روح المعاني - ج ٦

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٦

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٣

لم ينزل فيه وحي من الله عزوجل وغزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظل وأنا إليها أصغرهم فتجهز إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولا أقضي شيئا فأقول لنفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا وقلت أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه فغدوت يوم ما فصلوا لا تجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى انتهوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم وليت أني فعلت ثم لم يقدر ذلك لي وطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحزنني أن لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذره الله تعالى ولم يذكرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك : ما فعل كعب بن مالك قال رجل من بني سلمة : حبسه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه فقال له معاذ بن جبل : بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما بلغني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني شيء فطفقت أتفكر الكذب ، وأقول : بما ذا أخرج من سخطه غدا أستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا فأجمعت صدقة فأصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قادما ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاء المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علانيتهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى حتى جئت فلما سلمت عليه عليه الصلاة والسلام تبسم تبسم المغضب ثم قال لي : تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي : ما خلفك ألم تكن قد اشتريت ظهرك؟ فقلت : يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت جدلا ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله تعالى بسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه أني لأرجو فيه عقبى من الله تعالى ، والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله تعالى فيك فقمت وبادرني رجال من بني سلمة واتبعوني فقالوا لي : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما اعتذر به المتخلفون ولقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فو الله ما زالوا يرايبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ، ثم قلت : هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا : نعم لقيه معك رجلان قالا ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت : من هما؟ قالوا : مرارة بن الربيع وهلال بن أمية فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي قال : ونهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم وأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي فإذا التفت نحوه أعرض حتى إذا طال عليّ ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة ـ وهو ابن عمي وأحب الناس إلي ـ فسلمت عليه فو الله ما رد السلام علي فقلت له : أبا قتادة أنشدك الله تعالى هل تعلم أني أحب الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فسكت فعدت فنشدته فسكت فعدت فنشدته فقال : الله تعالى ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار ، فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاء فدفع إلي كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا فإذا فيه : أما بعد

٤١

فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله تعالى بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك. فقلت حين قرأتها : وهذه أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته فيها حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا برسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتيني فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك قلت : أطلقها أم ما ذا أفعل؟ قال : بل اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلي صاحبي مثل ذلك فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك لتكوني عندهم حتى يقضي الله تعالى في هذا الأمر ، فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله إن هلالا شيخ ضائع ، وليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟ فقال : لا ولكن لا يقربنك قالت : وإنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي من لدن أن كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه فقلت : والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أدري ما ذا يقول إذا استأذنته وأنا رجل شاب قال : فلبثت عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى عنا قد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت سمعت صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج فآذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوبة الله تعالى علينا حين صلى الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إليّ رجل فرسا وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي وكسوتهما إياه ببشارته والله ما أملك غيرهما يومئذ فاستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أؤم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتلقاني الناس فوجا بعد فوج يهنئونني بالتوبة يقولون : ليهنك توبة الله تعالى عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس في المسجد حوله الناس فقام إلى طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلى رجل من المهاجرين غيره قال : فكان كعب لا ينساها لطلحة قال كعب : فلما سلمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور : ابشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك قلت : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال : لا بل من عند الله تعالى ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر ، فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أمسك بعض مالك فهو خير لك قلت : إني أمسك سهمي الذي بخيبر وقلت : يا رسول الله إنما نجاني الله تعالى بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت ، فو الله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله تعالى في الصدق بالحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى ، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك إلى يومي هذا وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي قال : وأنزل الله تعالى (لَقَدْ تابَ) الآية فو الله ما أنعم الله تعالى عليّ من نعمة قط بعد أن هداني الله سبحانه للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله عليه الصلاة والسلام يومئذ أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه فإن الله تعالى قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد فقال : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) إلى قوله سبحانه: (الْفاسِقِينَ) [التوبة : ٩٥ ، ٩٦]».

وجاء في رواية عن كعب رضي الله تعالى عنه قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كلامي وكلام صاحبي فلبثت كذلك حتى طال علي الأمر وما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو يموت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلى علي فأنزل الله تعالى توبتنا على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بقي الثلث الأخير من الليل ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند أم سلمة ، وكانت محسنة في شأني معينة في أمري ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا أم سلمة تيب على كعب بن مالك قالت : أفلا أرسل إليه أبشره؟ قال إذا تحطمكم الناس فيمنعونكم النوم

٤٢

سائر الليل حتى إذا صلى صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الفجر آذن بتوبة الله تعالى علينا».

هذا وفي وصفه سبحانه هؤلاء بما وصفهم به دلالة وأية دلالة على قوة إيمانهم وصدق توبتهم ، وعن أبي بكر الوراق أنه سئل عن التوبة النصوح فقال : أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) فيما لا يرضاه (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أي مثلهم في صدقهم : وأخرج ابن الأنباري عن ابن عباس أنه كان يقرأ «وكونوا من الصادقين» وكذا روى البيهقي وغيره عن ابن مسعود أنه كان يقرأ كذلك ، والخطاب قيل : لمن آمن من أهل الكتاب وروي ذلك عن ابن عباس فيكون المراد بالصادقين الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الطاعة : وجوز أن يكون عاما لهم ولغيرهم فيكون المراد بالصادقين الذين صدقوا في الدين نية وقولا وعملا ، وأن يكون خاصا بمن تخلف وربط نفسه بالسواري ، فالمناسب أن يراد بالصادقين الثلاثة أي كونوا مثلهم في الصدق وخلوص النية. وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن نافع أن الآية نزلت في الثلاثة الذين خلفوا ، والمراد بالصادقين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وبذلك فسره ابن عمر كما أخرجه ابن أبي حاتم وغيره ، وعن سعيد بن جبير أن المراد كونوا مع أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما.

وأخرج ابن عساكر وآخرون عن الضحاك أنه قال : أمروا أن يكونوا مع أبي بكر ، وعمر ، وأصحابهما.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عساكر عن أبي جعفر أن المراد كونوا مع علي كرم الله تعالى وجهه. وبهذا استدل بعض الشيعة على أحقيته كرم الله تعالى وجهه بالخلافة ، وفساده على فرض صحة الرواية ظاهر. وعن السدي أنه فسر ذلك بالثلاثة ولم يتعرض للخطاب ، والظاهر عموم الخطاب ويندرج فيه التائبون اندراجا أوليا ، وكذا عموم مفعول (اتَّقُوا) ويدخل فيه المعاملة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر المغازي دخولا أوليا أيضا ، وكذا عموم (الصَّادِقِينَ) ويراد بهم ما تقدم على احتمال عموم الخطاب.

وفي الآية ما لا يخفى من مدح الصدق ، واستدل بها كما قال الجلال السيوطي من لم يبح الكذب في موضع من المواضع لا تصريحا ولا تعريضا. وأخرج غير واحد عن ابن مسعود أنه قال : لا يصلح الكذب في جد ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيته شيئا ثم لا ينجزه وتلا الآية ، والأحاديث في ذمه أكثر من أن تحصى ، والحق إباحته في مواضع ، فقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب في خديعة حرب أو إصلاح بين اثنين أو رجل يحدث امرأته ليرضيها» ، وكذا إباحة المعاريض. فقد أخرج ابن عدي عن عمران بن حصين قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» (ما كانَ) أي ما صح ولا استقام (لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) كمزينة ، وجهينة ، وأشجع ، وغفار ، وأسلم. وإضرابهم (أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) عند توجهه عليه الصلاة والسلام إلى الغزو (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) أي لا يصرفوها عن نفسه الكريمة ولا يصونوها عما لم يصنها عنه بل يكابدون ما يكابده من الشدائد ، وأصله لا يترفعوا بأنفسهم عن نفسه بأن يكرهوا لأنفسهم المكاره ولا يكرهوها له عليه الصلاة والسلام بل عليهم أن يعكسوا القضية ، وإلى هذا يشير كلام الواحدي حيث قال : يقال رغبت بنفسي عن هذا الأمر أي ترفعت عنه. وفي النهاية يقال : رغبت بفلان عن هذا الأمر أي كرهت له ذلك.

وجوز في (يَرْغَبُوا) النصب بعطفه على (يَتَخَلَّفُوا) المنصوب بأن وإعادة (لا) لتذكير النفي وتأكيده وهو الظاهر والجزم على النهي وهو المراد من الكلام إلا أنه عبر عنه بصيغة النفي للمبالغة ، وخص أهل المدينة بالذكر لقربهم منه عليه عليه الصلاة والسلام وعلمهم بخروجه ، وظاهر الآية وجوب النفير إذا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الغزو بنفسه.

٤٣

وذكر بعضهم أنه استدل بها على أن الجهاد كان فرض عين في عهده عليه الصلاة والسلام وبه قال ابن بطال : وعلله بأنهم بايعوه عليه عليه الصلاة والسلام فلا يجب النفير مع أحد من الخلفاء ما لم يلم العدو ولم يمكن دفعه بدونه ، وقدر بعضهم في الآية مضافا إلى رسول الله أي أن يتخلفوا عن حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو خلاف الظاهر ؛ وعليه يكون الحكم عاما وفيه بحث.

وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن زيد أن حكم الآية حين كان الإسلام قليلا فلما كثر وفشا قال الله تعالى: (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) ، وأنت تعلم أن الإسلام كان فاشيا عند نزول هذه السورة ، ولا يخفى ما في الآية من التعريض بالمتخلفين رغبة باللذائذ وسكونا إلى الشهوات غير مكثرين بما يكابد عليه الصلاة والسلام ، وقد كان تخلف جماعة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما علمت لذلك ، وجاء أن أناسا من المسلمين تخلفوا ثم إن منهم من ندم وكره مكانه فلحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مبال بالشدائد كأبي خيثمة فقد روي «أنه رضي الله تعالى عنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل وبسطت له الحصير وقربت إليه الرطب والماء البارد فنظر فقال : ظل ظليل ورطب يانع وماء بارد وامرأة حسناء ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الضح والريح ما هذا بخير مقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح فمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السراب فقال عليه الصلاة والسلام : كن أبا خيثمة فكانه ففرح به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستغفر له» (ذلِكَ) إشارة إلى ما دل عليه الكلام من وجوب المشايعة (بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أنهم (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) أي شيء من العطش. وقرئ بالمد والقصر (وَلا نَصَبٌ) ولا تعب ما (وَلا مَخْمَصَةٌ) ولا مجاعة ما (فِي سَبِيلِ اللهِ) في جهاد أعدائه أو في طاعته سبحانه مطلقا (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ) أي يغضبهم ويضيق صدورهم والوطء والدوس بالأقدام ونحوها كحوافر الخيل وقد يفسر بالإيقاع والمحاربة. ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «آخر وطأة وطأها الله تعالى بوج» والموطئ اسم مكان على الأشهر الأظهر ، وفاعل (يَغِيظُ) ضميره بتقدير مضاف أي يغيظ وطؤه لأن المكان نفسه لا يغيظ ، ويحتمل أن يكون ضميرا عائدا إلى الوطء الذي في ضمنه ، وإذا جعل الموطئ مصدرا كالمورد فالأمر ظاهر (وَلا يَنالُونَ) أي ولا يأخذون (مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) أي شيئا من الأخذ فهو مصدر كالقتل والأسر والفعل نال ينيل. وقيل : نال ينول فأصل نيلا نولا فأبدلت الواو ياء على غير القياس ، ويجوز أن يكون بمعنى المأخوذ فهو مفعول به لينالون أي لا ينالون شيئا من الأشياء (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ) أي بالمذكور وهو جميع ما تقدم ولذا وحد الضمير ، ويجوز أن يكون عائدا على كل واحد من ذلك على البدل : قال النسفي : وحد الضمير لأنه لما تكررت (لا) صار كل واحد منها على البدل مفردا بالذكر مقصودا بالوعد ، ولذا قال فقهاؤنا : لو حلف لا يأكل خبزا ولا لحما حنث بواحد منهما ولو حلف لا يأكل لحما وخبزا لم يحنث إلا بالجمع بينهما ، والجملة في محل نصب على الحال من (ظَمَأٌ) وما عطف عليه أي لا يصيبهم ظمأ ولا كذا إلا مكتوبا لهم به (عَمَلٌ صالِحٌ) أي ثواب ذلك فالكلام بتقدير مضاف ، وقد يجعل كناية عن الثواب وأول به لأنه المقصود من كتابة الأعمال ، والتنوين للتفخيم ، والمراد أنهم يستحقون ذلك استحقاقا لازما بمقتضى وعده تعالى لا بالوجوب عليه سبحانه. واستدل بالآية على أن من قصد خيرا كان سعيه فيه مشكورا من قيام وقعود ومشي وكلام وغير ذلك ، وعلى أن المدد يشارك الجيش في الغنيمة بعد انقضاء الحرب لأن وطء ديارهم مما يغيظهم. ولقد أسهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا بني عامر وقد قدما بعض تقضي الحرب ، واستدل بها ـ على ما نقل الجلال السيوطي ـ أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه على جواز الزنا بنساء أهل الحرب في دار الحرب (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) على إحسانهم ، والجملة في موضع التعليل للكتب ، والمراد بالمحسنين إما المبحوث عنهم ووضع المظهر موضع المضمر لمدحهم والشهادة

٤٤

لهم بالانتظام في سلك المحسنين وأن أعمالهم من قبيل الإحسان وللإشعار بعلية المأخذ للحكم وإما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً) ولو تمرة أو علاقة سوط (وَلا كَبِيرَةً) كما أنفق عثمان رضي الله تعالى عنه في جيش العسرة ، وذكر الكبيرة بعد الصغيرة وإن علم من الثواب على الأولى الثواب على الثانية لأن المقصود التعميم لا خصوص المذكور إذ المعنى ولا ينفقون شيئا ما فلا يتوهم أن الظاهر العكس ، وفي إرشاد العقل السليم أن الترتيب باعتبار كثرة الوقوع وقلته ، وتوسيط (لا) للتنصيص على استبداد كل منهما بالكتب والجزاء لا لتأكيد النفي كما في قوله تعالى شأنه : (وَلا يَقْطَعُونَ) أي ولا يتجاوزون في سيرهم لغزو (وادِياً) وهو في الأصل اسم فاعل من ودى إذا سال فهو بمعنى السيل نفسه ثم شاع في محله وهو المنعرج من الجبال والآكام التي يسيل فيها الماء ثم صار حقيقة في مطلق الأرض ويجمع على أودية كناد على أندية وناج على أنجية ولا رابع لهذه على ما قيل في كلام العرب (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) أي أثبت لهم أو كتب في الصحف أو اللوح ولا يفسر الكتب بالاستحقاق لمكان التعليل بعد ، وضمير (كُتِبَ) على طرز ما سبق أي المذكور أو كل واحد ، وقيل : هو للعمل وليس بذاك ، وفصل هذا وآخر لأنه أهون مما قبله (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) بذلك (أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أحسن جزاء أعمالهم على معنى أن لأعمالهم جزاء حسنا وأحسن وهو سبحانه اختار لهم أحسن جزاء فانتصاب (أَحْسَنَ) على المصدرية لإضافته إلى مصدر محذوف.

وقال الإمام : فيه وجهان : الأول أن الأحسن صفة عملهم وفيه الواجب ، والمندوب ، والمباح فهو يجزيهم على الأولين دون الأخير ، والظاهر أن نصب (أَحْسَنَ) حينئذ على أنه بدل اشتمال من ضمير يجزيهم كما قيل. وأورد عليه أنه ناء عن المقام مع قلة فائدته لأن حاصله أنه تعالى يجزيهم على الواجب والمندوب وأن ما ذكر منه ولا يخفى ركاكته وأنه غير خفي على أحد وكونه كناية عن العفو عما فرط منهم في خلاله أن وقع لأن تخصيص الجزاء به يشعر بأنه لا يجازى على غيره خلاف الظاهر ، ثم قال : الثاني أن الأحسن صفة للجزاء أي ليجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأفضل وهو الثواب. واعترضه أبو حيان بأنه إذا كان الأحسن صفة الجزاء كيف يضاف إلى الأعمال وليس بعضا منها وكيف يفضل عليهم بدون من ، ولا وجه لدفعه بأن أصله مما كانوا إلخ فحذف من مع بقاء المعنى على حاله كما قيل لأنه لا محصل له. هذا ووصف النفقة بالصغيرة والكبيرة دون القليلة والكثيرة مع أن المراد ذلك قيل حملا للطاعة على المعصية فإنها إنما توصف بالصغيرة والكبيرة في كلامهم دون القليلة والكثيرة فتأمل (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) أي ما استقام لهم أن يخرجوا إلى الغزو جميعا. روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه تعالى لما شدد على المتخلفين قالوا : لا يتخلف منا أحد عن جيش أو سرية أبدا ففعلوا ذلك وبقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده فنزل (وَما كانَ) إلخ والمراد نهيهم عن النفير جميعا لما فيه من الإخلال بالتعلم (فَلَوْ لا نَفَرَ) لو لا هنا تحضيضية ، وهي مع الماضي تفيد التوبيخ على ترك الفعل ومع المضارع تفيد طلبه والأمر به لكن اللوم على الترك فيما يمكن تلافيه قد يفيد الأمر به في المستقبل أي فهلا نفر (مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ) أي جماعة كثيرة (مِنْهُمْ) كأهل بلدة أو قبيلة عظيمة (طائِفَةٌ) أي جماعة قليلة ، وحمل الفرقة والطائفة على ذلك مأخوذ من السياق ومن التبعيضية لأن البعض في الغالب أقل من الباقي وإلا فالجوهري لم يفرق بينهما ، وذكر بعضهم أن الطائفة قد تقع على الواحد ، وآخرون أنها لا تقع وأن أقلها اثنان ، وقيل : ثلاثة (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) أي ليتكلفوا الفقاهة فيه فصيغة التفعل للتكلف ، وليس المراد به معناه المتبادر بل مقاساة الشدة في طلب ذلك لصعوبته فهو لا يحصل بدون جد وجهد (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) أي عما ينذرون منه وضمير يتفقوا وينذروا عائد إلى الفرقة

٤٥

الباقية المفهومة من الكلام ، وقيل : لا بد من إضمار وتقدير ، أي فلو لا نفر من كل فرقة طائفة وأقام طائفة ليتفقهوا إلخ.

