روح المعاني - ج ٦

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٦

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٣

على ما قيل : حرف وضع للاستثناء والتنزيه معا ثم نقل وجعل اسما بمعنى التنزيه وتجرد عن معنى الاستثناء ولم ينون مراعاة لأصله المنقول عنه ، وكثيرا ما يراعون ذلك ألا تراهم قالوا : جلست من عن يمينه؟ فجعلوا ـ عن ـ اسما ولم يعربوه ، وقالوا : غدت من عليه فلم يثبتوا ألف على مع المضمر كما أثبتوا ألف فتى في فتاة كل ذلك مراعاة للأصل ، واللام للبيان فهي متعلقة بمحذوف ، ورد في البحر دعوى إفادته التنزيه في الاستثناء بأن ذلك غير معروف عند النحاة ، ولا فرق بين قام القوم إلّا زيدا ، وحاشا زيدا ، وتعقب بأن عدم ذكر النحاة ذلك لا يضر لأنه وظيفة اللغويين لا وظيفتهم ، واعترض بعضهم حديث النقل بأن الحرف لا يكون اسما إلّا إذا نقل وسمي به وجعل علما ، وحينئذ يجوز فيه الحكاية والإعراب ، ولذا جعله ابن الحاجب اسم فعل بمعنى برىء الله تعالى من السوء ، ولعل دخول اللام كدخولها في (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) ، وكون المعنى على المصدرية لا يرد عليه لأنه قيل : إن أسماء الأفعال موضوعة لمعاني المصادر وهو المنقول عن الزجاج ، نعم ذهب المبرد ، وأبو علي ، وابن عطية ، وجماعة إلى أنه فعل ماض بمعنى جانب ، وأصله من حاشية الشيء وحشيه أي جانبه وناحيته ، وفيه ضمير يوسف واللام للتعليل متعلقة به أي جانب يوسف ما قرف به لله تعالى أي لأجل خوفه ومراقبته ، والمراد تنزيهه وبعده كأنه صار في جانب عما اتهم به لما رؤي فيه من آثار العصمة وأبهة النبوة عليه الصلاة والسلام ، ولا يخفى أنه على هذا يفوت معنى التعجب ، واستدل على اسميتها بقراءة أبي السمال «حاشا لله» بالتنوين ، وهو في ذلك على حد : سقيا لك ، وجوز أن يكون اسم فعل والتنوين كما في صه ، وكذا بقراءة أبي ، وعبد الله (١) رضي الله تعالى عنهما ـ حاشا الله ـ بالإضافة كسبحان الله ، وزعم الفارسي أن (حاشَ) في ذلك حرف جر مرادا به الاستثناء كما في قوله :

حاشا أبي ثوبان إن أبا

ثوبان ليس ببكمة فدم

ورد بأنه يتقدمه هنا ما يستثنى منه ، وجاء في رواية عن الحسن أنه قرأ ـ حاش لله ـ بسكون الشين وصلا ووقفا مع لام الجر في الاسم الجليل على أن الفتحة اتبعت الألف في الإسقاط لأنها كالعرض اللاحق لها ، وضعفت هذه القراءة بأن فيها التقاء الساكنين على غيره حده ، وفي رواية أخرى عنه أنه قرأ ـ حاش الإله ـ وقرأ الأعمش ـ حشا لله ـ بحذف الألف الأولى ، هذا واستدل المبرد ، وابن جني ، والكوفيون على أن ـ حاش ـ قد تكون فعلا بالتصرف فيها بالحذف كما علمت في هذه القراءات ، وبأنه قد جاء المضارع منها كما في قول النابغة :

ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه

ولا ـ أحاشى ـ من الأقوام من أحد

ومقصودهم الرد على ـ س ـ وأكثر البصرية حيث أنكروا فعليتها ، وقالوا : إنها حرف دائما بمنزلة إلّا لكنها تجر المستثنى ، وكأنه لم يبلغهم النصب بها كما في قوله حاشا قريشا فإن الله فضلهم وربما يجيبون عن التصرف بالحذف بأن الحذف قد يدخل الحرف كقولهم : أما والله ، وأم والله ، نعم ردّ عليهم أيضا بأنها تقع قبل حرف الجر ، ويقابل هذا القول ما ذهب إليه الفراء من أنها لا تكون حرفا أصلا بل هي فعل دائما ولا فاعل لها ، والجر الوارد بعدها كما في حاشاي إني مسلم معذور والبيت المار آنفا بلام مقدرة ، والحق أنها تكون فعلا تارة فينصب ما بعدها ولها فاعل وهو ضمير مستكن فيها وجوبا يعود إما على البعض المفهوم من الكلام ، أو المصدر المفهوم من الفعل ، ولذا لم يثن ، ولم يجمع ، ولم يؤنث ، وحرفا أخرى ويجر ما بعدها ، ولا تتعلق بشيء كالحروف الزائدة عند ابن هشام ، أو تتعلق بما قبلها من فعل أو شبهه عند بعض ، ولا تدخل عليها إلّا كما إذا كانت فعلا خلافا للكسائي في زعمه جواز ذلك إذا

__________________

(١) وروي عنهما أيضا. كما قاله صاحب اللوامح. كقراءة أبي عمرو ا ه منه.

٤٢١

جرت ، وأنها إذا وقعت قبل لام الجر كانت اسم مصدر مرادفا للتنزيه ، وتمام الكلام في محله (ما هذا بَشَراً) نفين عنه البشرية لما شاهدن من جماله الذي لم يعهد مثاله في النوع الإنساني ، وقصرهن على الملكية بقولهن : (إِنْ هذا) أي ما هذا (إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) أي شريف كثير المحاسن بناء على ما ركز في الطباع من أنه لا حي أحسن من الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان ولذا لا يزال يشبه بهما كل متناه في الحسن والقبح وإن لم يرهما أحد ، وأنشدوا لبعض العرب :

فلست لأنسى ولكن لملأك

تنزل من جو السماء يصوب

وكثر في شعر المحدثين ما هو من هذا الباب ، ومنه قوله :

ترك إذا قوبلوا كانوا ملائكة

حسنا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا

وغرضهن من هذا وصفه بأنه في أقصى مراتب الحسن والكمال الملائم لطباعهن ، ويعلم مما قرر ان الآية لا تقوم دليلا على أن الملك أفضل من بني آدم كما ظن أبو علي الجبائي ، واتباعه ، وأيده الفخر ـ ولا فجر له ـ بما أيده ، وذهب غير واحد إلى أن الغرض تنزيهه عليه‌السلام عما رمي به على أكمل وجه ، وافتتحوا ذلك ـ بحاشا لله ـ على ما هو الشائع في مثل ذلك ، ففي شرح التسهيل الاستعمال على أنهم إذا أرادوا تبرئة أحد من سوء ابتدءوا تبرئة الله سبحانه من السوء ثم يبرءون من أرادوا تبرئته على معنى أن الله تعالى منزه عن أن لا يطهره مما يضيمه فيكون آكد وأبلغ ، والمنصور ما أشير إليه أولا وهو الذي يقتضيه السياق والسباق ، نعم هذا الاستعمال ظاهر فيما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله تعالى عن النسوة : (حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) [يوسف : ٥١] و (ما) عاملة عمل ليس وهي لغة للحجازيين لمشابهتها لها في نفي الحال على ما هو المشهور في ليس من أنها لذلك أو في مطلق النفي بناء على ما قال الرضي من أنها ترد لنفي الماضي ، والمستقبل ، والغالب على لغتهم جر الخبر بالباء حتى إن النحويين لم يجدوا شاهدا على النصب في أشعارهم غير قوله :

وأنا النذير بحرة مسودة

تصل الجيوش إليكم قوادها

أبناؤها متكنفون أباهم

حنقوا الصدور وما هم أولادها

والزمخشري يسمي هذه اللغة : اللغة القدمى الحجازية ، ولغة بني تميم في مثل ذلك الرفع ، وعلى هذا جاء قوله :

ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب

فأجاب ما قتل المحب حرام

وبلغتهم قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، وزعم ابن عطية أنه لم يقرأ بها أحد هنا ، وقرأ الحسن وأبو الحويرث الحنفي ؛ ما هذا بشرى ـ بالباء الجارة ، وكسر الشين على أن شرى ـ كما قال صاحب اللوائح ـ مصدر أقيم مقام المفعول به (١) أي ما هذا بمشرى أي ليس ممن يشترى بمعنى أنه أعز من أن يجري عليه ذلك.

وروى هذه القراءة عبد الوارث عن أبي عمرو أيضا إلا أنه روي عنه أنه مع ذلك كسر اللام من ملك ، وروى الكسر بن عطية عن الحسن ، وأبي الحويرث أيضا ، والمراد إدخاله في حيز الملوك بعد ، ففي كونه مما يصلح للملوكية فبين الجملتين تناسب ظاهر ، وكأن بعضهم لم ير أن من قرأ بذلك قرأ أيضا «ملك» بكسر اللام فقال: لتحصيل التناسب بينهما في تفسير ذلك أي ما هذا بعبد مشترى لئيم (٢) ، وعلى التقديرين لا يقال : إن هذه القراءة

__________________

(١) وجوز إبقاءه على المصدرية أي لم يحصل هذا بشرى ا ه منه.

(٢) والأولى أن يقال : أي ما هذا عبد لئيم فيملك بل سيد كريم ما لك فتدبر ا ه منه.

٤٢٢

مخالفة لمقتضى المقام ، نعم إنها مخالفة لرسم المصحف لأنه لم يكتب ذلك بالياء فيه.

(قالَتْ فَذلِكُنَ) الفاء فصيحة والخطاب للنسوة والإشارة ـ حسبما يقتضيه الظاهر ـ إلى يوسف عليه‌السلام بالعنوان الذي وصفته به الآن من الخروج في الحسن والكمال عن المراتب البشرية ، والاقتصار على الملكية أو بعنوان ما ذكر مع الأخبار وتقطيع الأيدي بسببه أيضا ، فاسم الإشارة مبتدأ والموصول خبره ، والمعنى إن كان الأمر كما قلتن فذلكن الملك الكريم الخارج في الحسن عن المراتب البشرية ، أو الذي قطعتن أيديكن بسببه وأكبرتنه ووصفتنه بما وصفتنه هو (الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أي عيرتنني في الافتنان فيه أو بالعنوان الذي وصفنه به فيما سبق بقولهن : امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني ، فاسم الإشارة خبر لمبتدإ محذوف دخلت الفاء عليه بعد حذفه ، والموصول صفة اسم الإشارة أي فهو ذلكن العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن وقلتن فيه وفيّ ما قلتن ، فالآن قد علمتن من هو وما قولكن فينا ، وقيل (١) : أرادت هذا ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه على معنى أنكن لم تصورنه بحق صورته ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتتان به ، والإشارة بما يشار به إلى البعيد مع قرب المشار إليه وحضوره قيل : رفعا لمنزلته في الحسن واستبعادا لمحله فيه ، وإشارة إلى أنه لغرابته بعيد أن يوجد مثله.

وقيل : إن يوسف عليه‌السلام كان في وقت اللوم غير حاضر وهو عند هذا الكلام كان حاضرا فإن جعلت الإشارة إليه باعتبار الزمان الأول كانت على أصلها ، وإن لوحظ الثاني كان قريبا ، وكانت الإشارة بما ذكر لتنزيله لعلو منزلته منزلة البعيد ، واحتمال أنه عليه‌السلام أبعد عنهن وقت هذا الكلام لئلا يزددن دهشة وفتنة ولذا أشير إليه بذلك بعيد.

