تفسير من وحي القرآن - ج ٣

السيد محمد حسين فضل الله

تتحول نتائج الامتحان من عملية اكتشاف للقدرات الذاتية إلى عملية تنمية هذه القدرات وتقويتها في خطة عملية لصنع الإنسان.

* * *

الصابرون وعلاقتهم بالحقيقة الإيمانية

وتنطلق الآيات لتثير أمام الصابرين الذين لا تهتز مواقفهم أمام التحديات ، البشارة من الله من دون أن تدخل في تفاصيل البشارة في البداية ، إمعانا في الإبهام الذي يثير المشاعر في عملية انفتاح على ألوان متنوعة من ألطاف الله ورضوانه ، ثم تحدّد لنا بعض ملامح الصابرين لتربط الصبر بالوعي للعقيدة والإيمان بالله ، فلا يخضع لضغط الأمر الواقع في عملية استسلام للمصائب من دون رضى واقتناع ، بل يرتفع في إيمانه ليثير في نفسه الحقيقة الإيمانية الكونية التي تربط الخلق كله بالله ، فالخلق كله ملك الله ، والإنسان هو بعض من هذا الخلق الذي يملكه الله ، مما يجعلنا نحس أننا لا نملك من أمرنا شيئا ، لأن الملك كله لله ، فله الحقّ كل الحق في أن يبتلي خلقه بما يشاء ، وعليهم أن يشعروا أن في ذلك كله المصلحة كل المصلحة والخير كل الخير ، لأنه الحكيم الرحيم الذي يدبّر أمر عباده بالحكمة والرحمة ..

ثم يثير في نفوس هؤلاء الصابرين بعد ذلك الحقيقة الكونية الإيمانية الأخرى ، وهي أن العباد سيرجعون إلى الله وستنتهي الحياة كلها ليعود الملك إليه ـ تعالى ـ من دون أن يملك الإنسان أي نوع من أنواع القدرة على مواجهة هذا المصير .. فإذا كان الإنسان ملكا لله فما معنى الاعتراض؟ وإذا كانت الحياة ستنتهي بكل آلامها إلى الله ليلتقي الإنسان برضوانه وثوابه ، فما معنى السقوط والجزع؟ لا بد من الصبر والرضى والقناعة بقضاء الله ليلتقي الإنسان

١٢١

بالله عند رجوعه إليه ليلقى عنده الرحمة والمغفرة والثواب الجزيل ، حيث الصلوات التي تمثل الحنوّ والعطف والرأفة ، وحيث الرحمة المنسابة في مشاعر الإنسان وحياته انسياب الضوء في قلب الكون ، وحيث تنطلق الشهادة التي تعبر عن حقيقة إنسانية هي أن الصبر الواعي الذي يعرف قيمة الرسالة والإيمان وما تتطلبه من تضحيات وآلام وما تنتجه من خير وبركات على صاحبها في الدنيا والآخرة ، هو السبيل الحي للهدى كل الهدى الذي يمنح أتباعه ذلك الوسام الرائع (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) الذين عرفوا الطريق من خلال الرسالة ، وذلك هو سبيل الذين يسيرون وعيونهم تحدّق بالشمس المتدفقة بالدفء والحياة والضياء(١).

(الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) من مصائب الحياة في أنفسهم وأموالهم وأوضاعهم ، (قالُوا إِنَّا لِلَّهِ) فنحن ملك الله من موقع أننا خلقه ، فله أن يتصرف بنا كما يشاء وعلينا أن نتقبل ذلك بكل رضى من دون اعتراض ، وأن نؤمن بأنه ـ في موقع رحمته ـ لا يريد بنا إلا خيرا مما يقربنا إلى المصلحة ويبعدنا عن المفسدة ، (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) فسنصير إلى الله في نهاية المطاف ونتخفف من كل هذه الآلام ، فنجد عنده الخير الكثير الذي نحصل فيه على كل السعادة التي يذوب معها كل حزن وألم مما عشناه في الحياة ، وبذلك لا يبقى لآلام الحياة قيمة في إحساسنا الذاتي ، لأن انتظار لقاء الله في روح رضوانه ونعيم جنته يطرد كل المشاعر الذاتية الخائفة والحزينة والقلقة في أجواء المصائب. وقد جاء عن الإمام علي عليه‌السلام في نهج البلاغة : «إن قولنا : (إِنَّا لِلَّهِ) إقرار على أنفسنا بالملك ، وقولنا : (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) إقرار على أنفسنا بالهلك» (٢).

(أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) والصلاة من الله لعباده ـ على

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١ ، ص : ٣٤٦.

(٢) نهج البلاغة ، قصار الحكم / ٩٩.

١٢٢

ما قيل ـ الانعطاف إلى العبد بالرأفة وذلك بالمغفرة والرعاية له ، والتفريج لكربته وقضاء حاجاته ، وشفاء مرضه ، مما يدخل في الحنو والتعطف الصادر من الله الذي يوحي بالشمول الرعائي للعبد بكل ما يخفف عنه قلقه وحزنه ليمنحه الطمأنينة الروحية في الدنيا والآخرة. وقد ورد الحديث عن صلاة الله وملائكته على عباده في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) [الأحزاب : ٤٣] وفي هذا دلالة على أن الصلاة تفتح حياة الإنسان المؤمن على النور بعد أن تحاصره الظلمات لينقذه منها برأفته وعطفه وحنانه ورحمته ، وهي العطية الإلهية المطلقة ، والموهبة العامة الربانية التي انطلقت من ذات الله وصفاته العليا ، فأعطت الإنسان ـ كما أعطت الكون ـ وجوده ، وأفاضت عليه بالنعم ، وفتحت له أبواب الهداية ، ووجهته إلى الأخذ بأسباب السعادة للحصول على رضوان الله ونعيمه في جنته ، (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) الذين اكتشفوا طريق الحق وساروا فيه ، وتحمّلوا كل مصاعبه وآلامه ، وتقرّبوا إلى الله في ذلك كله ليصلوا إلى مواقع القرب عنده ، ومواطن الرضى لديه ، وذلك هو الهدى كل الهدى الذي لا يضل سالكه ولا يخيب المنطلق إليه.

* * *

ومما نستوحيه من هذه الآيات :

القيم الأخلاقية قوة روحية

١ ـ إن القرآن يعتبر القيم التي يؤمن بها الإنسان ، لونا من ألوان القوة الروحية التي يمكن للإنسان أن يستثيرها ويستعين بها عند ما تثور أمامه نوازع الضعف ... وبذلك يوجّه الإنسان إلى أن يدرس كل خصائصه الروحية

١٢٣

والفكرية في عملية إحصاء دقيقة ، ليعرف مقدار القوّة التي يملكها في مواجهة القوى الشريرة الأخرى ، سواء في ذلك القوى المضادة الكامنة في داخل نفسه كالشهوات والأطماع ، أو القوى البارزة على ساحة الصراع في الحياة. ثم يمتد الموقف في إثارة إيحائية ليعرف من خلال ذلك أنّ القوّة لا تنحصر في ما تعارف عليه الناس من القوّة المادية المتمثلة بالسلاح والرجال والمال والمراكز وغيرها ، بل هناك القوّة الروحية التي تتمثل بالقيم والتعاليم الكبيرة التي يؤمن بها الإنسان في داخل ذاته ، فهي التي تحميه من نقاط الضعف في نفسه ، كما تحميه من وسائل القوة التي يثيرها الآخرون ضده لتجتاح إيمانه ورسالته وموقفه ، حيث تتحفز تلك القيم لتوحي له بالثبات مع الخط مهما كانت السلبيات والخسائر الصعبة.

* * *

دور الشعور بالآخرة في تربية الوجدان

٢ ـ إن من الأساليب القرآنية المرتكزة على أساس من العقيدة الإسلامية الحقة في ما بعد الموت ، محاولة إثارة الشعور بالحياة الآخرة كحالة وجدانية في نفس المؤمن ، من أجل تفريغ الفكر والقلب والوجدان من الإحساس بالخوف والوحشة من ظلام الموت وهوله الذي يمنع الإنسان من الحركة في ما يعرّض الحياة للخطر ، وذلك في حالات الجهاد في سبيل الله ، ولا بد لنا من التركيز على هذا الأسلوب لتحقيق هدفين :

الأوّل : تنمية العقيدة في داخل المؤمن بتعميق الإحساس بتفاصيلها ، بالأسلوب الذي يجعلها حالة وجدانية كما لو كان الإنسان يواجه الموقف بالإحساس البصري المباشر ، فيحوّلها ـ أي القرآن الكريم ـ عن الحالة الفكرية المجرّدة التي قد لا تثير المواقف الحاسمة في أغلب الحالات.

١٢٤

الثاني : التغلب على نقاط الضعف التي تثور في داخل الإنسان من خلال النوازع النفسية الذاتية المتصلة بحب الحياة ، ومن خلال الأجواء الخارجية التي يثيرها الآخرون في مجالات الصراع من حالات الخوف والفزع ...

