تفسير من وحي القرآن - ج ٣

السيد محمد حسين فضل الله

يتعمدون الإيحاء بواقعية الباطل في خط الكفر ، وبطلان الحق في خط الإيمان ، كما يعملون على إخفاء ما يعلمونه من الحق إمعانا في التضليل والتخريب والتشويه ، وبهذا لا يتحول موقفهم إلى موقف فكري مضاد ، بل يتحول إلى موقف عدواني ضاغط على الواقع كله ، إيحاء وعملا ، الأمر الذي يبلغ فيه مستوى الجريمة التي يستحق صاحبها اللعن الحاسم : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) لأنهم ابتعدوا عن الله فأبعدهم عن رحمته ، وانحرفوا عن الحق الذي قامت السماء والأرض عليه ، وانطلقت الملائكة في تسبيحها وتقديسها من خلاله ، وفطر الناس على السير عليه ، والأخذ به ، كشرط لسعادتهم في انتظام حياتهم ، وتوازن وجودهم ، لذلك كانت لعنة الملائكة والناس أجمعين مسألة طبيعية في هذا الواقع الكافر ، (خالِدِينَ فِيها) في اللعنة التي تختزن العذاب في مضمونها العملي على مستوى النتائج ، وتوحي به ، (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) فليس هناك أية مهلة للاعتذار أو للتبديل والتغيير.

* * *

١٤١

الآيتان

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١٦٤)

* * *

معاني المفردات

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) : بالذهاب والمجيء ، والزيادة والنقصان.

(وَالْفُلْكِ) : السفينة والسفن ، تطلق على المفرد والجمع.

(وَبَثَ) : نشر وفرّق فيها.

(دَابَّةٍ) : كل ما دب من الحيوان على الأرض ، وغلب على ما يحمل ويركب عليه.

١٤٢

(وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) : تقليبها جنوبا وشمالا ، حارّة وباردة ، وتوجيهها إلى الجهات المطلوبة.

(وَالسَّحابِ) : الغيم.

(الْمُسَخَّرِ) : المذلل بأمر الله تعالى ، يسير إلى حيث شاء الله.

* * *

توحيد الله الرحمن الرحيم

(وَإِلهُكُمْ) الذي خلقكم ورزقكم وأبدع الكون كله وأوجده من العدم ، ومنحه نظامه البديع في دقته ، المتنوع في أشكاله وألوانه وخصائصه وآثاره ، وجعل الفطرة الكامنة في وجودكم العقلي والروحي دليلا عليه وعلى وحدانيته ، (إِلهٌ واحِدٌ) لا مجال لتعدده في الاثنينية التي قد يعتقدها البعض ، أو في الآلهة التي قد يتصورها بعض آخر بأنها الوحدة التي لا تقبل التجزئة ولا يمكن أن تنفتح على حركة العدد في امتداده ، بل تنفتح على أعمق أعماق معنى الوحدة في العقل والإحساس والوجود.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فهذه هي الحقيقة التفصيلية للتوحيد التي لا بد لكل مؤمن من أن يختزنها في وجدانه الإيماني من أجل نفي الألوهية عن كل ما يعتبره الناس إلها ، أو ما يمكن أن يمنحوه هذه الصفة في المستقبل كاستغراقهم في خصائص الموجودات الذاتية مما تمثل فيها من عناصر العظمة التي توحي إليهم بالاعتقاد المنحرف ، والتصور المشرك ، وإثبات الألوهية لله وحده في تعينه في ذاته ، بحيث تنفي وحدته غيره من دون حاجة إلى نفي الغير بطريقة خارجية.

١٤٣

(الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) الذي أوجدكم برحمته ، وأنعم عليكم بنعمه ، وهداكم إلى الحق بهدايته ، ووعدكم برضوانه وجنته على امتداد الوجود كله.

وهذا هو التصور الإنساني للتوحيد في مضمونه الذاتي في معنى الله ، وفي حركته العامة في مواجهة الآلهة المدّعاة معه ، أو من دونه ، للدخول في عملية مقارنة بين الله وبين الآخرين للوصول إلى النتيجة الطبيعية في احتقارهم في حجم وجودهم ، وفي قدراتهم الذاتية ، وفي كل ما يتمثل فيهم ، أمام عظمة الله المطلقة ، فيتخفف الإنسان من الشعور بأيّة علاقة كبيرة بهم من خلال المعرفة العقلية والشعورية بأنهم مجرد موجودات عادية لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا إلا بالله ، وهذا ما جعل شهادة التوحيد ممثلة بكلمة «لا إله إلا الله» دون غيرها من الكلمات.

