روح المعاني - ج ٦

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٦

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٣

والدواب فجن البعض إلى البعض وعلت الأصوات وعجوا جميعا وتضرعوا إليه تعالى وأخلصوا النية فرحمهم ربهم واستجاب دعاءهم وكشف عنهم ما نزل بهم من العذاب وكان ذلك يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة.

قال ابن مسعود : إنه بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم فيما بينهم حتى إن كان الرجل ليأتي إلى الحجر قد وضع أساس بنيانه عليه فيقلعه ويرده إلى صاحبه ، وجاء في رواية عن قتادة أنهم عجوا إلى الله تعالى أربعين صباحا حتى كشف ما نزل بهم ، وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وغيرهما عن ابن غيلان قال : لما غشي قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا : ما ترى؟ قال : قولوا : يا حي حين لا حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت فقالوها فكشف عنهم العذاب ، وقال الفضيل بن عياض : قالوا : اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم وأجل فافعل بنا ما أنت أهله ، ولا تفعل بنا ما نحن أهله ، وكان يونس عليه‌السلام إذ ذهب عنهم قعد في الطريق يسأل الخبر كما جاء مرفوعا فمر به رجل فقال له : ما فعل قوم يونس؟ فحدثه بما صنعوا فقال : لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم وانطلق مغاضبا حسبما قصه الله تعالى في غير هذا الموضع مما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وظاهر الآية يستدعي أن القوم شاهدوا العذاب لمكان (كَشَفْنا) وهو الذي يقتضيه أكثر الأخبار وإليه ذهب كثير من المفسرين ، ونفع الإيمان لهم بعد المشاهدة من خصوصياتهم فإن إيمان الكفار بعد مشاهدة ما وعدوا به إيمان بأس غير نافع لارتفاع التكليف حينئذ وعادة الله إهلاكهم من غير إمهال كما أهلك فرعون ، والقول بأنه بقي حيا إلى ما شاء الله تعالى وسكن أرض الموصل من مفتريات اليهود.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) تحقيق لدوران إيمان جميع المكلفين وجودا وعدما على قطب مشيئته سبحانه مطلقا بعد بيان تبعية كفر الكفرة لكلمته ، ومفعول المشيئة هنا محذوف حسب المعهود في نظائره أي لو شاء سبحانه إيمان من في الأرض من الثقلين لآمن (كُلُّهُمْ) بحيث لا يشذ منهم أحد (جَمِيعاً) أي مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه لكنه لم يشأ ذلك لأن سبحانه لا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم إلا ما له ثبوت في نفسه فيما لا ثبوت له أصلا لا يعلم وما لا يعلم لا يشاء ، وإلى هذا التعليل ذهب الكوراني عليه الرحمة وأطال الكلام في تحريره والذب عنه في غير ما رسالة ، والجمهور على أنه سبحانه لا يشاؤه لكونه مخالفا للحكمة التي عليها بناء أساس التكوين والتشريع. والآية حجة على المعتزلة الزاعمين أن الله تعالى شاء الإيمان من جميع الخلق فلم يؤمن إلا بعضهم ، والمشيئة عندهم قسمان تفويضية يجوز تخلف الشيء عنها وقسرية لا يجوز التخلف عنها وحملوا ما في الآية على هذا الأخير ، فالمعنى عندهم لو شاء ربك مشيئة الجاء وقسر إيمان الثقلين لآمنوا لكنه سبحانه لم يشأ كذلك بل أمرهم بالإيمان وخلق لهم اختيار إله ولضده وفوض الأمر إليهم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وهذا دينهم في كل ما ورد عليهم من الآيات الظاهرة في إبطال ما هم عليه ، وفيه أنه لا قرينة على التقييد مع أن قوله سبحانه : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) يأباه فيما قيل ، فإن الهمزة للإنكار وهي لصدارتها مقدمة من تأخير على ما عليه الجمهور والفاء للتفريع والمقصود تفرع الإنكار على ما قبل ولا فائدة بل لا وجه لاعتبار مشيئة القسر والإلجاء خاصة في تفرع الإنكار ، وقيل : إن الهمزة في موضعها والعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل : أربك لا يشاء ذلك فأنت تكرههم (حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) والإنكار متوجه إلى ترتيب الإكراه المذكور على عدم مشيئته تعالى والآباء هو الآباء فلا بد من حمل المشيئة على إطلاقها ، والمراد بالناس من طبع عليهم أو الجميع مبالغة ، وجوز في «أنت» أن يكون فاعلا بمقدر يفسره ما بعده وأن يكون مبتدأ خبره الجملة بعده ويعدونه فاعلا معنويا ، وتقديمه لتقوية حكم الإنكار كما ذهب إليه الشريف قدس‌سره في شرح المفتاح وذكر فيه أن المقصود إنكار صدور الفعل من المخاطب لا إنكار كونه هو الفاعل مع تقرر

١٨١

أصل الفعل ، وقيل : إن التقديم للتخصيص ففيه إيذان بأن الإكراه أمر ممكن لكن الشأن في المكره من هو وما هو إلا سبحانه وحده لا يشارك فيه لأنه جل شأنه القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرهم إلى الإيمان وذلك غير مستطاع للبشر.

(وَما كانَ لِنَفْسٍ) بيان لتبعية إيمان النفوس التي علم الله تعالى إيمانها لمشيئته تعالى وجودا وعدما بعد بيان الدوران الكلي عليها كذلك ، وقيل : هو تقرير لما يدل عليه الكلام السابق من أن خلاف المشيئة مستحيل أي ما صح وما استقام لنفس من النفوس التي علم الله تعالى أنها تؤمن (أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بمشيئته وإرادته سبحانه ، والأصل في الإذن بالشيء الإعلام بإجازته والرخصة فيه ورفع الحجر عنه ، وجعلوا ما ذكر من لوازمه كالتسهيل الذي ذكره بعضهم في تفسيره ، وخصصت النفس بالصفة المذكورة ولم تجعل من قبيل قوله تعالى: (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ١٤٥] قيل لأن الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما كان لنفس أن تؤمن في حال من أحوالها إلا حال كونها ملابسة بإذنه سبحانه فلا بد من كون الإيمان مما يؤول إليه حالها كما أن الموت حال لكل نفس لا محيص لها عنه فلا بد من التخصيص بما ذكر ، فإن النفوس التي علم الله تعالى أنها لا تؤمن ليس لها حال تؤمن فيها حتى تستثنى تلك الحال من غيرها انتهى ، وقد يقال : إن هذا الاستثناء بالنظر إلى النفس التي علم الله تعالى أنها لا تؤمن مفيد لعدم إيمانها على أتم وجه على حد ما قيل في قوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٣] فكأنه قيل : ما كان لنفس علم الله تعالى أنها لا تؤمن أن تؤمن في حال من الأحوال كسلامة العقل وصحة البدن وغيرهما إلا في حال ملابستها إذن الله تعالى وإرادته أن تؤمن وهي تابعة لعلمه بذلك وعلمه به محال لأنه قد علم نقيضه فيلزم انقلاب العلم جهلا فتكون إرادته ذلك محالا فيكون إيمانها محالا إذ الموقوف على المحال محال. وفي الحواشي الشهابية أن (ما كانَ) إن كان بمعنى ما وجد احتاج إلى تقييد النفس بمن علم أنها تؤمن وإن كان بمعنى ما صح لا يحتاج إليه ولذا ذكره من ذكره وتركه من تركه وفيه خفاء فتأمل (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) أي الكفر كما في قوله تعالى : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥] بقرينة ما قبله ، وأصله الشيء الفاسد المستقذر وعبر عنه بذلك لكونه علما في الفساد والاستقذار ، وقيل : المراد به العذاب وعبر عنه بذلك لاشتراكهما في الاستكراه والتنفر ، وإن إرادة الكفر منه باعتبار أنه نقل أولا عن المستقذر إلى العذاب للاشتراك فيما ذكر ثم أطلق على الكفر لأنه سببه فيكون مجازا في المرتبة الثانية ، واختار الإمام التفسير الأول تحاشيا مما في إطلاق المستقذر على عذاب الله تعالى من الاستقذار وبعض الثاني لما أن كلمة (عَلَى) في قوله تعالى : (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أي لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات أو لا يعقلون دلائله وأحكامه لما على قلوبهم من الطبع تأبى الأول. وتعقب بأن المعنى يقدره عليهم فلا إباء ، ويفسر (الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) بما يكون به تأسيسا كما سمعت في تفسيره ، ومنه تعلم أن الفعل منزل منزلة اللازم أو له مفعول مقدر ، وقد يفرق بين التفسيرين بأنهم على الأول لم يسلبوا قوة النظر لكنهم لم يوفقوا لذلك وعلى الثاني بخلافه والأمر الآتي ظاهر في الأول ، والجملة معطوفة على مقدر كأنه قيل : فيأذن لهم الإيمان ويجعل إلخ أو فيأذن لبعضهم بذلك ويجعل إلخ. وقرئ «الرجز» بالزاي ؛ وقرأ حماد ويحيى عن أبي بكر «ونجعل» بالنون (قُلِ انْظُرُوا) خطاب لسيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأمر الكفرة الذين هو عليه الصلاة والسلام بين ظهرانيهم بالتفكر في ملكوت السموات والأرض وما فيهما من عجائب الآيات الآفاقية والأنفسية ليتضح له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم من الذين لا يعقلون ؛ وكأنه متعلق بما عنده ، وتعليقه بقوله سبحانه : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) إلخ على معنى لا تكره الناس على الإيمان ولكن اؤمرهم بما يتوصل به إليه عادة من النظر لا يخلو عن النظر ، وقيل : إنه تعالى لما أفاد فيما تقدم

١٨٢

أن الإيمان بخلقه سبحانه وأنه لا يؤمن إلا من بعد إذنه وأن الذين حقت عليهم الكلمة لا يؤمنون أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يأمر بالنظر لئلا يزهد فيه بعد تلك الإفادة ، وأرى الأول أولى ، وجاء ضم لام قل وكسرها وهما قراءتان سبعيتان ، وقوله سبحانه : (ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في محل نصب بإسقاط الخافض لأن الفعل قبله معلق بالاستفهام لأن (ما) استفهامية وهي مبتدأ و (ذا) بمعنى الذي والظرف صلته وهو خبر المبتدأ ، ويجوز أن يكون (ما ذا) كله اسم استفهام مبتدأ والظرف خبره أي أي شيء بديع في السموات والأرض من عجائب صنعته تعالى الدالة على وحدته وكمال قدرته جل شأنه.