وفي ضوء ذلك ، يتحرك الأسلوب القرآني في إحساس عميق بالحياة كأفضل ما تكون الحياة في كل ما تجسّده من المتع واللذات الحسية والمعنويّة ، فيتحوّل الموقف من حالة الهروب من الموت إلى شوق كبير له ولما يحمله من فرصة الحياة الأفضل والأنقى والأصفى.

* * *

البلاء للمؤمن عامل تنمية واختبار

٣ ـ التركيز على إثارة روح التحدي للبلاء والمصائب في نفس المؤمن من خلال اعتباره تجربة حيّة من تجارب الحياة الطبيعية بعيدا عن كل إحساس سلبي بالألم والعذاب ، والنظر إليها كمظهر من مظاهر العقوبة الإلهية كما هي في عقيدة بعض المؤمنين الساذجين ، وبذلك يبتعد الإنسان عن الشعور بالانسحاق أمام البلاء ليكون ، بدلا من ذلك ، عامل تنمية واختبار للقوّة من أجل الحصول على النتائج الكبيرة في مجال تربية الشخصية الإسلاميّة ، وارتفاعها في منازل القرب من الله سبحانه.

وهذا ما نحتاجه في الصراعات التي يخوضها العاملون في سبيل الله ضد قوى الكفر والانحراف في كل المجالات ، حيث يتعرض هؤلاء لما كان يتعرض له المسلمون الأولون في بدايات الدعوة الإسلامية من النقص في الأموال والأنفس والثمرات ليصبروا على ذلك كما صبر أولئك ، وليحصلوا

١٢٥

على نتائج النصر في الدنيا والسعادة في الآخرة ، لأن ذلك هو سبيل الوصول إلى الأهداف الكبيرة التي يستهدفها أصحاب الرسالات السماوية.

* * *

علاقة الصبر بالجانب الروحي للعقيدة

٤ ـ إن الدعوة إلى الصبر في الشدائد والأهوال لا تشبه الدعوات التي يوجهها الآخرون في أساليبهم المتنوعة حيث تؤكد المعاني الإنسانية الذاتية في الحديث عن النتائج السلبية والإيجابية ، بينما نجد القرآن يربط الموضوع بالعقيدة ودلالتها وإيحاءاتها وعلاقة ذلك كله بالجو الروحي الذي يتطلع إلى رضى الله ومحبته ورحمته ، لئلا يتجمد الإنسان في مواقفه على النوازع المادية التي تربطه بالحياة الدنيا ، فيخلد إليها في استسلام مهين ، ويبتعد بذلك عن أخلاقية الإسلام المتصلة بالحياة من خلال اتصالها بالله ، المرتكزة على الأسلوب الإسلامي التربوي الذي يجعل الهدف الإنساني مرتبطا بالعلاقة الحميمة بالله ، في سير الإنسان الأخلاقي ، الأمر الذي يدفعه إلى التغلب على كل النتائج السلبية على مستوى الحياة الدنيا إذا كانت النتائج إيجابية على مستوى الحياة الأخرى في رضوان الله وعفوه وغفرانه ، لتبقى الحوافز الدافعة إلى الالتزام والانضباط حيّة قوية في مختلف الظروف والأوضاع من دون الاستسلام لأيّة نقطة من نقاط الضعف الإنساني.

* * *

١٢٦

الآية

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) (١٥٨)

* * *

معاني المفردات

(الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) : الصفا : في الأصل الحجر الأملس ، مأخوذ من الصفو ، واحده صفاة. والمروة : في الأصل الحجارة اللينة ، وقيل : الحصاة الصغيرة ، وقد صارا علمين لجبلين صغيرين في مكة يفصل بينهما ٤٣٠ مترا تقريبا ، وارتفاع الصفا خمسة عشر مترا ، والمروة ثمانية أمتار.

(شَعائِرِ) : جمع : شعيرة ، وهي العلامة ، وشعائر الله العلامات التي تذكّر الإنسان بالله وتوحي إليه بالمشاعر الروحية ، وجاء في مجمع البيان : «والشعائر : المعالم للأعمال ، وشعائر الله : معالمه التي جعلها مواطن للعبادة ، وكل معلم لعبادة من دعاء أو صلاة أو غيرهما فهو مشعر لتلك

١٢٧

العبادة» (١).

(حَجَ) : الحج القصد على وجه التكرار ، وفي الشريعة عبارة عن قصد البيت بالعمل المشروع من الإحرام ، والطواف والسعي ، والوقوف بالموقفين ، وغير ذلك.