* * *

الحقيقة الإلهية بأجلى تعبيراتها

إنّ الآية تطرح الحقيقة الإلهية ببساطة وعفويّة ، لا مجال فيها للتكلف والتعقيد ، فها هي وحدانية الله تبرز واضحة جليّة لكل من كان له فكر ونظر ، عند ما يدرس وحدة النظام الكوني وتناسقه ووحدة الرسالات السماوية وارتكازها على قاعدة واحدة ، وضعف القوى المنتشرة في الكون وسيرها إلى الفناء مما لا يجعل لأية قوّة مجالا للاستعلاء الذي يرتفع إلى مستوى الألوهية. أمّا رحمته تعالى ، فإنها تنساب في كل مظهر من مظاهر النعمة والرعاية والعناية بالإنسان ، وفي كل ما يحيط به من أوضاع تتصل بحياته ومماته ، ويقظته ومنامه ، وأكله وشربه ، وملبسه وملذّاته ، وهكذا فإنها تعطي الصورة الواضحة على انطلاق الخلق كله من موقع الرحمة التي تريد

١٤٤

أن تبني الإنسان على أساس الرحمة ليعمل الناس على الوصول إلى هذا الهدف الكبير في نهاية المطاف.

* * *

القرآن والمنهج الفكري للإنسان

وتأتي الآية الثانية حاملة دعوة إلى العقل لأن يتحرك في أجواء الكون ليكتشف الله من خلال اكتشافه لأسرار خلقه ، وتأكيدا على أن قضية الإيمان هي قضية عقل وفكر لا قضية مزاج وعاطفة ، وإشارة ذكيّة موحية بأن غفلة الناس عن الله وابتعادهم عن سبيله ينطلقان من تعطيل العقل عن الحركة في اتجاه المعرفة بالابتعاد عن الأجواء والوسائل الطبيعية للمعرفة والإيمان ، ولا يرتبطان بواقعية الفكرة المضادة وقابليتها للامتداد في وجدان الإنسان كحقيقة فكرية حاسمة.

* * *

ونلاحظ في تفسير هذه الآية عدة ملاحظات :

حركة العقيدة في الظواهر الطبيعية :

١ ـ إن الملحوظ في مفردات القضايا والظواهر التي أثارتها الآية الكريمة أمام الإنسان هو أنها تواجه الناس في حياتهم اليومية ، فتلفت أنظارهم بشكل طبيعي ، إلى أن الطريق إلى معرفة الله لا يتوقف على الاستغراق في الأجواء الفلسفية المجرّدة التي تبتعد بالإنسان عن حياته ، ليضيع في متاهات الفرضيات

١٤٥

المتنوّعة والأساليب المتضادّة ، ولا يخضع للانطلاق إلى أجواء بعيدة عن أجوائه الطبيعية المادية ، بل كل ما هناك هو الالتفات الواعي إلى ما حوله من ظواهر الطبيعة ومفردات الحياة التي تحيط به.

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ) التي ترتفع فوقه بكل ما فيها من كواكب ونجوم خاضعة لنظام دقيق محكم رائع ، يدركه الناظر إليه بعفوية في ما يشاهده من نتائجه وظواهره المتصلة بحياته في نظام الشمس والقمر وغيرهما من الكواكب ، ويعرفه المتأمل الباحث الذي يعرف ما وراء هذه الظواهر من قوانين طبيعية حكيمة تضع كل شيء في موضعه ، وتعطي كل قضية أسبابها ، (وَالْأَرْضِ) التي يعيش الإنسان عليها في ما يتمثل فوقها من أسباب الحياة ، وفي ما يكمن في أعماقها من الطاقات التي تساهم في نموّ الحياة واستمرارها في ما تحشده من شروط الحياة للإنسان في نظام دقيق يعيش الإنسان عظمته من خلال مشاهداته ومعاناته وإحساساته العميقة التي تقتحم عليه كيانه ، لتوحي له بعظمة الخالق الذي يصنع ذلك كله.

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) في الزيادة والنقصان ، (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) والقوانين التي تحكم مسيرة الفلك في البحر ، وهي التي تحمل ما ينتفع به الناس في معاشهم ، (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) ، الماء الذي ينزل من السماء ليرتوي به الإنسان في شرابه ، وترتوي به الأرض من خلال ما يتساقط عليها ، وما يختزن في أعماقها مما تتفجر منه الأنهار والينابيع ، (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) ، والدواب التي بثها الله في الأرض مع اختلاف أنواعها وأدوارها ومنافعها ، (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ، أما تصريف الرياح فهو تحريكها وتفريقها في الجهات بين حارّة وباردة ، وليّنة وعاصفة ، وعميقة ولاقحة ، تبعا للحكمة الإلهية التي تحركها من خلال مصلحة النظام الكوني في حاجات الأرض والإنسان والحيوان والنبات والبحار والأنهار ، أما حركة السحاب المسخّر بين

١٤٦

السماء والأرض فإن لها أكثر من سرّ ومنفعة في النظام العام للحياة.

