الواضحة أو ما يحتج به ولو كان غير مبين ، أو المحاجة والمنازعة.

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٤١٨.

(٢) الزمخشري ، جار الله ، محمود بن عمر ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، دار الفكر ، بيروت ـ لبنان ، ج : ١ ، ص : ٣١٩.

(٣) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٤١٨.

(٤) مفردات الراغب ، ص : ٤٨٦ ـ ٤٨٧.

(٥) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٢٢٤.

(٦) مفردات الراغب ، ص : ١٠٦.

٦٢

(تَخْشَوْهُمْ) : الخشية : خوف يشوبه تعظيم.

(وَيُزَكِّيكُمْ) : ينمّكم ويطهركم ، قال الراغب : «أصل الزكاة النمو الحاصل عن بركة الله تعالى ، ويعتبر ذلك بالأمور الدّنيويّة والأخروية. يقال : زكا الزرع يزكو إذا حصل منه نموّ وبركة» (١) ، ولهذا تشمل التزكية إزالة العقائد الفاسدة كالشرك والكفر ، والملكات الرذيلة كالكبر والشح ، والأعمال الشنيعة كالقتل والزنى وشرب الخمر.

(وَالْحِكْمَةَ) : قال الراغب : «إصابة الحق بالعلم والعقل ، فالحكمة من الله تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام ، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات وهذا هو الذي وصف به لقمان في قوله عزوجل : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ)» (٢). [لقمان : ١٢] قال الطبرسي : «الحكمة هي العلم الذي يمكن به الأعمال المستقيمة» (٣) ، وربما كانت الحكمة توحي بانسجام التطبيق العملي في حركة الإنسان مع النظرية التي تمثل الخط الفكري الذي يؤمن به. ويلتقي هذا بالمأثور عن الحكمة بأنها وضع الشيء في موضعه.

(أَذْكُرْكُمْ) : قال الراغب : «الذكر ذكران : ذكر بالقلب وذكر باللسان ، وكل واحد منهما ضربان ، ذكر عن نسيان ، وذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ» (٤). فذكر الله للناس هو أن يذكرهم بتسديده وتوفيقه وعفوه وغفرانه بعد ما يذكرونه في الألسن والقلوب والمواقف.

(وَاشْكُرُوا) : الشكر ثلاثة أضرب : شكر القلب ، وهو تصوّر

__________________

(١) (م. س) ، ص : ٢١٨.

(٢) م. ن ، ص : ١٢٦.

(٣) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٢٤٩.

(٤) مفردات الراغب ، ص : ١٨١.

٦٣

النعمة ، وشكر اللسان ، وهو الثناء على المنعم ، وشكر سائر الجوارح ، وهو مكافأة المنعم بقدر استحقاقه. والشكر تصوّر النعمة وإظهارها ، ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها.

* * *

المسلمون وتحدّياتهم لليهود والنصارى

في هذا الفصل الذي يبدأ به الجزء الثاني من القرآن الكريم ، يريد الله سبحانه أن يربي المسلمين في المجتمع الجديد الذي يعيشون فيه في المدينة ، على مواجهة التحديات الآتية من الآخرين حول بعض التشريعات الإسلامية الصادرة من رسول الله أو بعض الأوضاع العامّة التي كانت تواجه المسلمين آنذاك ، وتثير بعض التساؤل والحيرة واللغط ، ممّا قد يؤثر على تماسك الجماعة المسلمة ويفسح في المجال لمزيد من الارتباك والاهتزاز.

وقد تبرز أهمية هذا الاتجاه في الملاحظة التالية ، وهي أن التحديات الكافرة قد تحدث في المراحل التي يعيش فيها المسلمون البساطة في الوعي والثقافة ، والسذاجة الروحية والفكرية في مواجهة المشاكل المستجدّة ، ولا سيما إذا كانت نظرتهم إلى تلك الفئات المتحدية ، نظرة تتّسم بالاحترام الداخلي لمعلوماتهم العامّة ، من خلال الاعتقاد بأنهم يملكون المعرفة الشاملة بالكتاب المتضمن لأحكام الله وآياته ، باعتبارهم أهل الكتاب ، فقد يترك ذلك تأثيرا كبيرا على نظرتهم إلى القضايا المثارة أو المشاكل المطروحة ، عند ما يواجهون ذلك كله من خلال العجز الفكري عن المناقشة والتحليل.