وجوز أن يكون (ما ذا) كله موصولا بمعنى الذي وهو في محل نصب بالفعل قبله ، وضعفه السمين بأنه لا يخلو حينئذ من أن يكون النظر قلبيا كما هو الظاهر فيعدى بفي وأن يكون بصريا فيعدى بإلى. (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) أي ما تكفيهم وما تنفعهم. وقرئ بالتذكير ، والمراد بالآيات ما أشير إليه بقوله سبحانه : (ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ففيه إقامة الظاهر مقام المضمر وَالنُّذُرُ) جمع نذير بمعنى أي الرسل المنذرون أو بمعنى إنذار أي الإنذارات ، وجمع لإرادة الأنواع ، وجوز أن يكون (النُّذُرُ) نفسه مصدرا بمعنى الإنذار ، والمراد بهؤلاء القوم المطبوع على قلوبهم أي لا يؤمنون في علم الله تعالى وحكمه و (ما) نافية والجملة اعتراضية ، وجوز أن يكون في موضع الحال من ضمير (قُلِ) وفي القلب من جعلها حالا من ضمير (انْظُرُوا) شيء فانظروا ، ويتعين كونها اعتراضية إذا جعلت (ما) استفهامية إنكارية ، وهي حينئذ في موضع النصب على المصدرية للفعل بعدها أو على أنه مفعول به له ، والمفعول على هذا وكذا على احتمال النفي محذوف إن لم ينزل الفعل منزلة اللازم أي ما تغني شيئا (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ) أي هؤلاء المأمورون بالنظر من مشركي مكة وأشرافهم (إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا) أي مثل وقائعهم ونزول بأس الله تعالى بهم إذ لا يستحقون غير ذلك ، وجاء استعمال الأيام في الوقائع كقولهم : أيام العرب ، وهو مجاز مشهور من التعبير بالزمان عما وقع فيه كما يقال : المغرب للصلاة الواقعة فيه ، والمراد بالموصول المشركون من الأمم الماضية (مِنْ قَبْلِهِمْ) متعلق ـ بخلوا ـ جيء به للتأكيد والإيماء بأنهم سيخلون كما خلوا (قُلْ) تهديدا لهم (فَانْتَظِرُوا) ذلك (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) إياه فمتعلق الانتظار واحد بالذات وهو الظاهر وجوز أن يكون مختلفا بالذات متحدا بالجنس أي فانتظروا إهلاكي إني معكم من المنتظرين هلاككم (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا) بالتشديد ، وعن الكسائي ، ويعقوب بالتخفيف ، وهو عطف على مقدر يدل عليه قوله سبحانه : (مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا) وما بينهما اعتراض جيء به مسارعة إلى التهديد ومبالغة في تشديد الوعيد كأنه قيل : نهلك الأمم ثم ننجي المرسل إليهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بهم ، وعبر بالمضارع لحكاية الحال الماضية لتهويل أمرها باستحضار صورها ، وتأخير حكاية التنجية عن حكاية الإهلاك على عكس ما جاء في غير موضع ليتصل به قوله سبحانه : (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) أي ننجيهم إنجاء كذلك الإنجاء الذي كان لمن قبلهم على أن الإشارة إلى الإنجاء ، والجار المجرور متعلق بمقدر وقع صفة لمصدر محذوف. وجوز أن يكون الكاف في محل نصب بمعنى مثل سادة مسد المفعول المطلق. ويحتمل عند بعض أن يكون في موقع الحال من الإنجاء الذي تضمنه (نُنَجِّي) بتأويل نفعل الإنجاء حال كونه مثل ذلك الإنجاء وأن يكون في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك ، و (حَقًّا) نصب بفعله المقدر أي حق ذلك حقا ، والجملة اعتراض بين العامل والمعمول على تقدير أن يكون (كَذلِكَ) معمولا للفعل المذكور بعد ، وفائدتها الاهتمام بالإنجاء وبيان أنه كائن لا محالة وهو المراد بالحق ، ويجوز أن يراد به الواجب ، ومعنى كون الإنجاء واجبا أنه كالأمر الواجب عليه تعالى وإلا فلا وجوب حقيقة عليه سبحانه ، وقد صرح بأن الجملة

١٨٣

اعتراضية غير واحد من المعربين ويستفاد منه أنه لا بأس (١) الجملة الاعتراضية إذا بقي شيء من متعلقاتها ، وجوز أن يكون بدلا من الكاف التي هي بمعنى مثل أو من المحذوف الذي نابت عنه.

وقيل : إن (كَذلِكَ) منصوب ـ بننجي ـ الأول و (حَقًّا) منصوب بالثاني وهو خلاف الظاهر ، والمراد بالمؤمنين إما الجنس المتناول للرسل عليهم‌السلام وأتباعهم فقط ، وإما الأتباع فقط وإنما لم يذكر إنجاء الرسل إيذانا بعدم الحاجة إليه ، وأيّا ما كان ففيه تنبيه على أن مدار الإنجاء هو الإيمان ، وجيء بهذه الجملة تذييلا لما قبلها مقررا لمضمونه (قُلْ) لجميع من شك في دينك وكفر بك (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أوثر الخطاب باسم الجنس مصدرا بحرف التنبيه تعميما للتبليغ وإظهارا لكمال العناية بشأن ما بلغ إليهم (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) الذي أعبد الله تعالى به وأدعوكم إليه ولم تعلموا ما هو ولا صفته حتى قلتم إنه صبأ.

(فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) في وقت من الأوقات (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) ثم يفعل بكم ما يفعل من فنون العذاب ، وجعل هذه الجملة باعتبار مضمونها جوابا بتأويل الأخبار وإلا فلا ترتب لها على الشرط بحسب الظاهر ، فالمعنى إن كنتم في شك من ذلك فأخبركم أنه تخصيص العبادة به تعالى ورفض عبادة ما سواه من الأصنام وغيرها مما تعبدونه جهلا ، وقد كثر جعل الأخبار بمفهوم الجملة جزاء نحو إن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس ، وعلى هذا الطراز قوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل: ٥٣] فإن استقرار النعمة ليس سببا لحصولها من الله تعالى بل الأمر بالعكس ، وإنما سبب للإخبار بحصولها منه تعالى كما قرره ابن الحاجب.

وقد يكون المعنى إن كنتم في شك من صحة ديني وسداد فأخبركم أن خلاصته العبادة لإله هذا شأنه دون ما تعبدونه مما هو بمعزل عن ذلك الشأن فاعرضوا ذلك على عقولكم وأجيلوا فيه أفكاركم وانظروا بعين الإنصاف لتعلموا صحته وحقيته ، وذكر بعضهم أنه لا يحتاج على هذا إلى جعل المسبب الإخبار والإعلام بل يعتبر الجزاء الأمر بعرض ما ذكر على عقولهم والتفكر فيه ، والأظهر اعتبار كون الأخبار جزاء كما في المعنى الأول ، والتعبير عما هم عليه بالشك مع كونهم قاطعين بعدم الصحة للإيذان بأن أقصى ما يمكن عروضه للعاقل في هذا الباب هو الشك في الصحة وأما القطع بعدمها فما لا سبيل إليه ، وقيل : لا نسلم أنهم كانوا قاطعين بل كانوا في شك واضطراب عند رؤية المعجزات ، وجيء ـ بأن ـ للإشارة إلا أنه مما لا ينبغي أن يكون لوجود ما يزيله.

وجوز أن يكون المعنى إن كنتم في شك من ديني ومما أنا عليه أأثبت عليه أم أتركه وأوافقكم فلا تحدثوا أنفسكم بالمحال ولا تشكوا في أمري واقطعوا عني أطماعكم واعملوا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولا أختار الضلالة على الهدى كقوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) [الكافرون : ١ ، ٢] ولا يخفى أن ما قبل أوفق بالمقام ، وتقديم ترك عبادة غير الله تعالى على عبادته سبحانه لتقدم التخلية على التحلية كما في كلمة التوحيد والإيذان بالمخالفة من أول الأمر ، وتخصيص التوفي من بين سائر صفات الأفعال بالذكر متعلقا بهم للتخويف فإنه لا شيء أشد عليهم من الموت ، وقيل : المراد أعبد الله الذي خلقكم ثم يتوفاكم ثم يعيدكم وفيه إيماء إلى الحشر الذي ينكرونه وهو من أمهات أصول الدين ثم حذف الطرفان وأبقى الوسط ليدل عليهما فإنهما قد كثر اقترانهما به في القرآن (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي أوجب الله تعالى على ذلك فوجوب الإيمان بالله تعالى شرعي كسائر

__________________

(١) قوله لا بأس الجملة إلخ كذا بخطه رحمه‌الله.

١٨٤

الواجبات ، وذكر المولى صدر الشريعة أن للشرعي معنيين ما يتوقف علي الشرع كوجوب الصلاة والصوم ، وما ورد به الشرع ولا يتوقف على الشرع كوجوب الإيمان بالله سبحانه ووجوب تصديقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه لا يتوقف على الشرع فهو ليس بشرعي بالمعنى الأول ، وذلك لأن ثبوت الشرع موقوف على الإيمان بوجود الباري تعالى وعلمه وقدرته وكلامه وعلى التصديق بنبوة النبي عليه الصلاة والسلام بدلالة معجزاته فلو توقف شيء من هذه الأحكام على الشرع لزم الدور ، ولقائل أن يمنع توقف الشرع على وجوب الإيمان ونحوه سواء أريد بالشرع خطاب الله تعالى أو شريعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوقف التصديق بثبوت شرع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإيمان بالله تعالى وصفاته وعلى التصديق بنبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودلالة معجزاته لا يقتضي توقفه على وجوب الإيمان والتصديق ولا على العلم بوجوبهما غايته أنه يتوقف على نفس الإيمان والتصديق وهو غير مفيد لتوقفه على وجوب الإيمان والتصديق ولا مناف لتوقف وجوب الإيمان ونحوه على الشرع كما هو المذهب عندهم من أن لا وجوب إلا بالسمع ، وقول الزمخشري هنا : إنه عليه الصلاة والسلام أمر بالعقل والوحي لا يخلو عن نزغة اعتزالية كما هو دأبه في كثير من المواضع ، ومن قال من المفسرين منا : إنه وجب على ذلك بالعقل والسمع أراد بالعقل التابع لما سمع بالشرع فلا تبعية ، والكلام على حذف الجار أي أمرت بأن أكون ، وحذفه من أن وأن مطرد وإن وقع النظر عن ذلك فالحذف بعد أمر مسموع عن العرب كقوله :

