روح المعاني - ج ٦

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٦

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٣

هذا واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها واستذلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان ، يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا ، ويروى أيضا أن ابن المقفع ـ وكان كما في القاموس فصيحا بليغا ، بل قيل : إنه أفصح أهل وقته ـ رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل ، وقال : أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر ، ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا ، وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه ، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا ؛ ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني ، فلا يضر تفاوتها في البلاغة وهو الذي قاله علماء هذا الشأن ، وأنشد بعض الفرس في ذلك :

در بيان ودر فصاحت كي بود يكسان سخن

ورچه كوينده بود جون حافظ وجون أصمعي

در كلام ايزد بي جون كه وحي منزلست

كي بود تبت يدا جون قيل : يا أرض ابلعي

وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون ، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل وتذكير لفاضل غافل ، فنقول : ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان ، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة ومن جهة الفصاحة المعنوية ومن جهة الفصاحة اللفظية ، أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض فهو أنه عزّ سلطانه لما أراد أن يبين معنى أردنا أن نردّ ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد. وأن نقطع طوفان السماء فانقطع ، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض ، وأن نقضي أمر نوح عليه‌السلام وهو إنجاء ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى ، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت وأبقينا الظلمة غرقى ، بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه لكمال هيبته من الآمر العصيان ، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم ، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما ولمشيئته فيها تغييرا أو تبديلا كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره والإذعان لحكمه وتحتم بذل المجهود عليه في تحصيل مراده وتصوروا مزيد اقتداره فعظمت مهابته في نفوسهم وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما ، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما لا تلقى لإشارته بغير الإمضاء والانقياد ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال. ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا : (قِيلَ) على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو (يا أَرْضُ وَيا سَماءُ) إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له ثم قال سبحانه كما ترى : (يا أَرْضُ وَيا سَماءُ) مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور ، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور

٢٦١

الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه ودخول حرف النداء عليه ـ وهما من خواص المأمور المطيع ـ ويكون هذا تخييلا.

وقد يقال : أراد أن الاستعارة هاهنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادى المخاطب وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه؟! على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل ، ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو اعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي.

وفي الكشاف جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى ، فإن النشف دال على جذب من أجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان ، ولأن النشف فعل الأرض والغور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا ، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام ، وجعل قرينة الاستعارة لفظة (ابْلَعِي) لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.

ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون (ابْلَعِي) استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في : (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) [البقرة : ٢٧ ، الرعد : ٢٥] وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في أنبت الربيع البقل وهو بعيد ، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في نطقت الحال ، فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور ، ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر ترشيحا لاستعارة النداء.

والحاصل أن في لفظ (ابْلَعِي) باعتبار جوهره استعارة لغور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها ، وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه ، ثم قال جل وعلا : (ماءَكِ) بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك ، واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح ، وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية فما قيل : إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء ، ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل ففي (أَقْلِعِي) استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ ، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء ، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في (ابْلَعِي) ثم قال سبحانه : (وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً) فلم يصرح جل وعلا بمن غاض الماء ولا بمن قضى الأمر وسوى السفينة وقال بعدا كما لم يصرح سبحانه بقائل (يا أَرْضُ وَيا سَماءُ) في صدر الآية سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية لأن تلك الأمور العظام لا تصدر إلا من ذي قدرة لا يكتنه قهار لا يغالب فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائلا : (يا أَرْضُ) و (يا سَماءُ) ولا غائض ما غاض ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل ، أو أن يكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره.

والحاصل أن الفعل إذا تعين لفاعل بعينه استتبع لذلك أن يترك ذكره ويبني الفعل لمفعوله ، أو يذكر ما هو أثر لذلك الفعل على صيغة المبني للفاعل ، ويسند إلى ذلك المفعول فيكون كناية عن تخصيص الصفة التي هي الفعل بموصوفها ، وهذا أولى مما قيل في تقرير الكناية هنا : إن ترك ذكر الفاعل وبناء الفعل للمفعول من لوازم العلم بالفاعل

٢٦٢

وتعينه لفاعلية ذلك الفعل فذكر اللازم وأريد الملزوم لما أن استوت غير مبني للمفعول ـ كقيل وغيض ـ ثم إنه تعالى ختم الكلام بالتعريض تنبيها لسالكي مسلك أولئك القوم في تكذيب الرسل عليهم‌السلام ظلما لأنفسهم لا غير ختم إظهار لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه وأن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلا لظلمهم كما يؤذن بذلك الدعاء بالهلاك بعد هلاكهم والوصف بالظلم مع تعليق الحكم به ، وذكر بعضهم أن البعد في الأصل ضد القرب وهو باعتبار المكان ويكون في المحسوس ، وقد يقال في المعقول نحو (ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) [النساء : ١٦٧] واستعماله في الهلاك مجاز ، قال ناصر الدين : يقال بعد بعدا بضم فسكون وبعدا بالتحريك إذا بعد بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده ، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء ولم يفرق في القاموس بين صيغتي الفعل في المعنيين حيث قال : البعد معروف والموت وفعلهما ـ ككرم وفرح ـ بعدا وبعدا فافهم.

وزعم بعضهم أن الأرض والسماء أعطيتا ما يعقلان به الأمر فقيل لهما حقيقة ما قيل ، وأن القائل (بُعْداً) نوح عليه‌السلام ومن معه من المؤمنين ، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر ولا أثر فيه يعول عليه ، والكلام على الأول أبلغ ، وأما النظر فيها من جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها فذلك أنه اختير (يا) دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزة والجبروت ، وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به ولم يقل (يا أَرْضُ) بالكسر لأن الإضافة إلى نفسه جل شأنه تقتضي تشريفا للأرض وتكريما لها فترك إمدادا للتهاون لم يقل يا أيتها الأرض مع كثرته في نداء أسماء الأجناس قصدا إلى الاختصار والاحتراز عن تكلف التنبيه المشعر بالغفلة التي لا تناسب ذلك المقام ، واختير لفظ الأرض والسماء على سائر أسمائهما كالمقلة والغبراء وكالمظلة والخضراء لكونهما أخصر وأورد في الاستعمال وأوفى بالمطابقة ، فإن تقابلهما إنما اشتهر بهذين الاسمين ، واختير لفظ (ابْلَعِي) على ابتلعي لكونه أخصر وأوفر تجانسا ـ باقلعي ـ لأن همزة الوصل إن اعتبرت تساويا في عدد الحروف وإلا تقاربا فيه بخلاف ابتلعي ، وقيل : (ماءَكِ) بالإفراد دون الجمع لما فيه من صورة الاستكثار المتأبى عنها مقام إظهار الكبرياء وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء وإنما لم يقل (ابْلَعِي) بدون المفعول لئلا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن نظرا إلى مقام عظمة الآمر المهيب وكمال انقياد المأمور ، ولما علم أن المراد بلع الماء وحده علم أن المقصود بالإقلاع إمساك السماء عن إرسال الماء فلم يذكر متعلق (أَقْلِعِي) اختصارا واحترازا عن الحشو المستغنى عنه وهذا هو السبب في ترك ذكر حصول المأمور به بعد الأمر فلم يقل (قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي) فبلعت (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) فقلعت لأن مقام الكبرياء وكمال الانقياد يغني عن ذكره الذي ربما أوهم إمكان المخالفة ، واختير غيض على غيض المشدد لكونه أخصر.

وقيل : الماء دون ماء طوفان السماء ، وكذا الأمر دون أمر نوح وهو إنجاز ما وعد لقصد الاختصار ، والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك لأنه إما بدل من المضاف إليه كما هو مذهب الكوفية ، وإما لأنه يغني غناء الإضافة في الإشارة إلى المعهود ، واختير استوت على سويت أي أقرت مع كونه أنسب بأخواته المبنية للمفعول اعتبارا لكون الفعل المقابل للاستقرار أعني الجريان منسوبا إلى السفينة على صيغة المبني للفاعل في قوله تعالى : (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ) مع أن (اسْتَوَتْ) أخصر من سويت ، واختير المصدر أعني (بُعْداً) على ليبعد القوم طلبا لتأكيد معنى الفعل بالمصدر مع الاختصار في العبارة وهو نزول (بُعْداً) وحده منزلة ليبعدوا بعدا مع فائدة أخرى هي الدلالة على استحقاق الهلاك بذكر اللام ، وإطلاق الظلم عن مقيداته في مقام المبالغة يفيد تناول كل نوع فيدخل فيه ظلمهم على

٢٦٣

أنفسهم لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في التكذيب من حيث إن تكذيبهم للرسل ظلم على أنفسهم لأن ضرره يعود إليهم ، هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم ، وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل فذلك أنه قدم النداء على الأمر فقيل : (يا أَرْضُ ابْلَعِي وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) دون أن يقال : ابلعي يا أرض ، واقلعي يا سماء جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى قصدا بذلك لمعنى الترشيح للاستعارة المكنية في الأرض والسماء ، ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء لكونها الأصل نظرا إلى كون ابتداء الطوفان منها حيث فار تنورها أولا ، ثم جعل قوله سبحانه : (وَغِيضَ الْماءُ) تابعا لأمر الأرض والسماء لاتصاله بقصة الماء وأخذه بحجزتها ، ألا ترى أصل الكلام (قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) فبلعت ماءها (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله (وَغِيضَ الْماءُ) النازل من السماء فغاض.

وقيد الماء بالنازل وإن كان في الآية مطلقا لأن ابتلاع الأرض ماءها فهم من قوله سبحانه : (ابْلَعِي ماءَكِ).

واعترض بأن الماء المخصوص بالأرض إن أريد به ما على وجهها فهو يتناول القبيلين الأرضي والسمائي وإن أريد به ما نبع منها فاللفظ لا يدل عليه بوجه ، ولهذا حمل الزمخشري الماء على مطلقه ، وأشعر كلامه بأن غيض الماء إخبار عن الحصول المأمور به من قوله سبحانه : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) فالتقدير قيل لهما ذلك فامتثلا الأمر ونقص الماء.