٦٤

أمّا القضية التي انطلقت هذه الآيات لمعالجتها ، فقد شغلت المجتمع الإسلامي والمجتمع الكافر المضاد ، لأنها كانت صدمة لهم جميعا ، وذلك لأن المسلمين كانوا يتجهون في عباداتهم منذ بداية الدعوة ، إلى بيت المقدس الذي يتجه إليه اليهود والنصارى من أهل الكتاب ، فجاء التشريع الجديد لينسخ ذلك ويحوّل القبلة إلى الكعبة ، فأدّى ذلك إلى إثارة أهل الكتاب لأنهم كانوا يجدون في صلاة المسلمين إلى بيت المقدس نوعا من أنواع التبعية العملية لهم ، وسبيلا من سبل إضلال البسطاء من المسلمين بالإيحاء إليهم بأن ذلك يدل على أن الحق معهم ، كما أنهم اعتبروه خسارة لأحد مواقعهم العملية التي تؤكد أصالتهم ومواقعهم المتقدمة من الكتاب والنبوّات.

أمّا المسلمون فقد عاشوا صدمة ذاتية ، لاشتمال ذلك على أسلوب جديد غير مألوف لديهم في التعامل مع التشريع الذي ساروا عليه مدة طويلة ، بإلزامهم بالوقوف منه موقف الرفض العملي الذي يستبدل موقفا بموقف ، فيعتبر السير على التشريع ـ على أساس ذلك ـ انحرافا عن الخط الصحيح ، مما لم يكن لهم سابق معرفة به ، ولم يكونوا في إعداد نفسي له ، بل جاء مفاجأة كبيرة لهم ، وصدمة نفسية إيحائية من خلال أساليب اليهود الذين حاولوا أن يثيروا أمامهم المشكلة الفكرية في النسخ ، فإذا كان حكم الله هو التوجه إلى بيت المقدس ، فمعنى ذلك أنّه الحق وأنّ غيره هو الباطل ، فكيف يتغير حكم الله إلى شيء آخر لتنقلب النظرة إليه في النظرة إلى الحق والباطل في القضية نفسها ، وكيف يمكن أن ينسب ذلك إلى الله الحكيم في كل ما يفعله من أفعال وما يشرّعه من أحكام ما دامت المصلحة لازمة للأشياء وما دام الحكم تابعا للمصلحة التي تمليه؟! ولم يكن لدى المسلمين من المعرفة بأسس التشريع وطبيعة مساره ما يمكّنهم من الدخول في جدل أو مناقشة حول ذلك مع هؤلاء .. وهكذا عاش المسلمون جوا من الريب والحيرة ، وبدأوا يواجهون حالة متوترة من الضوضاء والقيل والقال ، بالمستوى الذي تحوّل الموقف فيه

٦٥

إلى عقدة كبيرة تهدد المسيرة الإسلامية في ذلك المجتمع.

وكان القرآن بالمرصاد لذلك ، فقد خاض المعركة بكل الأساليب الضرورية التي يحتاجها الموقف ، سواء في ذلك الأساليب الفكرية التي تواجه طبيعة التشريع ، أو الأساليب العاطفية التي تخاطب مشاعر المسلمين وعواطفهم ، أو الأساليب العملية التي تواجه المسلمين بالواقع الداخلي لأهل الكتاب في ما يمارسونه من أساليب اللف والدوران والتضليل ضد المسلمين ، وتعرّفهم الموقع الذي يريد الله للأمّة أن تقفه في الكون في قيادة العالم إلى الشاطئ الأمين ، مما يجعل من القضية مدخلا قرآنيا لتربية المجتمع المسلم على مواجهة التحديات بالفكر والعاطفة والواقعية ، ولتأكيد الخط القرآني الذي لا يترك المسلمين في حيرة أمام علامات الاستفهام التي تثور في وجدانهم حول قضايا العقيدة والتشريع ، بل يعمل على أن يجد لهم الأجوبة التي ترضي قناعاتهم الفكرية ، وتمنحهم الشعور بالرضى والاطمئنان والثقة بما يعتقدون ويعملون ، من أجل تركيز هذا التشريع في وعي الناس ، وتربية المجتمع المسلم على الانطلاق إلى الحياة من خلال القواعد الثابتة المنطلقة من أمر الله ونهيه في كل ما يريد الله أن يغيره أو يبدله من تشريع أو غيره ، ليعي المجتمع من خلال ذلك طبيعة علاقته بالله وحدودها ، ويعرف أن المسلم لا يملك أمام كلمة الله أيّة إرادة تقوده إلى الرفض أو التشكيك ، بل هو التسليم المطلق في كل شيء كما توحي به الآية الكريمة : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) [الأحزاب : ٣٦].