وجوز ابن عطية كون الإشارة إلى حب يوسف عليه‌السلام ، وضمير (فِيهِ) عائد إليه ، وجعل الإشارة على هذا إلى غائب على بابها ويبعده على ما فيه (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) وهو إباحة منها ببقية سرها بعد أن أقامت عليهن الحجة وأوضحت لديهن عذرها وقد أصابهن من قبله ما أصابها (٢) أي والله لقد راودته حسبما قلتن وسمعتن (فَاسْتَعْصَمَ) قال ابن عطية : أي طلب العصمة وتمسك بها وعصاني.

وفي الكشاف أن الاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد كأنه في عصمة وهو مجتهد في الاستزادة منها ، ونحوه استمسك واستوسع الفتق واستجمع الرأي واستفحل الخطب ا ه.

وفي البحر والذي ذكره الصرفيون في «استعصم» أنه موافق لاعتصم ، وأما استمسك واستوسع واستجمع فاستغفل فيه أيضا موافقة لافتعل ، والمعنى امتسك واتسع واجتمع ، وأما استفحل فاستفعل فيه موافقة لتفعل أي تفحل نحو استكبر وتكبر ، فالمعنى فامتنع عما أرادت منه ؛ وبالامتناع فسرت العصمة على إرادة الطلب لأنه هو معناها لغة ، قيل : وعنت بذلك فراره عليه‌السلام منها فإنه امتنع منها أولا بالمقال ثم لما لم يفده طلب ما يمنعه منها بالفرار ، وليس المراد بالعصمة ما أودعه الله تعالى في بعض أنبيائه عليهم‌السلام مما يمنع عن الميل للمعاصي فإنه معنى عرفي لم يكن قبل بل لو كان لم يكن مرادا كما لا يخفى ، وتأكيد الجملة بالقسم مع أن مضمونها من مراودتها له عن نفسه مما تحدث به النسوة لإظهار ابتهاجها بذلك.

__________________

(١) تعقبه المولى أبو السعود بأنه لا يلائم المقام وبين ذلك بما فيه تأمل ا ه منه.

(٢) وكأنها عملت مما قيل :

لا تخف ما صنعت بك الأشواق

واشرح هواك فكلنا عشاق

٤٢٣

وقيل : إنه باعتبار المعطوف وهو الاستعصام كأنها نظمته لقوة الداعي إلى خلافه من كونه عليه‌السلام في عنفوان الشباب ومزيد اختلاطه معها ومراودتها إياه مع ارتفاع الموانع فيما تظن في سلك ما ينكر ويكذب المخبر به فأكدته لذلك وهو كما ترى ، وفي الآية دليل على أنه عليه‌السلام لم يصدر منه ما سود به القصاص وجوه الطروس ، وليت السدي لو كان قد سد فاه عن قوله : (فَاسْتَعْصَمَ) بعد حل سراويله ، ثم إنها بعد أن اعترفت لهن بما سمعنه وتحدثهن به وأظهرت من إعراضه عنها واستعصامه ما أظهرت ذكرت أنها مستمرة على ما كانت عليه لا يلويها عنها لوم ولا إعراض فقالت : (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ) أي الذي آمر به فيما سيأتي كما لم يفعل فيما مضى ـ فما ـ موصولة والجملة بعدها صلة والعائد الهاء ، وقد حذف حرف الجر منه فاتصل بالفعل وهذا أمر شائع مع ـ أمر ـ كقوله :

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

ومفعول ـ أمر ـ الأول إما متروك لأن مقصودها لزوم امتثال ما أمرت به مطلقا كما قيل ، وإما محذوف لدلالة (يَفْعَلْ) عليه وهو ضمير يعود على يوسف أي ما آمره به.

وجوز أن يكون الضمير الموجود هو العائد على يوسف والعائد على الموصول محذوف أي به ، ويعتبر الحذف تدريجا لاشتراطهم في حذف العائد المجرور بالحرف كونه مجرورا بمثل ما جرّ به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا ، وإذا اعتبر التدريج في الحذف يكون المحذوف منصوبا ، وكذا يقال في أمثال ذلك.

وقال ابن المنير في تفسيره : إن هذا الجار مما أنس حذفه فلا يقدر العائد إلّا منصوبا مفصولا كأنه قيل : أمر يوسف إياه لتعذر اتصال ضميرين من جنس واحد ، ويجوز أن تكون (ما) مصدرية فالضمير المذكور ليوسف أي لئن لم يفعل أمري إياه ، ومعنى فعل الأمر فعل موجبه ومقتضاه فهو إما على الإسناد المجازي أو تقدير المضاف ، وعبرت عن مراودتها بالأمر إظهارا لجريان حكومتها عليه واقتضاء للامتثال لأمرها (لَيُسْجَنَنَ) بالنون الثقيلة آثرت بناء الفعل للمفعول جريا على رسم الملوك.

وجوز أن يكون إيهاما لسرعة ترتب ذلك على عدم امتثاله لأمرها كأنه لا يدخل بينهما فعل فاعل.

(وَلَيَكُوناً) بالمخففة (مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي الأذلاء المهانين ، وهو من صغر كفرح ، ومصدر صغر بفتحتين ، وصغرا بضم فسكون ، وصغار بالفتح ، وهذا في القدر ، وأما في الجثة والجرم فالفعل صغر ككرم ، ومصدره صغر كعنب ، وجعل بعضهم الصغار مصدرا لهذا أيضا ، وكذا الصغر بالتحريك ، والمشهور الأول ، وأكدت السجن بالنون الثقيلة قيل : لتحققه ، وما بعده بالنون الخفيفة لأنه غير متحقق.

وقيل : لأن ذلك الكون من توابع السجن ولوازمه ، فاكتفت في تأكيده بالنون الخفيفة بعد أن أكدت الأول بالثقيلة ، وقرأت فرقة بالتثقيل فيهما وهو مخالف لرسم المصحف لأن النون رسمت فيه بالألف ـ كنسفعا ـ على حكم الوقف وهي يوقف عليها بالألف كما في قول الأعشى

ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

وذلك في الحقيقة لشبهها

بالتنوين لفظا لكونها نونا ساكنة مفردة تلحق الآخر ، واللام الداخلة على حرف الشرط موطئة للقسم وجوابه سادّ مسدّ الجوابين ، ولا يخفى شدة ما توعدت به كيف وأن للذل تأثيرا عظيما في نفوس الأحرار وقد يقدمون الموت عليه وعلى ما يجرّ إليه ، قيل : ولم تذكر العذاب الأليم الذي ذكرته في (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) [يوسف : ٢٥] إلخ لأنها إذ ذاك كانت في طراوة غيظها ومتنصلة من أنها هي التي راودته فناسب هناك التغليظ بالعقوبة ، وأما هنا فإنها في طماعية ورجاء ، وإقامة عذرها عند النسوة فرقت عليه فتوعدته بالسجن وما هو من فروعه ومستتبعاته ، وقيل : إن قولها : (لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) إنما أتت به بدل قولها هناك : (عَذابٌ أَلِيمٌ) ذله بالقيد أو بالضرب أو بغير ذلك ،

٤٢٤

لكن يحتمل أنها أرادت بالذل والعذاب الأليم ما يكون بالضرب بالسياط فقط ، أو ما يكون به أو بغيره ، أو أرادت بالذل ما يكون بالضرب ، وبالعذاب الأليم ما يكون به ، أو بغيره أو العكس وكيفما كان الأمر فما طلبته هنا أعظم مما لوحت بطلبه هناك لمكان الواو هنا وأو هناك ، ولعلها إنما بالغت في ذلك بمحضر عن تلك النسوة لمزيد غيظها بظهور كذبها وصدقه وإصراره على عدم بلّ غليلها ، ولتعلم يوسف عليه‌السلام أنها ليست في أمرها على خيفة ولا خفية من أحد ، فيضيق عليه الحيل ويعيي به العلل وينصحن له ويرشدنه إلى موافقتها فتدبر (قالَ) استئناف بياني كأن سائلا يقول : فما ذا صنع يوسف حينئذ؟ فقيل : (قالَ) مناجيا لربه عزوجل (رَبِّ السِّجْنُ) الذي وعدتني بالإلقاء فيه ، وهو اسم للمحبس ، وقرأ عثمان مولاه طارق وزيد بن علي والزهري وابن أبي إسحاق وابن هرمز ويعقوب «السّجن» بفتح السين على أنه مصدر سجنه أي حبسه ، وهو في القراءتين مبتدأ خبره ما بعده ، وقرأ «ربّ» بالضم ، و «السّجن» بكسر السين والجر على الإضافة ـ فرب ـ حينئذ مبتدأ والخبر هو الخبر ، والمعنى على ما قيل : لقاء صاحب السجن أو مقاساة أمره (أَحَبُّ إِلَيَ) أي آثر عندي لأن فيه مشقة قليلة نافذة إثرها راحات كثيرة أبدية (مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) من مواتاتها التي تؤدي إلى الشقاوة والعذاب الأليم ، وصيغة التفضيل ليست على بابها إذ ليس له عليه‌السلام شائبة محبة لما يدعونه إليه وإنما هو والسجن شران أهونهما وأقربهما إلى الإيثار السجن ، والتعبير عن الإيثار بالمحبة لحسم مادة طمعها عن المساعدة لها على مطلوبها خوفا من الحبس ، والاقتصار على السجن لكون الصغار من مستتبعاته على ما قيل ، وقيل : اكتفى عليه‌السلام بذكر السجن عن ذكره لوفائه بالغرض وهو قطع طمعها عن المساعدة خوفا مما توعدته به لأنها تظن أن السجن أشد عليه من الصغار بناء على زعمها أنه فتاها حقيقة وأن الفتيان لا يشق عليهم ذلك مشقة السجن ، ومتى كان الأشد أحب إليه مما يدعونه إليه كان غير الأشد أحب إليه من باب أولى ، وفيه منع ظاهر ، وإسناد الدعوة إليهن لأنهن خوفنه عن مخالفتها وزيّن له مطاوعتها ، فقد روي أنهنّ قلن له : أطع مولاتك واقض حاجتها لتأمن من عقوبتها فإنها المظلومة وأنت الظالم ، وروي أن كلّا منهنّ طلبت الخلوة لنصيحته فلما خلت به دعته إلى نفسها ، وعن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أن كل واحدة منهن أرسلت إليه سرا تسأله الزيارة ، فإسناد ذلك إليهنّ لأنهن أيضا دعونه إلى أنفسهن صريحا أو إشارة.

وفي أثر ذكره القرطبي أنه عليه‌السلام لما قال : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ) إلخ أوحى الله تعالى إليه : يا يوسف أنت جنيت على نفسك ولو قلت : العافية أحب إلي عوفيت ، ولذلك رد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على من كان يسأل الصبر ، فقد روى الترمذي عن معاذ بن جبل عنه عليه الصلاة والسلام أنه سمع رجلا وهو يقول : «اللهم إني أسألك الصبر فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : سألت الله تعالى فاسأله العافية».