وكان الظاهر أن يقال : ليعلموا بدل (لِيُنْذِرُوا) ويفقهون بدل (يَحْذَرُونَ) لكنه اختير ما في النظم الجليل للإشارة إلى أنه ينبغي أن يكون غرض المعلم الإرشاد والإنذار وغرض المتعلم اكتساب الخشية لا التبسط والاستكبار.

قال حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة : كان اسم الفقه في العصر الأول اسما لعلم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب وتدل عليه هذه الآية فما به الإنذار والتخويف هو الفقه دون تعريفات الطلاق واللعان والسلم والإجارات ، وسأل فرقد السنجي الحسن عن شيء فأجابه فقال : إن الفقهاء يخالفونك فقال الحسن : ثكلتك أمك هل رأيت فقيها بعينك؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه المداوم على عبادة ربه الورع الكاف عن أعراض المسلمين العفيف عن أموالهم الناصح لجماعتهم ، ولم يقل في جميع ذلك الحافظ لفروع الفتاوى اه وهو من الحسن بمكان ، لكن الشائع إطلاق الفقيه على من يحفظ الفروع مطلقا سواء كانت بدلائلها أم لا كما في التحرير. وفي البحر عن المنتقى ما يوافقه ، واعتبر في القنية الحفظ مع الأدلة فلا يدخل في الوصية للفقهاء من حفظ بلا دليل. وعن أبي جعفر أنه قال : الفقيه عندنا من بلغ في الفقه الغاية القصوى ، وليس المتفقه بفقيه وليس له من الوصية نصيب ، والظاهر أن المعتبر في الوصية ونحوها العرف وهو الذي يقتضيه كلام كثير من أصحابنا ، وذكر غير واحد أن تخصيص الإنذار بالذكر لأنه الأهم وإلا فالمقصود والإرشاد الشامل لتعليم السنن والآداب والواجبات والمباحات والإنذار أخص منه ، ودعوى أنهما متلازمان وذكر أحدهما مغن عن الآخر غفلة أو تغافل ، وذهب كثير من الناس إلى أن المراد من النفر النفر والخروج لطلب العلم فالآية ليست متعلقة بما قبلها من أمر الجهاد بل لما بين سبحانه وجوب الهجرة والجهاد وكل منهما سفر لعبادة فبعد ما فضل الجهاد ذكر السفر الآخر وهو الهجرة لطلب العلم فضمير يتفقهوا وينذروا للطائفة المذكورة وهي النافرة وهو الذي يقتضيه كلام مجاهد. فقد أخرج عنه ابن جرير. وابن المنذر. وغيرهما أنه قال : إن ناسا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفا ومن الخصب ما ينتفعون به ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى فقال لهم الناس : ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرجا وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ) إلخ أي لو لا خرج بعض وقعد بعض يبتغون الخير ليتفقهوا في الدين وليسمعوا ما أنزل ولينذروا الناس إذا رجعوا إليهم.

واستدل بذلك على أن التفقه في الدين من فروض الكفاية. وما في كشف الحجاب عن أبي سعيد «طلب العلم فريضة على كل مسلم» على تضعيف الصغاني له ليس المراد من العلم فيه إلا ما يتوقف عليه أداء الفرائض ولا شك في أن تعلمه فرض على كل مسلم. وذكر بعضهم أن في الآية دلالة على أن خبر الآحاد حجة لأن عموم كل فرقة يقتضي أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه لتنذر قومها كي يتذكروا ويحذروا فلو لم يعتبر الأخبار ما لم تتواتر لم يفد ذلك ، وقرر بعضهم وجه الدلالة بأمرين : الأول أنه تعالى أمر الطائفة بالإنذار وهو يقتضي فعل المأمور به وإلا لم يكن إنذارا. والثاني أمره سبحانه القوم بالحذر عند الإنذار لأن معنى قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ليحذروا وذلك أيضا يتضمن لزوم العمل بخبر الواحد ، وهذه الدلالة قائمة على أي تفسير شئت من التفسيرين ، ولا يتوقف الاستدلال بالآية على ما ذكر على صدق الطائفة على الواحد الذي هو مبدأ الإعداد بل يكفي فيه صدقها على ما لم يبلغ حد التواتر وإن كان ثلاثة فأكثر ، وكذا لا يتوقف على أن لا يكون الترجي من المنذرين بل يكون من الله سبحانه ويراد منه الطلب مجازا كما لا يخفى.

٤٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أي الذين يقربون منكم قربا مكانيا وخص الأمر به مع قوله سبحانه في أول السورة : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] ونحوه قيل : لأنه من المعلوم أنه لا يمكن قتال جميع الكفار وغزو جميع البلاد في زمان واحد فكان من قرب أولى ممن بعد ، ولأن ترك الأقرب والاشتغال بقتال الأبعد لا يؤمن معه من الهجوم على الذراري والضعفاء ، وأيضا الأبعد لا حد له بخلاف الأقرب فلا يؤمر به ، وقد لا يمكن قتال الأبعد قبل قتال الأقرب ، وقال بعضهم : المراد قاتلوا الأقرب فالأقرب حتى تصلوا إلى الأبعد فالأبعد وذلك يحصل الغرض من قتال المشركين كافة ، فهذا إرشاد إلى طريق تحصيله على الوجه الأصلح.

ومن هنا قاتل صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا قومه ثم انتقل إلى قتال سائر العرب ثم إلى قتال قريظة ، والنضير ، وخيبر. وأضرابهم ثم إلى قتال الروم فبدأ عليه الصلاة والسلام بقتال الأقرب فالأقرب وجرى أصحابه على سننه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن وصلت سراياهم وجيوشهم إلى ما شاء الله تعالى وعلى هذا فلا نسخ ، وروي عن الحسن أن الآية منسوخة بما تقدم والمحققون على أنه لا وجه له ، وزعم الخازن تبعا لغيره أن المراد من الولي ما يعم القرب المكاني والنسبي وهو خلاف الظاهر ، وقيل : إنه خاص بالنسبي لأنها نزلت لما تحرج الناس من قتل أقربائهم ، ولا يخفى ضعفه. (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أي شدة كما قال ابن عباس وهي مثلثة الغين ، وقرئ بذلك لكن السبعة على الكسر ، والمراد من الشدة ما يشمل الجرأة والصبر على القتال والعنف في القتل والأسر ونحو ذلك ، ومن هنا قالوا : إنها كلمة جامعة والأمر على حد ـ لا أرينك هاهنا ـ فليس المقصود أمر الكفار بأن يجدوا في المؤمنين ذلك بل أمر المؤمنين بالاتصاف بما ذكر حتى يجدهم الكفار متصفين به (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بالعصمة والنصرة ، والمراد بهم إما المخاطبون والإظهار للتنصيص على أن الإيمان والقتال على الوجه المذكور من باب التقوى والشهادة بكونهم من زمرة المتقين ، وإما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا ، وأيا ما كان فالكلام تعليل وتأكيد لما قبله (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) من سور القرآن (فَمِنْهُمْ) أي من المنافقين كما روي عن قتادة وغيره (مَنْ يَقُولُ) على سبيل الإنكار والاستهزاء لإخوانه ليثبتهم على النفاق أو لضعفة المؤمنين ليصدهم عن الإيمان (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ) السورة (إِيماناً) وقرأ عبيد بن عمير «أيكم» بالنصب على تقدير فعل يفسره المذكور ويقدر مؤخرا لأن الاستفهام له الصدر أي أيكم زادت زادته إلخ.

واعتبار الزيادة على أول الاحتمالين في المخاطبين باعتبار اعتقاد المؤمنين (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) جواب من جهته تعالى شأنه وتحقيق للحق وتعيين لحالهم عاجلا وآجلا. وقال بعض المدققين : إن الآية دلت على أنهم مستهزءون وأن استهزاءهم منكر فجاء قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) إلخ تفصيلا لهذين القسمين ، وجعل ذلك الطيبي تفصيلا لمحذوف وبينه بما لا يميل القلب إليه ، وأيا ما كان فجواب (إِذا) جملة (فَمِنْهُمْ) إلخ ، وليس هذا وما بعده عطفا عليه ؛ أي فأما الذين آمنوا بالله سبحانه وبما جاء من عنده (فَزادَتْهُمْ إِيماناً) أي تصديقا لأن ذلك هو المتبادر من الإيمان كما قرر في محله.

وقبول التصديق نفسه الزيادة والنقص والشدة والضعف مما قال به جمع من المحققين وبه أقول لظواهر الآيات والأخبار ولو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا ، ومن لم يقبل قبوله للزيادة ولم يدخل الأعمال في الإيمان قال : إن زيادته بزيادة متعلقة والمؤمن به ، وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، قيل : ويلزمه أن لا زيادته بزيادة متعلقة والمؤمن به ، وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، قيل : ويلزمه أن لا يزيد اليوم لإكمال الدين وعدم تجدد متعلق وفيه نظر وإن قاله من تعقد عليه الخناصر وتعتقد بكلامه الضمائر ، ومن لم يقبل وأدخل الأعمال فالزيادة وكذا مقابلها ظاهرة عنده (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) بنزولها لأنه سبب لزيادة كما لهم ورفع درجاتهم بل هو لعمري أجدى من تفاريق العصا.