وهكذا نجد أن في هذه الظواهر الكونية (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) من خلال ما يدركه العقل من دلالتها على الله ، فكأن الآية تريد أن تقول لنا : إن بإمكانكم اكتشاف الله في ما تشاهدونه من آياته التي لو فكرتم بها بما أوتيتم من عقل لوصلتم إلى النتيجة الحاسمة وهي الإيمان بالله.

إن التفكير بالله والوصول إليه لا يكلفكم جهدا في السفر والتنقيب في الأرض أو النزول إلى أعماق البحار ، أو الصعود إلى آفاق الفضاء ، بل يكفيكم التعامل مع حياتكم اليومية ، لتفكروا في ما يمر أو يحيط بكم ، لتكتشفوا الله الذي يطلّ عليكم من خلال ذلك ، بحكمته ورحمته وعظمته ، حيث يقودكم الفكر العميق إلى أن الصدفة لا يمكن أن تصنع نظاما ، وأن القوّة العمياء الجامدة لا يمكن أن تخلق عقلا ورؤية وامتدادا ، وأن الموت الراقد في أعماق العدم لا يفجر الحياة ، بل لا بد من العقل المنظّم القادر الحكيم الذي يبعث ذلك كله في قدرته التي لا يعجزها شيء مهما كان عظيما.

* * *

الأسلوب التربوي للدعوة في الآية

٢ ـ إننا نستطيع أن نأخذ من الآية أسلوبا عمليا في التربية ، وخلاصته أن ينطلق الدعاة إلى الله في دعوة الناس إلى التفكير من خلال حياتهم العامة في كل تفاصيلها اليومية لجعلهم يفكرون به في كل نعمة يعيشونها ، أو ظاهرة يشاهدونها ، أو قانون طبيعي أو حياتي يلمسونه في حياتهم ، فذلك هو السبيل الأمثل للوصول إلى قناعاتهم الفكرية والروحية بواقعية وعمق وصفاء ، بعيدا عن كل الحذلقات الفلسفية المعقدة ، لأن الإنسان يحب أن يتعامل مع الأشياء

١٤٧

الحسية التي تحيط به أو تكون قريبة من حياته.

ولعل قيمة هذا الأسلوب تتمثل في فكرتين :

الأولى : إننا نربط وجود الله بكل ما يحيط بنا ، فيكون كل شيء في الكون دليلا على وجوده.

الثانية : إننا لا نشعر بابتعاد الله عنا ، فنحس بالجو الحميم الذي يغمرنا بروح الله ، والسر في ذلك أنك عند ما تريد إثبات وجود الله من خلال أشياء بعيدة عن حسّ الإنسان ووعيه وحياته ، فكأنك توحي له بأن الله حقيقة لا تدرك ، ولا يمكن أن تقترب من حياته ، ككل شيء عظيم عميق مقدّس يحوطه الغموض من كل جوانبه ، فلا تشعر به إلا كما تشعر بالأشياء البعيدة في الأفق الغارق في الضباب ... أما إذا ربطته بالفكرة من خلال حياته اليومية ، فإنه سيشعر بوجوده معه في كل التفاصيل التي تمر به ... وبهذا ، لا تقتصر النتائج على حصول الإيمان بالله كعقيدة تعيش في الوجدان ، بل هناك الشعور بحضور الله في حياته ، وهذا ما يهدف إليه الإسلام في ما نعتقد ، أن لا يبقى وجود الله مجرّد فكرة كامنة في وعي الإنسان ، أو إيمان ساذج مستقر في قلبه ، بل يتحول إلى فكرة في العقل ، وإحساس في المشاعر ، وحضور قوي مهيمن في الحياة والوجدان.

* * *

الآية لا تفرض فكرا بل تخطط له

٣ ـ إن هذه الآية تمثل خطّا واضحا في المنهج الفكري الذي يريد الإسلام أن يصنعه للإنسان في محاولته الدائمة للوصول إلى الحقيقة ، فقد لا نجد في القرآن الكريم الكثير من التحليل والتفصيل لأسرار الكون وقوانين

١٤٨

الخلق ، التي تضع فكر الإنسان في قوالب جاهزة من الفكر العلمي في أسلوب يعتمد على التلقين الجامد الذي لا يحرك الفكر إلا بمقدار ما يطوف بالفكرة المطروحة ، بل كل ما نجده في الغالب من آياته ، أنه يدعو إلى التفكير والتدبر والتأمل واستثارة الطاقات الحسيّة والعقلية من أجل أن تسير في ضمن الاتجاه السليم الذي يصنع للمعرفة ظروفها الطبيعية ، وآفاقها الواسعة ، ووسائلها الصحيحة ، لتفود الإنسان إلى تحصيل الحقائق التفضيلية للحياة بنفسه ، في ضمن أفكار متعددة ، ونظريات متنوعة ، تتحفز للصراع في مجال البحث ، لتكون النتيجة للفكرة التي تملك الحجة الأقوى.