(وَإِلَّا تَصْرِفْ) أي وإن لم تدفع (عَنِّي كَيْدَهُنَ) في تحبيب ذلك إلي وتحسينه لدي بأن تثبتني على ما أنا عليه من العصمة والعفة (أَصْبُ إِلَيْهِنَ) أي أمل على قضية الطبيعة وحكم القوة الشهوية إلى إجابتهن بمواتاتها أو إلى أنفسهن وهو كناية عن مواتاتهن ، وهذا فزع منه عليه‌السلام إلى ألطاف الله تعالى جريا على سنن الأنبياء عليهم‌السلام والصالحين في قصر نيل الخيرات والنجاة عن الشرور على جناب الله تعالى وسلب القوى والقدر عن أنفسهم ومبالغة في استدعاء لطفه سبحانه في صرف كيدهن بإظهار أنه لا طاقة له بالمدافعة كقول المستغيث : أدركني وإلّا هلكت ، لا أنه عليه‌السلام يطلب الإجبار الإلجاء إلى العصمة والعفة وفي نفسه داعية تدعوه إلى السوء كذا قرّره المولى أبو السعود وهو معنى لطيف وقد أخذه من كلام الزمخشري لكن قال القطب ، وغيره : إنه فرار إلى الاعتزال وإشارة إلى جواب استدلال الأشاعرة بهذه الآية على أن العبد لا ينصرف عن المعصية إلّا إذا صرفه الله تعالى وقد قرّر

٤٢٥

ذلك الإمام بما قرّره فليراجع وليتأمل ، وأصل (إِلَّا) إن لا فهي مركبة من إن الشرطية ولا النافية كما أشرنا إليه ، وقد أدغمت فيه النون باللام و (أَصْبُ) من صبا يصبو صبوا وصبوة إذا مال إلى الهوى ، ومنه الصبا للريح المخصوصة لأن النفوس تميل إليها لطيب نسيمها وروحها مضارع مجزوم على أنه جواب الشرط ، والجملة الشرطية عطف على قوله : (السِّجْنُ أَحَبُ) وجيء بالأولى اسمية دون الثانية لأن أحبيته السجن مما يدعونه إليه كانت ثابتة مستمرة ولا كذلك الصرف المطلوب ، وقرئ «أصب» من صببت صبابة إذا عشقت ، وفي البحر الصبابة إفراط الشوق كأن صاحبها ينصب فيما يهوى ، والفعل مضمن معنى الميل أيضا ولذا عدي بإلى أي أصب مائلا إليهن (وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء ، أو من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه من القبائح لأن الحكيم لا يفعل القبيح ، فالجهل بمعنى السفاهة ضد الحكمة لا بمعنى عدم العلم ، ومن ذلك قوله :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

(فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢) وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ

٤٢٦

سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ)(٥٢)

(فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) [يوسف : ٣٤ ـ ٥٢] أي أجاب له على أبلغ وجه دعاءه الذي تضمنه قوله: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) إلخ فإنه في قوة قوله : اصرفه عني بل أقوى منه في استدعاء الصرف على ما علمت ، وفي إسناد الاستجابة إلى الرب مضافا إلى ضميره عليه‌السلام ما لا يخفى من إظهار اللطف ، وزاد حسن موقع ذلك افتتاح كلامه عليه‌السلام بندائه تعالى بعنوان الربوبية (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) حسب دعائه بأن ثبته على العصمة والعفة وحال بينه وبين المعصية (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لدعاء المتضرعين إليه (الْعَلِيمُ) بأحوالهم وما انطوت عليه نياتهم وبما يصلحهم لا غيره سبحانه (ثُمَّ بَدا لَهُمْ) أي ظهر للعزيز وأصحابه المتصدين للحل والعقد ربما اكتفوا بأمر يوسف عليه‌السلام بالكتمان والإعراض عن ذلك (مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) الصارفة لهم عن ذلك البدا وهي الشواهد الدالة على براءته عليه‌السلام وطهارته من قد القميص وقطع النساء أيديهن ، وعليهما اقتصر قتادة فيما أخرجه عنه ابن جرير ، وفيه إطلاق الجمع على اثنين والأمر فيه هين ، وعن مجاهد الاقتصار على القد فقط لأن القطع ليس من الشواهد الدالة على البراءة في شيء حينئذ للتعظيم ، ويحمل الجمع حينئذ على التعظيم أو أل على الجنسية وهي تبطل معنى الجمعية كذا قيل ، وهو كما ترى ، ووجه بعضهم عدّ القطع من الشواهد بأن حسنه عليه الصلاة والسلام الفاتن للنساء في مجلس واحد ، وفي أول نظرة يدل على فتنتها بالطريق الأولى وأن الطلب منها لا منه ، وعدّ بعضهم استعصامه عليه‌السلام عن النسوة إذ دعونه إلى أنفسهن فإن العزيز وأصحابه قد سمعوه وتيقنوا به حتى صار كالمشاهد لهم ، ودلالة ذلك على البراءة ظاهرة.

وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال : سألت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الآيات فقال : ما سألني عنها أحد قبلك من الآيات : قد القميص وأثرها في جسده وأثر السكين فعدّ رضي الله تعالى عنه الأثر من الآيات ولم يذكر فيما سبق ، ومن هنا قيل : يجوز أن يكون هناك آيات غير ما ذكر ترك ذكرها كما ترك ذكر كثير من معجزات الأنبياء عليهم‌السلام ، وفاعل (بَدا) ضمير يعود إما للبداء مصدر الفعل المذكور أو بمعنى الرأي كما في قوله :

لعلك والموعود حق لقاؤه

بدا لك في تلك القلوص بداء

وإما للسجن بالفتح المفهوم من قوله سبحانه : (لَيَسْجُنُنَّهُ) وجملة القسم وجوابه إما مفعول لقول مضمر وقع حالا من ضميرهم وإلى ذلك ذهب المبرد ، وإما مفسرة للضمير المستتر في (بَدا) فلا موضع لها.

وقيل : إن جملة (لَيَسْجُنُنَّهُ) جواب ـ لبدا ـ لأنه من أفعال القلوب ، والعرب تجريها مجرى القسم وتتلقاها بما يتلقى به ، وزعم بعضهم أن مضمون الجملة هو فاعل (بَدا) كما قالوا في قوله سبحانه : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا

٤٢٧

قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) [طه : ١٢٨] وقوله تعالى : (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) [إبراهيم : ٤٥] أن الفاعل مضمون الجملة أي كثرة إهلاكنا وكيفية فعلنا ، وظاهر كلام ابن مالك في شرح التسهيل أن الفاعل في ذلك الجملة لتأويلها بالمفرد حيث قال : وجاز الإسناد في هذا الباب باعتبار التأويل كما جاز في باب المبتدأ نحو (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) [البقرة : ٦ ، يس : ١٠] وجمهور النحاة لا يجوزون ذلك كما حقق في موضعه.

واختار المازني في الفاعسل الوجه الأول ، قيل : وحسن ـ بدا لهم ـ بداء ـ وإن لم يحسن ظهر لهم ظهور لأن البداء قد استعمل في غير المصدرية كما علمت ، واختار أبو حيان الوجه الأخير وكونه ضمير السجن السابق على قراءة من فتح السين ، باستنزال المرأة لزوجها ومطاوعته لها وحبه إياها وجعله زمام أمره بيدها.

روي أنه عليه‌السلام لما استعصم عنها ويئست منه قالت للعزيز : إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس يخبرهم بأني راودته عن نفسه فأبى ويصف الأمر حسبما يختار ، وأنا محبوسة محجوبة فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر إلى الناس وأكذبه ، وإما أن تحبسه كما أني محبوسة فحبس ، قال ابن عباس : إنه أمر به عليه‌السلام فحمل على حمار وضرب معه الطبل ونودي عليه في أسواق مصر أن يوسف العبراني راود سيدته فهذا جزاؤه ، وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما قال أبو صالح : كلما ذكر هذا بكى ، وأرادت بذلك تحقيق وعيدها لتلين به عريكته وتنقاد لها قرونته لما انصرمت حبال رجائها عن استتباعه بعرض الجمال بنفسها وبأعوانها.

وقرأ الحسن ـ لتسجننه ـ على صيغة الخطاب بأن الخاطب بعضهم العزيز ومن يليه أو العزيز وحده على وجه التعظيم ، أو خاطب به العزيز ومن عنده من أصحاب الرأي المباشرين للسجن والحبس (حَتَّى حِينٍ) قال ابن عباس : إلى انقطاع المقال وما شاع في المدينة من الفاحشة ، وهذا بادي الرأي عند العزيز ، وأما عندها فحتى يذلّله السجن ويسخره لها ويحسب الناس أنه المجرم ، وقيل : الحين هاهنا خمس سنين ، وقيل : بل سبع.

وقال مقاتل : إنه عليه‌السلام حبس اثنتي عشرة سنة ، والأولى أن لا يجزم بمقدار ، وإنما يجزم بالمدة الطويلة ، والحين عند الأكثرين وقت من الزمان غير محدود يقع على القصير منه والطويل ، وقد استعمل في غير ذلك كما ذكرناه في شرح القادرية.

وقرأ ابن مسعود ـ عتى ـ بإبدال حاء (حَتَّى) عينا وهي لغة هذيل ، وقد أقرأ رضي الله تعالى عنه بذلك إلى أن كتب إليه عمر رضي الله تعالى عنه أن يقرئ بلغة قريش (حَتَّى) بالحاء (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) غلامان كانا للملك الأكبر الريان بن الوليد : أحدهما خبازه وصاحب طعامه ، والآخر ساقيه وصاحب شرابه ، وكان قد غضب عليهما الملك بسبب أن جماعة من أشراف مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله فضمنوا لهما مالا على أن يسمّاه في طعامه وشرابه فأجابا إلى ذلك ، ثم إن الساقي ندم فرجع عن ذلك. وقبل الخباز الرشوة وسمّ الطعام فلما حضر بين يدي الملك قال الساقي : لا تأكل أيها الملك فإن الطعام مسموم فقال للساقي : اشربه فشربه فلم يضره ، وقال للخباز : كل من طعامك فأبى فأطعم من ذلك وقال الخباز : لا تشرب فإن الشراب مسموم ، لدابة فهلكت فأمر الملك بحبسهما فاتفق أن أدخلا معه السجن ، ولعله إنما عبر ـ بدخل ـ الظاهر في كون الدخول بالاختيار مع أنه لم يكن كذلك للإشارة على ما قيل : إلى أنهما لما رأيا يوسف هان عليهما أمر السجن لما وقع في قلوبهما من محبته. وهوى كل نفس حيث حل حبيبها. فقد أخرج غير واحد عن ابن إسحاق أنهما لما رأياه قالا له : يا فتى لقد والله أحببناك حين رأيناك ، فقال لهما عليه‌السلام : أنشد كما الله تعالى أن لا تحباني فو الله ما أحبني أحد قط إلّا دخل علي من حبه بلاء ، لقد أحبتني عمتي فدخل علي من حبها بلاء ، ثم أحبني أبي فدخل علي من حبه بلاء ، ثم أحبتني زوجة صاحبي هذا فدخل علي بحبها إياي بلاء فلا تحباني بارك الله تعالى فيكما فأبيا إلّا حبه والله حيث كان ، وقيل : عبر بذلك لما أن ذكر (مَعَهُ)

٤٢٨

يفيد اتصافه عليه‌السلام بما ينسب إليهما ، والمناسب في حقه نسبة الدخول لمكان قوله عليه‌السلام : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) لا الإدخال المفيد لسلب الاختيار ، ولو عبر بادخل لأفاد ذلك نسبة الإدخال إليه فلم يكن بدّ من التعبير بالدخول ترجيحا لجانبه عليه‌السلام ، والظاهر أن ـ مع ـ تدل على الصحبة والمقارنة لفاعل الفعل في ابتداء تلبسه بالفعل ، فتفيد أن دخولهما مصاحبين له وأنهم سجنوا الثلاثة في ساعة واحدة ، وتعقب أن هذا منتقض بقوله سبحانه : (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ) [النمل : ٤٤] حكاية عن بلقيس إذ ليس إسلامها مقارنا لابتداء إسلام سليمان عليه‌السلام ، وأجيب بأن الحمل على المجاز هنالك للصارف ولا صارف فيما نحن فيه ، فيحمل على الحقيقة ، ويشهد لذلك ما ذكره الزمخشري في قوله سبحانه : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) [الصافات : ١٠٢] من أنه بيان متعلق بمحذوف لتعذر التعلق ـ ببلغ ـ أو (السَّعْيَ) معنى أو لفظا.