ورجح الطيبي ما ذهب إليه السكاكي زاعما أن معنى الغيض حينئذ ما قاله الجوهري ، وهو عنده مخالف للمعنى الذي ذكره الزمخشري فقال : إن إضافة الماء إلى الأرض لما كانت ترشيحا للاستعارة تشبيها لاتصاله بها باتصال الملك بالمالك ولذا جيء بضمير الخطاب اقتضت إخراج سائر المياه سوى الذي بسببه صارت الأرض مهيأة للخطاب بمنزلة المأمور المطيع وهو المعهود في قوله تعالى : (وَفارَ التَّنُّورُ) وبهذا الاعتبار يحصل التواغل في تناسي التشبيه والترشيح ، ولو أجريت الإضافة على غير هذا تكون كالتجريد وكم بينهما ، هذا ولو حمل على العموم لاستلزام تعميم ابتلاعه المياه بأسرها لورود الأمر من مقام العظمة كما علمت من كلام السكاكي ، وليس بذاك ، وتعقبه في الكشف بأنه دعوى بلا دليل ورد يمين إذ لا معهود ، والظاهر ما على وجه الأرض من الماء ولا ينافي الترشيح وإضافة المالكية ، ثم الظاهر من تنزيل الماء منزلة الغذاء أن تجعل الإضافة من باب إضافة الغذاء إلى المغتذي في النفع والتقوية وصيرورته جزءا منه ولا نظر فيه إلى كونه مملوكا أو غير ذلك ، وأما التعميم فمطلوب وحاصل على التفسيرين لانحصار الماء في الأرضي والسمائي ، وقد قلتم بنضوبهما من قوله سبحانه فبلعت. وقوله تعالى : (وَغِيضَ) ولا شك أن ما عندنا من الماء غير ماء الطوفان ، هذا والمطابق تفسير الزمخشري ، ألا ترى إلى قوله جل وعلا : (فَالْتَقَى الْماءُ) أي الأرضي والسمائي ، وهاهنا تقدم الماءان في قوله سبحانه : (ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) لأن تقديره عن إرسال الماء على زعمهم ، فإذا قيل : وغيض الماء رجع إليهما لا محالة لتقدمهما ، ثم إذا جعل من توابع (أَقْلِعِي) خاصة لم يحسن عطفه على أصل القصة أعني (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي) كيف وفي إيثار هذا التفسير الإشارة إلى أنه زال كونه طوفانا لأن نقصان الماء غير الإذهاب بالكلية ، وإلى أن الأجزاء الباطنة من الأرض لم تبق على ما كانت عليه من قوة الإنباع ورجعت إلى الاعتدال المطلوب وليس في الاختصاص بالنضوب هذا المعنى البتة انتهى.

وزعم الطبرسي أن أئمة البيت رضي الله تعالى عنهم على أن الماء المضاف هو ما نبع وفار وأنه هو الذي ابتلع وغاض لا غير ، وأن ماء السماء صار بحارا أو نهارا.

وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن ابن عباس ما يؤيده ، وهذا مخالف لما يقتضيه كلام السكاكي مخالفة

٢٦٤

ظاهرة ، وفي القلب من صحته ما فيه ، ثم إنه تعالى أتبع غيض الماء ما هو المقصود الأصلي من القصة ، وهو قوله جلت عظمته : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) ثم أتبع ذكر المقصود حديث السفينة لتأخره عنه في الوجود ، ثم ختمت القصة بالتعريض الذي علمته ، وهذا كله نظر في الآية من جانبي البلاغة ، وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف. وتأدية لها ملخصة مبينة لا تعقيد يعثر الكفر في طلب المراد ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد بل إذا جربت نفسك عند استماعها وجدت ألفاظها تسابق معانيها ومعانيها تسابق ألفاظها فما من لفظة فيها تسبق إلى أذنك إلا ومعناها أسبق إلى قلبك ، وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة جارية على قوانين اللغة سليمة عن التنافر بعيدة عن البشاعة عذبة على العذبات سلسلة على الإسلات كل منها كالماء في السلالة وكالعسل في الحلاوة وكالنسيم في الرقة ، ولله تعالى در التنزيل ما ذا جمعت آياته :

وعلى تفنن واصفيه بحسنه

يفني الزمان وفيه ما لم يوصف

وما ذكر في شرح مزايا هذه الآية بالنسبة إلى ما فيها قطرة من حياض وزهرة من رياض ، وقد ذكر ابن أبي الأصبع أن فيها عشرين ضربا من البديع مع أنها سبع عشرة لفظة وذلك المناسبة التامة في (ابْلَعِي) و (أَقْلِعِي) والاستعارة فيهما والطباق بين الأرض والسماء والمجاز في (يا سَماءُ) فإن الحقيقة يا مطر السماء ، والإشارة في (وَغِيضَ الْماءُ) فإنه عبر به عن معان كثيرة لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها فينقص ما على وجه الأرض ، والإرداف في (وَاسْتَوَتْ) والتمثيل في (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) والتعليل فإن غيض الماء علة للاستواء وصحة التقسيم فإنه استوعب أقسام الماء حال نقصه والاحتراس في الدعاء لئلا يتوهم أن الغرق لعمومه شمل من لا يستحق الهلاك فإن عدله تعالى يمنع أن يدعو على غير مستحق ، وحسن النسق وائتلاف اللفظ مع المعنى والإيجاز فإنه سبحانه قص القصة مستوعبة بأخصر عبارة ، والتسهيم لأن أول الآية يدل على آخرها ، والتهذيب لأن مفرداتها موصوفة بصفات الحسن ، وحسن البيان من جهة أن السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام ولا يشكل عليه شيء منه ، والتمكين لأن الفاصلة مستقرة في محلها مطمئنة في مكانها ، والانسجام ، وزاد الجلال السيوطي بعد أن نقل هذا عن ابن أبي الأصبع الاعتراض ، وزاد آخرون أشياء كثيرة إلا أنها ككلام ابن أبي الأصبع قد أشير إليها بأصبع الاعتراض ، وقد ألف شيخنا علاء الدين ـ أعلى الله تعالى درجته في أعلى عليين ـ رسالة في هذه الآية الكريمة جمع فيها ما ظهر له ووقف عليه من مزاياها فبلغ ذلك مائة وخمسين مزية ، وقد تطلبت هذه الرسالة لأذكر شيئا من لطائفها فلم أظفر بها وكأن طوفان الحوادث أغرقها ، ولعل فيما نقلناه سدادا من عوز ، والله تعالى الموفق للصواب وعنده علم الكتاب.

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ) أي أراد ذلك بدليل تفريع قوله سبحانه : (فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) عليه ، وقيل : النداء على حقيقته والعطف بالفاء لكون حق التفصيل يعقب الإجمال (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) أي وإن وعدك ذلك أو كل وعد تعده حق لا يتطرق إليه خلف فيدخل فيه الوعد المعهود دخولا أوليا.

(وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) لأنك أعلمهم وأعدلهم ، وقد ذكر أنه إذا بنى أفعل من الشيء الممتنع من التفضيل والزيادة يعتبر فيما يناسب معناه معنى الممتنع ، وقال العز بن عبد السلام في أماليه : إن هذا ونحوه من أرحم الراحمين وأحسن الخالقين مشكل لأن أفعل لا يضاف إلا إلى جنسه ، وهنا ليس كذلك لأن الخلق من الله سبحانه بمعنى الإيجاد ومن غيره بمعنى الكسب وهما متباينان يعني على المشهور من مذهب الأشاعرة ، والرحمة من الله تعالى إن حملت على الإرادة أو جعلت من مجاز التشبيه صح وإن أريد إيجاد فعل الرحمة كان مشكلا أيضا إذ لا موجد سواه سبحانه ،

٢٦٥

وأجاب الآمدي بأنه بمعنى أعظم من يدعي بهذا الاسم ، واستشكل بأن فيه جعل التفاضل في غير ما وضع اللفظ بإزائه وهو يناسب مذهب المعتزلة فافهم ، وقيل : المعنى هنا أنك أكثر حكمة من ذوي الحكم على أن الحاكم من الحكم كالدارع من الدرع ، واعترض عليه بأن الباب ليس بقياسي وأنه لم يسمع حاكم بمعنى حكيم وأنه لا يبنى منه أفعل إذا لأنه ليس جاريا على الفعل لا يقال : ألبن وأتمر من فلان إذا لا فعل بذلك المعنى ، والجواب بأنه قد كثر في كلامهم فجوز على أن يكون وجها مرجوحا وبأنه من قبيل أحنك الشاتين لا يخلو عن تعسف كما في الكشف ، وتعقب بأن للحكمة فعلا ثلاثيا وهو حكم ، وأفعل من الثلاثي مقيس ، وأيضا سمع احتنك الجراد وألبن وأتمر فغايته أن يكون من غير الثلاثي ولا يخفى ما فيه ، ومنهم من فسره على هذا بأعلمهم بالحكمة كقولهم : آبل من أبل بمعنى أعلم وأحذق بأمر الإبل ، وأيا ما كان فهذا النداء منه عليه‌السلام يقطر منه الاستعطاف ، وجميل التوسل إلى من عهده منعما مفضلا في شأنه أولا وآخرا وهو على طريقة دعاء أيوب عليه‌السلام (إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأنبياء : ٨٣] فيكون ذلك قبل الغرق ، والواو لا تقتضي الترتيب ، وقيل : إن النداء إنما كان بعده والمقصود منه الاستفسار عن سبب عدم إنجائه مع سبق وعده تعالى بإنجاء أهله وهو منهم ، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تمام الكلام في ذلك (قالَ) استئناف بياني كأنه قيل ، ما قال له ربه سبحانه حين ناداه بذلك؟ فقيل : قال : (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) أي ليس منهم أصلا لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية وقد انقطعت بالكفر فلا علاقة بين مسلم وكافر ولذا لم يتوارثا ، وقد ذكروا أن قرابة الدين أقرب من قرابة النسب كما أشار إلى ذلك أبو فراس بقوله :

كانت مودة سلمان له نسبا

ولم يكن بين نوح وابنه رحم

أو (لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) الذين أمرتك بحملهم في الفلك لخروجه عنهم بالاستثناء ، وحكي هذا عن ابن جرير وعكرمة ، والأول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وعلى القولين ليس هو من الذين وعد بإنجائهم ، وكأنه لما كان دعاؤه عليه‌السلام بتذكير وعده جل ذكره مبنيا على كون كنعان من أهله نفى أولا كونه منهم ، ثم علل عدم كونه منهم على طريقة الاستئناف التحقيقي بقوله سبحانه : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) وأصله إنه ذو عمل فاسد فحذف ذو للمبالغة بجعله عين عمله لمداومته عليه ، ولا يقدر المضاف لأنه حينئذ تفوت المبالغة المقصودة منه ، ونظير ذلك ما في قول الخنساء ترثي أخاها صخرا.