وبهذا استطاع الإسلام أن يبني للإنسان فكره على أساس من الاستقلال والحرية ، والثقة بقدرته على الإبداع والاكتشاف والامتداد ، فأوحى له أن المساحات التي يمكنه التحرك فيها لا تنحصر في حدود ضيقة ، بل تتسع لكل جوانب الحياة في ظواهرها الكونية والإنسانية والحياتية ، وليس عليه إلّا أن يعرف كيف يسير على المنهج الإسلامي المتكامل الذي لا يطرح أمام الإنسان إلّا شعار التفكير الذي يعيش مسئولية المعرفة بالتزام وإيمان.

* * *

هل نشأت الأديان من جهل الإنسان؟

٤ ـ إن بعض الناس من الباحثين في تاريخ نشأة الأديان ، يحاولون أن يرجعوا بتاريخها إلى بدايات وجود الإنسان ، ويعودوا بأسبابها إلى الجهل بقانون السببية في الكون الذي يرجع كل ظاهرة إلى أسبابها الطبيعية ، مما دعا الإنسان الأول إلى أن يخترع في وهمه ، وجود قوى غير منظورة خارج

١٤٩

نطاق الطبيعة ، فيعتبرها السبب الأعمق لوجود الكون ، وأدى هذا الاتجاه إلى اعتبار القوى الخفية أساسا لكل ظاهرة من الظواهر.

وخلاصة هذه الفكرة : أن فكرة الله انطلقت من الجهل بالأسباب الطبيعة للكون. ويرون ، من خلال ذلك ، أن الاكتشافات التي توصّل إليها الإنسان فاستطاع أن يعرف من خلالها القوانين الطبيعية التي تحكم الأشياء ، تلغي مبدأ الحاجة إلى هذه الفكرة ، لأنها أجابت عن كثير من الأسئلة الغامضة التي كانت تشغل تفكير الإنسان وتدعوه إلى فرضيات ما وراء الطبيعة ، فلا حاجة إلى جواب الغيب بعد أن حصل الإنسان على جواب الحس والواقع. ولكن ، ما صحّة هذه النظرية؟

للإجابة عن ذلك نثير الأسس الفكرية من زوايا ثلاث :

١ ـ أما الناحية التاريخية. ٢ ـ الأسس الفكرية للإيمان بالله. ٣ ـ أسلوب القرآن في معالجة الإيمان. وسنرى أننا سنصل إلى خطأ هذه النظرية التي ألمحنا إليها.

* * *

التحليل الشامل للفكرة

١ ـ أما الناحية الأولى ، فإننا نجد الوحدانية التي تتمثل في عقيدة التوحيد سابقة على الوثنية في ما يوحيه تاريخ الديانات من جهة ، وفي ما يراه بعض الباحثين في نشأة الدين من جهة أخرى. ونلاحظ في هذا المجال ، أن الإنسان في مراحله المتقدمة كان لا يجهل كل أسرار الكون ، بل كان يعرف بعضها في ما استطاع أن يخوضه من تجارب عملية وأفكار عقلية ، فلم يمنعه ذلك من الإيمان بالله ، أو السير بعيدا في خطى هذا الإيمان ، ثم نلاحظ مراحل نموّ

١٥٠

المعرفة الإنسانية ، وازدهار عصر الفلسفة ، وتقدم الفكر الإنساني في مجالات الحياة ، فنجد أن قضية الإيمان كانت تقدم تبعا لتقدم الفكر وتطوّر المعرفة ، وهو ما يعني أن القضية لا تتعامل مع الجهل ، بل تتحرك في مواكب العلم.

وجاء عصر الاكتشافات العلمية ، التي استطاعت أن تضع أقدام الإنسان على سطح الكواكب ، وبقي الإيمان يفرض نفسه على تفكير كثير من هؤلاء العلماء الذين سجّلوا الكثير من الاكتشافات العلمية ، أو ساعدت نظرياتهم على هذه الاكتشافات ، ما يعني أن اتساع نطاق التجربة ، وسعة أفق المعرفة ، لا يغلق على الفكر باب الإيمان ، بل يفتحه على أوسع آفاقه ، لدرجة نستطيع معها تقرير فكرة حاسمة محددة ، وهي أن تحوّل الجهل إلى علم ، قد يرفع قيمة الإيمان ومستواه وإمكانياته لدى العلماء ، لأنه يمنحهم وسائل جديدة وأدوات جديدة للتجربة الحيّة والفكر الواسع.

