تفسير من وحي القرآن - ج ٣

السيد محمد حسين فضل الله

الآية

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (١٧٧)

* * *

معاني المفردات

(الْبِرَّ) : التوسع في فعل الخير.

(وَابْنَ السَّبِيلِ) : المسافر المنقطع إذا كان في سفره محتاجا وإن كان في بلده ذا يسار. قال الزمخشري : وجعل ابنا للسبيل لملازمته له (١).

(وَالسَّائِلِينَ) : المستطعمين الطالبين للصدقة. ويعبر عن الفقير إذا كان مستدعيا لشيء بالسائل.

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ١ ، ص : ٣٣٠.

٢٠١

(وَفِي الرِّقابِ) : جمع رقبة ، وهي أصل العنق ، ويعبّر به عن جميع البدن ، يقال : أعتق رقبته ، ومنه : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة : ٣] ، قال الطبرسي : (وَفِي الرِّقابِ) فيه «وجهان : (أحدهما) عتق الرقاب بأن يشتري ويعتق ، (والآخر) في رقاب المكاتبين» (١). وقال الزمخشري : «وفي معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم وقيل : في ابتياع الرقاب وإعتاقها. وقيل : في فك الأسارى» (٢).

(الْبَأْساءِ) : الفقر والشدة.

(وَالضَّرَّاءِ) : المرض والسقم والوجع.

(وَحِينَ الْبَأْسِ) : وقت القتال وجهاد العدو ، فالبأس : الشدة في الحرب ، ورجل ذو بأس : شجاع.

* * *

مناسبة النزول

جاء في مجمع البيان ، في سبب نزول هذه الآية : «لمّا حوّلت القبلة وكثر الخوض في نسخها ، وصار كأنه لا يراعى بطاعة الله إلا التوجه للصلاة ، وأكثر اليهود والنصارى ذكرها أنزل الله سبحانه هذه الآية ...» (٣).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٤٧٧.

(٢) تفسير الكشاف ، ج : ١ ، ص : ٣٣١.

(٣) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٤٧٥.

٢٠٢

البر كملمح أساس في الشخصية الإسلامية

وفي أجواء الآية التي تشير إلى بعض هذا الجوّ ، نستوحي ملامح الشخصية الإسلامية في ما ترتكز عليه من فكر وإيمان وممارسة في السلوك الذاتي ، وفي العلاقة بالناس ، وبالمواقف الصعبة في الحياة ، وذلك من خلال تحديد طبيعة البر الذي يعني التوسع في الخير والإحسان ، كما يذكر أهل اللغة ، لأنه يمثل سرّ الشخصية لدى المؤمن في ما تنفتح عليه من آفاق التصور ، وبما تتحرك فيه من مجالات عملية.

ولعلّ القيمة في مضمون هذه الآية أنها تجاوزت المفهوم الضيق الذي يتحرك فيه البر ليرتبط بالجانب العملي للحياة ، فانطلقت به ليشمل الجانب الفكري والروحي الذي يحتضن الفكر والإيمان ، فيعتبر ـ من خلال ذلك ـ أن في الفكر خيرا وشرا ، تماما كما هو العمل خير وشرّ ، بل ربما كان الأساس في البرّ العملي ، البرّ الفكري والعقيدي ، لأنه هو الذي يعطي العمل دوافعه ونوازعه ، وهو الذي يحدد له مضمونه وطبيعته. ولهذا انطلق القرآن ليحدد للإنسان شخصيته من خلال تحديد ملامحه الفكرية والعملية ، فلم يكتف بالعمل وحده في مجال التقييم بعيدا عن الإيمان ، كما لم يكتف بالإيمان بعيدا عن العمل ، فبالإيمان والعمل تتكامل الشخصية وتنطلق.

* * *

بين البرّ والإيمان

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) لأن قضية النفس الخيّرة لا ترتبط بالشكل بعيدا عن المضمون ، فما قيمة الصلاة إلى القبلة ، أيّة قبلة

٢٠٣

كانت ، إذا لم تتحرك من إيمان عميق بأصول الإيمان ، ولم تنطلق في حركة الإيمان سبيلا وغاية ، لأنها إذا لم تكن كذلك تتحول إلى إحساس يطفو على السطح ولا يلامس الأعماق ، مما يجعل من الموقف موقف استعراض لا موقف ارتكاز ، وبهذا ، فليس من الضروري أن يثور هذا اللغط الكثير حول تغيير طبيعة القبلة إلى الشرق أو إلى الغرب ، فهي لا تزيد عن أن تكون مجرد تشريع جزئي كبقية التشريعات الجزئية المتعلقة بأحكام العبادة في تفاصيلها الخاصة الكثيرة ، ومن الطبيعي أن يخضع المؤمنون للتشريع في سلبياته وإيجابياته ، فلا يعترضوا عليه في قليل أو كثير إذا أحرزوا انطلاقه من مصدر التشريع وهو الله ، بل لا بد من أن يتركز الاهتمام والجدل حول الأسس التي يرتكز عليها البناء الداخلي للنفس البارّة الخيّرة التي تعيش البر موقفا شاملا لجميع مجالات الحياة.