ما أم سقب على بو تحن له

قد ساعدتها على التحنان أظئار

ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت

فإنما هي إقبال وإدبار

يوما بأوجع مني حين فارقني

صخر وللعيش إحلاء وإمرار

وأبدل فاسد بغير ـ صالح ـ إما لأن الفاسد ربما يطلق على ما فسد ومن شأنه الصلاح فلا يكون نصا فيما هو من قبيل الفاسد المحض كالمظالم ، وإما للتلويح بأن نجاة من نجا إنما هو لصلاحه.

وقرأ الكسائي ويعقوب «إنه عمل غير صالح» على صيغة الماضي ، ونصب «غير» وهي قراءة عليّ كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وأنس وعائشة ، وقد روتها هي وأم سلمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأصل عمل عملا غير صالح ، وبه قرئ أيضا كما روي عن عكرمة فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه ، وذلك شائع مطرد عند انكشاف المعنى وزوال اللبس ، وضعفه بعضهم هنا بأن العرب لا تكاد تقول : (عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) وإنما تقول عمل عملا غير صالح ، وليس بشيء ، وأيد بهذه القراءة كون ضمير إنه في القراءة الأولى لابن نوح لأنه فيها له قطعا فيضعف ما قيل : إنه في الأولى لترك الركوب معهم والتخلف عنهم أي إن ذلك الترك (عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) على أنه خلاف الظاهر في نفسه كما لا

٢٦٦

يخفى. ومثله في ذلك ما قيل : إنه لنداء نوح عليه‌السلام أي إن نداءك هذا (عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) وتخرج بذلك الجملة عن أن تكون تعليلا لما تقدم ويفوت ما في ذاك من الفائدة ولا يكون الكلام على مساق واحد ، نعم روي عن ابن عباس ما يقتضيه فقد أخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عنه أنه قال : إن نساء الأنبياء عليهم‌السلام لا يزنين ، ومعنى الآية مساءلتك إياي يا نوح (عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) لا أرضاه لك.

وفي رواية ابن جرير عنه سؤالك ما ليس لك به علم غير صالح ، ولعل ذلك لم يثبت عن هذا الحبر لأن الظاهر من الرواية الأولى أنه إنما جعل الضمير للمسألة دون ابن نوح لما في ذلك من نسبة الزنا إلى من لا ينسب إليه وهو رضي الله تعالى عنه أجل قدرا من أن يخفى عليه أنه لا يلزم من ذلك هذا المحذور ، ثم إنه لما كان دعاؤه عليه‌السلام مبنيا على كون كنعان من أهله وقد نفى ذلك وحقق ببيان علته فرع على ذلك النهي عن سؤال إنجائه إلا أنه جيء بالنهي على وجه عام يندرج فيه ما ذكر اندراجا أوليا فقال سبحانه : (فَلا تَسْئَلْنِ) أي إذا وقفت على جلية الحال فلا تطلب مني (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي مطلبا لا تعلم يقينا أن حصوله صواب وموافق للحكمة على تقدير كون (ما) عبارة عن المسئول الذي هو مفعول للسؤال أو طلبا لا تعلم أنه صواب على تقدير كونه عبارة عن المصدر الذي هو مفعول مطلق فيكون النهي واردا بصريحه في كل من معلوم الفساد ومشتبه الحال قاله شيخ الإسلام ، وجوز أن يكون ما ليس لك علم بأنه صواب أو غير صواب وهو الذي ذهب إليه القاضي فيكون النهي واردا في مشتبه الحال ويفهم منه حال معلوم الفساد بالطريق الأولى ، وأيا ما كان فهو عام يندرج تحته ما نحن فيه كما ذكرنا ، وسمي النداء سؤالا لتضمنه إياه وإن لم يصرح به كما لا يخفى ، وبه على ما نقل عن أبي علي إما متعلق بما يدل عليه العلم المذكور وإن لم يتسلط عليه كقوله :

ربيته حتى إذا تمعددا

كان جزائي بالعصا أن أجلدا

وإما أن يتعلق بالمستقر في ذلك وكذا الكلام فيما سيأتي إن شاء الله تعالى ، والآية ظاهرة في أن نداءه عليه‌السلام لم يكن استفسارا عن سبب عدم إنجائه مع تحقق سبب الإنجاء فيما عنده كما جوزه القاضي بناء على أنه كان بعد الغرق بل هو دعاء منه عليه‌السلام لإنجاء ابنه حين حال الموج بينهما ولم يعلم بهلاكه بعد إما بتقريبه إلى الفلك بتلاطم الأمواج مثلا أو بتقريبها إليه ، وقيل : أو بإنجائه بسبب آخر ويأباه تذكير الوعد في الدعاء فإنه مخصوص بالإنجاء في الفلك ، ومجرد حيلولة الموج لا يستوجب الهلاك فضلا عن العلم به لظهور إمكان عصمة الله تعالى عليه إياه برحمته ، وقد وعده بإنجاء أهله ولم يعتقد أن فيه مانعا من الانتظام في سلكهم لمكان النفاق وعدم المجاهرة بالكفر لما في ذلك لفظا من الاحتياج إلى القول بالحذف والإيصال ، ومعنى من أن النهي عن الاستفسار عما لا يعلم غير موافق للحكمة إذ عدم العلم بالشيء داع إلى الاستفسار عنه لا إلى تركه.

وقيل : إن السؤال عن موجب عدم النجاة مع ما فيه من الجرأة ، وشبه الاعتراض فيه أنه تعين له عليه‌السلام أنه من المستثنين بهلاكه فهو غير سديد كيف ونداؤه ذاك مما يقطر منه الاستعطاف.

وقيل : إن النهي إنما هو عن سؤال ما لا حاجة إليه إما لأنه لا يهمّ أو لأنه قامت القرائن على حاله لا عن السؤال للاسترشاد فلا ضير إذن في كلام القاضي وهو كما ترى :

ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر

فالحق أن ذلك مسألة الإنجاء ، وكان قبل تحقق الغرق عند رؤية المشارفة عليها ولم يكن عالما بكفره إذ ذاك لأنه لم يكن مجاهرا به وإلا لم يدع له بل لم يدعه أيضا (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) لا يدل على أنه كافر عنده بل هو

٢٦٧

نهي عن الدخول في غمارهم ، وقطع بأن ذلك يوجب الغرق على الطريق البرهاني كما قدمنا ، وكأنه عليه‌السلام حمل مقاولته على غير المكابرة والتعنت لغلبة المحبة وذهوله عن إعطاء التأمل حقه فلذلك طلب ما طلب ، فعوتب بأن مثله في معرض الإرشاد والقيام بأعباء الدعوة تلك المدة المتطاولة لا ينبغي أن يشتبه عليه كلام المسترشد والمعاند ، ويرجع هذا إلى ترك الأولى ، وهو المراد بقوله : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ).

وذكر شيخ الإسلام أن اعتزاله قصده الالتجاء إلى الجبل ليس بنص في الإصرار على الكفر لظهور جواز أن يكون ذلك لجهله بانحصار النجاة في الفلك ، وزعمه أن الجبل أيضا يجري مجراه أو لكراهة الاحتباس في الفلك بل قوله : (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) بعد ما قال له نوح (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) ربما يطعمه عليه‌السلام في إيمانه حيث لم يقل أكون معهم أو سنأوي أو يعصمنا فإن إفراد نفسه بنسبة الفعلين المذكورين ربما يشعر بانفراده من الكافرين واعتزاله عنهم وامتثاله ببعض ما أمره به نوح عليه‌السلام إلا أنه عليه‌السلام لو تأمل في شأنه حق التأمل وتفحص عن أحواله في كل ما يأتي وما يذر لما اشتبه عليه أنه ليس بمؤمن وأنه مستثنى من أهله ولذلك قيل له : (إِنِّي) إلخ ، وهو ظاهر في أن مدار العتاب الاشتباه كما ذكرنا ، وإليه ذهب الزمخشري قال : إن الله تعالى قدم إليه عليه‌السلام الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم فكان عليه أن يعتقد أن في الجملة من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح وأن كلهم ليسوا بناجين وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه ، وكأنه أراد أن الاستثناء دل على أن المعنى المعتبر الصلاح لا القرابة فكان ينبغي أن يجعله الأصل ويتفحص في الأهل عن وجوده ، وأن يجعل كلهم سواسية في استحقاق العذاب إلا من علم صلاحه وإيمانه لا أن يجعل كونه من الأهل أصلا فيسأل إنجاءه مع الشك في إيمانه فقد قصر فيما كان عليه بعض التقصير وأولي العزم مؤاخذون بالنقير والقطمير وحسنات الأبرار سيئات المقربين ، وابن المنير لم يرض كون ذلك عتابا قال : وفي كلام الزمخشري ما يدل على أنه يعتقد أن نوحا عليه‌السلام صدر منه ما أوجب نسبة الجهل إليه ومعاتبته على ذلك وليس الأمر كما تخيله ، ثم قال : ونحن نوضح أن الحق في الآية منزلا على نصها مع تبرئة نوح عليه‌السلام مما توهم الزمخشري نسبته إليه فنقول : لما وعد عليه‌السلام بتنجية أهله إلا من سبق عليه القول منهم ولم يكن كاشفا لحال ابنه ولا مطلعا على باطن أمره بل كان معتقدا بظاهر الحال أنه مؤمن بقي على التمسك بصيغة العموم للأهلية الثابتة ولم يعارضها يقين في كفر ابنه حتى يخرج من الأهل ويدخل في المستثنين فسأل الله تعالى فيه بناء على ذلك فبين له أنه في علمه من المستثنين وأنه هو لا علم له بذلك فلذلك سأل فيه ، وهذا بأن يكون إقامة عذر أولى منه من أن يكون عتبا فإن نوحا عليه‌السلام لا يكلفه الله تعالى علم ما استأثر به غيبا ؛ وأما قوله سبحانه : (إِنِّي أَعِظُكَ) إلخ فالمراد النهي عن وقوع السؤال في المستقبل بعد أن أعلمه سبحانه باطن أمره وأنه إن وقع في المستقبل في السؤال كان من الجاهلين ، والغرض من ذلك تقديم ما يبقيه عليه‌السلام على سمت العصمة ، والموعظة لا تستدعي وقوع ذنب بل المقصد منها أن لا يقع الذنب في الاستقبال ولذلك امتثل عليه‌السلام ذلك واستعاذ بالله سبحانه أن يقع منه ما نهى عنه كما يدل عليه قوله سبحانه : (قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) ولا يخفى سقوطه على ما علمت وهو خلاف الظاهر جدا ، وقد جاء عن الفضيل بن عياض أنه قال : بلغني أن نوحا عليه‌السلام بكى عن قول الله تعالى له ما قال أربعين يوما ، وأخرج أحمد في الزهد عن وهيب بن الورد الحضرمي قال : لما عاتب الله تعالى نوحا في ابنه وأنزل عليه (إِنِّي أَعِظُكَ) بكى ثلاثمائة عام حتى صار تحت عينيه مثل الجدول من البكاء.