وقال صاحب الكشف : إنه لا يتعين المحكي عنها لمعية الفاعل فجاز أن يراد أسلمت لله ولرسوله مثلا ، وتقديم مع للإشعار بأنها كانت تظن أنها على دين قبل وأنها كانت مسلمة فيما كانت تعبد من الشمس فدل على أنه إسلام يعتدّ به من أثر متابعة نبيه لا إسلام كالأول فاسد ، وهذا معنى صحيح حمل الآية عليه أولى ، وإن حمل على معية الفاعل لم يكن بدّ من محذوف نحو مع بلوغ دعوته وإظهار معجزته لأن فرق ما بين المعية ومطلق الجمع معلوم بالضرورة ا ه.

وفرق بعضهم بي الفعل الممتدّ كالإسلام وغيره كالدخول بأن الأول لا يقتضي مقارنتهما في ابتدائه بخلاف الثاني ، وهو على ما قيل : راجع إلى الجمع وليس من المعية في شيء على أنه حينئذ يحتاج إلى تأويل في آية (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) واختير أن المقارنة هي الأصل ولا يعدل عنها ما أمكنت فتأمل.

وتأخير الفاعل عن المفعول لما مر غير مرة من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ليتمكن عند النفس حين وروده فضل تكمن ، ولعل تقديم الظرف على السجن لأن الاهتمام بأمر المعية أشدّ من الاهتمام بأمره لما أنها المنشأ لما كان ، وقيل : إنما قدم لأن تأخيره ، يوهم أن يكون خبرا مقدما على المبتدأ ، وتكون الجملة حالا من فاعل ـ دخل ـ وتعقب بأن حاصل التركيب الأول مصاحبة الفتيين له عند دخولهما ، وحاصل الثاني مصاحبة الفتيين له عند دخوله ، ويؤول الأمران إلى دخولهما ودخوله متصاحبين فإنهم.

والجملة على ما قيل : معطوفة على محذوف ينساق إليه الذهن كأنه قيل : فلما بدا لهم ذلك سجنوه (وَدَخَلَ مَعَهُ) إلخ ، وقرأ (السِّجْنَ) بفتح السين على معنى موضع السجن (قالَ) استئناف مبني على سؤال من يقول : ما صنعا بعد ما دخلا؟ فأجيب بأنه (قالَ أَحَدُهُما) وهو الشرابي واسمه بنو (إِنِّي أَرانِي) أي رأيتني في المنام والتعبير بالمضارع لاستحضار الصور الماضية (أَعْصِرُ خَمْراً) أي عنبا ، روي أنه قال : رأيت حبلة من كرم حسنة لها ثلاثة أغصان فيها عناقيد عنب فكنت أعصرها وأسقي الملك ، وسماه بما يؤول إليه لأن الخمر مما لا يعصر إذ عصر الشيء إخراج ما فيه من المائع بقوة ، وكون العنب يؤول إلى الخمر وكون الذي يؤول إليه ماؤه لا جرمه لا يضر لأنه المقصود منه فما عداه غير منظور إليه فليس فيه تجوزان بالنظر إلى المتعارف فيه ، وقيل : الخمر بلغة غسان اسم للعنب ، وقيل : في لغة أذرعان (١) ، وقرأ أبيّ وعبد الله ـ «أعصر عنبا» ـ قال في البحر : وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته لسواد المصحف ، والثابت عنهما بالتواتر قراءتهما (أَعْصِرُ خَمْراً) انتهى ، وقد أخرج القراءة كذلك عن

__________________

(١) قال المعتمر : لقيت أعرابيا يحمل عنبا في وعاء فقلت : ما تحمل؟ قال : خمرا أراد العنب ا ه منه.

٤٢٩

الثاني البخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق ، وذكروا أنه قال : والله لقد أخذتها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هكذا فافهم.

وقال ابن عطية : يجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة لأن العصر من أجلها فليس ذلك من مجاز الأول ، والمشهور أنه منه كما قال الفراء : مؤنثة وربما ذكرت ، وعن السجستاني أنه سمع التذكير ممن يوثق به من الفصحاء ، ورأي الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى ، ولا يجوز ذلك في غير ما ذكر ، فلا يقال : أضربني ولا أكرمني ، وحاصله أرى نفسي أعصر خمرا (وَقالَ الْآخَرُ) وهو الخباز واسمه مجلث (١)(إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً) ، وفي مصحف ابن مسعود ـ ثريدا ..

(تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) وهذا كما قيل أيضا : تفسير لا قراءة ، روي أنه قال : رأيت أني أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلال فيها خبز والطير تأكل من أعلاه ، والخبز معروف ، وجمعه أخباز وهو مفعول (أَحْمِلُ) والظرف متعلق ـ بأحمل ـ وتأخيره عنه لما مرّ ، وقيل : متعلق بمحذوف وقع حالا منه ، وجملة (تَأْكُلُ) إلخ صفة له أو استئناف مبني على السؤال (نَبِّئْنا) أي أخبرنا (بِتَأْوِيلِهِ) بتعبيره وما يؤول إليه أمره ، والضمير للرؤيتين بتأويل ما ذكر أو ما رؤي وقد أجري الضمير مجرى ذلك بطريق الاستعارة (٢) فإن اسم الإشارة يشار به إلى متعدد كما مرت الإشارة إليه غير مرة ؛ هذا إذا قالاه معا أو قاله أحدهما من جهتهما معا ، وأما إذا قاله كل منهما إثر ما قص ما رآه فالمرجع غير متعدد ولا يمنع من هذا الاحتمال صيغة المتكلم مع الغير لاحتمال أن تكون واقعة في الحكاية دون المحكي على طريقة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) [المؤمنون : ٥١] فإنهم لم يخاطبوا دفعة بل خوطب كل منهم في زمان بصيغة مفردة خاصة به (إِنَّا نَراكَ) تعليل لعرض رؤياهما عليه واستفسارهما منه عليه‌السلام أي إنا نعتقدك (مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي من الذين يحسنون تأويل الرؤيا لما رأياه يقص عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤوّلها لهم تأويلا حسنا ، وكان عليه‌السلام حين دخل السجن قد قال : إني أعبر الرؤيا وأجيد أو من العلماء كما في قول علي كرم الله تعالى وجهه : قيمة كل امرئ ما يحسنه وذلك لما سمعاه يذكر للناس ما يدل على علمه وفضله ، أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن قتادة قال : لما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوما قد انقطع رجاؤهم واشتد بلاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول : ابشروا واصبروا تؤجروا إن لهذا لأجرا فقالوا : يا فتى بارك الله تعالى فيك ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وخلقك لقد بورك لنا في جوارك ما نحب أنا كنا في غير هذا منذ جئتنا لما تخبرنا من الأجر والكفارة والطهارة ، فمن أنت يا فتى؟ قال : أنا يوسف بن صفي الله تعالى يعقوب بن ذبيح الله تعالى إسحاق بن خليل الله تعالى إبراهيم فقال له عامل السجن : يا فتى لو استطعت خليت سبيلك ولكن سأحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت ، أو (مِنَ الْمُحْسِنِينَ) إلى أهل السجن أي فأحسن إلينا بكشف غمتنا إن كنت قادرا على ذلك ، وإلى هذا ذهب الضحاك ، أخرج سعيد بن منصور والبيهقي ، وغيرهما عنه أنه سئل ما كان إحسان يوسف؟ فقال : كان إذا مرض إنسان في السجن قام عليه ، وإذا ضاق عليه مكان أوسع له ، وإذا احتاج جمع له (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ) في

__________________

(١) وقيل : اسم الفتيين راشان ومرطش ، وقيل : شبرهم وشرهم ا ه منه.

(٢) والسر في المصير إلى هذا الإجراء بعد التأويل أن الضمير إنما يتعرض لنفس المرجع من حيث هو من غير تعرض لحال من أحواله فلا ينبغي تأويله بأحد الاعتبارين إلّا بإجرائه مجرى اسم الإشارة الذي يدل على المشار إليه باعتبار الذي جرى عليه الكلام فتأمل ، قاله أبو السعود ا ه منه.

٤٣٠

الحبس حسب عادتكما المطردة (إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلّا حال ما نبأتكما به بأن بينت لكما ماهيته وكيفيته وسائر أحواله (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) ، وحاصله لا يأتيكما طعام إلّا أخبرتكما قبل إتيانه إياكما بأنه يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت ، وإطلاق التأويل على ذلك مع أن حقيقته في المشهور تفسير الألفاظ المراد منها خلاف الظاهر ببيان المراد بطريق الاستعارة فإن ذلك يشبه تفسير المشكل ، أو أنه بالنسبة إلى الطعام المبهم بمنزلة التأويل بالنسبة إلى ما رؤي في المنام وشبيه له.

ويحسن هذه الاستعارة ما في ذلك من المشاكلة لما وقع في عبارتهما من قولهما : (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) وكون المراد بالتأويل الأمر الآئل لا المآل بناء على أنه في الأصل جعل شيء آئلا إلى شيء آخر وكما يجوز أن يراد به الثاني يجوز أن يراد به الأول ، ويكون المعنى ـ إلّا نبأتكما بما يؤول إليه من الكلام ـ والخبر المطابق للواقع في غاية البعد بل لا يكاد يلتفت إليه كما لا يخفى على المنصف ، وكأنه عليه‌السلام أراد أن يعرض عليهما التوحيد ويزينه لهما ويقبح لهما الشرك الله تعالى قبل أن يجيبهما عما سألاه من تعبير رؤياهم ثم يجيبهما عن ذلك.

وهذه طريقة على كل ذي عقل أن يسلكها مع الجهلة والفسقة إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الإرشاد والنصيحة أولا ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجبه عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه ، ولعل ذلك كان مفترضا عليه عليه‌السلام فوصف نفسه أولا بما هو فوق علم العلماء وهو الإخبار بالمغيبات وجعله تخلصا لما أراد كالتخلصات المعروفة عندهم فإن الإخبار بالغيب يناسب ما سألاه من تأويل رؤياهما وأن من كان هكذا لا محالة يكون بغيره صادقا ، ويقوي أمر المناسبة تخصيص الطعام بالذكر من بين سائر المغيبات كما لا يخفى ، ويناسب ما أراده من الدعوة إلى التوحيد لأنه ثبت صدقه ونبوته وكونه من المرتضين عند الله تعالى الصادقين في أقوالهم وأفعالهم ، وفي حكاية الله تعالى ذلك إرشاد لمن كان له قلب ، وقد أدمج فيه أن وصف العالم نفسه لينتفع به لا يحرم ولا يعد ذلك من التزكية المحظورة ، وإلى ما ذكرنا من حمل الإتيان على الإتيان في اليقظة ذهب غير واحد من الأجلة ، وروي عن ابن جريج ، وحمله بعضهم على الإتيان مناما ، قال السدي وابن إسحاق : إنه عليه‌السلام لما علم من رؤية الخباز أنه يقتل أخذ في حديث آخر تنسية لهما أمر المنام وطماعية في إيمانهما ليأخذ المقتول بحظه من الإيمان وتسلم له آخرته فقال بعظيم علمه بالتعبير : ـ إنه لا يجيئكما طعام في نومكما تريان أنكما ترزقانه إلّا أعلمتكما بما يؤول إليه أمره في اليقظة قبل أن يظهر ذلك ـ ولا يخفى أن حديث الطماعية المذكورة مما لا بأس إلّا أن حديث التنسية لا يخلو عن منع ، وجاء في رواية أخرى عن ابن جريج أخرجها ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عنه ما يقرب من هذا الحديث من وجه فإنه قال : إنه عليه‌السلام كره العبارة لهما فأجابهما بأن له علما بما يأتيهما من الطعام ولم يصرح بما تدل عليه رؤياهما شفقة على الهالك منهما ، وكان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما معلوما فأرسل به إليه فلما لم يكتفيا بذلك وطلبا منه التعبير أيضا دعاهما إلى التوحيد كراهة للعبارة أيضا ، فلما لم يكتفيا عبر لهما وأوضح ما تدل عليه رؤياهما وهو كما ترى ، وأيا ما كان فالضمير في تأويله يعود على الطعام ، وجوز عوده على ما قصاه عليه من الرؤيتين على معنى (١) لا يأتيكما طعام ترزقانه حسب عادتكما إلّا أخبرتكما بتأويل ما قصصتما عليّ قبل أن يأتيكما ذلك الطعام الموقت ، والمراد الأخبار بالاستعجال بالتنبئة ، وفيه أنه خلاف الظاهر مع أن الأخبار بالاستعجال مما ليس فيه كثير مناسبة لما هو

__________________

(١) قال في إرشاد العقل السليم في الاعتراض عليه : وأنت خبير بأن النظم الكريم ظاهر في تعدد إتيان الطعام والإخبار بالتأويل وتجددهما وأن المقام مقام إظهار فضله في فنون العلوم بحيث يدخل في ذلك رؤياهما دخولا أوليا ا ه فافهم ا ه منه.

