روح المعاني - ج ٦

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٦

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٣

عن رجمه عليه‌السلام لعزته بل لمراعاة جانب رهطه ردّ عليهم ذلك بأنكم ما قدرتم الله تعالى حق قدره ولم تراعوا جنابه القوي فكيف تراعون رهطي الأذلة ، وأيا ما كان فضمير (اتَّخَذْتُمُوهُ) عائد إلى الله تعالى وهو الذي ذهب إليه جمهور المفسرين ، وروي عن ابن عباس والحسن وغيرهما ، و ـ الظهري ـ منسوب إلى الظهر ، أصله المرمي وراء الظهر ، والكسر من تغييرات النسب كما قالوا في النسبة إلى أمس : أمسي بالكسر وإلى الدهر دهري بالضم ، ثم توسعوا فيه فاستعلموه للمنسي المتروك ، وذكروا أنه يحتمل أن يكون في الكلام استعارة تصريحية وأن يكون استعارة تمثيلية.

وزعم بعضهم أن الضمير له تعالى ، و ـ الظهري ـ العون وما يتقوى به ، والجملة في موضع الحال ، والمعنى أفضلتم الرهط على الله تعالى ولم تراعوا حقه سبحانه والحال أنكم تتخذونه سند ظهوركم وعماد آمالكم.

ونقل ابن عطية هذا المعنى عن جماعة ، وقيل : الظهري المنسي ، والضمير عائد على الشرع الذي جاء به شعيب عليه‌السلام وإن لم يذكر صريحا ، وروي عن مجاهد أو على أمر الله ، ونقل عن الزجاج ، وقيل : الظهري بمعنى المعين ، والضمير لله تعالى ، وفي الكلام مضاف محذوف أي عصيانه والمعنى على ما قرره أبو حيان واتخذتم عصيانه تعالى عونا وعدة لدفعي ، وقيل : لا حذف والضمير للعصيان وهو الذي يقتضيه كلام المبرد ، ولا يخفى ما في هذه الأقوال من الخروج عن الظاهر من غير فائدة ، ومما ينظم في سلكها تفسير العزيز بالملك زعما أنهم كانوا يسمون الملك عزيزا على أن من له أدنى ذوق لا يكاد يسلم صحة ذلك فتفطن ، ونصب (ظِهْرِيًّا) على أنه مفعول ثان ـ لاتخذتموه ـ والهاء مفعوله الأول ، و (وَراءَكُمْ) ظرف له أو حال من (ظِهْرِيًّا).

(إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) تهديد عظيم لأولئك الكفرة الفجرة أي أنه سبحانه قد أحاط علما بأعمالكم السيئة التي من جملتها رعايتكم جانب الرهط دون رعاية جنابه جل جلاله في فيجازيكم على ذلك ، وكذا قوله : (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي غاية تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ، وهو مصدر مكن يقال : مكن مكانة إذا تمكن أبلغ تمكن ، والميم على هذا أصلية ، وفي البحر يقال : المكان والمكانة مفعل ومفعلة من الكون والميم حينئذ زائدة ، وفسر ابن زيد ـ المكانة ـ بالحال يقال : على مكانتك يا فلان إذا أمرته أن يثبت على حاله كأنك قلت : اثبت على حالك التي أنت عليها لا تنحرف ، وهو من استعارة العين للمعنى كما نص عليه غير واحد ، وحاصل المعنى هاهنا اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقة لي وسائر ما لا خير فيه.

وقرأ أبو بكر ـ مكاناتكم ـ على الجمع وهو باعتبار جمع المخاطبين كما أن الافراد باعتبار الجنس ، والجار والمجرور كما قال بعضهم : يحتمل أن يكون متعلقا بما عنده على تضمين الفعل على معنى البناء ونحوه كما تقول : عمل على الجد وعلى القوة ونحوهما ، وأن يكون في موضع الحال أي اعملوا قارين وثابتين على مكانتكم.

(إِنِّي عامِلٌ) على مكانتي حسبما يؤيدني الله تعالى ويوفقني بأنواع التأييد والتوفيق ، وكأنه حذف على مكانتي للاختصار ولما فيه من زيادة الوعيد ، وقوله سبحانه : (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) استئناف وقع جواب سؤال مقدر ناشئ من تهديده عليه‌السلام إياهم بقوله : (اعْمَلُوا) إلخ كأن سائلا منهم سأل فما ذا يكون بعد ذلك؟ فقيل : (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ولذا سقطت الفاء وذكرت في آية الأنعام للتصريح بأن الوعيد ناشئ ومتفرع على إصرارهم على ما هم عليه والتمكن فيه ، وما هنا أبلغ في التهويل للإشعار بأن ذلك مما يسأل عنه ويعتنى به ، والسؤال المقدر يدل على ما دلت عليه الفاء مع ما في ذلك من تكثير المعنى بتقليل اللفظ ، وكأن الداعي إلى الإتيان بالأبلغ هنا دون ما تقدم أن القوم قاتلهم الله تعالى بالغوا في الاستهانة به عليه‌السلام وبلغوا الغاية في ذلك فناسب أن يبالغ لهم في التهديد ويبلغ فيه الغاية وإن كانوا في عدم الانتفاع كالأنعام ، وما فيها نحو ذلك.

٣٢١

وقال بعض أجلة الفضلاء : إن اختيار إحدى الطريقين ثمة والأخرى هنا وإن كان مثله لا يسأل عنه لأنه دوري لأن أول الذكرين يقتضي التصريح فيناسب في الثاني خلافه انتهى ، وهو دون ما قلناه ، و (مَنْ) في قوله سبحانه : (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) قيل : موصولة مفعول العلم وهو بمعنى العرفان ، وجملة (يَأْتِيهِ عَذابٌ) صلة الموصول ، وجملة (يُخْزِيهِ) صفة (عَذابٌ) ووصفه بالإخزاء تعريضا بما أوعدوه عليه‌السلام من الرجم فإنه مع كونه عذابا فيه خزي ظاهر ، وقوله تعالى : (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) عطف على (مَنْ يَأْتِيهِ) و (مَنْ) أيضا موصولة ، وجوز أن تكون (مَنْ) في الموضعين استفهامية ، والعلم على بابه وهي معلقة له عن العمل.

واستظهر أبو حيان الموصولية ، وليس هذا العطف من عطف القسيم على قسيمه كما في ـ سيعلم الصادق والكاذب ـ إذ ليس القصد إلى ذكر الفريقين ، وإنما القصد إلى الرد على القوم في العزم على تعذيبه بقولهم : (لَرَجَمْناكَ) والتصميم على تكذيبه بقولهم : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) [هود : ٨٧] إلخ فكأنه قيل : سيظهر لكم من المعذب أنتم أم نحن ومن الكاذب في دعواه أنا أم أنتم ؛ وفيه إدراج حال الفريقين أيضا.

وفي الإرشاد أن فيه تعريضا بكذبهم في ادعائهم القوة والقدرة على رجمه عليه‌السلام ، وفي نسبته إلى الضعف والهوان وفي ادعائهم الإبقاء عليه لرعاية جانب الرهط ، وقال الزمخشري : إنه كان القياس ، ومن هو صادق بدل هذا المعطوف لأنه قد ذكر عملهم على مكانتهم ، وعمله على مكانته ، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم فحينئذ ينصرف (مَنْ يَأْتِيهِ) إلخ إلى الجاحدين ومن هو صادق إلى النبي المبعوث ولكنهم لما كانوا يدعونه عليه‌السلام كاذبا قال : ومن هو كاذب بمعنى في زعمكم ودعواكم تجهيلا لهم يعني أنه عليه‌السلام جرى في الذكر على ما اعتادوه في تسميته كاذبا تجهيلا لهم ، والمعنى ستعلمون حالكم وحال الصادق الذي سميتموه كاذبا لجهلكم ، وليس المراد ستعلمون أنه كاذب في زعمكم فلا يرد ما توهم من أن كذبه في زعمهم واقع معلوم لهم الآن فلا معنى لتعليق علمه على المستقبل ، وقال ابن المنير : الظاهر أن الكلامين جميعا لهم ـ فمن يأتيه ـ إلخ متضمن ذكر جزائهم ، (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) متضمن ذكر جرمهم الذي يجازون به وهو الكذب ، وهو من عطف الصفة على الصفة والموصوف واحد كما تقول لمن تهدده : ستعلم من يهان ومن يعاقب ، وأنت تعني المخاطب في الكلامين فيكون في ذكر كذبهم تعريض لصدقه وهو أبلغ وأوقع من التصريح ، ولذلك لم يذكر عاقبة شعيب عليه‌السلام استغناء بذكر عاقبتهم ، وقد مر مثل ذلك أول السورة في قوله سبحانه : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) [الزمر : ٤٠] حيث اكتفى بذلك عن أن يقول : ومن هو على خلاف ذلك ، ونظيره (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) [الأنعام : ١٣٥] حيث ذكر فيه إحدى العاقبتين لأن المراد بهذه العاقبة عاقبة الخير لأنها متى أطلقت لا يعني إلا ذلك نحو والعاقبة للمتقين ، ولأن اللام في له يدل على أنها ليست عليه ، واستغنى عن ذكر مقابلتها انتهى ، وتعقبه الطيبي بما رده عليه الفاضل الجلبي (وَارْتَقِبُوا) أي انتظروا ما أقول لكم من حلول ما أعدكم به وظهور صدقه (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) أي منتظر ذلك ، وقيل : المعنى انتظروا العذاب إني منتظر النصرة والرحمة ، وروي ذلك عن ابن عباس ، و (رَقِيبٌ) إما بمعنى مرتقب كالرفيع بمعنى المرتفع أو راقب كالصريم بمعنى الصارم ، أو مراقب كعشير بمعنى معاشر ، والأنسب على ما قيل بقوله : (ارْتَقِبُوا) : الأول وإن كان مجيء فعيل بمعنى اسم الفاعل المزيد غير كثير وفي زيادة (مَعَكُمْ) إظهار منه عليه‌السلام لكمال الوثوق بأمره (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أي عذابنا كما ينبئ عنه قوله سبحانه : (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) إلخ أو وقته فإن الارتقاب يؤذن بذلك (نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) وهو الإيمان الذي وفقناهم له أو بمرحمة كائنة منا لهم وإنما جيء بالفاء في قصتي ثمود ولوط حيث قيل : (فَلَمَّا

٣٢٢

جاءَ أَمْرُنا) وبالواو هاهنا وفي قصة عاد حيث قيل : (وَلَمَّا جاءَ) إلخ لأنه قد سبق هناك سابقة الوعد بقوله سبحانه : (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود : ٦٥] وقوله تعالى : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) [هود: ٨١] وهو يجري مجرى السبب المقتضي لدخول الفاء في معلوله ، وأما هاهنا. وفي قصة عاد فلم يسبق مثل ذلك بل ذكر مجيء العذاب على أنه قصة بنفسه وما قبله قصة أخرى لكنهما متعلقان بقوم واحد فهما متشاركان من وجه مفترقان من آخر ، وذلك مقام الواو كذا قيل.