(اعْتَمَرَ) : العمرة الزيارة ، أخذ من العمارة ، لأن الزائر يعمّر المكان بزيارته. وهي في الشرع زيارة البيت بالعمل المشروع.

(جُناحَ) : الجناح : الميل عن الحق. يقال جنح إليه جنوحا إذا مال.

(أَنْ يَطَّوَّفَ) : الطواف الدوران حول الشيء ، ومنه : الطائف. وفي الشرع : الدوران حول البيت.

(تَطَوَّعَ) : التطوّع : التبرّع بالنافلة خاصة ، والطاعة والتطوّع أصلهما من الطوع الذي هو الانقياد. ولعله المقصود بالكلمة هنا.

* * *

لقطات من التشريع

الصفا والمروة جبلان في مكة فرض الله على حجّاج البيت الذين يقصدون أداء فريضة الحج ، وعلى المعتمرين الذين يقصدون أداء العمرة التي يراد بها زيارة البيت ضمن مناسك مخصوصة ، أن يسعوا بين هذين الجبلين. وقد كان المسلمون في بداية عهد التشريع يشعرون بالحرج من ذلك ، لأنهم يرون فيه مخالفة لعقيدة التوحيد في الفكر والممارسة ، لأنّ

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٤٣٨.

١٢٨

الأصنام كانت منصوبة عليهما كما ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام. حيث روى عنه بعض أصحابه قال : «سألته عن السعي بين الصفا والمروة فريضة هي أم سنّة؟ قال : فريضة. قلت : أليس الله يقول : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما)؟ قال : كان ذلك في عمرة القضاء وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام فتشاغل رجل من أصحابه حتى أعيدت الأصنام. قال : فأنزل الله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أي : والأصنام عليها» (١).

وجاء في حديث آخر يرويه صاحب الكافي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أن المسلمين كانوا يظنون أن السعي بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون ، فأنزل الله عزوجل : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ)» (٢).

وفي الدرّ المنثور عن عامر الشعبي قال : «كان وثن بالصفا يدعى إساف ووثن بالمروة يدعى نائلة ، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت يسعون بينهما ويمسحون الوثنين ، فلما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا : يا رسول الله ، إن الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين ، وليس الطواف بهما من الشعائر! فأنزل الله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) الآية. فذكّر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه ، وأنّثت المروة من أجل الوثن الذي كان عليه مؤنّثا»(٣).

وهكذا نجد أن القضية تتصل باعتبار هذه الفريضة بعيدة عن خط الإيمان ، لأنها امتداد لأجواء الشرك والأصنام ، فجاءت هذه الآية لتضع

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١ ، ص : ٣٨٤.

(٢) الكافي ، ج : ٤ ، ص : ٢٤٥ ، رواية : ٤.

(٣) السيوطي ، عبد الرحمن جلال الدين ، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور ، دار الفكر ، ١٩٩٣ م ـ ١٤١٤ ه‍ ، ج ، ١ ، ص : ٣٨٥.

١٢٩

القضية في موقعها الطبيعي من عقيدة التوحيد وشريعة ، لأن وجود الأصنام وعدم وجودها لا يضر بذلك شيئا ما دامت العبادة مرتبطة في وعي المسلمين وتفكير بالله ، ومنطلقة من أمر الله ورسوله ، كما كانت الكعبة البيت الحرام مطافا للمسلمين قبل أن يفتح الله عليهم مكة مع وجود الأصنام التي نصبها المشركون فيها ، لأن المسلمين لم يحسبوا لها أيّ حساب في طوافهم وفي عبادتهم. أمّا إذا كانت العقدة ناشئة من أنها من شعائر المشركين ومناسكهم ، فلا تضرّ شيئا ، لأن مناسك الحج لم تكن تشريعا جاهليا إشراكيا ، بل كانت تشريعا إلهيا على يد إبراهيم عليهم‌السلام ورسالته ، كما نلاحظ ذلك في آيات الحج وأحاديثه ، ولم يكن من الإسلام ، إلا أنهّ أقرّها وزاد عليها بعض التفاصيل.