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب

وأدخل بعضهم هذه الجملة في الجزاء وليس بمتعين (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) عطف كما قال غير واحد على (أَنْ أَكُونَ) واعترض بأن (إِنْ) في المعطوف عليه مصدرية بلا كلام لعملها النصب والتي في جانب المعطوف لا يصح أن تكون كذلك لوقوع الأمر بعدها ، وكذا لا يصح أن تكون مفسرة لعطفها على المصدرية ولأنه يلزم دخول الباء المقدرة عليها والمفسرة لا يدخل عليها ذلك ، ودفع ذلك باختيار كونها مصدرية ووقوع الأمر بعدها لا يضر في ذلك ، فقد نقل عن سيبويه أنه يجوز وصلها به ، ولا فرق في صلة الموصول الحرفي بين الطلب والخبر لأنه إنما منع في الموصول الاسمي لأنه وضع للتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل والجمل الطلبية لا تكون صفة ، والمقصود من أن هذه يذكر بعدها ما يدل على المصدر الذي تأول به وهو يحصل بكل فعل ، وكون تأويله يزيل معنى الأمر المقصود منه مدفوع بأنه يؤول كما أشرنا إليه فيما مر بالأمر بالإقامة إذ كما يؤخذ المصدر من المادة قد يؤخذ من الصيغة مع أنه لا حاجة إليه هنا لدلالة قوله تعالى: (أُمِرْتُ) عليه ، وفي الفرائد أنه يجوز أن يقدر وأوحى إلي أن أقم ، وتعقبه الطيبي بأن هذا سائغ إعرابا إلا أن في ذلك العطف فائدة معنوية وهي أن (وَأَنْ أَقِمْ) إلخ كالتفسير ـ لأن أكون ـ إلخ على أسلوب ـ أعجبني زيد وكرمه ـ داخل معه في حكم المأمور فلو قدر ذلك فات غرض التفسير وتكون الجملة مستقلة معطوفة على مثلها ، وفيه تأمل لجواز أن تكون هذه الجملة مفسرة للجملة المعطوفة هي عيها ، وقدر أبو حيان ذلك وزعم أن (أَنْ) حينئذ يجوز أن تكون مصدرية وأن تكون مفسرة لأن في الفعل المقدر معنى القول دون حروفه وأنه على ذلك يزول قلق العطف ويكون الخطاب في (وَجْهَكَ) في محله ، ورد بأن الجملة المفسرة لا يجوز حذفها ، وأما صحة وقوع المصدرية فاعلا أو مفعولا فليس بلازم ولا قلق في العطف الذي عناه ، وأمر الخطاب سهل لأنه لملاحظة المحكي والأمر المذكور معه.

وإقامة الوجه للدين كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادته تعالى والإعراض عمن سواه ، فإن من أراد أن ينظر إلى شيء نظر استقصاء يقيم وجهه في مقابلته بحيث لا يلتفت يمينا ولا شمالا إذ لو التفت بطلت المقابلة ، والظاهر أن الوجه على هذا ظاهره ويجوز أن يراد به الذات ، والمراد اصرف ذاتك وكليتك للدين واجتهد بأداء الفرائض والانتهاء

١٨٥

عن القبائح ، فاللام صلة (أَقِمْ) وقيل : الوجه على ظاهره وإقامته توجيهه للقبلة أي استقبل القبلة ولا تلتفت إلى اليمين أو الشمال ، فاللام للتعليل وليس بذاك ، ومثله القول بأن ذلك كناية عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين (حَنِيفاً) أي مائلا عن الأديان الباطلة ، وهو حال إما من الوجه أو من الدين ، وعلى الأول تكون حالا مؤكدة لأن إقامة الوجه تضمنت التوجه إلى الحق والإعراض عن الباطل ، وعلى الثاني قيل تكون حالا منتقلة وفيه نظر ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في (أَقِمْ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) عطف على (أَقِمْ) داخل تحت الأمر وفيه تأكيد له أي لا تكونن منهم اعتقادا ولا عملا (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ) استقلالا ولا اشتراكا (ما لا يَنْفَعُكَ) بنفسه إذا دعوته بدفع مكروه أو جلب محبوب (وَلا يَضُرُّكَ) إذا تركته بسلب المحبوب دفعا أو رفعا أو بإيقاع المكروه ، والجملة قيل معطوفة على جملة النهي قبلها ، واختار بعض المحققين عطفها على قوله سبحانه : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) فهي غير داخلة تحت الأمر لأن ما بعدها من الجمل إلى آخر الآيتين متسقة لا يمكن فصل بعضها عن بعض ولا وجه لإدراج الكل تحت الأمر. وأنت تعلم أنه لو قدر فعل الإيحاء في (وَأَنْ أَقِمْ) كما فعل أبو حيان وصاحب الفرائد لا مانع من العطف كما هو الظاهر على جملة النهي المعطوفة على الجملة الأولى وإدراج جميع المتسقات تحت الإيحاء ، وقد يرجح ذلك التقدير بأنه لا يحتاج معه إلى ارتكاب خلاف الظاهر من العطف على البعيد ، وقيل : لا حاجة إلى تقدير الإيحاء والعطف كما قيل والأمر السابق بمعنى الوحي كأنه قيل : وأوحى إلي أن أكون إلخ والاندراج حينئذ مما لا بأس به وهو كما ترى ولا أظنك تقبله (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) أي معدودا في عدادهم ، والفعل كناية عن الدعاء كأنه قيل : فإن دعوت ما لا ينفع ولا يضر ، وكني عن ذلك على ما قيل تنويها لشأنه عليه الصلاة والسلام وتنبيها على رفعة مكانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن ينسب إليه عبادة غير الله تعالى ولو في ضمن الجملة الشرطية.

والكلام في فائدة نحو النهي المذكور قد مر آنفا ، وجواب الشرط على ما في النهي جملة (فَإِنَّكَ) وخبرها أعني (مِنَ الظَّالِمِينَ) وتوسطت (إِذاً) بين الاسم والخبر مع أن رتبتها بعد الخبر رعاية للفاصلة. وفي الكشاف أن (إِذاً) جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر كأن سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان فجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] وهذه عبارة النحويين ، وفسرت كما قال الشهاب : بأن المراد أنها تلد على أن ما بعدها مسبب عن شرط محقق أو مقدر وجواب عن كلام محقق أو مقدر. وقد ذكر الجلال السيوطي عليه الرحمة في جمع الجوامع ـ بعد أن بين أن ـ إذا ـ الظرفية قد يحذف جزء الجملة التي أضيفت هي إليها أو كلها فيعوض عنه التنوين وتكسر للساكنين لا للإعراب خلافا للأخفش وقد تفتح ـ إن شيخه الكافيجي ألحق بها إذن ، ثم قال في شرحه همع الهوامع : وقد أشرت بقولي : وألحق شيخنا بها في ذلك إذن إلى مسألة غريبة قل من تعرض لها ؛ وذلك أني سمعت شيخنا عليه الرحمة يقول في قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) [المؤمنون : ٣٤] ليست إذن هذه الكلمة المعهودة وإنما هي إذا الشرطية حذفت جملتها التي يضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذ وكنت أستحسن هذا جدا وأظن أن الشيخ لا سلف له في ذلك حتى رأيت بعض المتأخرين جنح إلى ما جنح إليه الشيخ ، وقد أوسعت الكلام في ذلك في حاشية المغني انتهى.

وأنت تعلم أن الآية التي ذكرها كالآية التي نحن فيها وما ذكره مما يميل إليه القلب ولا أرى فيه بأسا ولعله أولى مما قاله صاحب الكشاف ومتبعوه فليحمل ما في الآية عليه ، وكان كثيرا ما يخطر لي ذلك إلا أني لم أكد أقدم على إثباته حتى رأيته لغيري ممن لا ينكر فضله فأثبته حامدا لله تعالى (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) تقرير لما أورد في حيز الصلة من سلب النفع من المعبودات الباطلة وتصوير لاختصاصه به سبحانه أي وإن يصبك بسوء ما (فَلا كاشِفَ

١٨٦

لَهُ) عنك كائنا من كان وما كان (إِلَّا هُوَ) وحده فثبت عدم كشف الأصنام بالطريق البرهاني ، وهو بيان لعدم النفع برفع المكروه المستلزم لعدم النفع بجلب المحبوب استلزاما ظاهرا ، فإن رفع المكروه أدنى مراتب النفع فإذا انتفى انتفى النفع بالكلية (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) تحقيق لسلب الضرر الوارد في حيز الصلة أي إن يرد أن يصيبك بخير (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) الذي من جملته ما أرادك به من الخير ، فهو دليل على جواب الشرط لا نفس الجواب ، وفيه إيذان بأن فيضان الخير منه تعالى بطريق التفضل والكرم من غير استحقاق عليه سبحانه أي لا أحد يقدر على رده كائنا من كان فيدخل فيه الأصنام دخولا أوليا ، وهو بيان لعدم ضرها بدفع المحبوب قبل وقوعه المستلزم لعدم ضرها برفعه أو بإيقاع المكروه استلزاما جليا ؛ ولعل ذكره الإرادة مع الخير والمس مع الضر مع تلازم الأمرين لأن ما يريده سبحانه يصيب وما يصيب لا يكون إلا بإرادته تعالى للإيذان بأن الخير مقصود لله تعالى بالذات والضر إنما يقع جزاء على الأعمال وليس مقصودا بالذات ، ويحتمل أنه أريد معنى الفعلين في كل من الخير والضر لاقتضاء المقام تأكيد كل من الترغيب والترهيب إلا أنه قصد الإيجاز في الكلام فذكر في أحدهما المس وفي الآخر الإرادة ليدل بما ذكر في كل جانب على ما ترك في الجانب الآخر ، ففي الآية نوع من البديع يسمى احتباكا وقد تقدم في غير آية ، ولم يستثن سبحانه في جانب الخير إظهارا لكمال العناية به وينبئ عن ذلك قوله تعالى : (يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) حيث صرح جل شأنه بالإصابة بالفضل المنتظم لما أراد من الخير ، وقيل : إنما لم يستثن جل وعلا في ذلك لأنه قد فرض فيه أن تعلق الخير به واقع بإرادته تعالى وصحة الاستثناء تكون بإرادة ضده في ذلك الوقت وهو محال ، وهذا بخلاف مس الضر فإن إرادة كشفه لا تستلزم المحال وهو تعلق الإرادتين بالضدين في وقت واحد ، وفي العدول عن يرد بك الخير إلى ما في النظم الجليل إيماء كما قيل إلى أن المقصود هو الإنسان وسائر الخيرات مخلوقة لأجله ، وما أشرنا إليه من رجوع ضمير (بِهِ) إلى الفضل هو الظاهر المناسب ، وجوز رجوعه لما ذكر وليس بذاك ، وحمل الفضل على العموم أولا وآخرا حسبما علمت هو الذي ذهب إليه بعض المحققين رادا على من جعله عبارة عن ذلك الخير بعينه على أن يكون الإتيان به أولا ظاهرا من باب وضع المظهر موضع المضمر إظهارا لما ذكره من الفائدة بأن قوله سبحانه : (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) يأبى ذلك لأنه ينادي بالعموم ، ويجوز عندي أن يكون الكلام من باب ـ عندي درهم ونصف ، وقوله سبحانه : (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) تذييل لقوله تعالى : (يُصِيبُ بِهِ) إلخ مقرر لمضمونه والكل تذييل للشرطية الأخيرة مقرر لمضمونها. وذكر الإمام في هذه الآيات أن قوله تعالى : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لا يمكن أن يكون نهيا عن عبادة الأوثان لأن ذلك مذكور في قوله سبحانه أول الآية : (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) فلا بد من حمل هذا الكلام على ما فيه فائدة زائدة وهي أن من عرف مولاه لو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركا وهو الذي يسميه أصحاب القلوب بالشرك الخفي ، ويجعل قوله سبحانه : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) إشارة إلى مقام هو آخر درجات العارفين لأن ما سوى الحق ممكن لذاته موجود بإيجاده والممكن لذاته معدوم بالنظر إلى ذاته وموجود بإيجاد الحق وحينئذ فلا نافع إلا الحق ولا ضار إلا هو وكل شيء هالك إلا وجهه وإذا كان كذلك فلا رجوع إلا إليه عز شأنه في الدارين.