٢٦٨

وزعم الواحدي أن السؤال قبل الغرق ومع العلم بكفره ، وذلك أن نوحا عليه‌السلام لم يعلم أن سؤاله ربه نجاة ولده محظور عليه مع إصراره على الكفر حتى أعلمه الله تعالى ذلك ، واعترض بأنه إذا كان عالما بكفره مع التصريح بأن في أهله من يستحق العذاب كان طلب النجاة منكرا من المناكير فتدبر ، والظاهر على ما قررنا أن قوله : (رَبِ) إلخ توبة مما وقع منه عليه‌السلام وما هنا أيضا عبارة إما عن المسئول أو عن السؤال أي أعوذ بك أن أطلب منك من بعد مطلوبا لا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة أو طلبا لا أعلم أنه صواب سواء كان معلوم الفساد أو مشتبه الحال ، أو لا أعلم أنه صواب أو غير صواب ، ولم يقل أعوذ بك منه أو من ذلك مبالغة في التوبة وإظهارا للرغبة والنشاط فيها وتبركا بذكر ما لقنه الله تعالى وهو أبلغ من أن يقول : أتوب إليك أن أسألك لما فيه من الدلالة على كون ذلك أمرا هائلا محذورا لا محيص منه إلا بالعوذ بالله تعالى وأن قدرته عليه‌السلام قاصرة عن النجاة من المكاره إلا بذلك كما في إرشاد العقل السليم ، واحتمال أن يكون فيه رد وإنكار نظير ما في [البقرة : ٦٧] من قول موسى عليه‌السلام : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) مما لا يكاد يمر بفكر أحد من الجاهلين.

هذا وفي مصحف ابن مسعود (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) أن تسألني ، ورجح به كون ضمير (إِنَّهُ) في القراءة المتواترة للنداء المتضمن للسؤال ، وقرأ ابن كثير (فَلا تَسْئَلْنِ) بفتح اللام وتشديد النون مفتوحة وهي قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وكذا قرأ نافع وابن عامر غير أنهما كسرا النون على أن أصله تسألنني فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت الشديدة للياء ثم حذفت الياء اكتفاء بالكسرة ، وقرأ أبو جعفر وشيبة وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما كذلك إلا أنهم أثبتوا الياء بعد النون وأمره ظاهر ، وقرأ الحسن وابن أبي مليكة «تسألني» من غير همز من سال يسال فهما يساولان ، وهي لغة سائرة ، وقرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام وكسر النون وتخفيفها. وأثبت الياء في الوصل ورش وأبو عمرو ، وحذفها الباقون (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي) ما صدر عني من السؤال المذكور (وَتَرْحَمْنِي) بقبول توبتي (أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أعمالا بسبب ذلك وتأخير ذكر هذا عن حكاية الأمر الوارد على الأرض والسماء وما يتلوه مع أن حقه أن يذكر عقيب قوله سبحانه : (فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) حسبما وقع في الخارج على ما علمت من أن النداء كان لطلب الإنجاء قبل العلم بالهلاك قيل : ليكون على أسلوب قصة البقرة في سورتها دلالة على استقلال هذا المعنى بالغرض لما فيه من النكت من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب وأن لا يقدم في الأمور الدينية الأصولية إلا بعد اليقين ، وتعقب بالفرق بين ما هنا وما هناك عند من كان ذا قلب ، وما ذكر من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب إلخ لا يفوت على تقدير سوق الكلام على ترتيب الوقوع أيضا.

واختار بعض المحققين أن ذلك لأن ذكر هذا النداء كما ترى مستدع لما مر من الجواب المستدعي لذكر توبته عليه‌السلام المؤدي إلى ذكر قبولها في ضمن الأمر بهبوطه عليه‌السلام من الفلك بالسلام والبركات الفائضة عليه وعلى المؤمنين حسبما يجيء إن شاء الله تعالى ، ولا ريب أن هذه المعاني آخذ بعضها بحجزة بعض بحيث لا تكاد تفرق الآيات الكريمة المنطوية عليها بعضها من بعض وأن ذلك إنما يتم بتمام القصة ، وذلك إنما يكون بتمام الطوفان فلا جرم اقتضى الحال ذكر تمامها قبل هذا النداء وهو إنما يكون عند ذكر كون كنعان من المغرقين ، ولهذه النكتة ازداد حسن موقع الإيجاز البليغ ، وفيه فائدة أخرى هي التصريح بهلاكه من أول الأمر ولو ذكر النداء بعد (فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) لربما توهم من أول الأمر إلى أن يرد أنه ليس من أهلك إلخ أنه ينجو بدعائه فنص على هلاكه ، ثم ذكر القصة على وجه أفحم مصاقع البلغاء ، ثم تعرض لما وقع في تضاعيف ذلك مما جرى بين نوح عليه‌السلام ورب العزة جلت حكمته وعلت كلمته ، ثم ذكر بعد توبته عليه‌السلام قبولها : بقوله عزوجل : (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ) إلخ وهو من

٢٦٩

الحسن بمكان ، وبني الفعل لما لم يسم فاعله لظهور أن القائل هو الله تعالى ، وقيل : القائل الملائكة عليهم‌السلام والهبوط النزول قيل : أي أنزل من الفلك ، وقيل : من الجبل إلى الأرض وذلك أنه روي أن السفينة استوت على الجودي في عاشر ذي الحجة فأقام بمن معه هناك شهرا ، ثم قيل له : اهبط فهبط بأرض الموصل وبنى قرب الجبل قرية يقال لها : قرية الثمانين عدد من في السفينة ، وفي رواية عن ابن عباس أنه بنى كل منهم بيتا فسميت سوق الثمانين.

وأخرج ابن مردويه عن عمر رضي الله تعالى عنه قال : لما استقرت السفينة على الجودي لبث نوح عليه‌السلام ما شاء الله تعالى ، ثم إنه أذن له بالهبوط فهبط على الجبل فدعا الغراب فقال : ائتني بخبر الأرض ، فانحدر إلى الأرض وفيها الغرقى من قوم نوح فوقع على جيفة منهم فأبطأ عليه فلعنه ، ودعا الحمامة فوقفت على كفه فقال : اهبطي فأتني بخبر الأرض فانحدرت فلم تلبث قليلا حتى جاءت تنفض ريشها بمنقارها فقالت : اهبط فقد أنبتت الأرض فقال نوح : بارك الله تعالى فيك وفي بيت يأويك وحببك إلى الناس ولو لا أن يغلبك الناس على نفسك لدعوت الله سبحانه أن يجعل رأسك من الذهب ، والظاهر عندي أن الهبوط من الجودي الذي استقرت عليه السفينة إلى الأرض ، وليس في الكلام ما يستدعي أن يكون بعد الاستقرار بلا مهلة ليقال : إن ما تحت الجبل مغمور إذ ذاك بالماء ، والتعبير بالهبوط على هذا في غاية الظهور ، ولعل ذلك على أن يكون المراد من السفينة لمكان الركوب ، وخبر الحمامة والغراب قد طار في الآفاق وأولع به القصاصون ، والله تعالى أعلم بصحته ، وغالب الظن أنه لم يصح ، وكذا اشتهر خبر قرية الثمانين في أرض الموصل وأنها لما ضاقت عليهم تحولوا إلى بابل فبنوها.

وأخرج ابن عساكر عن كعب الأحبار أنه قال : أول حائط وضع على وجه الأرض بعد الطوفان حائط حران ودمشق ثم بابل وقرئ (اهْبِطْ) بضم الباء (بِسَلامٍ) أي ملتبسا بسلامة مما تكره كائنة (مِنَّا) أي من جهتنا ، ويجوز أن يكون السلام بمعنى التسليم والتحية أي مسلما عليك من جهتنا (وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) أي خيرات نامية في نسلك وما يقوم به معاشك ومعاشهم من أنواع الأرزاق ، أو مباركا عليك أي مدعوا لك بالبركة بأن يقال : بارك الله تعالى فيك وهو مناسب لكون السلام بمعنى التسليم فيكون كقوله : السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته. وأصل البرك ـ كما قال الراغب ـ صدر البعير يقال : برك البعير إذا ألقى بركه ، واعتبر فيه اللزوم ولذا سمي محتبس الماء بركة ، والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء سمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة.