٢ ـ وأما من الناحية الثانية التي ترتبط بالأسس الفكرية للإيمان ، فإننا نلاحظ أن الإلهيين الذين قالوا بوجود قوة وراء الطبيعة ، انطلقوا من الأدلة العقلية القطعية المرتكزة على أساس أن الأسباب الطبيعية للوجود لا يمكن أن تكون نهائية ، بل لا بد من أن تنتهي إلى السبب الأعمق ، لأنها لا تحمل بذور الحتمية في داخلها ، بل تتصارع فيها قابلية الوجود والعدم ، من دون وجود مرجح ذاتي لأحدهما على الآخر ، الأمر الذي يجعلها بحاجة إلى علة خارجة عنها من أجل أن ترجح جانب الوجود على العدم ، ويظل عنصر الحاجة هو الأساس الذي يحكم قانون تسلسل العلل والمعلولات حتى ينتهي إلى العلة التي تحمل بذور الحتمية في الداخل ، وهي التي نعبّر عنها ب «واجب الوجود».

وفي ضوء ذلك ، نفهم أن العلماء الذين آمنوا بالألوهية في ما وراء الطبيعة لم يغفلوا عن قانون السببية في الكون ولم يجهلوا طبيعة الأسباب

١٥١

المباشرة التي تستند إليها الأشياء ، ولكنهم كانوا يتساءلون عن السبب الأول الذي أعطى للأشياء المباشرة قوّة السببية ، فلم تكن القضية لديهم منطلقة من مشاهدات ساذجة ، أو حالات جهل بسيط ، أو انفعالات طارئة ، بل انطلقت من دراسة فكرية عميقة وتأملات ذاتية دقيقة.

٣ ـ أما الناحية الثالثة ، وهي أسلوب القرآن في معالجة الإيمان ، فإننا نجد القرآن الكريم في حديثه عن ظواهر الكون ، ينسب الفعل إلى الله ، ولا يغفل دور الإنسان في النسبة في ما يتعلق بالأفعال التي تتصل بإرادته بشكل مباشر ، وذلك بالتعبير نفسه ، كما في قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٦] فقد أسند العمل إلينا بالأسلوب نفسه الذي أسند فيه الخلق إلى ذاته المقدسة ، فنحن الذين قمنا بالعمل ، وبذلك صحت نسبة العمل إلينا ، أما نسبته إلى الله فلأنه أعطانا الحياة والقوة والأدوات التي يحتاجها العمل ، ومنحنا الإرادة التي تتحرك نحو العمل بشكل مباشر ، للإيحاء بأنه السبب الأعمق الذي تنتهي إليه الأشياء في سلسلة الأسباب ، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال : ١٧] ، فهو ينفي عن الإنسان استقلاله بالفعل بالمستوى الذي يرجع إليه كل شيء ، ولا ينفي عنه قيامة بالفعل ، وهكذا تتنوع الآيات القرآنية التي تتحدث عن الأفعال والظواهر الطبيعية في الكون ، وفي حركة الحياة والإنسان ، ليتحدث بأسلوب واحد عن السبب المباشر والأعمق الذي يوحي للإنسان بالمنهج الحق للمعرفة التي تواجه الأسباب المباشرة التي تعطينا الأسس للنظام الكوني ، وتربطنا بالله في النطاق الغيبي لوجوده.

* * *

١٥٢

بين الإيمان بوجود الله والاكتشافات العلمية

ومن خلال هذا العرض الواسع ، نستطيع التعرف على خطأ الفكرة التي تربط الإيمان بجهل الإنسان بالأسس الطبيعية ، التي يرتكز عليها نظام الكون ، ليكون الإلحاد منطلقا من وعي الكائن للطبيعة ، ونصل إلى النتيجة الصحيحة ، وهي أن القضية ليست قضية خوف يجعل الإنسان يتعلق بأي شيء ، ولكنها قضية فكر يحاول أن يواجه الظواهر والمشاكل والقضايا بالفكر الذي يتساءل ويفتش عن جواب للسؤال حتى يصل إلى السؤال الذي لا يحتاج إلى سؤال مثله. ولهذا نذهب إلى أنّ قضية الإيمان لا تنفصل عن السببية المودعة في الكون وعن تطور العلم وتقدمه ، بل إننا نرى في كل اكتشاف علمي جديد دليلا جديدا على وجود الله ، لأن العلم لا يكتشف شيئا إلا ليكتشف وراءه حكمة ونظاما وقانونا يتصل بالظواهر الأخرى للكون ، ويوحي لنا بوحدته التي نكتشف من خلالها حكمة الخالق ووحدته ، لأنها ، وإن اختلفت في مظاهرها وأشكالها ، إلا أنها تتحد في قوانينها الأساسية التي تحكم الكون كله ، وهذا ما تثيره أمامنا هذه الآيات الكريمة لتخطط لنا المنهج التأمّلي للعقيدة والإيمان ، كما توحي به الآية الكريمة في قوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت : ٥٣].