ومعنى (فَإِنْ فَعَلْتَ) إلخ فإن اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة من غير الله تعالى فأنت من الظالمين أي الواضعين للشيء في غير موضعه إذا ما سوى الله تعالى معزول عن التصرف فإضافة التصرف إليه وضع للشيء في غير موضعه وهو الظلم ، وطلب الانتفاع بالأشياء التي خلقها الله تعالى للانتفاع بها من الطعام والشراب ونحوهما لا ينافي الرجوع بالكلية إلى الله تعالى بشرط أن يكون بصر العقل عند التوجه إلى شيء من ذلك مشاهدا لقدرة الله تعالى

١٨٧

وجوده وإحسانه في إيجاد تلك الموجودات وإيداع تلك المنافع فيها مع الجزم بأنها في أنفسها وذواتها معدومة وهالكة ولا وجود لها ولا بقاء ولا تأثير إلا بإيجاد الله تعالى وإبقائه وإفاضة ما فيها من الخواص عليها بجوده وإحسانه ، وقوله تبارك وتعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ) إلخ تقرير لأن جميع الممكنات مستندة إليه سبحانه وتعالى وأنه لا معول إلا عليه عز شأنه ، وهو كلام حسن بيد أن زعمه أن قوله تعالى : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لا يمكن أن يكون نهيا عن عبادة الأوثان إلخ لا يخفى ما فيه. وقد ذكر نحو هذا الكلام في الآيات ساداتنا الصوفية ، ففي أسرار القرآن أنه سبحانه خوف نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الالتفات إلى غيره في إقباله عليه سبحانه بقوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي من الطالبين غيري والمؤثرين على جمال مشاهدتي ما لا يليق من الحدثان ، وقد ذكروا أن إقامة الملة الحنيفية بتصحيح المعرفة وهو لا يكون إلا بترك النظر إلى ما سوى الحق جل جلاله ، ثم إنه تعالى زاد تأكيدا للإقبال عليه والإعراض عما سواه بقوله جل شأنه : (وَلا تَدْعُ) إلخ حيث أشار فيه إلى أن من طلب النفع أو الضر من غيره تعالى فهو ظالم أي واضع للربوبية في غير موضعها. ومن هنا قال شقيق البلخي : الظالم من طلب نفعه ممن لا يملك نفع نفسه واستدفع الضر ممن لا يملك الدفاع عن نفسه ومن عجز ذلك إقامة نفسه كيف يقيم غيره ، وقرر ذلك بقوله تعالى : وإن يمسسك إلخ.

ومن ذلك قال ابن عطاء : إنه تعالى قطع على عباده الرهبة والرغبة إلا منه وإليه بإعلامه أنه الضار النافع ؛ وقد يكون الضر إشارة إلى الحجاب والخير إشارة إلى كشف الجمال أي إن يمسسك الله بضر الحجاب فلا كاشف لضرك إلا هو بظهور أنوار وصاله وإن يردك بكشف جماله فلا راد لفضل وصاله من سبب وعلة فإن المختص في الأزل بالوصال لا يحتجب بشيء من الأشياء لأنه في الفضل السابق مصون من جريان القهر هذا ولعله مغن عن الكلام من باب الإشارة في الآيات حسبما هو العادة في الكتاب (قُلْ) يا أيها الرسول مخاطبا لأولئك الكفرة بعد ما بلغتهم ما أوحي إليك أو للمكلفين مطلقا كما قال الطبرسي (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) وهو القرآن العظيم الظاهر الدلالة المشتمل على محاسن الأحكام التي من جملتها ما مر آنفا من أصول الدين واطلعتم على ما في تضاعيفه من البينات والهدى ولم يبق لكم عذر ، وقيل : المراد من الحق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه من المبالغة ما لا يخفى. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أن (الْحَقُ) هو ما دل عليه قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ) إلخ وهو كما ترى (فَمَنِ اهْتَدى) بالإيمان والمتابعة (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي منفعة اهتدائه لها (وَمَنْ ضَلَ) بالكفر والإعراض (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي فوبال ضلاله عليها ، وقيل : والمراد تنزيه ساحة الرسالة عن شائبة غرض عائد إليه عليه الصلاة والسلام من جلب نفع ودفع ضر ، ويلوح إليه إسناد المجيء إلى الحق من غير إشعار بكون ذلك بواسطته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي بحفيظ موكول إلى أمركم وإنما أنا بشير ونذير ، وفي الآية إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام لا يجبرهم على الإيمان ولا يكرههم عليه وإنما عليه البلاغ ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها منسوخة بآية السيف (وَاتَّبِعْ) في جميع شئونك من الاعتقاد والعمل والتبليغ (ما يُوحى إِلَيْكَ) على نهج التجدد والاستمرار ، والتعبير عن بلوغ الحق المفسر بالقرآن إليهم بالمجيء وإليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحي تنبيه على ما بين المرتبتين من التنافي ، وإذا أريد من الحق ما قيل فالأمر ظاهر جدا (وَاصْبِرْ) على ما يعتريك من مشاق التبليغ وأذى من ضل (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) بالنصرة عليه أو بالأمر بالقتال (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) إذ لا يمكن الخطأ في حكمه تعالى لاطلاعه على السرائر كاطلاعه على الظواهر ، وغيره جل شأنه من الحاكمين إنما يطلع على الظواهر فيقع الخطأ في حكمه ، ولا يخفى ما في هذه الآيات من الموعظة الحسنة وتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعد المؤمنين والوعيد للكافرين والحمد لله تعالى رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين الذي يؤنس ذكره قلوب الموحدين وعلى آله وصحبه أجمعين.

١٨٨

سورة هود

كما أخرج ذلك ابن النحاس في تاريخه ، وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما ولم يستثنيا منها شيئا وإلى ذلك ذهب الجمهور ، واستثنى بعضهم منها ثلاث آيات (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ) [هود : ١٢]. (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) [هود : ١٧]. (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) [هود : ١١٤] وروي استثناء الثالثة عن قتادة ، قال الجلال السيوطي : ودليله ما صح من عدة طرق أنها نزلت بالمدينة في حق أبي اليسر ، وهي كما قال الداني في كتاب العدد مائة وإحدى وعشرون آية في المدني الأخير واثنتان في المدني الأول وثلاث في الكوفي ، ووجه اتصالها بسورة يونس عليه‌السلام أنه ذكر في سورة يونس قصة نوح عليه‌السلام مختصرة جدا محملة فشرحت في هذه السورة وبسطت فيها ما لم تبسط في غيرها من السور ولا سورة الأعراف على طولها ولا سورة (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) [نوح : ١] التي أفردت لقصته فكانت هذه السورة شرحا لما أجمل في تلك السورة وبسطا له ثم إن مطلعها شديد الارتباط بمطلع تلك فإن قوله تعالى هنا : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) [هود : ١] نظير قوله سبحانه هناك : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) [يونس : ١] بل بين مطلع هذه وختام تلك شدة ارتباط أيضا حيث ختمت بنفي الشرك واتباع الوحي وافتتحت هذه ببيان الوحي والتحذير من الشرك ، وورد في فضلها ما ورد ، فقد أخرج الدارمي وأبو داود في مراسيله والبيهقي في شعب الإيمان. وغيرهم عن كعب قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اقرءوا هودا يوم الجمعة». وأخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : «قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله قد شبت قال : شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت». وأخرج ابن عساكر من طريق يزيد الرقاشي عن أنس عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال : «يا رسول الله أسرع إليك الشيب قال : أجل شيبتني سورة هود وأخواتها الواقعة والقارعة والحاقة وإذا الشمس كورت وسأل سائل».

وقد جاء في بعض الروايات أيضا أن عمر رضي الله تعالى عنه قال له عليه الصلاة والسلام : أسرع إليك الشيب يا رسول الله فأجابه بنحو ما ذكر إلا أنه ذكر من الأخوات الواقعة ، وعم ، وإذا الشمس كورت ، وفي رواية أخرى عن سعد بن أبي وقاص قال : قلت يا رسول الله لقد شبت فقال : شيبتني هود والواقعة إلى آخر ما في خبر عمر ، وفي بعضها الاقتصار على «شيبتني هود وأخواتها» ، وفي بعض آخر بزيادة «وما فعل بالأمم من قبلي» وقد أخرج ذلك ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله تعالى عنهما مرفوعا.

وأخرج ابن مردويه وغيره عن عمران بن حصين «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له أصحابه : أسرع إليك الشيب فقال :

١٨٩

شيبتني هود وأخواتها من المفصل والواقعة» وكل ذلك يدل على خطرها وعظم ما اشتملت عليه وأشارت إليه وهو الذي صار سببا لإسراع الشيب إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفسره بعضهم بذكر يوم القيامة وقصص الأمم ويشهد له بعض الآثار. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي علي الشتري قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام : فقلت يا رسول الله روي عنك أنك قلت : «شيبتني هود» قال : نعم. فقلت : ما الذي شيبك منها قصص الأنبياء عليهم‌السلام وهلاك الأمم؟ قال : لا ولكن قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) [هود : ١١٢] وهذا هو الذي اعتمد عليه بعض السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وبينه بما بينه ، والحق أن الذي شيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما تضمنته هذه السورة أعم من هذا الأمر وغيره ما عظم أمره على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمقتضى علمه الجليل ومقامه الرفيع ، وهذا هو المنقدح لذهن السامع ولذلك لم يسأله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه عما شيبه منها ومن أخواتها بل اكتفوا بما يتبادر من أمثال ذلك الكلام.