ولما كان الخير الإلهي يصدر على وجه لا يحس ولا يحصى قيل لكل ما يشاهد فيه زيادة غير محسوسة : هو مبارك وفيه بركة ، ولما في ذلك من الإشعار باللزوم ـ وكونه غير محسوس ـ اختص تبارك بالاستعمال في الله تبارك وتعالى كما قيل : وفي الكشف كل شيء ثبت وأقام فقد برك وأخذ بروك البعير منه ، ثم البرك بمعنى الصدر من الثاني لأنه آلة بروكه أظهر ، وحكى عبد العزيز بن يحيى عن الكسائي أنه قرأ ـ وبركة ـ بالتوحيد ، وفي الآية على القراءتين صنعة الاحتباك لأنه حذف من الثاني ما ذكر في الأول ، وذكر فيه ما حذف من الأول ، والتقدير سلام منا عليك وبركات ، أو وبركة منا عليك ، وهذا منه تعالى إعلام وبشارة بقبول توبته عليه‌السلام وخلاصه من الخسران مع الإشارة إلى عود الأرض إلى حالها من الإنبات وغيره (وَعَلى أُمَمٍ) ناشئة (مِمَّنْ مَعَكَ) متشعبة منهم ـ فمن ـ ابتدائية ، والمراد الأمم المؤمنة المتناسلة ممن معه إلى يوم القيامة ، والمراد ـ ممن معه ـ أولاده من إطلاق العام وإرادة الخاص بناء على ما قيل : إنه لم يعقب غيرهم ، فالناس كلهم على هذا من نسل نوح عليه‌السلام ؛ ومن هنا سمي عليه‌السلام آدم الثاني وآدم الأصغر ، واستدل لذلك بقوله تعالى : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) [الصافات : ٧٧] وقد يقال ببقاء ـ من ـ على عمومه بناء على ما عليه أكثر المفسرين من عدم اختصاص النسل بأولاده عليه‌السلام بل لمن معه نسل باق

٢٧٠

أيضا ، والكلام في استدلال الأولين سيأتي إن شاء الله تعالى ، وقوله سبحانه : (وَأُمَمٌ) بالرفع ـ وهو على ما ذهب إليه الزمخشري ـ مبتدأ ، وجملة قوله تعالى : (سَنُمَتِّعُهُمْ) صفته ، والخبر محذوف أي ومنهم أمم ، وساغ ذلك لدلالة ما سبق عليه فإن إيراد الأمم المبارك عليهم المتشعبة منهم نكرة يدل على أن بعض من يتشعب منهم ليسوا على صفتهم ، والمعنى ليس جميع من يتشعب منهم مشاركا له في السلام والبركات بل منهم أمم يمتعون في الدنيا (ثُمَّ يَمَسُّهُمْ) فيها أو في الآخرة أو فيهما (مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) وجوز أبو حيان أن يكون (أُمَمٍ) مبتدأ محذوف الصفة وهي المسوغة للابتداء بالنكرة ، والتقدير وأمم منهم ، وجملة (سَنُمَتِّعُهُمْ) هو الخبر كما قالوا : السمن منوان بدرهم ، وأن يكون مبتدأ ولا يقدر له صفة والخبر أيضا (سَنُمَتِّعُهُمْ) ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل فكان مثل قول الشاعر :

إذا ما بكى من خلفها انحرفت له

بشق وشق عندنا لم يحول

وقول القرطبي : إنه ارتفع (أُمَمٍ) على معنى ويكون أمم إن أراد به تفسير معنى فحسن وإن أراد الإعراب فليس يجيد لأن هذا ليس من مواضع إضمار يكون ، وقال الأخفش : هذا كما تقول : كلمت زيدا وعمرو جالس يحتمل أن يكون من باب العطف ، ويحتمل أن يكون الواو للحال وتكون الجملة هنا حالا مقدرة لأن وقت الأمر بالهبوط لم تكن تلك الأمم موجودة.

وقال أبو البقاء : إن (أُمَمٍ) معطوف على الضمير في (اهْبِطْ) والتقدير ـ اهبط أنت وأمم ـ وكان الفصل بينهما مغنيا عن التأكيد ، و (سَنُمَتِّعُهُمْ) نعت لأمم ، وفيه إن الذين كانوا مع نوح عليه‌السلام في السفينة كلهم مؤمنون لقوله تعالى : (وَمَنْ آمَنَ) ولم يكونوا قسمين كفارا ومؤمنين ليؤمر الكفار بالهبوط معه اللهم إلا أن يلتزم أن من أولئك المؤمنين من علم الله سبحانه أنه يكفر بعد الهبوط فأخبر عنهم بالحالة التي يؤولون إليها وفيه بعد.

وجوز أن تكون ـ من ـ في (مِمَّنْ مَعَكَ) بيانية أي وعلى أمم هم الذين معك ، وسموا أمما لأنهم أمم متحزبة وجماعات متفرقة أو لأن جميع الأمم إنما تشعبت منهم فهم أمم مجازا فحينئذ يكون المراد بالأمم المشار إليهم في قوله سبحانه : (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) بعض الأمم المتشعبة منهم وهي الأمم الكافرة المتناسلة منهم إلى يوم القيامة.

وفي الكشاف إن الوجه هو الأول قيل : ليقابل قوله تعالى : (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) ولأنه أشمل ولأن ـ من ـ الابتدائية لا سيما في المنكر أكثر وللنكتة في إدخال الناشئين في المسلم عليهم ، وقطع الممتعين عنهم من الدلالة على ما صرح به في قوله سبحانه : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) ولهذه النكتة حذف منهم في الثاني ، واكتفى بسلام نوح عليه‌السلام عن سلام مؤمني قومه لأن النبي زعيم أمته وكفاهم هذا التعظيم والاتحاد معه عليه‌السلام ، فلا يراد أن الحمل على البيانية أرجح لئلا يلزم أن لا يكون مسلما عليهم على أن لفظ الأمم في الإطلاق على من معه بأحد الاعتبارين لا فخامة فيه لأن تسمية الجماعة القليلة بالأمة لا يناسب فكيف بالأمم ، ولا مبالغة في هذا المقام فيه فلا يعدل عن الحقيقة ، وإن جعل من باب (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) [النحل : ١٢٠] لم يلائم تفخيم نوح عليه‌السلام ، وقد ذكر أنه يبقى على البيانية أمر الأمم المؤمنة الناشئة من الذين معه عليه‌السلام مبهما غير متعرض له ولا مدلول عليه إلا أن يقال : حيث كان المراد بمن معك المؤمنين يعلم أن المشاركين لهم في وصف الإيمان مثلهم فيما تقدم ، نعم قيل : إن في دلالة المذكور على الخبر المحذوف على ذلك الوجه خفاء لأن ـ من المذكورة بيانية ، والمحذوفة تبعيضية ، أو ابتدائية ، وربما يجاب عنه أيضا بإلزام أن لا حذف أصلا كما هو أحد الأوجه التي ذكرناها آنفا فتدبر جميع ما ذكر.

والمأثور عدم تخصيص الأمم في الموضعين بمؤمنين معينين وكافرين كذلك ، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر

٢٧١

وغيرهما عن محمد القرظي قال : دخل في ذلك السلام والبركات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ودخل في ذلك المتاع والعذاب الأليم كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة ، وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنه قال في الآية ما زال الله تعالى يأخذ لنا بسهمنا وحظنا ويذكرنا من حيث لا نذكر أنفسنا كلما هلكت أمة خلقنا في أصلاب من ينجو بلطفه حتى جعلنا في خير أمة أخرجت للناس ، وقيل : المراد بالأمم الممتعة قوم هود وصالح ولوط وشعيب عليهم‌السلام ، وبالعذاب ما نزل بهم ، وبالغ بعضهم في عموم الأمم في الأول فجعلها شاملة لسائر الحيوانات التي كانت معه عليه‌السلام فإن الله تعالى جعل فيها البركة ـ وليس بشيء ـ كما لا يخفى ، وهاهنا لطيفة وهي أنه قد تكرر في هذه الآية حرف واحد مرات مع غاية الخفة ولم تتكرر الراء مثله في قوله :

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر

ومع ما ترى فيه من غاية الثقل وعسر النطق ، ولله تعالى شأن التنزيل ما أكثر لطائفه (تِلْكَ) إشارة إلى قصة نوح عليه‌السلام وهي لتقضيها في حكم البعيد ، ويحتمل أنه أشير بأداة البعد إلى بعد منزلتها ، وقيل : إن الإشارة إلى آيات القرآن وليس بذاك ؛ وهي في محل الرفع على الابتداء ، وقوله سبحانه : (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي بعض أخباره التي لها شأن وكونها بعض ذلك باعتبار أنها على التفصيل لم تبق لطول العهد معلومة لغيره تعالى حتى أن المجوس على ما قيل : ينكرونها رأسا ، وقيل : إن كونها من الغيب لغير أهل الكتاب. وقد ذكر غير واحد أن الغيب قسمان : ما لا يتعلق به علم مخلوق أصلا وهو الغيب المطلق ، وما لا يتعلق به علم مخلوق معين وهو الغيب المضاف بالنسبة إلى المخلوق ، وهو مراد الفقهاء في تكفير الحاكم على الغيب ، وقوله سبحانه : (نُوحِيها) خبر ثان ـ لتلك ـ والضمير لها أي موحاة (إِلَيْكَ) أو هو الخبر ، و (مِنْ أَنْباءِ) متعلق به ، وفائدة تقديمه نفي أن يكون علم ذلك بكهانة أو تعلم من الغير ، والتعبير بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية ، أو (مِنْ أَنْباءِ) هو الخبر ، وهذا في موضع الحال من (أَنْباءِ) والمقصود من ذكر كونها موحاة إلجاء قومه صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتصديق بنبوته عليه الصلاة والسلام وتحذيرهم مما نزل بالمكذبين ، وقوله تعالى :

(ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ) خبر آخر أي مجهولة عندك وعند قومك (مِنْ قَبْلِ هذا) أي الإيحاء إليك المعلوم مما مر ، وقيل : أي الوقت ، وقيل : أي العلم المكتسب بالوحي.