٤٣١

بصدده ، وقد يقال : يجوز عود الضمير إلى ما قصاه ويكون المراد من الطعام المرزوق ما رأياه في النوم ، ولا يخفى ما فيه أيضا لكن التأويل على هذين الوجهين لا يحتاج إلى التأويل بل يراد منه ما أريد من تأويله في كلامهما ، وكذا الضمير المستتر في (يَأْتِيكُما) يعود على الطعام وعوده على التأويل وإن كان أقرب بعيد ، ثم إنه عليه‌السلام أخبرهما بأن علمه ذلك ليس من علوم الكهنة والمنجمين بل هو فضل إلهي يؤتيه من يشاء فقال : (ذلِكُما) ويروى أنهما قالا له : من أين لك ما تدعيه من العلم وأنك لست بكاهن ولا منجم؟! وقيل : قالا إن هذا كهانة أو تنجيم ، فقال : أي ذلك التأويل ، والكشف عن المغيبات ، ومعنى البعد في ذلك للإشارة إلى بعد منزلته وعلو درجته (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) بالوحي أو بنحو ذلك مما يحصل به العلم كما يكون للأولياء أهل الكشف رضي الله تعالى عنهم ، واقتصر بعضهم على الأول وادعى أن الآية دليل على أنه عليه‌السلام كان إذ ذاك نبيا ، وأيا ما كان فالمراد أن ذلك بعض مما علمنيه الله تعالى أو من ذلك الجنس الذي لا يناله إلّا الأصفياء ، ولقد دلهما بذلك على أن له علوما جمة ما سمعاه قطرة من تيارها وزهرة من أزهارها ؛ وقوله : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ مما تقدم وتعليلا له كأنه قيل : لما ذا علمك ربك تلك العلوم الجليلة الشأن؟ فقال : لأني تركت دين الكفر الذي اجتمعوا عليه من الشرك وعبادة الأوثان.

وقيل : تعليل للتعليم الواقع صلة وهو يؤدي إلى معنى أنه مما علمني ربي لهذا السبب دون غيره وليس بمراد.

وقيل : لمضمون الجملة الخبرية ، وفيه أن ما ذكر ليس بعلة لكون التأويل المذكور بعضا مما علمه ربه ـ أو لكونه من جنسه ـ بل لنفس التعليم ، والمراد بالترك الامتناع فإنه لم يتلوث بتلك قط كما يفصح عنه ما يأتي من كلامه عليه‌السلام قريبا إن شاء الله تعالى لكن عبر به عن ذلك استجلابا لهما لأن يتركا تلك الملة التي هم عليها على أحسن وجه ؛ والتعبير عن كفرهم بالله تعالى بسلب الإيمان به سبحانه للتنصيص على أن عبادتهم له تعالى مع عبادة الأوثان ليس بإيمان به تعالى كما يزعمونه ، وأراد بأولئك القوم المتصفين بعنوان الصلة حيث كانوا ، وقيل : أهل مصر فإنهم كانوا عبدة إذ ذاك (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) وما فيها من الجزاء (هُمْ كافِرُونَ) أي على الخصوص دون غيرهم من الكنعانيين الذين هم ملة إبراهيم عليه‌السلام على ما يفيده توسيط ضمير الفصل هنا عند البعض ، وذكر أن تقديم الضمير للتخصيص وتكريره للتأكيد ، ولعله إنما أكد إنكارهم للمعاد لأنه كان أشد من إنكارهم للمبدإ فتأمل.

(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) داخل في حيز التعليل كأنه قال : إنما فزت بما فزت بسبب أني لم أتبع ملة قوم كفروا بالمبدإ والمعاد واتبعت ملة آبائي الكرام المؤمنين بذلك ، وإنما قاله عليه‌السلام ترغيبا لصاحبيه في الإيمان والتوحيد وتنفيرا لهما عما كانا عليه من الشرك والضلال ، وقدم ذكر تركه لملتهم على ذكر اتباعه لملة آبائه عليهم‌السلام لأن التخلية مقدمة على التحلية.

وجوز بعضهم أن لا يكون هناك تعليل وإنما الجملة الأولى مستأنفة ذكرت تمهيدا للدعوة والثانية إظهارا لأنه من بيت النبوة لتقوى الرغبة فيه ، وفي كلام أبي حيان ما يقتضي أنه الظاهر وليس بذاك ، وقرأ الأشهب العقيلي والكوفيون «آبائي» بإسكان الياء وهي مروية عن أبي عمرو (ما كانَ) ما صح وما استقام فضلا عن الوقوع (لَنا) معاشر (١) الأنبياء لقوة نفوسنا ، وقيل : أي أهل هذا البيت لوفور عناية الله تعالى بنا (أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي شيئا أي شيء كان من ملك أو جني أو إنسي فضلا عن الصنم الذي لا يسمع ولا يبصر ـ فمن ـ زائدة في المفعول به لتأكيد

__________________

(١) قيل : يراد معاشر الأنبياء ، ويعتبر التغليب بناء على عدم نبوته عليه‌السلام إذ ذاك وهو كما ترى ا ه منه.

٤٣٢

العموم ، ويجوز أن يكون المعنى شيئا من الإشراك قليلا كان أو كثيرا فيراد من (شَيْءٍ) المصدر وأمر العموم بحاله ، ويلزم من عموم ذلك عموم المتعلقات (ذلِكَ) أي التوحيد المدلول عليه بنفي صحة الشرك (مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) أي ناشئ من تأييده لنا بالنبوة والوحي بأقسامه ، والمراد أنه فضل علينا بالذات (وَعَلَى النَّاسِ) بواسطتنا (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) أي لا يوحدون ، وحيث عبر عن ذلك بذلك العنوان عبر التوحيد الذي يوجبه بالشكر لأنه مع كونه من آثار ما ذكر من التأييد شكر لله عزوجل ، ووضع الظاهر موضع الضمير الراجع الى الناس لزيادة التوضيح والبيان ولقطع توهم رجوعه إلى مجموع الناس وما كنى عنه ـ بنا ـ الموهم لعدم اختصاص غير الشاكر بالناس ، وفيه من الفساد ما فيه ، وجوز أن يكون المعنى ذلك التوحيد ناشئ من فضل الله تعالى علينا حيث نصب لنا أدلة ننظر فيها ونستدل بها على الحق ، وقد نصب مثل تلك الأدلة لسائر الناس أيضا من غير تفاوت ولكن أكثرهم لا ينظرون ولا يستدلون بها اتباعا لأهوائهم فيبقون كافرين غير شاكرين ، والفضل على هذا عقلي وعلى الأول سمعي ، وجوز المولى أبو السعود أن يقال : المعنى ذلك التوحيد من فضل الله تعالى علينا حيث أعطانا عقولا ومشاعر نستعملها في دلائل التوحيد التي مهدها في الأنفس والآفاق ، وقد أعطى سائر الناس أيضا مثلها ولكن أكثرهم لا يشكرون أي لا يصرفون تلك القوى والمشاعر الى ما خلقت هي له ولا يستعملونها فيما ذكر من أدلة التوحيد الآفاقية والأنفسية والعقلية والنقلية انتهى ، ولك أن تقول : يجوز أن تكون الإشارة إلى ما أشير إليه ـ بذلكما ـ ويراد منه ما يفهم مما قبل من علمه بتأويل الرؤيا ، (مِنْ) في قوله (مِنْ فَضْلِ اللهِ) تبعيضية ، ويكون قد أخبر عنه أولا بأنه مما علمه إياه ربه وثانيا بأنه بعض فضل الله تعالى عليه وعلى آبائه بالذات وعلى الناس بواسطتهم لأنهم يعبرون لهم رؤياهم فيكشفون لهم ما أبهم عليهم ويزيلون عنهم ما أشغل أذهانهم مع ما في ذلك من النفع الذي لا ينكره إلّا نائم أو متناوم ، ومن وقف على ما ترتب على تعبير رؤيا الملك من النفع الخاص والعام لم يشك في أن علم التعبير من فضل الله تعالى على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون فضل الله تعالى مطلقا أو فضله عليهم بوجود من يرجعون إليه في تعبير رؤياهم ، ويكون ذلك نظير قولك لمن سألك عن زيد : ذلك أخي ذلك حبيبي ، ولكنه وسط هاهنا ما وسط وتفنن في التعبير فأتى باسم الإشارة أولا مقرونا بخطابهما ولم يأت به ثانيا كذلك وأتى بالرب مضافا إلى ضميره أولا وبالاسم الجليل ثانيا ، ويجوز أن يكون المشار إليه في الموضعين الإخبار بالمغيبات مطلقا ، والكلام في سائر الآية عليه لا أظنه مشكلا ، وعلى الوجهين لا ينافي تعليل نيل تلك الكرامة ـ بتركه ملة الكفرة واتباعه ملة آبائه الكرام ـ الإخبار بأن ذلك من فضل الله تعالى عليه وعلى من معه كما لا يخفى ، نعم إن حمل الإشارة على ما ذكر وتوجيه الآية عليه بما وجهت لا يخلو عن بعد.

ومن الناس من جعل الإشارة إلى النبوة وفيه ما فيه أيضا ، هذا وأوجب الإمام كون المراد في قوله : (لا يَشْكُرُونَ) لا يشكرون الله تعالى على نعمة الإيمان ، ثم قال : وحكي أن واحدا من أهل السنة دخل على بشر بن المعتمر فقال : هل تشكر الله تعالى على الإيمان أم لا؟ فإن قلت : لا فقد خالفت الإجماع ، وإن شكرته فكيف تشكره على ما ليس فعلا له؟! فقال بشر : إنا نشكره على أن أعطانا القدرة والعقل والآلة ، وأما أن نشكره على الإيمان مع أنه ليس فعلا له فذلك باطل ، وصعب الكلام على بشر فدخل عليهم ثمامة بن الأشرس ، فقال : إنا لا نشكر الله تعالى على الإيمان بل الله تعالى يشكره علينا كما قال سبحانه : (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء : ١٩] فقال بشر : لما صعب الكلام سهل ، وتعقب ذلك عليه الرحمة بأن الذي التزمه ثمامة باطل وهو على طرف الثمام بنص هذه الآية لأنه سبحانه بين فيها أن عدم الإشراك من فضل الله تعالى ، ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة ، وقد ذكر سبحانه ذلك على سبيل الذم فدل على أنه يجب على مؤمن أن يشكر الله تعالى على الإيمان لئلا يدخل في الذم وحينئذ تقوى الحجة وتكمل الدلالة اه.