٤٧

(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي نفاق (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) أي نفاقا مضموما إلى نفاقهم فالزيادة متضمنة معنى الضم ولذا عديت بإلى ، وقيل : إلى بمعنى مع ولا حاجة إليه (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) واستحكم ذلك فيهم إلى أن يموتوا عليه (أَوَلا يَرَوْنَ) يعني المنافقين ، والهمزة للإنكار والتوبيخ ، والكلام في العطف شهير. وقرأ حمزة ، ويعقوب ، وأبي بن كعب بالتاء الفوقانية على أن الخطاب للمؤمنين والهمزة للتعجيب أي أو لا يعلمون وقيل أو لا يبصرون (أَنَّهُمْ) أي المنافقين (يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ) من الأعوام (مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) بأفانين البليات من المرض والشدة مما يذكر الذنوب والوقوف بين يدي علام الغيوب فيؤدي إلى الإيمان به تعالى والكف عما هم عليه ، وفي الخبر «إذا مرض العبد ثم عوفي ولم يزدد خيرا قالت الملائكة : هو الذي داويناه فلم ينفعه الدواء» فالفتنة هنا بمعنى البلية والعذاب ، وقيل : هي بمعنى الاختبار ، والمعنى أولا يرون أنهم يختبرون بالجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيعاينون ما ينزل عليه من الآيات لا سيما الآيات الناعية عليهم قبائحهم (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) عما هم فيه (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) ولا يعتبرون.

والجملة على قراءة الجمهور عطف على (يَرَوْنَ) داخل تحت الإنكار والتوبيخ ، وعلى القراءة الأخرى عطف على (يُفْتَنُونَ) والمراد من المرة والمرتين على ما صرح به بعضهم مجرد التكثير لا بيان الوقوع على حسب العدد المزبور. وقرأ عبد الله «أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين وما يتذكرون».

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) بيان لأحوالهم عند نزولها وهم في محفل تبليغ الوحي كما أن الأول بيان لمقالاتهم وهم غائبون عنه (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) ليتواطئوا على الهرب كراهة سماعها قائلين إشارة : (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) أي هل يراكم أحد من المسلمين إذا قمتم من المجلس أو تغامزوا بالعيون إنكارا وسخرية بها قائلين هل يراكم أحد لننصرف مظهرين أنهم لا يصطبرون على استماعها ويغلب عليهم الضحك فيفتضحون ، والسورة على هذا مطلقة ، وقيل : إن نظر بعضهم إلى بعض وتغامزهم كان غيظا لما في السورة من مخازيهم وبيان قبائحهم ، فالمراد بالسورة سورة مشتملة على ذلك ، والإطلاق هو الظاهر ، وأيا ما كان فلا بد من تقدير القول قبل الاستفهام ليرتبط الكلام ، فإن قدر اسما كان نصبا على الحال كما أشرنا إليه ، وإن قدر فعلا كانت الجملة في موضع الحال أيضا ، ويجوز جعلها مستأنفة ، وإيراد ضمير الخطاب لبعض المخاطبين على الجزم فإن المرء بشأنه أكثر اهتماما منه في شأن أصحابه كما في قوله تعالى : (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) [الكهف : ١٩] (ثُمَّ انْصَرَفُوا) عطف على (نَظَرَ بَعْضُهُمْ) والتراخي باعتبار وجود الفرصة والوقوف على عدم رؤية أحد من المؤمنين ، أي ثم انصرفوا جميعا عن محفل الوحي لعدم تحملهم سماع ذلك لشدة كراهتهم أو مخافة الفضيحة بغلبة الضحك أو الاطلاع على تغامزهم. أو انصرفوا عن المجلس بسبب الغيظ ، وقيل : المراد انصرافهم عن الهداية والأول أظهر.

(صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن الإيمان حسب انصرافهم عن ذلك المجلس ، والجملة تحتمل الأخبار والدعاء ، واختار الثاني أبو مسلم وغيره من المعتزلة ، ودعاؤه تعالى على عباده وعيد لهم وإعلام بلحوق العذاب بهم ؛ وقوله سبحانه : (بِأَنَّهُمْ) قيل متعلق بصرف على الاحتمال الأول وبانصرفوا على الثاني ، والباء للسببية أي بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) لسوء فهمهم أو لعدم تدبرهم فهم إما حمقى أو غافلون (لَقَدْ جاءَكُمْ) الخطاب للعرب (رَسُولٌ) أي رسول عظيم القدر (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من جنسكم ومن نسبكم عربي مثلكم ، أخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضريها وربيعتها ويمانيها ، وقيل : الخطاب للبشر على الإطلاق ومعنى كونه عليه الصلاة والسلام من أنفسهم أنه من جنس البشر ، وقرأ ابن عباس رضي

٤٨

الله تعالى عنهما وابن محيصن والزهري «أنفسكم» أفعل تفضيل من النفاسة ، والمراد الشرف فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أشرف العرب ، أخرج الترمذي وصححه والنسائي عن المطلب بن ربيعة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد بلغه بعض ما يقول الناس فصعد المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال : «من أنا»؟ قالوا : أنت رسول الله قال : «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إن الله تعالى خلق الخلق فجعلني في خير خلقه ، وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة ، وجعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة ، وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا» وأخرج البخاري والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت فيه» وأخرج مسلم وغيره عن واثلة بن الأسقع قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله تعالى اصطفى من ولد إبراهيم ـ إسماعيل ، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة ، واصطفى من بني كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم». وروى البيهقي عن أنس «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله تعالى في خيرهما فأخرجت من بين أبوي فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأمي فأنا خيركم نفسا وخيركم أبا» (عَزِيزٌ عَلَيْهِ) أي شديد شاق من عز عليه بمعنى صعب وشق (ما عَنِتُّمْ) أي عنتكم ، وهو بالتحريك ما يكره ، أي شديد عليه ما يلحقكم من المكروه كسوء العاقبة والوقوع في العذاب ، ورفع (عَزِيزٌ) على أنه صفة سببية لرسول وبه يتعلق (عَلَيْهِ) ، وفاعله المصدر وهو الذي يقتضيه ظاهر النظم الجليل ، وقيل : إن (عَزِيزٌ عَلَيْهِ) خبر مقدم و (ما عَنِتُّمْ) مبتدأ مؤخر والجملة في موضع الصفة ، وقيل : إن (عَزِيزٌ) نعت حقيقي لرسول وعنده تم الكلام و (عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) ابتداء كلام أي يهمه ويشق عليه عنتكم (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي على إيمانكم وصلاح شأنكم لأن الحرص لا يتعلق بذواتهم (بِالْمُؤْمِنِينَ) منكم ومن غيركم (رَؤُفٌ رَحِيمٌ) قيل : قدم الأبلغ منهما وهو الرأفة التي هي عبارة عن شدة الرحمة رعاية للفواصل وهو أمر مرعي في القرآن ، وهو مبني على ما فسر به الرأفة ، وصحح أن الرأفة الشفقة ، والرحمة الإحسان ، وقد يقال : تقديم الرأفة باعتبار أن آثارها دفع المضار وتأخير الرحمة باعتبار أن آثارها جلب المنافع والأول أهم من الثاني ولهذا قدمت في قوله سبحانه : (رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) [الحديد : ٢٧] ولا يجري هنا أمر الرعاية كما لا يخفى ، وكأن الرأفة على هذا مأخوذة من رفو الثوب لإصلاح شقه ، فيكون في وصفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما ذكر وصف له بدفع الضرر عنهم وجلب المصلحة لهم ، ولم يجمع هذان الاسمان لغيره عليه الصلاة والسلام ، وزعم بعضهم أن المراد رءوف بالمطيعين منهم رحيم بالمذنبين ، وقيل : رءوف بأقربائه رحيم بأوليائه ، وقيل : رءوف بمن يراه رحيم بمن لم يره ولا مستند لشيء من ذلك (فَإِنْ تَوَلَّوْا) تلوين للخطاب وتوجيه له إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسلية له ، أي فإن أعرضوا عن الإيمان بك (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) فإنه يكفيك معرتهم ويعينك عليهم (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) استئناف كالدليل لما قبله لأن المتوحد بالألوهية هو الكافي المعين (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فلا أرجو ولا أخاف إلا منه سبحانه (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ) أي الجسم المحيط بسائر الأجسام ويسمى بفلك الأفلاك وهو محدد الجهات (الْعَظِيمِ) الذي لا يعلم مقدار عظمته إلا الله تعالى. وفي الخبر «أن الأرض بالنسبة إلى السماء الدنيا كحلقة في فلاة وكذا السماء الدنيا بالنسبة إلى السماء التي فوقها وهكذا إلى السماء السابعة وهي بالنسبة إلى الكرسي كحلقة في فلاة وهو بالنسبة إلى العرش كذلك» وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لا يقدر قدره أحد ، وذكر أهل الأرصاد أن بعد مقعر الفلك الأعظم من مركز العالم ثلاثة وثلاثون ألف ألف وخمسمائة وأربعة وعشرون ألفا وستمائة وتسعة فراسخ ، وأن بعد محدبه منه قد بلغ مرتبة لا يعلمها إلا الله الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وهو بكل شيء عليم ، وقد يفسر العرش هنا بالملك وهو أحد معانيه كما في القاموس ، وقرئ «العظيم» بالرفع على أنه صفة الرب ، وختم سبحانه هذه السورة بما