وفي مصحف ابن مسعود ـ من قبل هذا القرآن ـ ويحتمل أن يكون حالا من الهاء في (نُوحِيها) أو الكاف من (إِلَيْكَ) أي غير عالم أنت ولا قومك بها ، وذكر القوم معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من باب الترقي كما تقول : هذا الأمر لا يعلمه زيد ولا أهل بلدة لأنهم مع كثرتهم إذا لم يعلموا ذلك فكيف يعلمه واحد منهم ، وقد علم أنه لم يخالط غيرهم. (فَاصْبِرْ) متفرع على الإيحاء أو على العلم المستفاد منه المدلول عليه بما تقدم (مِنْ قَبْلِ هذا) أي وإذ قد أوحيناها إليك أو علمتها بذلك فاصبر على مشاق تبليغ الرسالة وأذية قومك كما صبر نوح عليه‌السلام على ما سمعته من أنواع البلايا في هذه المدة المتطاولة. قيل : وهذا ناظر إلى ما سبق من قوله سبحانه : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) [هود : ١٢] إلخ (إِنَّ الْعاقِبَةَ) بالظفر في الدنيا وبالفوز بالآخرة (لِلْمُتَّقِينَ) كما سمعت ذلك في نوح عليه‌السلام وقومه ، قيل : وهو تعليل للأمر بالصبر وتسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد بالتقوى الدرجة الأولى منها ، وجوز أن يراد بها الدرجة الثالثة وهي بذلك المعنى منطوية على الصبر فكأنه قيل : فاصبر فإن العاقبة للصابرين ، وقيل : الآية فذلكة لما تقدم وبيان للحكمة في إيحاء ذلك من إرشاده صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد قومه المكذبين له والله تعالى أعلم.

ومن باب الإشارة في الآيات : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) إلخ لما كان مقتضى الطباع البشرية عدم

٢٧٢

نشاط المتكلم إذا لم يجد محلا قابلا لكلامه وضيق صدره من ذلك هيج جل شأنه نشاط نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أنزل عليه من هذه الآية الكريمة ، وقال سبحانه : (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) ولا يخلو الإنذار عن إحدى فائدتين : رفع الحجاب عمن وفق وإلزام الحجة لمن خذل (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) فكل الهداية إليه (مَنْ كانَ يُرِيدُ) بعلمه الذي هو بظاهره من أعمال الآخرة (الْحَياةَ الدُّنْيا) كالجاه والمدح (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ) أي جزاءها فيها إن شئنا (وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) أي لا ينقصون شيئا منها (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) لتعذب قلوبهم بالحجب الدنيوية (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) من أعمال البر فلم ينتفعوا بها ، وجاء «إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى» الحديث (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أي يقين برهاني عقلي أو وجداني كشفي (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) وهو القرآن المصدق لذلك ، ومن هنا تؤيد الأدلة العقلية بالآيات النقلية القرآنية. ويحكم بكون الكشف صحيحا إذا شهدت له ووافقته ، ولذا قالوا : كل كشف خالف ما جاء عن الله تعالى ليس بمعتبر (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) أي يتبع البرهان من قبل هذا الكتاب كتاب موسى عليه‌السلام في حالة كونه (إِماماً) يؤتم به في تحقيق المطالب (وَرَحْمَةً) لمن يهتدي به ، وهذا وجه في الآية ذكره بعضهم ، وقد قدمنا ما فيها من الاحتمالات ؛ وقد ذكروا أن المراد بيان بعد ما بين مرتبتي من يريد الحياة الدنيا ومن هو على بينة من ربه.

وللصوفية قدست أسرارهم عبارات شتى في البينة فقال رويم : هي الإشراف عن القلوب والحكم على الغيوب ، وقال سيد الطائفة : هي حقيقة يؤيدها ظاهر العلم ، وقيل : غير ذلك ، وعن أبي بكر بن طاهر أن من كان على بينة من ربه كانت جوارحه وقفا على الطاعات والموافقات ولسانه مشغولا بالذكر ونشر الآلاء والنعماء وقلبه منورا بأنوار التوفيق وضياء التحقيق وسره وروحه مشاهدين للحق في جميع الأوقات وكان عالما بما يبدو من مكنون الغيوب ورؤيته يقين لا شك فيه وحكمه على الخلق كحكم الحق لا ينطق إلا بالحق ولا يرى إلا الحق لأنه مستغرق به فأنى يرى سواه (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) إلخ جعله بعضهم إشارة إلى المثبتين لغيره سبحانه وجودا وهم أهل الكثرة والحجاب ، وفسر الأشهاد بالموحدين الذين لا يشهدون في الدار غيره سبحانه ديارا.

ومن الناس من عكس الأمر وجعلها ردا على أهل الوحدة القائلين : إن كل ما شاهدته بعينك أو تصورته بفكرك فهو الله سبحانه بمعنى كفر النصارى إيمان بالنسبة إليه وحاش أهل الله تعالى من القول به على ما يشعر به ظاهره ، ومنهم من جعلها مشيرة إلى حال من يزعم أنه ولي الله تعالى ويتزيا بزي السادات ويتكلم بكلماتهم وهو في الباطن أفسق من قرد وأجهل من حمار تومه (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) قيل : (الْبَصِيرِ) من عاين ما يراد به وما يجري له وعليه في جميع أوقاته (وَالسَّمِيعِ) من يسمع ما يخاطب به من تقريع وتأديب وحث وندب لا يغفل عن الخطاب في حال من الأحوال ، وقيل : (الْبَصِيرِ) الناظر إلى الأشياء بعين الحق فلا ينكر شيئا ولا يتعجب من شيء (وَالسَّمِيعِ) من يسمع من الحق فيميز الإلهام من الوسواس ، وقيل : (الْبَصِيرِ) هو الذي يشهد أفعاله بعلم اليقين وصفاته بعين اليقين وذاته بحق اليقين فالغائبات له حضور والمستورات له كشف (وَالسَّمِيعِ) من يسمع من دواعي العلم شرعا ، ثم من خواطر التعريف قدرا ، ثم يكاشف بخطاب من الحق سرا ، وقيل : (السَّمِيعِ) من لا يسمع إلا كلام حبيبه ، و (الْبَصِيرِ) من لا يشاهد إلا أنواره فهو في ضيائها ليلا ونهارا ، وإلى هذا يشير قول قائلهم :

ليلي من وجهك شمس الضحى

وإنما السدفة في الجو

الناس في الظلمة من ليلهم

ونحن من وجهك في الضو

وفسر كل من ـ الأعمى والأصم ـ بضد ما فسر به (الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) والمراد من قوله سبحانه : (هَلْ

٢٧٣

يَسْتَوِيانِ) أنهما لا يستويان لما بينهما من التقابل والتباعد إلى حيث لا تتراءى نارهما ، ثم إنه تعالى ذكر من قصة نوح عليه‌السلام مع قومه ما فيه إرشاد وتهديد وعظة ما عليها مزيد (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي الأشراف المليئون بأمور الدنيا الذين حجبوا بما هم فيه عن الحق (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) لكونهم واقفين عند حد العقل المشوب بالوهم فلا يرون لأحد طورا وراء ما بلغوا إليه ولم يشعروا بمقام النبوة ومعناها (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) وصفوهم بذلك لفقرهم حيث كانوا لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ولم يعلموا أن الشرف بالكمال لا بالمال.

(وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) وتقدم يؤهلكم لما تدعونه (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) فلا نبوة لك ولا علم لهم.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) يجب عليكم الإذعان بها (وَآتانِي رَحْمَةً) هداية خاصة كشفية متعالية عن درجة البرهان (مِنْ عِنْدِهِ) فوق طور عقولكم من العلوم اللدنية ومقام النبوة (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) لاحتجابكم بالظاهر عن الباطن وبالخليقة عن الحقيقة (أَنُلْزِمُكُمُوها) ونجبركم عليها (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) لا تلتفتون إليها كأنه عليه‌السلام أراد أنه لا يكون إلزام ذلك مع الكراهة لكن إن شئتم تلقيه فزكوا أنفسكم واتركوا إنكاركم حتى يظهر عليكم أثر نور الإرادة فتقبلوا ذلك ، وفيه إشارة إلى أن المنكر لا يمكن له الاستفاضة من أهل الله تعالى ولا يكاد ينتفع بهم ما دام منكرا ومن لم يعتقد لم ينتفع (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً) أي ليس لي مطمح في شيء من أموالكم التي ظننتم أن الشرف بها (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) فهو يثيبني بما هو خير وأبقى (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي إنهم أهل الزلفى عنده تعالى وهم حمائم أبراج الملكوت وبزاة معارج الجبروت (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) تسفهون عليهم وتؤذونهم (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) كما تريدون وهم بتلك المثابة (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) لتعرفوا التماس طردهم ضلال ، وفيه إشارة إلى أن الإعراض عن فقراء المؤمنين مؤد إلى سخط رب العالمين.

قال أبو عثمان : في الآية (ما أَنَا) بمعرض عمن أقبل على الله تعالى ، فإن من أقبل على الله تعالى بالحقيقة أقبل الله تعالى عليه ، ومن أعرض عمن أقبل الله تعالى عليه فقد أعرض عن الله سبحانه (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) إلخ أي أنا لا أدعي الفضل بكثرة المال ولا بالاطلاع على الغيب ولا بالملكية حتى تنكروا فضلي بفقدان ذلك وبمنافاة البشرية لما أنا عليه (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ) تنظرون إليهم بعين الحقارة (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) كما تقولون أنتم إذ الخير عندي ما عند الله تعالى لا المال (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) من الخير مني ومنكم وهو أعلم بقدرهم وخطرهم (إِنِّي إِذاً) أي إذ نفيت (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) مثلكم (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) قيل : فيه إشارة إلى عين الجمع المشار إليهبخبر «لا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل» الحديث.