وقد حدثنا الله في هذا الفصل عن الكلمات التي يمكن أن تقال ، وعن التصورات التي ينبغي للمسلم أن يعيشها أمام تلك الكلمات ، وعن طبيعة هذا التبدل في التشريع ، في حكمة الله ، وفي نتائجه العملية على سير الدعوة ، وعن التصورات والاهتمامات النفسية التي كانت تشغل بال النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل

٦٦

ذلك ، وعن الدور الكبير الذي أعدّه الله لهذه الأمّة في حملها للرسالة وشهادتها على الناس وشهادة الرسول عليها أمام الله.

وفي هذا الجو المتنوّع ، ينطلق القرآن ليربط المسلمين بالخط الأصيل الذي يسيرون عليه ، فلا يتزحزحون ولا ينحرفون عن الخط الإسلامي الحق إلى خطوط الآخرين ، بحجة أن يجلبوا الآخرين إلى صفوفهم ، مهما كانت نسبة الانحراف ضئيلة ، وذلك بالعمل على الانطلاق بعيدا في تحليل واقع المجتمع المضادّ بالمقارنة مع الواقع الذي يعيشه النبي والمسلمون إزاء عقيدتهم ، وتحليل طبيعة العلاقة التي تشدهم إلى الله وتربطهم به ، فهو الذي يجب أن يخشوه ويلجأوا إليه ويطلبوا رضاه.

ثم يتابع التأكيد في تكرار ملحوظ على المسلمين بالالتزام بهذا التشريع ، ليكون ذلك رمزا لوحدتهم في الموقف والشعور ، لأنه يمثل القاعدة الروحية التي يرتبطون بها ويتجهون إليها ، وهي هذا البيت الذي انطلق بالتاريخ الديني الرسالي الأول من أجل أن تبدأ الرسالة منه من جديد في عهدها المحمدي الجديد.

هذه هي بعض الأفكار التي نقدمها أمام الآيات الكريمة في هذا الفصل ، كمقدمة للمزيد من الشرح والتفصيل.

* * *

السفهاء يثيرون المشكلة

تصوّر الآية الأولى الحالة النفسية والذهنية التي كان يعيشها فريق من

٦٧

الناس من أهل الكتاب إزاء هذا التشريع الجديد ، مما يدفعهم إلى أن يطرحوا مثل هذا التساؤل في مرارة وإنكار ... وفي ذلك إيحاء بانخفاض المستوى الثقافي الذي يمكنهم من خلاله مواجهة الأمور التشريعية من جانبها الفكري على أساس الركائز الثابتة التي تقدم عليها قضايا التشريع.

وقد صاغت الآية الفكرة المضادة بصيغة التساؤل الذي يشوبه الاعتراض والإنكار ، كأسلوب من أساليب إثارة الجو ضد التشريع بشكل بريء ، فهي لا تطرح الفكرة بصورة الرفض المطلق لتوحي للآخرين بالموقف المضاد الذي تستثيره حالة المعارضة ، بل تطرحها بصورة السؤال لتستطيع إثارة الشك والبلبلة في أذهان المسلمين ، تماما كأية قضية من القضايا التي يدور فيها الجدل من أجل الوصول إلى نتيجة حاسمة ، في أسلوب إيحائي بإخراج الموضوع من جوّ القداسة التي تفرض الالتزام والتسليم المطلق.

وهذا ما نواجهه في كثير من الأساليب التي يستعملها الأعداء ضد الأحكام الشرعية من أجل وضعها في مواقع الشك والريب ، وذلك بإثارة الجوانب السطحية التي تبتعد بالإنسان عن التعمق في خلفيات التشريع البعيدة المدى ، ليكون ذلك بداية للانفتاح على حالات الشك التي تبعد المسلم تدريجيا عن روحية التسليم المطلق لله ...

وقد لا يظهر الجانب السلبي في هذا العرض الاستفهامي ، باعتبار أن الإسلام لم يتنكر للشك كأساس للوصول إلى الحقيقة ، ولم يواجه التساؤلات التي كان المسلمون يثيرونها أمام بعض الأحكام الشرعية بالردّ والرفض العنيف ، بل عمل على أن يواجه الإنسان ، كافرا أو مؤمنا ، الفكرة العقيدية والفرعية ، من موقع التساؤل البريء ، لتتكون القناعة الفكرية في العقيدة والتشريع على أساس متين.

٦٨

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) الذين لا يفكرون في الأمور بطريقة متوازنة ، ولا يميّزون بين الوحي الإلهي في تشريعه المنطلق من المصلحة التي تتغير حسب تغير الأزمان والأحوال ، مما يجعل الشيء ذا مصلحة اليوم بلحاظ عنوان أو ظرف معين ، ولا يكون ذا مصلحة في يوم آخر بلحاظ عنوان جديد أو ظرف طارئ ، وبين الرغبة الذاتية التي تتحرك من موقع الأهواء التي لا تخضع لقاعدة.

(ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) في صلاتهم ، فكيف تتغير القبلة بين وقت وآخر ، وكيف يتبدل التشريع الإلهي إذا كانوا ينسبون القبلة إلى وحي الله ، وهل يمكن أن يبدّل الله شريعته وهو العالم بحقائق الأشياء بعيدا عن كل الحالات الطارئة؟ فإذا كان التوجه إلى الكعبة مصلحة ، فكيف كان بيت المقدس قبلة في التشريع الأول؟

ولكننا لو دقّقنا في هذا الموقف ، لاكتشفنا الاتجاه السلبي الذي يتحرك من خلاله السؤال ، ولرأينا أن السلبية تكمن في إعطاء الموقف جوّا من الإثارة التي تدفع للاعتراض ، بالإضافة إلى أنه يسيء إلى الجانب التربوي الذي ترتكز عليه الشخصية الإسلامية التي تعتبر تكوين الأساس العقيدي منطلقا للالتزام الفكري والعملي بالتشريع ، باعتباره صادرا من خالق الإنسان الذي يعرف ما يصلحه وما يفسده أكثر من الإنسان نفسه ، وبذلك كانت الفكرة المطروحة إسلاميا لمن يحاول فهم الأحكام الشرعية : التزم واعمل ثم ناقش واسأل.

إنهم يتساءلون عن الأساس الذي صرف المسلمين عن قبلتهم ، ويثيرون أمام هذا التساؤل نقطتين :

الأولى : إنهم يوجهون الحديث إلى المسلمين كما لو كانت القضية تعني سلوكا شخصيا لهم.

٦٩

الثانية : إنهم لا يحاولون التدبّر في طبيعة التشريع الأول والثاني ، ليجدوا أنهما ينطلقان من الله في تعيين أيّة جهة من الجهات ليتوجه الناس إليها في عبادتهم ، وليستا منطلقتين من خصوصية ذاتية لهذه الجهة أو تلك ليمتنع الانتقال من جهة إلى جهة على أساس ذلك.

وعلى ضوء ذلك ، فلا مجال لأيّ اعتراض ، فإن الله يملك المشرق والمغرب معا وليس له اختصاص بجهة دون جهة ، فله أن يعيّن المشرق لنتوجه إليه ، وله أن يعيّن المغرب لنتوجه إليه ، وذلك ضمن الخطة التي يضعها للإنسان في تنظيم عباداته ومعاملاته ، مما يمكن أن يختلف فيه وجه الحكمة والمصلحة حسب اختلاف الخطّة الموضوعة ، فقد يكون في الاتجاه إلى جهة ما مصلحة في داخل خطة معينة ، وقد لا يكون فيه مصلحة بلحاظ خطة أخرى ..

(قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) فهو الذي يوجه عباده إلى هذه الجهة أو تلك ، ليمنحها القداسة من خلال ذلك ، فلا قداسة لجهة دون جهة بعيدا عنه ، وهو الذي يعلم صلاح عباده في كل مرحلة من المراحل ، فيوجب عليهم شيئا في وقت ليبدّله بشيء آخر في وقت آخر ، تبعا للمصالح التي تتبدل مع التغيرات الظرفية المتنوعة ، وإذا كان بيت المقدس متميزا بأنه موطن الأنبياء ، فإن الكعبة هي أول بيت وضع للناس بأمر الله نبيّه إبراهيم عليه‌السلام ببنائه وبدعوة الناس إليه للحج ، فقد تتعلق حكمته بإبقاء بيت المقدس قبلة للمسلمين كما كان قبلة لغيرهم في الماضي ، للتدليل على اعتراف الدين الجديد بأهمية هذا المكان المقدس في وعي المسلمين ، ليؤكد هذا التعبير في خطهم الفكري ، ثم يأتي التشريع الجديد ليجعل الكعبة قبلة جديدة من أجل تأكيد الخصائص العبادية التي تختزنها في وجودها القدسي ، بالأمر الإلهي المباشر الصادر إلى خليله إبراهيم مما لا تملكه القبلة القديمة.

٧٠

وخلاصة القضية أن على الإنسان أن يعرف أن الله لا يريد له إلا الخير ولا يأمره إلا بالسير على الخط المستقيم ، في ما يهديه إليه من تشريعات وأحكام ، مما يقتضيه التسليم والإذعان المطلق لله ، فإن الله الذي يملك المشرق والمغرب هو الذي يختار لعباده ما يصلحهم (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) منهم (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، وهو الدين الحق الذي يؤدي بالناس إلى مواقع رضاه وإلى الجنة الموعودة لديه.