٤٩

ذكر لأنه تعالى ذكر فيها التكاليف الشاقة والزواجر الصعبة فأراد جل شأنه أن يسهل عليهم ذلك ويشجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تبليغه ، وقد تضمن من أوصافه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكريمة ما تضمن ، وقد بدأ سبحانه من ذلك بكونه من أنفسهم لأنه كالأم في هذا الباب ، ولا ينافي وصفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرأفة والرحمة بالمؤمنين تكليفه إياهم في هذه السورة بأنواع من التكاليف الشاقة لأن هذا التكليف أيضا من كمال ذلك الوصف من حيث إنه سبب للتخلص من العقاب المؤبد والفوز بالثواب المخلد ، ومن هذا القبيل معاملته صلى‌الله‌عليه‌وسلم للثلاثة الذين خلفوا كما علمت ، وما أحسن ما قيل :

فقسا ليزدجروا ومن يك حازما

فليقس أحيانا على من يرحم

وهاتان الآيتان على ما روي عن أبي بن كعب آخر ما نزل من القرآن. لكن روى الشيخان عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه أنه قال : آخر آية نزلت (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [النساء : ١٧٦] وآخر سورة نزلت براءة.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما آخر آية نزلت : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٢٨١] وكان بين نزولها وموته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمانون يوما ، وقيل : تسع ليال ، وحاول بعضهم التوفيق بين الروايات في هذا الشأن بما لا يخلو عن كدر. ويبعد ما روي عن أبي ما أخرجه ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة جاءته جهينة فقالوا له : إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا نأمنك وتأمنا قال : ولم سألتم هذا؟ قالوا : نطلب الأمن فأنزل الله تعالى هذه الآية (لَقَدْ جاءَكُمْ) إلخ والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

وقد ذكروا لقوله سبحانه : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) الآية ما ذكروا من الخواص ، وقد أخرج أبو داود عن أبي الدرداء موقوفا وابن السني عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قال حين يصبح وحين يمسي حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله تعالى ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة ، وأخرج ابن النجار في تاريخه عن الحسين رضي الله تعالى عنه قال : من قال حين يصبح سبع مرات حسبي الله لا إله إلا هو إلخ لم يصبه في ذلك اليوم ولا تلك الليلة كرب ولا نكب ولا غرق ، وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن كعب قال : خرجت سرية إلى أرض الروم فسقط رجل منهم فانكسرت فخذه فلم يستطيعوا أن يحملوه فربطوا فرسه عنده ووضعوا عنده شيئا من ماء وزاد فلما ولوا أتاه آت فقال : ما لك هاهنا؟ قال : انكسرت فخذي فتركني أصحابي فقال : ضع يدك حيث تجد الألم وقل : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) الآية فوضع يده فقرأها فصح وركب فرسه وأدرك أصحابه ، وهذه الآية ورد هذا الفقير ولله الحمد منذ سنين نسأل الله تعالى أن يوفق لنا الخير ببركتها إنه خير الموفقين.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) لما هداهم سبحانه إلى الإيمان العلمي وهم مفتونون بمحبة الأنفس والأموال استنزلهم لغاية عنايته سبحانه بهم عن ذلك بالمعاملة الرابحة بأن أعطاهم بدل ذلك الجنة ، ولعل المراد بها جنة النفس ليكون الثمن من جنس المثمن الذي هو مألوفهم ولكن الفرق بين الأمرين ، قال ابن عطاء : نفسك موضع كل شهوة وبلية ومالك محل كل إثم ومعصية فاشترى مولاك ذلك منك ليزيل ما يضرك ويعوضك عليه ما ينفعك ولهذا اشترى سبحانه النفس ولم يشتر القلب ، وقد ذكر بعض الأكابر في ذلك أيضا أن النفس محل العيب والكريم يرغب في شراء ما يزهد فيه غيره فشراء الله تعالى ذلك مع اطلاعه سبحانه على العيب بالجنة التي لا عيب فيها نهاية الكرم ويرشد إلى ذلك قول القائل :

ولي كبد مقروحة من يبيعني

بها كبدا ليست بذات قروح

أباها جميع الناس لا يشترونها

ومن يشتري ذا علة بصحيح

٥٠

وعن الجنيد قدس‌سره قال : إنه سبحانه اشترى منك ما هو صفتك وتحت تصرفك والقلب تحت صفته وتصرفه لم تقع المبايعة عليه ، ويشير إلى ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن» ، وذكر بعض أرباب التأويل أنه تعالى لما اشترى الأنفس منهم فذاقوا بالتجرد عنها حلاوة اليقين ولذة الترك ورجعوا عن مقام لذة النفس وتابوا عن هواها ولم يبق عندهم لجنّة النفس التي كانت ثمنا قدر وصفهم بالتائبين فقال سبحانه : (التَّائِبُونَ) أي الراجعون عن طلب ملاذ النفس وتوقع الأجر إليه تعالى وبلفظ آخرهم قوم رجعوا من غير الله إلى الله واستقاموا بالله تعالى مع الله تعالى. (الْعابِدُونَ) أي الخاضعون المتذللون لعظمته وكبريائه تعالى تعظيما وإجلالا له جل شأنه لا رغبة في ثواب ولا رهبة من عقاب وهذه أقصى درجات العبادة ويسميها بعضهم عبودة (الْحامِدُونَ) بإظهار الكمالات العملية والعلمية حمدا فعليا حاليا وأقصى مراتب الحمد إظهار العجز عنه. يروى أن داود عليه‌السلام قال : يا رب كيف أحمدك والحمد من آلائك فأوحى الله تعالى إليه الآن حمدتني يا داود. وما أعلى كلمة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (السَّائِحُونَ) إليه تعالى بالهجرة عن مقام الفطرة ورؤية الكمالات الثابتة لهم في مفاوز الصفات ومنازل السبحات ، وقال بعض العارفين : السائحون هم السيارون بقلوبهم في الملكوت الطائرون بأجنحة المحبة في هواء الجبروت ، وقد يقال : هم الذين صاموا عن المألوفات حين عاينوا هلال جماله تعالى في هذه النشأة ولا يفطرون حتى يعاينوه مرة أخرى في النشأة الأخرى ، وقد امتثلوا ما أشار إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» (الرَّاكِعُونَ) في مقام محو الصفات (السَّاجِدُونَ) بفناء الذات ، وقال بعض العارفين: الراكعون هم العاشقون المنحنون من ثقل أوقار المعرفة على باب العظمة ورؤية الهيبة ، والساجدون هم الطالبون لقربه سبحانه. فقد جاء في الخبر «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» وقد يقال : الراكعون الساجدون هم المشاهدون للحبيب السامعون منه ، وما أحسن ما قيل :

لو يسمعون كما سمعت كلامها

خروا لعزة ركعا وسجودا

(الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي الداعون الخلق إلى الحق والدافعون لهم عما سواه ، فإن المعروف على الإطلاق هو الحق سبحانه والكل بالنسبة إليه عز شأنه منكر (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) أي المراعون أوامره ونواهيه سبحانه في جوارحهم وأسرارهم وأرواحهم أو الذين حفظوا حدود الله المعلومة فأقاموها على أنفسهم وعلى غيرهم ، وقيل : هم القائمون في مقام العبودية بعد كشف صفات الربوبية لهم فلا يتجاوزون ذلك وإن حصل لهم ما حصل فهم في مقام التمكين والصحو لا يقولون ما يقوله سكارى المحبة ولا يهيمون في أودية الشطحات.

وفي الآية نعي على أناس ادعوا الانتظام في سلك حزب الله تعالى وزمرة أوليائه وهم قد ضيعوا الحدود وخرقوا سفينة الشريعة وتكلموا بالكلمات الباطلة عند المسلمين على اختلاف فرقهم حتى عند السادة الصوفية فإنهم أوجبوا حفظ المراتب ، وقالوا : إن تضييعها زندقة.

وقد خالطتهم فرأيت منهم

خبائث بالمهيمن نستجير

ولعمري إن المؤمن من ينكر على أمثالهم فإياك أن تغتر بهم (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالإيمان الحقّ المقيمين في مقام الاستقامة واتباع الشريعة (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي ما صح منهم ذلك ولا استقام فإن الوقوف عند القدر من شأن الكاملين.

ومن هنا قيل : لا تؤثر همة العارف بعد كمال عرفانه أي إذا تيقن وقوع كل شيء بقدره تعالى الموافق للحكمة البالغة وأن ما شاء الله ما كان ولم يشأ لم يكن ولم يتهم الله سبحانه في شيء من الفعل والترك سكن تحت كهف

٥١

الأقدار وسلم لمدعي الإرادة وأنصت لمنادي الحكمة وترك مراده لمراد الحبيب بل لا يريد إلا ما يريده ، وهو الذي يقتضيه مقام العبودية المحضة الذي هو أعلى المقامات ودون ذلك مقام الإدلال ، ولقد كان حضرة مولانا القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس‌سره في هذا المقام وله كلمات تشعر بذلك لكن لم يتوف قدس‌سره حتى انتقل منه إلى مقام العبودية المحضة كما نقل مولانا عبد الوهاب الشعراني في الدرر واليواقيت ، وقد ذكر أن هذا المقام كان مقام تلميذه حضرة مولانا أبي السعود الشبلي قدس‌سره (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) أي ليصفهم بالضلال عن طريق التسليم والانقياد لأمره والرضا بحكمه (بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) إلى التوحيد العلمي ورؤية وقوع كل شيء بقضائه وقدره (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) أي ما يجب عليهم اتقاؤه في كل مقام من مقامات سلوكهم وكل مرتبة من مراتب وصولهم فإذا بين لهم ذلك فإن أقدموا في بعض المقامات على ما تبين لهم وجوب اتقائه أضلهم لارتكابهم ما هو ضلال في دينهم وإلا فلا (أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم دقائق ذنوبهم وإن لم يتفطن لها أحد.