وهكذا عرفنا أن كلمة (فَلا جُناحَ) لا تعطي معنى الرخصة بمعنى الإباحة ، بل تعني عدم الحرج في ما اعتقدوه من منافاته لخط التوحيد كتأكيد لهم لعدم المنافاة. لذلك كما أشرنا إليه ، فإنها ليست من شعائر الشرك وإن نصبت الأصنام عليها ، بل هي من شعائر الله التي جعلها للمؤمنين لتكون موضعا لعبادته ومقصدا للقرب إليه ، فكأنّه قال إن وجود الأصنام لا يمنع من العبادة. ثم ختم الله هذه الآية بأن الله يشكر للمتطوعين بفعل الخير علمهم ، وإن كانوا لا يستحقّون على الله ذلك ، فإن الله فرض على نفسه أن يشكر الطائفين والعاكفين والركّع السجود ، ثم يوحي إليهم بأنه عليم بنواياهم ومقاصدهم عند ما يقصدون الله في عبادتهم هذه. ويقصدون غيره. وبهذا تلتقي الرغبة في عمل الخير في نفس المؤمن وإحساسه بشكر الله له على ذلك ، بالحذر من وجود بعض الحالات النفسية المنحرفة التي تفسد العمل في دوافعه ونتائجه ، ليقف المؤمن من ذلك موقف الإنسان الذي يفحص عمله فحصا دقيقا ، لتتم له جوانبه الإيجابية التي به إلى رضوان الله وغفرانه.

١٣٠

وقد يثير البعض ، في الجانب الفقهي من الآية ، أنها تتحدث عن التطوّع الذي يعني الإتيان بالعمل من خلال الحوافز النفسية من دون أن يكون هناك إلزام قانوني ، فلا ينسجم مع اعتباره فريضة ، ولذا ذهب بعض فقهاء المسلمين إلى استحبابه وعدم وجوبه. ولكننا نعتقد أن هذه الكلمة لا تفيد المعنى الذي يقابل الإلزام ، بل المعنى الذي يقابل الإكراه والإلجاء والضغط الخارجي ، فيكون معناها العمل المأتي به طواعية واختيارا كنتيجة للشعور بالمسؤولية الناتجة عن الواجب إن كان هناك وجوب ، أو عن المستحب إن كان هناك استحباب ، فلا تدل على نفي الوجوب ، كما لا تدل على تأكيد الاستحباب ، والله العالم بأسرار أحكامه وآياته.

* * *

الصفا والمروة من شعائر الله

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) وهما الجبلان الصغيران الواقعان في الضلع الشرقي للمسجد الحرام في الجهة التي يقع فيها الحجر الأسود ومقام إبراهيم (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) التي أراد الله للمؤمنين أن يتعبدوا فيها ، فجعلها من مواضع نسكه وطاعته ، ومن أعلام متعبداته التي يعيش فيها المؤمنون الأجواء التي تنفتح بهم على الله في مواسم عبادته (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ) قاصدا أداء الفريضة الشرعية ذات المناسك المخصوصة ، (أَوِ اعْتَمَرَ) أي أتى بالعمرة بالطريقة المعروفة في الشرع ، (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) بأن يأتي إلى الصفا تارة وإلى المروة أخرى في عملية دوران بينهما ، فلا إثم عليه في ذلك من خلال وجود الصنمين عليهما ، في عهد نزول الآية ـ كما يقال ـ مما تركه المشركون هناك ولم يرفعوه عن المكان ، أو في أي زمان آخر من خلال التاريخ الوثني في

١٣١

عبادة الأصنام المنصوبة عليهما ، لأن المسألة هي إطاعة الله في الطواف بهما تقربا إليه في مناسك الحج والعمرة التي جعلت السعي شرطا فيهما ، تماما كما كان المسلمون يطوفون بالبيت الحرام مع وجود الأصنام عليه من دون أن يترك ذلك تأثيرا على طبيعة العبادة وروحيتها لتقوّمها بالقصد إلى امتثال الأمر الإلهي في الطواف ، أو السعي بعيدا عن كل الأشياء الوثنية الطارئة عليه ، وعن الانحرافات العبادية من الوثنيين ، فليس لما أحدثه الناس في أماكن العبادة أيّ أثر سلبي في طبيعة المكان وفي العبادة.

(وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) أي جاء بالعمل من خلال اختياره الامتثال للأمر الإلهي ـ واجبا أو مستحبا ـ كتعبير عن روحية الانقياد إلى الله في فعل الخيرات التي يحبها الله ، والقيام بالطاعات التي أمر بها ، وربما حمل البعض كلمة التطوع على العمل الذي يؤديه الإنسان تبرعا من دون إلزام إلهي ، وذلك في فعل النافلة ـ بعد أداء الواجب أو في غياب وجوبه ـ ولكنه غير ظاهر ، لأن الآية ، كما بيّنّا قبلا ، ليست في مجال الحديث عن الواجب والمستحب ، بل في مجال الحديث عن الطبيعة العبادية للسعي الذي لا إثم على فعله من خلال ما أحدثه المشركون من وضع الأصنام على موقعه وعبادتهم لها فيه ، وأن الآتي به مستحق للثواب لما يعبر عنه ذلك من معنى العبودية لله التي هي محل الشكر الإلهي لعبادة ، (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) فهو الذي يشكر لعباده انقيادهم له من دون حاجة إليه ، ويجزيهم على ذلك أحسن الجزاء ، وذلك هو التعبير الحي عن الشكر الذي هو مقابلة من أحسن إليه بإظهاره قولا وعملا ، وهو الذي يعلم ما في نفوسهم من الإخلاص له.

* * *

١٣٢

الآيتان

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١٦٠)

* * *

معاني المفردات

(يَكْتُمُونَ) : الكتمان : ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه ، وحصول الداعي إلى إظهاره ، وما لم يكن كذلك لا يعدّ كتمانا.

(الْبَيِّناتِ) : جمع : بيّنة ، وهي الدلالة الواضحة عقلية كانت أو حسيّة ، والمراد بها هنا ـ كما قيل ـ الآيات الشاهدة على أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(وَالْهُدى) : الهداية : دلالة بلطف. وهو الخط الذي يمثل وعي الفكرة في امتدادها في حياة الإنسان ، وانفتاحها على الخط المستقيم.

(وَيَلْعَنُهُمُ) : اللعنة : الإبعاد عن الرحمة.

١٣٣

(تابُوا) : التوبة : هي الندم الذي يقع موقع التنصل من الشيء ، وذلك بالتحسر على مواقعته ، والعزم على ترك معاودته إن أمكنت المعاودة.

(وَأَصْلَحُوا) : إصلاح العمل : هو إخلاصه من قبيح ما يشوبه.

(وَبَيَّنُوا) : التبيين : هو التعريض للعلم الذي يمكن به صحة التمييز.

* * *

الحقيقة أمانة الله لدى العلماء

ربما يكون المقصود بهؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله ، أهل الكتاب أو اليهود منهم خاصة ، كما في بعض الأحاديث المأثورة أو التفاسير المتنوعة ، كما عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأكثر أهل العلم. ولكن الآية لا تتجمد عند النماذج التي نزلت فيهم أو انطلقت منهم ، لأن أسباب النزول تعتبر منطلقا للفكرة من خلال النموذج الحيّ في عصر نزول الآية ، لتتحرك الفكرة من خلال الواقع الذي يقتحم على الناس حياتهم في نطاق المشكلة الحية البارزة. وفي ضوء ذلك ، نقرّر أن الآية واردة لتقرير المبدأ العام الشامل لكل الناس الذين يملكون المعرفة بحقائق الأشياء ، وآفاق البيّنات ، وسبل الهدى ، في ما بيّنه الله للناس في كتابه ، سواء كان من الكتب الأولى التي أنزلت على إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم ، أو كان المراد به الكتاب الأخير الذي هو القرآن ، فإن الإنسان الذي يملك المعرفة يحمل مسئوليتها أمام الله بأن يبينها للناس إذا طلبوها منه ، أو إذا غفلوا عنها فلم يلتفتوا إليها ، فلا يجوز له أن يخفيها عنهم أو يكتمها ، لأن في ذلك إخفاء للحقيقة ، وكتمانا للرسالة ، مما يوجب وقوع الناس في الضلال أو انحرافهم عن خط الحق وضياعهم في متاهات الجهل والحيرة. وهذا مخالف للسنّة الإلهية التي درجت على إرسال الأنبياء ، وإنزال الكتب ، ليفتحوا عيون الناس وقلوبهم على الحقيقة ،

١٣٤

وليخططوا لهم درب الحياة على أساس المنهج الواضح المستقيم. ولمّا كانت أعمار الأنبياء محدودة ، وكانت وسائل وصول الرسالات والكتب السماوية مرتبطة بالظروف الموضوعية التي تتحرك فيها الرسالات ، كان لزاما على أتباع الأنبياء والرسالات أن يحملوا هذه الأمانة التي حملها الأنبياء ، ويبلّغوها من جيل إلى جيل لتتصل الحلقات في سلسلة واحدة ، ولترتكز المراحل المتعددة على أساس خطة ثابتة ممتدة ، ولتتحرك الحياة في خطوات الرسالات خطوة خطوة. ولولا ذلك لماتت الرسالات بموت أصحابها ، إذا لم تسمح الصدفة بانطلاقة مصلح أو متحمس تدفعه نزعته الإصلاحية أو حماسته الإيمانية إلى حمل الرسالة من جديد ، وهذا هو ما توحي به الآية الكريمة.