* * *

لماذا وصفهم القرآن بالسفهاء؟

وقد قدم القرآن أمام عرض الفكرة سؤالا وجوابا ، صورة عن طبيعة تكوينهم الداخلي ، مما يوحي بأن الفكرة لم تنطلق من أساس مشكلة فكرية لتبعث على الاحترام ، بل انطلقت من واقع ذاتي منحرف يواجه فيه هؤلاء كل القضايا من موقع السفه الذي يعني فقدان الميزان الصحيح ، الذي يستطيع الإنسان من خلاله أن يزن الأمور ويحاكمها في جانب الفكرة والممارسة معا ، مما يبعث على النظر إلى الفكرة بعيدا عن الاحترام.

وقد يثور أمامنا سؤال :

إن استباق المناقشة بإعطاء مثل هذه الصفة يبعد الموقف عن الحياد الفكري الذي يفرضه الأسلوب العلمي في الحوار والمناقشة ، لأنه يخلق جوّا نفسيا مثيرا ضد أصحاب الفكرة في ما يشبه أسلوب القهر على طريقة حرب الأعصاب.

والجواب عن ذلك ، إن الموقف ليس موقف مواجهة المشكلة من موقع فكري فحسب ، بل الموقف هو موقف إبعاد هؤلاء عن التدخل في

٧١

حياة المجتمع المسلم من خلال الخطة المرسومة لديهم في زلزلة المسلمين وإبعادهم عن الخط المستقيم ، مما يستدعي العمل على إبعاد المسلمين عنهم نفسيا قبل إبعادهم عنهم فكريا ، ليواجهوا الموقف في المستقبل من موقع النظرة غير المحترمة عندهم ، ليبتعد الجو بذلك عن الاهتزاز والارتباك ، وقد لاحظنا في هذا النطاق الأسلوب الأمثل الذي يركز على تصوير طبيعة هؤلاء الذين يثيرون السؤال بصورة غير محترمة ، ليبعد الفكرة عن جانب التأثير الشخصي بالجماعة ، إلى مواجهة الفكرة في نطاقها الفكري.

أمّا كيف وصفهم القرآن بالسفهاء ، فلأن شخصية السفيه تتمثل في عدم استقامة العقل وعدم توازن الرأي ، مما يجعل التصرفات العملية في الفكر والعلاقة والمعاملة بعيدة عن الاستقامة والاتّزان ، ولا شك في أن الانحراف عن خط الله الذي يؤدي إلى سلامة المصير في الدنيا والآخرة ، لا يمثل الاستقامة في أيّ خط من خطوطها ، بل هو ـ على العكس من ذلك ـ يمثل اختيار الخط الملتوي الذي يضر بالإنسان في كل مجالاته.

* * *

الأسلوب القرآني في صراعنا الحاضر

وقد نشعر بالحاجة إلى اعتماد هذا الأسلوب في الواقع العملي ، الذي يخوض فيه الإسلام صراع التحديات الفكرية والعملية مع التيارات الكافرة والمنحرفة ، عند ما تلجأ إلى مواجهة الإسلام بأساليب الإثارة ، التي تعمل على خداع المسلمين وإضلالهم وإبعادهم عن الخط المستقيم ، فنحاول أن نواجه الموقف كما واجهه القرآن ، بالتركيز على الصفات الواقعية التي تكشف حقيقتهم ، وتبعد المسلمين عن التأثر بهم والخضوع لأساليبهم ، ثم

٧٢

مواجهة القضية من جانبها الفكري بعيدا عن التأثيرات الذاتية الضاغطة. ولا بد لنا ـ ونحن نثير هذا اللون من الأسلوب ـ من التدقيق جيدا في طبيعة الواقع الموضوعي الذي تنطلق فيه المشكلة وتتحرك فيه عمليات الإثارة ، لئلا نخطئ في استعماله في ما لا ينسجم مع المصلحة الإسلامية العليا في الدعوة والعمل.

* * *

الأمّة المسلمة هي الأمّة الوسط

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) تقف في الموقع المميّز بين سائر الأمم من خلال الموقع القيادي للرسالة القائدة والدور القائد في الدعوة والحركة ، كما كان الرسول كذلك بالنسبة إليهم في تبليغه وهدايته وقيادته. (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بفعل المهمة الموكولة إليكم في حركتكم القيادية في اتجاه الناس مما يستدعي المواكبة والمراقبة والمتابعة بالمستوى الذي يؤهلكم للشهادة عليهم من موقع الإشراف على حركتهم في الخط الفكري والعملي ، (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) لأنه هو الذي صنع الأمّة في وجودكم عند ما أطلق الرسالة لتكون عنوانا لكم ، وحمّلكم مسئوليتها لتحدد لكم الدور القيادي ، ليشهد عليكم أمام الله كيف كانت مواقعكم ومواقفكم وأوضاعكم ودعوتكم إلى دينه.