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) لا يخفى أن توبة الله سبحانه على كل من النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه بحسب مقامه ، وذكر بعضهم أن التوبة إذا نسبت إلى العبد كانت بمعنى الرجوع من الزلات إلى الطاعات وإذا نسبت إلى الله سبحانه كانت بمعنى رجوعه إلى العباد بنعت الوصال وفتح الباب ورفع الحجاب (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) وذلك لاستشعار سخط المحبوب (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أي تحققوا ذلك فانقطعوا إليه سبحانه ورفعوا الوسائط (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) حيث رأى سبحانه انقطاعهم إليه وتضرعهم بين يديه ، وقد جرت عادته تعالى مع أهل محبته إذا صدر منهم ما ينافي مقامهم بأدبهم بنوع من الحجاب حتى إذا ذاقوا طعم الجناية واحتجبوا عن المشاهدة وعراهم ما عراهم مما أنساهم دنياهم وأخراهم أمطر عليهم وابل سحاب الكرم وأشرق على آفاق أسرارهم أنوار القدم فيؤنسهم بعد يأسهم ويمن عليهم بعد قنوطهم (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) ، وما أحلى قوله :

هجروا والهوى وصال وهجر

هكذا سنّت الغرام الملاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) في جميع الرذائل بالاجتناب عنها (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) نية وقولا وفعلا أي اتصفوا بما اتصفوا به من الصدق وقيل : خالطوهم لتكونوا مثلهم فكل قرين بالمقارن يقتدي.

وفسر بعضهم الصادقين بالذين لم يخلفوا الميثاق الأول فإنه أصدق كلمة ، وقد يقال : الأصل الصدق في عهد الله كما قال تعالى : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ) [الأحزاب : ٢٣] ثم في عقد العزيمة ووعد الخليقة كما قال سبحانه في إسماعيل : (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) [مريم : ٥٤] وإذا روعي الصدق في المواطن كلها كالخاطر والفكر والنية والقول والعمل صدقت المنامات والواردات والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات فهو أصل شجرة الكمال وبذر ثمرة الأحوال وملاك كل خير وسعادة ؛ وضده الكذب فهو أسوأ الرذائل وأقبحها وهو منافي المروءة كما قالوا : لا مروءة لكذوب (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) إشارة إلى أنه يجب على كل مستعد من جماعة سلوك طريق طلب العلم إذ لا يمكن لجميعهم أما ظاهرا فلفوات المصالح وأما باطنا فلعدم الاستعداد للجميع.

والفقه من علوم القلب وهي إنما تحصل بالتزكية والتصفية وترك المألوفات واتباع الشريعة. فالمراد من النفر السفر المعنوي وهذا هو العلم النافع ، وعلامة حصوله عدم خشية أحد سوى الله تعالى ، ألا ترى كيف نفي الله عمن

٥٢

خشي غيره سبحانه الفقه فقال : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) [الحشر : ١٣] وعلى هذا فحق لمثلي أن ينوح على نفسه ، وقد صرح بعض الأكابر أن الفقه علم راسخ في القلب ، ضاربة عروقه في النفس ، ظاهر أثره على الجوارح لا يمكن لصاحبه أن يرتكب خلاف ما يقتضيه إلا إذا غلب القضاء والقدر ، وقد أنزل الله تعالى كما قيل على بعض أنبياء بني إسرائيل عليهم‌السلام : لا تقولوا العلم بالسماء من ينزل به ولا في تخوم الأرض من يصعد به ولا من وراء البحر من يعبر ويأتي به ، العلم مجعول في قلوبكم تأدبوا بين يدي بآداب الروحانيين وتخلقوا بأخلاق الصديقين ، أظهر العلم من قلوبكم حتى يغمركم ويغطيكم. وجاء «من اتقى الله أربعين صباحا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه» وإذا تحققت ذلك علمت أن دعوى قوم اليوم الفقه بالمعنى الذي ذكرناه مع تهافتهم على المعاصي تهافت الفراش على النار وعقدهم الحلقات عليها دعوى كاذبة مصادمة للعقل والنقل وهيهات أن يحصل لهم ذلك الفقه ما داموا على تلك الحال ولو ضربوا رءوسهم بألف صخرة صماء ، وعطف سبحانه قوله : (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) على قوله تعالى : (لِيَتَفَقَّهُوا) إشارة إلى أن الإنذار بعد التفقه والتحلي بالفضائل إذ هو الذي يرجى نفعه :

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها

فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يسمع ما تقول ويقتدى

بالقول منك وينفع التعليم

ولذا قال جل وعلا : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) إشارة إلى الجهاد الأكبر ولعله تعليم لكيفية النفر المطلوب وبيان لطريق تحصيل الفقه أي قاتلوا كفار قوى نفوسكم بمخالفة هواها. وفي الخبر «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك» (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أي قهرا وشدة حتى تبلغوا درجة التقوى (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بالولاية والنصر (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) أي يصيبهم بالبلاء ليتوبوا (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) وفي الأثر البلاء سوط من سياط الله تعالى يسوق به عباده إليه ويرشد إلى ذلك قوله تعالى : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [لقمان : ٣٢] وقوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) [يونس : ١٢] وبالجملة إن البلاء يكسر سورة النفس فيلين القلب فيتوجه إلى مولاه إلا أن من غلبت عليه الشقاوة ذهب منه ذلك الحال إذا صرف عنه البلاء كما يشير إليه قوله تعالى : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت : ٦٥] وقوله سبحانه : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) [يونس : ١٢] (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من جنسكم لتقع الألفة بينكم وبينه فإن الجنس إلى الجنس يميل وحينئذ يسهل عليكم الاقتباس من أنواره صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرئ كما قدمنا «من أنفسكم» أي أشرافكم في كل شيء ويكفيه شرفا أنه عليه الصلاة والسلام أول التعينات وأنه كما وصفه الله تعالى على خلق عظيم :

وعلى تفنن واصفيه بوصفه

يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف

(عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي يشق عليه عليه الصلاة والسلام مشقتكم فيتألم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما يؤلمكم كأن يتألم الشخص إذا عرا بعض أعضائه مكروه ، وعن سهل أنه قال : المعنى شديد عليه غفلتكم عن الله تعالى ولو طرفة عين فإن العنت ما يشق ولا شيء أشق في الحقيقة من الغفلة عن المحبوب (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي على صلاح شأنكم أو على حضوركم وعدم غفلتكم عن مولاكم جل شأنه (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ) يدفع عنهم ما يؤذيهم (رَحِيمٌ) يجلب لهم ما ينفعهم ، ومن آثار الرأفة تحذيرهم من الذنوب والمعاصي ومن آثار الرحمة إضافته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم العلوم والمعارف

٥٣

والكمالات ، قال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : علم الله تعالى عجز خلقه عن طاعته فعرفهم ذلك لكي يعلموا أنهم لا ينالون الصفو من خدمته فأقام سبحانه بينه وبينهم مخلوقا من جنسهم في الصورة فقال : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) وألبسه من نعته الرأفة والرحمة وأخرجه إلى الخلق سفيرا صادقا وجعل طاعته طاعته وموافقته موافقته فقال سبحانه : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] ثم أفرده لنفسه خاصة وآواه إليه بشهوده عليه في جميع أنفاسه وسلى قلبه عن إعراضهم عن متابعته بقوله جل شأنه : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) وأعرضوا عن قبول ما أنت عليه لعدم الاستعداد وزواله (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) لا حاجة لي بكم كما لا حاجة للإنسان إلى العضو المتعفن الذي يجب قطعه عقلا فالله تعالى كما في (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا مؤثر غيره ولا ناصر سواه (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) لا على غيره من جميع المخلوقات إذ لا أرى لأحد منهم فعلا ولا حول ولا قوة إلا بالله (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) المحيط بكل شيء ، وقد ألبسه سبحانه أنوار عظمته وقواه على حمل تجلياته ولو لا ذلك لذاب بأقل من لمحة عين ، وإذا قرئ «العظيم» بالرفع فهو صفة للرب سبحانه ، وعظمته جل جلاله مما لا نهاية لها وما قدروا الله حق قدره نسأله بجلاله وعظمته أن يوفقنا لإتمام تفسير كتابه حسبما يحب ويرضى فلا إله غيره ولا يرجى الا خيره.

٥٤

سورة يونس

مكية على المشهور واستثنى منها بعضهم ثلاث آيات (١)(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) قال : إنها نزلت في المدينة ، وحكى ابن الفرس والسخاوي أن من أولها إلى رأس أربعين آية مكي والباقي مدني ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما روايتان ، فأخرج ابن مردويه من طريق العوفي عنه ومن طريق ابن جريج عن عطاء عنه أنها مكية ، وأخرج من طريق عثمان بن عطاء عن أبيه عنه أنها مدنية ، والمعول عليه عند الجمهور الرواية الأولى ، وآياتها مائة وتسع عند الجميع غير الشامي فإنها عنده مائة وعشر آيات.