ودعوى أن المتبادر لهم رضي الله تعالى عنهم ما خفي على أبي علي فلذلك لم يسألوا على تقدير تسليمها يبقى أنهم لم يسألوا عما شيبه عليه الصلاة والسلام من الأخوات مع أنه ليس فيها إلا ذكر يوم القيامة وهلاك الأمم دون ذلك الأمر؟ وكونهم علموا أن المشيب فيها ذلك وفي أخواتها شيء آخر هو ذكر يوم القيامة وهلاك الأمم يأباه ما في خبر أبي علي من نفيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكون ما ذكر مشيبا مفهوما من سورة دون أخرى لا يخفى حاله ، وبالجملة لا ينبغي التعويل على هذه الرواية وإن سلم أنها صحت عن أبي علي ، واتهام الرائي بعدم الحفظ أو بعدم تحقيق المرئي أهون من القول بصحة الرؤية والتكلف لتوجيه ما فيها ، وسيأتي في آخر السورة إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام فليفهم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٥)

(الر) اسم للسورة على ما ذهب إليه الخليل وسيبويه وغيرهما أو للقرآن على ما روي عن الكلبي والسدي ، وقيل : إنها إشارة إلى اسم من أسمائه تعالى أو صفة من صفاته سبحانه ، وقيل : هي إقسام منه تعالى بما هو من أصول اللغات ومبادئ كتبه المنزلة ومباني أسمائه الكريمة ، وقيل وقيل ، وقد تقدم الكلام فيما ينفعك هنا على أتم تفصيل ، واختار غير واحد من المتأخرين كونها اسما للسورة وأنها خبر مبتدأ محذوف أي هذه السورة مسماة ـ بالر ـ وقيل : محلها الرفع على الابتداء أو النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو اذكر أو اقرأ ، وقوله سبحانه : (كِتابٌ) خبر لها على تقدير ابتدائيتها أو لمبتدإ محذوف على غيره من الوجوه ، والتنوين فيه للتعظيم أي كتاب عظيم الشأن جليل القدر (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) أي نظمت نظما محكما لا يطرأ عليه اختلال فلا يكون فيه تناقض أو مخالفة للواقع والحكمة أو شيء مما يخل بفصاحته وبلاغته فالإحكام مستعار من إحكام البناء بمعنى إتقانه أو منعت من النسخ لبعضها أو لكلها

١٩٠

بكتاب آخر كما وقع للكتب السالفة فالإحكام من أحكمه إذا منعه ؛ ويقال : أحكمت السفيه إذا منعته من السفاهة ، ومنه قول جرير :

أبي حنيفة أحكموا سفهاءكم

إني أخاف عليكم إن أغضبا

وقيل : المراد منعت من الفساد أخذا من أحكمت الدابة إذا جعلت في فمها الحكمة وهي حديدة تجعل في فم الدابة تمنعها من الجماح ، فكأن ما فيها من بيان المبدأ والمعاد بمنزلة دابة منعها الدلائل من الجماح ، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو مكنية. وتعقب بأن تشبيهها بالدابة مستهجن لا داعي إليه ، ولعل الذوق يفرق بين ذلك وبين تشبيهها بالجمل الأنوف الوارد في بعض الآثار لانقيادها مع المتأولين لكثرة وجوه احتمالاتها الموافقة لأغراضهم.

واعترض بعضهم على إرادة المنع من الفساد بأن فيه إيهام ما لا يكاد يليق بشأن الآيات الكريمة من التداعي إلى الفساد لو لا المانع ، فالأول إذ يراد معنى المنع أن يراد المنع من النسخ ويراد من الكتاب القرآن وعدم نسخه كلّا أو بعضا على حسب ما أشرنا إليه ؛ وكون ذلك خلاف الظاهر في حيز المنع.

وادعى بعضهم أن المراد بالآيات آيات هذه السورة وكلها محكمة غير منسوخة بشيء أصلا ، وروي ذلك عن ابن زيد وخولف فيه. وادعى أن فيها من المنسوخ أربع آيات قوله سبحانه : (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [هود : ١٢]. (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ) [هود : ١٢١] والتي تليها ونسخت جميعا بآية السيف و (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) [هود : ١٥] الآية ونسخت بقوله سبحانه : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) [الإسراء : ١٨] ولا يخلو عن نظر ، ويجوز أن يكون المعنى منعت من الشبه بالحجج الباهرة وأيدت بالأدلة الظاهرة أو جعلت حكيمة أي ذات حكمة لاشتمالها على أصول العقائد والأعمال الصالحة والنصائح والحكم ، والفعل على هذا منقول من حكم بالضم إذا صار حكيما ، ومنه قول نمر بن تولب :

وأبغض بغيضك بغضا رويدا

إذا أنت حاولت أن تحكما

فقد قال الأصمعي : إن المعنى إذا حاولت أن تكون حكيما ، وفي إسناد الإحكام على الوجوه المذكورة إلى الآيات دون الكتاب نفسه لا سيما إذا أريد ما يشمل كل آية آية من حسن الموقع والدلالة على كونه في أقصى غاياته ما لا يخفى (ثُمَّ فُصِّلَتْ) أي جعلت مفصلة كالعقد المفصل بالفرائد التي تجعل بين اللآلئ ، ووجه جعلها كذلك اشتمالها على دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص أو فصل فيها مهمات العباد في المعاش والمعاد على الإسناد المجازي أو جعلت فصلا فصلا من السور ويراد بالكتاب القرآن ، وقيل : يصح أن يراد به هذه السورة أيضا على أن المعنى جعلت معاني آياتها في سور ولا يخفى أنه تكلف لا حاجة إليه. أو فرقت في التنزيل فلم تنزل جملة بل نزلت نجما نجما على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ، و (ثُمَ) على هذا ظاهرة في التراخي الزماني لما أن المتبادر من التنزيل المنجم فيه التنزيل المنجم بالفعل ، وإن أريد جعلها في نفسها بحيث يكون نزولها منجما حسب الحكمة فهو رتبي لأن ذلك وصف لازم لها حقيق بأن يرتب على وصف أحكامها ، وهي على الأوجه الأول للتراخي الرتبي لا غير ، وقيل : للتراخي بين الإخبارين. واعترض بأنه لا تراخي هناك إلا أن يراد بالتراخي الترتيب مجازا أو يقال بوجوده باعتبار ابتداء الخبر الأول وانتهاء الثاني.

وأنت تعلم أن القول بالتراخي في الرتبة أولى خلا أن تراخي رتبة التفضيل بأحد المعنيين الأولين عن رتبة الاحكام أمر ظاهر وبالمعنى الثالث فيه نوع خفاء ، ولا يخفى عليك أن الاحتمالات في الآية الحاصلة من ضرب معاني

١٩١

الاحكام الأربعة في معاني التفصيل كذلك وضرب المجموع في احتمالات المراد ـ بثم ـ تبلغ اثنين ثلاثين أو ثمانية وأربعين احتمالا ولا حجر. والزمخشري ذكر للاحكام ما في الكشف ثلاثة أوجه أخذه من أحكام البناء نظرا إلى التركب البالغ حد الإعجاز. أو من الاحكام جعلها حكيمة ، أو جعلها ذات حكمة فيفيد معنى المنع من الفساد ، وللتفصيل أربعة جعلها كالقلائد المفصلة بالفرائد لما فيها من دلائل التوحيد وأخواتها. وجعلها فصولا سورة سورة وآية آية وتفريقها في التنزيل وتفصيل ما يحتاج إليه العباد وبيانه فيها روي هذا عن مجاهد ، وقال : إن معنى (ثُمَ) ليس التراخي في الوقت ولكن في الحال كما تقول هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل ، وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل.

والظاهر أنه أراد أنها في جميع الاحتمالات كذلك ، وفيه أيضا أنه إذا أريد بالاحكام أحد الأولين وبالتفصيل أحد الطرفين فالتراخي رتبي لأن الاحكام بالمعنى الأول راجع إلى اللفظ والتفصيل إلى المعنى ، وبالمعنى الثاني وإن كان معنويا لكن التفصيل إكمال لما فيه من الإجمال ، وأن أريد أحد الأوسطين فالتراخي على الحقيقة لأن الاحكام بالنظر إلى كل آية في نفسها وجعلها فصولا بالنظر إلى بعضها مع بعض أو لأن كل آية مشتملة على جمل من الألفاظ المرصفة وهذا تراخ وجودي ، ولما كان الكلام من السائلات كان زمانيا أيضا ، ولكن الزمخشري آثر التراخي في الحال مطلقا حملا على التراخي في الأخبار في هذين الوجهين ليطابق اللفظ الوضع وليظهر وجه العدول من الفاء إلى ثم ، وإن أريد الثالث وبالتفصيل أحد الطرفين فرتبي وإلا فإخباري ، والأحسن أن يراد بالاحكام الأول وبالتفصيل أحد الطرفين وعليه ينطبق المطابقة بين (حَكِيمٍ) و (خَبِيرٍ) و (أُحْكِمَتْ) و (فُصِّلَتْ) ثم قال : ومنه ظهر أن التراخي في الحال يشمل التراخي الرتبي والأخباري انتهى فليتأمل ، وقرئ «أحكمت» بالبناء للفاعل المتكلم و «فصلت» بفتحتين مع التخفيف وروي هذا عن ابن كثير ، والمعنى ثم فرقت بين الحق والباطل ، وقيل : «فصلت» هنا مثلها في قوله تعالى : (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) [يوسف : ٩٤] أي انفصلت وصدرت (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) صفة لكتاب وصف بها بعد ما وصف بأحكام آياته وتفصيلها الدالين على علو مرتبته من حيث الذات إبانة لجلالة شأنه من حيث الإضافة أو خبر ثان للمبتدإ الملفوظ أو المقدر أو هو معمول لأحد الفعلين على التنازع مع تعلقه بهما معنى أي من عنده أحكامها وتفصيلها واختار هذا في الكشف. وفي الكشاف أن فيه طباقا حسنا لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور ففي الآية اللف والنشر ، وأصل الكلام على ما قال الطيبي : أحكم آياته الحكيم وفصلها الخبير ثم عدل عنه إلى أحكمت حكيم وفصلت خبير على حد قوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ) [النور : ٣٦ ، ٣٧] على قراءة البناء للمفعول ، وقوله :

ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط مما تطيح الطوائح

ثم إلى ما في النظم الجليل لما في الكناية من الحسن مع إفادة التعظيم البالغ الذي لا يصل إلى كنهه وصف الواصف لا سيما وقد جيء بالاسمين الجليلين منكرين بالتنكير التفخيمي ، و (لَدُنْ) من الظروف المبنية وهي لأول غاية زمان أو مكان ، والمراد هنا الأخير مجازا ، وبنيت لشبهها بالحرف في لزومها استعمالا واحدا وهي كونها مبدأ غاية وامتناع الإخبار بها وعنها ولا يبنى عليها المبتدأ بخلاف عند و ـ لدي ـ فإنهما لا يلزمان استعمالا واحدا بل يكونان لابتداء الغاية وغيرها ويبنى عليهما المبتدأ كما في قوله سبحانه : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) [الأنعام : ٥٩] و (لَدَيْنا مَزِيدٌ) [ق : ٣٥] قيل : ولقوة شبهها بالحرف وخروجها عن نظائرها لا تعرب إذا أضيفت ، نعم جاء عن قيس إعرابها تشبيها بعند وعلى ذلك خرجت قراءة عاصم (بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) [الكهف : ٢] بالجر وإشمام الدال

١٩٢

الساكنة الضم واقترانها بمن كما في الآية ، وكذا إضافتها إلى مفرد كيفما كان هو الغالب وقد تتجرد عن ـ من ـ وقد تضاف إلى جملة اسمية كقوله :

وتذكر نعماه لدن أنت يافع

وفعلية كقوله :

صريع غوان راقهن ورقنه

لدن شب حتى شاب سود الذوائب

ومنع ابن الدهان من إضافتها إلى الجملة وأول ما ورد من ذلك على تقدير أن المصدرية بدليل ظهورها معها في قوله :

وليت فلم تقطع لدن أن وليتنا

قرابة ذي قربى ولا حق مسلم

ولا يخفى ما في التزام ذلك من التكلف لا سيما في مثل ـ لدن أنت يافع ـ وتتمحض للزمان إذا أضيفت إلى الجملة ، وجاء نصب غدوة بعدها في قوله :

لدن غدوة حتى دنت لغروب

وخرج على التمييز ، وحكى الكوفيون رفعها بعدها وخرج على إضمار كان ، وفيها ثمان لغات ، فمنهم من يقول (لَدُنْ) بفتح اللام وضم الدال وسكون النون وهي اللغة المشهورة ، وتخفف بحذف الضمة كما في عضد وحينئذ يلتقي ساكنان. فمنهم من يحذف النون لذلك فيبقى ـ لد ـ بفتح اللام وسكون الدال. ومنهم من لا يحذف ويحرك الدال فتحا فيقول : لدن بفتح اللام والدال وسكون النون ، ومنهم من لا يحذف ويحرك الدال كسرا فيقول لدن بفتح اللام وكسر الدال وسكون النون ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول لدن بفتح اللام وسكون الدال وكسر النون ، وقد يخفف بنقل ضمة الدال إلى اللام كما يقال في عضد عضد بضم العين وسكون الضاد على قلة ، وحينئذ يلتقي ساكنان أيضا. فمنهم من يحذف النون لذلك فيقول ـ لد ـ بضم اللام وسكون الدال ، ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول لدن بضم اللام وكسر النون فهذه سبع لغات. وجاء ـ لد ـ بحذف نون لدن التي هي أم الجميع وبذلك تتم الثمانية ، ويدل على أن أصل ـ لد ـ لدن إنك إذا أضفته لمضمر جئت بالنون فتقول : من لدنك ولا يجوز من ـ لدك ـ كما نبه عليه سيبويه ، وذكر لها في همع الهوامع عشر لغات ما عدا اللغة القيسية فليراجع.

(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) في موضع العلة للفعلين السابقين على جعل «أن» مصدرية وتقدير اللام معها كأنه قيل : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله أي لتتركوا عبادة غيره عزوجل وتتمحضوا لعبادته سبحانه ، فإن الأحكام والتفصيل مما يدعوهم إلى الإيمان والتوحيد وما يتفرع عليه من الطاعات قاطبة. وجوز أن تكون مفسرة لما في التفصيل من معنى القول دون حروفه كأنه قيل : فصل وقال : لا تعبدوا إلا الله أو أمر أن لا تعبدوا إلا الله ، وقيل : إن هذا كلام منقطع عما قبله غير متصل به اتصالا لفظيا بل هو ابتداء كلام قصد به الإغراء على التوحيد على لسانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم و «أن» وما بعدها في حيز المفعول به لمقدر كأنه قيل : الزموا ترك عبادة غيره تعالى ، واحتمال أن يكون ما قبل أيضا مفعولا به بتقدير قل أول الكلام خلاف الظاهر ، ومثله احتمال كون «أن» والفعل في موقع المطلق ، وقد صرح بعض المحققين أن ذلك مما لا يحسن أو لا يجوز فلا ينبغي أن يلتفت إليه (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) ضمير الغائب المجرور لله تعالى و «من» لابتداء الغاية ، والجار والمجرور في الأصل صفة النكرة فلما قدم عليها صار حالا كما هو المعروف في أمثاله أي إني لكم من جهته تعالى نذير أنذركم عذابه إن لم

١٩٣

تتركوا ما أنتم عليه من عبادة غيره سبحانه وبشير أبشركم ثوابه إن آمنتم وتمحضتم في عبادته عزوجل ، وجوز كون «من» صلة النذير والضمير إما له تعالى أيضا ، والمعنى حينئذ على ما قال أبو البقاء نذير من أجل عذابه وأما للكتاب على معنى إني لكم نذير من مخالفته وبشير لمن آمن به ، وقوله تعالى : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) عطف على (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) سواء كان نهيا أو نفيا وفي (أَنِ) الاحتمالان السابقان وقد علمت أن الحق أن (أَنِ) المصدرية توصل بالأمر والنهي كما توصل بغيرهما ، وفي توسيط جملة (إِنَّنِي لَكُمْ) إلخ بين المتعاطفين ما لا يخفى من الإشارة إلى علو شأن التوحيد ورفعه قدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد روعي في تقديم الإنذار على التبشير ما روعي في الخطاب من تقديم النفي على الإثبات والتخلية على التحلية للتجاوب الأطراف ، والتعرض لوصف الربوبية تلقين للمخاطبين وإرشاد لهم إلى طريق الابتهال في السؤال وترشيح لما يذكر من التمتيع وإيتاء الفضل ، وقوله سبحانه : (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) عطف على (اسْتَغْفِرُوا) واختلف في توجيه توسيط (ثُمَ) بينهما مع أن الاستغفار بمعنى التوبة في العرف فقال الجبائي : إن المراد بالاستغفار هنا التوبة عما وقع من الذنوب وبالتوبة الاستغفار عما يقع منها بعد وقوعه أي استغفروا ربكم من ذنوبكم التي فعلتموها ثم توبوا إليه من ذنوب تفعلونها ، فكلمة (ثُمَ) على ظاهرها من التراخي في الزمان ، وقال الفراء : إن (ثُمَ) بمعنى الواو كما في قوله:

بهز (١) كهز الرديني

جرى في الأنابيب ثم اضطرب

والعطف تفسيري ، وقيل : لا نسلم أن الاستغفار هو التوبة بل هو ترك المعصية والتوبة هي الرجوع إلى الطاعة ولئن سلم أنهما بمعنى ـ فثم ـ للتراخي في الرتبة ، والمراد بالتوبة الإخلاص فيها والاستمرار عليها وإلى هذا ذهب صاحب الفرائد. وقال بعض المحققين : الاستغفار هو التوبة إلا أن المراد بالتوبة في جانب المعطوف التوصل إلى المطلوب مجازا من إطلاق السبب على المسبب ، و (ثُمَ) على ظاهرها وهي قرينة على ذلك.

وأنت تعلم أن أصل معنى الاستغفار طلب الغفر أي الستر ومعنى التوبة الرجوع ، ويطلق الأول على طلب ستر الذنب من الله تعالى والعفو عنه والثاني على الندم عليه مع العزم على عدم العود فلا اتحاد بينهما بل ولا تلازم عقلا ، لكن اشترط شرعا لصحة ذلك الطلب وقبوله الندم على الذنب مع العزم على عدم العود إليه ، وجاء أيضا استعمال الأول في الثاني ، والاحتياج إلى توجيه العطف على هذا ظاهر ، وأما على ذاك فلأن الظاهر أن المراد من الاستغفار المأمور به الاستغفار المسبوق بالتوبة بمعنى الندم فكأنه قيل : استغفروا ربكم بعد التوبة ثم توبوا إليه ولا شبهة في ظهور احتياجه إلى التوجيه حينئذ ، والقلب يميل فيه إلى حمل الأمر الثاني على الإخلاص في التوبة والاستمرار عليها ، والتراخي عليه يجوز أن يكون رتيبا وأن يكون زمانيا كما لا يخفى (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) مجزوم بالطلب ، ونصب (مَتاعاً) على أنه مفعول مطلق من غير لفظه كقوله تعالى : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] ويجوز أن يكون مفعولا به على أنه اسم لما ينتفع به من منافع الدنيا من الأموال والبنين وغير ذلك ، والمعنى كما قيل يعشكم في أمن وراحة ، ولعل هذا لا ينافي كون الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ولا كون أشد الناس بلاء الأمثل فالأمثل لأن المراد بالأمن أمنه من غير الله تعالى (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق : ٣] وبالراحة طيب عيشه برجاء الله تعالى والتقرب إليه حتى يعد المحنة منحة:

وتعذيبكم عذب لدي وجوركم

علي بما يقضي الهوى لكم عدل

__________________

(١) قوله بهز إلخ كذا في خطه رحمه‌الله والمعروف كهز الرديني تحت العجاج جرى إلخ.

١٩٤

وقال الزجاج : المراد يبقيكم ولا يستأصلكم بالعذاب كما استأصل أهل القرى الذين كفروا ، والخطاب لجميع الأمة بقطع النظر عن كل فرد فرد (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) مقدر عند الله تعالى وهو آخر أعماركم أو آخر أيام الدنيا كما يقتضيه كلام الزجاج ، ولا دلالة في الآية على أن للإنسان أجلين كما زعمه المعتزلة (وَيُؤْتِ) أي يعط (كُلَّ ذِي فَضْلٍ) أي زيادة في العمل الصالح (فَضْلَهُ) أي جزاء فضله في الدنيا أو في الآخرة لأن العمل لا يعطي ، وقد يقال : لا حاجة إلى تقدير المضاف ، والمراد المبالغة على حد (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) [الأنعام : ١٣٩] والضمير لكل ، ويجوز أن يعود إلى الرب ، والمراد بالفضل الأول ما أريد به أولا وبالثاني زيادة الثواب بقرينة أن الإعطاء ثواب وحينئذ يستغني عن التأويل.