٤٣٣

ولعل الوجه في الآية ما تقدم فليفهم (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) أي يا صاحبي فيه إلّا أنه أضيف إلى الظرف توسعا كما في قولهم : يا سارق الليلة أهل الدار ؛ ولعله إنما ناداهما بعنوان الصحبة في مدار الأشجان ودار الأحزان التي تصفو فيها المودة وتتمحض النصيحة ليقبلا عليه ويقبلا مقالته ، ويجوز أن يراد بالصحبة السكنى كما يقال : (أَصْحابُ النَّارِ) و (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الحشر : ٢٠] لملازمتهم لهما ، والإضافة من باب إضافة الشيء إلى شبه المفعول عند أبي حيان وإلى المفعول عند غيره ولا اتساع في ذلك ، وقيل : بل هناك اتساع أيضا ، وأنه أضافهما إلى السجن دونه لكونهما كافرين وفيه نظر ، ولعل في ندائهما بذلك على هذا الوجه حثا لهما على الإقرار بالحق كأنه قال لهما : يا ساكني هذا المكان الشاق والمحل الضنك إني ذاكر لكم أمرا فقولوا. الحق فيه ولا تزيغوا عن ذلك فأنتم تحت شدة ولا ينبغي لمن كان كذلك أن يزيغ عن الحق ، وإنما حمل الصاحب على ما سمعت لأن صاحب السجن في الاستعمال المشهور السجان أو الملك ، والنداء ـ بيا ـ بناء على الشائع (١) من أنها للبعيد للإشارة إلى غفلتهما وهيمانهما في أودية الضلال ، وقد تلطف عليه‌السلام بهما في ردهما إلى الحق وإرشادهما إلى الهدى حيث أبرز لهما ما يدل على بطلان ما هما عليه بصورة الاستفهام حتى لا تنفر طباعهما من المفاجأة بإبطال ما ألفاه دهرا طويلا ومضت عليه أسلافهما جيلا فجيلا فقال : (أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ) متعددون متكثرون يستعبدكما منهم هذا وهذا ، والكلام على ما صرح به أبو حيان على حذف مضاف أي أعبادة أرباب متفرقين (خَيْرٌ) لكما (أَمِ اللهُ) أي أم عبادة الله سبحانه (الْواحِدُ) المنفرد بالألوهية (الْقَهَّارُ) الغالب الذي لا يغالبه أحد جلّ وعلا ، وهو أولى مما قاله الخطابي من أنه الذي قهر الجبابرة بالعقوبة والخلق بالموت.

وذكر الزمخشري أن هذا مثل ضرب لعبادة الله تعالى وحده ولعبادة الأصنام ، واعترضه القطب بأن ذلك إنما يصح لو نسبا تارة إلى أرباب شتى وأخرى إلى رب واحد كما في قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ) [الزمر : ٢٩] الآية لكنهما نسبا إلى أرباب وإلى الله تعالى ، فكيف يكون مثلا؟! وأجاب بأن يفسر الله تعالى برب واحد لأنه في مقابلة أرباب ، وإنما عبر عن رب واحد بالله تعالى لانحصاره فيه جلّ جلاله.

وقال الطيبي أيضا : إن في ذلك إشكالا لأن الظاهر من الآية نفي استواء الأصنام وعبادتها بالله تعالى وعبادته فأين المثل؟ ثم قال : لكن التقدير أسادات شتى تستعبد مملوكا واحدا خير من سيد واحد قهار فوضع موضع الرب ، والسيد الله لكونه مقابلا لقوله : (أَأَرْبابٌ) فيكون كقوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ) الآية.

وقرر في الكشف ما ادعى معه ظهور كونه مثلا طهورا لا إشكال فيه ، والحق أنه ظاهر في نفي الاستواء وإن جعله مثلا يحتاج إلى تأويل حسبما سمعت عن الطيبي إلّا أنه لا يخلو عن لطف ؛ ولعله الأولى وإن أحوج إلى ما أحوج ، وحمل التفرق على التفرق في العدد والتكاثر مما ذهب إليه غير واحد ، وحمله بعضهم على الاختلاف في الكبر والصغر والشكل ونحو ذلك مما يحصل لها بواسطة تأثير الغير فيها ، وجعله إشارة الى كونها مقهورة عاجزة.

وأما التعدد فيشير إليه جمع أرباب باعتبار أنه جمع فيكون ذكر (الْواحِدُ) على هذا في مقابلة ما أشير إليه من التعدد ، و (الْقَهَّارُ) في مقابلة ما أشير إليه من المقهورية والعجز ، والمعنى أمتعددون سميتموهم أربابا عجز مقهورون متأثرون من غيرهم خير (أَمِ اللهُ) أي صاحب هذا الاسم الجليل (الْواحِدُ) الذي يستحيل عليه التكثر بوجه من الوجوه (الْقَهَّارُ) الذي لا موجود إلّا وهو مسخر تحت قهره وقدرته عاجز في قبضته.

__________________

(١) والحق أنها للنداء مطلقا بعيدا كان المنادى أو قريبا ا ه منه.

٤٣٤

وقيل : المراد من (مُتَفَرِّقُونَ) مختلفو الأجناس والطبائع كالملك والجن والجماد مثلا ، ويجوز أن يراد منه من لا ارتباط بينهم ولا اتفاق ، وكثيرا ما يكنى بذلك عن العجز واختلال الحال ، وقد استنبط الإمام من الآية غير ما حجة على بطلان عبادة الأصنام ، وظاهر كلامه أنه لم يعتبرها مثلا فليتأمل ، ثم إنه عليه‌السلام زاد في الإرشاد ببيان سقوط آلهتهما عن درجة الاعتبار رأسا فضلا عن الألوهية ، واخرج ذلك على أتم وجه فقال معمما للخطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر كما هو الظاهر ، وقيل : مطلقا ، وقيل : من معهما من أهل السجن : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله تعالى شيئا (إِلَّا أَسْماءً) أي ألفاظا فارغة لا مطابق لها في الخارج لأن ما ليس فيه مصداق إطلاق الاسم عليه لا وجود له أصلا فكانت عبادتهم لتلك الألفاظ فقط (سَمَّيْتُمُوها) جعلوها أسماء (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) بمحض الجهل والضلالة (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها) أي بتلك التسمية المستتبعة للعبادة (مِنْ سُلْطانٍ) أي حجة تدل على صحتها ، قيل : كانوا يطلقون على معبوداتهم الباطلة اسم الآلهة ويزعمون الدليل على ذلك فردوا بأنكم سميتم ما لم يدل على استحقاقه هذا الاسم عقل ولا نقل ثم أخذتم تعبدون ذلك باعتبار ما تطلقونه عليه ، وإنما لم يذكر المسميات تربية لما يقتضيه المقام من إسقاطها عن مرتبة الوجود وإيذانا بأن تسميتهم في البطلان حيث كانت بلا مسمى كعبادتهم حيث كانت بلا معبود ، ويلحق بهؤلاء الذين يزعمون أنهم يعبدون الله تعالى وهم يتخيلونه جسما عظيما جالسا فوق العرش أو نحو ذلك مما ينزهه العقل والنقل عنه تعالى تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا لأن ما وضع له الاسم الجليل في نفس الأمر ليس هو الذي تخيلوه بل هو أمر وراء ذلك وهو المستحق للعبادة وما وضعوه هم له ليس بآله في نفس الأمر ولا مستحق للعبادة وهو الذي عبدوه فما عبدوا في الحقيقة إلّا اسما لا مطابق له في الخارج لأن ما في الخارج أمر وما وضعوا الاسم له أمر آخر (إِنِ الْحُكْمُ) أي ما الحكم في شأن العبادة المتفرعة على تلك التسمية وفي صحتها (إِلَّا لِلَّهِ) عزّ سلطانه لأنه المستحق لها بالذات ـ إذ هو الواجب بالذات الموجد للكل والمالك لأمره ـ (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا) أي بأن لا تعبدوا أحدا (إِلَّا إِيَّاهُ) حسبما يقتضي به قضية العقل أيضا ، والجملة استئناف مبني على سؤال ناشئ من الجملة السابقة كأنه قيل : فما ذا حكم الله سبحانه في هذا الشأن؟ فقيل : (أَمَرَ) إلخ ، وقيل : في موضع التعليل لمحذوف كأنه قيل : حيث لم يكن الحكم في أمر العبادة إلّا له فلا تكون العبادة إلا له سبحانه أو لمن يأمر بعبادته وهو لا يأمر بذلك ولا يجعله لغيره لأنه سبحانه (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ، وهو خلاف الظاهر.

وجوز أن يكون سرد هذه الجمل على هذا الطرز لسدّ الطرق في توجيه صحة عبادة الأصنام عليهم أحكم سدّ فإنهم إن قالوا : إن الله تعالى قد أنزل حجة في ذلك ردوا بقوله : (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) وإن قالوا : حكم لنا بذلك كبراؤنا ردوا بقوله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) وإن قالوا : حيث لم ينزل حجة في ذلك ولم يكن حكم لغيره بقي الأمر موقوفا إذ عدم إنزال حجة تدل على الصحة لا يستلزم إنزال حجة على البطلان ردوا بقوله : (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ) أي تخصيصه تعالى بالعبادة (الدِّينُ الْقَيِّمُ) الثابت الذي دلت عليه البراهين العقلية والنقلية (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن ذلك هو الدين القيم لجهلهم تلك البراهين أو لا يعلمون شيئا أصلا فيعبدون أسماء سموها من عند أنفسهم معرضين عما يقتضيه العقل ويسوق إليه سائق النقل ، ومنشأ هذا الإعراض الوقوف عند المألوفات والتقيد بالحسيات وهو مركوز في أكثر الطباع ومن ذلك جاء التشبيه ، والتجسيم ، ونسبه الحوادث الكونية الى الشمس والقمر وسائر الكواكب. ونحو ذلك ، ثم إنه عليه‌السلام بعد تحقيق الحق وبيانه لهما مقدار علمه الواسع شرع في إنبائهما عما استنبئاه عنه ، ولكونه بحثا مغايرا لما سبق فصله عنه بتكرير الخطاب فقال : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ

٤٣٥

أَمَّا أَحَدُكُما) أراد به الشرابي ، وإنما لم يعينه عليه‌السلام ثقة بدلالة التعبير مع ما فيه من رعاية حسن الصحبة (فَيَسْقِي رَبَّهُ) أي سيده (خَمْراً) روي أنه عليه‌السلام قال له : ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده ، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه ، وقرئ «فيسقي» بضم الياء والبناء للفاعل من أسقى ، قال صاحب اللوامح : يقال : سقى ، وأسقى بمعنى ، وقرئ في السبعة «نسقيكم» و «نسقيكم» بالفتح والضم ، والمعروف أن سقاه ناوله ليشرب. وأسقاه جعل له سقيا ، ونسب ضم الياء لعكرمة ، والجحدري ، وذكر بعضهم أن عكرمة قرأ «فيسقى» بالبناء للمفعول ، و ـ ريه ـ بالياء المثناة والراء المكسورة ، والمراد به ما يروى به وهو مفعول ثان ـ ليسقى ـ والمفعول الأول الضمير النائب عن الفاعل العائد على أحد ، ونصب (خَمْراً) حينئذ على التمييز (وَأَمَّا الْآخَرُ) وهو الخباز (فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) روي أنه عليه‌السلام قال له : ما رأيت السلال الآخرة الثلاث ثلاثة أيام تمر ثم تخرج فتصلب (قُضِيَ) أتم وأحكم (الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) وهو ما يؤول إليه حالكما وتدل عليه رؤياكما من نجاة أحدكما وهلاك الآخر ، ومعنى استفتائهما فيه سؤالهما عنه ، أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : ما رأى صاحبا يوسف شيئا إنما تحالما ليجربا علمه فلما أول رؤياهما قالا : إنما كنا نلعب ولم نر شيئا ، فقال عليه‌السلام : (قُضِيَ الْأَمْرُ) إلخ يقول : وقعت العبارة ا ه ، وقيل : المراد بالأمر ما اتهما به ، والكلام حينئذ على حذف مضاف أي عاقبة ذلك.