ووجه مناسبتها لسورة براءة أن الأولى ختمت بذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذه ابتدأت به ، وأيضا أن في الأول بيانا لما يقوله المنافقون عند نزول سورة من القرآن وفي هذه بيان لما يقوله الكفار في القرآن حيث قال سبحانه : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [يونس : ٣٨] الآية ، وقال جل وعلا : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) [يونس : ١٥] وأيضا في الأولى ذم المنافقين بعدم التوبة والتذكر إذا أصابهم البلاء في قوله سبحانه : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة : ١٢٦] على أحد الأقوال وفي هذه ذم لمن يصيبه البلاء فيرعوي ثم يعود وذلك في قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) [يونس : ١٢] وفي قوله سبحانه: (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [يونس : ٢٢] إلى أن قال سبحانه : (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) [يونس : ٢٣] وأيضا في الأولى براءة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المشركين مع الأمر بقتالهم على أتم وجه وفي هذه براءته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عملهم لكن من دون أمر بقتال بل أمر فيها عليه الصلاة والسلام أن يظهر البراءة فيها على وجه يشعر بالإعراض وتخلية السبيل كما قيل على ضد ما في الأولى وهذا نوع من المناسبة أيضا وذلك في قوله تعالى : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس : ٤١] إلى غير ذلك ، والعجب من الجلال السيوطي عليه الرحمة كيف لم يلح له في تناسق الدرر وجه المناسبة بين السورتين وذكر وجه المناسبة بين هذه السورة وسورة الأعراف وقد يوجد في الإسقاط ما لا يوجد في الإسقاط

__________________

(١) قوله (فلعلك تارك) إلخ كذا بخط مؤلفه وهذه الثلاث من سورة هود وسيأتي له فيها مثل هذه العبارة وعبارة الخطيب المفسر مكية الا (فإن كنت في شك) الآيتين او الثلاث او (ومنهم من يؤمن به) الآية ا ه مصححه.

٥٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ

٥٦

بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٩)

(الر) بتفخيم الراء المفتوحة وهو الأصل وأمال أبو عمرو وبعض القراء إجراء لألف الراء مجرى الألف المنقلبة عن الياء فإنهم يميلونها تنبيها على أصلها ، وفي الإمالة هنا دفع توهم أن ـ را ـ حرف كما ولا فقد صرحوا أن الحروف يمتنع فيها الإمالة ، وقرأ ورش بين بين ، والمراد من (الر) على ما روى جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنا الله آرى ، وفي رواية أخرى أنها بعض الرحمن وتمامه حم ون ، وعن قتادة أنها بعض الراحم وهو من أسماء القرآن ، وقيل : هي أسماء للأحرف المعلومة من حروف التهجي أتي بها مسرودة على نمط التعديد بطريق التحدي وعليه فلا محل لها من الإعراب ، والكلام فيها وفي نظائرها شهير.

والأكثرون على أنها اسم للسورة فمحلها الرفع على أنها خبر لمبتدإ محذوف أي هذه السورة مسماة بكذا وهو أظهر من الرفع على الابتداء لعدم سبق العلم بالتسمية بعد فحقها الإخبار بها لا جعلها عنوان الموضوع لتوقفه على علم المخاطب بالانتساب ، والإشارة إليها قبل جريان ذكرها لصيرورتها في حكم الحاضر لاعتبار كونها على جناح الذكر كما يقال في الصكوك : هذا ما اشترى فلان ، وجوز النصب بتقدير فعل لائق بالمقام كاذكر واقرأ وكلمة (تِلْكَ) إشارة إليها إما على تقدير كون (الر) مسرودا على نمط التعديد فقد نزل حضور مادتها منزلة ذكرها فأشير إليها كأنه قيل : هذه الكلمات المؤلفة من جنس هذه الحروف المبسوطة إلخ ، وإما على تقدير كونها اسما للسورة فقد نوهت بالإشارة إليها بعد تنويهها بتعيين اسمها أو الأمر بذكرها أو بقراءتها. وما في اسم الإشارة من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتها في الفخامة ومحله الرفع على أنه مبتدأ خبره قوله عزوجل : (آياتُ الْكِتابِ) وعلى تقدير كون (الر) مبتدأ فهو إما مبتدأ ثان أو بدل من الأول ، والمعنى هي آيات مخصوصة منه مترجمة باسم مستقل ، والمقصود ببيان بعضيتها منه وصفيتها بما أشير إلى اتصافه به من النعوت الفاضلة والصفات الكاملة ، والمراد بالكتاب إما جميع القرآن العظيم وإن لم ينزل بعد إما باعتبار تعينه وتحققه في العلم أو في اللوح أو باعتبار نزوله جملة إلى بيت العزة من السماء الدنيا وإما جميع القرآن النازل وقتئذ المتفاهم بين الناس إذ ذاك فإنه كما يطلق على المجموع الشخصي يطلق على مجموع ما نزل في كل كذا قال شيخ الإسلام.

وأنت تعلم أن المشهور عن السلف تفويض معنى (الر) وأمثاله إلى الله تعالى وحيث لم يظهر المراد منها لا معنى للتعرض لإعرابها ، وقد ذكروا أنه يجوز في الإشارة أن تكون لآيات هذه السورة وأن تكون لآيات القرآن ويجوز

٥٧

في الكتاب أن يراد به السورة وأن يراد القرآن فتكون الصور أربعا. إحداها الإشارة إلى آيات القرآن والكتاب بمعنى السورة ولا يصح إلا بتخصيص آيات أو تأويل بعيد. وثانيها عكسه ولا محذور فيه. وثالثها الإشارة إلى آيات السورة والكتاب بمعنى السورة. ورابعها الإشارة إلى آيات القرآن والكتاب بمعنى القرآن ، ومرجع إفادة الكلام عليهما باعتبار صفة الكتاب الآتية ، وجوز الإشارة إلى الآيات لكونها في حكم الحاضر وإن لم تذكر كما في المثال المذكور آنفا. وفي أمالي ابن الحاجب أن المشار إليه لا يشترط أن يكون موجودا حاضرا بل يكفي أن يكون موجودا ذهنا. وفي الكشاف في تفسير قوله تعالى : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف : ٧٨] ما يؤيده ، وأوثر لفظ تلك لما أشار إليه الشيخ ولكونه في حكم الغائب من وجه ولا يخلو ما ذكروه عن دغدغة ، وأما حمل الكتاب على الكتب التي خلت قبل القرآن من التوراة والإنجيل وغيرهما كما أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة فهو في غاية البعد فتأمل ، وقوله تعالى : (الْحَكِيمِ) صفة للكتاب ووصف بذلك لاشتماله على الحكم فيراد بالحكيم ذو الحكمة على أنه للنسبة كلابن وتامر ، وقد يعتبر تشبيه الكتاب بإنسان ناطق بالحكمة على طريق الاستعارة بالكناية وإثبات الحكمة قرينة لها ، وجوز أن يكون وصفه بذلك لأنه كلام حكيم فالمعنى حكيم قائله فالتجوز في الإسناد كليله قائم ونهاره صائم ، وقيل : لأن آياته محكمة لم ينسخ منها شيء أي بكتاب آخر ففعيل بمعنى مفعل وقد تقدم ما له وما عليه (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) الهمزة لإنكار تعجبهم ولتعجيب السامعين منه لوقوعه في غير محله ، والمراد بالناس كفار العرب ، والتعبير عنهم باسم الجنس من غير تعرض لكفرهم الذي هو المدار لتعجبهم كما تعرض له فيما بعد لتحقيق ما فيه من الشركة بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبينهم وتعيين مدار التعجيب في زعمهم ثم تبيين خطئهم وإظهار بطلان زعمهم بإيراد الإنكار ، واللام متعلقة بمحذوف وقع حالا من (عَجَباً) كما هو القاعدة في نعت النكرة إذا تقدم عليها ، وقيل : متعلقة بعجبا بناء على التوسع المشهور في الظروف ، وبعضهم جعلها متعلقة به لا على طريق المفعولية كما في قوله :

عجبت لسعي الدهر بيني وبينها

بل على طريق التبيين كما في (هَيْتَ لَكَ) [يوسف : ٢٣] وسقيا لك ومثل ذلك يجوز تقديمه على المصدر. وأنت تعلم أن هذا قول بالتعلق بمقدر في التحقيق ، وقيل : إنها متعلقة به لأنه بمعنى المعجب والمصدر إذا كان بمعنى مفعول أو فاعل يجوز تقديم معموله عليه ، وجوز أيضا تعلقه بكان وإن كانت ناقصة بناء على جوازه ، و (عَجَباً) خبر كان قدم على اسمها وهو قوله سبحانه : (أَنْ أَوْحَيْنا) لكونه مصب الإنكار والتعجيب وتشويقا إلى المؤخر ولأن في الاسم ضرب تفصيل ففي تقديمه رعاية للأصل نوع إخلال بتجاوب أطراف النظم الكريم. وقرأ ابن مسعود «عجب» بالرفع على أنه اسم كان وهو نكرة والخبر (أَنْ أَوْحَيْنا) وهو معرفة لأن أن مع الفعل في تأويل المصدر المضاف إلى المعرفة فهو كقول حسان :

كأن سبيئة من بيت رأس

يكون مزاجها عسل وماء

وحمله بعضهم على القلب ، وفي قبوله مطلقا أو إذا تضمن لطيفة خلاف والمعول عليه اشتراط التضمن وهو غير ظاهر هنا ، وحكي عن ابن جني أنه قال : إنما جاز ذلك في البيت من حيث كان عسل وماء جنسين فكأنه قال : يكون مزاجها العسل والماء ، ونكرة الجنس تفيد مفاد معرفته ، ألا ترى أنك تقول : خرجت فإذا أسد بالباب أي فإذا الأسد بالباب لا فرق بينهما لأنك في الموضعين لا تريد أسدا معينا ، ولهذا لم يجز هذا في قولك : كان قائم أخاك وكان جالس أباك لأنه ليس في جالس وقائم معنى الجنسية التي تتلاقى معنى نكرتها ومعرفتها.