جاء في تفسير الكاشف : «إن في السماء من النجوم ما يفوق على حبات الرمل عددا ، وإن أصغر نجم لهو أكبر حجما من الأرض بأكثر من مليون مرة ، وإن كل مجموعة من النجوم تؤلف مدينة عظمي ، اسمها المجرّة ، تضمّ أكثر من مائة مليون نجمة ، وإن عدد هذه المدن أكثر من مليوني مدينة تبعد الواحدة عن الأخرى مسافة رسالة لاسلكية تصل بعد ثلاثة ملايين من السنين ، أي أن

١٥٣

نسبة هذه المدن بمجموعها إلى الفضاء الخالي ، تماما كنسبة ذبابة تائهة في الكرة الأرضية ، وكل هذه النجوم والمجرات تسير بتوازن وانتظام» (١).

أما الأرض ، فهي «كرة معلّقة في الهواء تدور حول نفسها مرّة واحدة كل ٢٤ ساعة ، فيكون تعاقب الليل والنهار ، وتسبح حول الشمس مرة كل عام ، فيكون تعاقب الفصول الأربعة ، ويحيط بالأرض غلاف غازي يشتمل على الغازات اللازمة للحياة ، ويحفظ هذا الغلاف من الغازات درجة الحرارة المناسبة للحياة ، ويحمل بخار الماء من المحيطات إلى مسافات بعيدة داخل القارات حيث يتكاثف المطر.

ثم لو كان قطر الأرض أصغر مما هو عليه ، لعجزت عن الاحتفاظ بالتوازن ، ولصارت درجة الحرارة بالغة حدّ الموت ، ولو كان قطرها أكبر مما هو لزادت جاذبيتها للأجسام ، تؤثّر هذه الزيادة أبلغ الأثر في الحياة على سطح الأرض. ولو بعدت الأرض عن الشمس أكثر من المسافة الحالية لنقصت كمية الحرارة التي تتلقاها من الشمس ، ولو قربت منها أكثر مما هي الآن لزادت الحرارة ، وفي كلتا الحالتين تتعذر الحياة على الأرض.

فكروية الأرض ، والفراغ الذي يحيط بها ، ودورانها حول الشمس ، وإحاطتها بالغلاف الجوي ، ووضعها في مكانها الخاص ، وكون قطرها بهذا المقدار الخاص ، كل ذلك يهيّئ للإنسان أسباب الحياة على الأرض ، ولو فقد وصف واحد من هذه الأوصاف ، كما لو كانت الأرض مسطحة ، أو أصغر ، أو أكبر ، أو أبعد أو أقرب إلى الشمس ، أو فقد الغلاف ، لاستحال أن يكون الإنسان ابن الأرض بشهادة العلماء» (٢).

* * *

__________________

(١) التفسير الكاشف ، م : ١ ، ص : ٢٥١.

(٢) (م. ن) ، م : ١ ، ص : ٢٥١ ـ ٢٥٢.

١٥٤

الآيات

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (١٦٧)

* * *

معاني المفردات

(مِنْ دُونِ اللهِ) : من غير الله.

(أَنْداداً) : أمثالا ، قال الطبرسي : «الأنداد والأشباه والأمثال نظائر ، واحدها : ندّ ، وقيل : هي الأضداد ، وأصل النّد : المثل المناوئ» (١). وقال

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٤٥٣.

١٥٥

الراغب : كل ندّ مثل وليس كل مثل ندّا (١) ، باعتبار أن نديد الشيء مشاركة في جوهره وذلك ضرب من المماثلة ، فإن المثل يقال في أيّ مشاركة كانت.

(تَبَرَّأَ) : التبرؤ : التولي والتباعد للعداوة ، وأصله من الانفصال ، ومنه : برأ من مرضه.

(الْأَسْبابُ) : والأسباب : الوصلات ، واحدها : سبب ، قال الطبرسي : «السبب الوصلة إلى المتعذر بما يصلح من الطلب ، ومنه يسمى الحبل سببا لأنك تتوصل به إلى ما انقطع عنك» (٢) ، وقال الراغب : «السبب الحبل الذي يصعد به النخل ... وسمّي كلّ ما يتوصل به إلى شيء سببا» (٣).