وتعقب بأن في الكلام هاهنا ذكر الوعد أيضا ، وهو قوله سبحانه : (يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) إلى قوله عزوجل : (رَقِيبٌ) غاية الأمر أنه لم يذكر بلفظ الوعد ومثله لا يكفي في الفرق ، وقيل : إن ذكر الفاء في الموضعين لقرب عذاب قوم صالح ولوط للوعد المذكور فإن بين الأولين والعذاب ثلاثة أيام وبين الآخرين وبينه ما بين قول الملائكة (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) والصبح : وهي سويعات يسيرة. ولا كذلك عذاب قومي شعيب وهود عليهما‌السلام بل في قصة قوم شعيب عليه‌السلام ما يشعر بعدم تضييق زمان مجيء العذاب بناء على الشائع في استعمال (سَوْفَ) على أن من أنصف من نفسه لم يشك في الفرق بين الوعد في قصتي صالح ولوط عليهما‌السلام. والوعد في غيرهما ، فإن الإشعار بالمجيء فيهما ظاهر فحسن تفريعه بالفاء ولا كذلك في غيرهما كذا قيل ، وفيه ما لا يخفى ، ولعل الاقتصار على التفرقة بالقرب وعدمه أقل غائلة مما قيل ، وكذا مما يقال : من أن الإتيان بالفاء ـ لتقدم الوعد وتركها وإن كان هناك وعد للإشارة إلى سوء حال أولئك القومين ومزيد فظاعته حتى أن العذاب حل بهم لا لسبب سبق الوعد بل لمجرد ظلمهم وكأن وجه اعتبار ذلك فيهم دون قومي لوط وصالح عليهما‌السلام أنهم امتازوا عنهم برمي ذينك النبيين بالجنون ومشافهتهما بما لم يشافه به كل من قومي صالح ولوط نبيه فيما قص عنهما في هذه السورة الكريمة فإن في ذلك ما لا يكاد يخفى عليك فتدبر (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) عدل عن الضمير تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بالعلية أي وأخذت أولئك الظالمين بسبب ظلمهم الذي فصل (الصَّيْحَةُ) قيل : صاح بهم جبريل عليه‌السلام فهلكوا وكانت صيحة على الحقيقة ، وجوز البلخي أن يكون المراد بها نوعا من العذاب ، والعرب تقول : صاح بهم الزمان إذا هلكوا ، وقال امرؤ القيس :

فدع عنك نهبا «صيح» في حجراته

ولكن حديث ما حديث الرواحل

والمعول عليه الأول ، وقد سبق في [الأعراف : ٧٨ ، ٩١ ، ١٥٥] (الرَّجْفَةُ) أي الزلزلة بدلها ، ولعلها كانت من مباديها فلا منافاة ، وقيل : غير ذلك فتذكر (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) أي ميتين من جثم الطائر إذا ألصق بطنه بالأرض ، ولذا خص الجثمان بشخص الإنسان قاعدا ، ثم توسعوا فاستعملوا الجثوم بمعنى الإقامة ، ثم استعير من هذا الجاثم للميت لأنه لا يبرح مكانه ، ولما لم يجعل متعلق العلم في قوله سبحانه : (سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ) إلخ نفس مجيء العذاب بل من يجيئه ذلك جعل مجيئه بعد أمرا مسلم الوقوع غنيا عن الإخبار به حيث جعل شرطا ، وجعل تنجية شعيب عليه‌السلام والمؤمنين وإهلاك الكفرة الظالمين جوابا له ومقصود الإفادة ، وإنما قدم التنجية اهتماما بشأنها وإيذانا بسبق الرحمة على الغضب قاله شيخ الإسلام ، و ـ أصبح ـ إما ناقصة أو تامة أي صاروا جاثمين ، أو دخلوا في الصباح حال كونهم جاثمين (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا) أي لم يقيموا (فِيها) متصرفين في أطرافها متقلبين في أكنافها ، والجملة إما خبر بعد خبر أو حال بعد حال.

(أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) العدول عن الإضمار إلى الإظهار للمبالغة في تفظيع حالهم وليكون أنسب بمن شبه هلاكهم بهلاكهم ، وإنما شبه هلاكهم بهلاكهم لأن عذاب كل كان بالصيحة غير أنه روى الكلبي عن

٣٢٣

ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن صيحة ثمود كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم.

وقرأ السلمي وأبو حيوة «بعدت» بضم العين ، والجمهور بكسرها على أنه من بعد يبعد بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى هلك ، ومنه قوله :

يقولون : «لا تبعد» وهم يدفونني

وأين مكان البعد إلا مكانيا

وأما بعد يبعد بالضم فهو البعد ضد القرب قاله ابن قتيبة ، قيل : أرادت العرب بهذا التغيير الفرق بين المعنيين ، وقال ابن الأنباري : من العرب من يسوي بين الهلاك والبعد الذي هو ضد القرب ، وفي القاموس البعد المعروف والموت ، وفعلهما ـ ككرم وفرح ـ بعدا وبعدا بفتحتين ، وقال المهدوي : إن بعد بالضم يستعمل في الخير والشر وبعد بالكسر في الشر خاصة ، وكيفما كان الأمر فالمراد ببعدت على تلك القراءة أيضا هلكت غاية الأمر أنه في ذلك إما حقيقة أو مجاز ، ومن هلك فقد بعد ونأى كما قال الشاعر :

من كان بينك في التراب وبينه

شهران فهو في غاية «البعد»

وفي الآية ما يسمى الاستطراد ، قيل : ولم يرد في القرآن من هذا النوع إلا ما في هذا الموضع وقد استعملته العرب في أشعارها ، ومن ذلك قول حسان رضي الله تعالى عنه :

إن كنت كاذبة الذي حدثتني

فنجوت منجى الحارث بن هشام

ترك الأحبة أن يقاتل دونهم

ونجا برأس طمرة ولجام

هذا ومن باب الإشارة في الآيات : قوله سبحانه في قصة هود عليه‌السلام : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فيه إشارة إلى أن كل ذي نفس تحت قهره سبحانه وسلطانه أسير في يد تصرفه وملكته عاجز عن الفعل إلا بإذنه وأنه عزوجل لا يسلط أحدا على أحد إلا عن استحقاق ذنب أو رفع درجة وإعلاء منزلة لأنه تبارك وتعالى على طريق العدل الذي لا اعوجاج فيه ، وذكر الشيخ الأكبر قدس‌سره في فصوصه : إن كل ما سوى الحق فهو دابة فإنه ذو روح وما ثم من يدب بنفسه وإنما يدب بغيره بحكم التبعية للذي هو على صراط مستقيم فكل ماش فهو على الصراط المستقيم وحينئذ فلا مغضوب عليه ولا ضال من هذا الوجه ، نعم إن الناس على قسمين : أهل الكشف وأهل الحجاب ، فالأولون يمشون على طريق يعرفونها ويعرفون غايتها فهي في حقهم صراط مستقيم كما أنها في نفس الأمر كذلك ، والآخرون يمشون على طريق يجهلونها ولا يعرفون غايتها وأنها تنتهي إلى الحق فهي في حقهم ليست صراطا مستقيما وإن كانت عند العارف ونفس الأمر صراطا مستقيما ، واستنبط قدس‌سره من الآية أن مآل الخلق كلهم إلى الرحمة التي وسعت كل شيء ، وهي الرحمة السابقة على الغضب ، وادعى أن فيها بشارة للخلق أيّ بشارة.

وقال القيصري في تفسيرها : أي ما من شيء موجود إلا هو سبحانه آخذ بناصيته وإنما جعل دابة لأن الكل عند صاحب الشهود وأهل الوجود حي ، فالمعنى ما من حي إلا والحق آخذ بناصيته ومتصرف فيه بحسب أسمائه يسلك به أي طريق شاء من طرقه وهو على صراط مستقيم ؛ وأشار بقوله سبحانه : (آخِذٌ) إلى هوية الحق الذي مع كل من الأسماء ومظاهرها ، وإنما قال : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) بإضافة الرب إلى نفسه ، وتنكير الصراط تنبيها على أن كل رب على صراطه المستقيم الذي عين له من الحضرة الإلهية ، والصراط المستقيم الجامع للطرق هو المخصوص بالاسم الإلهي ومظهره لذلك قال في الفاتحة المختصة بنبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦] بلام العهد أو الماهية التي منها تتفرع جزئياتها ، فلا يقال: إذا كان كل أحد على الصراط المستقيم فما

٣٢٤

فائدة الدعوة؟ لأنا نقول : الدعوة إلى الهادي من المضل. وإلى العدل من الجائر كما قال سبحانه : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) [مريم : ٨٥] انتهى بحروفه ، وأعظم من هذا إشكالا التكليف مع القول بالوحدة وكذا التنعيم والتعذيب فإن الظاهر من التقرير لكلام المحققين من الصوفية أن المكلف عبارة عن موجود هو حصة من الوجود المطلق المفاض على حقائق الممكنات المتعين بتعينات مختلفة اقتضتها الاستعدادات الذاتية للحقائق التي هي المعدومات المتميزة في نفس الأمر المستعدة باستعدادات ذاتية غير مجعولة ، فالمكلف مقيد من مقيدات الوجود المطلق المفاض ، والمقيد لا يوجد بدون المطلق لأنه قيومه ، والمطلق من حيث الإطلاق عين الحق ، ولا شك أن قاعدة التكليف تقتضي أن يكون بينهما مغايرة ومباينة حقيقية ذاتية حتى يصح التكليف وما يترتب عليه من التعذيب والتنعيم.

وأجيب بأن حقيقة الممكن أمر معدوم متميز في نفسه بتميز ذاتي غير مجعول ووجوده خاص مقيد بخصوصية ما اقتضاها استعداده الذاتي لماهيته العدمية فهو مركب من الوجود والعدم وحقيقته مغايرة لوجوده تعقلا لتمايزهما ذهنا ، ولا ينافي ذلك قول الأشعري : وجود كل شيء عين حقيقته لما بين في محله وحقيقة الحق تعالى لا تغاير وجوده ووجوده سبحانه هو الوجود المطلق بالإطلاق الحقيقي حسبما حققه محققو الصوفية ، فالمغايرة الذاتية بين المكلف والمكلف في غاية الظهور لأن المكلف هو المعدوم اللابس لحصة من الوجود المتعين بمقتضى حقيقته ، والمكلف سبحانه هو الحق عزوجل الذي هو عين الوجود المطلق الغير المقترن بماهية عدمية ، وبعبارة أخرى : إن حقيقة الممكن أمر معدوم وحقيقة الواجب سبحانه الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق وقد وقع في البين تجلي الهوية في العبد وذلك التجلي هو الجامع للقدرة وغيرها من الكمالات التي يتوقف عليها التكليف بمقتضى الحكمة ومحقق للمغايرة.