ونلاحظ في هذا المجال أن الآية قد غيّرت أسلوبها التعبيري ، فبينما كان النفي يتجه إلى استبعاد الشكل عن معنى البرّ نرى الإثبات ينطلق في الحديث عن شخصية البارّ وصفته ، للتدليل على أنّ الإسلام ينظر إلى الفكرة من خلال المفكر ، وإلى الخير من خلال النموذج الحيّ المتجسد بالفكرة شكلا ومضمونا ، ليبتعد الجو النفسي عن التركيز على المفهوم النظري بعيدا عن الواقع التطبيقي للنظرية ، وهذا هو ما نلمحه في تكملة الآية في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فلا بد من الإيمان بالأسس العامة للعقيدة ، وهي الإيمان (بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) لأنها تمثل الحقائق الدينية التي لا يمكن أن يجهلها أو يهملها أيّ إنسان مؤمن ، لأن جميع الرسالات السماوية قد قررت ذلك.

* * *

٢٠٤

الإيمان العميق قاعدة الشخصية الإسلامية

وقد لا نحتاج إلى تحليل واسع لنعرف أنّ هذا الإيمان الذي تعتبره الآية أساسا للبرّ الروحي والفكري ، يمثل الامتداد والحركة في الشخصية الإسلامية للإنسان المسلم ، لأن الإيمان بالله يتصل بالشعور العميق بانطلاقة الحياة من قوّة حكيمة رحيمة عادلة تخطط للإنسان حياته كما تخطط للكون قوانينه ، وبذلك يشعر الإنسان بمسؤوليته أمام هذه القوة الخالقة التي تربي له وجوده ، وتنمي له جسده وعقله وروحه ، ويعيش الإحساس بارتباطه الدائم بالله من خلال حاجته المطلقة له في كل شيء ، وتتساقط أمام هذا الإيمان كل مشاعر الانسحاق والضعف والضياع واليأس والفراغ وعدم الانتماء ، لأن مثل هذا الإيمان ، يملأ في حيويته المتحركة ، حياة الإنسان بكل المفاهيم الإيجابية المضادّة لتلك المفاهيم السلبية لما يوحيه من الشعور بأنه يعيش في كون يرعاه خالقه في رحمته وحكمته وقوّته المطلقة ، وينتمي إليه كل ما فيه من مفردات الوجود.

وبذلك نستطيع أن نقرر أن المؤمنين الذين يعيشون المفاهيم السلبية التي تغرق شعورهم بالضياع والفراغ واللاانتماء ، يعيشون في غفلة من إيمانهم ويقعون تحت تأثير أجواء البيئة المنحرفة التي تحتضن هذه المفاهيم. أمّا الإيمان باليوم الآخر ، فيثير في داخله الشعور بالمسؤولية وما يترتب عليها من ثواب أو عقاب ، مما يجعل الإنسان واعيا لحياته بشكل أعمق ، فلا يعتبرها رحلة ساذجة تخضع للمزاج الذاتي وللشهوة الطارئة ، بل يراها خطا مستقيما تحكمه بداية المسؤولية ونهايتها في نتائجها العامة والخاصة.

وفي هذا الجو من الإيمان ينتفي من داخل الشخصية الإسلامية للإنسان

٢٠٥

المسلم الشعور بالعبث في مسار حياته عند ما يواجه كثيرا من الأوضاع التي توحي بمثل هذا الشعور إذا انفصلت عن طبيعة النتائج العملية عند الله ، فيتحول الموقف إلى إحساس عميق بالجدية المرتبطة بالهدف في كل شيء حوله ، وهذا ما تمثله الآية الكريمة (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥].

أمّا الإيمان بالملائكة والكتاب والنبيين ، فيمثل الإيمان بالحقائق الروحية التي ترتبط بالغيب من جهة وتواجه الواقع من جهة أخرى ، وذلك من خلال التصور الإسلامي للموجودات غير المرئية المتمثلة في الملائكة عند ما يشعر بحفيف أجنحتها في وعيه الديني وهو يتصورها في حركة دائبة في أجواء السماء والأرض ، وخضوع مطلق لله في ما يوكله إليها من مهمات كونية تتصل بالحياة والإنسان ، فيتعاظم الإحساس بعظمة التدبير من خلال الأشياء المرئية وغير المرئية ، وبروعة هذه الصورة الملائكية التي تمنح الوجود معنى روحيا ينساب فيه انسياب اللطف والرحمة في المشاعر والأعماق.