(حَسَراتٍ) : ندامات ، قال الراغب : «والحسرة : الغم على ما فاته والندم عليه ، كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه ، أو انحسر قواه من فرط غم» (٤) ، وقال الطبرسي : «الحسرة أشد الندامة ... وأصل الحسر : الكشف» (٥).

* * *

الإسلام بين الالتزام العاطفي والانحراف فيه

في هذه الآيات ، يتحرك القرآن في واقع الحياة ليقدم إلينا نموذجا من

__________________

(١) انظر : مفردات الراغب ، ص : ٥٠٧.

(٢) مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٤٥٦.

(٣) مفردات الراغب ، ص : ٢٢٥.

(٤) م. ن ، ص : ١١٧.

(٥) انظر : مجمع البيان ، ج : ١ ، ص : ٤٥٦.

١٥٦

نماذج الانحراف العاطفي والعملي في واقع الناس في الحياة ، وهو النموذج المتمثل في أتباع الظّلمة وأشياعهم حسب التفسير الوارد عن بعض أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) ، فهم يجمعون بين الإيمان بالله ومحبته ، وبين حبّ الظالمين من أسيادهم وكبرائهم ، تماما كما يحب الإنسان شخصين متساويين في جميع الخصائص والصفات. ولعل هذا الاتجاه في تصوير حالة التسوية في المشاعر بين الله وبين أئمة الظلم ، كان منطلقا من الأساس العملي للواقع الذي يعيشونه ، فإن الحب الذي تتحدث عنه الآية ليس الحب الداخلي الانفعالي الذي يتحرك في الجانب الشعوري العاطفي للإنسان ، لأن الجوّ هنا هو جوّ الحديث عن الخطوات العملية التي تحكم حياتهم ، بل الظاهر أن المراد من الحب هو الحب العملي ـ إن صح التعبير ـ وهو الذي يتمثل بالاتّباع والتأييد والمشاركة والطاعة لما يريدون ولما يخططون من دون قيد أو شرط ، تماما كما هي الحال في محبة الإنسان لله بمعنى طاعته المطلقة ، وذلك هو التطبيق العملي للإشراك بالله ، لأن مثل هذه الإطاعة التي لا تنبغي إلا لله ، عند ما يقدمها الإنسان لغيره بالمستوى ذاته ، فمعنى ذلك أنه قد جعل ذلك المطاع ندّا ونظيرا لله في ما يمثله ذلك من إخلاص العمل ، وهذا هو الشرك الواقعي الذي لا يرتبط بتعدد الآلهة على مستوى العقيدة الإلهية ، بل يتصل بتعددها على مستوى الطاعة ، انطلاقا من العوامل الذاتية المتصلة بالشهوات والأطماع والمنافع التي يحصلون عليها لدى هؤلاء ، أو التي يأملون الحصول عليها منهم.

* * *

معنى الحب لله في القرآن

وهنا يلتفت القرآن في عملية مقارنة سريعة بين هؤلاء وبين المؤمنين ،

١٥٧

في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) فإن معرفة المؤمن بربه ووعيه لعظمته ، تجعلانه ينفتح على الله انفتاحا يملأ كل كيانه في أفكاره ومشاعره ، في جوارحه وجوانحه ، فلا يبقى هناك مجال لأيّة قوّة ، مهما عظمت ، أن تحتل ولو مساحة صغيرة من نفسه في المستوى الذي يلتقي فيه بالله ، فلا ولاء لغيره ، ولا طاعة إلا له ، لأن معنى التوحيد أن يخلص كل شيء فيك للإله الواحد ، وهذا هو معنى الحب لله في القرآن الذي يريد للمؤمنين أن يعيشوه ويتمثلوه في وجدانهم ، بعيدا عن الاستغراق في ذاته ، أو التغزل بصفاته ، في ما يشبه بعض أساليب المتصوفة في تعبيرهم عن المحبة بمظاهر العشق والوله والانجذاب الجسدي والروحي ، ممّا يجعل من حياتهم امتدادا للخط الذي أرسل الله به رسوله في طاعة مطلقة ، في فكره وإرادته وكلامه.

* * *

التبعية هي أساس الحب

أمّا كيف نستفيد ذلك ونقرّره ، فهذا ما يبدو لنا من جوّ الآية من جهة ، ومن طبيعة الرسالة من جهة أخرى ، فنحن نلاحظ في الآية أنها تثير في نهاية المطاف قضية التابعين والمتبوعين وحوارهم في يوم القيامة ، مما يوحي بأن الأساس في قضية الحب هو التبعية لا العاطفة المجرّدة ، كما أننا نستوحي ذلك من قوله تعالى في آية أخرى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران : ٣١] حيث جعل اتّباع النبي من علامات الحب ونتائجه.