ومعنى الآية على هذا كان الوحي للناس هذا الجنس من الفعل وهو التعجب ، ولا يخفى أن المصدر المتحصل

٥٨

هو المصدر المضاف إلى المعرفة كما سمعت فاعتباره محلى بال الجنسية خلاف الظاهر. وأجاز بعضهم الإخبار عن المعرفة بالنكرة في باب النواسخ خاصة سواء كان هناك نفي أو ما في حكمه أم لا. وابن جني يجوز ذلك إذا كان نفي أو ما في حكمه ولا يجوز إذا لم يكن ، وفي الآية قد تقدم الاستفهام الإنكاري على الناسخ وهو في حكم النفي. واختار غير واحد كون كان تامة. و «عجب» فاعل لها و (أَنْ أَوْحَيْنا) بتقدير حرف جر متعلق بعجب أي لأن أوحينا أو من أن أوحينا أو هو بدل منه بدل كل من كل أو بدل اشتمال ، والإنكار متوجه إلى كونه عجبا لا إلى حدوثه وكون الأبدال في حكم تنحية المبدل منه ليس معناه إهداره بالمرة كما تقرر في موضعه ، واقتصر في اللوامح على أن (لِلنَّاسِ) خبر كان ، وتعقب بأن ركيك معنى لأنه يفيد إنكار صدوره من الناس لا مطلقا وفيه ركاكة ظاهرة فافهم ، وإنما قيل : للناس لا عند الناس للدلالة على أنهم اتخذوه أعجوبة لهم وفيه من زيادة تقبيح حالهم ما لا يخفى (إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) أي إلى بشر من جنسهم كقوله تعالى حكاية : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤] وقوله سبحانه : (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [المؤمنون : ٢٤] أو إلى رجل من أفناء رجالهم من حيث المال لا من حيث النسب لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان من مشاهيرهم فيه وكان منه بمكان لا يدفع فهو كقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] وفي بعض الآثار أنهم كانوا يقولون : العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب والعجب من فرط جهلهم أما في قولهم الأول فحيث لم يعلموا أن بعث الملك إنما يكون عند كون المبعوث إليهم ملائكة كما قال تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٥] وأما عامة البشر فبمعزل عن استحقاق مفاوضة الملائكة لأنها منوطة بالتناسب فبعث الملك إليهم مزاحم للحكمة التي عليها يدور فلك التكوين والتشريع وإنما الذي تقتضيه الحكمة بعث الملك من بينهم إلى الخواص المختصين بالنفوس الزكية المؤيدين بالقوة القدسية المتعلقين بكلا العالمين الروحاني والجسماني ليتأتى لهم الاستفاضة والإفاضة وهذا تابع للاستعداد الأزلي كما لا يخفى ، وأما في قولهم الثاني فلأن مناط الاصطفاء للإيحاء إلى شخص هو التقدم في الاتصاف بما علمت والسبق في إحراز الفضائل وحيازة الملكات السنية جبلة واكتسابا ، ولا ريب لأحد في أن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القدح المعلى من ذلك بل له عليه الصلاة والسلام فيه غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية يقول رائيه :

وأحسن منك لم تر قط عيني

ومثلك قط لم تلد النساء

خلقت مبرأ من كل عيب

كأنك قد خلقت كما تشاء

وكذا يقول :

ولو صورت نفسك لم تزدها

على ما فيك من كرم الطباع

وأما التقدم في الرئاسة الدنيوية والسبق في نيل الحظوظ الدنية فلا دخل له في ذلك قطعا بل له إخلال به غالبا ، وما أحسن قول الشافعي رضي الله تعالى عنه من أبيات :

لكن من رزق الحجى حرم الغنى

ضدان مفترقان أيّ تفرق

وما ذكروه من اليتم أن رجع إلى ما في الآية على التوجيه الثاني فبطلانه بطلانه وإن أرادوا أن أصل اليتم مانع من الإيحاء إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو أظهر بطلانا وأوضح هذيانا وما ألطف ما قيل إن أنفس الدر يتيمه ، وقيل للحسن : لم جعل الله تعالى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتيما؟ فقال : لئلا يكون لمخلوق عليه منة فإن الله سبحانه هو الذي آواه وأدبه ورباه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (هذا) والوجه الثاني من الوجهين السابقين في قوله سبحانه : (إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) على الوجه الذي ذكرناه هو الذي أراده

٥٩

صاحب الكشاف ولم يرتضه الجلال السيوطي وزعم أن التحامي عنه أولى ، ثم قال : والذي عندي في تفسير ذلك أن المراد إلى مشهور بينهم يعرفون نسبه وجلالته وأمانته وعفته كما قال سبحانه : في آخر السورة التي قبل (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] فإن هذا هو محل إنكار العجب ويكون هذا وجه مناسبة وضع هذه السورة بعد تلك واعتلاق أول هذه بآخر تلك ، ونظيره (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ) [النحل : ١١٣] (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩] إلى آخر ما قال ، وتعقب بأنه غير ظاهر لأنه وإن كان أعظم مما ذكر لكن السياق يقتضي بيان كفرهم وتذليلهم وتحقير من أعزه الله تعالى وعظمه والذي يقتضيه سبب النزول تعين الوجه الأول هنا. فقد أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لما بعث الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم فقالوا : الله تعالى أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد عليه الصلاة والسلام فأنزل سبحانه (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) الآية ، وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) [يوسف : ١٠٩ ، النحل : ٤٣ ، الأنبياء: ٧] الآية.

فلما كرر الله سبحانه عليهم الحجج قالوا : وإذا كان بشرا فغير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أحق بالرسالة فلو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم فأنزل الله تعالى ردا عليهم (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢] الآية ومنه يعلم أن ما حكي في الوجه الثاني سبب لنزول آية أخرى (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) أي أخبرهم بما فيه تخويف لهم مما يترتب على فعل ما لا ينبغي ، والمراد به جميع الناس الذين يمكنه عليه الصلاة والسلام تبليغهم ذلك لا ما أريد بالناس أولا وهو النكتة في إيثار الإظهار على الإضمار ، وكون الثاني عين الأول عند إعادة المعرفة ليس على الإطلاق ، و (أَنْ) هي المفسرة لمفعول الإيحاء المقدر وقد تقدم عليها ما فيه معنى القول دون حروفه وهو الإيحاء أو هي المخففة من المثقلة على أن اسمها ضمير الشأن ، والجملة الأمرية خبرها وفي وقوعها خبر ضمير الشأن دون تأويل وتقدير قول اختلاف ، فذهب صاحب الكشف إلى أنه لا يحتاج إلى ذلك لأن المقصود منها التفسير وخالفه غير واحد في ذلك وذهبوا إلى أنه لا فرق بين خبره وخبر غيره.

وقال بعضهم : هي المصدرية الخفيفة في الوضع بناء على أنها توصل بالأمر والنهي والكثير على المنع ، وذكر أبو حيان هذا الاحتمال هنا مع أنه نقل عنه في المغني أن مذهبه المنع لما أنه يفوت معنى الأمر إذا سبك بالمصدر.

واعترض بأنه يفوت معنى المضي والحالية والاستقبال المقصود أيضا مع الاتفاق على جواز وصلها بما يدل على ذلك ، وأجيب بأنه قد يقال : بأن بينهما فرقا فإن المصدر يدل على الزمان التزاما فقد تنصب عليه قرينة فلا يفوت معناه بالكلية بخلاف الأمر والنهي فإنه لا دلالة للمصدر عليهما أصلا. وقال بعض المدققين : إن المصدر كما يجوز أخذه من جوهر الكلمة يجوز أخذه من الهيئة وما يتبعها فيقدر في هذا ونحوه أوحينا إليه الأمر بالإنذار كما قدر في ـ أن لا تزني خير ـ عدم الزنا خير ، ولا يخفى أن هذا البحث يجري في أن المخففة من الثقيلة لأنها مصدرية أيضا وإن أقل الاحتمالات مئونة احتمال التفسير (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) بما أوحيناه إليك وصدقوه (أَنَّ لَهُمْ) أي بأن لهم (قَدَمَ صِدْقٍ) أي سابقة ومنزلة رفيعة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) وأصل القدم العضو المخصوص ، وأطلقت على السبق مجازا مرسلا لكونها سببه وآلته وأريد من السبق الفضل والشرف والتقدم المعنوي إلى المنازل الرفيعة مجازا أيضا فالمجاز هنا بمرتبتين ، وقيل : المراد تقدمهم على غيرهم في دخول الجنة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى أدخلها أنا وعلى الأمم حتى تدخلها أمتي» ، وقيل : تقدمهم في البعث وأصل الصدق ما يكون في الأقوال ويستعمل كما قال الراغب في الأفعال فيقال : صدق في القتال إذا وفاه حقه وكذا

٦٠