والإيمان بالكتاب يعني الإيمان بالرسالة الإلهية الواحدة التي تنزلت في كل عهود النبوات ، في كتاب واحد بمفاهيمه التوحيدية العامة ، وإن اختلفت تفاصيله تبعا لاختلاف حاجة كل عصر إليها. فالوحدة تبقى أساسا للتصور الديني في معنى الكتاب والإيمان به وبالنبيين ، كل النبيين ، منذ آدم حتى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي الإيمان بوحدة المسيرة في طريق الرسالة الطويلة ، فلا اختلاف بين الرسل في الفكر وفي الهدف ، لأن الفكرة واحدة ، وهي الإيمان بالله الواحد ، والهدف واحد هو الحصول على رضاه في ما يحبه وفي ما لا يحبّه ، وهذا ما يحكم الطريق الذي يسيرون فيه ، ولكن مراحل الطريق تختلف ، ومواقفه تتنوع ، فلا بد لكل مرحلة من رسولها الذي ينسجم مع طبيعتها ، ولا بد لكل موقف من دور يجسده السائر الذي يقود الناس إليه ،

٢٠٦

وبذلك كانت الفكرة الإسلامية عن الأنبياء فكرة متكاملة من خلال الشعور بأن بعضهم يكمل دور البعض الآخر ولا يعارضه ، تماما كما هي الخطوات المتلاحقة في الدرب الواحد نحو الهدف الكبير.

أمّا اختلاف الأديان الذي يحكم عالمنا هذا ، فإنّه يمثل الخطأ في فهم المرحلة ، حيث يعتبر ما هو مرحلة في طريق الغاية ، غاية بذاته.

ويبقى الإسلام في كل آياته يجسد هذه الحقيقة التوحيدية للرسالات حيث يدعو إلى الإيمان بالكتاب الواحد الذي يجمع الكتب ، والإيمان بالنبوة الواحدة التي تحتضن جميع الأنبياء : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة : ٢٨٥]. وتظل الشخصية الإسلامية مع هذا التصور الإيماني بعيدة عن التشنّج إزاء أيّ كتاب أو رسول ، فكلها وحي الله ، وكلّهم رسل الله.

* * *

العطاء أحد عناصر الشخصية الإسلامية

(وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ) والعطاء ، أحد عناصر الشخصية الإسلامية ، ونموذج حيّ للبرّ العملي ، فإذا كان الإنسان يملك المال ، فإن الإسلام يعتبر الملكية وظيفة ومسئولية ، لا امتيازا وشرفا ذاتيا ، ولذلك جعل العطاء سرّ الشخصية لأنه يعني انفتاحها على آلام الحياة ومشاكلها وحالاتها الصعبة وتطلّعاتها الكبيرة ، في محاولة متواضعة ، فردية أو جماعية ، لإعطاء بعض الحلول وتسهيل بعض الصعاب وتحقيق بعض التطلعات ، في شعور بأن ذلك هو من حق الآخرين عليه في ما يتحمله من مسئولية الآخرين.

٢٠٧

وجاءت كلمة (عَلى حُبِّهِ) لتؤكد عمق هذا العطاء في النفس ، على أيّ المعنيين كان مرجع الضمير ، فإذا أردنا من الحب ، حبّ الله فإنه يمثل العطاء من أجل الله بعيدا عن المنافع الذاتية الطارئة ، وإذا أردنا منه «حب المال» فإنه يمثل العطاء من موقع الانتصار على الذات عند ما يبذل الأشياء التي يحبها ويتعلق بها فلا يمنعه ذلك من العطاء في سماح ومحبّة.

أمّا الذين يستحقون العطاء ، فهم ذوو القربى لأن صلة الرحم توجب على الإنسان التعبير عنها في أسلوب عملي ، وهو أسلوب العطاء الذي يعني المشاركة ، واليتامى الذين هم في كفالة المجتمع الإنساني بعد غياب الكافل المباشر لهم ، والمساكين الذين لا يجدون الفرصة الكريمة للعيش الكريم فلا يملكون قوت سنتهم قوّة وفعلا ، وابن السبيل الذي انقطعت به الطريق فلم يجد من المال ما يكمل به سفره ، وإن كان غنيا في بلده ، والسائلين الذين لم يتخذوا السؤال حرفة ومهنة ، بل انطلقوا به من واقع الحاجة إلى ذلك ، وفي الرقاب التي أثقلها الرق وضغطت عليها العبودية ، فأراد الإسلام ، للذين يجدون المال ، أن يصرفوا أموالهم في طريق تحريرها لتعيش الكرامة في الحرية الإنسانية والقانونية .. وتلك هي الفئات المسحوقة التي يعتبر العطاء بالنسبة إليها مسئولية إنسانية وإسلامية ليعيش المجتمع في نظام إنساني متوازن طبيعي شامل.