وقيل : أي كن في أعين رعايتنا وحفظنا ولا تكن في رؤية عملك والاعتماد عليه ، فإن من نظر إلى غيري احتجب به عني ، وقال بعضهم : أي أسقط عن نفسك تدبيرك واصنع ما أنت صانع من أفعالك على مشاهدتنا دون مشاهدة نفسك أو أحد من خلقي ، وقيل : أي اصنع الفلك ولا تعتمد عليه فإنك بأعيننا رعاية وكلاءة فإن اعتمدت على الفلك وكلت إليه وسقطت من أعيننا (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) فيه إشارة إلى رقة قلبه عليه‌السلام بعد احتمال جفوتهم وأذيتهم ، وهكذا شأن الصديقين ، والكلام في باقي الآية ظاهر ، ولا يخفى أنه يجب الإيمان بظاهرها والتصديق بوقوع الطوفان حسبما قص الله سبحانه وإنكار ذلك كفر صريح ، لكن ذكر بعض السادة أنه بعد

٢٧٤

الإيمان بذلك يمكن احتمال التأويل على أنه حظ الصوفي من الآية وذلك بأن يؤول الفلك بشريعة نوح التي نجا بها هو ومن آمن معه ، والطوفان باستيلاء بحر الهيولى وإهلاك من لم يتجرد عنها بمتابعة نبي وتزكية نفس كما جاء في مخاطبات إدريس عليه‌السلام لنفسه ما معناه أن هذه الدنيا بحر مملوء ماء فإن اتخذت سفينة تركبها عند خراب البدن نجوت منها إلى عالمك وإلا غرقت فيها وهلكت ، وعلى هذا يقال : معنى (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) يتخذ شريعة من ألواح الأعمال الصالحة ودسر العلوم تنتظم بها الأعمال وتحكم (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) كما هو المشاهد في أرباب الخلاعة الممطتين غارب الهوى يسخرون من المتشرعين المتقيدين بقيود الطاعة (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا) بجهلكم (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) عند ظهور وخامة عاقبتكم (كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عند ذلك (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) في الدنيا من حلول ما لا يلائم غرضه وشهوته (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) في الآخرة من استيلاء نيران الحرمان وظهور هيئات الرذائل المظلمة (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) بإهلاك أمته (وَفارَ التَّنُّورُ) باستيلاء الأخلاط الفاسدة والرطوبات الفضلية على الحرارة الغريزية وقوة طبيعة ماء الهيولى على نار الروح الحيوانية ، أو (أَمْرُنا) بإهلاكهم المعنوي (وَفارَ التَّنُّورُ) باستيلاء ماء هوى الطبيعة على القلب وإغراقه في بحر الهيولى الجسماني (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) أي من كل صنفين من نوع اثنين هما صورتاهما النوعية والصنفية الباقيتان عند فناء الأشخاص.

ومعنى حملهما فيها علمه ببقائهما مع بقاء الأرواح الإنسية فإن علمه جزء من السفينة المتركبة من العلم والعمل فمعلوميتهما محموليتهما وعالميته بهما حامليته إياهما فيها (وَأَهْلَكَ) ومن يتصل بك في سيرتك من أقاربك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) أي الحكم بإهلاكه في الأزل لكفره (وَمَنْ آمَنَ) من أمتك (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) أي بسم الله تعالى الأعظم الذي هو وجود كل عارف كامل من أفراد نوع الإنسان إجراء أحكامها وترويجها في بحر العالم الجسماني وإثباتها وأحكامها كما ترى من إجراء كل شريعة وأحكامها بوجود الكامل ممن ينسب إليها (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ) لهيئات نفوسكم البدنية المظلمة وذنوب ملابس الطبيعة المهلكة إياكم المغرقة في بحرها وذلك بمتابعة الشريعة (رَحِيمٌ) بإفاضة المواهب العلمية والكشفية والهيئات النورانية التي ينجيكم بها (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ) من بحر الطبيعة الجسمانية (كَالْجِبالِ) الحاجبة للنظر المانعة من السير وهم لا يبالون بذلك محفوظون من أن يصيبهم شيء من ذلك الموج ، وهذا الجريان يعرض للسالك في ابتداء أمره ولو لا أنه محفوظ في لزوم سفينة الشرع لهلك.

ولعل في الآية على هذا تغليبا (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) المحجوب بالعقل المشوب بالوهم (وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) لذلك الحجاب عن الدين والشريعة (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) أي ادخل في ديننا (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) المحجوبين الهالكين بأمواج هوى النفس المغرقين في بحر الطبع (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) أي سألتجئ إلى الدماغ وأستعصم بالعقل المشرق هناك ليحفظني من استيلاء بحر الهيولى فلا أغرق فيه (قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) وهو الله الذي رحم أهل التوحيد وأفاض عليهم من شآبيب لطفه ما عرفوا به دينه الحق (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) أي موج هوى النفس واستيلاء ماء بحر الطبيعة وحجب عن الحق (فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) في بحر الهيولى الجسمانية ، وقيل : من جهة الحق على لسان الشرع لأرض الطبيعة (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) وقفي على حد الاعتدال ، ولسماء العقل المحجوبة بالعادة والحس المشوبة بالوهم المغيمة بغيم الهوى (يا سَماءُ أَقْلِعِي) عن إمداد الأرض (وَغِيضَ الْماءُ) أي ماء قوة الطبيعة الجسمانية ومدد الرطوبة الحاجبة لنور الحق

٢٧٥

المانعة للحياة الحقيقية (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) بإنجاء من نجا وإهلاك من هلك (وَاسْتَوَتْ) أي سفينة شريعته (عَلَى الْجُودِيِ) وهو جبل وجود نوح (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الذين عبدوا الهوى دون الحق ووضعوا الطبيعة مكان الشريعة (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ) إلخ الكلام على هذا الطرز فيه ظاهر (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ) من محل الجمع وذروة مقام الولاية والاستغراق في التوحيد إلى مقام التفصيل وتشريع النبوة بالرجوع إلى الخلق ومشاهدة الكثرة في عين الوحدة غير معطل للمراتب (بِسَلامٍ مِنَّا) أي سلامة عن الاحتجاب بالكثرة (وَبَرَكاتٍ) من تقنين قوانين الشرع (عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ) ناشئة (مِمَّنْ مَعَكَ) على دينك إلى آخر الزمان (وَأُمَمٌ) أي وينشأ ممن معك أمم (سَنُمَتِّعُهُمْ) في الدنيا (ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا) في العقبى (عَذابٌ أَلِيمٌ) بإحراقهم بنار الآثار وتعذيبهم بالهيئات المظلمة.

هذا ثم ذكر أنه إذا شئت التطبيق على ما في الأنفس أولت نوحا بروحك والفلك بكمالك العلمي والعملي الذي به نجاتك عند طوفان بحر الهيولى والتنور بتنور البدن وفورانه استيلاء الرطوبة الغريبة والأخلاط الفاسدة ، وما أشار إليه (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) بجيوش القوى الحيوانية والطبيعية وطيور القوى الروحانية ، وأولت ما جاء في القصة من البنين الثلاثة والزوجة بحام القلب وسام العقل النظري ويافث العقل العملي وزوجة النفس المطمئنة والابن الآخر الوهم والزوجة الأخرى الطبيعة الجسمانية التي يتولد منها الوهم. والجبل بالدماغ. واستواءها على الجودي وهبوطه بمثل نزول عيسى عليه‌السلام في آخر الزمان انتهى ، ومن نظر بعين الإنصاف لم يعول إلا على ظاهر القصة وكان له به غنى عن هذا التأويل ، واكتفى بما أشار إليه من أن النسب إذا لم يحط بالصلاح كان غريقا في بحر العدم.

فما ينفع الأصل من هاشم

إذا كانت النفس من باهله

ومن أنه ينبغي للإنسان التحري بالدعاء وأن لا تشغله الشفقة عن ذلك إلى غير ما ذكر ، والآية نص في كفر قوم نوح عليه‌السلام الذين أغرقهم الله تعالى ، وفي فصوص الحكم للشيخ الأكبر قدس‌سره ما هو نص في إيمانهم ونجاتهم من العذاب يوم القيامة وذلك أمر لا نفهمه من كتاب ولا سنة (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا

٢٧٦

وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨) وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ

٢٧٧

وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ)(٩٥)

(وَإِلى عادٍ) متعلق بمحذوف معطوف على قوله سبحانه : (أَرْسَلْنا) في قصة نوح وهو الناصب لقوله تعالى : (أَخاهُمْ) أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم أي واحدا منهم في النسب كقولهم : يا أخا العرب ، وقدم المجرور ليعود الضمير عليه ، وقيل : إن (إِلى عادٍ أَخاهُمْ) عطف على قوله تعالى : (نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [هود : ٢٥] المنصوب على المنصوب والجار والمجرور على الجار والمجرور ، وهو من العطف على معمولي عامل واحد وليس من المسألة المختلف فيها ، نعم الأول أقرب ـ كما في البحر ـ لطول الفصل بالجمل الكثيرة بين المفردات المتعاطفة ، وقوله سبحانه : (هُوداً) عطف بيان ـ لأخاهم ـ وجوز أن يكون بدلا منه وكان عليه‌السلام ابن عم أبي عاد وأرسل إليهم من هو منهم ليكون ذلك أدعى إليه اتباعه (قالَ) استئناف بياني حيث كان إرساله عليه‌السلام مظنة للسؤال عما قال لهم ودعاهم كأنه قيل : فما قال لهم حين أرسل إليهم؟ فقيل : قال : (يا قَوْمِ) ناداهم بذلك استعطافا لهم ، وقرأ ابن محيصن «يا قوم» بالضم وهي لغة في المنادى المضاف إلى الياء حكاها سيبويه وغيره (اعْبُدُوا اللهَ) أي وحده وكانوا مشركين يعبدون الأصنام ؛ ويدل على أن المراد ذلك قوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فإنه استئناف يجري مجرى البيان للعبادة المأمور بها ، والتعليل للأمر بها كأنه قيل : أفردوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئا إذ ليس لكم إله غيره سبحانه على أنه لا اعتداد بالعبادة مع الإشراك ، فالأمر بها يستلزم الأمر بإفراده سبحانه بها و (غَيْرُهُ) بالرفع صفة ـ لإله ـ باعتبار محله لأنه فاعل للظرف لاعتماده على النفي ، وقرأ الكسائي بالجر على أنه صفة له جار على لفظه (إِنْ أَنْتُمْ) ما أنتم بجعلكم الألوهية لغيره تعالى كما قال الحسن ـ أو بقولكم : إن الله تعالى أمرنا بعبادة الأصنام (إِلَّا