وحاصل ذلك أن حقيقة المزج بين تجلي الهوية والصورة الخلقية المتعينة بمقتضى الحقيقة العدمية هي التي أحدثت ما به يصح التكليف وما يترتب عليه ، وكون الحق سبحانه قيوما للوجود المقيد غير قادح في ذلك بل القيومية هي المصححة له لما تبين من النصوص أنه لا تكليف إلا بالوسع ولا وسع للممكن إلا بقيوميته تعالى بنص (ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) [الكهف : ٣٩] وما هو بالله فهو لله تعالى ، والبحث في ذلك طويل ، وبعض كلماتهم يتراءى منهم عدم المغايرة بين المكلف والمكلف من ذلك ما قيل :

لقد كنت دهرا قبل أن يكشف الغطا

إخالك أني ذاكر لك شاكر

فلما أضاء الليل أصبحت شاهدا

بأنك مذكور وذكر وذاكر

لكن ينبغي أن لا يبادر سامعها بالإنكار ، ويرجع في المراد منها إلى العارفين بدقائق الأسرار ، هذا وقد تقدم الكلام في ناقة صالح عليه‌السلام ، وفيما قص الله تعالى هاهنا عن إبراهيم عليه‌السلام إشارة إلى بعض آداب الفتوة ، فقد قالوا : إن من آدابها إذا نزل الضيف أن يبدأ بالكرامة في الإنزال ؛ ثم يثني بالكرامة بالطعام ، وإنما أوجس عليه‌السلام في نفسه خيفة لأنه ظن الغضب ، والخليل يخشى غضب خليله ومناه رضاه ، ولله در من قال :

لعلك غضبان ولست بعالم

سلام على الدارين إن كنت راضيا

وفي هذه القصة دليل على أنه قد ينسد باب الفراسة على الكاملين لحكم يريدها الله تعالى ، ومن ذلك لم يعرف إبراهيم وكذا لوط عليهما‌السلام الملائكة عليهم‌السلام في أول الأمر ، وكانت مجادلته عليه‌السلام من آثار مقام الإدلال على ما قيل ، وقوله تعالى عن لوط عليه‌السلام : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) قيل : يشير بالقوة إلى الهمة وهي عندهم القوة المؤثرة في النفوس لأن القوة منها جسمانية ومنها روحانية ، وهذه المسماة بالهمة وهي أقوى تأثيرا لأنها قد تؤثر في أكثر العالم. أو كله بخلاف الجسمانية ، وقصد عليه‌السلام بالركن الشديد

٣٢٥

القبيلة لأنه يعلم أن أفعال الله تعالى لا تظهر في الخارج إلا على أيدي المظاهر فتوجه إلى الله سبحانه وطلب منه أن يجعل له أنصارا ينصرونه على أعداء الله تعالى ، وردد الأمر بين ذلك وأن يجعل له همة مؤثرة من نفسه ليقاوم بها الأعداء ، وقد علمت ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله : «يرحم الله تعالى أخي لوطا» الخبر.

وذكر الشيخ الأكبر قدس‌سره أنه عليه الصلاة والسلام نبه بذلك الخبر أن لوطا كان مع الله تعالى من أنه سبحانه (رُكْنٍ شَدِيدٍ) والإشارة في قصة شعيب عليه‌السلام إلى أنه ينبغي لمن كان في حيز أن لا يعصي الله تعالى ، وللواعظ أن لا يخالف فعله قوله :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

وأنه لا ينبغي أن يكون شيء عند العبد أعز عليه من الله تعالى إلى غير ذلك ، والله تعالى الهادي إلى سبيل الرشاد.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥) فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ

٣٢٦

أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(١٢٣)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) وهي الآيات التسع العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والنقص من الثمرات والأنفس ، والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من مفعول (أَرْسَلْنا) أو نعتا لمصدره المؤكد أي أرسلناه حال كونه ملتبسا بآياتنا أو أرسلناه إرسالا ملتبسا بها. (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) هو المعجزات الباهرة منها ـ وهو العصا ـ والإفراد بالذكر لإظهار شرفها لكونها أبهرها ، والمراد بالآيات ما عداها ، ويجوز أن يراد بهما واحد ، والعطف باعتبار التغاير الوصفي أي أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وكونه سلطانا له على نبوته واضحا في نفسه أو موضحا إياها من أبان لازما بمعنى تبين ومتعديا بمعنى بين ، وجعل بعضهم الآيات والسلطان شيئا واحدا في نفس الأمر إلا أن في ذلك تجريدا نحو مررت بالرجل الكريم والنسمة المباركة كأنه جرد من الآيات الحجة وجعلها غيرها وعطفت عليها لذلك ، وجوز أن يكون المراد بالآيات ما سمعت وبالسلطان ما بينه عليه‌السلام في تضاعيف دعوته حين قال له فرعون : (فَمَنْ رَبُّكُما) [طه : ٤٩] (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) [طه : ٥١] من الحقائق الرائقة والدقائق اللائقة أو هو الغلبة والاستيلاء كما في قوله سبحانه : (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) وجعله عبارة عن التوراة ، أو إدراجها في جملة الآيات يرده كما قال أبو حيان قوله عزوجل : (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) فإن نزولها إنما كان بعد مهلك فرعون وقومه قاطبة ليعمل بها بنو إسرائيل فيما يأتون ويذرون ، وأما فرعون وقومه فإنما كانوا مأمورين بعبادة رب العالمين وترك العظيمة الشنعاء التي كان يدعيها الطاغية وتقبلها منه فئته الباغية وبإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر ، ومن هذا يعلم ما في عد النقص من الثمرات والنقص من الأنفس آية واحدة من الآيات التسع ، وعد إظلال الجبل منها لأن ذلك إنما كان لقبول التوراة حين أباه بنو إسرائيل فهو متأخر أيضا ضرورة. ومثل ذلك عد فلق البحر وإظلال الغمام بدلهما لأن هذا الإظلال أيضا متأخر عن مهلك فرعون وقومه.

وأجاب بعض الأفاضل عن الاعتراض على جعل التوراة من الآيات بأن التصحيح ممكن ، أما أولا فبما صرحوا به من جواز إرجاع الضمير وتعلق الجار ونحوه بالمطلق الذي في ضمن المقيد فقوله سبحانه : (إِلى فِرْعَوْنَ) يجوز أن يتعلق بالإرسال المطلق لا المقيد بكونه بالتوراة ، وأما ثانيا فبأن يقال : إن موسى عليه‌السلام كما أرسل إلى الفراعنة أرسل إلى بني إسرائيل أيضا فيجب أن يحمل ملأ فرعون على ما يشملهم فيجيء الكلام على التوزيع على معنى أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين وإلى ملئه بالتوراة فيكون لفا ونشرا غير مرتب ، ويقال نحو هذا على تقدير عدّ إظلال الجبل أو الغمام من الآيات ، وفي مجموعة سري الدين المصري أن هذا السؤال مما أورد الحافظ الطاشكندي على

٣٢٧

مخدوم الملك فأجاب بأن قوله سبحانه : (بِآياتِنا) حال مقدرة أي مقدرين تلبسه أو نصرته بالآيات والسلطان إلى فرعون وملئه فلا يقدح فيه ظهور بعضها بعد هلاك فرعون كالتوراة وانفجار الماء وغير ذلك ، وبأنه قيل : إن إعطاء التوراة مجموعا مرتبا مكتوبا في الألواح بعد غرق فرعون ، وأوحى بها إلى موسى عليه‌السلام في حياة فرعون وكان يأمر بها قومه ويبلغها إلى فرعون وملئه ، ويؤيده ما قيل : إن بعض الألواح كان منزلا قبل نزول التوراة بتمامها وكانت تلك الألواح من خشب والألواح التي كانت فيها التوراة بتمامها كانت من زمرد أو من ياقوت أحمر أو من صخرة صماء انتهى ، ولا يخفى أن الذهاب إلى كون الحال مقدرة مما لا يكاد يقبله الذوق السليم ، وما حكي من أن إعطاء التوراة مجموعا كان بعد والإيحاء بها كان قبل إلخ مما لا مستند له من الأخبار الصحيحة ، وما ذكر أولا من حديث التعلق بالمطلق. وثانيا من حمل «الملأ» على ما يشمل بني إسرائيل إلخ مما ينبغي أن ينزه ساحة التنزيل عنه ، وكيف يحمل ـ الملأ ـ على ما يشمل بني إسرائيل مع الإضافة إليه وجعلهم من أهل النار ، ولا أظنك في مرية من القول بعدم صحة ذلك ؛ وقيل : لو جعل (إِلى فِرْعَوْنَ) متعلقا بسلطان مبين لفظا أو معنى على تقدير وسلطان مرسل به إلى فرعون لم يبعد مع المناسبة بينه وبين السلطان ، وفيه ما لا يخفى فتأمل.

وتخصيص ـ الملأ ـ بالذكر مع عموم رسالة موسى عليه‌السلام للقوم كافة لأصالتهم في الرأي وتدبير الأمور واتباع الغير لهم في الورود والصدور ، ولم يصرح بكفر فرعون بالآيات وانهماكه فيما كان عليه من الضلال والإضلال بل اقتصر على ذكر شأن ملئه فقيل : (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) أي أمره بالكفر بما جاء به موسى عليه‌السلام من الحق للإيذان بوضوح حاله فكأن كفره وأمر ملئه بذلك أمر متحقق الوجود غير محتاج إلى الذكر صريحا ، وإنما المحتاج إلى ذلك شأن ملئه المترددين بين هاد إلى الحق ـ وهو موسى عليه‌السلام ـ وداع إلى الضلال ـ وهو فرعون ـ فنعى عليهم سوء اختيارهم ، وإيراد الفاء للإشعار بمفاجأتهم في الاتباع ومسارعة فرعون إلى الكفر والأمر به ، فكأن ذلك لم يتراخ عن الإرسال والتبليغ.

وجوز أن يراد من الأمر الطريقة والشأن ، قيل : ومعنى (فَاتَّبَعُوا) فاستمروا على الاتباع ، والفاء مثل ما في قولك : وعظته فلم يتعظ وزجرته فلم ينزجر ، فإن الإتيان بالشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث ، ويجوز أن يكون المراد فاتصفوا بما اتصف به فرعون من الكفر بما جاء به موسى عليه‌السلام والتكذيب له ووافقوه في ذلك ، وإيراد الفاء للإشعار بمفاجأتهم في الموافقة لفرعون في الكفر ومسارعته إليه فكأنه حين حصل الإرسال والتبليغ حصل كفر فرعون بما جاء به موسى عليه‌السلام ووقع على أثره الموافقة منهم ، ولا تتوهمن أن هذه الموافقة كانت حاصلة لهم قبل لأنها تتوقف على اتصاف فرعون بالكفر بما جاء به موسى عليه‌السلام ، وذلك إنما تجدد له بعد الإرسال والتبليغ فلا ضرورة إلى الحمل على الاستمرار ، وجعل الفاء كما في قولك : زجرته فانزجر فتأمل.

وعدل عن أمره إلى أمر فرعون لدفع توهم رجوع الضمير إلى موسى عليه‌السلام من أول الأمر ولزيادة تقبيح حال المتبعين فإن فرعون علم في الفساد والإفساد والإضلال ، فاتباعه لفرط الجهالة وعدم الاستبصار ، وكذا الحال في قوله تعالى : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي براشد أو بذي رشد ، والرشد ضد الغي وإسناده إلى الأمر مجازي وكأن في العدول عن أمر فرعون غي وضلال إلى ما في النظم الكريم زيادة في تقبيح فعلهم وتحسيرا لهم على فوات ما فيه صلاح الدارين أعني الرشد.