* * *

الصلاة تفجر المعاني الروحية في الإنسان

(وَأَقامَ الصَّلاةَ) فإن الصلاة تفتح قلب الإنسان ووجدانه على الله سبحانه ، لتشرق في داخله كل المعاني الروحية الطاهرة التي تحوّله إلى كائن حيّ ، تتفجر مشاعره بالخير ، وتنبض بالطهر ، وتنطلق أفكاره بالحق ،

٢٠٨

فيعيش مع الناس والحياة ، من خلال ذلك كله ، إنسانا يشعر بمسؤوليته عن الناس والحياة من خلال انفتاحه على الله سبحانه.

* * *

الزكاة عطاء عبادي عملي

(وَآتَى الزَّكاةَ) التي تمثل العطاء من حيث هو عبادة عملية لله ، وقد يلفت النظر أن يذكر الله إيتاء الزكاة بعد إيتاء المال على حبّه ، وقد يفسرها البعض بأنها إجمال بعد التفصيل ، ولكن الظاهر أنه عموم بعد التخصيص ، لأن موارد الزكاة أشمل مما ذكر في الفقرة السابقة ، لا سيما إذا فسرنا الزكاة بكل الضرائب الشرعية المفروضة ، بما فيها الخمس ، كما هو رأي البعض من المفسرين ، فإنها تتسع لكل سبل الخير في الحياة.

* * *

العهد ومسئولية الكلمة

(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) فإن الوفاء بالعهد الذي يلتزم به الإنسان في نفسه يمثل الشعور بمسؤولية الكلمة ، في صدق الالتزام الداخلي ، وفي الوقوف مع العلاقات القائمة على التعاقد موقف الانضباط والاتزان ، وذلك هو سرّ سلامة المجتمع في العلاقات الخاصة والعامة التي تحكم أفراده ، سواء في ذلك العلاقات القائمة على التعاقد الشخصي ، أو العلاقات القائمة على التعاقد في نطاق المبادئ العامة والنظام الكلي للمجتمع وللأمة ، ومن الطبيعي للمؤمن أن يخلص لالتزاماته لأنه يعتبرها مظهرا حيّا من مظاهر إيمانه باعتبارها عهدا وميثاقا بينه وبين الناس أمام الله.

٢٠٩

الصبر أساس تماسك الشخصية وثباتها

(وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ) وهي حالة الضيق والفقر ، (وَالضَّرَّاءِ) ، وهي حالة المرض والألم ، (وَحِينَ الْبَأْسِ) حالة الحرب ، فإن الصبر. كما ورد في بعض الآيات ، هو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد كما جاء في حديث الإمام علي عليه‌السلام (١). وهو العنصر الأساس في تماسك الشخصية وثباتها أمام التحديات ولا سيما التحديات التي تواجه الإنسان في عقيدته والتزامه بالخط العملي الإيماني في الحياة ، فإن الضعف الذي يقود إلى الجزع والانهيار في الموقف قد يقود إلى الانحراف ، ويبعث على الاهتزاز ويدفع بالتالي ، إلى إعطاء صورة مشوّهة عن طبيعة المجتمع المؤمن في قوّته وصموده ، مما ينعكس سلبيا على صورة الإيمان نفسه في نفوس الآخرين.

وقد يتساءل عن الوجه في نصب كلمة : (وَالصَّابِرِينَ) مع أنها معطوفة على كلمة : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) مما يفرض الرفع فيها؟

وأجاب صاحب مجمع البيان على ذلك فقال : «وأما قوله : والصابرين فمنصوب على المدح أيضا لأن مذهبهم في الصفات والنعوت إذا طالت أن يعترضوا بينهما بالمدح أو الذم ليميزوا الممدوح أو المذموم ، وتقديره : أعني الصابرين. قال أبو علي : والأحسن في هذه الأوصاف التي اتقطعت للرفع من موصوفيها والمدح أو الغض منهم والذم ، أن يخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفيها ليكون ذلك دلالة على هذا المعنى وانفصالا لما يذكر للتنويه والتنبيه أو النقص والغض مما يذكر للتخصيص والتمييز بين الموصوفين.