واختار بعض المحققين التفسير الأول ثم قال : وهذه تكملة لما أجمل من التمتيع إلى أجل مسمى وتبيين لما عسى أن يعسر فهم حكمته من بعض ما يتفق في الدنيا من تفاوت الحال بين العالمين فرب إنسان له فضل طاعة وعمل لا يمتع في الدنيا أكثر مما متع آخر دونه في الفضل وربما يكون المفضول أكثر تمتيعا فقيل : ويعط كل فاضل جزاء فضله إما في الدنيا كما يتفق في بعض المواد وإما في الآخرة وذلك مما لا مرد له انتهى.

ويفهم من كلام بعضهم عدم اعتبار الانفصال على أنه سبحانه ينعم على ذي الفضل في الدنيا والآخرة ولا يختص إحسانه بإحدى الدارين ، ولا شك أن كل ذي عمل صالح منعم عليه في الآخرة بما يعلمه الله تعالى وكذا في الدنيا بتزيين العمل الصالح في قلبه والراحة حسب تعليق الرجاء بربه ونحو ذلك ولا إشكال في ذلك كما هو ظاهر للمتأمّل ، وقيل : في الآية لفّ ونشر فإن التمتيع مرتب على الاستغفار وإيتاء الفضل مرتب على التوبة انتهى.

وأيّا ما كان ففي الكلام ضرب تفصيل لما أجمل فيما سبق من البشارة ، ثم شرع في الإنذار بقوله سبحانه: (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي تستمروا على الإعراض عما ألقي إليكم من التوحيد والاستغفار والتوبة ، وأصله تتولوا فهو مضارع مبدوء بتاء الخطاب لأن ما بعده يقتضيه وحذفت منه إحدى التاءين كما فعل في أمثاله ، وقيل : إن (تَوَلَّوْا) ماض غائب فلا حذف ويقدر فيما بعد فقل لهم وهم خلاف الظاهر ، وأخر الإنذار عن البشارة جريا على سنن تقدم الرحمة على الغضب أو لأن العذاب قد علق بالتولي عما ذكر من التوحيد وما معه وذلك يستدعي سابقة ذكره.

وقرأ عيسى بن عمرو واليماني «تولوا» بضم التاء وفتح الواو وضم اللام وهو مضارع ـ ولى ـ من قولهم : ولى هاربا أي أدبر (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) بمقتضى الشفقة والرأفة أو أتوقع (عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) هو يوم القيامة وصف بذلك لكبر ما يكون فيه ولذا وصف بالثقل أيضا ، وجوز وصفه بالكبر لكونه كذلك في نفسه ، وقيل : المراد به زمان ابتلاهم الله تعالى فيه في الدنيا ، وقد روي أنهم ابتلوا بقحط عظيم أكلوا فيه الجيف ، وأيّا ما كان ففي إضافة العذاب إليه تهويل وتفظيع له (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) مصدر ميمي وكان قياسه فتح الجيم لأنه من باب ضرب وقياس مصدره الميمي ذلك كما علم من محله ، أي إليه تعالى رجوعكم بالموت ثم البعث للجزاء في مثل ذلك اليوم لا إلى غيره جميعا لا يتخلف منكم أحد (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيندرج في تلك الكلية قدرته سبحانه على إماتتكم ثم بعثكم وجزائكم فيعذبكم بأفانين العذاب ، وهذا تقرير وتأكيد لما سلف من ذكر اليوم وتعليل للخوف.

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) كأنه جواب سؤال مقدر ، وذلك أنه لما ألقي إليهم ما ألقي وسيق إليهم ما سيق من الترغيب والترهيب وقع في ذهن السامع أنهم بعد ما سمعوا مثل هذا المقال الذي تخر له صم الجبال

١٩٥

هل قابلوا بالإقبال أم تمادوا فيما كانوا عليه من الإعراض والضلال فقيل : مصدرا بكلمة التنبيه إشعارا بأن ما بعدها من هناتهم أمر ينبغي أن يفهم ويتعجب منه (أَلا إِنَّهُمْ) إلخ ، فضمير (إِنَّهُمْ) للمشركين المخاطبين فيما تقدم و «يثنون» بفتح الياء مضارع ثنى الشيء إذا لواه وعطفه ، ومنه على ما قيل الاثنان ، لعطف أحدهما على الآخر والثناء لعطف المناقب بعضها على بعض وكذا الاستثناء للعطف على المستثنى منه بالإخراج ، وأصله يثنيون فأعل بالإعلال المعروف في نحو يرمون ، وفي المراد منه احتمالات : منها أن الثني كناية أو مجاز عن الإعراض عن الحق لأن من أقبل على شيء واجهه بصدره ومن أعرض صرفه عنه ، أي إنهم يثنون صدورهم عن الحق ويتحرفون عنه ، والمراد استمرارهم على ما كانوا عليه من التولي والإعراض المشار إليه بقوله سبحانه : (وَإِنْ تَوَلَّوْا) إلخ. ومنها أنه مجاز عن الإخفاء لأن ما يجعل داخل الصدر فهو خفي أي إنهم يضمرون الكفر والتولي عن الحق وعداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومنها أنه باق على حقيقته ، والمعنى أنهم إذا رأوا النبي عليه الصلاة والسلام فعلوا ذلك وولوا ظهورهم ، والظاهر أن اللام متعلقة ـ بيثنون ـ على سائر الاحتمالات ، وكأن بعضهم رأى عدم صحة التعلق على الاحتمال الأول لما أن التولي عن الحق لا يصلح تعليله بالاستخفاء لعدم السببية فقدر لذلك متعلقا فعل الإرادة على أنه حال أو معطوف على ما قبله ، أي ويريدون ليستخفوا من الله تعالى فلا يطلع رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين على أغراضهم ، وجعله في قود المعنى إليه من قبيل الإضمار في قوله تعالى : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣] أي فضرب فانفلق ، لكن لا يخفى أن انسياق الذهن إلى توسيط الإرادة بين ثني الصدور والاستخفاء ليس بمثابة انسياقه إلى توسيط الضرب بين الأمر والانفلاق كما ذكره العلامة القسطلاني وغيره ، وقيل : إنه لا حاجة إلى التقدير في الاحتمالين الأولين لأن انحرافهم عن الحق بقلوبهم وعطف صدورهم على الكفر والتولي وعداوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعدم إظهارهم ذلك يجوز أن يكون للاستخفاء من الله تعالى لجهلهم بما لا يجوز على الله تعالى ، وأما على الاحتمال الثالث فالظاهر أنه لا بد من التقدير إلا أن يعاد الضمير منه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الذي يقتضيه سبب النزول على ما ذكره أبو حيان من أن الآية نزلت في بعض الكفار الذين كانوا إذا لقيهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمستتر وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعدا منه وكراهة للقائه عليه الصلاة والسلام وهم يظنون أنه يخفى عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكن ظاهر قوله تعالى الآتي : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) يقتضي عود الضمير إليه تعالى. واختار بعض المحققين الاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاث ، وأمر التعليل والضمير عليه ظاهر ، وأيده بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو المنطق حسن السياق للحديث يظهر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المحبة ويضمر في قلبه ما يضادها لكنه ليس بمجمع عليه لما سمعت عن أبي حيان.

وقيل : إنه كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخي ستره ويحني ظهره ويتغشى بثوبه ويقول : هل يعلم الله ما في قلبي فنزلت ، وأخرج ابن جرير : وغيره عن عبد الله بن شداد أنها نزلت في المنافقين كان أحدهم إذا مر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثنى صدره وتغشى لئلا يراه ، وهو في معنى ما تقدم عن أبي حيان إلا أن فيه بعض الكفار دون المنافقين ، فلا يرد عليه ما أورد على هذا من أن الآية مكية والنفاق إنما حدث بالمدينة فكيف يتسنى القول بأنها نزلت في المنافقين؟ وقد أجيب عن ذلك بأنه ليس المراد بالنفاق ظاهره بل ما كان يصدر من بعض المشركين الذين كان لهم مداراة تشبه النفاق ، وقد يقال : إن حديث حدوث النفاق بالمدينة ليس إلا غير مسلم بل ظهوره إنما كان فيها والامتياز إلى ثلاث طوائف ، ثم لو سلم فلا إشكال بل يكون على أسلوب قوله سبحانه : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) [الحجر : ٩٠] إذا فسر باليهود ويراد به ما جرى على بني قريظة فإنه إخبار عما سيقع ، وجعله كالواقع لتحققه وهو من الإعجاز لأنه وقع كذلك فكذا

١٩٦

ما نحن فيه. نعم الثابت في صحيح البخاري. وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق محمد بن عباد ابن جعفر أنه سمع ابن عباس يقرأ الآية فسأله عنها فقال : أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وإن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم ، وليس في الروايات السابقة ما يكافئ هذه الرواية في الصحة ، وأمر (يَثْنُونَ) عليها ظاهر خلا أنه إذا كان المراد بالأناس جماعة من المسلمين كما صرح به الجلال السيوطي أشكل الأمر ، وذلك لأن الظاهر من حال المسلم إذا استحى من ربه سبحانه فلم يكشف عورته مثلا في خلوة كان مقصوده مجرد إظهار الأدب مع الله تعالى مع علمه بأنه جل شأنه لا يحجب بصره حاجب ولا يمنع علمه شيء ومثل هذا الحياء أمر لا يكاد يذمه أحد بل في الآثار ما هو صريح في الأمر به وهو شعار كثير من كبار الأمة ، والقول بأن استحياء أولئك المسلمين كان مقرونا بالجهل بصفاته عزوجل فظنوا أن الثني يحجب عن الله سبحانه فرد عليهم بما رد لا أظنك تقبله ، وبالجملة الأمر على هذه الرواية لا يخلو عن إشكال ولا يكاد يندفع بسلامة الأمر ، والذي يقتضيه السياق ويستدعيه ربط الآيات كون الآية في المشركين حسبما تقدم فتدبر والله تعالى أعلم.