ويجوز أن يجعل الرشد كناية عن المحمودية والإسناد حقيقي أي ـ وما أمر فرعون بصالح حميد العاقبة ـ وقوله

٣٢٨

سبحانه : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) على الأول استئناف وقع جوابا لمن سأل عن حال المتبوع والتابع مآلا ، وعلى الثاني تفسير وإيضاح لعدم صلاح عاقبته أي كيف يرشد أمر من هذه عاقبته ، وجملة (وَما أَمْرُ) إلخ جوز أن تكون حالا من فاعل ـ اتبعوا ـ وأن تكون حالا من مفعوله قيل : وهو مختار الزمخشري ، والمراد بالقوم ما يشمل الملأ وغيرهم ، و (يَقْدُمُ) كينصر من قدم ـ كنصر ـ بمعنى تقدم ، ومنه قادمة الرحل ، وهذا كما يقال : قدمه بمعنى تقدمه ، ومنه مقدمة الجيش وأقدم بمعنى تقدم ، ومنه مقدم العين فإنه بالكسر لا غير كما قاله المرزوقي ، ومثله مؤخر العين كما في المزهر ، والمراد من أوردهم يوردهم ، والتعبير به دونه للإيذان بتحقق وقوعه لا محالة ، والقول : بأنه باق على حقيقته ـ والمراد فأوردهم في الدنيا النار أي موجبها وهو الكفر ـ ليس بشيء ، ونصب النار على أنه مفعول ثان ـ لأوردهم ـ وهي استعارة مكنية تهكمية للضد وهو الماء ، وفي قرينتها احتمالات كما شاع في (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) [البقرة : ٢٧ ، الرعد : ٢٥] وعلى احتمال المجاز يكون الإيراد مستعارا استعارة تبعية لسوقهم إلى النار.

وجوز أن يقال : إنه شبه فرعون بالفارط وهو الذي يتقدم القوم للماء ففيه استعارة مكنية ، وجعل اتباعه واردة وإثبات الورود لهم تخييل ، وجوز أيضا جعل المجموع تمثيلا.

وجوز بعضهم كون (يَقْدُمُ) وأورد متنازعين في النار إلا أنه أعمل الثاني وحذف مفعول الأول وليس بذلك. (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) أي بئس الورد الذي يردونه النار لأن الورد إنما يورد لتسكين العطش وتبريد الأكباد وفي النار تقطع الأكباد واشتعالها كذا قيل ، فالورد على هذا بمعنى النصيب من الماء و (الْمَوْرُودُ) صفته ، والمخصوص بالذم محذوف وهو النار ، وتعقب بأنه لا بد من تصادق فاعل (بِئْسَ) ومخصوصها ولا تصادق على هذا ، وأيضا في جواز وصف فاعل ـ نعم. وبئس ـ خلاف ، وابن السراج والفارسي على عدم الجواز.

وجوز ابن عطية كون (الْمَوْرُودُ) صفة والمخصوص النار إلا أنه جعل الكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، فالتصادق حاصل في الحقيقة أي ـ بئس مكان الورود المورود النار ـ ومنهم من يجعل (الْمَوْرُودُ) هو المخصوص بالذم ، والمراد به النار ، ويقدر المضاف ليحصل التصادق أيضا أي ـ بئس مكان الورد النار ـ ومن يجعل الورد فاعل (بِئْسَ) ويفسره بالجمع الوارد. و (الْمَوْرُودُ) صفة لهم والمخصوص بالذم ضميرهم المحذوف أي ـ بئس القوم المورود بهم هم ـ فيكون ذما للواردين لا لموضع الورود (وَأُتْبِعُوا) أي الملأ الذين اتبعوا أمر فرعون ، وقيل : القوم مطلقا (فِي هذِهِ) أي في الدنيا (لَعْنَةً) عظيمة حيث يلعنهم من بعدهم من الأمم (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أيضا حيث يلعنهم أهل الموقف قاطبة فهي تابعة لهم حيثما ساروا ودائرة أينما داروا فكما اتبعوا أمر فرعون اتبعتهم اللعنة في الدارين جزاء وفاقا.

وقال الكلبي : اللعنة في الدنيا من المؤمنين أو بالغرق ، ويوم القيامة من الملائكة أو بالنار. (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) أي بئس العون المعان كما نقل عن أبي عبيدة ، والمخصوص بالذم محذوف أي رفدهم ، ويكون (الرِّفْدُ) بمعنى العطية كما يكون بمعنى العون.

قال أبو حيان : يقال : رفد الرجل يرفده رفدا ورفدا إذا أعطاه وأعانه من رفد الحائط دعمه ، وعن الأصمعي الرفد بالفتح القدح والرفد بالكسر ما فيه من الشراب ، وقال الليث : أصل الرفد العطاء والمعونة ، ومنه رفادة قريش وهي معاونتهم للحاج بشيء يخرجونه للفقراء ، ويقال رفده رفدا ورفدا بكسر الراء وفتحها ، ويقال : بالكسر الاسم وبالفتح المصدر ، وفسره هنا بالعطاء غير واحد.

وزعم أن المقام لا يلائمه ليس بشيء ؛ نعم تفسيره بالعون جاء في صحيح البخاري ، والمراد به على التفسيرين

٣٢٩

اللعنة وتسميتها عونا على التفسير الأول من باب الاستعارة التهكمية ، وأما كونها معانا فلأنها أرفدت في الآخرة بلعنة أخرى لتكونا هاديتين إلى صراط الجحيم ، وكان القياس أن يسند المرفود إليهم لأن اللعنة في الدنيا تتبعهم وكذا في الآخرة لقوله سبحانه : (وَأُتْبِعُوا) إلخ ، ولكن أسند إلى الرفد الذي هو اللعنة على الإسناد المجازي نحو جدّ جدّه وجنونك مجنون ، وكذا يعتبر الاستعارة والمجاز المذكوران على التفسير الثاني كذا قيل.

وقال بعض المدققين : إن في قول الزمخشري في بيان الآية على المعنى الأول المنقول عن أبي عبيدة وذلك أن اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له ، وقد رفدت باللعنة في الآخرة ما يشعر بأنه ليس من الاستعارة التهكمية في شيء إذ لو كان رفدا للمعذبين لكان من ذلك القبيل ، ثم قال : وجعله من باب جد جده أبعد وأبعد لأنه ذكر أنه رفد أعين برفد أما لو فسر بالتفسير الثاني ففيه الأول لا الثاني لأنه ليس مصدرا وإنما العطاء بمعنى ما يعطي فكثيرا ما يطلق عليه انتهى وفيه نظر لا يخفى ، ثم إن القول بأن هناك لعنتين رفدت إحداهما بالأخرى هو المروي عن مجاهد وغيره فيوم معطوف على محل في الدنيا.

وذهب قوم إلى أن التقسيم هو أن لهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة بئس ما يرفدون به فهي لعنة واحدة أولا وقبح إرفاد آخرا انتهى ، وتعقبه في البحر بأن هذا لا يصح لأنه يدل على أن (يَوْمَ) معمول (بِئْسَ) وهي لا تتصرف فلا يتقدم معمولها عليها ، ولو كان (يَوْمَ) متأخرا صح ذلك كما قال الشاعر :

ولنعم حشو الدرع أنت إذا

دعيت نزال ولج في الذعر

وهو كلام وجيه ، والآية ظاهرة في سوء حال فرعون يوم القيامة لأنه إذا كان حال الاتباع ما قص الله سبحانه فما ظنك بحال من أغواهم وألقاهم في هذا الضلال البعيد؟ وهذا يعكر على من ذهب إلى أنه قبض طاهرا مطهرا بل قال بعضهم : إنها نص في رد ذلك لأنه تعالى سلب عنه فيها الرشاد بعد موته والمؤمن الطاهر المطهر لا يسلب عنه الرشاد بعد الموت ، ولعل من ذهب إلى ذلك يقول : باب التأويل واسع وباب الرحمة أوسع منه.

(ذلِكَ) إشارة إلى ما قص من أنباء الأمم وبعده باعتبار تقضيه أو باعتبار ما قيل في غير موضع ، والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مبتدأ خبره (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) المهلكة بما جنته أيدي أهلها فأل فيها للعهد السابق تقديرا بذكر أربابها (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) خبر بعد خبر أي ذلك النبأ بعض أنباء القرى مقصوص عليك ؛ وجوز أن يكون (مِنْ أَنْباءِ) في موضع الحال وهذا هو الخبر ، وجوز أيضا عكس ذلك (مِنْها) أي من تلك القرى (قائِمٌ وَحَصِيدٌ) أي ومنها حصيد ، فالعطف من عطف الجملة على الجملة وهو الذي يقتضيه المعنى كما لا يخفى ، وقد شبه ما بقي منها بالزرع القائم على ساقه وما عفا وبطل بالحصيد ، فالمعنى منها باق ومنها عاف ، وهو المروي عن قتادة ، ونحوه ما روي عن الضحاك (قائِمٌ) لم يخسف (وَحَصِيدٌ) قد خسف ، وقيل : (وَحَصِيدٌ) الزرع جاء في كلامهم بمعنى الفناء كما في قوله :

والناس في قسم المنية بينهم

كالزرع منه قائم وحصيد

وصيغة فعيل بمعنى مفعول أي محصود كما قال الأخفش ، وجمعه حصدى وحصاد مثل مرضى ومراض ، وجملة (مِنْها قائِمٌ) إلخ مستأنفة استئنافا نحويا للتحريض على النظر في ذلك والاعتبار به ، أو بيانيا كأنه سئل لما ذكرت ما حالها؟ فأجيب بذلك ، وقال أبو البقاء : هي في موضع الحال من الهاء في نقصه ، وجوز الطيبي كونها حالا من القرى ، وادعى صاحب الكشف أن جعلها حالا من ضمير نقصه فاسد لفظا ومعنى ، ومن القرى كذلك ، وفي الحواشي الشهابية أراد بالفساد اللفظي في الأول خلو الجملة من الواو والضمير. وفي الثاني مجيء الحال من المضاف إليه في غير

٣٣٠

الصور المعهودة ، وبالفساد المعنوي أنه يقتضي أنه ليس من المقصوص بل هو حال خارجة عنها وليس بمراد ، ولا يسوغ جعل ما بعده ابتداء المقصوص ، وفيه فساد لفظي أيضا.

وزعم بعض أنه أراد بالفساد الأول في الأول ما ذكر. وفي الثاني وقوع الجملة الاسمية حالا بالضمير وحده وبالضمير تخصيص كونها مقصوصة بتلك الحالة فإن المقصوصية ثابتة لها وللنبإ وقت قيام بعضها أيضا ، وقد أصاب بعضا وأخطأ بعضا ، ووجه الجلبي الخلو عن الواو والضمير بأن المقصود من الضمير الربط وهو حاصل لارتباط ذلك بمتعلق ذي الحال وهي القرى ، فالمعنى نقص عليك بعض أنباء القرى وهي على هذه الحالة تشاهدون فعل الله تعالى بها ، وتعقب بأن الاكتفاء في الربط بما ذكر مع خفائه مذهب تفرد به الأخفش ولم يذكره في الحال وإنما ذكره في خبر المبتدأ ، وقول أبي حيان : إن الحال أبلغ في التخويف وضرب المثل للحاضرين مع ما سمعت نفعا والحق أنه لا وجه لما ذكره أبو البقاء يعول عليه إلا الذهول (وَما ظَلَمْناهُمْ) قيل : الضمير للقرى مرادا بها أهلها وقد أريد منها أولا حقيقتها ، ففي الكلام استخدام ، وقيل : الضمير لأهل القرى لأن هناك مضافا مقدرا أي ذلك من أنباء أهل القرى ؛ والضمائر منها ما يعود إلى المضاف ، ومنها ما يعود إلى المضاف إليه ، ومتى وضح الأمر جاز مثل ذلك.