__________________

(١) يقول الإمام علي (ع): «وعليكم بالصبر ، فإنّ الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد ، ولا خير في جسد لا رأس معه ، ولا في إيمان لا صبر معه» [نهج البلاغة ، قصار الحكم / ٨٢]

.

٢١٠

المشتبهين في الاسم المختلفين في المعنى» (١).

* * *

الصدق من لوازم الإيمان

(أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) في عقيدتهم وفي كلماتهم ، وفي التزاماتهم ، وفي علاقاتهم وفي مواقفهم العملية في الحياة ، وفي مواجهتهم لقضايا الحاضر والمستقبل في ما يؤيدون وفي ما يرفضون وفي ما يتحركون على المدى الطويل في حياة الفرد والمجتمع والأمة كلها ، فإن الإيمان هو صنو الصدق ، لأن الإيمان يرتبط بالحق ، والصدق يجسّد الحقيقة ، ولهذا ورد في بعض الكلمات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، بأن المؤمن قد يكون جبانا أو بخيلا ولكنه لا يكون كذّابا. وقد ورد في كلمات أخرى ، ان طريق اختبار الإيمان هو النظر إلى صدق الإنسان في كلماته. ولذلك جاءت هذه الصفة لتكون أساسا للشخصية الإسلامية الصادقة.

وربما كان اختصار كلمة الصدق لكل تلك الصفات انطلاقا من أن حركة هذه الصفات المتصلة بالجانب الإيماني والعملي ، كانت نتيجة للجدية التي تفرضها الشخصية الإسلامية في انفتاحها على الحقيقة في الفكر والسلوك بحيث يكون الموقف متطابقا مع الخط المستقيم في دائرة الحق ، وذلك هو سرّ اتصاف الشخصية في هؤلاء بكلمة الذين صدقوا. والله العالم.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٤٧٤ ـ ٤٧٥.

٢١١

المتقون هاجسهم رضى الله دوما

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) الذين يخافون الله ويخشونه بالغيب فتتحول خشيتهم له إلى خط عملي في حياتهم وفي حياتهم وفي دوافعهم ، فيقفون عند ما حرم الله عليهم من مال حرام ، أو أكل حرام ، أو شرب حرام ، أو لعب حرام ، أو عرض حرام ، أو علاقة محرّمة ، أو غير ذلك مما نهى الله عنه ، ويندفعون بالتزام مؤكد في ما فرضه الله عليهم وألزمهم به من الواجبات في عباداتهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم في البيت وفي العمل وفي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، فيخلصون لله في ذلك كله ، ولا يستسلمون لشهواتهم ، وأنانياتهم ، وأطماعهم ، بل يبقى رضى الله هو الهاجس الدائم الذي يعيش في داخل نفوسهم ، يقظة في الضمير ، والتزاما في القلب والفكر ، وانضباطا في الخطى العملية في الحياة.

تلك هي عناصر الشخصية الإسلامية التي تمثل الخير كله في مجال الفكر والعمل. وتلك هي الأسس الثابتة التي تنطلق من خلالها قضايا الحياة الخيّرة في كل تطلعات الإنسان وتوجهاته في حركة الحياة.

* * *

٢١٢

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧٩)

* * *

معاني المفردات

(كُتِبَ) : فرض ، وأصل الكتابة : الخط الدال على معنى ، فسمّي به ما دل على الفرض ، قال الشاعر :

كتب القتل والقتال علينا

وعلى الغانيات جرّ الذيول

(الْقِصاصُ) : يقال : قصّ أثره : أي تلاه شيئا بعد شيء ، ومنه : القصاص لأنه يتلو أصل الجناية ويتبعه. وقيل : أن يفعل بالثاني مثل ما فعله بالأول مع مراعاة المماثلة ، ومنه أخذ القصص كأنه يتبع آثارهم شيئا بعد شيء.

(الْحُرُّ) : نقيض العبد ، والحر من كل شيء أكرمه.

٢١٣

(عُفِيَ) : العفو : الترك ، عفت الدار : تركت حتى درست ، والعفو عن المعصية: ترك العقاب عليها ، وقيل : معنى العفو ها هنا : ترك القود بقبول الدية من أخيه.

(أَخِيهِ) : الأخوة إذا كانوا ينتسبون لأب ، أو لأم.

(وَأَداءٌ) : التأدية تبليغ الغاية.

* * *

في القصاص حياة

في هذا الفصل من القرآن ، نلتقي بالجو التشريعي الذي بدأه القرآن في هذه السورة ليشرع للناس الأحكام التي تتصل بحياتهم العامة في الواقع الجنائي وفي واقع العلاقات المتنوعة التي تحكم تصرفاتهم تجاه أنفسهم ، وتجاه ربهم ، وتجاه غيرهم من الذين يرتبطون بهم في الحياة.