في هذه الآية حديث عن الأمة المسلمة بأنها «وسط» في ما جعله الله للمسلمين من موقع قيادي في الحياة ، وأنها شاهدة على الناس ، وحديث عن الرسول بأنه شاهد على الأمّة .. فكيف نفهم هذه «الوسطية» وهذه الشهادة؟

٧٣

جاء في مجمع البيان : «الوسط : العدل ، وقيل : الخير ومعناهما واحد ، لأن العدل خير والخير عدل ، وقيل : أخذ من المكان الذي يعدل المسافة منه إلى أطرافه ، وقيل : بل أخذ من التوسط بين المقصر والغالي فالحق معه ، قال مؤرّج : أي وسطا بين الناس وبين أنبيائهم ، قال زهير :

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم

إذا طرقت إحدى الليالي بمعظم

قال صاحب العين : الوسط من كل شيء أعدله وأفضله ...» (١).

وقد جرى بعض المفسرين في تفسير هذه الآية مجرى التفسير اللغوي البحت ، فأخذوا منه معنى العدل والتوازن على أساس ما تمثله الشريعة الإسلامية من الوسطية بين الاتجاه الروحي المتطرف الذي يمثله النصارى ، وبين الاتجاه المادي المتطرف الذي يمثله المشركون واليهود ، لأن الإسلام يأخذ من الروح جانبا ومن المادة جانبا ، لتكون الحياة ـ كما خلقها الله ـ نتيجة التزاوج بين الروح والمادة ، وتتمثل في التوازن بين الاتجاه الجماعي المتطرف الذي يلغي دور الفرد ، والاتجاه الفردي المطلق الذي يلغي دور المجتمع في الحياة ، فأعطى للفرد دوره في ما يحقق ذاته من دون أن يغمط (٢) حق الجماعة في نطاق قضاياها العامة ، وأعطى للجماعة دورها في ما لا يلغي للفرد نوازعه الذاتية الطبيعية. ويمتد الخط الوسطي إلى التوازن بين الدنيا والآخرة ، فللمسلم أن يقبل على الدنيا ويستمتع بطيباتها من دون أن يسيء إلى خط الآخرة في السير مع شريعة الله في ما يفعل وفي ما يترك ، وله أن يستغرق في الآخرة بما لا يمنعه من بناء الحياة والاندفاع معها على الأسس التي يريدها الله .. ويمضي الكثيرون في استيحاء الكلمة من خلال ما في الإسلام من توازن

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٤١٤.

(٢) غمط الحق : جحده.

٧٤

في مختلف جوانب الحياة من حيث العاطفة والعقل ، ومن حيث التفكير العقلي والطرق التجريبية ، ومن حيث الزمان والمكان ... وهكذا ...

وفي ضوء ذلك ، يمكن للأمّة أن تؤدي دور الشهادة على الناس باعتبارها تقف في نقطة التوازن التي ترجع إليها بقية الأطراف ، كما يكون النبي شهيدا على الأمة لأنه المثال الأكمل الذي يوزن به حال الآحاد من الأمة.

ويعلّق صاحب تفسير الميزان على هذا التفسير للآية بأن هذا المعنى «هو في نفسه معنى صحيح لا يخلو من دقة إلا أنه غير منطبق على لفظ الآية ، فإن كون الأمة وسطا إنما يصحح كونها مرجعا يرجع إليه الطرفان ، وميزانا يوزن به الجانبان ، لا كونها شاهدة تشهد على الطرفين أو تشاهد الطرفين ، فلا تناسب بين الوسطية بذلك المعنى والشهادة ، وهو ظاهر على أنه لا وجه حينئذ للتعرض بكون رسول الله شهيدا على الأمة ، إذ لا يترتب شهادة الرسول على الأمة على جعل الأمة وسطا كما يترتب الغاية على المغيّا (١) والغرض على ذيه» (٢).

وإننا نتفق مع صاحب الميزان في هذه الملاحظة ، لأن قضية التفسير هي أن يدرس المفسّر الكلمة من خلال الجوّ الذي تعيش فيه ، ليتحقق الترابط بين الآيات في كلماتها وأجوائها. ونحن نرى أن هذه الآيات تتحرك في نطاق الإيحاء للمسلمين بأصالة موقعهم في الحياة من خلال الدور الذي أعدّه الله لهم في قيادة البشرية إلى الأهداف الكبيرة التي تتمثل بالإسلام ، الأمر الذي يجعلهم يتحركون في الحياة من هذا الموقع ، ليكونوا شهداء على الناس في أفكارهم وأعمالهم باعتبار أنهم يدخلون في ضمن مسئوليتهم ، كما كان الرسول شهيدا

__________________

(١) المغيّا : الموضوع له الغاية.