وقرأ الحبر رضي الله تعالى عنه ومجاهد ، وغيرهما «تثنوني» بالتاء لتأنيث الجمع وبالياء التحتية لأن التأنيث غير حقيقي ، وهو مضارع اثنونى كاحلولى فوزنه تفعوعل بتكرير العين وهو من أبنية المزيد الموضوعة للمبالغة لأنه يقال حلي فإذا أريد المبالغة قيل احلولى وهو لازم ـ فصدورهم ـ فاعلة ، ويراد منه ما أريد من المعاني في قراءة الجمهور إلا أن المبالغة ملحوظة في ذلك فيقال : المعنى مثلا تنحرف صدورهم انحرافا بليغا. وعن الحبر أيضا وعروة وغيرهما أنهم قرءوا «تثنون» بفتح التاء المثناة من فوق وسكون التاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة ، والأصل تثنونن بوزن تفعوعل من الثن بكسر الثاء وتشديد النون وهو ما هش وضعف من الكلأ أنشد أبو زيد :

يا أيها المفضل المعني

إنك ريان فصمت عني

تكفي اللقوح أكلة من ثن

ولزم الإدغام لتكرير العين إذا كان غير ملحق و (صُدُورَهُمْ) على هذه مرفوع أيضا على الفاعلية ، والمعنى على وصف قلوبهم بالسخافة والضعف كذلك النبت الضعيف ، فالصدور مجاز عما فيها من القلوب ، وجوز أن يكون مطاوع ثناه فإنه يقال : ثناه فانثنى واثنونى كما صرح به ابن مالك في التسهيل فقال : وافعوعل للمبالغة وقد يوافق استفعل ويطاوع فعل ومثلوه بهذا الفعل ، فالمعنى أن صدورهم قبلت الثني ويؤول إلى معنى انحرفت كما فسر به قراءة الجمهور. وعن مجاهد وكذا عروة الأعشى أنه قرأ «تثنئن» كتطمئن وأصله يثنان فقلبت الألف همزة مكسورة رغبة في عدم التقاء الساكنين وإن كان على حدة ، ويقال في ماضيه اثنان كاحمأر وابيأض ، وقيل : أصله تثنون بواو مكسورة فاستثقلت الكسرة على الواو فقلبت همزة كما قيل في وشاح أشاح وفي وسادة إسادة فوزنه على هذا تفوعل وعلى الأول تفعال ، ورجح باطراده وهو من الثن الكلأ الضعيف أيضا ، وقرئ «تثنوي» كترعوي ونسب ذلك إلى ابن عباس أيضا ، وغلط النقل بأنه لاحظ الواو في هذا الفعل إذ لا يقال : ثنوته فانثوى كرعوته فارعوى ووزن ارعوى من غريب الأوزان ، وفي الصحاح تقديره افعول ووزنه افعلل ، وإنما لم يدغم لسكون الياء وتمام الكلام فيه يطلب من محله ، وقرئ بغير ذلك ، وأوصل بعضهم القراءات إلى ثلاث عشرة وفصلها في الدر المصون ، ومن غريبها أنه قرئ «يثنون» بالضم. واستشكل ذلك ابن جني بأنه لا يقال : أثنيته بمعنى ثنيته ولم يسمع في غير هذه القراءة ، وقال أبو البقاء : لا يعرف ذلك في اللغة إلا أن يقال : معناه عرضوها للانثناء كما تقول : أبعت الفرس إذا عرضته للبيع (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) أي يجعلونها أغشية ، ومنه قول الخنساء :

١٩٧

أرعى النجوم وما كلفت رعيتها

وتارة أتغشى فضل أطماري

وحاصله حين يأوون إلى فراشهم ويلتحفون بما يلتحف به النائم ، وهو وقت كثيرا ما يقع فيه حديث النفس عادة ، وعن ابن شداد حين يتغطون بثيابهم للاستخفاء ، وأيّا ما كان فالمراد من الثياب معناه الحقيقي وقيل: المراد به الليل وهو يستر كما تستر الثياب ، ومن ذلك قولهم : الليل أخفى للويل ، والظرف متعلق بقوله سبحانه : (يَعْلَمُ) أي ألا يعلم (ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) حين يستغشون ثيابهم ؛ ولا يلزم منه تقييد علم الله تعالى بذلك الوقت لأن من يعلم فيه يعلم فيه غيره بالطريق الأولى ، وجوز تعلقه بمحذوف وقدره السمين وأبو البقاء يستخفون وبعضهم يريدون ، و «ما» في الموضعين إما مصدرية أو موصولة عائدها محذوف أي الذي يسرونه في قلوبهم والذي يعلنونه أي شيء كان ويدخل ما يقتضيه السياق دخولا أوليا ، وخصه بعضهم به ، وقدم هنا السر على العلن نعيا عليهم من أول الأمر ما صنعوا وإيذانا بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه وتحقيقا للمساواة بين العلمين على أبلغ وجه فكأن علمه سبحانه بما يسرونه أقدم منه بما يعلنونه ، وحاصل المعنى يستوي بالنسبة إلى علمه المحيط سرهم وعلنهم فكيف يخفى عليه سبحانه ما عسى أن يظهروه.

وقرأ ابن عباس «على حين يستغشون» قال ابن عطية : ومن هذا الاستعمال قول النابغة :

على حين عاتبت المشيب على الصبا

(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تعليل لما سبق وتقرير له ، والمراد ـ بذات الصدور ـ الأسرار المستكنة فيها أو القلوب التي في الصدور ، وأيّا ما كان فليست الذات مقحمة كما في ذات غدوة ولا من إضافة المسمى إلى اسمه كما توهم ، أي إنه تعالى مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم أو بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها فكيف يخفى عليه ما يسرون وما يعلنون ، وكان التعبير بالجملة الاسمية للإشارة إلى أنه سبحانه لم يزل عالما بذلك ، وفيه دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وجودها الخارجي ، وهذا مما لا ينكره أحد سوى شرذمة من المعتزلة قالوا : إنه تعالى إنما يعلم الأشياء بعد حدوثها تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، ولا يلزم هذا بعض المتكلمين المنكرين للوجود الذهني لأنهم إذا لم يقولوا به مع إنكار الوجود الذهني يلزمهم القول بتعلق العلم بالمعدوم الصرف ، وامتناعه من أجل البديهيات ، والإنكار مكابرة أو جهل بمعنى التعلق بالمعدوم الصرف ، وقد أورد ذلك عليهم المحقق الدواني ، وهو ناشئ على ما قيل عن الذهول عن معنى إنكار الوجود الذهني وبعد تحقيق المراد منه يندفع ذلك وبيانه أنه ليس معنى إنكارهم ذلك أنه لا يحصل صورة عند العقل إذا تصورنا شيئا أو صدقنا به لأن حصولها عنده في الواقع بديهي لا ينكره إلا مكابر ، وكيف ينكره الجمهور والعلم الحادث مخلوق عندهم والخلق إنما يتعلق بأعيان الموجودات بل هو بمعنى أن ذلك الحصول ليس نحوا آخر من وجود الماهية المعلومة بأن يكون الماهية واحدة كالشمس مثلا وجودان ، أحدهما خارجي والآخر ذهني كما يقول به مثبتوه ، فهم لا ينكرون الوجود عن صور الأشياء وأشباحها وهي موجودات خارجية وكيفيات نفسانية وهي المخلوقة عندهم ، وإنما ينكرون الوجود الذهني عن أنفس تلك الأشياء وذلك بشهادة أدلتهم حيث قالوا : لو حصلت النار في الأذهان لاحترقت الأذهان بتصورها واللازم باطل فإنه كما ترى إنما ينفي الوجود عن نفس النار لا عن شبحها ومثالها ، فالحق أن الجمهور إنما أنكر وإما ذهب إليه محققو الحكماء من أن الحاصل في الأذهان أنفس ماهيات الأشياء ولم ينكروا ما ذهب إليه أهل الأشباح ، وحينئذ يقال : علم الواجب عندهم إما تعلقه بأشباح الأشياء أو صفة ذات ذلك التعلق فلا يلزمهم القول بما قاله الشرذمة ، ولا يتجه عليهم أن التعلق بتلك الأشباح الموجودة في الأزل لكونه نسبة بينها وبينه تعالى متأخر عنها فيلزم إيجاد تلك الأشباح بلا علم

١٩٨

وهو محال ، لأنا نقول لما كان الواجب (١) تعالى موجبا فيعلمه وسائر صفاته الذاتية كان وجود تلك الصور الإدراكية التي هي تلك الأشباح مقتضى ذاته تعالى فلا بأس في كونها سابقة على العلم بالذات وإنما المسبوق بالعلم هو أفعاله الاختيارية ، ثم ينبغي أن يعلم أنه ليس معنى قولهم : إن علم الواجب تبارك وتعالى بالأشياء أزلي وتعلقه بها حادث أنه ليس هناك إلا تعلق حادث لأنه يلزم حدوث نفس العلم فيعود ما ارتكبه الشرذمة للقطع بأنه لا يصير المعلوم معلوما قبل تعلق العلم به وهو من الفساد بمكان ، بل معناه أن التعلق الذي لا تقتضيه حقيقة العلم حادث وهناك تعلق تقتضيه تلك الحقيقة وهو قديم ، وذلك لأن الأشباح والأمثال معلومة بالذات وبواسطتها تعلم الأشياء ، فتعلق العلم عندهم أعم من تعلقه بذات الشيء المعلوم أو بمثاله وشبحه ، ولما لم يمكن وجود الحوادث في الأزل كان العلم الممكن بالنسبة إليها بالتعلق بأمثالها وأشباحها وبعد حدوثها يتجدد التعلق بأن يكون بذات تلك الحوادث. وبالجملة تعلق العلم بأمثال الحوادث وأشباحها أزلي وبأنفسها وذواتها حادث ولا إشكال فيه أصلا ، وبهذا التحقيق يندفع شبهات كثيرة كما قيل ، لكن أورد عليه أن برهان التطبيق جار في هاتيك الأشباح لما أنها متميزة الآحاد في نفس الأمر فيلزم أحد المحذورين. وفي المقام أبحاث طويلة الذيل وقد بسط الكلام في ذلك مولانا إسماعيل أفندي الكلنبوي في حواشيه على شرح العضدية ، وللمولى الشيخ إبراهيم الكوراني تحقيق على طرز آخر ذكره في كتابه مطلع الجود فارجع إليه. وبالجملة لا تخفى صعوبة هذه المسألة وهي مما زلت فيها أقدام أقوام ، ولعل الله سبحانه يرزقك تحقيقها بمنه سبحانه ، وقد قال به أفضل المتأخرين مولانا إسماعيل أفندي الكلنبوي (٢).

__________________

(١) قوله «لما كان الواجب» إلخ كذا بخطه وتأمله

(٢) تم الجزء الحادي عشر بحول الله وقوته ويليه الجزء الثاني عشر واوله وَما مِنْ دَابَّةٍ.

١٩٩
٢٠٠