فمن هذه الأحكام ، حكم القصاص ، الذي تعرضت له هاتان الآيتان في موضوع جناية القتل ، التي تعتبر من الجرائم الكبيرة في حياة الناس لأنها تمثل الاعتداء على الحياة ، وبذلك كانت تشكل خطرا عظيما على مسار الوجود الإنساني ، مما جعل من قضية معالجتها ومواجهتها قضية حيوية في مجالات النظرة الواقعية للمشكلة في إطار التشريع ، ليمكن من خلالها المحافظة على سلامة الفرد والمجتمع .. فكان القصاص هو العلاج الحاسم للجريمة من وجهة النظر الإسلامية ، كحق يملكه ولي المقتول ، فله أن يقتل القاتل جزاء على جريمته ، وله أن يعفو عنه في مقابل الدية التي يدفعها إلى أولياء المقتول ، وله أن يعفو عنه بدون مقابل. ويلتقي الجانب التفسيري بنقطتين :

٢١٤

التماثل في القصاص هل يؤكد الطبقية؟

١ ـ إن الآية قد أكدت أن القصاص يعتمد على قاعدة التماثل ، فالحر يقتل بالحر ، والعبد يقتل بالعبد ، والأنثى بالأنثى ، لأن ذلك ما ترتكز عليه القاعدة الإسلامية في التماثل في الاعتداء ورد الاعتداء بمثله. وربما تكون القضية مرتكزة على أن الناس عند ما تختلف أوضاعهم القانونية تبعا لاختلاف صفاتهم الجسدية أو المعنوية ، فإن ذلك يفرض الاختلاف في تقييم العقوبة ، وإلا كانت القضية تمثل إلغاء للاختلاف في الوضع التشريعي القانوني ، وليس معنى هذا التأكيد على الطبقية في القصاص ، لأن هذا ليس واردا في الحساب ، فإن الغني يقتل بالفقير والشريف يقتل بالحقير ، والقوي يقتل بالضعيف ، أما الحرية والعبودية والذكورة والأنوثة ، فإنّ لها أحكاما خاصة في التشريع فلا بد من مراعاتها في هذا الجانب ، ففي مثل الرجل إذا قتل المرأة ، يمكن لأولياء المرأة القتيل أن يقتلوا الرجل بها مع دفع نصف ديته انطلاقا من مبدأ التصنيف في القضايا المالية في موضوع الرجل والمرأة ، وكذلك الحر إذا قتل العبد ، فإنه يمكن أن يقتل به إذا كان ذلك أمرا معتادا له ، ولسنا ، هنا ، في مجال التفصيل الفقهي لهذه الأحكام ، ولكننا في مجال الإشارة إلى طبيعة التركيز على المماثلة لدى من يقول بها من المسلمين ، فقد نجد في بعض الاجتهادات الإسلامية من لا يقول بها استنادا إلى اعتبار هذه الآية منسوخة بالآية الكريمة : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة : ٤٥].

حيث لم يفصل بين الحر وعبد وذكر وأنثى. ولكن هذا الرأي قابل

٢١٥

للمناقشة ، وسنتعرض له في تفسيرنا لتلك الآية إن شاء الله تعالى.

٢ ـ إن الآية تؤكد إفساح المجال للعفو عن القاتل من قبل وليّ المقتول ، وتعتبر العفو ملزما له في نطاق العلاقة المرتكزة على المعروف والوفاء بالحق الذي يتمثل بالدية ليؤدي إليه بإحسان ، فلا يجوز له العودة إلى المطالبة بحقه بالقصاص لأن الحق قد سقط بالعفو فلا يرجع من جديد ، فإذا عاد ولي القتيل للانتقام فإنه يعتبر قاتلا معتديا ، ويستحق العذاب الأليم في الدنيا والآخرة .. وتشير الآية الكريمة إلى أن تشريع العفو في موقع تشريع القصاص ، تخفيف من الله لعباده ، ورحمة بهم حيث لم يحصر التشريع في زاوية ضيقة لا يملك الإنسان معها أمر التحرك بمرونة.