أما طبيعة الحب من ناحية الرسالة ، فنستطيع أن نفهمه من خلال الاطلاع على تخطيط الله لنا أسلوب التعامل معه في الوقوف بين يديه ، وفي ممارستنا للمسؤولية أمامه ، وفي الانضباط في الخط المستقيم العملي لديه ، وفي كيفية

١٥٨

العمل من خلال رسالاته في الحياة ، مما يعني أن يكون التعبير عن الحب بالعمل الصالح الذي يحبه ويرضاه.

وفي ضوء ذلك ، نفهم الاتجاه القرآني الذي يدعو الإنسان إلى التفكير في خلق الله وفي صفاته ، ونفهم الأحاديث التي تدعو إلى التفكير في خلق الله وتنهى عن التفكير في ذاته ، لأن التفكير في ذاته يغرق الإنسان في متاهات واسعة من الفكر التجريدي الذي لا ينتهي إلى نتيجة ، ومن المشاعر السلبية التي لا تؤدي إلى أساس معقول ، بينما ينطلق التفكير في خلقه ليقود الإنسان إلى العقيدة المرتكزة على أساس واقعي ، يربط العقيدة بالخط المعقول والمشاعر الطبيعية الإيجابية التي ترتبط بالله من خلال ما تعيشه من نعم وأوضاع ، وما تشاهده من ظواهر وآيات ، فكأنها ترى الله في ما تراه وتتعاطف معه من خلال التعاطف مع عظمة الخلق وإبداعه وروعته.

ولعل الأحاديث الكريمة التي تدعو إلى أن نتخلق بأخلاق الله ، تتحرك في هذا الاتجاه الذي يريد أن يجعل العلاقة خاضعة للخط الواقعي العملي في الأخلاق والصفات ، ليحبّ الإنسان الله من خلال صفاته التي تتحول في حياته إلى عيش وإيمان وحياة ، ليبتعد بذلك عن الاستغراق في الأجواء الضبابية التي تعزله عن ذاته وعن مسئوليته العملية أمام الله.

* * *

القرآن ومعالجته لأسباب الحب المنحرف

وقد عالج القرآن هذا الحب المنحرف لغير الله بالبحث عن جذوره في نفس الإنسان ، فقد يكون من أسبابه شعوره بالقوة التي يملكها هؤلاء الظالمون والمنحرفون في ما يملكون من شؤون الملك والسلطان في الدنيا ، فيخيّل

١٥٩

للناظر أنهم يتمتعون بالقوة المطلقة التي تهيمن على كل الأمور ، مما يخلق في أعماق النفس شعورا بالإعجاب الذي يتحول إلى المحبة في كثير من الحالات ، ثم تتحول المشاعر إلى رغبة عميقة في الحصول على رضاهم بالعمل بما يريدون في ما يأمرونه به أو ينهونه عنه.

فكانت هذه الآيات التي تكشف ضعفهم الذاتي الذي قد تحجبه مظاهر السلطان في الدنيا ، ولكنه يبدو على حقيقته في الآخرة ، (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) ، وذلك عند ما يقف الظالمون ليروا العذاب المعدّ لهم من الله ، فيعرفون أن كل مظاهر القوة التي يتمتعون بها أو يتمتع بها غيرهم من الناس ، لا قيمة لها ولا أساس. فها هم يعانون من العذاب الذي يقفون أمامه موقف الذالة المطلقة ، والضعف المطلق ، فلا يملكون لأنفسهم معه ضرا ولا نفعا ، وتنكشف أمامهم الحقيقة المطلقة ، وهي (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) فهو الذي يعطي القوّة ، وهو الذي يمنعها ، أو يسيّرها ، أو يوقفها عند حدودها التي يريد لها أن تقف عندها ، وهكذا يتعمق الشعور وهم أمام الحقيقة الأخروية الحاسمة في مصيرهم النهائي ، (وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) فالعذاب يقتحم عليهم موقفهم المخذول فيرون الله شديد العذاب للمتمردين والعاصين والمنحرفين والكافرين.

ثم يحدثنا الله عن مصير هؤلاء الذين يتبعون الظالمين فيشعرون بحمايتهم لهم عند ما يوحون لهم بأنهم يتحملون مسئوليتهم في كل ما يتعرضون له من صعوبات الحياة ومشاكلها ، وذلك في ما ينقله لنا من مشاهد القيامة (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ) فالمتبوعون من الظالمين والكبراء يتهربون من المسؤولية ، فلا يشعرون بأيّة علاقة تربطهم بهم ، وذلك عند ما رأوا العذاب ماثلا أمامهم وهو يقتحم الجميع بمستوى واحد من دون تفريق ، (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) التي كانت بينهم ، في كل ما تمثله من

١٦٠