وقيل : القرى على ظاهرها وإسناد الأنباء إليها مجاز ، وضمير (مِنْها) لها وضمير (ظَلَمْناهُمْ) للأهل المفهوم منها ، وقيل : (الْقُرى) مجاز عن أهلها ، والضميران راجعان إليها بذلك الاعتبار ، أو يقدر المضاف والضميران له أيضا ، وعلى هذا خرج ما حكي عن بعضهم من أن معنى (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) منها باق نسله ، ومنها منقطع نسله ، وأيا ما كان ففي الكلام إيذان بإهلاك الأهل فيكون المعنى هنا وما ظلمناهم بإهلاكنا إياهم (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) حيث اقترفوا بسوء استعدادهم ما يترتب عليه ذلك بمقتضى الحكمة (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ) أي ما نفعتهم ولا دفعت بأس الله تعالى عنهم (آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ) أي يعبدونها (مِنْ دُونِ اللهِ) أوثر صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو للدلالة على استمرار عبادتهم لها (مِنْ شَيْءٍ) أي شيئا من الإغناء أو شيئا من الأشياء ـ فما ـ نافية لا استفهامية ـ وإن جوّزه السمين ـ وتعلق عن بما عنده لما فيه من معنى الدفع ، و (مِنْ) الأخيرة صلة ومجرورها مفعول مطلق أو مفعول به للدفع ، وقوله سبحانه : (لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي حين مجيء عذابه منصوب ـ بأغنت ـ وهذا ـ على ما في البحر ـ بناء على خلاف مذهب سيبويه لأن مذهبه أن (لَمَّا) حرف وجوب لوجوب.

وقرئ ـ آلهتهم اللاتي ـ و «يدعون» بالبناء للمفعول وهو وصف للآلهة كالتي في المشهورة ، وفيه مطابقة للموصوف ليست في (الَّتِي) لكن قيل ـ كما في جمع الجوامع للجلال السيوطي ـ إن التي في جمع غير عالم أكثر من اللاتي ، نعم إن الآلهة قد عوملت في الآية معاملة العقلاء لأن عبدتها نزلوها منزلة العقلاء في اعتقادهم فيها أنها تنفع وتضر ، فقيل : (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) ومن هنا قيل : إن اللاتي في تلك القراءة واقع موقع الألي أو الذين ، و ـ التتبيب ـ على ما في البحر التخسير ، يقال : تب خسر وتببه خسره.

وذكر الجوهري أن التب الخسران والهلاك والتتبيب الإهلاك وفي القاموس التب والتبب والتباب والتتبيب النقص والخسار.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر ومجاهد تفسير ذلك بالتخسير وكذا أخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلا أنه استشهد عليه بقول بشر بن أبي خازم :

هم جدعوا الأنوف فأذهبوها

وهم تركوا بني سعد تبابا

٣٣١

وحينئذ فالمعنى فما زادوهم غير تخسير أو خسارة لنفوسهم حيث استحقوا العذاب الأليم الدائم على عبادتهم لها نسأل الله تعالى العفو والعافية.

(وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك الأخذ والإهلاك الذي مر بيانه ، وهو على ما قال السمين : خبر مقدم ، وقوله سبحانه : (أَخْذُ رَبِّكَ) مبتدأ مؤخر ، وقيل : بالعكس ، والكاف يحتمل أن تكون اسمية وأن تكون حرفية وقد يجعل المشار إليه الأخذ المذكور بعد كما تحقق قبل ، وفي قراءة عبد الله كذلك بغير واو.

(إِذا أَخَذَ الْقُرى) أي أهلها وإنما أسند إليها للإشعار بسريان أثره ، وقرأ الجحدري وأبو رجاء (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ) على أن (أَخْذُ رَبِّكَ) فعل وفاعل ، والظرف لما مضى ، وهو إخبار عما جرت به عادة الله تعالى في إهلاك من تقدم من الأمم وكذلك على هذا ساد مسد المصدر النوعي ولا مانع من تقدمه على الفعل والقرى متنازع للمصدر والفعل ، وقوله سبحانه : (وَهِيَ ظالِمَةٌ) في موضع الحال من (الْقُرى) ولذا أنث الضمير و (ظالِمَةٌ) إلا أن وصف القرى بالظلم مجاز وهو في الحقيقة صفة أهلها وجعله حالا من المضاف المقدر أولا وتأنيثه مكتسب من المضاف إليه تكلف ، وفائدة هذه الحال الإشعار بأن أخذهم بسبب ظلمهم ، وفي ذلك من إنذار الظالم ما لا يخفى ، والمراد بالظلم إما الكفر أو ما هو أعم ، وظاهر صنيع بعضهم أخذا من إطلاقه أنه شامل لظلم المرء نفسه. وغيره (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ) وجيع (شَدِيدٌ) لا يرجى منه الخلاص وهذا مبالغة في التهديد والتحذير. أخرج الشيخان في صحيحيهما والترمذي والنسائي وابن ماجة وآخرون عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ) إلى قوله تعالى : (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)» (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي أخذه سبحانه للأمم المهلكة أو فيما قص من أخبارهم (لَآيَةً) أي لعلامة ، وفسرها بعضهم بالعبرة لما أنها تلزمها وهو حسن ؛ والتنوين للتعظيم أي لعبرة عظيمة (لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) فإنه إذا رأى ما وقع في الدنيا بالمجرمين من العذاب الأليم اعتبر به حال العذاب الموعود فإنه عصا من عصية وقليل من كثير ، وانزجر بذلك عن المعاصي التي يترتب عليها العذاب وأكب على التقوى والخشية من الله تعالى ، وقد أقيم من خاف إلخ مقام من صدق بذلك لما بينهما من اللزوم ولأن الاعتبار إنما ينشأ من الخوف ، وذكر هذا القيد لأن من أنكر الآخرة وأحال فناء هذا العالم أسند الحوادث إلى أسباب فلكية وأوضاع مخصوصة فلم يعتبر بذلك أصلا ولم ينزجر عن الضلالة قطعا ، وقال : إن ما وقع إنما وقع لهاتيك الأسباب والأوضاع لا للمعاصي التي اقترفتها الأمم المهلكة.

وقيل : المراد أن فيما ذكر دليلا على عذاب المجرمين في الآخرة لأنهم إذا عذبوا في الدنيا لإجرامهم ـ وهي دار العمل ـ فلأن يعذبوا في الآخرة عليه ـ وهي دار الجزاء ـ أولى ، وقيل : المراد أن فيه دليلا على البعث والجزاء ، وذلك أن الأنبياء عليهم‌السلام قد أخبروا باستئصال من كذبهم وأشرك بالله ووقع ما أخبروا به وفق إخبارهم ، وذلك أحد الشواهد على صدقهم فيكونون صادقين فيما يخبرون به من البعث والجزاء فلا بد أن يقع لا محالة ، والتقييد بما ذكر هنا كالتقييد في قوله سبحانه : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] وهو كما ترى (ذلِكَ) إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) أي يجمع له الناس للمحاسبة والجزاء ، فالناس نائب فاعل مجموع.

وأجاز ابن عطية أن يكون مبتدأ و (مَجْمُوعٌ) خبره ، وفيه بعد إذ الظاهر حينئذ أن يكون مجموعا وعدل عن الفعل ـ وكان الظاهر ـ ليدل الكلام على ثبوت معنى الجمع وتحقق وقوعه لا محالة وأن الناس لا ينفكون عنه فهو أبلغ من قوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) [التغابن : ٩] وإيضاحه أن في هذا دلالة على لزوم الوصف ولزوم

٣٣٢

الإسناد ، وفي ذلك على حدوث تعلق الجمع بالمخاطبين واختصاصه باليوم ولهذا استدركه بقوله : الجمع فأضاف اليوم إليه ليدل على لزومه له وإنما الحادث جمع الأولين والآخرين دفعة (وَذلِكَ) أي يوم القيامة مع ملاحظة عنوان جمع الناس له (يَوْمٌ مَشْهُودٌ) أي مشهود فيه فاتسع في الجار والمجرور ووصل الفعل إلى الضمير إجراء له مجرى المفعول به كما في قوله :

ويوما شهدناه سليما وعامرا

قليل سوى طعن الدراك نوافله

أي يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد وإنما لم يجعل نفس اليوم مشهودا بل جعله مشهودا فيه ولم يذكر المشهود تهويلا وتعظيما أن يجري على اللسان وذهابا إلى أن لا مجال لالتفات الذهن إلى غيره ، وقد يقال: المشهود هو الذي كثر شاهدوه ، ومنه قولهم : لفلان مجلس مشهود وطعام محضور ، ولأم قيس الضبية :

ومشهد قد كفيت الناطقين به

في محفل من نواصي الناس مشهود

واعتبروا كثرة شاهديه نظرا إلى أنه الذي يستحق أن يطلق اسم المشهود على الإطلاق عليه ، ولو جعل اليوم نفسه مشهودا من غير هذا الاعتبار لم يحصل الغرض من تعظيم اليوم وتمييزه فإن سائر الأيام كذلك لكن جاء الامتياز من ذلك لما أضيف إليه من الكثرة المهولة المميزة ، وبما ذكر يعلم سقوط ما قيل : الشهود الحضور واجتماع الناس حضورهم فمشهود بعد مجموع مكرر (وَما نُؤَخِّرُهُ) أي ذلك اليوم الملحوظ بعنوان الجمع والشهود ، ونقل الحوفي رجوع الضمير للجزاء ، وقرأ الأعمش ويعقوب ـ يؤخره ـ بالياء.

(إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) أي لانتهاء مدة قليلة ، فالعد كناية عن القلة ، وقد يجعل كناية عن التناهي ، والأجل عبارة عن جميع المدة المعينة للشيء ، وقد يطلق على نهايتها ، ومنع إرادة ذلك هنا لأنه لا يوصف بالعد في كلامهم بوجه ، وجوزها بعضهم بناء على أن الكناية لا يشترط فيها إمكان المعنى الأصلي ، وتعقب بأنه عدول عن الظاهر ، وتقدير المضاف أسهل منه واللام للتوقيت ، وفي المجمع أنها تدل على الغرض وأن الحكمة اقتضت التأخير ولذا عدل عن إلى إليها وفي الآية رد على الدهرية ، والفلاسفة الزاعمين أنه لا انقضاء لمدة الدنيا ، وهو بحث مفروغ منه (يَوْمَ يَأْتِ) أي ذلك اليوم المؤخر بانقضاء أجله المضروب حسبما تقتضيه الحكمة وهو المروي عن ابن جريج ، وقيل : الضمير للجزاء أيضا ، وقيل : لله تعالى ، وفيه من تفخيم شأن اليوم ما لا يخفى ، ويعضده قراءة ـ وما يؤخره ـ بالياء ، ونسبة الإتيان ونحوه إليه سبحانه أتت في غير ما آية ، واعترض الأول بأن التقدير عليه يوم إتيان ذلك اليوم ولا يصح لأن تعرف اليوم بالإتيان يأبى تعرف الإتيان به ، ولأن إتيان اليوم لا ينفك عن يوم الإتيان فيكفي الإسناد وتلغو الإضافة ، ونقل العلامة الطيبي نصا على عدم جوازه كما لا تقول : جئتك يوم بسرك ، وأجيب أن كل زمان له شأن يعتبر تجدده كالعيد والنيروز والساعة مثلا ، يجري مجرى الزماني وإن كان في نفسه زمانا فباعتبار تغاير الجهتين صحت الإضافة والإسناد كما يصح أن يقال : يوم تقوم الساعة ويوم يأتي العيد والعيد في يوم كذا ، فالأول زمان وضميره أعني فاعل الفعل زماني ، وإذا حسن مثل قوله :

فسقي الغضى والساكنيه وإن هم

شبوه بين جوانحي وضلوعي

فهذا أحسن ، وقرأ النحويان ونافع «يأتي» بإثبات الياء وصلا وحذفها وقفا ، وابن كثير بإثباتها وصلا ووقفا وهي ثابتة في مصحف أبي ، وقرأ باقي السبعة بحذفها وصلا ووقفا ، وسقطت في مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه ، وإثباتها وصلا ووقفا هو الوجه ، ووجه حذفها في الوقت التشبيه بالفواصل ، ووصلا ووقفا التخفيف كما قالوا : لا أدر ولا أبال ، وذكر الزمخشري أن الاجتزاء بالكسرة عن الياء كثير في لغة هذيل ، ومن ذلك قوله:

٣٣٣

كفاك كف ما تليق درهما

جودا وأخرى تعط بالسيف الدما

وقرأ الأعمش ـ «يوم يأتون» ـ بواو الجمع ، وكذا في مصحف عبد الله أي يوم يأتي الناس أو أهل الموقف (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) أي لا تتكلم بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة ، وهذا الفعل على الأظهر هو الناصب للظرف السابق.

وجوز أن يكون منصوبا بالانتهاء المضاف إلى الأجل وأن يكون مفعولا به ـ لا ذكر ـ محذوفا ، وهذه الجملة في موضع الحال من ضمير اليوم ، وأجاز الحوفي وابن عطية كونها نعتا ليوم ، وتعقب بأنه يقتضي أن إضافته لا تفيده تعريفا وهو ممنوع ولعل من يدعي ذلك يقول : إن الجمل بمنزلة النكرات حتى أطلقوا عليها ذلك فالإضافة إليها كالإضافة إليها (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي إلا بإذن الله تعالى شأنه وعزّ سلطانه في التكلم كقوله سبحانه : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) [النبأ : ٣٨] وهذا في موقف من مواقف ذلك اليوم ، وقوله تبارك وتعالى: (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٥ ، ٣٦] في موقف آخر من مواقفه كما أن قوله تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [النحل : ١١١] في آخر منها ، وروي هذا عن الحسن.

وقد ذكر غير واحد أن المأذون فيه الأجوبة الحقة والممنوع منه الأعذار بالباطلة ، نعم قد يؤذن فيها أيضا لإظهار بطلانها كما في قول الكفرة : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] ونظائره ، والقول بأن هذا ليس من قبيل الأعذار وإنما هو إسناد الذنب إلى كبرائهم وأنهم أضلوهم ليس بشيء كما لا يخفى ، وفي الدرر والغرر للسيد المرتضى أن بين قوله سبحانه : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) وقوله سبحانه : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) وكذا قوله جل وعلا : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [الصافات : ١٧] اختلافا بحسب الظاهر ، وأجاب قوم من المفسرين عن ذلك بأن يوم القيامة يوم طويل ممتد فيجوز أن يمنعوا النطق في بعضه ويؤذن لهم في بعض آخر منه ، ويضعف هذا الجواب أن الإشارة إلى يوم القيامة بطوله فكيف يجوز أن تكون الآيات فيه مختلفة ، وعلى ما ذكروه يكون معنى (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) هذا يوم لا ينطقون في بعضه وهو خلاف الظاهر ، والجواب السديد عن ذلك أن يقال : إنما أريد نفي النطق المسموع المقبول الذي ينتفعون به ويكون لهم في مثله إقامة حجة وخلاص لا نفي النطق مطلقا بحيث يعم ما ليس له هذه الحالة ، ويجري هذا المجرى قولهم : خرس فلان عن حجته وحضرنا فلانا يناظر فلانا فلم نره قال شيئا وإن كان الذي وصف بالخرس والذي نفي عنه القول قد تكلم بكلام كثير إلا أنه من حيث لم يكن فيه حجة ولم يتضمن منفعة جاز إطلاق ما حكيناه عليه ، ومثله قول الشاعر :

أعمى إذا ما جارتي خرجت

حتى يواري جارتي الخدر

ويصم عما كان بينهما

سمعي وما بي غيره وقر

وعلى هذا فلا اختلاف لأن التساؤل والتلاؤم مثلا لا حجة فيه ، وأما قوله سبحانه : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) فقد قيل فيه : إنهم غير مأمورين بالاعتذار فكيف يعتذرون ، ويحمل الإذن على الأمر وإنما لم يؤمروا به لأن تلك الحالة لا تكليف فيها والعباد ملجئون عند مشاهدة الأهوال إلى الاعتراف والإقرار ، وأحسن من هذا أن يحمل (يُؤْذَنُ لَهُمْ) أنه لا يسمع لهم ولا يقبل عذرهم انتهى.

وأنت تعلم أن تضعيفه لما أجاب به القوم من امتداد يوم القيامة وجواز كون المنع من النطق في بعض منه والإذن في بعض آخر ليس بمرتضى عند ذي الفكر الرضي لظهور صحة وقوع الزمان الممتد ظرفا للنقيضين فيما إذا لم يقتض كل منهما أو أحدهما جميع ذلك الزمان ، وقد شاع دفع التناقض بين الكلامين بمثل ما فعلوا ومرجعه إلى القول باختلاف الزمان كما أن مرجع ما روي عن الحسن إلى القول باختلاف المكان ، واتحاد الزمان والمكان من شروط

٣٣٤

تناقض القضيتين وليس هذا الذي فعلوه بأبعد مما فعله المرتضى على أن في كلامه بعد ما لا يخفى.

وقال بعض الفضلاء : لا منافاة بين هذه الآية والآيات التي تدل على التكلم يوم القيامة لأن المراد من يوم يأتي حين يأتي ، والقضية المشتملة على ذلك وقتية حكم فيها بسلب المحمول عن جميع أفراد الموضوع في وقت معين وهذا لا ينافي ثبوت المحمول للموضوع في غير ذلك الوقت ، وقال ابن عطية : لا بد من أحد أمرين : إما أن يقال : إن ما جاء في الآيات من التلاوم والتساؤل والتجادل ونحو ذلك مما هو صريح في التكلم كان عن إذن ، وإما أن يحمل التكلم هنا على تكلم شفاعة أو إقامة حجة وكلا القولين كما ترى ، والاستثناء قيل : من أعم الأسباب أي لا تكلم نفس بسبب من الأسباب إلا بسبب إذنه تعالى وهو متصل ، وجوز أن يكون منقطعا ويقدر ما لا يتناول المستثنى أي لا تكلم نفس باقتدار من عندها إلا بإذنه تعالى ، ولا يخفى أن هذا استثناء مفرغ ، وقد طرق سمعك ما هو الأصح فيه ، وقرئ كما في المصاحف لابن الأنباري ـ يوم يأتون لا تكلم دابة إلا بإذنه ـ (فَمِنْهُمْ) أي أهل الموقف المدلول عليه بقوله سبحانه : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) أو الجميع الذي تضمنه (نَفْسٌ) إذ هو اسم جنس أريد به الجميع على ما نقله أبو حيان عن ابن عطية ، أو الناس المذكور في قوله سبحانه : (مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) ونقل ابن الأنباري أن الضمير لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو من الغرابة بمكان وكأنه قصد هذا القائل بذلك تمهيدا لتوجيه الاستثناء الآتي وهو ولله الحمد غني عن ذلك ، والظاهر أن من للتبعيض والجار والمجرور خبر مقدم ، وقوله سبحانه : (شَقِيٌ) مبتدأ ، وقوله تعالى : (وَسَعِيدٌ) بتقدير ومنهم سعيد ، وحذف منهم لدلالة الأول عليه ، والسعادة على ما قال الراغب : معاونة الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير ويضادها الشقاوة ، وفسر في البحر الشقاوة بنكد العيش وسوئه ، ثم قال : والسعادة ضدها ، وفي القاموس ما يقرب من ذلك ، فالشقي والسعيد هما المتصفان بما ذكر ، وفسر غير واحد الأول بمن استحق النار بمقتضى الوعيد والثاني بمن استحق الجنة بموجب الوعد ، وهذا هو المتعارف بين الشرعيين ، وتقديم الشقي على السعيد لأن المقام مقام الإنذار والتحذير (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) أي سبقت لهم الشقاوة (فَفِي النَّارِ) أي مستقرون فيها (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) قال أهل اللغة من الكوفية والبصرية : الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار والشهيق بمنزلة آخر نهيقه ، قال رؤبة :

حشرج في الصدر صهيلا أو شهق

حتى يقال ناهق وما نهق

وقال ابن فارس : الزفير إخراج النفس والشهيق رده ، قال الشماخ في حمار وحش :

بعيد مدى التطريب أول صوته

زفير ويتلوه شهيق محشرج

وقال الراغب : الزفير ترديد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه من زفر فلان إذا حمل حملا بمشقة فتردد فيه نفسه ، ومنه قيل : للإماء الحاملات الماء : زوافر والشهيق طول الزفير وهو رد النفس ، والزفير مدة ، وأصله من جبل شاهق أي متناه في الطول.

وعن السائب أن الزفير للحمير والشهيق للبغال وهو غريب ، ويراد بهما الدلالة على كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بحال من استولت على قلبه الحرارة وانحصر فيه روحه ، أو تشبيه أصواتهم بأصوات الحمير ففي الكلام استعارة تمثيلية أو استعارة مصرحة ، والمأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : يريد ندامة ونفسا عاليا وبكاء لا ينقطع ، وقرأ الحسن «شقوا» بضم الشين فاستعمل متعديا لأنه يقال : شقاه الله تعالى كما يقال أشقاه ، وجملة (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) إلخ مستأنفة كأن سائلا قال : ما شأنهم فيها؟ فقيل لهم فيها كذا وكذا ، وجوّز أن تكون منصوبة المحل على الحالية من النار أو من الضمير في الجار والمجرور كقوله عزوجل : (خالِدِينَ فِيها) خلا أنه إن أريد حدوث كونهم في النار فالحال مقدرة (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي مدة دوامهما ، وهذا عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع

٣٣٥

على منهاج قول العرب : لا أفعل كذا ما لاح كوكب وما أضاء الفجر وما اختلف الليل والنهار وما بل بحر صوفة وما تغنت حمامة إلى غير ذلك من كلمات التأييد عندهم لا تعليق قرارهم فيها بدوام هذه السماوات والأرض ، فإن النصوص القاطعة دالة على تأبيد قرارهم فيها وانقطاع دوامهما ، وروي هذا عن ابن جرير ، وجوز أن يحمل ذلك على التعليق والمراد بالسماوات والأرض سماوات الآخرة وأرضها ، وهي دائمة للأبد ، قال الزمخشري : والدليل على أن لها سماوات وأرضا قوله سبحانه : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم : ٤٨] وقوله سبحانه : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر : ٧٤] ولأنه لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم إما سماء يخلقها الله تعالى أو يظلهم العرش ، وكل ما أظلك فهو سماء انتهى.