* * *

بين القصاص والعفو

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) فقد فرضه الله عليكم قانونا يحفظ لكم قوة احترام حياتكم ليخلصكم من شريعة الغاب التي تتحول الحياة معها إلى فوضى لا يأمن الإنسان فيها على حياته ، أو يعيش الناس بعيدا عن الضوابط القانونية في شريعة الأخذ بالثأر التي قد يقتل فيها أولياء المقتول عددا كبيرا من الناس لا سيّما إذا كان المقتول شريفا في الموقع الاجتماعي ، وكان القاتل وضيعا حيث لا يرضى الأولياء بأن يكون القاتل بدلا من القتيل ، وربما أدّى الواقع غير المتوازن إلى حروب طاحنة بين القبائل يسقط فيها الكثير من القتلى ، الأمر الذي يجعل إيجابيات هذا التشريع أكثر من سلبياته ، بينما تكون السلبيات في إهماله وإلغائه كبيرة جدا ، فلا تمثل الإيجابيات أمامها شيئا.

٢١٦

ولا بد في القتل الذي يستوجب القصاص من أن يكون القتل عمدا بحيث يقدم القاتل عليه قاصدا له ، سواء كان قاصدا للفعل القاتل والقتل ، أو كان قاصدا للفعل القاتل وإن لم يقصد القتل بعنوانه ، كمن طعن إنسانا في قلبه ، ولكنه لم يقصد قتله ، فإن طبيعة السبب القطعي للموت تمثل قصدا للقتل بشكل ذاتي من خلال ما يختزنه الفعل في علاقة السبب بالمسبب.

(الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) ، فهذا هو الخط القانوني الذي يراعي التماثل في الخصوصيات الإنسانية بحسب التعدد في مفردات التشريع وخطوطه في هذا الجانب بعيدا عن المسألة الطبقية أو الانتقاص من إنسانية الإنسان في معناه الإنساني ، (وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) فالمرأة تقتل بالمرأة ، وفي الآية إيحاء خفي بأن الحر لا يقتل بالعبد ، وأن الرجل لا يقتل بالمرأة ، ولكنه ليس صريحا في ذلك ، ولهذا انطلق بعض المفسرين ليستفيدوا حكم التخالف في الصفة ، في الحرية والعبودية والذكورة والأنوثة من أدلة أخرى من السنّة أو الإجماع ، وقد نقل الخلاف فيه بين المسلمين ، فقال مالك والشافعي وابن حنبل إن الحر لا يقتل بالعبد. وقال أبو حنيفة : بل يقتل الحر بعبد غيره ولا يقتل بعبده ، واتفق الأربعة على أن الرجل يقتل بالمرأة وبالعكس ، وقال الإمامية : إذا قتل الحر عبدا لا يقتل به ، بل يضرب ضربا شديدا ، ويغرم دية العبد ، وإذا قتلت المرأة رجلا عمدا كان ولي المقتول بالخيار بين أن يأخذ منها الدية إن رضيت هي ، وبين أن يقتلها ، فإن اختار القتل فلا يغرم أهلها شيئا وإذا قتل الرجل امرأة كان وليها بالخيار بين أن يأخذ الدية إن رضي القاتل وبين أن يقتله الولي ، على أن يدفع لورثة القاتل نصف دية الرجل خمسمائة دينار.

(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) وهذا هو السلوك البديل الذي شجع عليه القرآن بطريقة الإيحاء ، وهو عفو

٢١٧

صاحب الحق عن حقه من موقع قدرته ـ من خلال التشريع ـ ، ليكون من باب العفو عند المقدرة ، باعتبار أن القضية إذا انطلقت من اختيار أولياء الدم فإنها لا تضعف الهدف ، ولا تلغيه ، على أساس انطلاقه من تأكيد المبدأ في الوقت الذي يمكن للعفو أن يحقق نتائج إيجابية في المسألة الاجتماعية ، وفي القيمة الأخلاقية التي ترتفع بصاحب الحق إلى مستوى الإنسان الذي يملك القوة الروحية في الانتصار على نوازعه الذاتية أو العائلية ، فيتحرك للانفتاح على القاتل من موقع المحبة الإنسانية التي تتجاوز الجريمة لتتذكر أخوّة هذا الإنسان من الناحية الإيمانية مما يوحي به التعبير بكلمة (أَخِيهِ) في الآية ، لتكون النتيجة عفوا بدون بدل ، وهذه هي قمة العطاء والسمو الروحي ، أو المطالبة بالدية ، وهي تمثل التعبير عن هبة الحياة للقاتل بعد أن ملكها وليّ الدم في التشريع ، والاكتفاء بالتعويض عما لحق بالخسارة من جهة ، وإيجاد بدليل واقعي يمتص المشاعر السلبية من جهة أخرى ، لينطلق الصلح من خلال الواقعية الذاتية الإنسانية.