* * *

لعنة الله على كاتمي بيّناته

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) الدالّة على نبوّة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى كل الحقائق العقيدية والشرعية والمنهجية ، التي أراد الله للناس أن يعتقدوها ، أو يعملوا بها ، أو ينفتحوا عليها ، مما يمثل صلاح دنياهم وآخرتهم ، (وَالْهُدى) وهو الخط الذي يمثل وعي الفكرة في امتدادها في حياة الإنسان وانفتاحها على الخط المستقيم ، الذي أنزله الله على رسله (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) ، وهو التوراة والإنجيل ، وقيل : في الكتب المنزلة من عند الله الشاملة للقرآن ، فإن القضية المطروحة لدينا هي أن الوحي يبيّن الحقيقة للناس ليحملوها ويبلغوها إلى من حولهم ومن بعدهم حتى تنتشر في الوجدان العام للناس من جيل إلى جيل ، لأن الله لم ينزل وحيه لجماعة معينة أو لمرحلة معينة ، بل أنزله للحياة كلها في كل زمان ومكان.

١٣٥

ولا معنى لأن تكون القضية خاضعة لسؤال السائلين وفحص الباحثين ، لأن الناس قد يخضعون لغفلة مطبقة أو لتوجيه سيّئ يبعد التفكير عن مساره الطبيعي بما يثير من قضايا أو يواجه من علامات الاستفهام ، ولهذا فإننا نعتقد أن مسئولية العلماء بالله وبشريعته الإسلامية كبيرة جدا في مجالات التبليغ الإسلامي ، تبعا للحجم الذي يمثلونه في المعرفة العلمية وفي المساحة الإعلامية التي يملكونها في حياة المجتمع ، وفي القوّة الاجتماعية التي يستطيعون أن يستخدموها في مجال الدعوة إلى الله ، ولا سيما في الحالات التي يتعرض فيها الفكر الإسلامي أو الشريعة الإسلامية للخطر من قبل أعداء الله ، فإن الاستسلام للاسترخاء الفكري والعملي الذي يغريهم بالبحث عن المبررات للتقاعس عن الانطلاق ، ولكتمان الحق عمن يحتاجه من الجاهلين والغافلين ، يعتبر خيانة للإسلام وللمسلمين ، ومصداقا لقوله تعالى في هذه الآية ، (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ) وذلك بأن يبعدهم عن رحمته ويطردهم من ساحة رضوانه.

(وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) بالدعاء عليهم بإبعاد الله لهم عن الرحمة ، لأن ذلك هو الذي تقتضيه خيانتهم لأمانة المعرفة الرسالية من خلال ما توحيه من ابتعادهم العملي عن خط المسؤولية ورغبتهم عن مواقع رضوانه ، واستهانتهم بالرسالة التي يريد الله لها الانتشار والشمول في الناس جميعا.

وقد يؤكد ذلك الحديث الشريف المأثور : «إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه وإلا فعليه لعنة الله ...» (١). وجاء عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : «قرأت في كتاب علي عليه‌السلام : إن الله لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهال ،

__________________

(١) البحار ، م : ١٨ ، ج : ٥٤ ، ص : ١٣٨ ، باب : ١ ، رواية : ١٨٨.

١٣٦

لأن العلم كان قبل الجهل» (١). وجاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من كان عنده علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» (٢) وهو قوله تعالى : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

* * *

الله يقبل من التائبين توبتهم

وقد جاءت الآية الثانية لتوحي للسائرين في هذا السبيل بالتراجع عن هذا الخط المنحرف وبالعودة إلى الله والتوبة عن هذا الخطأ الكبير ، وذلك بالسير من جديد في طريق الإبلاغ والدعوة والبيان ، ولتعرّفهم أن الله يتقبل التائبين الصالحين المصلحين ، فيقبل توبتهم ويجزل ثوابهم على العمل الصالح الجديد ، لأنه التوّاب الذي لا يحرم أي تائب من قبول التوبة ، ولا يمنع أحدا من رحمته التي سبقت غضبه وأحاطت بكل شيء.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) وأنابوا إلى الله ، وغيّروا ، وبدّلوا ، وبدأوا بحمل الرسالة والدعوة إليه تعالى ، (وَأَصْلَحُوا) أمرهم في سرّهم وعلانيتهم ، فكان الصلاح في النية والعمل هو الطابع الجديد للحياة التي يعيشونها ، (وَبَيَّنُوا) للناس الحقائق الإلهية التي كتموها وانطلقوا من جديد في خطوة تصحيحية ليكونوا الدعاة إلى الله ، الأدلّاء على دينه ، القادة إلى سبيله ، (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) فأغفر لهم ما أسلفوه من الذنوب ، (وَأَنَا التَّوَّابُ) على المذنبين (الرَّحِيمُ) للخاطئين المنيبين.