قال القاضي : وفيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه ومن عرفه فإنما عرفه بما يدل على دوام الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه وأجاب عنه صاحب الكشف بأنه إذا أريد ما يظلهم وما يقلهم فهو ظاهر السقوط لأن هذا القدر معلوم الوجود لكل عاقل وأما الدوام فليس مستفادا من دليل دوام الثواب والعقاب بل مما يدل على دوام الجنة والنار سواء عرف أنهما دار الثواب والعقاب وأن أهلهما السعداء والأشقياء من الناس أولا على أنه ليس من تشبيه ما يعرف بما لا يعرف بل العكس انتهى ، وتعقبه الجلبي بأن قوله : لكل عاقل غير صحيح فإنه لا يعترف بذلك إلا المؤمنون بالآخرة ، وقوله : الدوام مستفاد مما يدل على دوام الجنة والنار لا يدفع ما ذكره القاضي لأنه يريد أن المشبه به ليس أعرف من المشبه لا عند المتدين لأنه يعرف كليهما من قبل الأنبياء عليهم‌السلام وليس فيه ما يوجب أعرفية دوام سماوات الآخرة وأرضها وليس مراده أن دوامهما مستفاد من خصوص الدليل الدال على الثواب والعقاب بعينه فإنه لا يهمه ليمنع ولا عند غير المتدين فإنه لا يعترف به ولا بها ولا يعرفه ، وقوله : على أنه ليس من تشبيه إلخ مبني على أنه تشبيه تلك الدار بهذه الدار وليس بذلك ، وإنما المراد التشبيه الضمني لدوامهم بدوامهما انتهى ، وفيه بحث.

والحق أن صحة إرادة ذلك مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان ، وفي الأخبار عن ابن عباس والحسن والسدي وغيرهم ما يقتضيه ، ومن تأمل منصفا بعد تسليم أن هناك تشبيها يظهر له أن المشبه به أعرف من المشبه وأقرب إلى الذهن ، واتحاد طريق العلم بهما لا يضر في ذلك شيئا بداهة أن ثبوت الحيز أعرف وأقرب إلى الذهن من ثبوت ما تحيز فيه وإن وردا من طرق السمع كما لا يخفى على أن اشتراط كون المشبه به أعرف وأقرب إلى الذهن من ثبوت ما تحيز فيه وإن وردا من طرق السمع كما لا يخفى على أن اشتراط كون المشبه به أعرف في كل تشبيه غير مسلم عند الناظر في المعاني ، نعم المتبادر من السموات والأرض هذه الأجرام المعهودة عندنا ، فالأولى أن تبقى على ظاهرها ويجعل الكلام خارجا مخرج ما اعتادته العرب في محاوراتهم عند إرادة التبعيد والتأبيد ، وهو أكثر من أن يحصى ، ولعل هذا أولى أيضا مما في تفسير ابن كثير من حمل السموات والأرض على الجنس الشامل لما في الدنيا والآخرة أي المظل والمقل في كل دار ، وفي الدرر أنه يمكن أن يكون المراد أنهم خالدون بمقدار مدة بقاء السموات والأرض التي يعلم انقطاعها ثم يزيدهم سبحانه على ذلك ويخلدهم ويؤبد مقامهم ، ولعله أراد مدة بقائهما منذ خلقهما الله تعالى إلى أن يبدلهما لا مدة بقائهما بعد دخولهم النار يوم القيامة لأنهما يبدلان قبل دخولهم ، والآية على هذا من قبيل قوله سبحانه : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) [النبأ : ٢٣] (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) قيل : هو استثناء من الضمير المستكن في (خالِدِينَ) وتكون (ما) واقعة على نوع من يعقل كما في قوله سبحانه : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] أو واقعة على من يعقل على مذهب من يرى وقوعها عليه مطلقا.

والمراد بمن شاء فساق الموحدين فإنهم يخرجون منها كما نطقت به الأخبار ، وذلك كاف في صحة الاستثناء لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض وهم المراد بالاستثناء الثاني فإنهم مفارقون عن الجنة أيام عذابهم ،

٣٣٦

والتأبيد من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء ، ألا ترى أنك إذا قلت مكثت يوم الخميس في البستان إلا ثلاث ساعات جاز أن يكون ذلك الزمان الواقع فيه عدم المكث من أوله ومن آخره ، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم ، ولا يقال : فعلى هذا لا يكون قوله سبحانه : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) تقسيما صحيحا لأن من شرطه أن تكون صفة كل قسم منفية عن قسيمه لأن ذلك الشرط حيث الانفصال حقيقي أو مانع من الجمع ، وهاهنا المراد أن أهل الموقف لا يخرجون من القسمين وأن حالهم لا تخلو عن السعادة والشقاوة ، وذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص واحد باعتبارين انتهى ، وهو ما ذكره الإمام وآثره القاضي ، واعترض بأنه لا دلالة في اللفظ على المبدأ المعين ولو سلم فالاستثناء يقتضي إخراجا عن حكم الخلود وهو لا محالة بعد الدخول ، فكيف ينتقض بما سبق عليه؟ كيف وقد سبق قوله تعالى : في الجنة؟ ثم قيل : فإن قلت : زمان تفرقهم عن الموقف هو الابتداء وهو آخر يوم يأتي قلت : إن ادعى أن الابتداء من ابتداء ذلك الزمان جاز أن يسلم دلالة اللفظ عليه ولا ينفع لأن الكل في الدارين غير خالدين على هذا التقدير ، وأما جعل ابتداء المدة من انتهائه فلا ، وبأن تقابل الحكمين يدل على تقابل القسمين بمعنى منع الجمع مطلقا ؛ وأجيب ـ بعد غمض العين عما في ذلك من الخروج عن آداب المناظرة ـ بأن مبدأ زمان خلود أهل الجنة من زمان دخول أهل النار في النار ، ويدل على ذلك اتحاد معيار الخلودين ، وهو (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) فإنه يدل على زمان خلودهما ولا اتحاد مع الاختلاف في المبدأ ، والاستثناء عن حكم الخلود من مبدأ معين يكون بالإخراج عن حكم الدخول الذي يتضمنه الخلود فيها لا محالة.

وخلاصة المعنى على هذا أن السعداء كلهم خالدون في الجنة من زمان دخول أهل النار في النار إلا العصاة منهم الذين أراد الله سبحانه دخولهم في النار مدة معينة علمها عنده جل وعلا ، وما ذكر من حديث تقابل الحكمين إن أريد تقابلهما بمعنى منع الجمع فلا تقابل فيهما بهذا المعنى لاجتماعهما في العصاة ، وإن أريد مطلقا فلا دلالة على تقابل القسمين بذلك المعنى انتهى.

ولا يخفى على المنصف ما في ذلك القول من التكلف ومخالفة الظاهر والانتصار له بما ذكر لا يجديه نفعا ، وقيل : هو استثناء من الضمير المتقدم إلا أن الحكم الخلود في عذاب النار ، وكذا يقال فيما بعد : إن الحكم فيه الخلود في نعيم الجنة وأهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحيانا وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى منها كالاتصال بجناب القدس والفوز برضوان الله تعالى الذي هو أكبر وما يتفضل به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو سبحانه وتعالى ، وإلى هذا ذهب الزمخشري سالا سيف البغي والاعتزال ، وقد رده العلامة الطيبي وأطال الكلام في ذلك.

وقال صاحب الكشف : إن ذلك في أهل النار ظاهر لأنهم ينقلون من حر النار إلى برد الزمهرير ، والرد بأن النار عبارة عن دار العقاب غير وارد لأنا لا ننكر استعمال النار فيها تغليبا أما دعوى الغلبة حتى يهجر الأصل فكلا ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (ناراً تَلَظَّى) [الليل : ١٤] (ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [التحريم : ٦]؟ وكم وكم ، وأما رضوان الله تعالى عن أهل الجنة وهم فيها فيأبى الاستثناء كيف وقوله سبحانه : (خالِدِينَ فِيها) لا يدل بظاهره على أنهم منعمون بها فضلا عن انفرادها بتنعمهم إلا أن يخصص بجنة الثواب لا محض التفضل ، وكفاه بطلانا التخصيص من غير دليل ، واعترض بأن لك أن تقول : هجر الأصل في الآيتين اللتين ذكرتا علم من الوصف ، وفي هذه الآية ذكرها في مقابلة الجنة يعضد أن المراد بها دار العقاب مطلقا.

وقيل : إن الاستثناء مفرغ من أعم الأوقات و (ما) على أصلها لما لا يعقل وهو الزمان والحكم الكون في

٣٣٧

النار ، والمعنى أما الذين شقوا ففي النار في كل زمان بعد إتيان ذلك اليوم إلا زمانا شاء الله تعالى فيه عدم كونهم فيها وهو زمان موقف الحساب ، واعترض بأن عصاة المؤمنين الداخلين النار إما سعداء فيلزم أن يخلدوا في الجنة فيما سوى الزمان المستثنى وليس كذلك. أو أشقياء فيلزم أن يخلدوا في النار وهو خلاف مذهب أهل السنة ، وأيضا تأخره عن الحال ـ ولا مدخل لها في الاستثناء ـ لا يفصح ، والإبهام بقوله سبحانه : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) والتفخيم الذي يعطيه لا يبقى له رونق ، وأجيب بأنه قد يقال : إن القائل بذلك يخص الأشقياء بالكفار والسعداء بالأتقياء ويكون العصاة مسكوتا عنهم هنا فلا يرد عليه شيء إن كان سنيا وإن كان معتزليا فقد وافق سنن طبعه ، ويجاب عما بعد بالمنع ، وقيل : أمر الاستثناء ما علمت إلا أن المستثنى مدة لبثهم في الدنيا أو البرزخ ويقطع النظر عن (يَوْمَ يَأْتِ) والمعنى أنهم في النار جميع أزمان وجودهم إلا زمانا شاء الله تعالى لبثهم في الدنيا أو البرزخ ، والمراد مع زمان الموقف إذ ليسوا في زمانه أيضا في النار إلا أن يراد بالنار العذاب فلا يحتاج للمعية لكن يرد أنهم معذبون في البرزخ أيضا إلا أن يقال : لا يعتد بذلك لأنه عذاب غير تام لعدم تمام حياتهم فيه ، وأورد عليه ما أورد على ما قبله ، وأجيب بأنه إنما يرد لو كان المستثنى في الاستثناء الثاني هو ذلك الزمان المستثنى في الاستثناء الأول وهو غير مسلم فليكن المستثنى منه زمان لبثهم في النار مع ذلك الزمان المستثنى في الآية الأولى فإن المستثنى ليس فيه ما يدل على تعيين زمان حتى لا يمكن الزيادة عليه وهو كما ترى.