وذهب بعض المحققين إلى أن المراد به ما رأياه من الرؤيتين ، ونفى أن يكون المراد ما يؤول إليه أمرهما ، قال : لأن الاستفتاء إنما يكون في الحادثة لا في حكمها يقال : استفتى الفقيه في الحادثة أي طلب منه بيان حكمها ولا يقال : استفتاه في حكمها وكذا الإفتاء ، يقال : أفتى في الواقعة الفلانية بكذا ولا يقال : أفتى في حكمها بكذا ؛ ومما هو علم في ذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ) ومعنى استفتائهما فيه طلبهما لتأويله بقولهما (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) وعبر عن ذلك بالأمر وعن طلب تأويله بالاستفتاء تهويلا لأمره وتفخيما لشأنه إذ الاستفتاء إنما يكون في النوازل المشكلة الحكم المبهمة الجواب ، وإيثار صيغة المضارع لما أنهما بصدد الاستفتاء إلى أن يقضي عليه‌السلام من الجواب وطره وإسناد القضاء إليه مع أنه من أحوال مآله لأنه في الحقيقة عين ذلك المآل ، وقد ظهر في عالم المثال بتلك الصورة ، وأما توحيده مع تعدد رؤياهما فوارد على حسب ما وحداه في قولهما : (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) لا لأن الأمر ما اتهما به وسجنا لأجله من سمّ الملك فإنهما لم يستفتيا فيه ولا فيما هو صورته بل فيما هو صورة لمآله وعاقبته فتأمل ا ه.

وتعقب بأنه لا مانع من أن يراد بالأمر المآل كما يقتضيه ظاهر إسناد إليه وإليه ذهب الكثير ، وتجعل ـ في ـ للسببية مثلها في قوله عليه الصلاة والسلام : «إن امرأة دخلت النار في هرة» ويكون معنى الاستفتاء فيه الاستفتاء بسببه أي طلب بيان حكم الرؤيتين لأجله ، وهما إنما طلبا ذلك لتعرف حالهما ومآل أمرهما.

وإن أبيت ذلك فأي مانع من أن يكون الاستفتاء في الأمر مع أن الاستفتاء إنما يكون في الحادثة ، وهي هنا الرؤيتان لما أن بين الأمر وتلك الحادثة اتحادا كما ادعاه هو ، ووجه به إسناد القضاء إلى الأمر بالمعنى الذي حمله عليه مع أنه من أحوال مآله ، وليس له أن يقول بصحة اعتبار العينية في إسناد القضاء وعدم صحة اعتبارها في تعلق الاستفتاء إذ بعد اعتبار العينية بين شيئين يكون صحة نسبة ما هو من أحوال أحدهما إلى الآخر دون صحة نسبة ما هو من أحوال ذلك الآخر إليه ترجيحا بلا مرجح ، ومنع ذلك مكابرة ، ويرجح ما ذهب إليه الكثير أن فيه سلامة من نزع الخف قبل الوصول إلى الماء كما لا يخفى على من تيمم كعبة الإنصاف ، وبأن ما ذكره في تعليل عدم صحة تفسير الأمر بما اتهما به وسجنا لأجله لا يخلو عن دغدغة على أن ذلك كان تعريضا بصاحب الكشاف وهو على ما قال الطيبي : ما

٤٣٦

عني بالأمر إلّا العاقبة ، نعم صدر كلامه ظاهر فيما ذكر والأمر فيه سهل ، ولعل وجه الأمر بالتأمل في كلام هذا المحقق مجموع ما ذكرناه فتأمل ، ثم إن هذا الإخبار كما يحتمل أن يكون للرد عليهما حسبما ورد في الأثر يحتمل أن يكون تحقيقا لتعبيره وتأكيدا له ، ولا يشكل على الأول أنه لا داعي لجحود الشرابي لأنا نقول على تقدير كذبهما في ذلك : يحتمل أن يكون لمراعاة جانب صاحبه الخباز.

وجاء في بعض الآثار «إن الذي جحد هو الخباز» فحينئذ الأمر واضح. واستدل بذلك على ما هو المشهور من أن الرؤيا تقع كما تعبر ، ولذا قيل : المنام على جناح طائر إذا قص وقع (وَقالَ) أي يوسفعليه‌السلام.

(لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ) أوثر على صيغة المضارع مبالغة في الدلالة على تحقيق النجاة حسبما يفيده قوله : (قُضِيَ الْأَمْرُ) إلخ ، وهو السر في إيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال : للذي ظنه ناجيا (مِنْهُمَا) أي من صاحبيه ، وإنما ذكر بوصف النجاة تمهيدا لمناط التوصية بالذكر بما يدور (١) عليه الامتياز بينه وبين صاحبه المذكور بوصف الهلاك ، والظانّ هو يوسف عليه‌السلام لا صاحبه ، وإن ذهب إليه بعض السلف لأن التوصية لا تدور على ظنّ الناجي بل على ظنّ يوسف عليه‌السلام وهو بمعنى اليقين كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦] ونظائره.

ولعل التعبير به من باب إرخاء العنان والتأدب مع الله تعالى ، فالتعبير على هذا بالوحي كما ينبئ عنه قوله : (قُضِيَ الْأَمْرُ) إلخ ، وقيل : هو بمعناه ، والتعبير بالاجتهاد والحكم بقضاء الأمر أيضا اجتهادي ، واستدل به من قال : إن تعبير الرؤيا ظني لا قطعي ، والجار والمجرور إما في موضع الصفة ـ لناج ـ أو الحال من الموصول ولا يجوز أن يكون متعلقا ـ بناج ـ لأنه ليس المعنى عليه (اذْكُرْنِي) بما أنا عليه من الحال والصفة.

(عِنْدَ رَبِّكَ) سيدك ، وروي أنه لما انتهى بالناجي في اليوم الثالث إلى باب السجن قال له : أوصني بحاجتك ، فقال عليه‌السلام : حاجتي أن تذكرني عند ربك وتصفني بصفتي التي شاهدتها (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ) أي أنسى ذلك الناجي بوسوسته وإلقائه في قلبه أشغالا حتى يذهل عن الذكر ، وإلّا فالإنساء حقيقة لله تعالى ، والفاء للسببية فإن توصيته عليه‌السلام المتضمنة للاستعانة بغيره سبحانه وتعالى كانت باعثة لما ذكر من إنسائه (ذِكْرَ رَبِّهِ) أي ذكر يوسف عليه‌السلام عند الملك ، والإضافة لأدنى ملابسة ، ويجوز أن تكون من إضافة المصدر إلى المفعول بتقدير مضاف أي ذكر إخبار ربه (فَلَبِثَ) أي فمكث يوسف عليه‌السلام بسبب ذلك القول أو الإنساء (فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) البضع ما بين الثلاث إلى التسع كما روي عن قتادة وعن مجاهد أنه من الثلاث إلى السبع ، وقال أبو عبيدة : من الواحد إلى العشرة ، ولا يذكر على ما قال الفراء : إلّا مع العشرات دون المائة والألف ، وهو مأخوذ من البضع بمعنى القطع ؛ والمراد به هنا في أكثر الأقاويل سبع سنين وهي مدة لبثه كلها فيما صححه البعض ، وسنتان منها كانت مدة لبثه بعد ذلك القول ، ولا يأبى ذلك فاء السببية لأن لبث هذا المجموع مسبب عما ذكر ، وقيل : إن هذه السبع مدة لبثه بعد ذلك القول ، وقد لبث قبلها خمسا فجميع المدة اثنتا عشرة سنة ، ويدل عليه خبر «رحم الله تعالى أخي يوسف لو لم يقل : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) لما لبث في السجن سبعا بعد خمس» (٢) ، وتعقب بأن الخبر لم يثبت بهذا اللفظ وإنما

__________________

(١) ولذا لم يذكره بعنوان التقرب المفهوم من التعبير المذكور وإن كان أدخل وأدعى إلى تحقيق ما وصاه به ا ه منه.

(٢) وقيل : إنه لبث خمس سنين ، وقد تقدم هذا للقول فتذكر ا ه منه.

٤٣٧

الثابت في عدة روايات ما لبث في السجن طول ما لبث وهو لا يدل على المدعى ، وروي ابن حاتم عن طاوس والضحاك تفسير البضع هاهنا بأربع عشرة سنة وهو خلاف المعروف في تفسيره ، والأولى أن لا يجوز بمقدار معين كما قدمنا ، وكون هذا اللبث مسببا عن القول هو الذي تظافرت عليه الأخبار كالخبر السابق والخبر الذي روي عن أنس قال : «أوحى الله تعالى إلى يوسف عليه‌السلام من استنقذك من القتل حين هم إخوتك أن يقتلوك ، قال : أنت يا رب ، قال : فمن استنقذك من الجب إذ ألقوك فيه ، قال : أنت يا رب ، قال : فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك ، أنت يا رب ، قال : فما بالك نسيتني وذكرت آدميا ، قال : يا رب كلمة تكلم بها لساني ، قال : وعزتي لأدخلنك في السجن بصع سنين» وغير ذلك من الأخبار ، ولا يشكل على هذا أن الاستعانة بالعباد في كشف الشدائد مما لا بأس به ، فقد قال سبحانه : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) [المائدة : ٢] فكيف عوتب عليه‌السلام في ذلك لأن ذلك ما يختلف باختلاف الأشخاص ، واللائق بمناصب الأنبياء عليهم‌السلام ترك ذلك والأخذ بالعزائم ، واختار أبو حيان أن يوسف عليه‌السلام إنما قال للشرابي ما قال ليتوصل بذلك إلى هداية الملك وإيمانه بالله تعالى كما توصل إلى إيضاح الحق لصاحبيه ، وإن ذلك ليس من باب الاستعانة بغير الله تعالى في تفريج كربه وخلاصه من السجن ، ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر ، وموجب للطعن في غير ما خبر ، نعم إنه اللائق بمنصبه عليه الصلاة والسلام.