__________________

(١) م. ن ، م : ١ ، ج : ٢ ، ص : ٣٧٩ ، باب : ١٣ ، رواية : ١٤.

(٢) م. ن) م : ١٩ ، ج : ٥٧ ، ص : ٤١٥ ، باب : ٣٩ ، رواية : ١١.

١٣٧

المعرفة مسئولية لا امتياز

وهكذا نقف في هاتين الآيتين على أحد المبادئ الإسلامية التي تعتبر المعرفة مسئولية وليست امتيازا ، وتدعو الناس إلى أن يخلصوا لهذه المسؤولية بالعمل على أن تتحرك المعرفة في كل المجالات الإنسانية ، فلا إخفاء لحقيقة ولا كتمان لأيّ حق ، بل هو الوضوح الكامل من خلال الدعوة الشاملة ، والله العالم.

* * *

١٣٨

الآيتان

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (١٦٢)

* * *

الكفر انحراف لا موقف فكري

إن الكفر ـ في نظر الإسلام ـ لا يرتكز على حجّة ، بل يمكن أن يخضع في بعض الحالات إلى شبهة طارئة ، أو شك سريع مما يمكن معه الوصول إلى قناعة تزيل الشبهة وتذهب بالشك ، وذلك من خلال الفكر الهادىء العميق ، والحجة العقلية القوية ، وفي ضوء ذلك يعتبر الكافرون الذين يستمرون على الكفر حتى يموتوا ، من المعاندين المتمردين الذين لا يريدون أن يواجهوا القضية من موقع البحث والتحليل الذي يقود إلى الإيمان ، لأنهم لا يشعرون بأهمية قضية الإيمان والكفر في حياتهم.

ثم إنها من القضايا التي تتصل بموقف الإنسان من الله خالق الحياة في الكون والإنسان ، وبشكر نعمه من خلال السير في خطه المستقيم ، وليست من القضايا الطارئة التي تقف على هامش حياة الإنسان ، وليست من القضايا

١٣٩

الفردية التي تتصل بحياة الإنسان كفرد ، بل هي من القضايا العامة التي تبني المجتمع أو تهدمه ، مما يجعل من الاستهانة بها دليلا على الاستهانة بالحياة العامة للناس. وفي هذا النطاق ، نجد الكافرين بالله يحملون في شخصيتهم الكفر بالنعمة إلى جانب الكفر بالله ، ويعيشون اللامبالاة بقضايا الحياة من خلال طبيعة اللامبالاة التي يواجهون بها قضايا الإيمان.

ومن هذا المنطلق ، كانت هذه الآية نذيرا للذين يكفرون ولا يتراجعون عن خط الكفر بل يموتون وهم كفار ، بأنهم يواجهون اللعنة من الله والملائكة والناس أجمعين ، جزاء لما يتضمنه الكفر من الإساءة إلى قداسة الله وقيمة الحياة والإنسان. ولا تكتفي الآية الثانية بهذا المقدار من الجزاء الذي تضمنته الآية الأولى ، بل تؤكد خلودهم في النار حيث يلاقون العذاب الشديد الذي لا يخفف عنهم منه شيء ، ولا يمكن أن يعطوا مهلة يقدّمون فيها الاعتذار ، لأن عظمة الجريمة لا تسمح بذلك.

* * *

كفر الجحود لا حجة له يركن إليها

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) من دون حجة على كفرهم ، لأن الكفر المتمثل بالجحود والتكذيب لا يملك أيّة حجة علمية أو عقلية ، فليس هناك أيّ أساس للنفي الفكري للألوهية أو للرسول ، بل كل ما هناك مما قد يحصل لبعض الناس ، الشك الذي يمنع الإنسان من أن يدين بدين الحق لعدم تبينه له وثبوته عنده ، فيكون حاله حال الذين لا يجحدون بالحق ولا يؤمنون به.

وفي ضوء ذلك ، كان الكفر المعاند دليلا على إرادة العناد والتمرّد والمواجهة للحق ، وهكذا يكون المراد بالكافرين المكذبين المعاندين الذين

١٤٠