(٢) تفسير الميزان ، ص : ٣١٥.

٧٥

على المسلمين من خلال مسئوليته الرسالية عنهم في ما بلّغهم إيّاه وفي ما أرشدهم إليه ... وفي هذا الجوّ لا نجد للوسطية معنى في ما حاوله هؤلاء المفسرون من الحديث عن التوازن الفكري والتشريعي في المواجهة الإسلامية للحياة ، لأن القضية ليست قضية المضمون الإسلامي في صياغة الشخصية للإنسان المسلم ، بل هي قضية الإيحاء للمسلمين بأن عليهم أن لا يستسلموا للآخرين في الحصول على الثقة بالتشريع وبالمسار العملي ، لأنه لا يمثلون التبعية للآخرين في مواقعهم ، بل القضية هي أن الآخرين يدخلون في نطاق مسئوليتهم باعتبار أنهم يحملون الرسالة القائدة ، والدور القائد في التبليغ والتنفيذ ، كما كان الرسول بالنسبة إليهم في ما يبلّغه وفي ما يهدي إليه ...

إننا نتصور الآية في هذا الموقع من خلال الأجواء العامة التي وردت فيها ، مما يجعل من ذكر كلمة الوسط مقدّمة لتقرير فكرة الشهادة ، ويوحي بأن معناها يدخل في معنى العدل والفضل انطلاقا مما ذكره صاحب كتاب العين : «إن الوسط من كل شيء أعدله وأفضله» فكأن هذه الكلمة استعيرت للأمة المسلمة من أجل تأكيد الثقة في نفوسهم ، على أساس ما حباهم الله من هداية إلى سبيله ، لئلا ينهاروا أمام تضليل المضللين وتشكيك المشككين ... وقد يوحي بذلك وقوع هذه الصفة بعد الحديث عن هداية الله لمن يشاء إلى صراط مستقيم ، للتدليل على أن الله أراد لهم هذه الهداية التي جعلتهم في هذا الموقع ... ولعلّ طبيعة الشهادة على الآخرين أمام الله تقتضي أن يكون الشاهد في الموقع الأفضل من حيث الدور الذي أوكل إليه ، ومن حيث السلوك الذي سار فيه كما هي حال الأنبياء بالنسبة إلى أممهم. وهذا ما يؤكد المعنى الذي ألمحنا إليه ، وربما يؤكد ذلك ويوضحه ما ورد في الآية الكريمة : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ

٧٦

فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج : ٧٨].

فإننا نلاحظ تفريع شهادة الرسول عليهم وشهادتهم على الناس إنما هي على أساس اجتباء الله لهم وانضباطهم على الخط وقيامهم بالدور الموكل إليهم في العمل لأنفسهم وللآخرين ، أمّا الحديث عن التوازن في الإسلام ، فهو حقّ ، ولكن ذلك لا يعني أن الآية تسير في هذا الاتجاه في مضمونها الفكري.

وقد ذكر صاحب تفسير الميزان في معنى «الوسط» : «أن كون الأمة وسطا إنما هو بتخلّلها بين الرسول وبين الناس» (١). ولكننا قدمنا أن الوسطية هنا لا يراد بها ذلك بل يراد بها ـ في ما نفهمه ـ الموقع الأفضل الذي وضع الله فيه الأمة بالنسبة إلى الناس ، والله العالم بحقائق آياته.

* * *

شهادة الأمة كيف نفهمها

أمّا الشهادة ، فقد ذكر لها عدة معان ، منها : أن المعنى : لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا فيها الحق في الدنيا وفي الآخرة. كما قال : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) ، [الزمر : ٦٩] وقال : (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر : ٥١] ، وقال ابن زيد : الأشهاد أربعة ، الملائكة والأنبياء وأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والجوارح. كما قال : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) [النور : ٢٤] الآية.

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١ ، ص : ٣١٩.

٧٧

ومنها : أن المعنى : لتكونوا حجة على الناس ، فتبيّنوا لهم الحق والدين ، ويكون الرسول عليكم شهيدا مؤديا للدين إليكم ، وسمّي الشاهد شاهدا لأنه يبين ، ولذلك يقال للشاهدة بيّنة.

ومنها : أنهم يشهدون للأنبياء على أممهم المكذبين لهم بأنهم قد بلغوا وجاز ذلك لإعلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إياهم بذلك (١) ...