٢٧٨

مُفْتَرُونَ) عليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي) خاطب به كل رسول قومه إزاحة لما عسى أن يتوهموه وتمحيضا للنصيحة فإنها ما دامت مشوبة بالمطامع بمعزل عن التأثير ، وإيراد الموصول للتفخيم ، وجعل الصلة فعل الفطر الذي هو الإيجاد والإبداع لكونه أبعد من أن يتوهم نسبته إلى شركائهم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥ ، الزمر : ٣٨] مع كونه أقدم النعم الفائضة من جناب الله تعالى المستوجبة للشكر الذي لا يتأتى إلا بالجريان على موجب أمره سبحانه الغالب معرضا عن المطالب الدنيوية التي من جملتها الأجر ، ولعل فيه إشارة إلى أنه عليه‌السلام غني عن أجرهم الذي إنما يرغب فيه للاستعانة به على تدبير الحال وقوام العيش بالله تعالى الذي أوجده بعد أن لم يكن وتكفل له بالرزق كما تكفل لسائر من أوجده من الحيوانات (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أتغفلون عن ذلك فلا تعقلون نصيحة من لا يطلب عليها أجرا إلا من الله تعالى ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك فتناقدون لما يدعوكم إليه ؛ أو تجهلون كل شيء فلا تعقلون شيئا أصلا فإن الأمر مما لا ينبغي أن يخفى على أحد من العقلاء.

(وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) من الشرك (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي ارجعوا إليه تعالى بالطاعة أو توبوا إليه سبحانه وأخلصوا التوبة واستقيموا عليها ، وقيل : الاستغفار كناية عن الإيمان لأنه من روادفه ، وحيث إن الإيمان بالله سبحانه لا يستدعي الكفر بغيره لغة قيل : (ثُمَّ تُوبُوا) فكأنه قيل : آمنوا به ثم توبوا إليه تعالى من عبادة غيره ، وتعقب بأن قوله سبحانه : (اعْبُدُوا اللهَ) دل على اختصاصه تعالى بالعبادة فلو حمل (اسْتَغْفِرُوا) على ما ذكر لم يفد فائدة زائدة سوى ما علق عليه ، وقد كان يمكن تعليقه بالأول ، والحمل على غير الظاهر مع قلة الفائدة مما يجب الاحتراز عنه في كلام الله تعالى المعجز ، وقيل : المراد بالاستغفار التوبة عن الشرك وبالتوبة التوبة عما صدر منهم غير الشرك ، وأورد عليه أيضا أن الإيمان يجب ما قبله ، وقيل : المراد بالأول طلب المغفرة بالإيمان ، وبالثاني التوسل إليه سبحانه بالتوبة عن الشرك ، وأورد عليه أن التوسل المذكور لا ينفك عن طلب المغفرة بالإيمان لأنه من لوازمه فلا يكون بعده كما تؤذن به (ثُمَ) ـ وقيل : وقيل ـ وقد تقدم بعض الكلام في ذلك أول السورة. (يُرْسِلِ السَّماءَ) أي المطر كما في قوله :

إذا «نزل السماء» بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

(عَلَيْكُمْ مِدْراراً) كثير الدر متتابعه من غير إضرار فمفعال للمبالغة كمعطار ومقدام.

(وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) أي عزا مضموما إلى عزكم أو مع عزكم ويرجع هذا إلى قوله تعالى : (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) [نوح : ١٢] لأن العز الدنيوي بذلك ، وعن الضحاك تفسير ـ القوة ـ بالخصب ، وعن عكرمة تفسيرها بولد الولد ، وقيل : المراد بها قوة الجسم ، ورغبهم عليه‌السلام بكثرة المطر وزيادة القوة لأنهم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات ، وقيل : حبس الله تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين فوعدهم هود عليه‌السلام على الاستغفار والتوبة كثرة الأمطار وتضاعف القوة بالتناسل ، وقيل : القوة الأولى في الإيمان ، والثانية في الأبدان أي يزدكم قوة في إيمانكم إلى قوة في أبدانكم (وَلا تَتَوَلَّوْا) أي لا تعرضوا عما دعوتكم إليه (مُجْرِمِينَ) مصرين على ما أنتم عليه من الإجرام ، وقيل : مجرمين بالتولي وهو تكلف. (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) أي بحجة واضحة تدل على صحة دعواك ، وإنما قالوه لفرط عنادهم أو لشدة عماهم عن الحق وعدم نظرهم في الآيات فاعتقدوا أن ما هو آية ليس بآية وإلا فهو وغيره من الأنبياء عليهم‌السلام جاءوا بالبينات الظاهرة والمعجزات الباهرة وإن لم يعين لنا بعضها ، ففي الخبر «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا) أي بتاركي عبادتها (عَنْ قَوْلِكَ) أي بسبب قولك المجرد عن البينة ـ فعن ـ للتعليل كما قيل في قوله تعالى : (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها

٢٧٩

إِيَّاهُ) [التوبة : ١١٤] وإلى هذا يشير كلام ابن عطية وغيره ، فالجار والمجرور متعلق (بِتارِكِي).

وذهب بعض المحققين إلى أنه متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المستتر فيه أي صادرين وهو من الصدر مقابل الورد بمعنى الرجوع عن الماء ، وقد شاع في كلامهم استعمال الصدر والورد كناية عن العمل والتصرف ، ومنه قوله :

ما أمسى الزمان حاجا إلى من

يتولى الإيراد والإصدارا

أي يتصرف في الأمور بصائب رأيه ، وقد يكتفي بالصدر في ذلك لاستلزامه للورد فيقولون : لا يصدر إلا عن رأيه ، والمعنى هنا حينئذ ما نحن (بِتارِكِي آلِهَتِنا) عاملين بقولك ، والنفي فيه راجع إلى القيد والمقيد جميعا لأنهم لا يتركون آلهتهم ولا يعملون بقوله عليه‌السلام ، وقيل : إن صادرين بمعنى معرضين وهو قيد للنفي ، والمعنى انتفى تركنا عبادة آلهتنا معرضين (عَنْ قَوْلِكَ) ويكون هذا جوابا لقوله : (لا تَتَوَلَّوْا) وجعل بعضهم إرادة ذلك من باب التضمين لا من باب تقدير المتعلق بقرينة (عَنْ) وجعله كناية كما علمت ، وكلام الزمخشري ظاهر في هذا كما يكشف عنه كلام الكشف (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أي بمصدقين فيما جئت به أو في كل ما تأتي وتذر ، ويندرج فيه ذلك ، وقد بالغوا في الإباء عن الإجابة فأنكروا الدليل على نبوته عليه‌السلام ، ثم قالوا مؤكدين لذلك (وَما نَحْنُ بِتارِكِي) إلخ ، ثم كرروا ما دل عليه الكلام السابق من عدم إيمانهم بالجملة الاسمية مع زيادة الباء ، وتقديم المسند إليه المفيد للتقوى دلالة على أنهم لا يرجى منهم ذلك بوجه من الوجوه ، وفي ذلك من الدلالة على الإقناط ما فيه (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ) أي أصابك من عراه يعروه ، وأصله من اعتراه بمعنى قصد عراه أي محله وناحيته (بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) أرادوا به ـ قاتلهم الله تعالى ـ الجنون ، والباء للتعدية والتنكير فيه قيل : للتقليل كأنهم لم يبالغوا في العتو كما ينبئ عنه نسبة ذلك إلى بعض آلهتهم دون كلها ، وقيل : للتكثير إشارة إلى أن ما قاله لا يصدر إلا عمن أصيب بكثير سوء مبالغة في خروجه عن قانون العقل ، وذكر البعض تعظيما لأمر آلهتهم وأن البعض منها له من التأثير ما له ، والجملة مقول القول وإلا لغو لأن الاستثناء مفرغ ، وأصله أن نقول قولا إلا قولنا هذا فحذف المستثنى منه وحذف القول المستثنى وأقيم مقوله مقامه ، أو (اعْتَراكَ) هو المستثنى لأنه أريد به لفظه فلا حاجة إلى تقدير قول بعد (إِلَّا) وليس مما استثنى فيه الجملة ، ومعنى هذا أنه أفسد عقلك بعض آلهتنا لسبك إياها وصدك عن عبادتها وحطك لها عن رتبة الألوهية بما مر من قولك : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) وغرضهم من هذا على ما قيل : بيان سبب ما صدر عن هود عليه‌السلام بعد ما ذكروا من عدم التفاتهم لقوله عليه‌السلام ، وقيل : هو مقرر لما مر من قولهم : (وَما نَحْنُ بِتارِكِي) إلخ (وَما نَحْنُ لَكَ) إلخ فإن اعتقادهم بكونه عليه‌السلام كما قالوا ـ وحاشاه عن ذلك ـ يوجب عدم الاعتداد بقوله ، وعده من قبيل الخرافات فضلا عن التصديق والعمل بمقتضاه يعنون أنا لا نعتقد كلامك إلا ما لا يحتمل الصدق من الهذيانات الصادرة عن المجانين فكيف نؤمن به ونعمل بموجبه؟ ولقد سلكوا طريق المخالفة والعناد إلى سبيل الترقي من السيّئ إلى الأسوأ حيث أخبروا أولا عن عدم مجيئه بالبينة مع احتمال كون ما جاء به حجة في نفسه وإن لم تكن واضحة الدلالة على المراد وثانيا عن ترك الامتثال لقوله عليه‌السلام : بقولهم : (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ) مع إمكان تحقق ذلك بتصديقهم له في كلامه. ثم نفوا عنه تصديقهم له عليه‌السلام بقولهم : (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) مع كون كلامه عليه‌السلام مما يقبل التصديق ، ثم نفوا عنه تلك المرتبة أيضا حيث قالوا ما قالوا قاتلهم الله أنى يؤفكون انتهى.

وللبحث فيه مجال ، ولعل الإتيان بهذه الجملة غير مقترنة بالعاطف كالجملتين الأوليين يؤيد كونها ليست

٢٨٠