وقد أراد الله لمن عليه الحق أن يؤدي الحق من دون مماطلة ولا تعقيد ليتحسس المعروف في العفو عنه وينطلق الأداء بإحسان ، كما ينبغي لمن يملك الحق أن لا يعسر أخاه إذا كان قد اتفق معه على الدية ، وقد جاء هذا التفسير في رواية الكافي عن الحلبي عن الصادق عليه‌السلام قال ـ أي الحلبي : «سألته عن قول الله عزوجل : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) قال : ينبغي للذي عليه الحق أن لا يمطل أخاه إذا قدر على ما يعطيه ويؤدي إليه بإحسان» (١).

(ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) والإشارة إلى تشريع العفو بدلا من

__________________

(١) الكافي ، ج : ٧ ، ص : ٣٥٨ ، رواية : ١.

٢١٨

القصاص ، فقد أراده الله تخفيفا على الناس ، فلا ينغلقوا على الأخذ بحقهم في قتل القاتل بعيدا عن التسامح والعفو اللذين قد يفتحان للإنسان أكثر من نافذة على الحلول الهادئة السلمية التي تنزع عن النفس كل المؤثرات السلبية في عملية احتواء لكل الآثار النفسية المؤلمة ، لتلتقي الأوضاع الاجتماعية على الطريقة الحكيمة التي يتخفف فيها الإنسان من ذاتيات الألم والانتقام في شخصيته ، وذلك هو التخفيف الإلهي من حدّة الحل الحاسم (وَرَحْمَةٌ) لهم في هذا الأسلوب الرحيم في العفو ، واستبدال القتل بالتعويض المادي ، والاكتفاء به عن العنف القاسي. (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) ربما كان ذلك حديثا عما كان يفعله بعض أهل الجاهلية في الانتقام من القاتل بقتله بعد العفو وأخذ الدية ، حيث يجمعون بين التعويض المادي والقصاص الجسدي كتعبير عن الثأر المزدوج الذي يؤكد عنفوان وليّ الدم وإخلاصه للقتيل ضد القاتل وأهله ، ليكون ذلك انتقاما منه ومن أهله ، مما يحقق لهم شفاء الغيظ بأعمق المشاعر الداخلية. وهذا يمثل حالة من حالات الاعتداء على النفس كما لو كان عدوانا ابتدائيا ، لأن العفو الذي يرتكز الصلح عليه مع الدية أو بدونها يمثل محو آثار الجريمة واعتبارها شيئا لا امتداد له في المستقبل في آثاره المضادة على طريقة رد الفعل ، مما يجعل من هذا القتل عدوانا غير مسبوق بشيء ، فلولي الدم قتله قصاصا ، أو العفو مع الدية أو بدونها.

(وَلَكُمْ) أيها الناس (فِي الْقِصاصِ) الذي يجتث جذور الجريمة من عمق النفس المفجوعة في الحالة الشعورية التي تتطلب الثأر وتستسقي الدم ، لتقتصر على التنفيس عن مشاعرها بقتل القاتل وعدم تجاوزه إلى غيره ، وليكون ذلك عملية ردع لكل من تسوّل له نفسه أن يقوم بجريمة جديدة ضد إنسان جديد عند ما يجد أن التشريع يفسح في المجال لوليّ الدم أن يقتص منه ، وليحمي المقتص من أيّ أثر سلبي.

٢١٩

وهذه هي الوسيلة المثلى للسيطرة على الجريمة المستقبلة التي يختزنها الواقع الاجتماعي في تعقيداته الفردية والاجتماعية بشكل جنينيّ ، من دون أن يكون المال أو السجن كافيا في تحقيق ذلك.

(حَياةٌ) من خلال حصول الحياة على رصيد كبير في المستقبل الإنساني حيث يغلق على الموت العدواني أبواب النوازع الذاتية في حرية الحركة للعدوان ، مما يفسح في المجال لامتداد الحياة بشكل طبيعي حتى يكون قتل القاتل بمثابة المنتج للحياة التي لولا ذلك لماتت وسقطت تحت تأثير الجريمة المرتقبة.

إنها العملية الجراحية التي تستأصل العضو الذي يشكل الخطر على الحياة ، لتمتد الحياة من خلاله ، ولو ببعض النقصان في مفردات الواقع ، (يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي يا ذوي العقول الذين لا تفكرون بعواطفكم ومشاعركم ، بل تفكرون بعقولكم التي تدفعكم إلى الدخول في عملية الموازنة والمقارنة بين المصالح والمفاسد في الجوانب السلبية والإيجابية.

* * *

القصاص في خط سير الديانات

ولم يكن هذا الحكم بالقصاص ، حكما إسلاميا في خط سير الديانات ، بل هو حكم ديني تلتقي فيه كل الديانات ، وقد جاء القرآن ليحدثنا في آيات أخرى أن هذا التشريع من أحكام التوراة وذلك في قوله تعالى :

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ

٢٢٠