وإننا نستقرب من هذه المعاني المعنى الأوّل ، لأن الاتجاه العام في آيات الشهادة هو الإيحاء للناس بأنّهم مطوّقون في يوم القيامة بالشهادة على ما فعلوه في الدنيا من جميع الجهات ، وذلك من الجهات المألوفة لديهم في الشهادة في ما يشهد به الأنبياء والمبلغون ، أو من الجهات غير المألوفة لديهم وهي شهادة الله والملائكة والجوارح ، ليشعروا في الدنيا بالحاجة إلى الانضباط في كل ما يعملونه أو يتركونه ، وليتعمق إحساسهم الداخلي بالرقابة الموجهة إليهم من جميع الجهات. وقد جاءت آيات الشهادة في سياق واحد حتى لا يشعر الإنسان بوجود فارق بين واحدة وأخرى مع اختلاف شخصية الشهود ، كما نلاحظه في الآيات التالية :

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١].

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) [النحل : ٨٤].

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الزمر : ٦٩].

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٤١٦.

٧٨

(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المائدة : ١١٧].

وهكذا نلاحظ أن القضية تتجه إلى يوم القيامة بين يدي الله ، للإيحاء بالإحاطة الكاملة بالإنسان من جميع الجهات التي يتصور حضورها لديه من خلال المعاينة أو من خلال الإيمان ، وذلك على أساس أن الشهادة في تجربة الشهداء تتحرك في الدنيا في الموقع القيادي الذي يتمثل فيه الشاهد الواقع كله في حركة الناس في الحياة ومدى التزامهم بالوحي الإلهي في خط الرسالات في دائرة السلب والإيجاب ، ليقدموها بين يدي الله في موقف الحساب ، فلا تنافي بين مفهوم الشهادة في واقع الدنيا التي يتحرك فيها الشهداء بين الناس وبين حركتها الفعلية الأدائية في موقف القيامة أمام الله.

وفي ضوء ذلك نفهم أن المعنيين الآخرين لا ينسجمان مع الأجواء العامة للآيات ، ولا سيما المعنى الثالث الذي يركّز على حاجة النبي للشهادة على الأمم بأنّه بلّغهم ، إذا أنكرت الأمم ذلك ، إذ لا معنى لحاجة النبي لذلك مع اعتباره شاهدا أساسيا تطلب شهادته بشكل أصيل ، مما يعني اعتبار شهادته قاعدة للحكم على الأمم من خلال دخولهم ضمن مسئوليته التي منحه الله الثقة في القيام بها بكل أمانة وصدق.

* * *

اعتراض وجواب

وقد أثار المفسرون اعتراضا في هذا المجال ، وخلاصته أن الشهادة تفرض الموقع المتميز للشاهد على المشهود عليه ، ونحن نعلم أن الأمة

٧٩

تضم في جماعتها المطيع والعاصي والجاهل والعالم ، فكيف يمكن أن يكون الجميع شهودا في موقع الشهادة؟ والجواب أن الأسلوب القرآني قد جرى على الحديث عن البعض بصفة الكل ، باعتبار اشتمال الكل عليه ، تماما كما قد حدثنا عن بني إسرائيل ، مع أن الصفات التي ذكرها كانت صفات البعض ... وعلى هذا ، فإن كون الأمة شاهدة يتحرك في نطاق وجود العناصر الكثيرة في داخلها ممن يصلحون لمثل هذا الموقع الكبير ، وهم الطليعة الواعية المؤمنة التقيّة المنضبطة التي تفهم الإسلام حق الفهم ، وتعيه حق الوعي ، وتمارسه حق الممارسة ، وتحمله بروح رسولية رائدة. إنها النخبة الواعية الموجودة في كل زمان ومكان ، التي يقف في طليعتها الأئمة الطاهرون والعلماء الواعون والأولياء الطيبون والمجاهدون العاملون الذين يحملون هذه الشهادة إلى الله لأنهم يعيشون روح الرسالة ، ويعيشون من خلالها الوعي لكل حياة الناس ، كما هو الرسول في رسالته وفي وعيه لأمّته.

* * *

تشريع القبلة امتحان لطاعة الأمّة

ويستمر الحديث عن هذا التشريع الجديد من خلال التركيز على الطبيعة التربوية التي تحكم هذا التنوع في التشريع من موقع للقبلة في بداية الدعوة إلى موقع جديد في امتدادها الطويل .. ويتجه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتبار أنه رسول الله إلى الأمة ، المكلف بتوضيح الصورة لهم : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) وهي بيت المقدس ، (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ).

فقد أراد الله أن يختبر المسلمين ليربيهم على الطاعة المطلقة له ، التي تتمثل في التسليم لأحكامه من دون أي ريب واعتراض ، فأمرهم في البداية

٨٠