وجوز بعضهم كون ضمير ـ أنساه ـ و (رَبِّهِ) عائدين على يوسف عليه‌السلام ، وإنساء الشيطان ليس من الإغواء في شيء بل هو ترك الأولى بالنسبة لمقام الخواص الرافعين للأسباب من البين ، وأنت تعلم أن الأول هو المناسب لمكان الفاء ، ولقوله تعالى الآتي : واذكر بعد أمة (وَقالَ الْمَلِكُ) وهو الريان وكان كافرا ، ففي إطلاق ذلك عليه دلالة على ما قيل : على جواز تسمية الكافر ملكا ، ومنعه بعضهم ، وكذا منع أن يقال : له أمير احتجاجا بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم كتب إلى هرقل «عظيم الروم» ولم يكتب ملك الروم ، أو أميرهم لما فيه من إيهام كونه على الحق ، وجعل هذا حكاية اسم مضى حكمه وتصرم وقته ، ومثله لا يضر أي قال لمن عنده : (إِنِّي أَرى) أي رأيت ، وإيثار صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية (سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ) ممتلئات لحما وشحما من سمن كسمع سمانة بالفتح وسمنا كعنبا فهو سامن ، وسمين ، وذكر أن سمينا وسمينة تجمع على سمان ، فهو ككرام جمع كريم وكريمة ، يقال : رجال كرام ونسوة كرام (يَأْكُلُهُنَ) أي أكلهن ، والعدول إلى المضارع لاستحضار الصورة تعجيبا ، والجملة حال من البقرات أو صفة لها (سَبْعٌ عِجافٌ) أي سبع بقرات مهزولة جدا من قولهم : نصل أعجف أي دقيق وهو جمع عجفاء على خلاف القياس ، والقياس عجف كحمراء ، وحمر فإن فعلاء وأفعل لا يجمع على فعال لكنهم بنوه على (سِمانٍ) وهم قد يبنون الشيء على ضده كقولهم : عدوة بالهاء لمكان صديقة ، وفعول بمعنى فاعل لا تدخله الهاء ، وأجرى (سِمانٍ) على المميز فجر على أنه وصف له ، ولم ينصب على أن يكون صفة للعدد المميز لأن وصف تمييزه وصف له معنى ، وقد ذكروا أنه إذا وصف التمييز كان التمييز بالنوع وإذا وصف التمييز كان التمييز بالجنس ، ولا شك أن الأول أولى وأبلغ لاشتمال النوع على الجنس فهو أزيد في رفع الإبهام المقصود من التمييز ، فلهذا رجح ما في النظم الكريم على غيره ولم يقل: (سَبْعٌ عِجافٌ) بالإضافة ، وجعله صفة للتمييز المقدر على قياس ما قبله ـ لأن التمييز لبيان الجنس والحقيقة والوصف ـ لا يدل عليه بل على شيء ما له حال وصفة ، فلذا ذكروا أن التمييز يكون باسم الجنس الجامد ولا يكون بالوصف المشتق في فصيح الكلام ، فتقول : عندي ثلاثة قرشيون ولا تقول قرشيين بالإضافة ، وأما قولك : ثلاثة فرسان وخمسة ركبان فلجريان الفارس والراكب مجرى الأسماء لاستعمالها في الأغلب من غير موصوف.

٤٣٨

واعترض صاحب الفرائد بأن الأصل في العدد التمييز بالإضافة فإذا وصف السبع بالعجاف فلا بد من تقدير المضاف إليه ، وكل واحد من الوصف ـ وتقدير المضاف إليه ـ خلاف الأصل أما إذا أضيف كانت الصفة قائمة مقام الموصوف فقولنا : (سَبْعٌ عِجافٌ) في قوة قولنا : سبع بقرات عجاف ، فالتمييز المطلوب بالإضافة حاصل بالإضافة إلى الصفة لقيامها مقام الموصوف ، فكما يجوز سبع بقرات عجاف يجوز سبع عجاف ، وإنما لم يضف لأنه قائم مقام البقرات وهي موصوفة بعجاف فكانت من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة وهي غير جائزة إلّا بتأويل ، وتعقب ذلك القطب بأنه هب أن الأصل في العدد التمييز بالإضافة لكن لما سبق ذكر (سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ) تبين أن السبع العجاف بقرات فهذا السبع مميز بما تقدم فقد حصل التمييز بالإضافة فلو أضيف إلى العجاف لكان العجاف قائما مقام البقرات في التمييز فيكون التمييز بالوصف وهو خلاف الأصل ، وأما إن السبع قائم مقام البقرات فإنما يكون إذا وصف بالعجاف أما إذا أضيف بكون العجاف قائمة مقام البقرات فلا يلزم إضافة الموصوف إلى الصفة ا ه ، وفيه تأمل.

وذكر العلامة الطيبي في هذا المقام أنه يمكن أن يقال : إن المميز إذا وصف ثم رفع به الإبهام والإجمال من العدد آذن بأنهما مقصودان في الذكر بخلافه إذا ميز ثم وصف بل الوصف ادعى لأن المميز إنما استجلب للوصف ، ومن ثمّ ترك التمييز في القرائن الثلاث والمقام يقتضي ذلك لأن المقصود بيان الابتلاء بالشدة بعد الرخاء ، وبيان الكمية بالعدد والكيفية بالبقرات تابع فليفهم ، ويعلم من ذلك وجه العدول إلى ما في النظم الكريم عن أن يقال : إني أرى سبع بقرات عجاف يأكلن سبعا سمانا الأخصر منه.

وقيل : إن التعبير بذلك بأنه ما رأى السمان ، فقد روي أنه رأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس ثم خرج عقيبهنّ سبع بقرات عجاف فابتلعت السمان ولم يتبين عليها منهن شيء.

(وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) قد انعقد حبها (وَأُخَرَ) أي وسبعا أخر (يابِساتٍ) قد أدركت والتوت على الخضر حتى غلبتها ولم يبق من خضرتها شيء على ما روي ، ولعل عدم التعرض لذكر العدد للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات ، ولا يجوز عطف أخر على سنبلات لأن العطف على المميز يقتضي أن يكون المعطوف والمعطوف عليه بيانا للمعدود سواء قيل : بالانسحاب أو بتكرير العامل لأن المعنى على القولين لا يختلف ؛ وإنما الاختلاف في التقدير اللفظي ؛ وحينئذ يلزم التدافع في الآية لأن العطف يقتضي أن تكون السنبلات خضرها ويابسها سبعا ، ولفظ (أُخَرَ) يقتضي أن يكون غير السبع وذلك لأن تباينها في الوصف أعني الخضرة واليبس منطوق ، واشتراكهما في السنبلية فيكون مقتضى لفظ (أُخَرَ) تغايرهما في العدد ولزم التدافع ، وعلى هذا يصح أن تقول : عندي سبعة رجال قيام وقعود بالجر لأنك ميزت سبعة رجال موصوفين بالقيام والقعود على أن بعضهم كذا وبعضهم كذا ، ولا يصح سبعة رجال قيام وآخرين قعود لما علمت ، فالآية والمثال في هذا المبحث على وزان واحد كما يقتضيه كلام الكشاف ، ونظر في ذلك صاحب الفرائد فقال : إن الصحيح أن العطف في حكم تكرير العامل لا الانسحاب فلو عطف آخرين على رجال قيام لكان سبعة مكررة في المعطوف أي وسبعة آخرين أي رجال آخرين قعود ، ويفسد المعنى لأن المفروض أن الرجال سبعة ، وأما الآية فلو كرّر فيها وقيل : وسبع أخر أي وسبع سنبلات أخر استقام لأن الخضر سبع واليابسات سع ، نعم لو خرج ذلك على المرجوح وهو الانسحاب أدّى إلى أن السبع المذكورة مميزة بسنبلات خضر وسنبلات أخر يابسات ، وفسد إذ المراد أن كلا منهما سبعة ، لا أنها سبعة ، فالمثال والآية ليسا على وزان إذ هو على تكرير العامل يفسد وعلى الانسحاب يصح ، والآية بالعكس ، ثم بنى على ما زعمه من أن الصحيح قول التكرير جواز العطف.

وادعى أن الأولى أن يكون العطف على (خُضْرٍ) لا على (يابِساتٍ) ليدل على موصوف آخر ، وهو

٤٣٩

سنبلات ولا يقدر موصوفها بقرينة السياق ، ولا يخفى أن الكلام إنما هو على تقدير أن يكون مميز السبع ما علمت ، وعلى ذلك يلزم التدافع ، ولا يبنى على فرض أنهم سبعة أو أربعة عشر فيصح في الآية ولا يصح في المثال فإنه وهم.

ومن ذلك يظهر أنه لا مدخل للتكرير والانسحاب في هذا الفرض ، ثم إن المختار قول الانسحاب على ما نص عليه الشيخ ابن الحاجب وحققه في غير موضع ، وأما الاستدلال بالآية على الانسحاب لا التقدير وإلّا لكان لفظ (أُخَرَ) تطويلا يصان كلام الله تعالى المعجز عنه فغير سديد على ما في الكشف لأن القائل بالتقدير يدّعي الظهور في الاستقلال ، وكذلك القائل بالانسحاب يدعي الظهور في المقابل على ما نص عليه أئمة العربية فلا يكون التأكيد ـ بأخر ـ لإرادة النصوص تطويلا بل إطنابا يكون واقعا في حاق موقعه هذا (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) خطاب للاشراف ممن يظن به العلم ، يروى أنه جمع السحرة والكهنة والمعبرين فقال لهم : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ).

(أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ) هذه أي عبروها وبينوا حكمها وما تؤول إليه من العاقبة.

وقيل : هو خطاب لجلسائه وأهل مشورته ، والتعبير عن التعبير بالإفتاء لتشريفهم وتفخيم أمر رؤياه (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أي تعلمون عبارة جنس الرؤيا (١) علما مستمرا وهي الانتقال من الصورة المشاهدة في المنام إلى ما هي صورة ومثال لها من الأمور الآفاقية والأنفسية الواقعة في الخارج من العبور وهو المجاوزة ، تقول : عبرت النهر إذا قطعته وجاوزته ، ونحوه أولتها أي ذكرت ما تؤول إليه وعبرت الرؤيا بالتخفيف عبارة أقوى وأعرف عند أهل اللغة من عبرت بالتشديد تعبيرا حتى إن بعضهم أنكر التشديد ، ويرد عليه ما أنشده المرد في الكامل لبعض الأعراب وهو :

رأيت رؤيا ثم عبرتها

وكنت للأحلام عبارا

والجمع بين الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار كما أشير إليه ، واللام قيل : متعلقة بمحذوف والمقصود بذاك البيان كأنه لما قيل : (تَعْبُرُونَ) قيل : لأي شيء؟ فقيل : للرؤيا فهي للبيان كما في سقيا له إلّا أن تقديم البيان على المبين لا يخلو عن شيء ، وقيل ـ واختاره أبو حيان ـ إنها لتقوية الفعل المذكور لأنه ضعف بالتأخير ، ويقال لها : لام التقوية وتدخل في الفصيح على المعمول إذا تقدم على عامله مطلقا وعلى معمول غير الفعل إذا تأخر كزيد ضارب لعمرو ، وفي كونها زائدة أو لا خلاف ، وقيل : إنه جيء بها لتضمين الفعل المتعدي معنى فعل قاصر يتعدى باللام أي إن كنتم تنتدبون لعبارتها ، وجوز أن يكون (لِلرُّءْيا) خبر كان كما تقول : كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقبلا به متمكنا منه ، وجملة (تَعْبُرُونَ) خبر آخر أو حال ، ولا يخفى ما في ذلك من التكلف ، وكذا فيما قبله.

وقرأ أبو جعفر بالإدغام في الرؤيا وبابه بعد قلب الهمزة واوا ثم قلب الواو ياء لسبقها إياها ساكنة ، ونصوا على شذوذ ذلك لأن الواو بدل غير لازم (قالُوا) استئناف بياني كأنه قيل : فما ذا قال الملأ للملك إذ قال لهم ذلك؟ فقيل : هي (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أي هي (أَضْغاثُ) إلخ ، وهي جمع ضغث وهو أقل من الحزمة وأكثر من القبضة من أخلاط النبات ، وقد يطلق على ما كان من جنس واحد كما في قوله :

خود كأن فراشها وضعت به

أضغاث ريحان غداة شمال

وجعل من ذلك ما في قوله تعالى : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ) [ص : ٤٤] فقد روي أن أيوب عليه‌السلام أخذ عثكالا من النخل فضرب به ، وفي الكشاف أن «أضغاث الأحلام» تخاليطها وأباطيلها وما يكون منها من

__________________

(١) ذكر بعض المحققين أن الرؤيا تكون جمعا فلا تغفل ا ه منه.

٤٤٠