وقيل : هو استثناء من قوله سبحانه : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) ورد بأن المقابل لا يجري فيه هذا ويبقى الإشكال ، وأجيب بأن المراد ذكر ما تحتمله الآية والاطراد ليس بلازم ، وتعقب بأنه ليس المراد إلا بيان ضعف هذا الوجه وكفى بعدم الاطراد ضعفا ، وقيل : (إِلَّا) بمعنى سوى كقولك : لك عليّ ألفان إلا الألف التي كانت يعني سواها ، ونقل ذلك عن الزجاج والفراء والسجاوندي ، والمعنى سوى ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها على مدة بقاء السموات والأرض ، والاستثناء في ذلك منقطع ، ويحتمل أن يريدوا أن (إِلَّا) بمعنى غير صفة لما قبلها والمعنى يخلدون فيها مقدار مدة السموات والأرض سوى ما شاء الله تعالى مما لا يتناهى ، وضعف هذا القيل بأنه يلزم حمل السموات والأرض على هذين الجسمين المعروفين من غير نظر إلى معنى التأبيد وهو فاسد ، وقيل : (إِلَّا) بمعنى الواو أي وما شاء ربك زائدا على ذلك ، واستشهد على مجيئها بمعنى الواو بقوله :

وكل أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك «إلا» الفرقدان

وفيه أن هذا قول مردود عند النحاة ، وقال العلامة الطيبي : الحق الذي لا محيد عنه أن يحمل (ما) على من لإرادة الوصفية وهي المرحومية ، و (خالِدِينَ) حال مقدرة من ضمير الاستقرار أي في النار ، والمعنى وأما الذين شقوا ففي النار مقدرين الخلود إلا المرحوم الذي شاء الله تعالى أن لا يستقر مخلدا فيفيد أن لا يستقر فيها مطلقا أو يستقر غير مخلد ، وأحوال العصاة على هذا النهج كما علم من النصوص ، وفي ذلك إيذان بأن إخراجهم بمحض رحمة الله تعالى فينطبق عليه قوله سبحانه : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) وتعقب بأنه لا يجري في المقابل إلا بتأويل الإمام وقد مر ما فيه ، أو بجعله من أصل الحكم ويقتضي أن لا يدخلوا أصلا ، وإذا أول بمقدرين فلو جعل استثناء من مقدرين لم يتجه ، ومن قوله تعالى : (فَفِي النَّارِ) فلا يكون لهم دخول أصلا ، ودلالة «ما» لإبهامها إما على التفخيم أو التحقير ولا يطابق المقام ، وقيل : وقيل ، والأوجه أن يقال : إن الاستثناء في الموضعين مبني على الفرض والتقدير فمعنى إلا ما شاء أي لو فرض أن الله تعالى شاء إخراجهم من النار أو الجنة في زمان لكان مستثنى من مدة خلودهم لكن ذلك لا يقع لدلالة القواطع على عدم وقوعه ، وهذا كما قال الطيبي من أسلوب (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف :

٣٣٨

٤٠] و (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦] وذكر أنه وقف على نص من قبل الزجاج يوافق ذلك.

وفي المعالم عن الفراء أيضا ما يوافقه حيث نقل عنه أنه قال : هذا استثناء استثناء سبحانه ولا يفعله كقولك : والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه ، وحذو القذة بالقذة ما نقله قبل عن بعضهم أن المعنى لو شاء لأخرجهم لكنه لا يشاء لأنه سبحانه حكم لهم بالخلود.

وفي البحر عن ابن عطية نقلا عن بعض ما هو بمعناه أيضا حيث قال : وأما قوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) فقيل فيه : إنه على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام فهو على نحو قوله جل وعلا : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [الفتح : ٢٧] استثناء في واجب ، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كأنه قيل : إن شاء ربك فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع ، وممن ذهب إلى ذلك أيضا الفاضل ميرزا جان الشيرازي في تعليقاته على تفسير القاضي ونص على أنه من قبيل التعليق بالمحال حتى يثبت محالية المعلق ويكون كدعوى الشيء مع بينة ، وهو أحد الأوجه التي ذكرها السيد المرتضى في درره ، وتفسير الاستثناء الأول بالشرط أخرجه ابن مردويه عن جابر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ذكر ذلك الجلال السيوطي في الدر المنثور ، ولعل النكتة في هذا الاستثناء على ما قيل : إرشاد العباد إلى تفويض الأمور إليه جل شأنه وإعلامهم بأنها منوطة بمشيئته جل وعلا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا حق لأحد عليه ولا يجب عليه شيء كما قال تبارك وتعالى : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ).

وذكر بعض الأفاضل أن فائدته دفع توهم كون الخلود أمرا واجبا عليه تعالى لا يمكن له سبحانه نقضه كما ذهب إليه المعتزلة حيث أخبر به جل وعلا مؤكدا ، والمراد ـ بالذين شقوا ـ على هذا الوجه الكفار فقط فإنهم الأحقاء بهذا الاسم على الحقيقة ـ وبالذين سعدوا ـ المؤمنون كافة مطيعهم وعاصيهم فيكون التقسيم في قوله سبحانه : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) للانفصال الحقيقي ولا ينافيه قوله تعالى : (فَفِي الْجَنَّةِ) لأنه يصدق بالدخول في الجملة.

وفي الكشف بعد نقل أن الاستثناء من باب (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ) فإن قلت : فقد حصل مغزى الزمخشري من خلود الفساق ، قلت : لا كذلك لأنهم داخلون في السعداء ، والآية تقتضي خلود السعيد وذلك بعد دخوله فيها لا محالة ، ولا تنفي كينونته في النار قبل دخوله في الجنة فإن اللفظ لا يقتضي أن يدخلوا ـ أعني السعداء ـ كلهم في الجنة معا كيف والقاطع يدل على دخولهم أولا فأولا على حسب مراتبهم انتهى فتأمل ، فإن الآية من المعضلات.

وإنما لم يضمر في (إِنَّ رَبَّكَ) إلخ كما هو الظاهر لتربية المهابة وزيادة التقرير ، واللام في (لِما) قيل: للتقوية أي فعال ما يريده سبحانه لا يتعاصى عليه شيء بوجه من الوجوه.

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) الكلام فيه ما علمت خلا أنه لم يذكر هاهنا أن لهم بهجة وسرورا كما ذكر في أهل النار (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) لأن المقام مقام التحذير والإنذار ، و (سُعِدُوا) بالبناء للمفعول قراءة حمزة والكسائي وحفص ونسبت إلى ابن مسعود وطلحة بن مصرف وابن وثاب والأعمش ، وقرأ جمهور السبعة «سعدوا» بالبناء للفاعل ، واختار ذلك على ابن سليمان ، وكان يقول : عجبا من الكسائي كيف قرأ «سعدوا» مع علمه بالعربية ، وهذا عجيب منه فإنه ما قرأ إلا ما صح عنده ولم يقرأ بالرأي ولم يتفرد بذلك ، وروي عنه أنه احتج لذلك بقولهم : مسعود ، وتعقب بأنه لا حجة فيه لاحتمال أنه كان مسعود فيه ، وذكر أن الفراء حكى أن هذيلا تقول : سعده الله تعالى بمعنى أسعده ، وقال الجوهري : سعد بالكسر فهو سعيد مثل

٣٣٩

قولهم : سلم فهو سليم ، وسعد فهو مسعود ، وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري : ورد سعده الله تعالى فهو مسعود. وأسعده الله تعالى فهو مسعد ، وما ألطف الإشارة في ـ شقوا وسعدوا ـ على قراءة البناء للفاعل في الأول والبناء للمفعول في الثاني ، فمن وجد ذلك فليحمد الله تعالى. ومن لم يجد فلا يلومنّ إلا نفسه (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير مقطوع عنهم ولا مخترم ، ومصدره الجذ ، وقد جاء جذذت. وجددت بالذال المعجمة والدال كما قال ابن قتيبة ، وبالمعجمة أكثر ، ونصب (عَطاءً) على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله سبحانه : (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) يقتضي إعطاء وإنعاما فكأنهم قيل : يعطيهم إعطاء وهو إما اسم مصدر هو الإعطاء. أو مصدر بحذف الزوائد كقوله تعالى : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] ، وقيل : هو نصب على الحالية من المفعول المقدر للمشيئة. أو تمييز ، فإن نسبة مشيئة الخروج إلى الله تعالى تحتمل أن تكون على جهة عطاء مجذوذ ، وعلى جهة عطاء غير مجذوذ فهو رافع للإبهام عن النسبة ، ولعل النصب على المصدرية أولى وكأنه جيء بذلك اعتناء ومبالغة في التأبيد ودفعا لما يتوهم من ظاهر الاستثناء من الانقطاع ، وقيل : إن ذلك لبيان أن ثواب أهل الجنة ـ وهو إما نفس الدخول أو ما هو كاللازم البين له ـ لا ينقطع فيعلم منه أن الاستثناء ليس للدلالة على الانقطاع كما في العقاب بل للدلالة على ترادف نعم ورضوان من الله تعالى ؛ أو لبيان النقص من جانب المبدأ ولهذا فرق في النظم بين التأبيد من حيث تمم الأول بقوله سبحانه : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) للدلالة على أنه ينعم بعض من يعذبه ويبقى غيره كما يشاء ويختار ؛ والثاني بقوله تعالى : (عَطاءً) إلخ بيانا لأن إحسانه لا ينقطع ، ومن الناس من تمسك بصدر الآية أنه لا يبقى في النار أحد ولم يقل بذلك في الجنة ، وتقوى مطلبه ذاك بما أخرجه ابن المنذر عن الحسن قال : قال عمر : لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه ، وبما أخرج إسحاق بن راهويه عن أبي هريرة قال : سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد ، وقرأ (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) الآية ، وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال : ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) قال : وقال ابن مسعود : ليأتين عليها زمان تصفق فيه أبوابها ، وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال : جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعهما خرابا إلى غير ذلك من الآثار.

وقد نص ابن الجوزي على وضع بعضها كخبر عن عبد الله بن عمرو بن العاص يأتي على جهنم يوم ما فيها من ابن آدم أحد تصفق أبوابها كأنها أبواب الموحدين ، وأول البعض بعضها ؛ ومر شيء من الكلام في ذلك ، وأنت تعلم أن خلود الكفار مما أجمع عليه المسلمون ولا عبرة بالمخالف ، والقواطع أكثر من أن تحصى ، ولا يقاوم واحدا منها كثير من هذه الأخبار ، ولا دليل في الآية على ما يقوله المخالف لما علمته من الوجوه فيها ولا حاجة إلى دعوى النسخ فيها كما روي عن السدي بل لا يكاد يصح القول بالنسخ في مثل ذلك ، هذا وقد ذكر أن في الآية صيغة الجمع مع التفريق والتقسيم أما الجمع ففي قوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) فإن النفس كما تقرر عامة لكونها نكرة في سياق النفي ، وأما التفريق ففي قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) وأما التقسيم ففي قوله سبحانه : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) إلخ ونظيرها في ذلك قول الشريف القيرواني :

لمختلفي الحاجات جمع ببابه

فهذا له فن وهذا له فن

فللخامل العليا وللمعدم الغنى

وللمذنب العتبى وللخائف الأمن

ومن هنا يعلم حال الفاءين فاء (فَمِنْهُمْ) وفاء (فَأَمَّا) إلخ ، قيل : وفي العدول عن فأما الشقي ففي النار خالدا فيها إلخ. وأما السعيد ـ أو المسعود ـ ففي الجنة خالدا فيها إلخ إلى ما في النظم الجليل إشارة إلى سبق هذه الشقاوة

٣٤٠